الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245204 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

قالعليه‌السلام : «من أحبّ بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان ورد النّار».(١)

وفي الآية اللاحقة ينقل القرآن الكريم جواب قادة الضلال والانحراف بأنّه ليس بيننا وبينكم أي تفاوت ، فإذا قلنا فقد أيدتم ، وإذا خطونا فقد ساعدتم ، وإذا ظلمنا فقد عاونتم ، وإذن فذوقوا بإزاء أعمالكم عذاب الله الأليم ،( وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) .

والمقصود من «الأولى» الطائفة الأولى أي القادة (قادة الضلال الانحراف) والمقصود من «الأخرى» الأتباع ، والأنصار.

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ١٨٢ ، ١٧

٤١

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) )

التفسير

مرّة أخرى يتناول القرآن بالحديث مصير المتكبرين والمعاندين ، يعني أولئك الذين لا يخضعون لآيات الله ولا يستسلمون للحق ، فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ ) .

وقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها ، وأمّا الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد : اهبطوا به إلى سجّين».(١)

وقد رويت بهذا المضمون أحاديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير الطبري وسائر التفاسير ، في ذيل الآية المبحوثة.

__________________

(١) مجمع البيان في ذيل الآية المبحوثة.

٤٢

من الممكن أن يكون المقصود من السماء هنا معناه الظاهر ، وكذا يمكن أن تكون كناية عن مقام القرب الإلهي ، كما نقرأ في الآية (٩) من سورة فاطر :( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

ثمّ أضاف قائلا :( وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) ، أي حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة.

إنّ هذا التعبير كناية لطيفة عن استحالة هذا الأمر ، وقد اختير هذا المثال والتصوير الحسّي للإخبار عن عدم إمكان دخول هؤلاء الأشخاص في الجنّة ، فكما لا يتردد أحد في استحالة عبور الجمل بجثته الكبيرة من خلال ثقب الإبرة ، فكذلك لا ينبغي الشك في عدم وجود طريق لدخول المستكبرين إلى الجنّة مطلقا.

و «الجمل» في اللغة يعني البعير الذي خرجت أسنانه حديثا ، ولكن أحد معاني الجمل هو الحبل القوي والمتين الذي تربط به السفن أيضا(١) .

وحيث إنّ بين الحبل والإبرة تناسبا أقوى وأكثر ، لهذا ذهب بعضهم إلى هذا المعنى عند تفسير الآية ، ولكن أكثر المفسّرين الإسلاميين رجّح المعنى الأوّل ، وهم على حق في هذا الاتجاه لأمور :

أوّلا : إنّ في أحاديث أئمّة الإسلام كذلك تعابير تناسب التّفسير الأوّل.

ثانيا : إنّه يلاحظ نظير هذا التّفسير حول الأثرياء (المتكبرين الأنانيين) في الإنجيل أيضا ، ففي إنجيل لوقا الباب ١٨ الجملة ٢٤ و ٢٥ نقرأ هكذا : إنّ عيسى قال : «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله. لأنّ دخول الجمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله».

ولا أقل يستفاد من هذه العبارة أنّ هذه الكناية كانت متداولة بين الشعوب

__________________

(١) راجع «تاج العروس» ، و «القاموس» مادة الجمل.

٤٣

منذ قديم الزمان.

وقد نستعمل هذا المثل أيضا ، في محاوراتنا اليومية الآن ، فيقال عن الأشخاص المتشدّدين جدّا أحيانا ، والمتساهلين جدّا أحيانا أخرى : (إنّ فلانا تارة لا يدخل من باب المدينة ، وتارة يدخل من ثقب إبرة).

ثالثا : بالنظر إلى أنّ استعمال لفظة الجمل في المعنى الأوّل (أي البعير) أكثر ، بينما استعمالها في الحبل الغليظ قليل جدا ، لهذا يبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وفي خاتمة الآية يضيف تعالى للمزيد من التأكيد والتوضيح قائلا :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) .

وفي الآية اللاحقة يشير إلى قسم آخر من عقوبتهم المؤلفة إذ يقول :( لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ) (١) .

ثمّ يضيف للتأكيد( وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) .

والملفت للنظر والطريف : أنّه يعبّر عنهم مرّة بـ «المجرم» ومرّة بـ «الظالم» وثالثة بـ «المكذبين» لآيات الله ، ورابعة بـ «المستكبرين» ، وترجع جميعها إلى حقيقة واحدة في الواقع.

* * *

__________________

(١) المهاد جمع مهد وزان عهد أي الفرش ، والغواش في الأصل غواشي جمع غاشية بمعنى كل نوع من أنواع الغطاء ، كما أنّه يطلق على الخيمة أيضا ، وفي الآية الحاضرة يمكن أن يكون بمعنى الخيمة أو بمعنى الغطاء.

٤٤

الآيتان

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) )

التّفسير

الطّمأنينة الكاملة والسّعادة الخالدة :

إنّ أسلوب القرآن ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ هو عرض الطوائف المختلفة وبيان مصائرها جنبا إلى جنب لتأكيد الموضوع ، وشرح أوضاعها عن طريق المقارنة والمقايسة بينها.

ولقد كان البحث في الآيات السابقة حول المكذبين لآيات الله ، والمستكبرين والظالمين ، وهنا يشرح ويبيّن المستقبل المشرق للمؤمنين إذ يقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

٤٥

وقد أتى بين المبتدأ والخبر بجملة معترضة(١) . توضّح الكثير من الإبهامات إذ يقول :( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) .

وهذه الجملة تؤكّد بأنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور بأن الايمان بالله ، والإتيان بالعمل الصالح وسلوك سبيل المؤمنين ، أمر متعسر غير مقدور إلّا لأفراد معدودين ، لأنّ التكاليف الإلهية في حدود الطاقة البشرية وليست أكثر منها ، وبهذا فتح الطريق في وجه كل أحد عالما كان أو جاهلا ، صغيرا كان أو كبيرا ، ودعا الجميع إلى اللحاق بهذا الصف ، فالمطلوب من كل أحد العمل بمقدار قابليته الفكرية والبدنية وإمكانياته.

إنّ هذه الآية ـ مثل سائر الآيات القرآنية ـ تحصر وسيلة النجاة والسعادة الأبدية في الإيمان والعمل الصالح ، وهكذا تفنّد العقيدة النّصرانية المحرفة الذين يعتبرون صلب المسيح في مقابل ذنوب البشر وسيلة للنجاة ، ويقولون : إنّه قربان لخطايا الإنسانية.

إنّ إصرار القرآن الكريم على مسألة الإيمان والعمل الصالح ، في الآيات المختلفة لتفنيد هذه المقولة وأمثالها.

وفي الآية اللاحقة أشار تعالى إلى واحدة من أهم النعم التي أعطاها الله سبحانه لأهل الجنّة ، والتي تكون سببا لطمأنينتهم النفسية وسكنتهم الروحية ، إذ قال( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ ) .

و (الغل) في الأصل بمعنى نفوذ الشيء خفية وسرّا ، ولهذا يقال للحسد والحقد والعداوة ، الذي يتسلّل إلى النفس الإنسانية بصورة خفية (الغل) ، وإنّما يطلق «الغلول» على الرشوة بهذه المناسبة لأنّها تؤخذ خفيّة وسرّا لارتكاب

__________________

(١) ينبغي أن لا يتصور أحد بأنّ معنى الجملة المعترضة هو أنّ مفادها أجنبي وغريب من الموضوع المعترض ، بل لا بدّ أنّ هناك ارتباطا ما بينها وبين ما قبلها وما بعدها ، وإن كانت من حيث التركيب توسطت كلاما متصلا ، وعلى هذا الأساس فإنّ الجملة المعترضة معترضة من حيث التركيب اللفظي ، لا من حيث المعنى.

٤٦

خيانة.(١)

وفي الحقيقة إنّ من أكبر عوامل الشقاء التي يعاني منها الناس في هذه الحياة ، ومصدر الكثير من الصراعات الإجماعية الواسعة التي تؤدي ـ مضافا إلى الخسائر الفادحة في المال والنفس ـ الى زعزعة الاستقرار الروحي ، هو الحسد والحقد.

فنحن نعرف الكثير ممن لا ينقصهم شيء في الحياة ، ولكنّهم يعانون من الحسد والحقد للآخرين ، وهو عذابهم الوحيد الذي يعكر صفو حياتهم ويضيق عليهم رحبها ، ويترك معيشة هؤلاء المرفهين ساحة تجوال عساكر الحزن والغم ، وتدفعهم إلى سلوكيات مرهقة وغير منطقية.

إنّ أهل الجنّة معافون من هذه الشقاوات والمحن بالكلية ، لأنّهم لا يتصفون بهذه الصفات القبيحة ، فلا حسد ولا حقد في قلوبهم ، ولهذا لا يتعرضون لعواقبها النكرة. إنّهم يعيشون معا في منتهى التواد والتحابب والصفاء والسكينة.

إنّهم راضون عن وضعهم الذي هم فيه ، حتى الذين يعيشون في مراتب أدنى من الجنّة لا يحسدون من فوقهم أبدا ، ولهذا تنحل أعظم مشكلة تعترض طريق التعايش السلمي.

