الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245111 / تحميل: 6208
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

تنتهي الرغبات في الأمور ، ومنه تتولد الصلات والمحبات والعلائق والروابط ، فبهذا الإعتبار المطرد العام المتسالم عليه لدا العقلاء والشرع الأقدس ، إتخاذ مكة المكرمة حرماً آمناً وتوجيه الخلق إليه ، وحجهم إياه من كل فج عميق ، وإيجاب تلكم الأحكام حتى بالنسبة إلى بنيته ، إن هي إلا آثار الإضافة وإختيار الله إياها من بين الأراضي

وكذلك المدينة المنورة حرماً إلهياً محترماً ، وجعل المحرمات الواردة في السنة الشريفة لها وفي أهلها وتربتها ومن حَلّ فيها ، إنما هي لإعتبار ما فيها من الإضافة والنسبة إلى الله تعالى ، وكونها عاصمة عرش نبيه العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب الرسالة الخاتمة

وبهذا الإعتبار وقانون الإضافة ، جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبكي على ولده الحسينعليه‌السلام ويقيم تلك المآتم قبل شهادته ، ويأخذ تربة كربلاء ويشمها(٧٧) ، ويقبلها(٧٨) ، ويقلبها(٧٩) ، كما ورد في الأخبار وهو الذي جعل الشيعة الإمامية تهتم بتربة الحسينعليه‌السلام ، تلك التربة الطاهرة التي شرّفها الله وقدّسها ؛ لما تحويه من أجساد طاهرة من أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سُفكت دماؤها لأجل الدين وفي سبيل إحيائه تلك التربة التي اعتنى بها الكُتاب وتفننوا في وصفها وقداستها

وعَبّر عنها الأديب الكبير عباس العقاد بقوله : « ولكنها لو أُعطيت حقها من التنويه والتخليد ؛ لحق لها أن تصبح مزاراً لكل آدمي يعرف لبني نوعه نصيباً من القداسة وحظاً من الفضيلة ، لأننا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض

______________________

(٧٧) ـ الهيثمي ، الحافظ نور الدين ، علي بن أبي بكر : مجمع الزوائد ، ج ٩ / ١٨٩

(٧٨) ـ ابن حجر ، الحافظ شهاب الدين ، أحمد : تهذيب التهذيب ، ج ٢ / ٢٤٦

(٧٩) ـ النيسابوري ، الحافظ محمد بن أحمد : سيرة أعلام النبلاء ، ج ٣ / ١٩٤

٦١

يقترن اسمها بجملة من الفضائل ، أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء ، بعد مصرع الحسين فيها

فكل صفة من تلك الصفات العلوية التي بها الإنسان إنسان وبغيرها لا يحسب غير ضرب من الحيوان السائم فهي مقرونة في الذاكرة بأيام الحسين رضي الله عنه في تلك البقعة الجرداء وليس في نوع الإنسان صفات علويات أنبل ولا ألزم من الإيمان والفداء والإيثار ويقظة الضمير ، وتعظيم الحق ورعاية الواجب والجلد في المحنة والأنفة من الضيم والشجاعة في وجه الموت المحتوم وحسبك من تقويم الأخلاق في تلك النفوس ، أنه ما من أحد قتل في كربلاء إلا كان في وسعه أن يتجنب القتل بكلمة أو بخطوة ، ولكنهم جميعاً آثروا الموت عطاشا جياعا مناضلين على أن يقولوا تلك الكلمة أو يخطوا تلك الخطوة ؛ لأنهم آثروا جمال الأخلاق على متاع الدنيا أو حسبك من تقويم الأخلاق في نفس قائدها وقدوتها ، أنهم رأوه بينهم فاقتدوه بأنفسهم ، ولن يبتعث المرء روح الاستشهاد فيمن يلازمه إلا أن يكون هو أهلاً للإستشهاد في سبيله وسبيل دعوته ، وان يكون في سليقة الشهيد الذي يأتم به الشهداء »(٨٠)

وبعد هذا البيان إتضح لنا سِرُّ فضيلة تربة كربلاء ، ومبلغ إنتسابها إلى الله سبحانه وتعالى ، ومدى حرمة صاحبها دُنُوّاً وإقتراباً من العلي الأعلى نعم أفعاله وأقواله ـ كما نقلها التاريخ لنا ـ تثبت مدى تعلقه وتفانيه بخالقه العظيم حتى بذلك نفسه وأهله وكل غالٍ ونفيس لأجل إعلاء كلمة الله وإحياء دينه ، وقد نسب إليه الآتي :

______________________

(٨٠) ـ العقاد ، عباس محمود : أبو الشهداء ، الحسين بن علي / ٨٦ ـ ٨٧

٦٢

تركتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا

وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطعتني في الحُب إرباً

لما مال الفؤاد إلى سواكا(٨١)

أليس من الأفضل التقرب إلى الله بالخضوع والخشوع والعبودية بالسجود على تربة تفجرت في صفيحها عيون دماءٍ اصطبغت بحب الله وولائه المحض الخالص ؟!. أليس من الأليق بأسرار السجود على الأرض ، السجود على تربة ظهر فيها سِرُّ المتعة والعظمة والكبرياء والجلال لله عَزّ وجَلّ ، ورمز العبودية والتصاغر أمام عظمة الجبار سبحانه تعالى بأجلى مظاهرها وسماتها ؟!.

وبناءً على هذين الأصلين ، تتخذ الشيعة الإمامية من تربة كربلاء قطعاً وأقراصاً تسجد عليها في الصلوات(٨٢) لأنهم يشترطون في المسجد أن يكون أرضاً أو ما أنبتت ، ويشترطون في المسجد طهارته وإباحته ، وأن لا يكون من المأكول والملبوس ، فالشيعة يصحبون معهم ألواح الطين والتراب ، ويتخذونها مساجد للسجود عليها لله ، اهتماماً بشأن الصلاة ومخالفة على آدابها ، فشأن هذه الألواح شأن الخُمُر والحَصْبَاء في بداية المسلمين كما أنها أفضل أفراد الواجب ، واختياراً لما هو الأفضل والأولى بالسجود لدا العقل والمنطق والإعتبار

______________________

(٨١) ـ أمين النجفي ، الدكتور أحمد : التكامل في الإسلام ، ج ٤ / ١٧٠

(٨٢) ـ ذكر هذا الدليل المحقق الأميني ( قده ) في ( سيرتنا وسنتنا / ١٧٠ ـ ١٨٠ ) بعنوان الإستحسان العقلي ، وجئت بصياغة أخرى لهذا الدليل بعنوان ( الإحتياط طريق النجاة ) فهو أقرب إلى الإحتياط العقلي ؛ لأن الإستحسان العقلي لا تؤمن به الإمامية

٦٣

وعلى هذا النهج القويم ؛ كان التابعي علي بن عبد الله بن عباس(٨٣) كما عن ابن عينة قال : « سمعت رُزَين مولى ابن عباس رضي الله عنه يقول : كتب إليّ علي بن عبد الله بن عباس أن إبعث إلي بلوح من حجارة المروة أسجد عليه »(٨٤) فأي مانع من أن يحتاط المسلم في أمور دينه بما فيها صلاته ؟!. وأي مانع من أن يختار الأفضل في عمله ؟ فالشيعة الإمامية إختارت التربة الحسينية ؛ لأنها الأفضل ، عملاً بالأحاديث الكثيرة الواردة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته

______________________

(٨٣) ـ هو علي بن عبدالله بن عباس بن عبد المطلب ، ولد سنة ٤٠ هـ ليلة قتل علي بن أبي طالب (ع) ، وتوفي سنة ( ١١٧ أو ١١٨ ) راجع ( الطبقات لابن سعد ، ج ٥ / ٢٢٩ ) وقال ابن حجر : ثقة قليل الرواية وذكره ابن حيان في الثقات ، راجع تقريب التقريب / ٣٤٢ ، وتهذيب التهذيب ج ٣ / ١٨٠ دار الرسالة ، ط ١٤١٦ ، وحكى المبرد وغيره : لما ولد علي بن عبد الله جاء أبوه إلى أمير المؤمنين (ع) فقال : ما سميته ؟ فقال : أو يجوز لي أن أسميه قبلك ؟ فقال (ع) : قد سميته باسمي وكنيته بكنيتي وهو أبو الأملاك راجع العقد الفريد ج ٥ / ١٠٣ ـ ١٠٥ ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ، ج ٧ / ١٤٨

(٨٤) ـ الأزرقي ، أبو الوليد محمد بن عبد الله : أخبار مكة ، ج ٢ / ١٥١

ـ السمهودي ، السيد نور الدين ، علي بن عبد الله : وفاء الوفاء ، ج ١ / ١١٥

ـ ابن أبي شيبه ، الحافظ عبد الله بن محمد : الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار ، ج ١ / ٢٧٥

٦٤

٦٥
٦٦

تمهيد :

