الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245210 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين ، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة :

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطا واسعا لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أن القوابل [من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل].

ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسىعليه‌السلام «وكان الحمل خفيّا لم يظهر أثره على أم موسى» وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع ، وأنّها تحمل جنينا في بطنها وتوشك أن تضعه ، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.

وحين ولد موسىعليه‌السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطبع حبّه في قلبها ، وأنار جميع زوايا قلبها.

فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها : كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه «وأنال بذلك جائزتي» ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي ، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه ، فاهتمي بالمحافظة عليه ، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيرا.

ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت ، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر ، فارتبكت ولم تدر ما ذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الارتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار ، فلم يجدوا شيئا إلّا التنور المشتعل نارا فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت : إنّها صديقتي وقد

١٨١

جاءت زائرة فحسب ، فخرجواءايسين.

ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت «أخت موسى» عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه ، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور ، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالما وقد جعل الله النّار عليه بردا وسلاما «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالما من التنور.

لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة ، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.

وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد ، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر ، ولكن مع ذلك أحسّت بالاطمئنان أيضا.

كان ذلك من الله ولا بدّ أن يتحقق ، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.

فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضا» فطلبت منه أن يصنع صندوقا صغيرا.

فسألها النجار قائلا : ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الأمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع ، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.

فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلّادين ، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع ، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة ، فظن أولئك أنّه يستهزئ بهم فضربوه وطردوه ، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي ، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأولى من الارتجاج والعيّ ، وأخيرا فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي ، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.

ولعلّ الوقت كان فجرا والناس ـ بعد ـ نيام ، وفي هذه الحال خرجت أم

١٨٢

موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى ، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى ، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل ، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج ، فلو لا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولانكشف الأمر واتضح كل شيء.

ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأم بدقّة.

لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة «پروين اعتصامي» ـ بتصرف ـ تحكي صورة «تقريبية» عن ذلك الموقف :

أمّ موسى حين ألقت طفلها

للذي رب السما أوحى لها

نظرت للنيل يمضي مسرعا

آه لو تعرف حقا حالها

ودوي الموج فيه صاخب

وفتاها شاغل بلبالها

* * *

وتناغيه بصمت : ولدي

كيف يمضي بك هذا الزورق

دون ربان ، وإن ينسك من

هو ذو لطف فمن ذا يشفق

فأتاها الوحي : مهلا ، ودعي

باطل الفكر ووهما يزهق

* * *

إن موسى قد مضى للمنزل

فاتق الله ولا تستعجلي

قد تلقينا الذي ألقيته

بيد ترعى الفتى لا تجهلي

وخرير الماء أضحى مهده

في اهتزاز مؤنس إن تسألي

* * *

وله الموج رؤوما حدبا

فاق من يحدب أمّا وأبا

١٨٣

كل نهر ليس يطغى عبثا

إن أمر الله كان السببا

* * *

يأمر البحر فيغدو هائجا

وله الطوفان طوعا مائجا

عالم الإيجاد من آثاره

كل شيء لعلاه عارجا

* * *

أين تمضين دعيه فله

خير ربّ يرتضيه لا هجا

كل هذا من جهة!

ولكن تعالوا لنرى ما يجري في قصر فرعون؟!

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة ، ولم يكن له من الأبناء سواها ، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء ، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له : نتكهّن ونتوقع أن إنسانا يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها ، وكان فرعون وزوجه «آسية» في انتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيّام فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار ، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثل الصندوق «المجهول» الخفيّ أمام فرعون ، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.

بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه ، وفتح الصندوق على يده فعلا!.

فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها ، ودخل حبّه في قلوب الجميع ، ولا سيما قلب امرأة فرعون «آسية» وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(١) .

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن

__________________

(١) ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير «أبو الفتوح» و «مجمع البيان».

١٨٤

في هذا الصدد :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) .

كلمة «التقط» مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي ، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضا

وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدوا لدودا ، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة كان ما كان وحدث ما حدث وكما يقول علماء الأدب : إنّ اللام في الآية هنا( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ) هي «لا العاقبة» ليست «لام العلة» ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته ، وكيف أن هذه الجماعة «الفراعنة» عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل ، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ أبنائهم.

والتعبير ـ ضمنا ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحدا ، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون ، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول :( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) .

كانوا خاطئين في كل شيء ، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسىعليه‌السلام ، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم : خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(١)

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : إن الفرق بين «الخاطئ» «والمخطئ» هو أنّ الخاطئ هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته ، إلّا أنّه يخطئ في الأثناء صدفة ، فيتلف العمل.

١٨٥

ويستفاد من الآية التالية أن شجارا حدث ما بين فرعون وامرأته ، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه ، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) .

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت «الصندوق» وإلقاءه بين أمواج النيل ، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل ، وأن زوال ملكه على يده ، فجثم كابوس ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة ، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة ، وقالوا : ينبغي أن يذبح هذا الطفل ، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولدا ذكرا ، ولم يكن قلبها منسوجا من قماش عمال قصر فرعون ، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا :( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ! ) .

أجل ، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر ، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطرا ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة ، ولا يمكن مخالفتها أبدا

* * *

١٨٦

ملاحظة

تخطيط الله العجيب

إظهار القدرة ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوما جبارين ، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض ، فيهلكهم ويدمرهم تدميرا.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم ، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم ، وأن يصنعوا لأنفسهم سجنا يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا ، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّا.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيرا فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) )

التّفسير

عودة موسى إلى حضن أمّه :

في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة فأمّ موسى التي قلنا عنها : إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل ، بحسب ما فصّلنا آنفا اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها ، فقد أصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خاليا وفارغا منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها ، لكن لطف الله تداركها ، وكما يعبّر القرآن الكريم( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

١٨٨

«الفارغ» معناه الخالي ، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خاليا من كل شيء إلّا من ذكر موسى وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أم موسى من قبل ، ولكن مع الالتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماما أنّ أمّا تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلّا ولدها الرضيع ، ويبلغ بها الذهول درجة لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله ، ولتعلم أنّه بعين الله ، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّا.

كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظا في مكانه ، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ «الرباط» ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط : الحفظ والتقوية والاستحكام ، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته أي تثبيت قلب أم موسى ، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالاطمئنان ، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها ، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره( وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) .

كلمة «قصّيه» مأخوذة من مادة «قصّ» على زنة «نصّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء ، وإنّما سميّت القصّة قصّة لأنّها تحمل في طياتها أخبارا مختلفة يتبع بعضها بعضا.

فاستجابت «أخت موسى» لأمر أمّها ، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة ، حتى بصرت به من مكان بعيد ، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه

١٨٩

آل فرعون ويقول القرآن في هذا الصدد :( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) .

ولكن أولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

قال البعض : إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثا عن مرضعة له ، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر ، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه ، فرأت ـ من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أخرى لجملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أيضا.

فالعلامة «الطبرسي» لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن فرعون جاهل بالأمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تقهر!؟.

وعلى كل حال ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أمّه عاجلا ليطمئن قلبها ، لذلك يقول القرآن الكريم :( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

وطبيعي أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع ، فيجب البحث عن مرضع له ، ولا سيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون» تعلق قلبها به بشدّة ، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثا عن مرضع له ، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات ، أو أنّه لم يكن يتذوق

__________________

(١) «المراضع» جمع «مرضع» على زنة «مخبر» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها ، وقال البعض : (المراضع) جمع (مرضع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع ، أي ، «الأثداء» وقال البعض : يحتمل أن تكون الكلمة جمعا للمصدر الميمي «مرضع» بمعنى الرضاع ، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو

١٩٠

ألبانهن ، إذ يبدو لبن كلّ منهن مرّا في فمه ، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع ، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعا.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثا عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاء وضجيجا ، وما زال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتا أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل ، فقالت :( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) .

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبنا ، وقلب طافح بالمحبّة ، وقد فقدت وليدها ، وهي مستعدة أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسّر بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون ، فلمّا شمّ الطفل رائحة أمّه التقم ثديها بشغف كبير ، وأشرقت عيناه سرورا ، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم ، وامرأة فرعون هي الأخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضا.

ولعلهم قالوا للمرضع : أين كنت حتى الآن ، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّة فليتك جئت قبل الآن ، فمرحبا بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات : حين استقبل موسى ثدي أمّه ، قال هامان وزير فرعون لأم موسى : لعلك أمّه الحقيقية ، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك ، فقالت : أيّها الملك ، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب ، لم يأتي طفل رضيع إلّا قبل بي ، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(١) .

ونقرأ في هذا الصدد حديثا قال الراوي : فقلت للإمام الباقرعليه‌السلام ؛ فكم مكث موسى غائبا من أمّه حتى ردّه الله؟ قال «ثلاثة أيّام»(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٤ ، ص ٢٣١.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٦.

١٩١

وقال بعضهم : هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام الملوّثة بأموال السرقة ، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين ، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله( فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

هنا ينقدح سؤال مهم وهو : هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليل قوي لأيّ من الاحتمالين ، إلّا أن الاحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضا ، وهو : هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة ، أم أنّه حافظ على علاقته بأمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم : أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته ، وتربى موسى عندهما ، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون ، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسىعليه‌السلام بعد بعثته( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟! ) (٢) ، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة ، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسىعليه‌السلام بقي مع كمال الاحترام في

__________________

(١) تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة «تقرّ عينها» في ذيل الآية «٧٤» من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.

(٢) الشعراء ، الآية ١٨.

١٩٢

قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ ، إلّا أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله ، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان ، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط ، فواجه النزاع بنفسه «وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله»(١) .

* * *

__________________

(١) لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما ورد في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٣

الآيات

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام وحماية المظلومين :

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسىعليه‌السلام وما جرى له مع فرعون ، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه ، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً

١٩٤

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة.

وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين :

فقال بعض المفسّرين : المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية ، وغالبا ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة ، وغالبا ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم : إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني ، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب معاني الأخبار قال : فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال : «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى ، التحى»(١) .

وليس بين هذه التعابير فرق كبير ، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين «الحكم» و «العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح ، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فيدل بصورة جليّة على أن موسىعليه‌السلام كان جديرا بهذه المنزلة ، نظرا لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة ، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما لأنّ موسىعليه‌السلام يومئذ لم يبعث بعد ، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّا.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٥

على القضاء الصحيح وما شابه ذلك ، وقد منح الله هذه الأمور لموسىعليه‌السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفا.

ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسىعليه‌السلام لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون ، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا رغم أنّ جزئيات تلك الأعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى( دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) .

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسىعليه‌السلام على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون ، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوما بعد يوم حتى بلغت أوجها ، حكم عليه بالتبعيد عن العاصمة لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضا ، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة( عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم ، ولا تراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة ، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم : هو أوّل الليل ، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم ، وجماعة يذهبون للتنزه ، وآخرون لأماكن أخرى هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الشأن يقول : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين».

١٩٦

وقد ورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء»(١) .

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيرا ما تحدث الجنايات والفساد والانحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل ، ولا هم نائمون ، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادة ، وتنشط مراكز الفساد أيضا في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار ، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة ، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال ، موسى دخل المدينة ، وهنالك واجه مشادّة ونزاعا ، فاقترب من منطقة النزاع( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ) .

والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل ، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) .

فجاءه موسىعليه‌السلام لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم الذي يقال عنه أنّه كان طباخا في قصر فرعون ، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر ، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره ، فهوى إلى الأرض ميتا في الحال تقول الآية :( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (٢) .

وممّا لا شك فيه ، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني ، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضا ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٤٩ [باب ٢٠ من أبواب الصلوات المندوبة].

(٢) «وكز» مأخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد ، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام

١٩٧

ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام أسف على هذا الأمر( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

وبتعبير آخر : فإنّ موسىعليه‌السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي ، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل ، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسىعليه‌السلام إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسىعليه‌السلام فيقول :( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

ومن المسلم به أنّ موسىعليه‌السلام لم يصدر منه ذنب هنا ، بل ترك الأولى ، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة ، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون ، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام حين نجا بلطف الله من هذا المأزق( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ ) من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) . ومعينا للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين ، ويريد موسىعليه‌السلام أن يقول : إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبدا بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين ..».