ولقد نقل بعض المفسّرين حديثا في المقام عن السدّي قال : «إنّ أهل الجنّة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غلّ ، فهو الشراب الطهور ، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا»(٢) .

إن هذا الحديث وإن لم ينته سنده إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهما‌السلام وإنّما رواه أحد المفسّرين وهو «السّدي» ولكنّه لا يبعد أن يكون قد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

__________________

(١) للمزيد من التوضيح راجع الآية (١٦١) من سورة آل عمران.

(٢) تفسير المنار ، المجلد ٨ ، الصفحة ٤٢١.

٤٧

الأصل ، لأنّ هذه الأمور ليست من المسائل والقضايا التي يستطيع السدّي وأمثاله الاطلاع عليها.

وعلى كل فهي إشارة لطيفة إلى الحقيقة التالية ، وهي أنّ أهل الجنّة قد تطهروا باطنا وظاهرا ، جسما وروحا ، فهم يتحلون بالجمال الجسماني ، والجمال الروحاني معا ، ولهذا فهم لا يعانون ، ـ مطلقا ـ من الحسد والحقد.

فما أسعد من يبني لنفسه في هذه الدنيا جنّة أخرى ، بتطهير صدره من الحقد والحسد ليتخلّص من افرازاتهما المؤلمة.

وبعد ذكر هذه النعمة الروحانية ، يشير القرآن الكريم إلى نعمهم المادية الجسدية ، فيقول :( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ) .

ثمّ بعكس رضى أهل الجنّة الكامل الشامل الذي يعبرون عنه بالحمد والشكر لله وحده على ما هداهم إليه من النعم( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ ) .

وهنا يأتيهم النداء بأن ما ورثتموه من النعم إنّما هو بسبب أعمالكم( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

ومرّة أخرى نصل إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ النجاة رهن بالعمل الصالح ، وليسن بالأماني والظنون الخاوية.

و «الإرث» في الأصل بمعنى انتقال مال أو ثروة من شخص إلى آخر من دون أن يكون بينهما عقد (أي الانتقال عبر مسير طبيعي تلقائي ، لا عن طريق البيع والشراء) ولهذا يطلق الإرث على انتقال أموال الميت إلى خلفه.

لماذا عبّر بالإرث؟

وهنا ينقدح سؤال وهو : كيف يقال لأهل الجنّة : هذه النعم أورثتموها لقاء أعمالكم؟

٤٨

والجواب أوضحه حديث روي بطرق الشيعة والسنّة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «ما من أحد إلّا وله منزل في الجنّة ، ومنزل في النّار ، فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النّار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة ، فذلك قوله أورثتموها بما كنتم تعملون»(١) .

فهذا الحديث يشير إلى أنّ أبواب السعادة والشقاء مفتوحة أمام جميع الناس قاطبة ، وإنّه لم يخلق أحد يوم خلق وهو من أهل الجنّة ، أو من أهل النّار ، بل يمتلك الجميع قابلية الوصول إلى كلا هذين المنزلين ، وإنّما إرادتهم هي التي تحدد وتقرّر مصيرهم.

ومن البديهي أنّه عند ما يستقر المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة في الجنّة ، ويستقر الكفار والأشرار في النّار ينتقل مكان ومنزل كل واحد منهما الى الآخر بصورة طبيعية.

وعلى كل حال ، فإن هذه الآية وهذا الحديث هما من البراهين والدلائل الواضحة على نفي الجبر ، وثبوت الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة ٣١ ، وتفسير القرطبي ، المجلد الرّابع ، الصفحة ٢٦٤٥ ، وتفاسير أخرى.

٤٩

الآيتان

( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) )

التّفسير

بعد البحث في الآيات السابقة حول مصير أهل الجنّة وأهل النّار ، أشار هنا إلى حوار هذين الفريقين في ذلك العالم ، ويستفاد من ذلك أنّ أهل الجنّة وأهل النّار يتحادثون بينهم وهم في مواقعهم في الجنّة أو النّار.

فيقول أوّلا :( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ) .

فيجيبهم أهل النّار قائلين : نعم وجدنا كل ذلك. عين الحقيقة( قالُوا : نَعَمْ ) .

ويجب الالتفات إلى أن (نادى) وإن كان فعلا ماضيا ، إلّا أنّه هنا يعطي معنى المضارع ، ومثل هذه التعابير كثيرة في القرآن الكريم ، حيث يذكر الحوادث التي تقع في المستقبل حتما بصيغة الفعل الماضي ، وهذا يعدّ نوعا من التأكيد ، يعني أنّ

٥٠

المستقبل واضح جدّا ، وكأنّه قد حدث في الماضي وتحقق.

على أنّ التعبير بـ «نادى» الذي يكون عادة للمسافة البعيدة ، يصوّر بعد المسافة المقامية أو المكانية بين هذين الفريقين.

وهنا يمكن أن يطرح سؤال وهو : وما فائدة حوار هذين الفريقين مع أنّهما يعلمان بالجواب؟

وجواب هذا السؤال معلوم ، لأنّ السؤال ليس دائما للحصول على المزيد من المعلومات ، بل قد يتّخذ أحيانا صفة العتاب والتوبيخ والملامة ، وهو هنا من هذا القبيل. وهذه هي واحدة من عقوبات العصاة والظالمين الذين عند ما كانوا يتمتعون بلذائذ الدنيا ، حيث كانوا يؤذون المؤمنين بالعتابات المرّة ، والملامات المزعجة ، فلا بدّ ـ في الآخرة ـ أن ينالوا عقابا من جنس عملهم كنتيجة طبيعة لفعلهم ، ولهذا الموضوع نظائر في سور القرآن المختلفة ، منها ما في آخر سورة المطففين.

ثمّ يضيف تعالى بأنّه في هذا الوقت بالذات ينادي مناد بنداء يسمعه الجميع : أن لعنة الله على الظالمين( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) .

ثمّ يعرّف الظالمين ويصفهم بقوله :( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ ) (١) .

ومن الآية الحاضرة يستفاد مرّة أخرى أنّ جميع الانحرافات والمفاسد قد اجتمعت في مفهوم «الظلم» وللظالم مفهوم واسع يشمل جميع مرتكبي الذنوب ، والآثام ، وخصوصا الضالون المضلّون.

__________________

(١) يبغونها عوجا بمعنى يطلبونها عوجا ، أي أنّهم يرغبون ويجتهدون في أن يضلوا الناس بإلقاء الشبهات والدعايات المسمومة عن الطريق المستقيم. كما أنّ الراغب قال في «المفردات» عوج (بفتح العين) يعني الاعوجاج الحسي ، وعوج بكسر العين يطلق على الاعوجاجات التي تدرك بالفكر والعقل ، ولكن هذا التفصيل لا ينسجم مع ظاهر طائفة من الآيات القرآنية مثل الآية (١٠٧) من سورة طه (فتأمل بدقّة).

٥١

من هو المؤذّن! والمنادي؟

من هو هذا المؤذن الذي يسمعه الجميع؟ وفي الحقيقة له سيطرة وتفوق على جميع الفرقاء والطوائف؟

لا يستفاد من الآية شيء في هذا المجال ، ولكن جاء في الأحاديث الإسلامية المفسّرة والموضّحة لهذه الآية ، تفسير المؤذّن بأمير المؤمنين عليعليه‌السلام .

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني ـ الذي هو من علماء أهل السنّة بسنده عن «محمّد بن الحنفية» عن عليعليه‌السلام أنّه قال : «أنا ذلك المؤذّن».

وهكذا روى بسنده عن «ابن عباس» أنّ لعلّيعليه‌السلام أسماء في القرآن الكريم لا يعرفها الناس ، منها «المؤذّن» في قول الله تعالى :( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) فهو الذي ينادي بين الفريقين أهل الجنّة وأهل النّار ، ويقول : «ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفّوا بحقّي»(١) .

ولقد رويت روايات وأحاديث متعددة مماثلة بطرق الشيعة ، منها ما رواه الصّدوقرحمه‌الله بسنده عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب بالكوفة منصرفه في نهروان ، وبلغه أنّ معاوية يسبّه ويعيبه ويقتل أصحابه ، فقام خطيبا (إلى أن قال) : «وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة ، قال اللهعزوجل ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) أنا ذلك المؤذن ، وقال :( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) أنا ذلك الأذان»(٢) .

ونحن نرى أنّ السبب في انتخاب أمير المؤمنين عليعليه‌السلام مؤذنا ومناديا في ذلك الوقت هو : أوّلا : لأنّه كان له مثل هذا المنصب من قبل الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا أيضا ، فهو بعد فتح مكّة كلّف من جانب الله بأن يتلو الآيات الأولى من سورة البراءة

__________________

(١) مجمع البيان عند الآية المطروحة هنا.

(٢) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة ١٧.

٥٢

على مسامع الناس بصوت عال في موسم الحج ، تلك الآيات التي تبدأ بقوله :( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (١) .