عرفت أرض كربلاء بالقداسة والسمو والشرف منذ القدم ، وإلى هذا أشار سيد الشهداءعليه‌السلام بقوله :( وخير لي مصرع أنا لاقيه ، فكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ) (٨٥) والمراد بالنواويس : جمع ناوس في الأصل ، وهو قبر النصراني ، والمراد به هنا القرية التي كانت عند كربلاء(٨٦) أي أن كربلاء قد اتخذت معابد ومدافن للأمم السابقة ، وخير شاهد على ذلك ما يلي : « ونقل بعض الفضلاء قول أحد الباحثين في تاريخ كربلاء القديم وهو : كل ما يمكن أن يقال عن تاريخها القديم ، أنها كانت أمهات مدن طسوج النهرين ، الواقعة على ضفاف نهر بالاكوباس( الفرات القديم ) وعلى أرضها معبد للعبادة والصلاة ، كما يستدل من الأسماء التي عرفت بها قديماً كعمورا ، ماريا ، صفورا ، وقد كثرت حولها المقابر ، كما عثر على جثث موتى داخل أوانٍ خزفية يعود تاريخها إلى قبل العهد المسيحي »(٨٧) وقال الأب اللغوي أنستاس الكرملي : « والذي نتذكره فيما قرأناه في بعض كتب الباحثين ؛ أن كربلاء منحوتة من كلمتين من( كرب وإل ) أي حرم الله أو مقدس الله »(٨٨)

وذكر السيد عبد الحسين آل طعمة ، نقلاً عن الذريعة للشيخ آغا بزرك : « ومعنى( كاربالا ) بالفهلوية هو( الفعل العلوي ) ويجوز تفسيرها (بالعمل السماوي ) المفروض من الأعلى ، ثم عُرِّبت وصيغت صياغة عربية وسموها ______________________

(٨٥) ـ السماوي ، الشيخ محمد بن الشيخ طاهر : إبصار العين في أنصار الحسين / ٦ ، ١٧

(٨٦) ـ نفس المصدر

(٨٧) ـ الخليلي ، جعفر بن الشيخ أسد الله : موسوعة العتبات المقدسة ، ج ١٣ / ١٦

(٨٨) ـ نفس المصدر / ١٠

٦٧

( كربلاء ) ، وهذا يقارب المعنى الذي ذهب إليه الأب انستاس لكلمة( كرب ) و( إل ) بأنهم( حرم الله ) أو( مقدس الله ) »(٨٩)

نعم أعطيت كربلاء هذه القداسة ـ في الإسلام والأمم السابقة ـ بالحسينعليه‌السلام ؛ إذ الأمم الغابرة لديها معرفة بشهادته عن طريق أنبيائها وكتبها المقدسة ، كما أشارت إلى ذلك بعض المصادر التالية :

« جاء في كتاب ارميا في باسوق من السيمان السادس والأربعون ( كي ذبح لدوناي الوهيم صواووت بأرض صافون إلى نهريرات ) ؛ يعني يذبح ويضحي لرب العالمين شخص جليل في أرض الشمال بشاطئ الفرات »(٩٠)

وفي مصحف شيث إشارة إلى واقعة كربلاء : « ذكر أبو عمرو الزاهد ، في كتاب الياقوت : قال : قال عبدالله بن صفار ، صاحب أبي حمزة الصوفي : غزونا غزاة ، وسبينا سبياً ، وكان فيهم شيخ من عقلاء النصارى ؛ فأكرمناه وأحسنا إليه ، فقال لنا : أخبرني أبي عن آبائه انهم حفروا في بلاد الروم حفراً قبل أن يبعث النبي العربي بثلاث مائة سنة ، فأصابوا حجراً عليه مكتوب بالمسند( كلام أولاد شيث ) هذا البيت من الشعر :

أترجو عصبة قتلت حسينا

شفاعة جده يوم الحساب »(٩١)

أولاً ـ عرض الروايات :

ليس أحاديث فضل تربة الحسينعليه‌السلام وقداستها منحصرة بأحاديث الأئمةعليهم‌السلام ، بل إن أمثال هذه الروايات لها شهرة في كتب علماء الإسلام ، واليك قسماً منها كالتالي :

______________________

(٨٩) ـ المصدر السابق / ١٧ ـ ١٨ ( الحاشية )

(٩٠) ـ التستري ، الشيخ جعفر : الخصائص الحسينية / ٣٧

(٩١) ـ ابن نما ، محمد بن جعفر الحلي : مثير الأحزان ، ج ١ / ٩٧

٦٨

مرويات الإمامية :

يمكن تلخيص مرويات الإمامية في فضل تربة كربلاء من خلال الطرق التالية :

الأول ـ الرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) :

روى أبو بصير عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : (بينما الحسين بن علي عليهما السلام عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إذ أتاه جبرئيل فقال : يا محمد أتحبه ؟ فقال نعم فقال : أما إن أمتك ستقتله قال : فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزناً شديداً ، فقال له جبرئيل : يا رسول الله أتريد التربة التي يقتل فيها ؟ فقال : نعم ، فخسف ما بين مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى كربلاء حتى إلتقت القطعتان هكذا ، ثم جمع بين السبابتين ، ثم تناول بجناحه من تربتها وناولها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم رجعت أسرع من طرفة عين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : طوبى لك من تربة ، وطوبى لمن يقتل فيك ) (٩٢)

الثاني ـ أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام ) :

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال :( مَرّ أمير المؤمنين عليه‌السلام بكربلاء في أناس من أصحابه ؛ فاغرورقت عيناه بالبكاء ، ثم قال : هذا مناخ ركابهم ، وهذا ملتقى رحالهم ، وهنا تهرق دماؤهم ، طوبى لك من تربة ، عليك تهرق دماء الأحبة ) (٩٣)

الثالث ـ الأئمة من بعده (عليهم‌السلام ) :

١ ـ قال علي بن الحسينعليه‌السلام :( إتخذ الله ارض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام ، وأنه

______________________

(٩٢) ـ ابن قولويه ، الشيخ أبي القاسم جعفر بن محمد : كامل الزيارات / ٦٠ ، ( باب ١٧ )

(٩٣) ـ نفس المصدر / ٢٧١ ـ ٢٧٢ ، ( باب ٨٨ )

٦٩

إذا زلزل الله تبارك وتعالى الأرض وسترها ، رفعت كما هي بتربتها نورانية صافية ؛ فجعلت في أفضل روض من رياض الجنة ، وأفضل مسكن في الجنة لا يسكنه إلا النبيون والمرسلون أو قال : أولوا العزم من الرسل ، فإنها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب الذري بين الكواكب لأهل الأرض ، يغشى نورها أبصار أهل الجنة جميعا ، وهي تنادي : أنا أرض الله المقدسة الطيبة المباركة ، التي تضمنت سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة ) (٩٤)

٢ ـ قال أبو جعفر ( الباقر )عليه‌السلام :( الغاضرية هي البقعة التي كَلّم الله فيها موسى بن عمران ، وناجى نوحاً فيها ، وهي اكرم أراضي الله عليه ، ولولا ذلك ما استودع الله فيها أوليائه وأبناء نبيه ، فزوروا قبورنا بالغاضرية ) (٩٥)

٣ ـ صفوان الجمال قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول :( إن الله تبارك وتعالى فَضّل الأراضين والمياه بعضها على بعض ، فمنها ما تفاخرت ، ومنها ما بغت ، فما من ماء ولا أرض إلا عوقبت لتركها التواضع لله ، حتى سلّط الله المشركين على الكعبة ، وأرسل إلى زمزم ماء مالحاً حتى أفسد طعمه ، وإن كربلاء وماء الفرات أول أرض وأول ماء قدس الله تبارك وتعالى ؛ وبارك عليهما ، فقال لها : تكلمي بما فضلك الله تعالى ؛ فقد تفاخرت الأرضون والمياه بعضها على بعض ، قالت : أنا أرض الله المقدسة المباركة ، الشفاء في تربتي ومائي ولا فخر ، بل خاضعة ذليلة لمن فعل بي

______________________

(٩٤) ـ ابن قولويه ، الشيخ أبي القاسم جعفر بن محمد : كامل الزيارات / ٢٦٨ ( باب ٨٨ )

(٩٥) ـ نفس المصدر / ٢٧٠

٧٠

ذلك ولا فخر على من دوني ، بل شكراً لله فأكرمها وزادها بتواضعها وشكرها الله بالحسين عليه‌السلام وأصحابه ثم قال أبوعبدالله عليه‌السلام : من تواضع لله رفعه ، ومن تكبر وضعه الله تعالى ) (٩٦) ، وبهذا القدر من المرويات نكتفي

مرويات السنة :

وردت روايات كثيرة في فضل تربة الحسينعليه‌السلام ، ذكرتها الصحاح والمسانيد المعتمدة لدى جمهور السنة والجماعة ويمكن تصنيفها كالتالي :

أولاً ـ الإمام علي (عليه‌السلام ) :

وأخرج ابن سعد عن الشعبي قال : (مَرّ علي ( رضي الله عنه ) بكربلاء عند مسيره إلى صفين وحاذى نينوى ـ قرية على الفرات ـ ؛ فوقف وسأل عن إسم هذه الأرض ؟ فقيل : كربلاء فبكى حتى بَلّ الأرض من دموعه ، ثم قال : دخلت على رسول الله وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ قال : كان عندي جبرئيل آنفاً وأخبرني أن ولدي الحسين يقتل بشاطئ الفرات بموضع يقال له كربلاء ، ثم قبض جبرئيل قبضة من تراب شمني إياه ؛ فلم أملك عيني أن فاضتا ) (٩٧)

ثانياً ـ نساء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) :