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى ، إلّا أن هذا الاحتمال بعيد جدّا ، حسب الظاهر.

* * *

١٩٨

مسألتان

١ ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفا للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل ، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسىعليه‌السلام التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول :( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) .

وفي مكان آخر يقول :( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة ، وهو أن ما صدر من موسىعليه‌السلام هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر ، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي ، فلم يحتط ، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية ، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمرا هينا حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتا ، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل ، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدمعليه‌السلام التي تقدم شرحه في ذيل الآية (١٩) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في تفسير الآيات

١٩٩

المتقدمة :

«قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله «إنه» يعنى الشيطان «عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ » ـ وأمّا المراد من جملة ـ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي » يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة «فَاغْفِرْ لِي » أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ...».(١)

٢ ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام :

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول «الإعانة على الإثم» و «معاونة الظلمة» وتدل على أن واحدا من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين ، وتكون سببا لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساسا فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّا كان هم أفراد معدودون ، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة ، فهؤلاء القلّة المتفرعنون إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا ، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعا ، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي ، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

وحشية وإجراما ، والأمر الوحيد الذي أمكن بسببه قلع تلك الجذور الفاسدة من أصولها ، هو إحداث ثورة عارمة وتغيير شامل في الأفكار والأرواح والعقائد ، ثورة تصنع تحوّلا في شخصياتهم وتبدل أساليب تفكيرهم ، وترفعهم عن الحضيض الذي كانوا فيه ، لتتجلى لهم أعمالهم السابقة في وجهها الكالح القبيح ، فيطهروا بذلك أنفسهم ، ويدرءوا عنها الأحقاد والأوساخ والعصبية القبلية العمياء وهذه أمور لا يمكن إيجادها بالثروة ولا بالمال ، بل في ظلال الإيمان والتوحيد الخالص فحسب.

وتضيف الآية معقبة في الختام( إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

فعزته تقتضي عجز الآخرين من الوقوف في مواجهته ، وحكمته تقتضي أن تكون كل أموره جارية وفق حساب دقيق ونظام صحيح ، ولهذا فإنّ الخطة الدقيقة وحدت القلوب المتنافرة المتفرقة وجعلتها تنصاع للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لينشروا أنوار الهداية في كل أرجاء العالم.

* * *

ملاحظتان

١ ـ قال بعض المفسّرين : إنّ الآية محل البحث تشير إلى الخلافات بين الأوس والخزرج ، الذين هم من الأنصار فحسب ، ولكن نظرا إلى أنّ المهاجرين والأنصار نهضوا جميعا لنصرة النّبيّ فيتّضح اتساع مفهوم الآية.

ولعل أولئك كانوا يتصورون أنّ الخلافات كانت قائمة بين الأوس والخزرج دون غيرهم ، مع أنّه كانت اختلافات كثيرة في المستويات الطبقية والاجتماعية بين الفقراء والأغنياء ، والكبار والصغار ، بين هذه القبيلة وتلك ، تلك الخلافات و «الانشقاقات» أذهبها الإسلام ومحا آثارها ، كما يقول القرآن الكريم في مكان

٤٨١

آخر :( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ) (١) .

٢ ـ إنّ هذا القانون لا يختص بالمسلمين الأوائل فحسب ، فاليوم حيث يبسط الإسلام ظلاله على ثمانمائة مليون مسلم في أنحاء العالم ، وهم من مختلف العناصر والأقوام المتباعدة والمجتمعات المتنوعة. إذ لا يمكن إيجاد أية حلقة اتصال بين كل هؤلاء سوى حلقة الإيمان والتوحيد ، فإنّ الأموال والثروات والمؤتمرات لا يمكنها أن تفعل شيئا مهما في هذا المجال ، بل ما يمكن أن يوحدهم هو إيقاد شعلة الإيمان أكثر في قلوب هؤلاء كما حصل عند المسلمين الأوائل ، لأنّ النصر لا يتحقق إلّا عن هذا الطريق ، وهو طريق الأخوة الإسلامية بين جميع الناس.

وتخاطب الآية الأخيرة من الآيات محل البحث النّبي بالقول :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

ونقل بعض المفسّرين أنّ هذه الآية الكريمة نزلت عند ما قال جماعة من يهود بني قريظة وبني النضير لما قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نحن نسلم ونتبعك ، يعني إنّنا مستعدون لاتباعك ونصرتك ، فنزلت هذه الآية محذرة النّبي لئلا يعتمد على هؤلاء ، بل المعول عليه هو الله والمؤمنون(٢) .

وقد أورد الحافظ أبو نعيم ـ وهو من أكابر علماء السنة ـ في كتابه فضائل الصحابة ، بسنده ، أنّ هذه الآية نزلت في حق علي أمير المؤمنين ، فالمقصود بالمؤمنين هو عليعليه‌السلام (٣) .

__________________

(١) آل عمران ، ١٠٣.

(٢) تفسير التبيان ، ج ٥ ، ص ١٥٢.

(٣) موسوعة الغدير ، ج ٢ ، ص ٥١.

٤٨٢

وقد قلنا مرارا : إنّ مثل هذه التفاسير وأسباب النّزول لا تجعل الآيات محدودة ومنحصرة ، بل المقصود فيها هو أنّ شخصا كعلي بن أبي طالبعليه‌السلام الذي كان في أوّل صفوف المؤمنين هو السند الأوّل للنبي بعد الله من بين المسلمين ، مع أنّ بقية المؤمنين هم أنصار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعوانه.

* * *

٤٨٣

الآيتان

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦) )

التّفسير

لا ترتقبوا تساوي القوى :

في هاتين الآيتين تتوالى التعاليم العسكرية وأحكام الجهاد أيضا.

فالآية الأولى منهما تخاطب الرّسول فتقول :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ) .

