الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245228 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

البروجردي ».

كانت هذهِ خلاصة ما نشر من لقاء الدكتور چهرازي مع السيد البروجردي.

٤٠١

القمار واضراره

الدكتور : ايها العمّ ، لا ننسىٰ ان القتل الذي حدث في القطار لم يكن سببه الوحيد المشروب ، بل كان للقمار ايضاً دوراً فيه. لذلك سنكون ممتنين لك لو حدثتنا عن القمار ومفاسده ايضاً.

الشيخ : القمار من المواضيع الواضح ضررها ومفاسدها علىٰ جميع الناس ، وقد قامت بعض الدول بمنعها تماماً. اما تلك الاضرار فهي كالتالي :

1 ـ الاضرار الاقتصادية :

يمكن ان يوجه القمار اكبر ضربة اقتصادية للشخص ، لانه كثيراً ما يحدث ان شخصاً يقوم بجمع ثروة علىٰ مدىٰ العمر من خلال النشاط والتعب. لكنه يفقدها خلال ليلة او ليالي متوالية في لعب القمار ، ويعود الىٰ بيته بيد خاوية إلّا من الندم.

فالمقامر المسكين وبعد اول لعبه يتصور انه سيربح في الدور الآخر وهكذا يلقي بنفسه في التهلكة ويبدأ باللعب. فلو ربح يسوقه طمعه الىٰ لعب اكثر وإذا خسر يحاول جبران ما فقده في الادوار التالية ، وهكذا يتورط في اللعبة للحد الذي يصبح من روادها الدائمين ، فأما ان يفقد ثروته ويتحول الىٰ فقير في ليلة واحدة او ليالي قليلة ، او انه يصبح من اولئك الذين يفرغون

٤٠٢

جيوب الآخرين ويحولون حياتهم الىٰ شقاء وتعاسة.

2 ـ الاضرار الاخلاقية ؟

يُعد القمار من آفات الاخلاق والفضائل النفسانية ، والقمار يسبب لصاحبه ( المقامر ) السهر وعدم النوم ( خاصة اذا كان المقامر خاسراً ) ، وتسلب الراحة من حياته ، ويكون عصبياً علىٰ الدواء وسيء الخلق ، وبشكل دائم يفكر بحلّ يعوض فيه ما فقده ، لذلك يصبح حساساً ، ولا يستطيع السيطرة علىٰ اعصابه ، يثور لأبسط شيء ، لهذا يشاهد المقامرون في حالة تفكير وقلق علىٰ الدوام ، تخلو وجوههم من اي نشاط وبسمة ، كما ان المقامرين غالباً ما يصابون بأمراض من قبيل : البخل والحسد والعصبية والتشاؤم والانكسار النفسي.

3 ـ تأثيرات القمار السيئة علىٰ الاسرة :

طبيعي ان المقامر الذي يصاب بانحرافات اخلاقية وبسبب السهر وعدم النوم والتفكير سيصاب بضعف عصبي ، وسيثور مقابل اقل تحريك او حادث وسيكون سيء الظن بالجميع.

ويديهي جداً ان اول من سيواجه هذه الحالة في المقامر هم اعضاء اسرته المسكينة من الزوجة والابناء ، وتكون تلك الاسرة المنكوبة والشقية مضطرة لمعاشرة انسان سيء الخلق عبوس عصبي المزاج ، لذلك كثيراً ما يحدث ان

٤٠٣

تنتهي مشاجرات بسيطة في مثل تلك الاسر الىٰ الطلاق والتشتت.

4 ـ القمار سبب في الجريمة

كثيراً ما يحدث ان يفقد شخصاً كل اتعاب حياته في ساعات معدودات من لعب القمار ، خاصة اذا كان شخصاً محترماً ووجيهاً ، فانه سيفكر بعدم استطاعته دخول مجال النشاط الاقتصادي والكسب بيد خاوية ، لانه فقد بهذه الاعمال الاثيمة ثروته وحيثياته الاجتماعية ، وسوف لن يجد طريقاً امامه إلّا الانتحار. وبتصوره انه سينجو من جميع تلك الآلام والافكار بهذا العمل.

فأحد الارجنتينيين فقد في مدة 16 ساعة جميع ثروته البالغة اربعة ملايين دولار ، وبعد ان اغلقت ابواب النادي ، اتجه مباشرة الىٰ احدىٰ الغابات وافرغ في رأسه طلقة من مسدسه.(1)

وتذكر احدىٰ المجلات الاسبوعية : « ان معدلات الانتحار بسبب القمار في تزايد مستمر ، ومن خلال احصائية نشرتها مؤسسة غالوب ، يتّضح أنه في سنة 1961 سُجل اعلىٰ معدل لانتحار المقامرين ، ففي باريس انتحر اثنا عشر مقامراً في السنة الماضية(2) .

وكثيرة مثل هذه الجرائم التي تنتج بسبب القمار ، فضلاً عن التشاجر

__________________

(1) مجلة المثقف 3 / 1 / 1362.

(2) مجلة المثقف ، العدد 7 سنة 1363.

٤٠٤

والتقاتل بالسكاكين الذي يحدث خلال العب ، لان تقابل مقامرين سيئي الخلق وحساسين يجعلهما مثل المادة المتفجرة مهيئين في كل لحظة للانفجار ويكفي لذلك شرارة بسيطة تنطلق من احد الطرفين. وهذا الخبر هو نموذج لمثل تلك الجرائم :

احد المقامرين الذين وجه لمقامر آخر ثلاث طعنات بالسكين في خاصرته ، اردته قتيلاً ، قال عند استجوابه من قبل الشرطة : « لقد غلبني اموال كثيرة في اللعب ، ولم يكن مستعداً ان يستمر في اللعب معي ، ورغم اصراري لم يقبل واراد ان يهرب ، فتبعته و ».

وفي بعض الاحيان يكون القمار لوحده سبباً في موت المقامر ، للتبعات السيئة التي يتركها ، وفي هذا الصدد ، استمعوا الىٰ هذا الخبر.

« توصل احد الاطباء الامريكيين بعد سنوات من الابحاث الىٰ هذه النتيجة ، وهي انه في امريكا يموت سنوياً اكثر من الفي شخص بسبب القمار ، واثبت الطبيب ان ضربات قلب المقامر ترتفع بشدّة اثناء اللعب ، وان قلب مقامر ماهر تزيد ضرباته علىٰ المائة في الدقيقة ، وهذا النبض غير الطبيعي يجعل المقامرين يموتون وهم خلف منضدة اللعب ، او انهم يهرمون قبل سنّ الهرم بعشرة او خمسة عشر سنة ».

5 ـ الاضرار الاقتصادية للقمار

القمار يوقف العجلة الاقتصادية لملجتمع ، وتعلل في النشاطات الانتاجية ، لأن المقامر يصر كل فكره في كيفية قضاء الوقت بهذه اللعبة

٤٠٥

واكتساب المهارة التامة فيها. ولانه يتصور انه سيربح في غضون ساعة ما يكفيه كل العمر ! ولهذا فقليلاً ما يفكر بالانتاج والتجارة والعمل.

وحتىٰ لو فكر بتلك الامور فلن يستطيع العمل كأي انسان عادي وذلك بسبب تأثير تلك الحالة السيئة التي تسيطر علىٰ كل عقله. وهذا من اكبر الاضرار التي يأتي بها القمار للمجتمع.

6 ـ تأثير القمار علىٰ شرف الانسان وناموسه

لربما يصل الامر بالمقامر ، بعد ان يفقد جميع ثروته ، ان يراهن علىٰ زوجته وابناءه وبناته.

اعتراض من قبل الجميع : ايّها الشيخ ! ما الذي تقوله. اي انسان عاقل وغيور يراهن علىٰ زوجته وابنائه وبناته ويغامر بهم ؟! فهذا العمل لم يحدث حتىٰ في القرون الوسطىٰ وبين المتوحشين.