أ ـ أم سلمة :

عن أبي وايل ـ شقيق بن سلمة ـ عن أم سلمة قالت :( كان الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ يلعبان بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي فنزل

______________________

(٩٦) ـ المصدر السابق / ٢٧٠

(٩٧) ـ ابن حجر ، أحمد بن علي : الصواعق المحرقة / ٩٣

٧١

جبرئيل عليه‌السلام ؛ فقال : يا محمد إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك ؛ فأومأ بيده إلى الحسين فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضمّه إلى صدره ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وضعت عندك هذه التربة ، فشمّها رسول الله وقال : ريح كرب وبلاء ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أم سلمة إذا تحولت هذه التربة دماً فاعلمي أن ابني قد قتل ، قالت : فجعلتها في قارورة ، ثم جعلت تنظر إليها وتقول : إن يوماً تحولين دماً ليوم عظيم ) (٩٨)

ب ـ عائشة :

أخرج ابن سعد ، والطبراني عن عائشة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( أخبرني جبرئيل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف ، وجاءني بهذه التربة فأخبرني أن فيها مضجعه ) (٩٩)

ج ـ أم الفضل بنت الحرث :

أخرج أبو داود ، والحاكم ، عن أم الفضل بنت الحرث أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( أتاني جبرئيل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا ؛ يعني الحسين ، وأتاني بتربة من تربة حمراء ) (١٠٠)

د ـ زينب بنت جحش :

عن زينب قالت :( بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي وحسين عندي ، حين درج ؛ فغفلت عنه ، فدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : دعيه ـ إلى قولها ـ ثم قام فصلى ، فلما قام احتضنه إليه فإذا ركع أو جلس وضعه ثم جلس فبكى ،

______________________

(٩٨) ـ ابن حجر ، أحممد بن علي : تهذيب التهذيب / ج ٢ / ٣٤٦

(٩٩) ـ ابن حجر ، أحمد بن علي : الصواعق المحرقة / ١٩٢

(١٠٠) ـ الهندي ، علاء الدين ، علي المتقي : كنز العمال ، ج ١٣ / ١٠٨

٧٢

ثم مد يده فقلت حين قضى الصلاة : يا رسول الله ، إني رأيتك اليوم صنعت شيئاً ما رأيتك تصنعه ؟ قال : إن جبريل أتاني فأخبرني أن هذا تقتله أمتي ، فقلت : أرني تربته ؛ فأتاني بتربة حمراء ) (١٠١)

ثالثاً ـ أصحاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) :

١ ـ عبدالله بن عباس :

عن ابن عباس قال :( كان الحسين في حجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال جبرئيل : أتحبه ؟ فقال كيف لا أحبه وهو ثمرة فؤادي ؟ فقال : إن أمتك ستقتله ، ألا أريك من موضع قبره ؟ فقبض قبضة ؛ فإذا هي تربة حمراء ) (١٠٢)

٢ ـ معاذ بن جبل :

عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن معاذ بن جبل أخبره وقال : خرج علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متغير اللون ، فقال : أنا محمد أوتيت فواتح الكلام وخواتمه فأطيعوني مادمت بين أظهركم ، فإذا ذهب بي ؛ فعليكم بكتاب الله عَزّ وجَلّ أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، أتتكم المؤتية بالروح والراحة ، كتاب الله من الله سبق ، أتتكم فتن كقطع الليل المظلم ، كلما ذهب رسل جاء رسل ، تناسخت النبوة فصارت ملكاً ، رحم الله من أخذها بحقها ، وخرج منها كما دخلها

إمسك يا معاذ وأخصّ ، قال : قلما بلغت خمسة قال : يزيد لا يبارك الله في يزيد ، ثم ذرفت عيناه ثم قال : نعي إلي الحسين ، وأوتيت بتربته واخبرت بقاتله ، والذي نفسي بيده لا يقتل بين ظهراني قوم لا يمنعوه إلا خالف

______________________

(١٠١) ـ ابن حجر ، أحمد بن علي : المطالب العالية بزوائد المساند الثمانية / ٩٠

(١٠٢) ـ ابن كثير ، عماد الدين ، إسماعيل بن عمر : البداية والنهاية ، ج ٦ / ٢٣٠

٧٣

الله بين صدورهم وقلوبهم ، وسلّط عليهم شرارهم وألبسهم شِيَعاً ثم قال : واهاً لفراخ آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خليفة مستخلف مترف ، يقتل خلفي وخلف الخلف )(١٠٣)

٣ ـ أنس بن مالك :

اخرج البغوي في معجمه من حديث أنس بن مالك ، أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( استأذن ملك القطر ربه أن يزورني ؛ فأذن له وكان في يوم أم سلمه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أم سلمه احفظي علينا الباب لا يدخل أحد ؛ فبينما هي على الباب ؛ إذ دخل الحسين فاقتحم فوثب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل رسول الله يلثمه ويقبله ، فقال له الملك : أتحبه ؟ قال : نعم قال : إن أمتك ستقتله ، وإن شئت أريك المكان الذي يقتل به ، فأراه فجاء بسهلة أو تراب أحمر ، فأخذته أم سلمه فجعلته في ثوبها ) (١٠٤)

هذه بعض روايات الأصحاب ونساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي روتها صحاح ومسانيد السنة والجماعة ، وهناك روايات لم نذكرها ، ومن أراد التوسع ؛ فعليه بمراجعتها في الكتب الخاصة بها(١٠٥)

ثانياً ـ نظرة حول الروايات :

بعد التأمل في الروايات المتقدمة بما فيها تعدد طرقها ؛ نخرج بالتالي :

١ ـ إهتمام السماء بهذه التربة الزكية ، من خلال إخبار جبرئيل وغيره من الملائكة بقتل الحسينعليه‌السلام وإتيانهم بتربته ، ولم يكن الإهتمام لأي تربة اخرى

______________________

(١٠٣) ـ الهيثمي ، الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر : مجمع الزوايد ، ج ٩ / ١٨٩

(١٠٤) ـ ابن حجر ، أحمد بن علي : الصواعق المحرقة / ١٩٢

(١٠٥) ـ المرعشي ، السيد شهاب الدين : إحقاق الحق وملحقاته ، ج ١١ / ٣٣٩ ـ ٤١٢

٧٤

٢ ـ إهتمام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه التربة ؛ من شمها وإعطائها أم سلمة وديعة

٣ ـ إهتمام الأصحاب ورجال الحديث ـ من خلال تعدد طرقها وكثرة مصادرها ـ بتربة الحسينعليه‌السلام

ـ وبعد كل ذلك ، بماذا نحلل إتيان جبريل وغيره من الملائكة ؟!

ـ وبماذا نحلل إهتمام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه التربة الطاهرة الزكية ؟!

ـ هل على نحو العبث ، أم لفضيلة هذه التربة الطاهرة ؟!

التفاضل بين مكة والمدينة وكربلاء :

س / يفهم من تعلق الشيعة الإمامية بـ ( تربة الحسين عليه‌السلام ) ، أنها أفضل من تربة مكة التي لم تزل منذ نزول آدم عليه‌السلام إلى الآن أرض مقدسة وأفضل من أرض المدينة المنورة التي تختص بجسد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تكونان في المنزلة دون كربلاء ، هذا أمر غريب ؟! وهل الحسين عليه‌السلام أفضل من جده الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

ج / يتضح الجواب بعد بيان التالي :

أولاً ـ إختلف العلماء في تفاضل مكة والمدينة وكربلاء حسب الوجوه التالية :

رأي السنة والجماعة :

١ ـ ذهب الشافعي ، وأهل مكة ، وأهل العلم أجمع ، إلى أن مكة أفضل(١٠٦)

٢ ـ ذهب مالك وأهل المدينة إلى أن المدينة أفضل(١٠٧)

٣ ـ قال القاضي عياض : إن موضع قبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل بقاع الأرض ، وإن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض(١٠٨) وحكاية الإجماع على تفضيل ما ضم

______________________

(١٠٦) ـ النووي ، محي الدين بن شرف : المجموع في شرح المهذب ، ج ٧ / ٤٦٩ ـ ٤٧٠

(١٠٧) ـ ابن حزم ، علي بن أحمد : المحلى ، ج ٧ / ٢٧٩

(١٠٨) ـ الشوكاني ، محمد بن علي : نيل الاوطار ، ج ٥ / ٣٥

٧٥

الأعضاء الشريفة نقله القاضي عياض ، وكذا القاضي أبو الوليد الباجي ( الناجي ) قبله كما قال الخطيب ابن جمله ، وكذا نقله أبو اليمن ابن عساكر وغيرهم ، مع التصريح بالتفضيل على الكعبة الشريفة(١٠٩)

رأي الشيعة الإمامية :

١ ـ ذهب الشيخ الطوسي ، بل ادعى الإجماع على أفضلية مكة على غيرها(١١٠)

٢ ـ وأجمعوا على أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة أفضل بقاع الأرض(١١١)

٣ ـ وقال السيد علي خان : والأقرب أن موضع قبور الأئمة عليهم السلام كذلك ، أما البلدان التي فيها ؛ فمكة أفضل منها حتى المدينة(١١٢)

