الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245308 / تحميل: 6213
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ) (١) .

وهو إشارة إلى أن وعد الله قد تحقق عمليا في إتيان العباس خيرا ممّا أخذ منه.

ويعرف من هذا الحديث أنّ النّبي كان في صدد أن يعوض الأسرى الذين أسلموا عمّا أخذ منهم ، ترغيبا وتشويقا ، وأن يعيد إليهم أموالهم المأخوذة منهم بصورة أحسن.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٦٨.

٥٠١

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(٧٥) )

٥٠٢

التّفسير

أربع طوائف مختلفة :

تبحث هذه الآيات التي تختتم بها سورة الأنفال ـ وتعدّ آخر فصل من فصولها ـ عن طوائف المهاجرين والأنصار والطوائف الأخرى من المسلمين وبيان قيمة هؤلاء جميعا ، فتعطي كل طائفة قيمة ، وتستكمل ما تناولته الآيات السابقة في شأن الجهاد والمجاهدين.

وبتعبير آخر : إنّ هذه الآيات عالجت نظام المجتمع الإسلامي من حيث العلائق المختلفة ، لأنّ خطة الحرب وخطة الصلح كسائر الخطط والمناهج العامّة ، لا يمكن أن يتمّ أيّ منها دون تكوين علاقة اجتماعية صحيحة ، وأخذها بنظر الإعتبار.

وقد تناولت هذه الآيات خمس طوائف ، أربع منها من المسلمين ، وواحدة من غير المسلمين ، والطوائف الأربع هي :

١ ـ المهاجرون السابقون.

٢ ـ الأنصار في المدينة.

٣ ـ المؤمنون الذين لم يهاجروا.

٤ ـ الذين آمنوا من بعد وهاجروا.

فتقول الآية الأولى من الآيات محل البحث( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) .

فقد أشير في هذا القسم من الآية إلى الطائفتين ، الأولى والثّانية [المهاجرون ، والأنصار] أي الذين آمنوا في مكّة ثمّ هاجروا منها إلى المدينة ، والذين آمنوا في المدينة ثمّ آزروا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصروه ودافعوا عنه وعن المهاجرين ، وقد وصفتهم الآية بأنّهم بعضهم أولياء بعض ، وبعضهم حماة بعض.

٥٠٣

والذي يسترعي النظر أنّ الآية وصفت الطائفة الأولى بأربع صفات هي : الإيمان ، والهجرة والجهاد المالي والاقتصادي «وذلك عن طريق الإعراض عن أموالهم في مكّة ، وما بذلوه من أموال في غزوة بدر» ، والصفة الرّابعة جهادهم بأنفسهم ودمائهم وأرواحهم.

أمّا الأنصار فقد وصفتهم الآية بصفتين هما : الإيواء ، والنصرة.

وقد جعلت هذه الآية الجميع مسئولين بعضهم عن بعض ، ويتعهد كلّ بصاحبه بقولها( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) .

فهاتان الطائفتان ـ في الحقيقة ـ كانتا تمثلان مجموعتين متلازمتين لا يمكن لأحدهما الاستغناء عن الأخرى ، إذ منهما يتكون نسيج المجتمع الإسلامي ، فهما بمثابة «المغزل والخيط».

ثمّ تشير الآية إلى الطائفة الثّالثة فتقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ) .

ثمّ استثنت في الجملة التي بعدها مسئولية واحدة فحسب ، وأثبتتها في شأن هذه الطائفة ، فقالت :( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) .

وبتعبير آخر : يلزم الدفاع عن أولئك في صورة ما لو أصبحوا قبال عدوّ مشترك ، أمّا إذا واجهوا كفارا بينكم وبينهم عهد وميثاق ، فإنّه يجب الوفاء بالعهد والميثاق ، وهي مقدمة على الدفاع في هذه الصورة.