الشيخ : لا تجهدوا انفسكم وتذهبوا بعيداً الىٰ القرون الوسطىٰ ، لان هذا الامر يحدث في عالمنا المتحضر ، العصر الذهبي ! وفي اكثر البلدان تحضراً علىٰ الكرة الارضية ، التي ما ان يسمع بها بعض مغفّلينا حتىٰ يسيل لعابهم عليها.

نعم في امريكا ، حدث ذلك وقد نقلته احدىٰ الصحف المهمة في اخبارها الخارجية ، واليكم خلاصة ما ذكرته الصحيفة : « في المكسيك كان احد الاثرياء يلعب القمار مع صديق له لكنه كان يخسر علىٰ الدوام ، حتىٰ

٤٠٦

خسر ثروته وبيته وسيارته ، وكل ما يملك دفعة واحدة.

ومع ذلك لم ييأس فبقي يلعب ولكن هذه المرّة كان الرهان زوجته ، لكنه هذه المرّة ايضاً خسر. فألتفت وبدون اي خجل الىٰ زوجته وقال لها : اصبحت الآن ملك هذا الرجل لانني فقدتك في القمار معه. لكن المرأة المسكينة امتنعت عن ذلك ، لكن زوجها كان مصرّاً علىٰ دفعها الىٰ الرجل ، وكلما زاد اصراره زادت مقاومة المرأة ايضاً ، الىٰ ان هجم عليها واخذ في ضربها بقسوة. مما اضطرت الشرطة الىٰ التدخل ونقل المرأة الىٰ المستشفىٰ لعلاج الجراحات التي اصابتها علىٰ يد زوجها »(1) .

وتقول احدىٰ المجلات الاسبوعية : من اقبح اعمال المقامرين في النوادي الخاصة ـ حيث يشاهد فيها رجال ونساء اوروبا المتحضرين ـ هو انهم يقامرون علىٰ نسائهم ، وقد شوهدت نماذج عديدة من ذلك بين المقامرين من الداخل والخارج ، كما ان اغلب هذه الرهانات تنتهي بالانتحار(2) .

سعادة الدكتور ! هذه نماذج من السلوكيات الوحشية والمنحطة لعصر الذرة ودنيا الحضارة الجديدة ، ولم يشاهد لها مثل إلّا في عصر الجاهلية اي قبل الف واربعمائة عام وفي مورد واحد فقط ، لان التاريخ ينقل لنا : قبل اشراقة شمس الاسلام ، كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يمشي يوماً في سوق مكة ، فرأىٰ رجلين يلعبان القمار ، وشاهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ان احدهما فقد جميع ثروته ، فراهن علىٰ غلمان وجواريه ، وخسرها ايضاً ، حتىٰ وصل الامر به أن يراهن علىٰ ان

________________

(1) مجلة اطلاعات الاسبوعية ، العدد 1060.

(2) المصدر نفسه.

٤٠٧

يستعبد لفترة عشر سنوات ، وخسر ايضاً !

فتأثر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك كثيراً وخرج مباشرة الىٰ خارج مكة ، فتوجه بالدعاء الىٰ الله : اللّهمَّ عجّل بعثتي وأمرني بهداية هذه الاُمة ، حتىٰ اخرجهم واخلصهم من هذه الحياة المهينة ، وهذا الوضع المنحط ، وهذه الرذائل الاخلاقية.

هذه القصة حدثت قبل خمسة عشر قرناً ، وبعد اهل الجاهلية ، كررها علىٰ ابشع صورها اهل عصرنا ، عصر الحضارة والمدنية الاوروبية والامريكية ، وتبعهم في ذلك بعض ممن يُسمون بالمسلمين والاسوء من كل ذلك ، هو ان الكثير من الاعمال التي كانت تعتبر قبيحة وسيئة حتىٰ في العصر الجاهلي المظلم آنذاك ، اصبحت اليوم من علامات الحضارة والمدنية الغربية الحالية !!

الىٰ هنا ، اوضحت لكم جوانب عديدة من مضار القمار ، لكن الذي يؤسف له هو شيوع هذا العمل السيء في بلادنا بكامل الحرية ، فالعديد من ابناء شعبنا يمارسون هذه اللعبة في النوادي الليلة واماكن القمار ، خاصة طبقة الكبار والاشراف الاثرياء ، ولا يعلم إلّا الله حجم الخسائر الارباح التي يفقدها او يكسبها رجال الطراز الاول في الدول والاثرياء في النوادي والفنادق الكبرىٰ والخاصة ، واتصور انني قرأت في احدىٰ المجلات قبل ثمان سنوات ، انه في مصيف آب علي لوحده يتداول مبلغ 14 مليون تومان سنوياً بين الخاسرين والرابحين ، وجاء أيضاً في تلك المجلة انه في ليلة واحدة خسرت احدىٰ النساء الثريّات مبلغ 16 الف تومان من مالها الحلال !

٤٠٨

وجاء في احصائية نشرت قبل ثمان سنوات أيضاً وجود خمسمائة محل قمار في طهران وحدها يرتادها الاشراف والاثرياء ورجال الدولة في الغالب.

القمار من منظار قوانين العالم والبلاد

اغلب دول العالم منعت لعب القمار نظراً لمضاره ومفاسده العديدة ، علىٰ الرغم من ان تلك القوانين لها طابع رسمي وتشريفاتي ، ففي بريطانيا منع القمار منذ سنة 1853 ، وفي امريكا سنة 1855 ، وفي روسيا سنة 1854 ، وفي المانيا سنة 1852 ، والقوانين الايرانية ايضاً تمنع ادارة دور القمار بشكل او بآخر ، وبعض الاحيان أيضاً يتم القاء القبض علىٰ بعض المقامرين ، ولكن يجب الاعتراف وللأسف الشديد انه يتم القاء القبض علىٰ مقامري الارصفة الذين يتراهنون علىٰ خمسة وعشرة ريالات ! فهؤلاء يجب ان تلقي عليهم الشرطة القبض ، في حين ان كبار المقامرين الذين يمارسون اللعبة بمبالغ طائلة وفي افخم الفنادق والنوادي الليلية لا احد يستطيع مطاردتهم او مجرد التعرض لهم والاستفسار منهم.

٤٠٩

الصحافة

وعندما وصل الحديث الىٰ هنا ، فتح باب الغرفة فجأة ودخل بائع الصحف وهو يحمل مجموعة من الصحف والمجلات ، وينادي بصوته الجهوري وبلحن خاص : صحف مجلّات اسبوعية شهرية

التفت الدكتور الىٰ الشيخ وقال له : تسمح بشراء مجلة ؟ فأجابه الشيخ بحزم : لا.

فأنصرف الدكتور من شراء مجلة لمعارضة الشيخ ، اما بائع الصحف فقد ترك الغرفة هو غير راضٍ.

حسن الطالب الجامعي : ايّها الشيخ تعتبر الصحافة الدعامة الرابعة للديمقراطية ، وهدفها مستوىٰ الوعي عند الشعب ، فلماذا تعارضها ؟!

الشيخ : كان من الافضل للديمقراطية(1) ان لا يكون لها اكثر من ثلاثة دعامات ( نظراً للحالة التي عليها بلدنا ). لانه وعلىٰ الرغم من جيمع هذه الصحف والمجلات التي تصدر في بلادنا ـ بأستثناء عدد قليل منها ـ لم تأتي بنتيجة سوىٰ فساد الاخلاق ، وتعليم شبابنا وشاباتنا الرذيلة ، فأغلب صحفنا

________________

(1) ذكر المؤلف في النص بدل كلمة الديمقراطية ، كلمة المشروطة وهو تعبير عن الملكية الدستورية ، وقد انتشر هذا المصطلح بعد ثورة الدستور التي قامت في ايران سنة 1906 م. ( المترجم )

٤١٠

ومجلاتنا اليوم خصّصت أفضل صفحاتها لراقصات وفنانات هوليود(1) ، واكثر مسؤولي الصحف والمجلات في البلاد يرتزقون من عرض سيقان وعيون وصدور ، وبشكل عام مفاتن النساء الساقطات ونجوم السينما ، ممّا قلّل الحياء والعفّة والفضيلة في المجتمع.