٤ ـ وقال الشهيد الثاني ( قده ) في الدروس : مكة أفضل بقاع الأرض ما عدا قبر الرسول الله صلى الله عليه وآله ، وروي في كربلاء على ساكنها السلام ، مرجحات(١١٣)

٥ ـ ذهب السيد بحر العلوم ( قده ) : إلى تفضيل كربلاء على مكة ، كما هو المستفاد من منظومته الدرة النجفية :

والأفضل الأرض ومنها فُضِّلا

تُرْبَةُ قُدْسٍ قُدِّسَت في كربلا(١١٤)

ومن حديث كربلا والكعبة

لكربلا بان علو الرتبة(١١٥)

______________________

(١٠٩) ـ السمهودي ، نور الدين علي : وفاء الوفاء : ج ١ / ٢٨

(١١٠) ـ الطوسي ، شيخ الطائفة ، محمد بن الحسن : الخلاف ، ج ٢ / ٤٥١

(١١١) ـ الشيرازي ، السيد علي خان : رياض السالكين ، ج ١ / ٤٧٦

(١١٢) ـ نفس المصدر / ٤٧٧

(١١٣) ـ نفس المصدر / ٤٧٦

(١١٤) ـ بحر العلوم ، السيد محمد مهدي الطباطبائي : الدرة النجفية / ٩٧

(١١٥) ـ نفس المصدر / ١٠٣

٧٦

وذهب الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ( قده ) : إلى تفضيل كربلاء على غيرها ، حيث قال : « إذن ، أفليس من صميم الحق والحق الصميم ، أن تكون أطيب بقعة على وجه الأرض مرقداً وضريحاً لأكرم شخصية في الدهر »(١١٦)

خلاصة واستنتاج :

أولاً ـ بعد عرض الأقوال نخرج بما يلي :

١ ـ الإتفاق بين المسلمين على أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة أفضل بقاع الأرض وزاد الإمامية أن المواضع التي تضم أعضاء المعصومينعليهم‌السلام من أهل بيته أيضاً ؛ لأنهم أفضل الخلق من بعده

٢ ـ الإتفاق بين المسلمين على أن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض ، والإختلاف في التفاضل بينهما

٣ ـ بعض الإمامية يقول : بأن كربلاء أفضل من مكة والمدينة ، ماعدا قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبور أهل بيتهعليهم‌السلام

ثانياً ـ إن عظمة الحسينعليه‌السلام من عظمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشرف الحسينعليه‌السلام من شرفه ، وهو القائل في حقه :( حسين مني وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسيناً ، حسين سبط من الأسباط ) (١١٧) وقد روى هذا الحديث كثير من محدثي الطوائف الإسلامية

توجيه الأعلام لحديث (حسين مني) :

ولأرباب العلم في معناه وجوه :

______________________

(١١٦) ـ كاشف الغطاء ، الشيخ محمد حسين : الأرض والتربة الحسينية / ٢٥

(١١٧) ـ الترمذي ، محمد بن عيسى : سنن الترمذي ، ج ٢ / ٣٠٧ ( مناقب الحسن والحسين )

٧٧

أولاً ـ « أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قصد إكمال الحب وتمام الإلفة بسبطه وريحانته الحسين ؛ فإن البلغاء من العرب إذا أرادوا أن يظهروا الإتحاد والإلفة وشدة الإتصال والمحبة بأحد منهم ، يقولون : فلان منا ونحن من فلان ، كما أنهم إذا أرادوا أن يظهروا النفرة وشدة القطيعة من رجل قالوا فيه :( إننا لسنا منه وليس هو منا ) ، قال شاعرهم :

أيها السائل عنهم وعني

لست من قيس ولا قيس مني

وجاء في الحديث القدسي في الحاسد الحاقد :( إنه ليس مني ولست أنا منه ) ؛ أي إن المحبة الشديدة ، والصلة الأكيدة ، والعلاقة التامة بيني وبين الحسين ، جعلته كجزء مني وجعلتني كجزء منه من شدة الإتصال وعدم الإنفكاك »(١١٨)

ثانياً ـ « قد يكون إشارة إلى ما روي ؛ أن الحسينعليه‌السلام لما ولد كان يؤتى به إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيرضعه من ريقه أو إبهامه ، حتى نبت لحمه من لحم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعظمه من عظمه ، ودمه من دمه ، فكأنهما نفس واحدة ، فبملاحظة ذلك صح أن يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وأنا من حسين ) »(١١٩)

ثالثاً ـ « لما كان الحسين متولداً من فاطمةعليها‌السلام ، وفاطمة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ صح أن يقول :( وأنا من حسين ) ؛ ولذا يفسر قوله :( حسين مني ) بالجهة المادية ، وقوله :( أنا من حسين ) بالجهة المعنوية »(١٢٠)

______________________

(١١٨) ـ الفيروزآبادي ، السيد مرتضى الحسيني : فضائل الخمسة ، ج ٣ / ٣٢٢ ـ ٣٢٣

(١١٩) ـ العمران ، العلامة الشيخ فرج : الأزهار الأرجية ، ج ٢ / ٩٦

(١٢٠) ـ نفس المصدر

٧٨

نعم نفهم من تعبير الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وأنا من حسين ) تلك المكانة العالية للحسينعليه‌السلام عند جده وعند ربه أيضاً ، وتتجلى تلك المكانة عبر الأحاديث التالية :

أ ـ أخرج الحاكم في( المستدرك ) وصححه ، وقال الذمني في التخلص على شرط مسلم عن ابن عباس قال :( أوحي إلى محمد أني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفاً ، وإنني قاتل بابن بنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفا ) (١٢١)

ب ـ واخرج الثعلبي : «( أن السماء بكت وبكائها حمرتها ) وأخرج غيره :( إحمرّت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله ، ثم لا زالت الحمرة تُرى بعد ذلك ) وأن ابن سيرين قال : أخبرنا أنّ الحمرة التي تأتي مع الشفق لم تكن قبل الحسين وذكر ابن سعد أنّ هذه الحمرة لم ترَ في السماء قبل قتله .

قال ابن الجوزي : وحكمته أن غضبنا يؤثر حمرة الوجه ، والحق تنزه عن الجسمية فاظهر تأثير غضبه على من قتل الحسين بحمرة الأفق إظهاراً لعظم الجناية »(١٢٢)

كما تظهر لنا عناية الباري عَزّ وجَلّ بالحسينعليه‌السلام ، حيث عَوّضه بإستشهاده في الدنيا بثلاثة أشياء ، كما هو المستفاد من حديث ابن عباس ( ثم قال : يا ابن عباس ، من زاره عارفاً بحقه ؛ كتب له ثواب ألف حجة وألف عمره ، ألا من زاره فكأنما زارني ، ومن زارني فكأنما زار الله ، وحق

______________________

(١٢١) ـ الصبان ، الشيخ محمد : إسعاف الراغبين / ١٩٢ ، ( مطبوع بهامش ـ نور الأبصار : للشبلنجي )

(١٢٢) ـ ابن حجر ، أحمد بن علي : الصواعق المحرقة / ١٩٤

٧٩

الزائر على الله أن لا يعذبه بالنار ، وأن الإجابة تحت قبته ، والشفاء في تربته ، والأئمة من ولده )(١٢٣)

وحديث محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر ، وجعفر بن محمدعليهما‌السلام يقولان :( إن الله عوّض الحسين عليه‌السلام من قتله ؛ أن جعل الإمامة في ذريته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ، ولا تعد أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره ) (١٢٤)

وبعد هذا البيان ، إتضح لنا ميزة تربة الطف على غيرها ؛ إذ قدّسها الباري عَزّ وجَلّ بسبب من قتل فيها في سبيله ، وإلى هذا يشير إمامنا السجادعليه‌السلام بقوله :( طوبى لأرض تضمنت جسدك الطاهر ، فإنّ الدنيا بعدك مظلمة ، والآخرة بنورك مشرقة ، أما الليل ؛ فمسهد والحزن سرمد ، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم ، وعليك مني السلام يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته ) (١٢٥) وفي زيارة الإمام الصادقعليه‌السلام للشهداء :( بِاَبي اَنْتُمْ وَاُمّي طِبْتُمْ وَطابَتِ الاَرْضُ الَّتي فيها دُفِنْتُمْ ، وَفُزْتُمْ فَوْزاً عَظيماً ) (١٢٦) فهل في ذلك مانع ؟!

أم هل في تفضيل تربة الحسينعليه‌السلام على بقاع الأرض ، تفضيل الحسين على جده الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! كلا ، إنّ تفضيلنا لهذه التربة ناشئ من اهتمام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها كما ذكرنا سابقاً

______________________

(١٢٣) ـ المجلسي ، الشيخ محمد باقر : بحار الأنوار ج ٣٦ / ٢٨٦ ( باب : ٤١ ـ حديث ١٠٧ )

(١٢٤) ـ نفس المصدر ، ج ٤٤ / ٢٢١ ، ( باب ٢٩ ـ حديث ١ )

(١٢٥) ـ المقرم ، السيد عبدالرزاق : مقتل الحسين / ٣٢٠

(١٢٦) ـ القمي ، الشيخ عباس : مفاتيح الجنان / ٥٢٦

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

مسائل حسن الطالع والحظ وعدمهما ، وما شابه ذلك ، فيرجعون كل الحوادث الحسنة أو المرّة إلى هذه الأمور. وكل ذلك بسبب الخوف من الأسباب الحقيقة لتلك الأمور.