وحضّت الآية على رعاية العهود والمواثيق والدقة في أداء هذه المسؤولية ، ومنبهة إلى علم الله بكل الأمور ، فقالت :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

فهو يرى جميع أعمالكم ويطلع على ما تفعلون من جهاد ، أو أداء للوظيفة الملقاة على عاتقكم ، أو إحساس بالمسؤولية ، كما يعلم بمن لم يعتن بالأمر ، وكذلك بالوهن والضعف وعدم الإحساس بالمسؤولية إزاء هذه الوظائف

٥٠٤

الكبيرة.

أمّا الآية الثّانية فتشير إلى النقطة المقابلة للمجتمع الإسلامي ، أي مجتمع الكفر وأعداء الإسلام ، فتقول :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) .

أي أنّ علاقاتهم منحصرة فيما بينهم ، ولا يحق لكم أن تتعاهدوا معهم ، أو تحاموا عنهم ، أو تطلبوا منهم النصرة لأنفسكم ، أو تلجؤوهم وتؤووهم إليكم ، أو تأووا وتلتجئوا إليهم.

وبعبارة موجزة : لا يحق للكفار أن يدخلوا في نسيج المجتمع الإسلامي ، ولا يحق للمسلمين أن يدخلوا في نسيج الكفار.

ثمّ تنبه الآية المسلمين وتحذرهم من مخالفة هذا التعليم ، فتقول :( إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ ) .

وأي فتنة وفساد أكبر من تهميش انتصاركم ، وسريان دسائس الأعداء في مجتمعكم ، وتخطيطهم لهدم دينكم دين الحق والعدل.

أمّا في الآية التالية فنجد تأكيدا على مقام المهاجرين والأنصار مرّة أخرى ، وما لهما من موقع وأثر في تحقق أهداف المجتمع الإسلامي ، فتثني عليهم الآية بقولها :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ) .

لأنّهم هبوا لنصرة الإسلام في الأيام الصعبة الشديدة وفي الغربة والمحنة وقد اشترك كل فرد منهم بنوع من النصرة لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) .

فهم فائزون بثواب الله والنعمة الأخروية ، كما أنّهم يتمتعون في هذه الدنيا بالعزة ورفعة الرأس والكرامة.

أمّا الآية الأخيرة فتشير إلى الطائفة الرّابعة من المسلمين ، أي أولئك الذين آمنوا وهاجروا من بعد ، فتقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا

٥٠٥

مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ) .

أي أنّ المجتمع الإسلامي ليس مجتمعا منغلقا ومحصورا على نفسه ، بل أبوابه مفتوحة لجميع المؤمنين والمهاجرين والمجاهدين ، وإن كان للمهاجرين الأوائل مقام خاص ومنزلة كريمة ، إلّا أنّ ذلك لا يعني أن المؤمنين الجدد والمهاجرين في المستقبل لا يعدّون جزاء من المجتمع الإسلامي ولا يكونون من نسيجه.

وتشير الآية في ختامها إلى ولاية الأرحام بعضهم لبعض ، وأوليتها فيما جعله الله في عبادة من أحكام ، فتقول :( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الآيات السابقة تتكلم عن ولاية المؤمنين والمسلمين العامّة «بعضهم إلى بعض» أمّا هذه الآية محل البحث فتؤكّد هذا الموضوع في شأن الأرحام والأقارب ، فهم إضافة إلى ولاية الإيمان والهجرة يتمتعون بولاية الأرحام أيضا ، ومن هنا فهم يرثون ويورثون بعضهم بعضا ، إلّا أنّه لا إرث بين غيرهم من المؤمنين الذين لا علاقة قربى بينهم.

فبناء على ذلك فإنّ الآية الأخيرة لا تتكلم عن الإرث ، بل تتكلم عن موضوع واسع من ضمنه موضوع الإرث.

وإذا وجدنا في الرّوايات الإسلامية ، وفي الكتب الفقهية ، استدلالا بهذه الآية والآية المشابهة لها في سورة الأحزاب على الإرث ، فلا يعني ذلك أن الآي الذي استدل به على الإرث منحصر بهذا الشأن فحسب ، بل توضح قانونا كليّا ، والإرث جزء منه. ولهذا نجد أنّه استدل بهذه الآية محل البحث على موضوع خلافة النّبي مع أنّها غير داخلة في موضوع الإرث المالي.