ان صفحات الصحف والمجلات مليئة بمقالات تدعو للأباحية وقصص شهوانية وتعليمات جنسية للشباب والشابات ، والتعريف بملكات الجمال ، وصور عارية او نصف عارية ودعوات للشباب بالحرية المطلقة ونبذ ما يسمىٰ بالحياء والعفّة !

لقد نشرت احدىٰ الصحف الكبرىٰ في البلاد(2) مسابقة وطلبت من القراء المشاركة في الحلّ ، وكان موضوع المسابقة ، ان امرأة متزوجة ولها اطفال عشقت شاباً آخراً ، فما هو الحلّ المقترح لمشكلتها ؟!

ومن بين الاجوبة التي وصلت من قراء الصحيفة ، كتب احدهم حلّا بعنوان « حافظي علىٰ كلاهما » ، ويقترح عليها البقاء مع زوجها من جهة والحفاظ علىٰ علاقة غير شرعية مع عشيقها ! وبمنتهىٰ الوقاحة نشرت الصحيفة ذلك الجواب بين الاجوبة التي وصلتها.

اجل هذا هو معنى توجيه الرأي العام الذي تتبناه صحافتنا.

________________

(1) Hollywood مدينة صغيرة في ولاية كاليفورنيا في جنوب غربي امريكا ، وهي من اهم مراكز الانتاج السينمائي في العالم.

(2) صحيفة كيهان.

٤١١

اصدقائي الاعزاء !

للأسف الشديد ليس في هذا البلد يد قوية تنتقم من اصحاب الاقلام الخونة والعملاء علىٰ ما يقومون به من افساد لأفكار واخلاق المجتمع.

والصحف والمجلات التي اغلبها ترتزق من خزانة الحكومة وجيوب المسؤولين والناشرين تقوم بنشر سياستهم ومقاصدهم ، وهذه الصور الفاضحة التي تنشر في صحافتنا ما هي إلّا افيون لتخدير الناس واغفالهم عما يقوم به اصحاب السلطة والمال من جرائم ومفاسد.

الصحافة وقوانين الدولة

العقيد : من اجل الحيلولة دون حدوث مثل تلك المفاسد وضعت الدولة وضمن قانون الصحافة عقوبات شديدة علىٰ انحرافات المجلات والصحف الاخلاقية.

الشيخ : لا يوجد في قانون الصحافة سوىٰ مادتين لمعاقبة المقالات المنافية للعفة والاخلاق العامة ، وهاتان المادتان ، هما :

الاُولى : المادة 19 من قانون الصحافة ، تقول : « يحكم بغرامة من الف ريال الىٰ عشرة آلاف ريال علىٰ الجرائم التالية :

أ ـ نشر مقالات مضرّة بالعفّة العامة والاخلاق الحسنة.

ب ـ نشر صور سيئة.

ج ـ نشر اعلانات او صور تخالف الاخلاق الحسنة والآداب والتقاليد

٤١٢

القومية.(1)

الثانية : المادة الثانية من قانون عقوبات الصحافة : « المادة 38 من قانون الصحافة » : يمكن ايقاف الصحيفة التي تنش مقالات تضر بالعفّة العامة او صور سيئة منافية للعفّة ، قبل صدور حكم من قبل المحكمة(2) .

كما ان هناك مادة ثالثة ، هي ضمن قانون العقوبات العام والخاصة بالاخلاق والعفّة العامة ، لكنه يمكن الاستفادة منها في الصحافة ، وقد جاء فيها ـ وهي المادة 211 من قانون العقوبات :

« يحكم علىٰ الاشخاص التالين بالسجن التأديبي من ستّة اشهر الىٰ ثلاث سنوات وبدفع غرامة من 250 ريال الىٰ5000 ريال :

الاشخاص الذين يسهلون افساد الاخلاق الشباب الذين يقل عمرهم عن 18 سنة سواءً كانوا ذكوراً أم اناث(3) .

سيادة العقيد ! هذه المواد القانونية الثلاث هي قمّة الضغط الذي توجهه الدولة علىٰ مديري الصحف والمجلات فيما لو نشروا مقالات او صور منافية للعفّة والاخلاق ، لكنه ليس هناك من يسأل هؤلاء المشرعين المهمتين جداً بالعفّة والاخلاق ! هل ان اخلاق وعفة شعب هذا البلد لا تساوي قيمتها عندكم اكثر من مئة تومان ؟! وهل ان جزاء من يعتدي علىٰ عفّة شباب وشابات هذا البلد ، هو دفع مئة تومان فقط ؟! ومن هنا يمكن معرفة قيمة العفّة والاخلاق

________________

(1) كتاب قوانين العقوبات.

(2) م. ن.

(3) م. ن.

٤١٣

العامة عند مشرعي قوانين هذا البلد.

نعم ، لو كانت العفّة والاخلاق تساوي عند حكام هذه البلاد اكثر من مئة تومان ، لما بلغت الصحافة هذه الدرجة من الحرية والوقاحة التهتّك ، ولما اصبحت بعض الصحف والمجلات دور نشر للفساد والرذيلة بين شبابنا وشاباتنا ، ولما تطاوت في ترغيب النساء والمتزوجات علىٰ اقامة علاقات غير شرعية مع الشباب المستهتر.

ان الاساليب المنحطة التي تتبعها صحافتنا تذكرنا بقول الدكتور الكسيس كارل ، حيث يقول في بحث له :

« لقد جعل انتشار الصحف ودور السينما والاذاعات المستوىٰ الفكري في ادنىٰ مراتبه »(1) .

سيادة العقيد ! وبغض النظر عن كل ذلك ، نقول : لماذا لا تطبق الدولة هذه المواد القانونية الناقصة التي ذكرناها ايضاً بحق بعض مديري ورؤساء تحرير الصحف الخونة ، والجواب واضح فإنَّ الدولة تتصور أنه في حال تطبيق هذه القوانين الناقصة ، فإنَّ عليها اغلاق جميع الصحف والمجلات ، باستثناء عدد قليل منها ، ( مع ان المسبب الرئيس في ايجاد مثل هذا الوضع هو الدولة نفسها ).

لانه ، أية مجلة او صحيفة تنشر مقالاً او قصة منافية للأخلاق والعفّة ؟! واية نشرة تصدر في هذا البلد ولا تجد علىٰ صفحاتها صور قبيحة ( علىٰ حد

________________

(1) الانسان ذلك المجهول.

٤١٤

قولهم ) او صور خلاعية فاضحة ؟ واية صحيفة او مجلة تخلو من دعوات مجون او تعليمات جنسية للشباب ( ذكوراً واناث ) ؟!

هل يلام الشعب علىٰ ما تفعله الصحافة

الدكتور : ارىٰ ان الناس يتحمّلون لحدّ ما ما تقوم به الصحافة من تصرفات.

الشيخ : صحيح ، فهذا شيء لا يمكن انكاره ، لان صحافة كل بلد هي المعبّر عن افكار شعبه ، فلو كان الناس غير راغبين بتلك المقالات الفاضحة والصور الخليعة والمهيّجة ، لما عملت الصحافة بهذا الانفلات غير المحدود.

ففي بلدنا تجد المجلة او الصحيفة التي تتفنن في عرض اجساد ومفاتن النساء الفاحشات ، والراقصات ونجوم السينما ، هي المجلة او الصحيفة الاكثر مبيعاً من غيرها ، علىٰ العكس من الصحف والمجلات الدينية التي ينحصر قراءها بأقلية من الناس.