والقرآن الكريم في الآيات المتقدمة يضع أصبع التحقيق على الأصل والمنبع ، ويبيّن أنواع العلاج وأسباب النصر والهزيمة فيقول : لأجل معرفة الأسباب الأصيلة لا يلزم البحث عنها في السماوات ولا في الأرضين ، ولا وراء الأوهام والخيال ، بل ينبغي البحث عنها في وجودكم وفكركم وأرواحكم وأخلاقكم ، وفي نظمكم والاجتماعية ، فإنّ كل ذلك كامن فيها.

فالشعوب التي فكّرت مليّا وحركت عقولها ووحدّت جموعها وتآخت فيما بينها ، وكانت قوية العزم والإرادة ، وقامت بالتضحية والفداء عند لزوم ذلك ، هذه الشعوب منتصرة حتما.

أمّا إذا حلّ الضعف والتخاذل والركود مكان العمل والسعي الحثيث ، وحلّ التراجع مكان الجرأة والنفاق والتفرقة مكان الاتحاد ، وحبّ النفس مكان الفداء ، وحل التظاهر والرياء محل الإخلاص والإيمان ، فيبدأ عند ذلك السقوط والبلاء.

وفي الحقيقة أنّ جملة :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) تبيّن أسمى قانون في حياة الإنسانية ، وتوضح أنّ مدرسة القرآن الكريم هي أكرم مدرسة فكرية لحياة المجتمعات الإنسانية ، وأوضحها حتى لأولئك الذين نسوا في عصر الفضاء والذرّة قيمة الإنسان ، وجعلوا حركة التأريخ مرتبطة بالمصانع والمعامل وقضايا الإقتصاد.

فهي تقول لهؤلاء : إنّكم في خطأ كبير إذا أخذتم بالمعلول وتركتم العلة الأصلية أو نسيتموها ، وتمسكتم بغصن واحد من شجرة كبيرة وتركتم أصولها.

ولئلا نمضي بعيدا ، فإنّ تأريخ الإسلام ، أو تأريخ حياة المسلمين ـ بتعبير أصح ـ قد شهد انتصارات باهرة في بداياته ، وانكسارات وهزائم مرّة صعبة

٤٦١

بعدها.

ففي القرون الأولى كان الإسلام يتقدم في العالم بسرعة ، ويبث في كل مكان منه أنوار العلم والحريّة ، ويبسط ظلاله على أقوام جدد بالثقافة والعلوم ، فكان ذا قدرة متحركة ومحركة وبنّاءة معا ، وجاء بمدينة زاهرة لم يشهد التاريخ مثلها ، ولم تمر بضعة قرون حتى أخذ الخمول يعطل تلك الحركة ، وأخذت الفرقة والتشتت والضعف والخور والتخلف مكان ذلك الرقي ، حتى بدأ المسلمون يمدون أيديهم إلى الآخرين طلبا لوسائل الحياة الابتدائية ، ويبعثون بأبنائهم إلى ديار الأجانب لأخذ الثقافة والعلم ، بينما كانت جامعات المسلمين يومئذ من أرقى جامعات العالم العلمية والمراكز التي تهوي إليها أفئدة الأصدقاء والأعداء ابتغاء المعرفة.

لكن الأمور بلغت حدا بحيث أنّهم لم يصدروا علما وصناعة ، بل استوردوا ما يحتاجونه من خارج بلدانهم.

وأرض فلسطين التي كانت يوما مركز مجد المسلمين وعظمتهم ولم يتمكن الصليبيون ـ لمدّة مائتي عام ـ برغم تقديمهم ملايين القتلى والجرحى من ابترازها من أيدي المقاتلين المسلمين. إلّا أنّهم أسلموها «اليوم» خلال ستة أيّام ببساطة ، في وقت كان عليهم أن يعقدوا المؤتمرات أشهرا وسنين لإرجاع شبر منها. ولا يعرف بعد هذا إلى أية نتيجة سيصلو؟

ألم يعد الله عباده بالقول :( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) أو قوله :( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (٢) .

أو قوله :( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) (٣) .

__________________

(١) الروم ، ٤٧.

(٢) المنافقون ، ٨.

(٣) الأنبياء ، ١٠٥.

٤٦٢

فهل الله عاجز ـ والعياذ بالله ـ من تحقيق وعوده؟! أو قد نسيها! أو غيّرها؟

وإذا لم يكن كذلك ، فلم ذهب كل ذلك المجد والعظمة والعزّة؟

إنّ القرآن الكريم يجيب ـ في آية قصيرة ـ على كل تلك التساؤلات ، ويدعو إلى العودة إلى أعماق الوجدان ، والنظر في ثنايا المجتمع ، فسترون أن التغيير يبدأ من أنفسكم ، وأنّ الألطاف والرحمة الإلهية تعم الجميع ، فأنتم الذين أذهبتم قدراتكم وطاقاتكم هدرا فصرتم إلى هذا الحال.

ولا تتكلم الآية عن الماضي فحسب ليقال : إنّ ما مضى قد مضى بما فيه من مرارة وحلاوة ، وانتهى ولن يعود ، والكلام عنه غير مجد وغير نافع. بل تتكلم الآية عن الحاضر والمستقبل أيضا ، فإنّكم إذا عدتم إلى الله وأحكمتم أسس إيمانكم ، ووعت عقولكم ، وذكرتم عهودكم ومسئولياتكم ، وتصافحت الأيدي بعضها مع بعض وتعالت الصرخات المدوّية للنهضة ، وبدأتم بالجهاد والفداء والسعي والعمل على كل صعيد ، فسوف تعود المياه إلى مجاريها ، وستنقضي الأيّام السود وترون أفقا مشرقا وضاء ، وستعود أمجادكم العظيمة ، في صورة أجلى وأكبر!

تعالوا لتبديل أحوالكم ، وليكتب علماؤكم ، ويجاهد مقاتلوكم ، ويسعى التجار والعمال ، ويقرأ شبابكم أكثر فأكثر ويطهروا أنفسهم وتزداد معارفهم ، ليتحرك دم جديد في عروق مجتمعكم فتتجلّى قدراتكم بشكل يعيد له أعداؤكم الأرض المحتلة التي لم يعد منه شبر واحد بالرغم من كل أنواع التذلل والرجاء والاستعطاف!! ومن الضروري أن نذكر هذه اللطيفة ، وهي أنّ القيادة ذات تأثير مهم في مصير الشعوب ، ولا ننسى أن الشعوب الواعية تختار لنفسها القيادة الحكيمة اللائقة ، أمّا القادة الضعاف أو المتكبرون أو الظالمون فيسحقهم غضب الشعوب وإرادتهم القوية ، ولا ينبغي أن ننسى أنّ ما وراء الأسباب والعوامل الظاهرية

٤٦٣

سلسلة من الإمدادات الغيبية تنتظر المؤمنين والمخلصين ، لكنّها لا ينالها كل أحد جزافا ، بل لا بدّ من الاستعداد والجدارة!

ونختتم هذا الموضوع بذكر روايتين.

الأولى : ما ورد عن الإمام الصّادق في هذا الشأن إذ قالعليه‌السلام «ما أنعم الله على عبد بنعمة فسلبها إياه حتى يذنب ذنبا يستحقق بذلك السلب»(١) .

والثّانية : ما نقرؤه في حديث آخر لهعليه‌السلام : «إنّ الله عزوجل بعث نبيا من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك : إنّه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء ، فتحولوا عمّا أحبّ إلى ما أكره إلّا تحولت لهم عمّا يحبّون إلى ما يكرهون. وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عمّا أكره إلى ما أحبّ إلّا تحولت لهم عمّا يكرهون إلى ما يحبّون».

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

٢ ـ لا جبر في العاقبة ولا جبر في التأريخ ، ولا في سائر الأمور

والموضوع المهم الآخر الذي يستفاد من هذه الآيات بوضوح ، هو أنّه ليس للإنسان مصير خاص قد تعين من قبل ، ولا يقع تحت تأثير ما يسمى بـ «جبر التأريخ» و «جبر الزمان» بل إنّ الذي يصنع التأريخ وحياة الإنسانية ، ويجعل التحوّلات في الأسلوب والأخلاق والأفكار وغيرها ، وهو إرادة الإنسان نفسه! فبناء على ذلك فالذين يعتقدون بالقضاء والقدر الجبري ، ويقولون : إنّ الأمور والحوادث جميعها تجري بمشيئة الله الإجبارية ، تردّهم هذه الآية.

وكذلك الجبر المادي الذي يجعل من الإنسان ألعوبة بيد الغرائز التي لا تتغير

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٩٣.

٤٦٤

وأصول الوارثة.

أو جبر المحيط بحيث يرون أنّه تتحكم فيه الأوضاع الاقتصادية والمعامل والمصانع.

فكل ما تقدم من «الجبر» ترفضه المدرسة الإسلامية ، ويرفضه القرآن ، فالإنسان حرّ وهو الذي يقرر مصيره بنفسه.