إنّ الجنود والمقاتلين مهما كانوا عليه من استعداد ينبغي قبل بدء الحرب أن ترفع معنوياتهم وتشحذ هممهم ، وهذا الأمر معروف في جميع النظم العسكرية في العالم ، إذ يقوم قادة الجيوش وأمراؤهم قبل التحرك نحو سوح القتال أو عند

٤٨٤

ساحة القتال ، فيلقون خطبا تثيرهم وتقوّي من معنوياتهم وتحذرهم من الهزيمة والجبن.

غاية ما في الأمر أنّ مثل مسألة الترغيب والتشويق إلى القتال محدودة في المدارس الماديّة ، ولكنّها واسعة في الأديان السماوية ، نظرا للتعاليم الربانية ، وتأثير الإيمان بالله ، والتذكير بمنزلة الشهداء عند ربّهم ومقامهم عنده ، وما ينتظرهم من الثواب الجزيل البعيد المدى ، وما سينالونه من العزة والفخر عند انتصارهم ، فكل ذلك يحرك روح البطولة والثبات في نفوس الجنود ، فتلاوة بعض آيات القرآن في الحروب الإسلاميّة تشحذ الجندي عزما وقوّة وإقداما لا حدود له ، ويتقد فيه الشوق والعشق للتضحية والفداء.

وعلى كل حال ، فإنّ الآية توضح أهمية الإعلام والتبليغ وشحذ همم المقاتلين والجنود ومعنوياتهم باعتبار ذلك تعليما إسلاميا مهما.

وتعقب الآية بالتعليم الثّاني فتقول :( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) .

وبالرغم من أنّ الآية في صورة إخبار عن غلبة الرجل على عشرة ، لكن بقرينة الآية بعدها( الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ) يتّضح أنّ المراد من ذلك هو تعيين الحكم أو الوظيفة والخطة والمنهج ، لا أنّه مجرّد خبر وهكذا فينبغي للمسلمين أن لا ينتظروا حتى يبلغ عددهم مقدارا يكافئ قوة العدو وأفراده ، ليتحركوا إلى ساحة القتال والجهاد ، بل يجب عليهم القيام بواجباتهم حتى إذا كان عدوّهم عشرة أضعافهم.

ثمّ تشير الآية إلى علّة هذا الحكم فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) وهذا التعليل يبدو عجيبا لأوّل وهلة ، إذ ما هي العلاقة بين المعرفة والفقاهة وبين النصر أو بين عدم المعرفة والهزيمة؟! لكن الواقع هو أنّ العلاقة بينهما قريبة ومتينة ، لأنّ المؤمنين يعرفون نهجهم الذي سلكوه ويدركون الهدف من خلقهم وإيجادهم ،

٤٨٥

ويؤمنون بنتائجه الإيجابية في هذا العالم ، والثواب الجزيل الذي ينتظرهم في العالم الآخر ، فهم يعلمون ، لم يقاتلون؟ ومن أجل من يجاهدون؟ وفي سبيل أي هدف مقدس يضحون؟ وعلى من سيكون حسابهم إذا ما ضحوا واستشهدوا في هذا المضمار؟

فهذا السير الواضح المشفوع بالمعرفة يمنحهم الثبات والصبر والاستقامة.

أمّا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، كعبدة الأصنام ، فلا يعرفون لأي أمر يقاتلون؟ ولأجل من يجاهدون؟ وإذا قتلوا فمن يؤدّي دية دمهم؟ فهم لتقليدهم الأعمى ولعاداتهم الجاهلية ساروا رواء هذه الأفكار ، وهكذا تبعث ظلمات الطريق وعدم معرفتهم الهدف ونتائج أعمالهم على انهيار أعصابهم وتفت في عضدهم وثباتهم ، وتجعل منهم كائنات ضعيفة.

وبعد ذلك الحكم الثقيل بجهاد الأعداء وان كانوا عشرة اضعاف يخفف الله عن المؤمنين ويتنزل في الحكم الذي يرهقهم فيقول :( الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ) .

ثمّ يقول :( فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ ) .

ولكن على كل حال ينبغي أن لا تنسوا تسديد الله( وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .

* * *

بحوث

وهنا لا بدّ من الالتفات الى عدّة أمور :

١ ـ هل نسخت الآية الأولى

كما لا حظنا فإنّ الآية الأولى تأمر المسلمين أن لا يتقاعسوا عن مواجهة الأعداء حتى إذا كانوا عشرة أضعافهم ، غير أنّ الآية الثّانية تخفض هذا العدد إلى

٤٨٦

ضعفين فحسب.

وهذا الاختلاف الظاهر بين الآيتين جعل بعضهم يقول : إن الآية الأولى ـ من الآيتين محل البحث ـ نسختها الآية الثّانية ، أو أنّه حمل الآية الأولى على الاستحباب والثّانية على الوجوب ، أي إذا كان عدد الأعداء ضعف عدد المسلمين فيجب عليهم عدم التراجع عن ساحة الجهاد والقتال ، أمّا إذا زاد عددهم عن الضعف حتى بلغ عشرة أضعافهم فلهم عندئذ أن لا يقاتلوهم ، وإن كان الأفضل لهم أن لا ينسحبوا عن جهادهم العدوّ.

إلّا أنّ بعض المفسّرين يرون أن الاختلاف الظاهري الموجود بين الآيتين لا يدل على النسخ ، ولا يدل على الاستحباب ، بل إن لكل واحدة من الآيتين حكما معينا ، فعند ما يبتلى المسلمون بالضعف والخور ويكثر فيهم المقاتلون غير المحنّكين أو غير المدرّبين ولا المتهيئين للقتال ، فعندئذ يكون معيار العدد هو نسبة الضعف. أمّا إذا كان المقاتلون على استعداد تام ، أشداء في إيمانهم وعزائمهم كالكثير من أبطال بدر ، فالنسبة عندئذ ترتقي إلى عشرة أضعاف.

فبناء على ذلك فإنّ الحكمين في الآيتين محل البحث يرتبطان بالطائفتين المختلفتين وفي ظرفين متفاوتين.

وبهذا لا يوجد نسخ في الآي هنا ، وإذا وجد في الرّوايات التعبير بالنسخ فينبغي الالتفات إلى أن النسخ ذو معنى واسع ويشمل التخصيص في بعض الموارد.