يذكر احد علماء طهران : كانت هناك صحيفة اسبوعية تصدر في طهران ، وكان صحيفة وقورة وعلمية ومفيدة ، وفي احد الاسابيع رأيت علىٰ الصفحة الاولىٰ منها صورة لاحدىٰ نجمات هوليود ودون اية مناسبة ، فأتصلت هاتفياً برئيس تحريرها وقلت له ان صحيفتكم كانت لها حالة خاصة ومكانة علمية ، لكنها في هذا العدد غيّرت مسارها ، واصبحت تضع علىٰ صفحتها الاولىٰ صور الراقصات وفواحش اوروبا وامريكا ، فأجابني رئيس التحرير : ما العمل يا

٤١٥

سيدي ! لقد اجبرنا الناس علىٰ الانحراف ! لاننا بعنا من هذا العدد وبسبب الصورة التي نشرناها ، اضعاف الاسابيع الماضية ، وقد تلاقفها الناس من البائعين.

اجل يا سعادة الدكتور ! لا يمكن انكار هذه الحقيقة ، وهي ان قسم كبير من التقصير والذنب في هذا المجال يقع علىٰ عاتق فئة غير ملتزمة من الشعب ، ولكن يجب ان لا ننسىٰ ، ان المجلات والصحف ليست مسؤولة عن تنفيذ كل ما يريده القراء ، ذلك لان الصحافة وكما قلتم الدعامة الاساسية للديمقراطية ، وهي مسؤولة عن ارشاد الناس وتوجيه افكارهم ، فلو فرضنا حدوث انحراف اخلاقي عند الشعب ، فيجب علىٰ قادتهم الفكريين ان يصححوا هذا الاعوجاج ويقوّموا هذا الانحراف بكل طاقاتهم وقدراتهم.

والأهم من كل ذلك ، هو ان الذنب في ذلك يقع علىٰ الحكومة ، لانه لو كانت هناك متابعة ومحاسبة لما اجازت الدولة للصحافة العمل علىٰ هواها دون قيد او رادع ، لكن حقيقة الامر هو ان الدولة فسحت لهم المجال ( كما هو الحال في السينما وسائر وسائل الاعلام ) لنشر هدة الفضائح والصور والكلمات اللاخلاقية ، لان الهدف ، من جهة ، هو اغفال القوىٰ الشابة من خلال افسادها عما يحدث في البلد والمجتمع من نهب وفساد ، ولكي لا يشخصوا السبب والعامل الاساسي في ما يعانيه المجتمع من مشاكل ومآسي ، ولكي لا يفكروا بحلّ لذلك ، ومن جهة اخرىٰ ، اليست الصحافة هي مذياع للحكومة نوعاً ما ، وانها لاتتحدث إلّا بمطالبها وتوقعاتها ، اذن ففي هذه الحالة تكون المعاملة ذات طرفين ، وعلىٰ الدولة ايضاً ان تفسح لهم المجال تماماً ( إلّا في نشر الحقائق والدفاع عن المحرومين والمظلومين ) ؟!

٤١٦

اجل ، قبل اربعة عشر قرناً ، أقسم القرآن الكريم بـ « القلم » فقال :( ن ، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) ، لكن يجب ان نعرف ان قدسية القلم تكون ما دام في خدمة المستضعفين والمحرومين والكادحين ، لا في دفاعه عن الجبابرة والمستثمرين ومصالحهم.

٤١٧

علماء الدين وتأثيرهم في المجتمع

وفي تلك اللحظة مرّ بجانب الغرفة اثنان من علماء الدين ، فنهض الشيخ لرؤيتهم وفتح باب الغرفة وسلّم عليهم ، وما ان رآه الرجلان حتىٰ ابتسما وهم يردان عليه جواب سلامه ويقولان : السيد رستگار ! ما الذي يفعله هنا ! فقال الشيخ : كنت ذاهباً الىٰ بندر شاه لشراء القطن وها انا عائد الىٰ طهران ، ومن هناك الىٰ همدان ، ثم اخذ الثلاثة يتكلمون في امور مختلفة وبعد دقائق ودّع العالمان الشيخ وذهبا ، فعاد الشيخ الىٰ الغرفة وجلس في مكانه.

الدكتور : ايّه الشيخ ! هذان الرجلان من اقربائك ؟

الشيخ : لا ، لكنهم من اصدقائي وابناء مدينتي همدان وانا احبهم كثيراً.

العقيد : بالعكس ، اني لست فقط لا احب هؤلاء المعممين ، بل لا استطع ان اعرف الىٰ الآن ما هو عملهم في المجتمع وما هي مكانتهم فيه ؟

الشيخ : سيادة العقيد ، استمح لي بمزحة معك شرط ان لا تتأثر ؟

العقيد : تفضّل ايّها العم ، واطمئن انني لن اتأثر او انزعج.

الشيخ : قولك انني لا احب المعممين ، يذكرني بقول الدكتور علي شريعتي ، في احدىٰ خطاباته : كما ذكرت سابقاً ، سنة 1960 عقدنا جلسة في اتحاد الطلبة في فرنسا ، وكان هناك شخص بارز تعرفونه جميعكم ( وهو من اسرة مرموقة أيضاً ). كان يتكلّم ، فقال في بعض كلامه : « انا لا احب

٤١٨

الاسلام وكلما رأيت معمماً شعرت بحالة تقيء ! وهكذا كلما رأيت منبراً او مجلساً دينياً لان الدين من عوامل الاستعمار و الملالي كانوا علىٰ الدوام عملاء الاستعمار واساساً انا لا احب الدين ». وكلام آخر من هذا القبيل.

وفي تلك اللحظة نهضت وقلت : « صاحب الفخامة ! انت تتكلم مثل امرأة تتوحم بطفلها الاول ، فتدلّل علىٰ زوجها وتقول : احب الطرشي ، لا احب الحلويات احب ان آكل كذا ولو انني اتقيء من الاكل الفلاني لقد جعلت من الدين والأيديولوجية مجرد اكلة ! تحب بضها وتكره البعض الآخر فماذا تتصور الدين حتىٰ تحبه أو لا تحبه ؟ ان نفي او اثبات الدين يحتاج الىٰ دليل عقلي وعلمي لا شعور واحاسيس شخصية !(1)

والآن يا سيادة العقيد ، هل انك أيضاً تشعر بحالة من ( الوحم ) بالنسبة للمعممين ؟!

ـ هناك ضحك الجميع بصوت عالي.

العقيد : كانت مزحة لطيفة ، لكني اطمئنك انني لا اعيش حالة ( الوهم ) بالنسبة للمعممين ، لكني اود ـ حقيقة ـ ان احصل علىٰ معلومات عنهم وان اعرف لماذا تسمىٰ هذه الفئة بالروحانيين ؟

الشيخ : فلسفة ظهور فئة معيّنة في المجتمع الاسلامي بأسم « العلماء » او الروحانيون فواضحة من بعديها الاسلامي والاجتماعي. لكنه يمكن الحصول

________________

(1) كتاب « القاسطين والمارقين والناكثين » : 241.

٤١٩

علىٰ هذه الحقائق من منظار الاسلام ، ومنها :

أ ـ مايعبّر عنه القرآن الكريم بـ :

( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1) ، ففي هذه الآية يأمر الله عزّ وجلّ أن تقوم فئة من كل قوم بتعلم المسائل الدينية والنفقة فيها ، وطبيعي ان يشكل هؤلاء فئة معيّنة في المجتمع تمتاز عن الباقين بوعيها وتخصصها في المسائل الاسلامية.

وفي موضع آخر ، يقول القرآن :

( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2) .

ويقول أيضاً :

( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (3) . وفي هذه الآية أيضاً يتحدّث القرآن عن فئة معيّنة وهم « اهل الذكر » الذين يجب رجوع الآخرين اليهم :

ب ـ هناك العديد من الآيات القرآنية. تحدثت في مناسبات مختلفة عن « العلماء » ، واعتبرتهم فئة خاصة تقع عليها مسؤوليات مهمة وحساسة في

________________

(1) سورة التوبة : 122.

(2) سورة آل عمران : 104.

(3) سورة النحل : 43.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ) (١) .

وهو إشارة إلى أن وعد الله قد تحقق عمليا في إتيان العباس خيرا ممّا أخذ منه.