إنّ الإنسان ـ بملاحظة ما قرأناه في الآيات من قانون ـ يمسك بزمام مصيره وتأريخه بنفسه ، فيصنع لها الفخر والنصر ، وهو الذي يسوق نفسه إلى الابتلاء والمذلة ، فداؤه منه ودواؤه بيده ، فإذا لم يغير نفسه ولم يسع في بناء شخصيته لن يكون له دور في صياغة مصيره وشأنه.

* * *

٤٦٥

الآيات

( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩) )

التّفسير

مواجهة من ينقض العهد بشدّة!

في هذه الآيات المباركة إشارة إلى طائفة أخرى من أعداء الإسلام الذين وجهوا ضربات مؤلمة للمسلمين في حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المليئة بالأحداث ، إلّا أنّهم ذاقوا جزاء ما اقترفوه مرّا وكانت عاقبة أمرهم خسرا. وهؤلاء هم يهود المدينة الذين عاهدوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة مرات.

وهذه الآيات تبيّن الأسلوب الشديد الذي ينبغي أن يتخذه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقّهم ، الأسلوب الذي فيه عبرة للآخرين ، كما فيه درء لخطر هذه الطائفة.

٤٦٦

وتبدأ الآيات فتعرف هذه الطائفة بأنّها شر الأحياء الموجودة في هذه الدنيا فتقول :( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

ولعل التعبير ب( الَّذِينَ كَفَرُوا ) يشير إلى أنّ كثيرا من يهود المدينة كانوا يعلنون حبّهم للنبي وإيمانهم به قبل أن يظهرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقا لما وجدوه مكتوبا عنه في كتبهم ، حتى أنّهم كانوا يدعون الناس ويمهدون الأمور لظهوره. ولكنّهم وبعد أن ظهر وجدوا أنّ مصالحهم المادية مهددة بالخطر ، فكفروا به وأظهروا عنادا شديدا في هذا الأمر حتى لم تبق بارقة أمل بإيمانهم ، وكما يقول القرآن الكريم :( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وتقول الآية الأخرى :( الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ) (١) . والمغروض أن يراعوا الحياد على الأقل فلا يكونوا بصدد الإضرار بالمسلمين وإعانة الأعداء عليهم.

فلا هم يخافون الله تعالى ، ولا يحذرون من مخالفة أوامره ، ولا يراعون القواعد والأصول الانسانية :( وَهُمْ لا يَتَّقُونَ ) .

والتعبير بـ «ينقضون» و «لا يتقون» وهما فعلان مضارعان ، هذا التعبير بهما يدلّ على الاستمرار ، كما أنّه يدل على أنّهم قد نقضوا عهودهم مرارا.(٢) .

والآية بعدها توضح كيفية أسلوب مواجهة هؤلاء فتقول :( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ) أي قاتلهم بشكل مد مرّ بحيث أن الطوائف القابعة خلفهم لإمدادهم يعتبروا بذلك ويتفرقوا عنهم.

وكلمة «تثقفنهم» مأخوذة من مادة «الثقف» على زنة «السقف» بمعنى بلوغ

__________________

(١) «من» في جملة «عاهدت منهم» إمّا للتبعيض فتعني أنّك عاهدت سادتهم أو البارزين من يهود المدينة ، أو أنّها للصلة فتكون معناها عاهدتهم كما يرد هذا الاحتمال وهو أن معنى «عاهدت منهم» هو أخذت العهد منهم.

(٢) بالإضافة إلى ما ذكرنا في المتن فهناك قرينة لفظية تدل على هذا المعنى أيضا وهي «في كل مرّة»

٤٦٧

الشيء بدقة وسرعة ، وهي إشارة إلى وجوب التنبه والاطلاع السريع والدقيق على قراراتهم ، والاستعداد لإنزال ضربة قاصمة لها وقع الصاعقة عليهم قبل أن يفاجئوك بالهجوم.

وكلمة «شرّد» مأخوذة من مادة «التشريد» وهي بمعنى التفريق المقرون بالاضطراب فينبغي أن يكون الهجوم عليهم بشكل تتفرق معه المجموعات الأخرى من الأعداء وناقضي العهود ، ولا يفكروا بالهجوم عليكم.

وهذا الأمر إنّما صدر ليعتبر به الأعداء الآخرون ، بل حتى الأعداء في المستقبل أيضا ويتجنبوا الحرب مع المسلمين ، وليتجنب نقض العهد ـ كذلك ـ الذين لهم عهود مع المسلمين ، أو الذين سيعاهدونهم مستقبلا( لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

( وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ) ولا تبدأهم بالهجوم قبل إبلاغهم بإلغاء العهد( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ ) .

وبالرغم من أنّ الآية قد منحت النّبي صلاحية نقض العهد إذا أحس بخيانتهم أو نقضهم عهودهم ، إلّا أن من الواضح أن الخوف من نقضهم العهد لا يكون جزافا ودون سبب بل عند ما يرتكبون ما يدلّ على تفكيرهم بالنقض ويتفقون مع العدوّ على الهجوم ، فهذا القدر من القرائن والأمارات يجيز للنّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلغهم إلغاء العهد.

وجملة «فانبذ إليهم» من «الإنباذ» وهي بمعنى «الإلقاء» أو «الإعلام» و «الرّد» أي : ردّ عليهم عهودهم وأعلن عن إلغائها جهرا.

والتعبير بـ «على سواء» إمّا بمعنى أنّه كما أنّهم نقضوا العهد بأعمالهم التي اقترفوها ، فألغه أنت من جهتك أيضا ، فهذا حكم عادل ، يتساوى وما فعلوه. أو بمعنى الإعلان عن ذلك بأسلوب واضح صريح لا لبس فيه ولا خدعة.

وعلى كل حال ، فإنّ الآية ـ محل البحث ـ في الوقت الذي تنذر فيه

٤٦٨

المسلمين من نقض العهد ، وتحذرهم أن يكونوا هدفا وغرضا لهجوم العدوّ ، فهي تدعوهم إلى رعاية مبادئ الإنسانية في حفظ العهود أو إلغائها.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يوجه تعالى الخطاب إلى ناقضي العهد ، فيحذرهم من عاقبة ذلك فيقول :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ) .

* * *

٤٦٩

الآيات

( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) )

التّفسير

المزيد من التعبئة العسكرية والهدف منها :

تشير أوّل آية هنا ـ لتناسب الكلام في الآيات المتقدمة عن الجهاد ـ إلى أصل مهم يجب على المسلمين التمسك به في كل عصر ومصر ، وهو لزوم

٤٧٠

الاستعداد العسكري لمواجهة الأعداء ، فتقول :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) .

أي لا تنتظروا حتى يهجم العدوّ فتستعدوا عندئذ لمواجهته ، بل يجب أن تكون لديكم القدرة والاستعداد اللازم لمواجهة هجمات الأعداء المحتملة.

وتضيف الآية قائلة :( وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ) .

«الرّباط» بمعنى شدّ الشيء ، ويرد هذا الاستعمال كثيرا بمعنى ربط الحيوان في مكان ما لرعايته والمحافظة عليه ، وقد جاء هذا اللفظ هنا بما يناسب ذلك بمعنى الحفظ والمراقبة بصورة عامّة.

و «المرابطة» تعني حفظ الحدود ، وتأتي كذلك بمعنى الرقابة على شيء آخر ، ويطلق على مكان شدّ وثاق الحيوان بـ «الرباط» ولذلك سمّت العرب أماكن نزول المجاهدين رباطا أيضا.

* * *

ملاحظات

١ ـ في الجملة القصيرة ـ آنفة الذكر ـ بيان لأصل مهم في الجهاد وحفظ وجود المسلمين وما لديهم من مجد وعظمة وفخر ، والتعبير في الآية واسع إلى درجة أنّه ينطبق على كل عصر مصر تماما.

وكلمة «قوّة» وإن قصرت لفظا ، إلّا أنّها ذات معنى وسيع ومغزى عميق ، فهي لا تختص بأجهزة الحرب والأسلحة الحديثة لكل عصر فحسب ، بل تتسع لتشمل كلّ أنواع القوى والقدرات التي يكون لها أثرا ما في الإنتصار على الأعداء ، سواء من الناحية المادية أو الناحية المعنوية.

فالذين يرون أنّ السبيل الوحيد للانتصار على الأعداء هو كمية السلاح ، هم على خطأ كبير ، لأنّنا شاهدنا في عصرنا الحاضر شعوبا قليلة العدد وأسلحتها غير

٤٧١

متطورة انتصرت على شعوب أقوى وذات أسلحة حديثة متطورة ، كما حصل للشعب الجزائري المسلم في مواجهة الدولة الفرنسية القوية!

فبناء على ذلك ، ومضافا إلى ضرورة تحصيل الاسلحة المتطورة في كل زمان بعنوان وظيفة إسلامية حتمية ـ تجب تقوية عزائم الجنود ومعنوياتهم للحصول على قوّة أكبر وأهمّ.

ولا ينبغي الغفلة عن بقية القوى والقدرات الاقتصادية والثقافية والسياسية ، والتي تندرج تحت عنوان «القوّة» ولها تأثير بالغ على الأعداء.

وممّا يسترعي النظر أنّ الرّوايات الإسلامية ذكرت لنا تفاسير مختلفة في شأن «القوّة» ومعناها ، وذلك يكشف عن مفهومها الواسع ، ففي بعض الرّوايات نجد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن أنّ المراد من القوّة هو «النّبل»(١) .