ثانيا : إنّ موقف الإمام عليعليه‌السلام طوال حياته الشريفة كان موقف المكافحة للظلم ، والنضال ضد الظالمين ، حتى أنّ دفاعه عن المظلوم وعداءه للظالم وخاصّة مع ملاحظة ظروف عصره لتسطع في الصفحات البارزة من تأريخه.

أفليست الحياة في العالم الآخر هي نوع من تجسم كبير وواسع ومتكامل لحياة البشر في هذا العالم؟ وكلاهما بالتالي وجهان لعملة واحدة.

فإذا كانت هذه حقيقة من الحقائق ، لم يبق أي مجال لاستغراب أن يكون مؤذن ذلك اليوم ، والذي يلعن الظالمين في مكان بين الجنّة والنّار ، بأمر من الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو علىعليه‌السلام .

من هذا يتّضح الجواب والردّ على ما كتبه كاتب «المنار» الذي شكك في كون هذا المقام لعليعليه‌السلام فضيلة ، إذ يقول : ولو كنّا نعقل لإسناد هذا التأذين إليه كرم الله وجهه معنى يعدّ به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرّواية بما دون السند الصحيح(٢) .

إذ يجب أن نقول له : كما أنّ النيابة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إبلاغ سورة البراءة في موسم الحج تعتبر من أكبر فضائلهعليه‌السلام ، وكما أنّ مكافحته للظالمين والجائرين تعتبر من أبرز فضائله ، يكون حمله لهذه المهمّة في القيامة والذي يعد استمرارا لنفس ذلك البرنامج فضيلة طاهرة له أيضا.

كما يتّضح ممّا قلناه ـ أيضا ـ الردّ على ما كتبه «الآلوسي» كاتب تفسير «روح المعاني» الذي قال : ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنّه علي كرم

__________________

(١) التوبة ، ٣.

(٢) تفسير المنار ، ج ٨ ، ص ٤٢٦.

٥٣

الله تعالى وجهه ما لم يثبت من طريق أهل السنّة(١) .

لأن هذا الحديث ـ كما أسلفنا ـ نقله علماء الفريقين السنة والشيعة كلاهما في كتبهم ومصنفاتهم ، فلا مجال للتشكيك في صدوره.

* * *

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٨ ، ص ١٢٣.

٥٤

الآيات

( وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) )

التّفسير

الأعراف معبر مهم إلى الجنّة :

عقيب الآيات السابقة التي بيّنت جانبا من قصّة أهل الجنّة وأهل النّار ، تحدث في هذه الآيات حول «الأعراف» التي هي منطقة في الحد الفاصل بين الجنّة والنّار مع خصوصياتها.

٥٥

وفي البداية يشير إلى الحجاب الذي أقيم بين أهل الجنّة وأهل النّار ، إذ يقول :( وَبَيْنَهُما حِجابٌ ) .

ويستفاد من الآيات اللاحقة أنّ الحجاب المذكور هو «الأعراف» وهو مكان مرتفع بين الفريقين يمنع من رؤية كل فريق الفريق الآخر ، ولكن وجود مثل هذا الحجاب لا يمنع من أن يسمع كل منهما صوت الآخر ونداءه ، كما مرّ في الآيات السابقة.

فلطالما رأينا جيرة يتحادثون من وراء الجدار ، ويستجلي أحدهما حال الآخر دون أن يراه ، على أنّ الذين يقفون على الأعراف ، أي على الأقسام المرتفعة من هذا المكان المرتفع ، يرون كلا الفريقين (تأملوا جيدا).

ويستفاد من بعض آيات القرآن الكريم ، مثل الآية (٥٥) من سورة الصافات ، أن أهل الجنّة ربّما تطّلعوا من أماكنهم وشاهدوا أهل النّار ، ولكن مثل هذه الموارد الاستثنائية لا تنافي ما عليه وضع الجنّة والنّار أساسا ، وأنّ ما قلناه آنفا يعكس ويصور الكيفية لهذين المكانين ، وإن كان لهذا القانون ـ أيضا ـ بعض الاستثناءات ، فيمكن أن يشاهد بعض أهل الجنّة أهل النّار في شرائط خاصّة.

إنّ ما يجب أن نذكر به مؤكدين قبل الخوض في بيان كيفية الأعراف هو أن التعابير الواردة حول القيامة والحياة الأخرى لا تستطيع ـ بحال ـ أن تكشف القناع عن جميع خصوصيات تلكم الحياة ، بل للتعابير ـ أحيانا ـ صفة التشبيه والتمثيل.

وأحيانا تكشف بعض تلك التعابير عن مجرّد شبح في هذا المجال ، لأنّ الحياة في ذلك العالم تكون في آفاق أعلى ، وهي أوسع بمراتب كثيرة من الحياة في هذا العالم ، تماما مثل سعة الحياة الدنيا هذه بالقياس إلى عالم الرحم والجنين.

وعلى هذا فلا عجب إذا كانت الألفاظ والمفاهيم المتداولة في هذا العالم لا تستطيع أن تعكس بصورة كاملة ومعبّرة تلك المفاهيم.

٥٦

ثمّ إنّ القرآن الكريم يقول :( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ) يرون كلّا من أهل الجنّة وأهل النّار ويعرفونهم بملامح وجوههم.

و «الأعراف» في اللغة جمع «عرف» بمعنى المحل والموضع المرتفع ، ولهذا يطلق على شعر ناصية الفرس ، والريش الموجود على عنق الديك لفظ العرف ، فيقال «عرف الفرس» أو «عرف الديك» ، ومن هذا المنطلق يطلق على المكان المرتفع من البدن لفظ العرف أيضا (وسوف نتحدث بتفصيل حول خصوصيات منطقة الأعراف التي جاء ذكرها في هذه الآية بعد الفراغ من تفسير الآيات).

ثمّ يقول : أنّ هؤلاء الرجال ينادون أهل الجنّة ويسلّمون عليهم ، ولكنّهم لا يدخلون الجنّة وإن كانوا يرغبون في ذلك( وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) .

ولكن عند ما ينظرون إلى الطرف الآخر ويشاهدون أهل النّار يصطلون فيها ، يتضرعون إلى الله طالبين أن لا يجعلهم مع الظالمين( وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (١) .

والجدير بالذكر أنّه استخدم في رؤية أهل النّار في الآية لفظة( وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ ) يعني عند ما تعطف أبصارهم نحو جهنم لمشاهدة أهلها ، وهذه أشارة إلى أنّهم يكرهون مشاهدة أهل النّار ، وكأنّ نظرهم إليهم مقرون بالإكراه والإجبار.

وفي الآية اللاحقة يضيف : إنّ أصحاب الأعراف ينادون فريقا من الجهنميين الذين يعرفونهم بملامح وجوههم ويلومونهم قائلين : أمّا ترون أنّ جمعكم للأموال والأفراد والتجبّر والتكبّر عن قبول الحق لم ينفعكم شيئا ، فأين تلك الأموال وأولئك الأعوان؟ وماذا حصدتم من تلك المواقف والصفات السيّئة؟!

__________________

(١) «تلقاء» في الأصل ـ حسب قول بعض المفسّرين وأهل الأدب ـ مصدر ، وهو بمعنى المقابلة ، ولكن استعمل فيما بعد في معنى ظرف المكان ، أي في المكان المقابل والمحاذي.

٥٧

( وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) .

ومرّة أخرى يقولون موبخين ومعاتبين ، وهم يشيرون إلى جمع من ضعفاء المؤمنين المستقرين فوق الأعراف :( أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ) .

وفي المآل تشمل الرحمة الإلهية هذه الطائفة من ضعفاء المؤمنين ، ويقال لهم( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) .

من كل ما قلنا اتضح أنّ المراد من ضعفاء المؤمنين هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ولكنّهم بسبب تورطهم في بعض الذنوب كانوا موضع ازدراء من قبل أعداء الحق في الدنيا ، وكانوا يركزون على هؤلاء ويقولون : كيف يمكن لمثل هؤلاء أن تشملهم الرحمة الإلهية؟ وكيف يمكن لمثل هؤلاء أن يسعدوا؟ ولكن روح الإيمان والحسنات التي كانت عندهم فعلت فعلتها ـ في المآل ـ وفي ظلّ اللطف الرّباني والرحمة الإلهية ، فسعدوا ودخلوا الجنّة.

من هم أصحاب الأعراب :

«الأعراف» في الأصل ـ وكما أسلفنا ـ منطقة مرتفعة ، ويتّضح في ضوء القرائن التي وردت في آيات القرآن وأحاديث أئمّة الإسلام ، أنّه مكان خاص بين قطبي السعادة والشقاء ، أي الجنّة والنّار. وهو كحجاب حائل بين هذين ، أو كأرض مرتفعة فصلت بين هذين الموضعين بحيث يشرف من يقف عليها على الجنّة والنّار ، ويشاهد كلا الفريقين ، ويعرفهم بوجوههم المبيضة أو المسودة ، المشرقة أو المظلمة المكفهرة.

والآن لنرى من هم الواقفون على الأعراف؟ ومن هم أصحاب الأعراف؟

إنّ دراسة الآيات الأربع المبحوثة هنا تفيد أنّه ذكر لهؤلاء الأشخاص نوعين متناقضين مختلفين من الصفات.