ويعرف من هذا الحديث أنّ النّبي كان في صدد أن يعوض الأسرى الذين أسلموا عمّا أخذ منهم ، ترغيبا وتشويقا ، وأن يعيد إليهم أموالهم المأخوذة منهم بصورة أحسن.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٦٨.

٥٠١

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(٧٥) )

٥٠٢

التّفسير

أربع طوائف مختلفة :

تبحث هذه الآيات التي تختتم بها سورة الأنفال ـ وتعدّ آخر فصل من فصولها ـ عن طوائف المهاجرين والأنصار والطوائف الأخرى من المسلمين وبيان قيمة هؤلاء جميعا ، فتعطي كل طائفة قيمة ، وتستكمل ما تناولته الآيات السابقة في شأن الجهاد والمجاهدين.

وبتعبير آخر : إنّ هذه الآيات عالجت نظام المجتمع الإسلامي من حيث العلائق المختلفة ، لأنّ خطة الحرب وخطة الصلح كسائر الخطط والمناهج العامّة ، لا يمكن أن يتمّ أيّ منها دون تكوين علاقة اجتماعية صحيحة ، وأخذها بنظر الإعتبار.

وقد تناولت هذه الآيات خمس طوائف ، أربع منها من المسلمين ، وواحدة من غير المسلمين ، والطوائف الأربع هي :

١ ـ المهاجرون السابقون.

٢ ـ الأنصار في المدينة.

٣ ـ المؤمنون الذين لم يهاجروا.

٤ ـ الذين آمنوا من بعد وهاجروا.

فتقول الآية الأولى من الآيات محل البحث( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) .

فقد أشير في هذا القسم من الآية إلى الطائفتين ، الأولى والثّانية [المهاجرون ، والأنصار] أي الذين آمنوا في مكّة ثمّ هاجروا منها إلى المدينة ، والذين آمنوا في المدينة ثمّ آزروا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصروه ودافعوا عنه وعن المهاجرين ، وقد وصفتهم الآية بأنّهم بعضهم أولياء بعض ، وبعضهم حماة بعض.

٥٠٣

والذي يسترعي النظر أنّ الآية وصفت الطائفة الأولى بأربع صفات هي : الإيمان ، والهجرة والجهاد المالي والاقتصادي «وذلك عن طريق الإعراض عن أموالهم في مكّة ، وما بذلوه من أموال في غزوة بدر» ، والصفة الرّابعة جهادهم بأنفسهم ودمائهم وأرواحهم.

أمّا الأنصار فقد وصفتهم الآية بصفتين هما : الإيواء ، والنصرة.

وقد جعلت هذه الآية الجميع مسئولين بعضهم عن بعض ، ويتعهد كلّ بصاحبه بقولها( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) .

فهاتان الطائفتان ـ في الحقيقة ـ كانتا تمثلان مجموعتين متلازمتين لا يمكن لأحدهما الاستغناء عن الأخرى ، إذ منهما يتكون نسيج المجتمع الإسلامي ، فهما بمثابة «المغزل والخيط».

ثمّ تشير الآية إلى الطائفة الثّالثة فتقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ) .

ثمّ استثنت في الجملة التي بعدها مسئولية واحدة فحسب ، وأثبتتها في شأن هذه الطائفة ، فقالت :( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) .

وبتعبير آخر : يلزم الدفاع عن أولئك في صورة ما لو أصبحوا قبال عدوّ مشترك ، أمّا إذا واجهوا كفارا بينكم وبينهم عهد وميثاق ، فإنّه يجب الوفاء بالعهد والميثاق ، وهي مقدمة على الدفاع في هذه الصورة.

وحضّت الآية على رعاية العهود والمواثيق والدقة في أداء هذه المسؤولية ، ومنبهة إلى علم الله بكل الأمور ، فقالت :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

فهو يرى جميع أعمالكم ويطلع على ما تفعلون من جهاد ، أو أداء للوظيفة الملقاة على عاتقكم ، أو إحساس بالمسؤولية ، كما يعلم بمن لم يعتن بالأمر ، وكذلك بالوهن والضعف وعدم الإحساس بالمسؤولية إزاء هذه الوظائف

٥٠٤

الكبيرة.

أمّا الآية الثّانية فتشير إلى النقطة المقابلة للمجتمع الإسلامي ، أي مجتمع الكفر وأعداء الإسلام ، فتقول :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) .

أي أنّ علاقاتهم منحصرة فيما بينهم ، ولا يحق لكم أن تتعاهدوا معهم ، أو تحاموا عنهم ، أو تطلبوا منهم النصرة لأنفسكم ، أو تلجؤوهم وتؤووهم إليكم ، أو تأووا وتلتجئوا إليهم.

وبعبارة موجزة : لا يحق للكفار أن يدخلوا في نسيج المجتمع الإسلامي ، ولا يحق للمسلمين أن يدخلوا في نسيج الكفار.

ثمّ تنبه الآية المسلمين وتحذرهم من مخالفة هذا التعليم ، فتقول :( إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ ) .

وأي فتنة وفساد أكبر من تهميش انتصاركم ، وسريان دسائس الأعداء في مجتمعكم ، وتخطيطهم لهدم دينكم دين الحق والعدل.

أمّا في الآية التالية فنجد تأكيدا على مقام المهاجرين والأنصار مرّة أخرى ، وما لهما من موقع وأثر في تحقق أهداف المجتمع الإسلامي ، فتثني عليهم الآية بقولها :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ) .

لأنّهم هبوا لنصرة الإسلام في الأيام الصعبة الشديدة وفي الغربة والمحنة وقد اشترك كل فرد منهم بنوع من النصرة لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) .

فهم فائزون بثواب الله والنعمة الأخروية ، كما أنّهم يتمتعون في هذه الدنيا بالعزة ورفعة الرأس والكرامة.

أمّا الآية الأخيرة فتشير إلى الطائفة الرّابعة من المسلمين ، أي أولئك الذين آمنوا وهاجروا من بعد ، فتقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا

٥٠٥

مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ) .

أي أنّ المجتمع الإسلامي ليس مجتمعا منغلقا ومحصورا على نفسه ، بل أبوابه مفتوحة لجميع المؤمنين والمهاجرين والمجاهدين ، وإن كان للمهاجرين الأوائل مقام خاص ومنزلة كريمة ، إلّا أنّ ذلك لا يعني أن المؤمنين الجدد والمهاجرين في المستقبل لا يعدّون جزاء من المجتمع الإسلامي ولا يكونون من نسيجه.

وتشير الآية في ختامها إلى ولاية الأرحام بعضهم لبعض ، وأوليتها فيما جعله الله في عبادة من أحكام ، فتقول :( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الآيات السابقة تتكلم عن ولاية المؤمنين والمسلمين العامّة «بعضهم إلى بعض» أمّا هذه الآية محل البحث فتؤكّد هذا الموضوع في شأن الأرحام والأقارب ، فهم إضافة إلى ولاية الإيمان والهجرة يتمتعون بولاية الأرحام أيضا ، ومن هنا فهم يرثون ويورثون بعضهم بعضا ، إلّا أنّه لا إرث بين غيرهم من المؤمنين الذين لا علاقة قربى بينهم.

فبناء على ذلك فإنّ الآية الأخيرة لا تتكلم عن الإرث ، بل تتكلم عن موضوع واسع من ضمنه موضوع الإرث.

وإذا وجدنا في الرّوايات الإسلامية ، وفي الكتب الفقهية ، استدلالا بهذه الآية والآية المشابهة لها في سورة الأحزاب على الإرث ، فلا يعني ذلك أن الآي الذي استدل به على الإرث منحصر بهذا الشأن فحسب ، بل توضح قانونا كليّا ، والإرث جزء منه. ولهذا نجد أنّه استدل بهذه الآية محل البحث على موضوع خلافة النّبي مع أنّها غير داخلة في موضوع الإرث المالي.