٢ ـ أسطورة توازن القوى

إنّ الآيتين ـ محل البحث ـ تتضمنان هذا الحكم المسلّم به ، وهو أنّ على المسلمين ألّا ينتظروا موازنة القوى الظاهرية بينهم وبين العدو ، بل عليهم أن ينهضوا لمواجهته وإن كان ضعف عددهم ، بل حتى لو كان عشرة أضعاف عددهم

٤٨٧

أحيانا ، وأن لا يفروا من العدوّ بسبب قلّة العدد أبدا.

وممّا يستجلب النظر أنّ أغلب المعارك التي كانت تجري بين المسلمين وأعدائهم كان فيها ميزان القوى لصالح العدو ، وكان المسلمون قلّة غالبا ، ولم يكن هذا الأمر قد وقع في حروب الإسلام في عصر النّبي فحسب ـ كبدر وأحد والأحزاب أو كمعركة مؤتة التي رووا أن جيش المسلمين كان لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل ، أمّا جيش العدو فأقل ما ذكروا عنه أنّه كان حوالي مائة وخمسين ألفا ، بل حتى الحروب بعد عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد ذكروا أن فرقا مذهلا كان بين جيش الإسلام الذي حرر فارس وجيش الساسانيين ، فقد قيل مثلا : إنّ الجيش الإسلامي كان لا يتجاوز خمسين ألف مقاتل ، بينما كان جيش خسرو پرويز خمسمائة ألف مقاتل!

وأمّا في معركة اليرموك التي وقعت بين المسلمين والروم ، فقد ذكر المؤرخون أن الجيش الذي جمعه هرقل كان حوالي مائتي ألف مقاتل ، بينما كان جيش الإسلام لا يتجاوز أربعة وعشرين ألفا! والأعجب من ذلك أن المؤرخين يذكرون أنّ قتلى جيش الروم في معركة اليرموك كانوا يزيدون على سبعين ألفا!!

وما من شك أن الموازنة بين القوى أو التفوق العسكري أحد أسباب النصر بحسب الظاهر ، ولكن ما هو السبب الذي كان وراء انتصار المسلمين القلة في مثل هذه المعارك؟

والإجابة على هذا السؤال المهم ذكرها القرآن في الآيتين محل البحث في ثلاثة تعابير :

التّعبير الأوّل : يقول فيه :( عِشْرُونَ صابِرُونَ ) ثمّ قوله في الآية بعدها :( مِائَةٌ صابِرَةٌ ) أي ذوو استقامة وثبات.

والمراد هنا أنّ روح الاستقامة والثبات ، التي هي ثمرة شجرة الإيمان ، كانت

٤٨٨

سببا في أن يغلب الرجل المسلم عشرة أمثاله من الكفار.

التّعبير الثّاني : وفي مكان آخر يقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) أي أنّ عدم معرفة العدو هدفه ، ومعرفتكم هدفكم المقدس ، يستعاض عن موضوع قلتكم إزاء كثرة العدو.

التّعبير الثّالث : هو قوله سبحانه في الآي محل البحث :( بِإِذْنِ اللهِ ) أي أن الإمدادات الغيبية ولطف الله ورحمته تشمل مثل هؤلاء المجاهدين الصابرين فتنصرهم على عدوّهم.

وفي عصرنا يواجه المسلمون أعداء ألدّاء أقوياء أيضا ، لكن العجيب أن جيش المسلمين في كثير من المعارك أكثر من جيش العدوّ ، ولكن مع ذلك لا أثر لانتصار المسلمين ، وكأنّهم يسيرون باتجاه مخالف عمّا كان يسير عليه المسلمون الأوائل.

والسّبب هو أنّ المسلمين اليوم لا يتمتعون بمعرفة كافية ويا للأسف ، وقد فقدوا روح الصبر والاستقامة بسبب ركونهم إلى عوامل الفساد وزخرف الحياة المادية وزبرجها ، كما أنّ الإمداد الغيبي ورعاية الله قد سلبا منهم بسبب تلوّثهم بالذنوب ، فابتلوا بمثل هذه العاقبة!

إلّا أنّ طريق العدوة ما يزال مفتوحا ، وتأمل أن يأتي اليوم الذي يعي المسلمون مرّة أخرى مفهوم هاتين الآيتين وأمثالهما ليخلعوا عن أنفسهم حالة الذل والتقهقر.

٣ ـ ما هو المراد من الآيتين؟

ممّا يستجلب النظر أنّ الكلام في الآية الأولى ـ من الآيتين محل البحث ـ كان على نسبة الواحد إلى العشرة ، فمثلت الآية ب( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) .

٤٨٩

إلّا أن الكلام في الآية الثّانية كان عن نسبة الضعف مثل المائة في قبال المائتين ، والألف في قبال الألفين :( فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ) إلخ.

وكأن هذا المثال البليغ يريد أن يبيّن هذا الحقيقة ، وهي أنّ الرجال الأشداء من ذوي العزيمة والإيمان يمكنهم أن يشكّلوا جيشا مقتدرا حتى لو كانوا عشرين رجلا ، إلّا أنّهم لو كانوا ضعفاء ، فليس بإمكانهم أن يصنعوا جيشا من عشرين ، بل لا بدّ أن يكونوا أضعاف هذا العدد لتشكيل جيش ، «فلاحظوا بدقة».

* * *

٤٩٠

الآيات

( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١) )

التّفسير

أسرى الحرب :

بيّنت الآيات السابقة بعض أحكام الجهاد المهمّة ومواجهة الأعداء ، وفي هذه الآيات استكمال لما سبق في عرض قسم من أحكام أسرى الحرب ، لأنّ أغلب الحروب تقترن بتأسير جماعة من المتقاتلين من قبل الطرف الآخر ، وقد

٤٩١

أولى الإسلام أهمية قصوى لمسألة أسرى الحرب ، من حيث أسلوب التعامل معهم ، ومن حيث بعض النواحي الإنسانية وأهداف الجهاد أيضا.

وأوّل موضوع مهم يثار في هذا الشأن ، هو ما قالته الآية الكريمة من أن كل نبي ليس له الحق في أسرار افراد العدو الّا بعد أن يثبت اقدامه في الأرض ويكيل الضربات القاضية للأعداء :( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ) .