٥٨

ففي الآية الأولى والثّانية وصف الواقفون على الأعراف بأنّهم يتمنون أن يدخلوا الجنّة ، ولكنّ ثمّة موانع تحول دون ذلك ، وعند ما ينظرون إلى أهل الجنّة يحيونهم ويسلمون عليهم ويودون لو يكونون معهم ، ولكنّهم لا يستطيعون فعلا أن يكونوا معهم ، وعند ما ينظرون إلى أهل النّار يستوحشون ممّا آلوا إليه من المصير ، ويتعوذون بأنّه من ذلك المصير ، ومن أن يكونوا منهم.

ولكن يستفاد من الآية الثّالثة والرّابعة بأنّهم أفراد ذوو نفوذ وقدرة ، يوبخون أهل النّار ويعاتبونهم ، ويساعدون الضعفاء في الأعراف على العبور إلى منزل السعادة.

وقد قسمت الرّوايات الواردة في هذا المجال أهل الأعراف الى هذين الفريقين المختلفين أيضا.

ففي بعض الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام نقرأ : «نحن الأعراف»(١) أو عبارة : «آل محمّد هم الأعراف»(٢) وما شابه هذه التعابير.

ونقرأ في طائفة أخرى عبارة : «هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى»(٣) أو «هم الشهداء على الناس والنّبيون شهداؤهم»(٤) وروايات أخرى تحكي أنّهم الأنبياء والأئمّة والصلحاء والأولياء.

ولكن طائفة أخرى مثلما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام تقول : «هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فإن أدخلهم النّار فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته»(٥) .

وثمّة روايات متعددة أخرى في تفاسير أهل السنة قد رويت عن «حذيفة» و

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلد الثاني ، الصفحة ١٧ و ١٨ و ١٩.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة ٣٣ و ٣٤.

(٥) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة ١٧.

٥٩

«عبد الله بن عباس» و «سعيد بن جبير» وأمثالهم بهذا المضمون(١) .

ونرى في هذه التفاسير أيضا مصادر تفيد أنّ أهل الأعراف هم الصلحاء والفقهاء والعلماء أو الملائكة.

وبالرغم من أنّ ظاهر الآيات وظاهر هذه الرّوايات تبدو متناقضة في بدون النظر ، ولعله لهذا السبب أبدى المفسّرون في هذا المجال آراء مختلفة ، ولكن مع التدقيق والإمعان يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض ومنافاة ، لا بين الآيات ولا بين الأحاديث ، بل جميعها تشير إلى حقيقة واحدة.

وتوضيح ذلك : أنّه يستفاد من مجموع الآيات والرّوايات ـ كما أسلفنا ـ الأعراف معبر صعب العبور على طريق الجنّة والسعادة الأبدية.

ومن الطبيعي أنّ الأقوياء الصالحين والطاهرين هم الذين يعبرون هذا المعبر الصعب بسرعة ، أمّا الضعفاء الذي خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فيعجزون عن العبور.

كما أنّه من الطبيعي أيضا أن تقف قيادات المجموع وسادة القوم عند هذه المعابر الصعبة مثل القادة العسكريين الذين يمشون في مثل هذه الحالات في مؤخرة جيوشهم ليعبر الجميع. يقفون هناك ليساعدوا ضعفاء الإيمان ، فينجو من يصلح للنجاة ببركة مساعدتهم ومعونتهم ونجدتهم.

وعلى هذا الأساس ، فأصحاب الأعراف فريقان : ضعفاء الإيمان والمتورطون في الذنوب الذين هم بحاجة إلى الرحمة ، والأئمّة السادة الذين يساعدون الضعفاء في جميع الأحوال.

وعلى هذا فإن الطائفة الأولى من الآيات والأحاديث تشير إلى الفريق الأوّل من الواقفين على الأعراف ، وهم الضعفاء ، والطائفة الثّانية منها تشير إلى الفريق

__________________

(١) تفسير الطبري ، المجلد ٧ ، الصفحة ١٣٧ و ١٣٨ عند تفسير الآية.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

السابقة و اللاحقة و التدبّر فيها - و الله أعلم - أن يكون المراد بدخولهم من حيث أمرهم أبوهم أنّهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرّقة كما أمرهم أبوهم حينما ودّعوه للرحيل، و إنّما اتّخذ يعقوب (عليه السلام) هذا الأمر وسيلة لدفع ما تفرّسه من نزول مصيبة بهم تفرّق جمعهم و تنقص من عددهم كما اُشير إليه في الآية السابقة لكن اتّخاذ هذه الوسيلة و هي الدخول من حيث أمرهم أبوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء و كان قضاء الله سبحانه ماضيا فيهم و أخذ العزيز أخاهم من أبيهم لحديث سرقة الصواع و انفصل منهم كبيرهم فبقي في مصر و أدّى ذلك إلى تفرّق جمعهم و نقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث أمرهم من الله من شي‏ء.

لكنّ الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (عليه السلام) فإنّه جعل هذا السبب الّذي تخلّف عن أمره و أدّى إلى تفرّق جمعهم و نقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى يوسف (عليه السلام) فإنّ يوسف أخذ أخاه إليه و رجع سائر الإخوة إلّا كبيرهم إلى أبيهم ثمّ عادوا إلى يوسف يسترحمونه و يتذلّلون لعزّته فعرّفهم نفسه و أشخص أباه و أهله إلى مصر فاتّصلوا به.

فقوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) أي لم يكن من شأن يعقوب أو هذا الأمر الّذي اتّخذه وسيلة لتخلّصهم من هذه المصيبة النازلة أن يغني عنهم من الله شيئاً ألبتّة و يدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم بل اُخذ منهم واحد و فارقهم و لزم أرض مصر آخر و هو كبيرهم.

و قوله:( إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها ) قيل: إنّ( إِلَّا ) بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فردّ إليه ولده الّذي فقده و هو يوسف.

و لا يبعد أن يكون( إِلَّا ) استثنائيّة فإنّ قوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) في معنى قولنا: لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئاً أو لم ينفعهم جميعاً شيئاً و لم يقض الله لهم جميعاً به حاجة إلّا حاجة في نفس يعقوب، و قوله:( قَضاها ) استئناف و جواب سؤال كأنّ سائلاً يسأل فيقول: ماذا فعل بها؟ فاُجيب بقوله:( قَضاها ) .

و قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) الضمير ليعقوب أي إنّ يعقوب لذو

٢٤١

علم بسبب ما علّمناه من العلم أو بسبب تعليمنا إيّاه و ظاهر نسبة التعليم إليه تعالى أنّه علم موهبيّ غير اكتسابيّ و قد تقدّم أنّ إخلاص التوحيد يؤدّي إلى مثل هذه العناية الإلهيّة، و يؤيّد ذلك أيضاً قوله تعالى بعده:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) إذ لو كان من العلم الاكتسابيّ الّذي يحكم بالأسباب الظاهريّة و يتوصّل إليه من الطرق العاديّة المألوفة لعلمه الناس و اهتدوا إليه.

و الجملة:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ، ثناء على يعقوب (عليه السلام)، و العلم الموهبيّ لا يضلّ في هدايته و لا يخطئ في إصابته و الكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرّس له يعقوب (عليه السلام) من البلاء و توسّل به من الوسيلة و حاجته في يوسف في نفسه لا ينساها و لا يزال يذكرها، فمن هذه الجهات يعلم أنّ في قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ، تصديقاً ليعقوب (عليه السلام) فيما قاله لبنيه و تصويبا لما اتّخذه من الوسيلة لحاجته بأمرهم بما أمر و توكّله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه.

هذا ما يعطيه التدبّر في سياق الآيات و للمفسّرين أقوال عجيبة في معنى الآية كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ - إلى قوله -قَضاها ) إنّه لم يكن دخولهم كما أمرهم أبوهم يغني عنهم أو يدفع عنهم شيئاً أراد الله إيقاعه بهم من حسد أو أصابه عين و كان يعقوب (عليه السلام) عالما بأنّ الحذر لا يدفع القدر و لكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه و أذهب به القلق عن نفسه.

و قول بعضهم: إنّ المعنى أنّ الله لو قدر أن تصيبهم العين لأصابتهم و هم متفرّقون كما تصيبهم مجتمعين.

و قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ أنّه لذو يقين و معرفة بالله لأجل تعليمنا إيّاه و لكنّ أكثر الناس لا يعلمون مرتبته.

و قول بعضهم: إنّ اللّام في( لِما عَلَّمْناهُ ) للتقوية و المعنى أنّه يعلم ما علّمناه فيعمل به لأنّ من علم شيئاً و هو لا يعمل به كان كمن لا يعلم. إلى غير ذلك من أقاويلهم.

٢٤٢

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ آوى‏ إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الإيواء إليه ضمّه و تقريبه منه في مجلسه و نحوه، و الابتئاس اجتلاب البؤس و الاغتمام و الحزن، و ضمير الجمع للإخوة.