واستدل بها على أولوية غسل الميت ، كما صرّحت به الرّوايات الإسلامية.

وبملاحظة ما ذكرناه آنفا يتّضح أنّه لا دليل على ما أصر عليه جماعة من

٥٠٦

المفسّرين على انحصار هذه الآية بمسألة الإرث ، وإذا أردنا أن نختار مثل هذه التّفسير فإنّ السبيل الوحيد له أن نعده مستثنيا الإرث من الولاية المطلقة ، التي بيّنتها الآيات السابقة لعامّة المهاجرين والأنصار ، فنقول : إنّ الآية الأخيرة تقول بأنّ ولاية المسلمين العامّة بعضهم لبعض لا تشمل الإرث.

وأمّا الاحتمال بأنّ الآيات السابقة تشمل الإرث أيضا ثمّ نسخت الآية الأخيرة هذا الحكم منها ، فيبدو بعيدا جدّا ، لأنّ الترابط في المفهوم بين هذه الآيات جميعا من الناحية المعنوية ، بل حتى التشابه اللفظي ، كل ذلك يدل على أنّ الآيات نزلت معا في وقت واحد. وبهذا لا يمكن القول بالتناسخ بين هذه الآيات.

وعلى كل حال فإنّ التّفسير الأكثر تناسبا لهذه الآيات هو ما بيناه آنفا.

وفي آخر جملة من هذه الآية ـ التي هي آخر جملة من سورة الأنفال أيضا ـ يقول الله سبحانه :( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

فما نزل في هذه السّورة من أحكام تتعلق بالأنفال وغنائم الحرب ، وتعاليم الجهاد والصلح ، وأحكام الأسرى والحرب ، وما يتعلق بالهجرة وغيرها ، كل ذلك كان وفق حساب دقيق يتلاءم وروح المجتمع الإنساني ، والعواطف والبشرية ، والمصالح العامّة في جميع جوانبها المختلفة.

* * *

ملاحظات

١ ـ الهجرة والجهاد

إنّ دراسة التاريخ الإسلامي تدلّ على أن هذين الموضوعين كانا من عوامل انتصار المسلمين الرئيسية قبال عدوّهم ، فلولا الهجرة لتمّ دفن الإسلام في مكّة ، ولولا الجهاد لما اتسعت رقعة الإسلام ، فالهجرة أخرجت الإسلام من منطقة

٥٠٧

خاصّة إلى مداه الرحب وصيرته عالميّا ، والجهاد علّم المسلمين أنّهم إذا لم يعتمدوا على قدراتهم فإنّ عدوّهم الذي لا يلتزم بأيّة مقررات سوف لا يعترف لهم بأدنى حقّ. سوف لا يعطيهم حقوقهم المشروعة ، ولا يصيخ لهم سمعا أبدا.

واليوم إذا أردنا انقاذ الإسلام من الطرق المسدودة ، وإزاحة الموانع التي جعلها الأعداء في طريقه من كل جهة ، فلا سبيل إلى ذلك إلّا باحياء هذين الأصلين : الهجرة والجهاد.

فالهجرة توصل صوت المسلمين إلى أسماع العالم كله ، وتروي ظمأ القلوب المتعطشة للحق والعدل ومن هو في شوق إلى معرفة الحقيقة.

والجهاد يهب المسلمين التحرك والحياة ، ويبعد أعداءهم الذين لا ينفعهم إلّا منطق القوة عن قارعة الطريق ويبيدهم.

وقد حدثت الهجرة في الإسلام مرارا. فكانت هجرة المسلمين من مكّة إلى الحبشة حيث غرسوا بها الإسلام خارج الجزيرة العربية وبنوا فيها حصنا للمسلمين الأوائل قبال ضغوط أعدائهم.

ثمّ هجرة النّبي والمسلمين الأولى إلى المدينة ، ولهؤلاء المهاجرين الذين يطلق عليهم (مهاجرو بدر) أهمية قصوى في تأريخ الإسلام ، لأنّهم اتّجهوا ظاهرا نحو مستقبل مجهول مظلم ، وغضوا ابصارهم عن جميع ما ملكوه في سبيل الله ، وأعرضوا عن حطام الدنيا.

هؤلاء المهاجرين أي : «المهاجرون الأوّلون» مثلوا في الحقيقة الحجر الأساس لصرح الإسلام العظيم ، والقرآن يثني عليهم بالتكريم والتعظيم ، ولوليهم عناية خاصّة ، لأنّهم كانوا من أشد المسلمين تضحية.

«الهجرة الثّانية» أطلقت على هجرة طائفة أخرى من المسلمين إلى المدينة ، وذلك بعد صلح الحديبية والحصول على محيط آمن نسبيا بعد هذا الصلح ، وقد تطلق الهجرة على كل مهاجر من مكّة إلى المدينة حتى بعد واقعة

٥٠٨

بدر ، وإلى زمان فتح مكّة.

أمّا بعد فتح مكّة فقد انتفت الهجرة من مكّة إلى المدينة ، لأنّ مكّة أصبحت مدينة إسلامية أيضا ، والحديث النبوي المشهور «لا هجرة بعد الفتح» يشير إلى هذا المعنى.

لكن هذا الكلام لا يعني أن مفهوم الهجرة زاك من قاموس مبادئ الإسلام كليّا كما يتصور بعضهم ، بل الهجرة من مكّة إلى المدينة انتفى موضوعها ، وإلّا فمتى ما حدثت ظروف كظروف المسلمين الأوائل فقانون الهجرة باق على قوته ، وسوف يبقى ما دام الإسلام يتسع حتى يستوعب العالم أجمع.

ومع الأسف الشديد فإنّ أغلب المسلمين لنسيانهم هذا الأصل الإسلامي المهم انغلقوا على أنفسهم ، بينما نرى المبشرين المسيحيين والفرق الضالة والاستعمار يهاجرون إلى أنحاء المعمورة كلها ، ويذهبون حتى إلى القبائل أو الطوائف المتوحشة ممن يأكلون لحوم البشر في مجاهيل أفريقيا ، ويجوبون القطبين المتجمدين الشمالي والجنوبي في سبيل تحقيق أهدافهم ، مع أن هذه مهمّة المسلمين في الواقع ، إلّا أن العمل أضحى من الآخرين!

والأعجب من ذلك وجود الكثير من القرى في جوار المدن الإسلامية الكبرى ، وبمسافة لا تبعد كثيرا عنها ، إلّا أن أهلها لا يعرفون عن الإسلام شيئا ، ولا يعرفون أحكامه ، وربّما لم يروا وجه مبلغ إسلامي هناك أبدا. لهذا فإنّ محيطهم مستعد لنشوء جراثيم الفساد والمذاهب المختلقة والبدع التي يفتعلها «الاستعمار» ولا ندري بماذا يجيب المسلمون ربّهم يوم القيامة ـ وهم ورثة المهاجرين الأوائل ـ إزاء هذه الحال المزرية؟!

وبالرغم من مشاهدة تحرك في هذا الصدد أخيرا ، إلّا أنّه محدود وغير كاف ابدا.

وعلى أية حال ، فإن موضوع الهجرة وأثرها في تاريخ الإسلام ومصير

٥٠٩

المسلمين أكبر من أن نأتي على جميع جوانبه بهذا الاختصار (ولنا كلام بهذا الشأن لدى تفسير الآيات التي تتناول هذا الموضوع إن شاء الله ...).

٢ ـ المبالغة والإغراق في تنزيه الصحابة

حاول بعض إخواننا أهل السنة أن يستنتج من ما أولاه القرآن للمهاجرين السابقين «الأوائل» من اهتمام واحترام ، أنّهم لن يرتكبوا ذنبا إلى آخر عمرهم وحياتهم. وذهبوا إلى إكرامهم واحترامهم جميعا دون استثناء ، ودون الاعتراض على هذا وذاك ، وكيف ذلك؟! ثمّ عمموا هذا القول على جميع الصحابة ـ فضلا عن المهاجرين ـ وذلك لثناء القرآن عليهم في بيعة الرضوان وغيرها ، وذهبوا عملا إلى أنّ الصحابة ـ دون النظر إلى اعمالهم ـ أفراد متميزون. فلا يحق لأيّ شخص توجيه النقد لهم والتحقيق في سلوكهم. يجوز بأيّ وجه أن يوجه النقد إليهم.