والفعل «يثخن» مأخوذ من «الثخن» على زنة «المحن» ومعناه في الأصل الضخامة والغلظة والثقل ، ثمّ استعمل هذا اللفظ بمعنى الفوز والقوّة والنصر والقدرة ، للسبب المذكور آنفا.

وقال بعض المفسّرين : إنّ معنى( حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ) يدل على المبالغة والشدّة في قتل الأعداء ، وقالوا : إنّ معنى ذلك أن أخذ الأسرى ينبغي أن يكون بعد مقتلة عظيمة في الأعداء ولكن مع ملاحظة كلمة «في الأرض» والالتفات إلى جذر هذه الكلمة الذي يعني الشدّة والغلظة ، يتّضح أن معنى الآية ليس هو ما ذكروه ، بل القصد هو التفوق على العدو تماما وإظهار القوّة والقدرة وإحكام السيطرة على المنطقة.

إلّا أنّه لمّا كان في قتل الأعداء وإبادتهم دليل على السيطرة وإحكام مواقع المسلمين أحيانا ، فإنّ من مصاديق هذه الجملة في بعض الشروط قتل الأعداء ، وليس هو مفهوم الجملة الأصيل.

على أية حال ، فإنّ الآية تنبه المسلمين إلى نقطة مهمّة في الحرب ، وهي أنّ عليهم عدم التفكير والانشغال بأخذ الأسرى قبل اندحار العدوّ بالكامل ، لأنّ بعض المسلمين المقاتلين ـ كما يستفاد من بعض الرّوايات ـ كان جلّ سعيهم هو الحصول على أكبر عدد من الأسرى في ساحة بدر مهما أمكنهم ، لأنّ العادة كانت أن يدفع عن الأسير مبلغ من المال على شكل فدية ليتم الإفراج عنه بعد نهاية

٤٩٢

الحرب.

ويعدّ هذا الأمر عملا حسنا في بعض المواقع ، إلّا أنّه عمل خطير قبل أن يطمأن من اندحار العدو كاملا ، لأنّ الانشغال بأسر العدو وشدّ وثاقهم ونقلهم إلى مكان آمن ، كل ذلك يبعد المقاتلين غالبا عن أصل الهدف الذي من أجله كانت الحرب ، وربّما يمنح العدو الجريح فرصة لجمع قواه وإعادة هجومه ، كما حدث في غزوة أحد ، حيث شغل بعض المسلمين أنفسهم بجمع الغنائم ، فاستغل العدوّ هذه الفرصة فأنزل ضربته الأخيرة بالمسلمين.

وبناء على ذلك فإنّ تأسير الأعداء يجوز في صورة ما لو حصل اليقين بالنصر الساحق عليه ، أمّا في غير هذه الصورة فيجب توجيه الضربات الشديدة والمتتالية لهدم قوات العدو وشلّها فإذا حصل الاطمئنان بذلك فإنّ الأهداف الإنسانية توجب إيقاف القتل والاكتفاء بأسرهم.

وقد أوضحت الآية هاتين النقطتين المهمتين : العسكرية ، والإنسانية ، في عبارة موجزة : ثمّ ألقت باللوم على أولئك الذين خالفوا هذا الأمر فتقول :( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) .

«والعرض» يعني الأمور غير الثابتة ، ولما كانت الذخائر المادية غير ثابتة في هذه الدنيا فقد عبّر عنها بالعرض.

وكما قلنا آنفا فإن الاهتمام بالجانب المادي فيما يتعلق بالأسرى والغفلة عن الهدف النهائي ، أي الإنتصار على العدو ، لا أنّه يحبط الثواب الأخروي فحسب ، بل يسيء إلى الإنسان في حياته الدنيا وإلى عزّته ورفعته واستقراره ، ففي الحقيقة ، هذه الأهداف المذكورة للفرد في الحياة الدنيا تعدّ من أمور الدنيا الثابتة ، فلا ينبغي أن نترك المنافع الطويلة الأمد والمستقبلية رهن الخطر من أجل أن نحصل على منافع مادية عابرة!

٤٩٣

وتختتم الآية بالقول أن التعليم آنف الذكر ـ في الواقع ـ مزيج من العزة والنصر والحكمة والتدبير ، لأنّه صادر من قبل الله تعالى( وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

الآية التالية توجّه اللوم والتعنيف ثانية لأولئك الذين يعرضون المنفعة العامّة والمصلحة الاجتماعية للخطر من أجل الحصول على المنافع المادية العابرة ، فتقول الآية :( لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

وقد أورد المفسّرون في شأن قوله تعالى :( لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ ) احتمالات مختلفة كثيرة ، إلّا أنّ أقربها وأكثرها ملاءمة ومناسبة هو «إذا لم يكن الله قد قرر من قبل أن لا يعذب عباده ما لم يبيّن نبيّه حكمه لهم ، لأخذكم أخذا شديدا بسبب تأسيركم عدوكم رغبة في المنافع المادية وإيقاعكم جيش الإسلام وانتصاره النهائي في الخطر ، إلّا أنّه ـ كما صرحت الآيات الكريمة في القرآن ـ فإنّ سنة الله اقتضت أن تبين أحكامه ثمّ يجازي الذي يخالفون عن أمره» ، إذ قال سبحانه :( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١) .

* * *

ملاحظات

١ ـ إنّ ظاهر الآيات ـ كما قلنا آنفا ـ يعالج موضوع أخذ الأسري في الحرب لا أخذ «الفدية» بعدها ، وبذلك ينحل كثير من الإشكالات التي أثارها جماعة من المفسّرون بشأن مفهوم الآية.

كما أنّ اللوم والتعنيف يختص بجماعة انشغلت ـ قبل أن يتمّ النصر النهائي ـ بأسر العدو لأهداف دنيوية ، ولا علاقة لها بشخص النّبي وأصحابه المؤمنين الذين كان هدفهم الجهاد في سبيل الله.

__________________

(١) الإسراء ، ١٥.

٤٩٤

وبذلك تنتفي جميع البحوث التي أوردوها ، كالقول بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ارتكب ذنبا! وكيف ينسجم هذا العمل وعصمتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فهذا الأمر غير صحيح.