و معنى الآية:( وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ ) بعد دخولهم مصر( آوى) و قرّب( إِلَيْهِ أَخاهُ ) الّذي أمرهم أن يأتوا به إليه و كان أخا له من أبيه و اُمّه( قالَ ) له( إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ) أي يوسف الّذي فقدته منذ سنين - و الجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدّر( فَلا تَبْتَئِسْ ) و لا تغتمّ( بِما كانُوا ) أي الإخوة( يَعْمَلُونَ ) من أنواع الأذى و المظالم الّتي حملهم عليها حسدهم لي و لك و نحن أخوان من اُمّ أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فإنّه كيد لحبسك عندي.

و ظاهر السياق أنّه عرّفه نفسه بإسرار القول إليه و سلّاه على ما عمله الإخوة و طيّب نفسه فلا يعبأ بقول بعضهم أنّ معنى قوله: إنّي أنا أخوك: أنا أخوك مكان أخيك الهالك - و قد كان أخبره أنّه كان له أخ من اُمّه هلك من قبل فبقي وحده لا أخ له من اُمّه - و لم يعترف يوسف له بالنسب و لكنّه أراد أن يطيّب نفسه.

و ذلك أنّه ينافيه ما في قوله:( إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ) من وجوه التأكيد و ذلك إنّما يناسب تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن أنّه هو يوسف. على أنّه ينافي أيضاً ما سيأتي من قوله لإخوته عند تعريفهم نفسه:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) فإنّه إنّما يناسب ما إذا علم أخوه أنّه أخوه فاعتزّ بعزّته كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) السقاية الظرف الّذي يشرب فيه، و الرحل ما يوضع على البعير للركوب، و العير القوم الّذين معهم أحمال الميرة و ذلك اسم للرجال و الجمال الحاملة للميرة و إن كان قد يستعمل في كلّ واحد من دون الآخر، ذكر ذلك الراغب في مفرداته.

و معنى الآية ظاهر و هذه حيلة احتالها يوسف (عليه السلام) ليأخذ بها أخاه إليه كما قصّة و فصّله الله تعالى و جعل ذلك مقدّمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به أخوه

٢٤٣

و هما منعّمان بنعمة الله مكرمان بكرامته.

و قوله:( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) الخطاب لإخوة يوسف و فيهم أخوه لاُمّه، و من الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في أمر يعود إلى بعضهم إذا كان لا يمتاز عن الآخرين، و في القرآن منه شي‏ء كثير، و هذا الأمر الّذي سمّي سرقة و هو وجود السقاية في رحل البعير كان قائماً بواحد منهم و هو أخو يوسف لاُمّه لكن عدم تعيّنه بعد من بينهم كان مجوّزاً لخطابهم جميعا بأنّكم سارقون فإنّ معنى هذا الخطاب في مثل هذا المقام أنّ السقاية مفقودة و هي عند بعضكم ممّن لا يتعيّن إلّا بعد الفحص و التفتيش.

و من المعلوم من السياق أنّ أخا يوسف لاُمّه كان عالماً بهذا الكيد مستحضراً منه و لذلك لم يتكلّم من أوّل الأمر إلى آخره و لا بكلمة و لا نفى عن نفسه السرقة و لا اضطرب كيف؟ و قد عرّفه يوسف أنّه أخاه و سلّاه و طيّب نفسه فليس إلّا أنّ يوسف (عليه السلام) كان عرّفه ما هو غرضه من هذا الصنع، و أنّه إنّما يريد بتسميته سارقا و إخراج السقاية من رحله أن يقبض عليه و يأخذه إليه فتسميته سارقا إنّما كان اتّهاماً في نظر الإخوة و أمّا بالنسبة إليه و في نظره فلم يكن تسمية جدّيّة و تهمة حقيقيّة بل توصيفاً صوريّاً فحسب لمصلحة لازمة جازمة.

فنسبه السرقة إليهم - بالنظر إلى هذه الجهات - لم تكن من الافتراء المذموم عقلا المحرّم شرعاً، على أنّ القائل هو المؤذّن الّذي أذّن بذلك.

و ذكر بعض المفسّرين: أنّ القائل:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) . بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غيره أمره و لم يعلم أنّ يوسف أمر بجعل الصاع في رحالهم.

و قال بعضهم: إنّ يوسف (عليه السلام) أمر المنادي أن ينادي به و لم يرد به سرقة الصاع، و إنّما عنى به أنّكم سرقتم يوسف من أبيه و ألقيتموه في الجبّ، و نسب ذلك إلى أبي مسلم المفسّر.

و قال بعضهم: إنّ الجملة استفهاميّة، و التقدير: أ إنّكم لسارقون؟ بحذف همزة الاستفهام، و لا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد.

٢٤٤

قوله تعالى: ( قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ ) الفقد - كما قيل - غيبة الشي‏ء عن الحسّ بحيث لا يعرف مكانه، و الضمير في قوله:( قالُوا ) للإخوة و هم العير، و قوله:( ما ذا تَفْقِدُونَ ) مقول القول و الضمير في قوله:( عَلَيْهِمْ ) ليوسف و فتيانه كما يدلّ عليه السياق.

و المعنى قال إخوة يوسف المقبلين ليوسف و فتيانه: ما ذا تفقدون؟ و في السياق دلالة على أنّ المنادي إنّما ناداهم من ورائهم و قد أخذوا في السير.

قوله تعالى: ( قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) الصواع بالضمّ السقاية و قيل: إنّ الصواع هو الصاع الّذي يكال به، و كان صواع الملك إناء يشرب فيه و يكال به و لذلك سمّي تارة سقاية و اُخرى صواع، و يجوز فيه التذكير و التأنيث، و لذلك قال:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ ) و قال:( ثُمَّ اسْتَخْرَجَها ) .

و الحمل ما يحمله الحامل من الأثقال، و قد ذكر الراغب أنّ الأثقال المحمولة في الظاهر كالشي‏ء المحمول على الظهر تختصّ باسم الحمل بكسر الحاء، و الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن و الماء في السحاب و الثمرة في الشجرة تختصّ باسم الحمل بفتح الحاء.

و قال في المجمع: الزعيم و الكفيل و الضمين نظائر و الزعيم أيضاً القائم بأمر القوم و هو الرئيس.

و لعلّ القائل:( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) هو فتيان يوسف و القائل:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) يوسف (عليه السلام) نفسه لأنّه هو الرئيس الّذي يقوم بأمر الإعطاء و المنع و الضمانة و الكفالة و الحكم، و يعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا: أجاب عنهم يوسف و فتيانه أمّا فتيانه فقالوا:( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) ، و أمّا يوسف فقال:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ‏ ) ، و هذه جعالة.

و ظاهر بعض المفسّرين: أنّ قوله:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) تتمّة قول المؤذّن:( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و على هذا فقوله:( قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ - إلى قوله -صُواعَ الْمَلِكِ ) معترض.

٢٤٥

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) المراد بالأرض أرض مصر و هي الّتي جاؤها و معنى الآية ظاهر.

و في قولهم:( لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ) دلالة على أنّهم فتّشوا و حقّق في أمرهم أوّل ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف (عليه السلام) بدعوى الخوف من أن يكونوا جواسيس و عيونا أو نازلين بها لأغراض فاسدة اُخرى فسألوا عن شأنهم و محلّهم و نسبهم و أمثال ذلك، و به يتأيّد ما ورد في بعض الروايات أنّ يوسف أظهر لهم أنّه في ريب من أمرهم فسألهم عن شأنهم و مكانهم و أهلهم و عند ذلك ذكروا أنّ لهم أبا شائخا و أخا من أبيهم فأمر بإتيانهم به، و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

و قولهم:( وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) نفي أن يكونوا متّصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل أو يعهد منهم أهل البيت ذلك.

قوله تعالى: ( قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) أي قال فتيان يوسف أو هو و فتيانه سائلين منهم عن الجزاء: ما جزاء السرق أو ما جزاء الّذي سرق منكم إن كنتم كاذبين في إنكاركم.

و الكلام في قولهم:( إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام في قولهم:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و قد تقدّم.

قوله تعالى: ( قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) مرادهم أنّ جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى أنّ من سرق مالاً يصير عبداً لمن سرق ماله و هكذا كان حكمه في سنّة يعقوب (عليه السلام) كما يدلّ عليه قولهم:( كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) أي هؤلاء الظالمين و هم السرّاق لكنّهم عدلوا عنه إلى قولهم:( جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ) للدلالة على أنّ السرقة إنّما يجازى بها نفس السارق لا رفقته و صحبه و هم أحد عشر نسمة لا ينبغي أن يؤاخذ منهم لو تحقّقت السرقة إلّا السارق بعينه من غير أن يتعدّى إلى نفوس الآخرين و رحالهم ثمّ للمسروق منه أن يملك السارق نفسه يفعل به ما يشاء.