ومن جملة هؤلاء المفسّر المعروف صاحب المنار ، إذ حمل في ذيل الآيات محل البحث حملة شعواء على الشيعة ، لأنّهم ينتقدون المهاجرين الأولين ، ولم يلتفت إلى أن مثل هذا الإعتقاد لا يتضاد وروح الإسلام وتاريخه!!

فلا ريب أنّ للصحابة ـ وعلى الخصوص المهاجرين منهم ـ حرمة خاصّة ، إلّا أنّ هذه الحرمة كانت قائمة ما داموا في طريق الحق ويضحّون من أجل الحق ، لكن من المقطوع به أن نظرة القرآن إلى بعضهم أو حكمه قد تغير منذ انحرف عن النهج القويم والصراط المستقيم.

فمثلا ، كيف يمكننا أن نبرئ طلحة والزبير من نقضهما بيعة إمامهما الذي انتخبه المسلمون «بغض النظر عن تصريح النّبي بمقامه وشأنه» وكانا من ضمن المسلمين الذين بايعوه؟ وكيف يمكن تبرأتهما من دماء سبعة عشر ألف مسلم قتلوا في حرب الجمل ، مع أنّه لا عذر لمن يسفك دم إنسان واحد أمام الله مهما

٥١٠

كان ، فكيف بهذا العدد الهائل الذين سفكت دماؤهم؟

ترى هل يمكن أن نعدّ عليّاعليه‌السلام وأصحابه في حرب الجمل على الحق كما نعدّ أعداءه فيها على الحق أيضا؟! ونعد طلحة والزبير ومن معهما من الصحابة على الحق كذلك؟! وهل يقبل العقل والمنطق هذا التضاد الفاضح؟

وهل يمكننا أن نغض النظر من أجل عنوان «تنزيه الصحابة» ولا نلتفت إلى التأريخ وننسى كل ما حدث بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونضرب عرض الجدار قاعدة( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) ؟

مالكم كيف تحكمون؟!

وما يمنع أن يكون الإنسان من أهل الجنّة ومؤيدا للحق يوما ، ويكون من أهل النّار ومؤيدا للباطل ومن أعداء الحق يوما آخر؟ فهل الجميع معصومون؟ألسنا نرى التغييرات في أحوال الأشخاص بأم أعيننا؟!

قصة «اصحاب الردّة» وارتداد جمع من المسلمين بعد رحلة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مذكورة في كتب أهل السنّة والشّيعة ، وأن الخليفة الأوّل تصدى لهم وقاتلهم ، فهل يعقل أنّ أحدا من «اصحاب الردّة» لم ير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكونوا في عدّة الصحابة؟

والأعجب من ذلك أنّ بعضا تشبث بالاجتهاد للتخلص من الطريق المسدود والتناقض في ذلك ، وقالوا : إن أمثال طلحة والزبير ومعاوية ومن لفّ لفهم قد اجتهدوا فأخطأوا وليسوا مذنبين ، بل هم مثابون مأجورون بأعمالهم من قبل الله! فما أفضح هذا المنطق؟!

فهل الثورة على خليفة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونقض البيعة وهدر دماء الآلاف من الأبرياء من أجل رئاسات دنيوية وحب المال ، موضوع معقد ومبهم ولا يعرف أحد ما فيه من سوء؟!

ترى هل في سفك كل تلك الدماء البريئة أجر وثواب عند الله؟!

٥١١

فإذا أردنا تبرئة جماعة من الصحابة ممّا ارتكبوه من جرائم ، فسوف لا نرى مجرما أو مذنبا في الدنيا ، وسنبرئ بهذا المنطق جميع القتلة والمجرمين والجبابرة.

إنّ مثل هذا الدّفاع غير المنطقي ـ عن الصحابة ـ سيسبب النظرة السيئة إلى أصل الإسلام.

والخلاصة ، أنّنا لا سبيل لنا إلّا احترام الجميع خاصّة أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما داموا لم ينحرفوا عن مسير الحق والعدل ومناهج الإسلام ، وإلّا فلا.

٣ ـ الإرث في قوانين الإسلام

كما أشرنا سابقا في تفسير سورة النساء ، فإنّ الناس في زمان الجاهلية كانوا يتوارثون عن ثلاث طرق :

١ ـ عن طريق النسب «وكان منحصرا بالأولاد الذكور ، أمّا الأطفال والنساء فهؤلاء محرومون من الإرث».

٢ ـ وعن طريق «التبني» بأن يجعل ولد غيره ولده.

٣ ـ وعن طريق العهد الذي يعبر عنه بالولاء(١) .

وفي بداية الإسلام كان العمل جاريا بهذه الطرق قبل نزول قانون الإرث ، إلّا أنّه سرعان ما حلّت الأخوة الإسلامية مكان ذلك ، وورث المهاجرون الأنصار فحسب ، وهم الذين تآخوا وعقدوا عهد الأخوة الإسلامية ، وبعد أن اتسع الإسلام أكثر فأكثر شرّع حكم الإرث النسبي والسببي ، ونسخ حكم الأخوة الإسلامية في الإرث.

وقد أشارت إليه الآيات ـ محل البحث ـ والآية (٦) من سورة الأحزاب ، إذ

__________________

(١) بحثنا موضوع الإرث بالولاء في الجزء الثّالث بصورة مفصلة.

٥١٢

تقول :( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) .

كل هذا مقطوع به من حيث التاريخ ، إلّا أنّه ـ كما قلنا من قبل ـ فإن جملة( وَأُولُوا الْأَرْحامِ ) الواردة في الآيات محل البحث لا تختص بمسألة الإرث ، بل هي ذات معنى واسع ، والإرث جزء منه.

٤ ـ ما المراد من الفتنة والفساد الكبير

احتمل المفسّرون في تفسير هاتين الكلمتين الواردتين في الآيات محل البحث احتمالات كثيرة ، إلّا أنّ ما ينسجم أكثر مع مفهوم هذه الآية هو أنّ المراد من «الفتنة» هو الاختلاف والتفرق وتزلزل مباني العقيدة الإسلامية على أثر وسوسة الأعداء ، و «الفساد» يشمل كل إخلال وتخريب للنظم الاجتماعية المختلفة وخاصّة سفك الدماء البريئة والإرهاب وأمثال ذلك.

وفي الحقيقة فإنّ القرآن المجيد ينذر المسلمين إذا لم يحكموا علائق الأخوة والتعاون فيها بينهم ، ولم يقطعوا ارتباطهم بالعدوّ ، فإنّ جماعتهم تزداد تشتتا يوما بعد يوم ، وبنفوذ الأعداء داخل المجتمع الإسلامي ووساوس إغواءاتهم تزلزل أسس الإيمان وقواعده ، ويبتلى المسلمون عن هذا الطريق بفتنة عظيمة.

وكذلك إذا لم تكن علائق اجتماعية قوية ، فإنّ العدو سرعان ما ينفذ إلى المجتمع وتحدث أنواع المفاسد من إرهاب وسفك الدماء ، وتضيع الأموال وإغواء الأولاد ، ويبدو الضعف والنقص واضحا في المجتمع ، ويعم الفساد الكبير كل مكان.

ربّنا ، أيقظ مجتمعنا الإسلامي بلطفك. ونبّهنا إلى أخطار التعاون مع الأعداء وتكوين العلاقة وإياهم. ونزّه مجتمعنا من الفتنة والفساد الكبير بنور المعرفة ووحدة الكلمة ، برحمتك يا أرحم الراحمين.