واستدل بها على أولوية غسل الميت ، كما صرّحت به الرّوايات الإسلامية.

وبملاحظة ما ذكرناه آنفا يتّضح أنّه لا دليل على ما أصر عليه جماعة من

٥٠٦

المفسّرين على انحصار هذه الآية بمسألة الإرث ، وإذا أردنا أن نختار مثل هذه التّفسير فإنّ السبيل الوحيد له أن نعده مستثنيا الإرث من الولاية المطلقة ، التي بيّنتها الآيات السابقة لعامّة المهاجرين والأنصار ، فنقول : إنّ الآية الأخيرة تقول بأنّ ولاية المسلمين العامّة بعضهم لبعض لا تشمل الإرث.

وأمّا الاحتمال بأنّ الآيات السابقة تشمل الإرث أيضا ثمّ نسخت الآية الأخيرة هذا الحكم منها ، فيبدو بعيدا جدّا ، لأنّ الترابط في المفهوم بين هذه الآيات جميعا من الناحية المعنوية ، بل حتى التشابه اللفظي ، كل ذلك يدل على أنّ الآيات نزلت معا في وقت واحد. وبهذا لا يمكن القول بالتناسخ بين هذه الآيات.

وعلى كل حال فإنّ التّفسير الأكثر تناسبا لهذه الآيات هو ما بيناه آنفا.

وفي آخر جملة من هذه الآية ـ التي هي آخر جملة من سورة الأنفال أيضا ـ يقول الله سبحانه :( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

فما نزل في هذه السّورة من أحكام تتعلق بالأنفال وغنائم الحرب ، وتعاليم الجهاد والصلح ، وأحكام الأسرى والحرب ، وما يتعلق بالهجرة وغيرها ، كل ذلك كان وفق حساب دقيق يتلاءم وروح المجتمع الإنساني ، والعواطف والبشرية ، والمصالح العامّة في جميع جوانبها المختلفة.

* * *

ملاحظات

١ ـ الهجرة والجهاد

إنّ دراسة التاريخ الإسلامي تدلّ على أن هذين الموضوعين كانا من عوامل انتصار المسلمين الرئيسية قبال عدوّهم ، فلولا الهجرة لتمّ دفن الإسلام في مكّة ، ولولا الجهاد لما اتسعت رقعة الإسلام ، فالهجرة أخرجت الإسلام من منطقة

٥٠٧

خاصّة إلى مداه الرحب وصيرته عالميّا ، والجهاد علّم المسلمين أنّهم إذا لم يعتمدوا على قدراتهم فإنّ عدوّهم الذي لا يلتزم بأيّة مقررات سوف لا يعترف لهم بأدنى حقّ. سوف لا يعطيهم حقوقهم المشروعة ، ولا يصيخ لهم سمعا أبدا.

واليوم إذا أردنا انقاذ الإسلام من الطرق المسدودة ، وإزاحة الموانع التي جعلها الأعداء في طريقه من كل جهة ، فلا سبيل إلى ذلك إلّا باحياء هذين الأصلين : الهجرة والجهاد.

فالهجرة توصل صوت المسلمين إلى أسماع العالم كله ، وتروي ظمأ القلوب المتعطشة للحق والعدل ومن هو في شوق إلى معرفة الحقيقة.

والجهاد يهب المسلمين التحرك والحياة ، ويبعد أعداءهم الذين لا ينفعهم إلّا منطق القوة عن قارعة الطريق ويبيدهم.

وقد حدثت الهجرة في الإسلام مرارا. فكانت هجرة المسلمين من مكّة إلى الحبشة حيث غرسوا بها الإسلام خارج الجزيرة العربية وبنوا فيها حصنا للمسلمين الأوائل قبال ضغوط أعدائهم.

ثمّ هجرة النّبي والمسلمين الأولى إلى المدينة ، ولهؤلاء المهاجرين الذين يطلق عليهم (مهاجرو بدر) أهمية قصوى في تأريخ الإسلام ، لأنّهم اتّجهوا ظاهرا نحو مستقبل مجهول مظلم ، وغضوا ابصارهم عن جميع ما ملكوه في سبيل الله ، وأعرضوا عن حطام الدنيا.