ونقرأ في رواية أخرى ـ وردت في تفسير علي بن إبراهيم ـ أن المقصود من القوة هو كل أنواع السلاح(٢) .

كما نقرأ في تفسير العياشي أن المراد منه السيف والدرع(٣) .

ونجد رواية أخرى في كتاب من لا يحضره الفقيه تقول : «منه الخضاب بالسواد»(٤) .

فترى أنّ الإسلام قد أولى لون شعر المقاتلين من كبار السن اهتماما ليستعملوا الخضاب ، فيراهم العدوّ في عمر الشباب فيصاب بالرعب منهم ، ويكشف هذا الأمر عن مدى سعة مفهوم القوّة.

وبناء على ذلك ، فمن فسّر القوّة بمصداق واحد محدود قد جانب الصواب

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السّابق.

٤٧٢

جدّا.

ولكن مع الأسف ، فإنّ المسلمين على الرغم ممّا لديهم من مثل هذا التعليم الصريح ، لا نجد فيهم أثرا لتقوية العزائم والمعنويات بين صفوفهم ، كأنّهم قد نسوا كل شيء. ولا هم يستغلّون قواهم الاقتصادية والثقافية والعسكرية والسياسية لمواجهة عدوّهم.

والأعجب من ذلك أنّنا مع إهمالنا هذا الأمر العظيم وتركه وراء ظهورنا نزعم أنّنا ما زلنا مسلمين!! ونلقي تبعة تأخرنا وانحطاطنا على رقبة الإسلام ، ونقول : إذا كان الإسلام داعية ترقّ وتقدم ، فلم نحن المسلمون في تأخر وتخلف؟!

ونحن نعتقد أنّ هذا الشعار الإسلامي الكبير :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) إذا أضحى شعارا شاملا في كل مكان ، ينادي ، به الصغير والكبير ، والعالم وغير العالم ، والمؤلف والخطيب ، والجندي والضابط ، والفلاح والتاجر ، والتزموا به في حياتهم وطبقوه ، كان كافيا لجبران التخلفّ والتأخر.

إنّ سيرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العملية وأئمّة الإسلام تدل على أنّهم لم يدخروا وسعا ، واستغلوا كل فرصة لمواجهة العدوّ ، كإعداد الجنود وتهيئة السلاح ، وشد الأزر ورفع المعنويات ، وبناء معسكرات التدريب ، وإختيار الزمان المناسب للهجوم ، والعمل على استعمال مختلف الأساليب الحربية ، ولم يتركوا أية صغيرة ولا كبيرة في ذلك.

والمعروف أنّ النّبي بلغه أن سلاحا جديدا مؤثرا صنع في اليمن أيّام معركة حنين ، فأرسل النّبي جماعة إلى اليمن لشرائه فورا.

ونقرأ في أخبار معركة أحد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ على شعار المشركين «أعل هبل ، اعل هبل» بشعار أقوى منه وهو «الله أعلى وأجل» ورد على شعارهم : «إنّ لنا العزى والعزى لكم» ، بقوله : «الله مولانا ولا مولى لكم» ، وهذا الأمر يدلّ على أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ـ كذلك ـ لم يغفلوا عن اختيار أقوى الشعارات في

٤٧٣

مواجهة الأعداء والردّ على عقائدهم وشعاراتهم.

ومن التعاليم الإسلامية المهمّة في هذا الصدد موضوع سباق الخيل والرماية ، وما جوّزه الفقه فيهما من الربح والخسارة ، فهو مثل آخر على تفكير الإسلام العميق إلى جانب الاستعداد لمواجهة الأعداء وحثّ المسلمين على ذلك.

٢ ـ واللطيفة المهمّة الأخرى التي نستنتجها من الآية آنفة الذكر هو عالمية وخلود هذا الدين الالهي. لأنّ مفاهيم هذا الدين ومضامينه ذات أبعاد واسعة لا تخلق على مرور الزمان ولا تغدو بالية أو منسوخة برغم القدم ، فجملة( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) كان لها مفهوم حي قبل أكثر من ألف عام ، كما هي الحال اليوم ، وسيبقى مفهومها حيا إلى عشرات الآلاف من السنين الأخرى لأنّ أي سلاح يظهر في المستقبل فهو كامن في كلمة «القوّة» الجامعة ، إذ أن جملة «ما استطعتم» عامّة ، وكلمة «قوّة» نكرة تؤيد عمومية تلك الجملة لتشمل كل قوّة.

٣ ـ ويرد هنا سؤال وهو : لماذا وردت عبارة «رباط الخيل» بعد كلمة «قوّة» بمالها من المفهوم الواسع.

وجواب هذا السؤال هو أنّ الآية بالرغم من أنّها تتضمن قانونا شاملا لكل عصر وزمان ، فهي في الوقت ذاته تحمل تعليما مهما خاصا بعصر النّبي ، الذي هو عصر نزول القرآن. وفي الحقيقة إن هذا المفهوم العام جاء بمثال واضح لذلك العصر ، لأنّ الخيل كانت في ذلك الزمن من أهم وسائل الحرب ، فهي وسيلة مهمّة عند المقاتلين الشجعان والأبطال في هجومهم وقتالهم السريع ، وأهميتها تشبه أهمية الطائرات والدبابات في العصر الحاضر.

الهدف من تهيئة السلاح وزيادة التعبئة العسكرية :

ثمّ ينتقل القرآن بعد ذلك التعليم المهم إلى الهدف المنطقي والإنساني من وراء هذا الموضوع ، فيقول : إنّ الهدف منه ليس تزويد الناس في العالم أو في

٤٧٤

مجتمعكم بأنواع الأسلحة المدمرة التي تهدم المدن وتحرق الأخضر واليابس وليس الهدف منه استغلال أراضي الآخرين وممتلكاتهم ، وليس الهدف هو توسعة الاستعباد والاستعمار في العالم ، بل الهدف من ذلك هو( تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ) !

لأنّ أكثر الأعداء لا يستمعون لكلمة الحق ولا يستجيبون لنداء المنطق والمبادي الإنسانية ، ولا يفهمون غير منطق القوّة!

فإذا كان المسلمون ضعافا ، فسوف يفرض عليهم الأعداء كل ما يريدون ، أمّا إذا اكتسبوا القوّة الكافية ، فإنّ أعداء الحق والعدل والاستقلال والحرية سيشعرون بالخوف ولا يفكرون بالتجاوز والعدوان.

واليوم ـ ونحن في تفسير هذه الآية ـ فإنّ قسما من الأراضي الإسلامية في فلسطين وغيرها من الدول المجاورة تسحقها أحذية الجنود الصهاينة ، وقد أغاروا بهجومهم الأخير على لبنان فشردّوا الآلاف من العوائل ، وقتلوا المئات من الأبرياء ، وهدموا الكثير من الأحياء والدور السكنية ، وأحالوها إلى انقاض ، فأضافوا ـ بهذه المأساة المروعة جريمة أخرى إلى سجلهم الأسود في وقت استنكر الرأي العام العالمي هذا العمل الوحشي حتى أصدقاء إسرائيل ، وأصدرت الأمم المتحدة بيانا دعت فيه إلى إخلاء هذه الأرض ، لكن هذا الشعب الذي لا يتجاوز بضعة ملايين لا يريد الاستماع لأية كلمة حق وأي منطق إنساني ، وذلك لما لديه من قوّة وأسلحة واستعداد كاف للحرب أعدّه منذ سنين طويلة لمثل هذا العدوان.

فالمنطق الوحيد الذي يمكن به الردّ على هؤلاء هو منطق( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) فكأنّ هذه الآية نزلت في عصرنا الحاضر ومن أجلنا ، لتقول لنا : جهزوا أنفسكم وكونوا من القوة بحيث يصاب عدوّكم بالذعر والخوف كيما يغادر أرضكم وينسحب إلى مكانه الأوّل.

٤٧٥

وممّا يثير النظر ويسترعيه أنّ الآية هنا جمعت التعبير بـ «عدوّ الله» و «عدوّكم» وذلك إشارة إلى عدم وجود منافع وأغراض شخصية في الجهاد والدفاع عن الإسلام ، بل الهدف هو حفظ رسالة الإسلام الإنسانية ، فالذين يعادونكم إنّما هم أعداء الله وأعداء الحق والعدل والإيمان والتوحيد والأخلاق الإنسانية ، فينبغي الردّ عليهم انطلاقا من هذا المجال.

وفي الحقيقة إنّ هذا التعبير شبيه بالتعبير «في سبيل الله» أو «الجهاد في سبيل الله» الذي يدلّ على أنّ الجهاد أو الدفاع الإسلامي لا يشبه فتح البلدان في ما مضى من التأريخ ، ولا غزو الاستعمار التوسعي اليوم ، ولا في صورة إغارات القبائل العربية في زمن الجاهلية ، بل كل ذلك من أجل الله وفي سبيل الله ، وفي مسير إحياء الحق والعدل.

ثمّ تضيف الآية بأنّ المزيد من استعداداتكم العسكرية يخيف أعداء آخرين لا تعرفونهم فتقول :( وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ ) .