* * *

٥١٣
٥١٤

سورة التّوبة

وهي مدنيّة

وعدد آياتها مائة وتسع وعشرون آية فحسب

٥١٥
٥١٦

سورة التّوبة

ينبغي الالتفات إلى الأمور التالية قبل الشروع في تفسير السورة

١ ـ أسماء هذه السّورة

ذكر المفسّرون لهذه السّورة أسماء عديدة تبلغ العشرة ، غير أنّ المشهور منها هو ما يلي : سورة البراءة ، وسورة التوبة ، والسورة الفاضحة. ولكلّ من التسميات سبب جلي.

فالبراءة ، لأنّها تبتدأ بإعلان براءة الله من المشركين ، والذين ينقضون عهدهم. والتوبة ، لما ورد من مزيد الكلام عن التوبة في هذه السورة.

والفاضحة ، لما فيها من الآيات التي تكشف النقاب عن أعمال المنافقين لتعريتهم وخزيهم وفضيحتهم.

٢ ـ متى نزلت هذه السورة

هذه السورة هي آخر سورة نزلت على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من أواخر السور النازلة عليه في المدينة ، وهي كما قلنا ذات ١٢٩ آية فحسب.

والمعروف أن بداية نزول هذه السورة كانت في السنة التاسعة للهجرة ، ويدلّ تتبع آياتها على أنّ قسما منها نزل قبل معركة تبوك ، وقسما منها نزل عند الاستعداد للمعركة أو «الغزوة» ، وقسما منها نزل بعد الرجوع من المعركة والفراغ منها.

٥١٧

ومن بداية السورة حتى الآية (٢٨) نزل قبيل موسم الحج ، كما سنبيّن ذلك بعون الله ، والآيات الأولى ـ هذه ـ والتي تتعلق بمن بقي من المشركين بلّغها أمير المؤمنينعليه‌السلام في موسم الحج.

٣ ـ محتوى السّورة

لمّا كان نزول هذه السورة إبّان انتشار الإسلام في الجزيرة العربية ، وتحطيم آخر مقاومة للمشركين فقد كان لما حوته من مفاهيم أهمية بالغة ومواضيع حساسة. إذ يتعلق قسم منها بالبقية الباقية من عبدة الأوثان والمشركين ، وقطع العلاقات معهم ، وإلغاء المعاهدات والمواثيق التي كانت بينهم وبين المسلمين ، لنقضهم لها مرارا ، ليتم تطهير المحيط الإسلامي من رجس الوثنية إلى الأبد.

وحيث إن بعض الأعداء عند انتشار رقعة الإسلام وتحطيم قوى الشرك غيّر مظهره بغية النفوذ بين المسلمين ، ولتوجيه ضربة قاضية للإسلام من قبل المنافقين فإنّ قسما مهما من آيات هذه السورة تتحدّث عن المنافقين وعاقبهم ، وتحذر المسلمين منهم.

وبعض آيات هذه السورة تتحدّث عن الجهاد في سبيل الله وأهميته ، لأنّ الغفلة عن هذا الأمر الحياتي في ذلك الظرف الحساس تبعث على ضعف المسلمين وتقهقرهم أو انكسارهم.

كما أنّ قسما منه يكمل البحوث السابقة التي تناولت انحراف أهل الكتاب «اليهود والنصارى» عن حقيقة التوحيد ، وتتكلم عن انصراف علمائهم عن واجبهم في التبليغ وقيادة المجتمع.

وفي بعض آيات هذه السورة حثّ للمسلمين على الاتحاد ورص الصفوف ـ تعقيبا على ما جاء آنفا في الحث على الجهاد ـ وتوبيخ للمتخاذلين المتحرّفين أو الضعاف الذين يتذرعون بذرائع واهية للتخلص من هذا الواجب ، ثمّ إنّ فيها

٥١٨

ثناء على المهاجرين السابقين إلى الهجرة ، والصفوة من المؤمنين الصادقين.

وحيث سبّب انتشار الإسلام واتساع رقعة مجتمعه آنئذ ظهور حاجات مختلفة ينبغي توفيرها ، فقد عرضت بقية الآيات من هذه السورة موضوع الزكاة وتحريم تراكم الثروات واكتنازها ، ووجوب طلب العلم أو التعلّم وتعليم الجهلة ، وتناولت بحوثا متنوعة أخرى كقصة هجرة النّبي ، والأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال ، وأخذ الجزية من الأقليات الدينية غير الإسلامية كاليهود والنصارى ، وما إلى ذلك.

٤ ـ لم لم تبدأ هذه السورة بالبسملة؟

يجيب استهلال السورة على السؤال آنف الذكر فقد بدئت بالبراءة ـ من قبل الله ـ من المشركين ، وإعلان الحرب عليهم ، واتباع أسلوب شديد لمواجهتهم ، وبيان غضب الله عليهم ، وكل ذلك لا يتناسب والبسملة( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) الدالة على الصفاء والصدق والسلام والحب ، والكاشفة عن صفة الرحمة واللطف الإلهي.

وقد ورد هذا التعليل عن عليعليه‌السلام (١) .

ويعتقد بعض المفسّرين أن سورة براءة ـ في الحقيقة ـ تتمة لسورة الأنفال ، لأنّ الأنفال تتحدث عن العهود ، وبراءة تتحدث عن نقض تلك العهود ، فلم تذكر البسملة بين هاتين السورتين لارتباط بعضهما ببعض. وقد ورد عن الإمام الصادق هذا المعنى أيضا(٢) .

ولا مانع أن يكون السبب في عدم ذكر البسملة مجموع الأمرين آنفي الذكر

__________________

(١)جاء في مجمع البيان عن الشيخ الطبرسي عن علي عليه‌السلام أنّه قال «لم تنزل ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) على رأس سورة «براءة» لأنّ بسم الله للأمان والرحمة ونزلت براءة لرفع الأمان والسيف فيه!».

(٢) قال الطبري نقلا عن الإمام الصادقعليه‌السلام «الأنفال وبراءة واحدة!».

٥١٩

ـ معا ـ فالأوّل ناظر إلى الرواية الأولى «رواية الإمام علي» والثّاني يشير إلى رواية الإمام الصادقعليه‌السلام .

٥ ـ فضيلة هذه السورة وآثارها

أولت الرّوايات الإسلامية أهميّة خاصّة لتلاوة سورتي براءة والأنفال ، وممّا جاء في شأنهما عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال «من قرأ براءة والأنفال في كل شهر لم يدخله نفاق أبدا ، وكان من شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام حقّا».

وقد قلنا مرارا : إنّ ما ورد من أهمية قصوى في الرّوايات الإسلامية في قراءة مختلف السور لا يعني ظهور آثار تلك القراءة من دون تفكّر وتطبيق لمضامينها ، فنقول مثلا : من قرأ سورتي براءة والأنفال دون إدراك لمعانيهما فسيدرأ عنه النفاق ، ويكون من شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بل المراد في الحقيقة أن يكون مضمون السورة مؤثّرا في بناء شخصية الفرد والمجتمع ، ولا يتحقق ذلك إلّا بإدراك مغزى السورة واستيعاب معناها ، والاستعداد والتهيؤ لتطبيقها.

وحيث أن السورتين قد أوضحتا الخطوط العريضة العامّة في حياة المؤمنين الصادقين ومن في قبالهم من المنافقين ، وأنارتا الطريق للعاملين لا للمدّعين فحسب ، فستكون ثمرة تلاوتهما والإعتبار بمضمونيهما هو ما ذكرته الرواية وبهذا تكون التلاوة مؤثرة بنّاءة.

وأمّا من ينظر إلى القرآن وآياته الشريفة بشكل آخر ، فهو أبعد ما يكون عن روح هذا الكتاب التربوي الذي جاء لبناء الإنسانية وهدايتها.

وقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيان الأهمية القصوى لما نوهنا عنه من لطائف ، أنّه قال «نزلت عليّ براءة والتوحيد في سبعين ألف صف من صفوف الملائكة ، وكان كل صف منهم يوصيني بأهمية هاتين السورتين».

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606