هؤلاء المهاجرين أي : «المهاجرون الأوّلون» مثلوا في الحقيقة الحجر الأساس لصرح الإسلام العظيم ، والقرآن يثني عليهم بالتكريم والتعظيم ، ولوليهم عناية خاصّة ، لأنّهم كانوا من أشد المسلمين تضحية.

«الهجرة الثّانية» أطلقت على هجرة طائفة أخرى من المسلمين إلى المدينة ، وذلك بعد صلح الحديبية والحصول على محيط آمن نسبيا بعد هذا الصلح ، وقد تطلق الهجرة على كل مهاجر من مكّة إلى المدينة حتى بعد واقعة

٥٠٨

بدر ، وإلى زمان فتح مكّة.

أمّا بعد فتح مكّة فقد انتفت الهجرة من مكّة إلى المدينة ، لأنّ مكّة أصبحت مدينة إسلامية أيضا ، والحديث النبوي المشهور «لا هجرة بعد الفتح» يشير إلى هذا المعنى.

لكن هذا الكلام لا يعني أن مفهوم الهجرة زاك من قاموس مبادئ الإسلام كليّا كما يتصور بعضهم ، بل الهجرة من مكّة إلى المدينة انتفى موضوعها ، وإلّا فمتى ما حدثت ظروف كظروف المسلمين الأوائل فقانون الهجرة باق على قوته ، وسوف يبقى ما دام الإسلام يتسع حتى يستوعب العالم أجمع.

ومع الأسف الشديد فإنّ أغلب المسلمين لنسيانهم هذا الأصل الإسلامي المهم انغلقوا على أنفسهم ، بينما نرى المبشرين المسيحيين والفرق الضالة والاستعمار يهاجرون إلى أنحاء المعمورة كلها ، ويذهبون حتى إلى القبائل أو الطوائف المتوحشة ممن يأكلون لحوم البشر في مجاهيل أفريقيا ، ويجوبون القطبين المتجمدين الشمالي والجنوبي في سبيل تحقيق أهدافهم ، مع أن هذه مهمّة المسلمين في الواقع ، إلّا أن العمل أضحى من الآخرين!

والأعجب من ذلك وجود الكثير من القرى في جوار المدن الإسلامية الكبرى ، وبمسافة لا تبعد كثيرا عنها ، إلّا أن أهلها لا يعرفون عن الإسلام شيئا ، ولا يعرفون أحكامه ، وربّما لم يروا وجه مبلغ إسلامي هناك أبدا. لهذا فإنّ محيطهم مستعد لنشوء جراثيم الفساد والمذاهب المختلقة والبدع التي يفتعلها «الاستعمار» ولا ندري بماذا يجيب المسلمون ربّهم يوم القيامة ـ وهم ورثة المهاجرين الأوائل ـ إزاء هذه الحال المزرية؟!

وبالرغم من مشاهدة تحرك في هذا الصدد أخيرا ، إلّا أنّه محدود وغير كاف ابدا.

وعلى أية حال ، فإن موضوع الهجرة وأثرها في تاريخ الإسلام ومصير

٥٠٩

المسلمين أكبر من أن نأتي على جميع جوانبه بهذا الاختصار (ولنا كلام بهذا الشأن لدى تفسير الآيات التي تتناول هذا الموضوع إن شاء الله ...).

٢ ـ المبالغة والإغراق في تنزيه الصحابة

حاول بعض إخواننا أهل السنة أن يستنتج من ما أولاه القرآن للمهاجرين السابقين «الأوائل» من اهتمام واحترام ، أنّهم لن يرتكبوا ذنبا إلى آخر عمرهم وحياتهم. وذهبوا إلى إكرامهم واحترامهم جميعا دون استثناء ، ودون الاعتراض على هذا وذاك ، وكيف ذلك؟! ثمّ عمموا هذا القول على جميع الصحابة ـ فضلا عن المهاجرين ـ وذلك لثناء القرآن عليهم في بيعة الرضوان وغيرها ، وذهبوا عملا إلى أنّ الصحابة ـ دون النظر إلى اعمالهم ـ أفراد متميزون. فلا يحق لأيّ شخص توجيه النقد لهم والتحقيق في سلوكهم. يجوز بأيّ وجه أن يوجه النقد إليهم.