٢٤٦

قوله تعالى: ( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ) فيه تفريع على ما تقدّم أي أخذ بالتفتيش و الفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ بأوعيتهم و ظروفهم قبل وعاء أخيه للتعمية عليهم حذراً من أن يتنبّهوا و يتفطّنوا أنّه هو الّذي وضعها في رحل أخيه ثمّ استخرجها من وعاء أخيه و عند ذلك استقرّ الجزاء عليه لكونها في رحله.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) إلى آخر الآية. الإشارة إلى ما جرى من الأمر في طريق أخذ يوسف (عليه السلام) أخاه لاُمّه من عصبة إخوته، و قد كان كيداً لأنّه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا و يتفطّنوا به و لو علموا لما رضوا به و لا مكّنوه منه، و هذا هو الكيد غير أنّه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه علّمه به طريق التوصّل إلى أخذ أخيه. و لذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) .

و ليس كلّ كيد بمنفيّ عنه تعالى و إنّما تتنزّه ساحة قدسه عن الكيد الّذي هو ظلم و نظيره المكر و الإضلال و الاستدراج و غيرها.

و قوله:( ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) بيان للسبب الداعي إلى الكيد، و هو أنّه كان يريد أن يأخذ أخاه إليه، و لم يكن في دين الملك أي سنّته الجارية في أرض مصر طريق يؤدّي إلى أخذه، و لا أنّ السرقة حكمها استعباد السارق و لذلك كادهم يوسف - بأمر من الله - بجعل السقاية في رحله ثمّ إعلام أنّهم سارقون حتّى ينكروه فيسألهم عن جزائه إن كانوا كاذبين فيخبروا أنّ جزاء السرق عندهم أخذ السارق و استعباده فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم.

و على هذا فلم يكن له أن يأخذ أخاه في دين الملك إلّا في حال يشاء الله ذلك و هو هذا الحال الّذي رضوا فيه أن يجازوا بما رضوا به لأنفسهم.

و من هنا يظهر أنّ الاستثناء يفيد أنّه كان من دين الملك أن يؤخذ المجرم بما يرضاه لنفسه من الجزاء و هو أشقّ، و كان ذلك متداولاً في كثير من السنن

٢٤٧

القوميّة و سياسات الملوك.

و قوله:( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) امتنان على يوسف (عليه السلام) بما رفعه الله على إخوته، و بيان لقوله:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) و كان امتناناً عليه.

و في قوله:( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) بيان أنّ العلم من الاُمور الّتي لا يقف على حدّ ينتهي إليه بل كلّ ذي علم يمكن أن يفرض من هو أعلم منه.

و ينبغي أن يعلم أنّ ظاهر قوله:( ذِي عِلْمٍ ) هو العلم الطارئ على العالم الزائد على ذاته لما في لفظة( ذِي ) من الدلالة على المصاحبة و المقارنة فالله سبحانه و علمه الّذي هو صفة ذاته عين ذاته، و هو تعالى علم غير محدود كما أنّ وجوده أحدي غير محدود، خارج بذاته عن إطلاق الكلام.

على أنّ الجملة( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) إنّما تصدق فيما أمكن هناك فرض( فَوْقَ ) و الله سبحانه لا فوق له و لا تحت له و لا وراء لوجوده و لا حدّ لذاته و لا نهاية.

و لا يبعد أن يكون قوله:( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) إشارة إلى كونه تعالى فوق كلّ ذي علم بأن يكون المراد بعليم هو الله سبحانه اُورد في هيئة النكرة صوناً للّسان عن تعريفه للتعظيم.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) إلى آخر الآية، القائلون هم إخوة يوسف (عليه السلام) لأبيه، و لذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتّهم بالسرقة لأنّهما كانا من اُمّ واحدة، و المعنى أنّهم قالوا: إن يسرق هذا صواع الملك فليس ببعيد منه لأنّه كان له أخ و قد تحقّقت السرقة منه من قبل فهما يتوارثان ذلك من ناحية اُمّهما و نحن مفارقوهما في الاُمّ.

و في هذا نوع تبرئة لأنفسهم من السرقة لكنّه لا يخلو من تكذيب لما قالوه آنفاً:( وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) لأنّهم كانوا ينفون به السرقة عن أبناء يعقوب جميعا و إلّا لم يكن ينفعهم ألبتّة فقولهم:( فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) يناقضه و هو ظاهر. على

٢٤٨

أنّهم أظهروا بهذه الكلمة ما في نفوسهم من الحسد ليوسف و أخيه - و لعلّهم لم يشعروا به - و هذا يكشف عن اُمور مؤسّفة كثيرة فيما بينهم.

و بهذا يتّضح بعض الاتّضاح معنى قول يوسف:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) كما أنّ الظاهر أنّ قوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) إلى آخر الآية كالبيان لقوله:( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) و كما أنّ قوله:( وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) عطف تفسير لقوله:( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ) .

و المعنى - و الله أعلم -( فَأَسَرَّها ) أي أخفى هذه الكلمة الّتي قالوها أي لم يتعرّض لما نسبوا إليه من السرقة و لم ينفه و لم يبيّن حقيقة الحال بل( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) و كأنّ هناك قائلاً يقول: كيف أسرّها في نفسه فاُجيب أنّه( قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) و أسوأ حالا لما في أقوالكم من التناقض و في نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة و اجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الإكرام و الإحسان كلّه( وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) إنّه قد سرق أخ له من قبل فلم يكذّبهم في وصفهم و لم ينفه.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ معنى قوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) إلخ: أنّكم أسوأ حالا منه لأنّكم سرقتم أخاكم من أبيكم و الله أعلم أسرق أخ له من قبل أم لا.

و فيه: أنّ من الجائز أن يكون هذا المعنى بعض ما قصده يوسف بقوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) لكنّ الكلام فيما تلقّاه إخوته من قوله هذا و الظرف هذا الظرف هم ينكرون يوسف (عليه السلام) و هو لا يريد أن يعرّفهم نفسه، و لا ينطبق قوله في مثل هذا الظرف إلّا بما تقدّم.

و ربّما ذكر بعضهم أنّ الّتي أسرّها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم هي كلمته:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكان ) فلم يخاطبهم بها ثمّ جهر بقوله:( وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) و هذا بعيد غير مستفاد من السياق.

قوله تعالى: ( قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) سياق الآيات يدلّ على أنّهم إنّما قالوا هذا القول لمّا

٢٤٩

شاهدوا أنّه استحقّ الأخذ و الاستعباد، و ذكروا أنّهم أعطوا أباهم موثقا من الله أن يرجعوه إليه فلم يكن في مقدرتهم أن يرجعوا إلى أبيهم و لا يكون معهم، فعند ذلك عزموا أن يفدوه بواحد منهم إن قبل العزيز، و كلّموا العزيز في ذلك أن يأخذ أيّ من شاء منهم، و يخلي عن سبيل أخيهم المتّهم ليرجعوه إلى أبيه.

و معنى الآية ظاهر، و في اللفظ ترقيق و استرحام و إثارة لصفة الفتوّة و الإحسان من العزيز.

قوله تعالى: ( قالَ مَعاذَ الله أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ ) ردّ منه (عليه السلام) لسؤالهم أن يأخذ أحدهم مكانه و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ) إلى آخر الآية قال في المجمع: اليأس قطع الطمع من الأمر يقال يئس ييأس و أيس يأيس لغة، و استفعل مثل استيأس و استأيس. قال: و يئس و استيأس بمعنى مثل سخر و استسخر و عجب و استعجب.

و النجيّ القوم يتناجون الواحد و الجمع فيه سواء قال سبحانه:( وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا ) و إنّما جاز ذلك لأنّه مصدر وصف به، و المناجاة المسارّة و أصله من النجوة هو المرتفع من الأرض فإنّه رفع السرّ من كلّ واحد إلى صاحبه في خفية، و النجوى يكون اسماً و مصدراً قال سبحانه:( وَ إِذْ هُمْ نَجْوى‏ ) أي يتناجون، و قال في المصدر:( إِنَّمَا النَّجْوى‏ مِنَ الشَّيْطانِ ) و جمع النجيّ أنجية قال: و برح الرجل براحا إذا تنحّى عن موضعه. انتهى.

و الضمير في قوله:( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ) ليوسف و يمكن أن يكون لأخيه و المعنى( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا ) أي إخوة يوسف( مِنْهُ ) أي من يوسف أن يخلّي عن سبيل أخيه و لو بأخذ أحدهم بدلا منه( خَلَصُوا ) و خرجوا من بين الناس إلى فراغ( نَجِيًّا ) يتناجون في أمرهم أ يرجعون إلى أبيهم و قد أخذ منهم موثقا من الله أن يعيدوا أخاهم إليه أم يقيمون هناك و لا فائدة في إقامتهم؟ ما ذا يصنعون؟.

( قالَ كَبِيرُهُمْ ) مخاطباً لسائرهم( أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً

٢٥٠

مِنَ الله ) ألّا ترجعوا من سفركم هذا إليه إلّا بأخيكم،( وَ مِنْ قَبْلُ ) هذه الواقعة( ما فَرَّطْتُمْ ) أي تفريطكم و تقصيركم( فِي ) أمر( يُوسُفَ ) عهدتم أباكم أن تحفظوه و تردّوه إليه سالماً فألقيتموه في الجبّ ثمّ بعتموه من السيّارة ثمّ أخبرتم أباكم أنّه أكله الذئب.

( فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ ) أي فإذا كان الشأن هذا الشأن لن أتنحّى و لن اُفارق أرض مصر( حتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ) برفعه اليد عن الموثق الّذي واثقته به( أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) فيجعل لي طريقا إلى النجاة من هذه المضيقة الّتي سدّت لي كلّ باب و ذلك إمّا بخلاص أخي من يد العزيز من طريق لا أحتسبه أو بموتي أو بغير ذلك من سبيل!!.

أمّا أنا فاختار البقاء هاهنا و أمّا أنتم فارجعوا إلى أبيكم إلى آخر ما ذكر في الآيتين التاليتين.

قوله تعالى: ( ارْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) قيل المراد بقوله:( وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا ) إنّا لم نشهد في شهادتنا هذه:( إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ) إلّا بما علمنا من سرقته، و قيل المراد ما شهدنا عند العزيز أنّ السارق يؤخذ بسرقته و يسترقّ إلّا بما علمنا من حكم المسألة، قيل و إنّما قالوا ذلك حين قال لهم يعقوب: ما يدري الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته و يسترقّ؟ و إنّما علم ذلك بقولكم، و أقرب المعنيين إلى السياق أوّلهما.

و قوله:( وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) قيل أي لم نكن نعلم أنّ ابنك سيسرق فيؤخذ و يسترقّ و إنّما كنّا نعتمد على ظاهر الحال و لو كنّا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا و لا أقدمنا على الميثاق.

و الحقّ أنّ المراد بالغيب كونه سارقاً مع جهلهم بها و معنى الآية إنّ ابنك سرق و ما شهدنا في جزاء السرقة إلّا بما علمنا و ما كنّا نعلم أنّه سرق السقاية و أنّه سيؤخذ بها حتّى نكفّ عن تلك الشهادة فما كنّا نظنّ به ذلك.

٢٥١

قوله تعالى: ( وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) أي و أسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتّى لا يبقى لك أدنى ريب في أنّا لم نفرط في أمره بل إنّه سرق فاسترقّ.

فالمراد بالقرية الّتي كانوا فيها بلدة مصر - على الظاهر - و بالعير الّتي أقبلوا فيها القافلة الّتي كانوا فيها و كان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر و الرجوع منها ثمّ أقبلوا مصاحبين لهم، و لذلك عقّبوا عرض السؤال بقولهم:( وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) أي فيما نخبرك من سرقته و استرقاقه لذلك، و نكلّفك السؤال لإزالة الريب من نفسك.

٢٥٢

( سورة يوسف الآيات ٨٣ - ٩٢)

قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَميلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِم جَميعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ٨٣) وَتَوَلّى‏ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى‏ عَلَى‏ يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَينَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم( ٨٤) قَالُوا تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى‏ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ( ٨٥) قَالَ إِنّمَا أَشْكُوا بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( ٨٦) يَا بَنِيّ اذْهَبُوا فَتَحَسّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللّهِ إِلّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ( ٨٧) فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يا أَيّهَا الْعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنَا إِنّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدّقِينَ( ٨٨) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ( ٨٩) قَالُوا أَءِنّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَن يَتّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ( ٩٠) قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنّا لَخَاطِئِينَ( ٩١) قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ( ٩٢)

٢٥٣

( بيان‏)

الآيات تتضمّن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانياً من مصر و إخبارهم إيّاه خبر أخي يوسف و أمره برجوعهم ثالثاً إلى مصر و تحسّسهم من يوسف و أخيه إلى أن عرّفهم يوسف (عليه السلام) نفسه.

قوله تعالى: ( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) في المقام حذف كثير يدلّ عليه قوله:( ارْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا ) إلى آخر الآيتين و التقدير و لمّا رجعوا إلى أبيهم و قالوا ما وصّاهم به كبيرهم قال أبوهم بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً إلخ.

و قوله:( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) حكاية ما أجابهم به يعقوب (عليه السلام) و لم يقل (عليه السلام) هذا القول تكذيباً لهم فيما أخبروه به و حاشاه أن يكذب خبراً يحتفّ بقرائن الصدق و تصاحبه شواهد يمكن اختباره بها، و لا رماهم بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) رميا بالمظنّة بل ليس إلّا أنّه وجد بفراسة إلهيّة أنّ هذه الواقعة ترتبط و تتفرّع على تسويل نفسانيّ منهم إجمالاً و كذلك كان الأمر فإنّ الواقعة من أذناب واقعة يوسف و كانت واقعته من تسويل نفسانيّ منهم.

و من هنا يظهر أنّه (عليه السلام) لم ينسب إلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب بل عدم رجوعه و عدم رجوع كبيرهم الّذي توقّف بمصر و لم يرجع إليه، و يشهد لذلك قوله:( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) فجمع في ذلك بين يوسف و أخيه و كبير الإخوة فلم يذكر أخا يوسف وحده و لا يوسف و أخاه معا، فظاهر السياق أنّ ترجّيه رجوع بنيه الثلاثة مبنيّ على صبره الجميل قبال ما سوّلت لهم أنفسهم أمراً.

فالمعنى - و الله أعلم - أنّ هذه الواقعة ممّا سوّلت لكم أنفسكم كما قلت ذلك في واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل أنفسكم عسى الله أن يأتيني بأبنائي الثلاثة جميعاً.

٢٥٤

و من هنا يظهر أنّ قولهم: إنّ المعنى: ما عندي أنّ الأمر على ما تصفونه بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فيما أظنّ، ليس في محلّه.

و قوله:( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) ترجّ مجرّد لرجوعهم جميعاً مع ما فيه من الإشارة إلى أنّ يوسف حيّ لم يمت - على ما يراه - و ليس مشربا معنى الدعاء، و لو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله:( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) بل بمثل قولنا: إنّه هو السميع العليم أو الرؤف الرحيم أو ما يناظرهما كما هو المعهود في الأدعية المنقولة في القرآن الكريم.

بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول: إنّ واقعة يوسف السابقة و هذه الواقعة الّتي أخذت منّي ابنين آخرين إنّما هما لأمر مّا سوّلته لكم أنفسكم فسأصبر صبرا و أرجو به أن يأتيني الله بأبنائي جميعاً و يتمّ نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه إنّه هو العليم بمورد الاجتباء و إتمام النعمة حكيم في فعله يقدّر الاُمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغي للإنسان أن يضطرب عند البلايا و المحن بالطيش و الجزع و لا أن ييأس من روحه و رحمته.

و الاسمان: العليم الحكيم هما اللّذان ذكرهما يعقوب ليوسف (عليه السلام) لأوّل مرّة أوّل رؤياه فقال:( إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ثمّ ذكرهما يوسف ليعقوب (عليه السلام) ثانياً حيث رفع أبويه على العرش و خرّوا له سجداً فقال:( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ - إلى أن قال -هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

قوله تعالى: ( وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى‏ عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) قال الراغب في المفردات: الأسف الحزن و الغضب معا، و قد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد و حقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، و متى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا - إلى أن قال - و قوله تعالى:( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) أي أغضبونا قال أبوعبدالله(١) الرضا: إنّ الله لا يأسف كأسفنا و لكن له أولياء يأسفون و يرضون

____________________

(١) كذا في النسخة المنقولة عنها و الصحيح أبوالحسن.

٢٥٥

فجعل رضاهم رضاه و غضبهم‏ غضبه. قال: و على ذلك قال: من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة. انتهى.

و قال: الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه، و الكظوم احتباس النفس و يعبّر به عن السكوت كقولهم: فلان لا يتنفّس إذا وصف بالمبالغة في السكوت، و كظم فلان حبس نفسه قال تعالى:( إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ ) و كظم الغيظ حبسه قال تعالى:( وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، و منه كظم البعير إذا ترك الاجترار و كظم السقاء شدّة بعد ملئه مانعاً لنفسه. انتهى.

و قوله:( وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ) ابيضاض العين أي سوادها هو العمى و بطلان الإبصار و ربّما يجامع قليل إبصار لكن قوله الآتي:( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) الآية ٩٣ من السورة يشهد بأنّه كناية عن ذهاب البصر.

و معنى الآية:( ثمّ تولّى ) و أعرض يعقوب (عليه السلام)( عَنْهُمْ ) أي عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) ( وَ قالَ: يا أَسَفى) و يا حزني( عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ ) و ذهب بصره( مِنَ الْحُزْنِ ) على يوسف( فَهُوَ كَظِيمٌ ) حابس غيظه متجرّع حزنه لا يتعرّض لبنيه بشي‏ء.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ) الحرض و الحارض المشرف على الهلاك و قيل: هو الّذي لا ميت فينسى و لا حيّ فيرجي، و المعنى الأوّل أنسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك، و الحرض لا يثنّى و لا يجمع لأنّه مصدر.

و المعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف و تديم ذكره منذ سنين لا تكفّ عنه حتّى تشرف على الهلاك أو تهلك، و ظاهر قولهم هذا أنّهم إنّما قالوه رقّة بحاله و رأفة به، و لعلّهم إنّما تفوّهوا به تبرّما ببكائه و سأمة من طول نياحه ليوسف، و خاصّة من جهة أنّه كان يكذّبهم في ما كانوا يدعونه من أمر يوسف، و كان ظاهر بكائه و تأسّفه أنّه يشكوهم كما ربّما يؤيّده قوله:( ما أَشْكُو ) إلخ.

٢٥٦

قوله تعالى: ( قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى الله وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ) قال في المجمع: البثّ الهمّ الّذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثّه أي يفرّقه، و كلّ شي‏ء فرّقته فقد بثثته و منه قوله:( وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ) انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث.

و الحصر الّذي في قوله:( إنّما أَشْكُو ) إلخ، من قصر القلب فيكون مفاده أنّي لست أشكو بثّي و حزني إليكم معاشر ولدي و أهلي، و لو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقلّ زمان كما يجري عليه دأب الناس في بثّهم و حزنهم عند المصائب، و إنّما أشكو بثّي و حزني إلى الله سبحانه، و لا يأخذه ملل و لا سأمة فيما يسأله عنه عباده و يبرمه أرباب الحوائج و يلحّون عليه و أعلم من الله ما لا تعلمون فلست أيأس من روحه و لا أقنط من رحمته.

و في قوله:( ‏وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ‏ ) إشارة إجماليّة إلى علمه بالله لا يستفاد منه إلّا ما يساعد على فهمه المقام كما أشرنا إليه.

قوله تعالى: ( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) قال في المجمع: التحسّس - بالحاء - طلب الشي‏ء بالحاسّة و التجسّس - بالجيم - نظيره‏ و في الحديث: لا تحسّسوا و لا تجسّسوا، و قيل إنّ معناهما واحد و نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر( متى أدن منه ينأى عنه و يبعد) .

و قيل: التجسّس بالجيم البحث عن عورات الناس، و بالحاء الاستماع لحديث قوم و سئل ابن عبّاس عن الفرق بينهما؟ قال: لا يبعد أحدهما عن الآخر: التحسّس في الخير و التجسّس في الشرّ. انتهى.

و قوله:( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله ) الروح بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيّب و يكنّى به عن الحالة الّتي هي ضدّ التعب و هي الراحة و ذلك أنّ الشدّة الّتي فيها انقطاع الأسباب و انسداد طرق النجاة تتصوّر اختناقاً و كظماً للإنسان و بالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج و الظفر بالعافية تنفّساً و روحاً لقولهم يفرّج

٢٥٧

الهمّ و ينفّس الكرب فالرّوح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدّة بإذن الله و مشيّته، و على من يؤمن بالله أن يعتقد أنّ الله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا قاهر لمشيّته و لا معقّب لحكمه، و ليس له أن ييأس من روح الله و يقنط من رحمته فإنّه تحديد لقدرته و في معنى الكفر بإحاطته و سعة رحمته كما قال تعالى حاكيا عن لسان يعقوب (عليه السلام):( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) و قال حاكيا عن لسان إبراهيم (عليه السلام):( وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّاالضَّالُّونَ ) الحجر: ٥٦، و قد عدّ اليأس من روح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.

و معنى الآية - ثمّ قال يعقوب لبنيه آمراً لهم -( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) الّذي اُخذ بمصر و ابحثوا عنهما لعلّكم تظفرون بهما( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله ) و الفرج الّذي يرزقه الله بعد الشدّة( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) الّذين لا يؤمنون بأنّ الله يقدر أن يكشف كلّ غمّة و ينفّس عن كلّ كربة.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) إلخ، البضاعة المزجاة المتاع القليل، و في الكلام حذف و التقدير فساروا بني يعقوب إلى مصر و لمّا دخلوا على يوسف قالوا إلخ.

كانت لهم - على ما يدلّ عليه السياق - حاجتان إلى العزيز و لا مطمع لهم بحسب ظاهر الأسباب إلى قضائهما و استجابته عليهم فيهما.

إحداهما: أن يبيع منهم الطعام و لا ثمن عندهم يفي بما يريدونه من الطعام على أنّهم عرفوا بالكذب و سجّل عليهم السرقة من قبل و هان أمرهم على العزيز لا يرجى منه أن يكرمهم بما كان يكرمهم به في الجيئة الأولى.

و ثانيتهما: أن يخلّي عن سبيل أخيهم المأخوذ بالسرقة، و قد استيأسوا منه بعد ما كانوا ألحّوا عليه فأبى العزيز حتّى عن تخلية سبيله بأخذ أحدهم مكانه.

و لذلك لمّا حضروا عند يوسف العزيز و كلّموه و هم يريدون أخذ الطعام و إعتاق أخيهم أوقفوا أنفسهم موقف التذلّل و الخضوع و بالغوا في رقّة الكلام

٢٥٨

استرحاما و استعطافا فذكروا أوّلاً ما مسّهم و أهلهم من الضرّ و سوء الحال ثمّ ذكروا قلّة ما أتوا به من البضاعة ثمّ سألوه إيفاء الكيل، و أمّا حديث أخيهم المأخوذ فلم يصرّحوا بسؤال تخلية سبيله بل سألوه أن يتصدّق عليهم و إنّما يتصدّق بالمال و الطعام مال و أخوهم المسترقّ مال العزيز ظاهراً ثمّ حرّضوه بقولهم:( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) و هو في معنى الدعاء.

فمعنى الآية:( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ ) و أحاط بنا جميعاً المضيقة و سوء الحال( وَ جِئْنا ) إليك( بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) و متاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام غير أنّه نهاية ما في وسعنا( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا ) و كأنّهم يريدون به أخاهم أو إيّاه و الطعام( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) خيرا.

و قد بدؤا القول بخطاب( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ) و ختموه بما في معنى الدعاء و أتوا خلاله بذكر سوء حالهم و الاعتراف بقلّة بضاعتهم و سؤاله أن يتصدّق عليهم و هو من أمرّ السؤال و الموقف موقف الاسترحام ممّن لا يستحقّ ذلك لسوء سابقته، و هم عصبة قد اصطفّوا أمام عزيز مصر.

و عند ذلك تمّت الكلمة الإلهيّة أنّه سيرفع يوسف و أخاه و يضع عنده سائر بني يعقوب لظلمهم، و لذلك لم يلبث يوسف (عليه السلام) دون أن أجابهم بقوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) و عرّفهم نفسه، و قد كان يمكنه (عليه السلام) أن يخبر أباه و إخوته مكانه و أنّه بمصر طول هذه المدّة غير القصيرة لكن الله سبحانه شاء أن يوقف إخوته أمامه و معه أخوه المحسود موقف المذلّة و المسكنة و هو متّك على أريكة العزّة.

قوله تعالى: ( قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) إنّما يخاطب المخطئ المجرم بمثل هل علمت و أ تدري و أ رأيت و نحوها و هو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله و وبال ذنبه لكنّه (عليه السلام) أعقب استفهامه بقوله:( إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) و فيه تلقين عذر.

فقوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) مجرّد تذكير لعملهم بهما من

٢٥٩

غير توبيخ و مؤاخذة ليعرّفهم من الله عليه و على أخيه و هذا من عجيب فتوّة يوسف (عليه السلام)، و يا لها من فتوّة.

قوله تعالى: ( قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) إلى آخر الآية تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أنّ الشواهد القطعيّة قامت على تحقّق مضمونها و إنّما يستفهم لمجرّد الاعتراف فحسب.

و قد قامت الشواهد عندهم على كون العزيز هو أخاهم يوسف و لذلك سألوه بقولهم:( أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) مؤكّداً بإنّ و اللّام و ضمير الفصل فأجابهم بقوله:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي ) و إنّما ألحق أخاه بنفسه و لم يسألوا عنه و ما كانوا يجهلونه ليخبر عن منّ الله عليهما، و هما معا المحسودان و لذا قال:( قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) .

ثمّ أخبر عن سبب المنّ الإلهيّ بحسب ظاهر الأسباب فقال:( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) و فيه دعوتهم إلى الإحسان و بيان أنّه يتحقّق بالتقوى و الصبر.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) الإيثار هو الاختيار و التفضيل، و الخطأ ضدّ الصواب و الخاطئ و المخطئ من خطأ خطأً و أخطأ إخطاء بمعنى واحد، و معنى الآية ظاهر و فيها اعترافهم بالخطأ و تفضيل الله يوسف عليهم.

قوله تعالى: ( قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) التثريب التوبيخ و المبالغة في اللوم و تعديد الذنوب، و إنّما قيّد نفي التثريب باليوم ليدلّ على مكانة صفحة و إغماضه عن الانتقام منهم و الظرف هذا الظرف هو عزيز مصر اُوتي النبوّة و الحكم و علم الأحاديث و معه أخوه و هم أذّلاء بين يديه معترفون بالخطيئة و أنّ الله آثره عليهم بالرغم من قولهم أوّل يوم:( لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

ثمّ دعا لهم و استغفر بقوله:( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) و هذا دعاء و استغفار منه لإخوته الّذين ظلموه جميعاً و إن كان الحاضرون عنده اليوم بعضهم

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606