كما يثبت بطلان الأحاديث المختلفة التي نقلتها بعض مصادر أهل السنة وكذبها في تفسير هذه الآية ، والتي تزعم أن الآية(١) نزلت في شأن أخذ النّبي وبعض المسلمين الفدية مقابل أسرى الحرب بعد معركة بدر ، وقبل أن يأذن الله بذلك. وأنّ الذي خالف هذا الأمر وطالب بقتل الأسرى هو عمر فحسب ـ أو سعد بن معاذ ـ وأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في حق عمر : لو نزل العذاب علينا لما نجا منه إلّا عمر ـ أو سعد بن معاذ ـ فإنّ جميع ذلك عار من الصحة ولا أساس له ، وإنّ تلك الرّوايات بعيدة كل البعد عن تفسير الآية ، وخاصّة أن أمارات الوضع ظاهرة على هذه الأحاديث تماما.

٢ ـ إنّ الآيات محل البحث لا تخالف أخذ الفداء وإطلاق سراح الأسرى إذا اقتضت مصلحة المجتمع الإسلامي ذلك ، بل تقول هذه الآيات : إنّه لا ينبغي على المجاهدين أن يكون همهم الأسر من أجل الفداء ، فبناء على ذلك فهي تنسجم وتتفق والآية (٤) من سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جميع الوجوه ، إذ تقول تلك الآية( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ) .

إلّا أنّه يجب الالتفات إلى مسألة مهمّة هنا ، وهي : إذا كان بين الأسرى من يثير إطلاق سراحهم فتنة نشوب نار الحرب ، ويعرض انتصار المسلمين للخطر ، فيحق للمسلمين أن يقتلوا مثل هؤلاء الأشخاص ، ودليل هذا الموضوع كامن في الآية محل البحث ذاتها ، بقرينة «يثخن» والتعبير في الآية (٤) من سورة

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٩٠ ـ تفسير روح المعاني ، ج ١٠ ، ص ٣٢ ـ وتفسير الفخر الرازي ، ج ١٥ ، ص ١٩٨.

٤٩٥

محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بـ «أثخنتموهم».

ولهذا فقد جاء في بعض الرّوايات الإسلاميّة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقتل اثنين من أسرى معركة بدر ، وهما «عقبة بن أبي معيط» و «النضر بن الحارث» ولم يرض بأن يفتديا أنفسهما أبدا(١) .

٣ ـ وفي الآيات محل البحث تأكيد على موضوع حرية إرادة الإنسان مرّة أخرى ، ونفي مذهب الجبر ، لأنّها تقول : إنّ الله يريد لكم الآخرة ، ولكن بعضكم أغرته المنافع الماديّة العابرة وركن إليها.

وفي الآية التالية إشارة إلى حكم آخر من أحكام أسرى الحرب ، وهو حكم أخذ الفداء.

وقد جاء في بعض الرّوايات(٢) الواردة في شأن نزول هذه الآيات أنّه بعد انتهاء معركة بدر وأخذ الأسرى ، وبعد ما أمر النّبي أن تضرب عنقا الأسيرين الخطرين «عقبة بن أبي معيط» و «النضر بن الحارث» خافت الأنصار أن ينفذ هذا الحكم في بقية الأسرى فيحرموا من أخذ الفداء ، فقالوا : يا رسول الله إنّا قتلنا سبعين رجلا وأسرنا سبعين ، وكلّهم من قبيلتك فهدب لنا هؤلاء الأسرى لنأخذ الفداء منهم. وكان النّبي يترقب نزول الوحي ، فنزلت هذه الآيات فأجازت أخذ الفداء في قبال إطلاق سراح الأسرى.

وروي أنّ أكثر ما عين فداء على الأسرى من المال هو أربعة آلاف درهم ، وأقلّة ألف درهم ، فلمّا سمعت قريش أرسلت فداء الواحد تلو الآخر حتى حررت أسراها.

والعجيب أن صهر النّبي على ابنته زينب «أبا العاص» كان من بين أسرى معركة بدر ، فأرسلت زوجته زينب قلادتها التي أهدتها أمّها خديجةعليهما‌السلام إليها في

__________________

(١) راجع تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٣٥.

(٢) راجع تفسير علي بن إبراهيم وفقا لما جاء في نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٣٦.

٤٩٦

زفافها ، لتفتدي بها زوجها ، فلمّا وقعت عينا النّبي على تلك القلادة وتذكر تضحية خديجة وجهادها ، وتجسّدت مواقفها أمام عينيه ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رحم الله خديجة ، فهذه قلادة جعلتها خديجة في جهاز بنتي زينب.

ووفقا لبعض الرّوايات فإنّه امتنع عن قبول القلادة احتراما لخديجة وإكراما ، واستجاز المسلمين في إرجاع القلادة ، فأذنوا له أن يرجع القلادة إلى زينب ، ثمّ أطلق(١) النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سراح أبي العاص ، شريطة أن يرسل ابنته زينب ـ التي كانت قد تزوجت من أبي العاص قبل الإسلام ـ إلى المدينة ، فوافق أبو العاص على هذا الشرط ووفى به بعدئذ(٢) .

وعلى أية حال ، فإنّ الآية محل البحث أجازت للمسلمين التصرف في غنائم المعركة ، والمبلغ الذي يأخذونه فداء من الأسير ، فقالت :( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ) .

ويمكن أن تكون هذه الجملة ذات معنى واسع يشمل حتى الغنائم الأخرى غير الفداء.

ثمّ تأمرهم الآية بالتقوى فتقول :( وَاتَّقُوا اللهَ) . وهذا إشارة إلى أنّ جواز أخذ مثل هذه الغنائم لا ينبغي أن يجعل هدف المجاهدين في المعركة هو جميع الغنائم وأن يأسروا العدوّ حتى يأخذوا فداءه. وإذا كان في القلوب مثل هذه النيّات السيئة فعليهم أن يطهروا قلوبهم منها ، ويعدهم الله بالعفو عمّا مضى فتقول الآية :( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

__________________

(١) ورد في الكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٣٤ أنّه «فلمّا رآها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رقّ لها رقة شديدة وقال : «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها؟ وتردوا عليها الذي لها فافعلوا» ، فأطلقوا لها أسيرها وردوا القلادة.

(٢) تفسير الميزان ، ج ٩ ، ص ١٤١.

٤٩٧

هل أن أخذ «الفداء» أمر منطقيّ عادل؟!