ومن جملة هؤلاء المفسّر المعروف صاحب المنار ، إذ حمل في ذيل الآيات محل البحث حملة شعواء على الشيعة ، لأنّهم ينتقدون المهاجرين الأولين ، ولم يلتفت إلى أن مثل هذا الإعتقاد لا يتضاد وروح الإسلام وتاريخه!!

فلا ريب أنّ للصحابة ـ وعلى الخصوص المهاجرين منهم ـ حرمة خاصّة ، إلّا أنّ هذه الحرمة كانت قائمة ما داموا في طريق الحق ويضحّون من أجل الحق ، لكن من المقطوع به أن نظرة القرآن إلى بعضهم أو حكمه قد تغير منذ انحرف عن النهج القويم والصراط المستقيم.

فمثلا ، كيف يمكننا أن نبرئ طلحة والزبير من نقضهما بيعة إمامهما الذي انتخبه المسلمون «بغض النظر عن تصريح النّبي بمقامه وشأنه» وكانا من ضمن المسلمين الذين بايعوه؟ وكيف يمكن تبرأتهما من دماء سبعة عشر ألف مسلم قتلوا في حرب الجمل ، مع أنّه لا عذر لمن يسفك دم إنسان واحد أمام الله مهما

٥١٠

كان ، فكيف بهذا العدد الهائل الذين سفكت دماؤهم؟

ترى هل يمكن أن نعدّ عليّاعليه‌السلام وأصحابه في حرب الجمل على الحق كما نعدّ أعداءه فيها على الحق أيضا؟! ونعد طلحة والزبير ومن معهما من الصحابة على الحق كذلك؟! وهل يقبل العقل والمنطق هذا التضاد الفاضح؟

وهل يمكننا أن نغض النظر من أجل عنوان «تنزيه الصحابة» ولا نلتفت إلى التأريخ وننسى كل ما حدث بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونضرب عرض الجدار قاعدة( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) ؟

مالكم كيف تحكمون؟!

وما يمنع أن يكون الإنسان من أهل الجنّة ومؤيدا للحق يوما ، ويكون من أهل النّار ومؤيدا للباطل ومن أعداء الحق يوما آخر؟ فهل الجميع معصومون؟ألسنا نرى التغييرات في أحوال الأشخاص بأم أعيننا؟!

قصة «اصحاب الردّة» وارتداد جمع من المسلمين بعد رحلة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مذكورة في كتب أهل السنّة والشّيعة ، وأن الخليفة الأوّل تصدى لهم وقاتلهم ، فهل يعقل أنّ أحدا من «اصحاب الردّة» لم ير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكونوا في عدّة الصحابة؟

والأعجب من ذلك أنّ بعضا تشبث بالاجتهاد للتخلص من الطريق المسدود والتناقض في ذلك ، وقالوا : إن أمثال طلحة والزبير ومعاوية ومن لفّ لفهم قد اجتهدوا فأخطأوا وليسوا مذنبين ، بل هم مثابون مأجورون بأعمالهم من قبل الله! فما أفضح هذا المنطق؟!

فهل الثورة على خليفة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونقض البيعة وهدر دماء الآلاف من الأبرياء من أجل رئاسات دنيوية وحب المال ، موضوع معقد ومبهم ولا يعرف أحد ما فيه من سوء؟!

ترى هل في سفك كل تلك الدماء البريئة أجر وثواب عند الله؟!

٥١١

فإذا أردنا تبرئة جماعة من الصحابة ممّا ارتكبوه من جرائم ، فسوف لا نرى مجرما أو مذنبا في الدنيا ، وسنبرئ بهذا المنطق جميع القتلة والمجرمين والجبابرة.