* * *

ملاحظتان

١ ـ من هم المقصودون في الآية «الذين لا تعلمونهم»

بالرّغم من أنّ المفسّرين احتملوا في هذه الطائفة : الذين لا تعلمونهم احتمالات كثيرة ، فقال بعضهم : إنّهم يهود المدينة الذين كانوا يضمرون عداءهم ، وقال آخرون : إنّها إشارة إلى الأعداء مستقبلا ، كدولة الروم والفرس اللتين لم يحتمل المسلمون يومئذ أنّهم سيكونون في حرب معهما أو يقع القتال بينهما وبينهم.

إلّا أنّ الأصح ـ كما نراه ـ هو أن المراد منها هم المنافقون الذين دخلوا في صفوف المسلمين دون أن يعلموهم ، فإذا قوى جيش الإسلام فإنّ أولئك سيقعون

٤٧٦

في حيرة واضطراب ويرحلون ، والشاهد على هذه الموضوع هو الآية (١٠١) من سورة التّوبة إذ تقول :( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) .

ويحتمل أن مفهوم الآية يشمل جميع أعداء الإسلام غير المعروفين أعم من المنافقين وغيرهم.

٢ ـ الاستعداد في كل مكان وزمان

وتتضمن الآية تعليما لمسلمي اليوم أيضا ، وهو أنّه لا ينبغي الاكتفاء بالاستعداد لأعداء الإسلام الذين تعرفونهم ، بل عليكم أن تنتبهوا للأعداء الاحتماليين أو «بالقوّة» وأن تتهيأوا حتى تكونوا في أعلى حدّ من القوّة والقدرة ، وفي الحقيقة فإنّ المسلمين لو تنبهوا لهذه القضية المهمّة لما منوا بهجمات الأعداء المفاجئة.

وفي نهاية الآية إشارة إلى موضوع مهم آخر ، وهو أنّ الاستعداد العسكري وجمع الأسلحة والأجهزة الحربية ووسائل الدفاع المختلفة ، كل ذلك يحتاج إلى بالدعم المالي اللازم له ، لذلك تأمر المسلمين بالتعاون الجماعي لتهيئة ذلك المال ، وأن ما يبذلونه في هذا الأمر فهو عطاء في سبيل الله ، ولن ينقص منه شيء أبدا( وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) فيرجع إليكم جميعه ، بل أكثر ممّا أنفقتم( وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) ، وستنالون ثواب ذلك في هذه الدنيا في انتصار الإسلام وقوته وعظمته ، لأنّ الشعب الضعيف ستتعرض أمواله للخطر وسيفقد أمنه وحريته واستقلاله أيضا ، فبناء على ذلك فإنّ ما تنفقونه في هذا السبيل سيعود إليكم عن طريق آخر وفي مستوى أفضل وأسمى.

كما أنّ ثوابا أعظم ينتظركم في العالم الآخر في جوار رحمة الله ، فمع هذه الحال لا تظلمون ، بل ستنالون خيرا كثيرا.

٤٧٧

وممّا يسترعي النظر أنّ الجملة آنفة الذكر جاء فيها لفظ «شيء» وهي ذات مفهوم واسع ، أي لا يخفى على الله ما تبذلونه من جميع الأشياء ، مالا كان أو نفسا أو فكرا أو منطقا أو قوة أو أي مال آخر ينفق في تقوية بنية المسلمين الدفاعية والعسكرية ، فإنّ الله سيدخره ويعيده إليكم في حينه.

وقد احتمل بعض المفسّرين أن جملة «وأنتم لا تظلمون» معطوفة على جملة «ترهبون» أي أنّكم إذا ما أعددتم القوة اللازمة لمواجهة الأعداء فسيخافون أن يهجموا عليكم ، ولن يقدروا على ظلمكم وإيذائكم ، وبناء على ذلك فلن يصيبكم ظلم أبدا.

أهداف الجهاد في الإسلام وأركانه :

واللطيفة الأخرى التي تستفاد من هذه الآية ، وتكون جوابا على كثير من أسئلة الجهلاء وإشكالاتهم ، هي بيان شكل الجهاد وهدفه ومنهجه ، فالآية تقول بوضوح : إنّ الهدف منه ليس قتل الناس أو الاعتداء على حقوق الآخرين ، بل الهدف ـ كما ذكرنا ـ هو إرهابكم الأعداء لكيلا يعتدوا عليكم وليخافوكم ، فينبغي أن تكون جميع جهودكم وسعيكم منصبّا في سبيل قطع شر أعداء الله والحق والعدل.

فهل يملك الجهلة في أذهانهم مثل هذا التصوّر عن الجهاد في القرآن الكريم ، وما صرّح به في هذه الآية ـ محل البحث ـ ليسوغ لهم أن يحملوا كل هذه الحملات المسعورة المتتالية على هذا القانون الإسلامي. فتارة يدّعون بأنّ الإسلام هو دين السيف ، وتارة يقولون بأنّ الإسلام يفرض على الناس أفكاره بالحديد ، ويقيسون النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسائر محتلي البلدان في التاريخ.

وفي عقيدتنا أنّ جواب كل هؤلاء هو أن يعود إلى القرآن ، ويفكروا في الهدف الأصيل لهذا الموضوع ، لتتّضح لهم كل تلك الأمور.

٤٧٨

الاستعداد للصّلح :

مع أنّ الآية السابقة أو ضحت هدف الجهاد في الإسلام بقدر كاف ، فإنّ الآية التالية التي تتحدّث على الصلح بين المسلمين توضح هذا الأمر بصورة أجلى فتقول( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ) .

ويحتمل في تفسير هذه الجملة المتقدمة أنّهم إذا بسطوا أجنحتهم للسلم فابسط جناحيك أنت للسلم أيضا ، لأنّ «جنحوا» فعل مصدره «الجنوح» وهو الميل ، ويطلق على كل طائر أنّه «جناح» أيضا ، لأنّ كل جناح في الطائر يميل إلى جهة ، لذلك يمكن الاستناد في تفسير هذه الآية إلى جذر اللغة تارة ، وإلى مفهومها الثّانوي تارة أخرى.

ولمّا كان الناس يترددّون أغلب الأحيان عند ما يراد التوقيع على معاهدة الصلح ، فإنّ الآية تأمر النّبي بعدم التردد في الأمر إذا كانت الشروط عادلة ومنسجمة مع المنطق السليم والعقل ، فتقول :( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

ومع ذلك فهي تحذر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين من احتمال الاحتيال والخداع في دعوة الأعداء ، إلى الصلح ، فقد تكون دعوة للتمويه والرّغبة في توجيه ضربة مفاجئة ، أو يكون هدفهم هو تأخير الحرب ليتمكنوا من إعداد قوات أكثر ، إلّا أنّ الآية تطمئن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يخشى هذا الأمر أيضا ، لأنّ اللهعزوجل سيكفيه أمرهم وسينصره في جميع الأحوال ، إذ تقول :( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ) .

وسيرتك أيّها النّبي ـ السابقة ـ شاهدة على هذه الحقيقة ، لأنّ الله( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) .

فكم أرادوا بك كيدا ، وكم مهدوا وأعدّوا لك من خطط مدمّرة بحيث لم تكن الغلبة عليها بالوسائل المألوفة ممكنة ، لكنّهعزوجل حفظك ورعاك في مواجهة

٤٧٩

كل ذلك.

أضف إلى ذلك أنّ المؤمنين المخلصين قد أحاطوا بك من كل جانب ولم يدخروا وسعا في الدفاع عنك ، فقد كانوا قبل ذلك متشتتين متعادين ، ولكنّ الله شرح صدورهم بأنوار الهداية( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ) .

وقد كانت الحرب لسنوات طويلة قائمة على قدم وساق بين طائفتي الأوس والخزرج وكانت صدورهم تغلي غيظا وحقدا بعضهم على بعض بشكل لم يكن أي أحد يتصور أنّهم سيعيشون بعضهم مع بعض بالحب والصفاء في يوم ما ، وسيكونون صفا واحدا متراصا ، ولكن الله القادر المتعادل فعل ذلك ببركة الإسلام وفي ظلال القرآن ، ولم يكن هذا الإمر مقتصرا على الأوس والخزرج الذين هم من الأنصار ، بل كان ذلك بين المهاجرين أيضا الذين جاءوا من مكّة ، إذ لم يكن بينهم ـ قبل الإسلام ـ حب ومودّة ، بل كانت صدورهم مليئة بالبغضاء والشحناء أيضا ، لكن اللهعزوجل غسل كل تلك الأحقاد وأزالها بحيث تمكن معها ثلاثمائة وثلاثة عشر من أبطال بدر ، منهم حوالي ثمانين نفرا من المهاجرين والباقي من الأنصار ، فكانوا جيشا صغيرا ، لكنّه متحدّ قوي استطاع أن يكسر شوكة العدوّ ويحطم قوته.

ثمّ تضيف الآية أن اتّحاد تلك القلوب ، أو إيجاد تلك الألفة ، لم يكن بوسائل مألوفة أو مادية( لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ) .

إنّ الذين يعرفون حالة نفوس المتعصبين والحاقدين ، كأولئك الذين كانوا في العصر الجاهلي ، يعرفون كذلك أن تلك الأحقاد والضغائن لم يكن بالإمكان إزالتها ، لا بالمال ولا بالجاه والمقام ، لأنّها كانت لا تزول عندهم إلّا بالانتقام الذي يتكرر بصورة متسلسلة فيما بينهم ، وفي كل مرّة يكون في صورة أبشع وأكثر

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606