قد ينقدح هنا سؤال مهم وهو : كيف ينسجم الفداء قبال إطلاق سراح الأسير وأصول العدالة؟ أن ليس هذا نوعا من بيع الإنسان؟

والجواب على هذا السؤال يتجلى واضحا حين نعرف أنّ الفداء هو نوع من الضرائب العسكرية ، أو الغرامة الحربية ، إذ أن كل حرب سبب في إهدار كثير من الطاقات الاقتصادية والقوى الإنسانية ، فالجماعة التي تقاتل من أجل الحق يحق لها أنّ تعوض عن خسائرها بعد الحرب ، وأحد طرق التعويض هو «الفداء». ومع ملاحظة أن الفداء كان يومئذ يتراوح بين أربعة آلاف درهم عن الأسير الغني ، وألف درهم عن الأسير الفقير ، يتّضح أنّ الأموال التي أخذت من قريش في هذا الصدد لم تكن كثيرة ، بل لم تكن كافية لسد خسائر المسلمين المالية والإنسانية في تلك المعركة!

ثمّ بعد هذا كلّه ، فقد ترك المسلمون أموالا كثيرة ـ في مكّة ـ عند هجرتهم اضطرارا إلى المدينة ، فكانت هذه الأموال عند أعدائهم من قريش ، وكان للمسلمين الحق أن يعوضوا عن خسائرهم وأموالهم في يوم بدر بالفداء.

كما ينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة التي أشارت إليها الآية ٤ من سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي أنّ مسألة الفداء ليست إلزامية ، فللحكومة الإسلامية أن تبادل الأسرى متى ما رأت في ذلك مصلحة ، أو أن تمن عليهم فتطلق سراحهم دون تعويض.

والمسألة المهمّة الأخرى في شأن أسرى الحرب هي موضوع إصلاحهم وتربيتهم وهدايتهم ، ولعل هذا الأمر غير موجود في المذاهب الماديّة ، لكنّه مثار عناية واهتمام أكيد في الجهاد من أجل تحرير الإنسان وإصلاحه وتعميم الحق والعدل.

٤٩٨

ولهذا فإنّ الآية الرّابعة من الآيات محل البحث تخاطب النّبي أن يدعو الأسرى إلى الإيمان بالله وإصلاح أنفسهم ، ويرغبهم في كل ذلك ، فتقول :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ) .

والمراد من كلمة «خيرا» في الجملة آنفة الذكر( إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ) هو الإيمان وقبول الإسلام أمّا المراد من كلمة «خير» في الجملة الأخرى «يؤتكم خيرا» فهو الثواب أو الأجر المادي والمعنوي الذي ينالونه ببركة الإسلام ، وهو أعظم عند الله من الفداء بمراتب كثيرة!

ثمّ إضافة إلى ذلك فسيشملكم لطف الله ويعفو عن سيئاتكم( وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وحيث إنّ من الممكن أن يستغل بعض الأسرى إظهار الإسلام ليسيء إلى الإسلام ويخون النّبي وينتقم من المسلمين ، فإنّ الآية التالية تنذر النّبي والمسلمين وتنذر أولئك من الخيانة فتقول :( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ ) .

وأي خيانة أعظم من عدم الاستجابة لنداء الفطرة والعزوف عن نداء الحق والعقل ، والشرك بالله وعبادة الأصنام بدلا من الإيمان بالله وتوحيده؟ ثمّ إنّ عليهم أن لا ينسوا نصرة الله لك( فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ) .

وإذا أرادوا الخيانة في المستقبل فلن يفلحوا وسوف ينالون الخزي والخسران والهزيمة مرّة أخرى. لأنّ الله مطلع على نيّاتهم ، وجميع تعاليم الإسلام في شأن الأسرى وفق حكمته( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

وقد جاء في كتب الفريقين ـ الشيعة وأهل السنة ـ في ذيل الآيتين محل البحث أن العباس عم النّبي كان بين أسرى بدر ، فطلبت جماعة من الأنصار أن لا

٤٩٩

يؤخذ عنه فداء إكراما لرسول الله ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والله لا تذرون منه درهما» ،

(أي إذا كان الفداء قانونا إسلاميا عامّا ، فلا ينبغي أن يفرق بين عمي وبين أي أسير آخر).

وقال لعمّه العباس : «ادفع عنك وعن ابن أخيك ـ عقيل ـ الفداء».

فقال له العباس «وكان شغوفا بالمال». يا محمّد أتريد أن تجعلني فقيرا حتى أمد يدي إلى قريش؟!

فقال له النّبي : أعط فداءك من المال الذي أودعته عند أم الفضل ـ زوجتك ـ وقلت لها : إذا قتلت في ساحة المعركة فأنفقيه على نفسك وعلى أبنائك.

فتعجب العباس من هذا الإمر وقال : من أخبرك بهذا؟ «ولم يطلع عليه أحد أبدا» فقال رسول الله : أخبرني بذلك جبرائيل.

فقال العباس : أحلف بمن يحلف به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعلم بذلك إلّا أنا وزوجتي ، ثمّ قال : أشهد أنك رسول الله ، وأعلن إسلامه.

وعاد جميع أسرى بدر إلى مكّة إلّا العباس وعقيلا ونوفلا ، إذ أسلموا وبقوا في المدينة ، والآيات محل البحث تشير إلى حال أولئك(١) .

وجاء في شأن إسلام العباس في بعض التواريخ أنّه عاد إلى مكّة بعد إسلامه ، وكان يكتب إلى النّبي عن مؤامرات المشركين ثمّ هاجر إلى المدينة قبل السنة الثّامنة من الهجرة «عام فتح مكّة».

وفي كتاب قرب الإسناد عن الإمام الباقر عن أبيه الإمام زين العابدين ، أنّه جيء إلى رسول الله ذات يوم بأموال كثيرة ، فالتفت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى العباس وقال له : ابسط عباءتك أو «رداءك» وخذ من هذا المال ، ففعل العباس وأخذ من ذلك المال ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا ما قاله الله سبحانه وتلا قوله :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي

__________________

(١) يراجع تفسير نور الثقلين ، وروضة الكافي ، وتفسير القرطبي ، وتفسير المنار ، ذيل الآية محل البحث.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606