إنّ مثل هذا الدّفاع غير المنطقي ـ عن الصحابة ـ سيسبب النظرة السيئة إلى أصل الإسلام.

والخلاصة ، أنّنا لا سبيل لنا إلّا احترام الجميع خاصّة أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما داموا لم ينحرفوا عن مسير الحق والعدل ومناهج الإسلام ، وإلّا فلا.

٣ ـ الإرث في قوانين الإسلام

كما أشرنا سابقا في تفسير سورة النساء ، فإنّ الناس في زمان الجاهلية كانوا يتوارثون عن ثلاث طرق :

١ ـ عن طريق النسب «وكان منحصرا بالأولاد الذكور ، أمّا الأطفال والنساء فهؤلاء محرومون من الإرث».

٢ ـ وعن طريق «التبني» بأن يجعل ولد غيره ولده.

٣ ـ وعن طريق العهد الذي يعبر عنه بالولاء(١) .

وفي بداية الإسلام كان العمل جاريا بهذه الطرق قبل نزول قانون الإرث ، إلّا أنّه سرعان ما حلّت الأخوة الإسلامية مكان ذلك ، وورث المهاجرون الأنصار فحسب ، وهم الذين تآخوا وعقدوا عهد الأخوة الإسلامية ، وبعد أن اتسع الإسلام أكثر فأكثر شرّع حكم الإرث النسبي والسببي ، ونسخ حكم الأخوة الإسلامية في الإرث.

وقد أشارت إليه الآيات ـ محل البحث ـ والآية (٦) من سورة الأحزاب ، إذ

__________________

(١) بحثنا موضوع الإرث بالولاء في الجزء الثّالث بصورة مفصلة.

٥١٢

تقول :( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) .

كل هذا مقطوع به من حيث التاريخ ، إلّا أنّه ـ كما قلنا من قبل ـ فإن جملة( وَأُولُوا الْأَرْحامِ ) الواردة في الآيات محل البحث لا تختص بمسألة الإرث ، بل هي ذات معنى واسع ، والإرث جزء منه.

٤ ـ ما المراد من الفتنة والفساد الكبير

احتمل المفسّرون في تفسير هاتين الكلمتين الواردتين في الآيات محل البحث احتمالات كثيرة ، إلّا أنّ ما ينسجم أكثر مع مفهوم هذه الآية هو أنّ المراد من «الفتنة» هو الاختلاف والتفرق وتزلزل مباني العقيدة الإسلامية على أثر وسوسة الأعداء ، و «الفساد» يشمل كل إخلال وتخريب للنظم الاجتماعية المختلفة وخاصّة سفك الدماء البريئة والإرهاب وأمثال ذلك.

وفي الحقيقة فإنّ القرآن المجيد ينذر المسلمين إذا لم يحكموا علائق الأخوة والتعاون فيها بينهم ، ولم يقطعوا ارتباطهم بالعدوّ ، فإنّ جماعتهم تزداد تشتتا يوما بعد يوم ، وبنفوذ الأعداء داخل المجتمع الإسلامي ووساوس إغواءاتهم تزلزل أسس الإيمان وقواعده ، ويبتلى المسلمون عن هذا الطريق بفتنة عظيمة.

وكذلك إذا لم تكن علائق اجتماعية قوية ، فإنّ العدو سرعان ما ينفذ إلى المجتمع وتحدث أنواع المفاسد من إرهاب وسفك الدماء ، وتضيع الأموال وإغواء الأولاد ، ويبدو الضعف والنقص واضحا في المجتمع ، ويعم الفساد الكبير كل مكان.

ربّنا ، أيقظ مجتمعنا الإسلامي بلطفك. ونبّهنا إلى أخطار التعاون مع الأعداء وتكوين العلاقة وإياهم. ونزّه مجتمعنا من الفتنة والفساد الكبير بنور المعرفة ووحدة الكلمة ، برحمتك يا أرحم الراحمين.

* * *

٥١٣
٥١٤

سورة التّوبة

وهي مدنيّة

وعدد آياتها مائة وتسع وعشرون آية فحسب

٥١٥
٥١٦

سورة التّوبة

ينبغي الالتفات إلى الأمور التالية قبل الشروع في تفسير السورة

١ ـ أسماء هذه السّورة

ذكر المفسّرون لهذه السّورة أسماء عديدة تبلغ العشرة ، غير أنّ المشهور منها هو ما يلي : سورة البراءة ، وسورة التوبة ، والسورة الفاضحة. ولكلّ من التسميات سبب جلي.

فالبراءة ، لأنّها تبتدأ بإعلان براءة الله من المشركين ، والذين ينقضون عهدهم. والتوبة ، لما ورد من مزيد الكلام عن التوبة في هذه السورة.

والفاضحة ، لما فيها من الآيات التي تكشف النقاب عن أعمال المنافقين لتعريتهم وخزيهم وفضيحتهم.

٢ ـ متى نزلت هذه السورة

هذه السورة هي آخر سورة نزلت على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من أواخر السور النازلة عليه في المدينة ، وهي كما قلنا ذات ١٢٩ آية فحسب.

والمعروف أن بداية نزول هذه السورة كانت في السنة التاسعة للهجرة ، ويدلّ تتبع آياتها على أنّ قسما منها نزل قبل معركة تبوك ، وقسما منها نزل عند الاستعداد للمعركة أو «الغزوة» ، وقسما منها نزل بعد الرجوع من المعركة والفراغ منها.

٥١٧

ومن بداية السورة حتى الآية (٢٨) نزل قبيل موسم الحج ، كما سنبيّن ذلك بعون الله ، والآيات الأولى ـ هذه ـ والتي تتعلق بمن بقي من المشركين بلّغها أمير المؤمنينعليه‌السلام في موسم الحج.

٣ ـ محتوى السّورة

لمّا كان نزول هذه السورة إبّان انتشار الإسلام في الجزيرة العربية ، وتحطيم آخر مقاومة للمشركين فقد كان لما حوته من مفاهيم أهمية بالغة ومواضيع حساسة. إذ يتعلق قسم منها بالبقية الباقية من عبدة الأوثان والمشركين ، وقطع العلاقات معهم ، وإلغاء المعاهدات والمواثيق التي كانت بينهم وبين المسلمين ، لنقضهم لها مرارا ، ليتم تطهير المحيط الإسلامي من رجس الوثنية إلى الأبد.

وحيث إن بعض الأعداء عند انتشار رقعة الإسلام وتحطيم قوى الشرك غيّر مظهره بغية النفوذ بين المسلمين ، ولتوجيه ضربة قاضية للإسلام من قبل المنافقين فإنّ قسما مهما من آيات هذه السورة تتحدّث عن المنافقين وعاقبهم ، وتحذر المسلمين منهم.

وبعض آيات هذه السورة تتحدّث عن الجهاد في سبيل الله وأهميته ، لأنّ الغفلة عن هذا الأمر الحياتي في ذلك الظرف الحساس تبعث على ضعف المسلمين وتقهقرهم أو انكسارهم.

كما أنّ قسما منه يكمل البحوث السابقة التي تناولت انحراف أهل الكتاب «اليهود والنصارى» عن حقيقة التوحيد ، وتتكلم عن انصراف علمائهم عن واجبهم في التبليغ وقيادة المجتمع.

وفي بعض آيات هذه السورة حثّ للمسلمين على الاتحاد ورص الصفوف ـ تعقيبا على ما جاء آنفا في الحث على الجهاد ـ وتوبيخ للمتخاذلين المتحرّفين أو الضعاف الذين يتذرعون بذرائع واهية للتخلص من هذا الواجب ، ثمّ إنّ فيها

٥١٨

ثناء على المهاجرين السابقين إلى الهجرة ، والصفوة من المؤمنين الصادقين.

وحيث سبّب انتشار الإسلام واتساع رقعة مجتمعه آنئذ ظهور حاجات مختلفة ينبغي توفيرها ، فقد عرضت بقية الآيات من هذه السورة موضوع الزكاة وتحريم تراكم الثروات واكتنازها ، ووجوب طلب العلم أو التعلّم وتعليم الجهلة ، وتناولت بحوثا متنوعة أخرى كقصة هجرة النّبي ، والأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال ، وأخذ الجزية من الأقليات الدينية غير الإسلامية كاليهود والنصارى ، وما إلى ذلك.

٤ ـ لم لم تبدأ هذه السورة بالبسملة؟

يجيب استهلال السورة على السؤال آنف الذكر فقد بدئت بالبراءة ـ من قبل الله ـ من المشركين ، وإعلان الحرب عليهم ، واتباع أسلوب شديد لمواجهتهم ، وبيان غضب الله عليهم ، وكل ذلك لا يتناسب والبسملة( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) الدالة على الصفاء والصدق والسلام والحب ، والكاشفة عن صفة الرحمة واللطف الإلهي.

وقد ورد هذا التعليل عن عليعليه‌السلام (١) .

ويعتقد بعض المفسّرين أن سورة براءة ـ في الحقيقة ـ تتمة لسورة الأنفال ، لأنّ الأنفال تتحدث عن العهود ، وبراءة تتحدث عن نقض تلك العهود ، فلم تذكر البسملة بين هاتين السورتين لارتباط بعضهما ببعض. وقد ورد عن الإمام الصادق هذا المعنى أيضا(٢) .

ولا مانع أن يكون السبب في عدم ذكر البسملة مجموع الأمرين آنفي الذكر

__________________

(١)جاء في مجمع البيان عن الشيخ الطبرسي عن علي عليه‌السلام أنّه قال «لم تنزل ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) على رأس سورة «براءة» لأنّ بسم الله للأمان والرحمة ونزلت براءة لرفع الأمان والسيف فيه!».

(٢) قال الطبري نقلا عن الإمام الصادقعليه‌السلام «الأنفال وبراءة واحدة!».

٥١٩

ـ معا ـ فالأوّل ناظر إلى الرواية الأولى «رواية الإمام علي» والثّاني يشير إلى رواية الإمام الصادقعليه‌السلام .

٥ ـ فضيلة هذه السورة وآثارها

أولت الرّوايات الإسلامية أهميّة خاصّة لتلاوة سورتي براءة والأنفال ، وممّا جاء في شأنهما عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال «من قرأ براءة والأنفال في كل شهر لم يدخله نفاق أبدا ، وكان من شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام حقّا».

وقد قلنا مرارا : إنّ ما ورد من أهمية قصوى في الرّوايات الإسلامية في قراءة مختلف السور لا يعني ظهور آثار تلك القراءة من دون تفكّر وتطبيق لمضامينها ، فنقول مثلا : من قرأ سورتي براءة والأنفال دون إدراك لمعانيهما فسيدرأ عنه النفاق ، ويكون من شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بل المراد في الحقيقة أن يكون مضمون السورة مؤثّرا في بناء شخصية الفرد والمجتمع ، ولا يتحقق ذلك إلّا بإدراك مغزى السورة واستيعاب معناها ، والاستعداد والتهيؤ لتطبيقها.

وحيث أن السورتين قد أوضحتا الخطوط العريضة العامّة في حياة المؤمنين الصادقين ومن في قبالهم من المنافقين ، وأنارتا الطريق للعاملين لا للمدّعين فحسب ، فستكون ثمرة تلاوتهما والإعتبار بمضمونيهما هو ما ذكرته الرواية وبهذا تكون التلاوة مؤثرة بنّاءة.

وأمّا من ينظر إلى القرآن وآياته الشريفة بشكل آخر ، فهو أبعد ما يكون عن روح هذا الكتاب التربوي الذي جاء لبناء الإنسانية وهدايتها.

وقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيان الأهمية القصوى لما نوهنا عنه من لطائف ، أنّه قال «نزلت عليّ براءة والتوحيد في سبعين ألف صف من صفوف الملائكة ، وكان كل صف منهم يوصيني بأهمية هاتين السورتين».

٥٢٠

6 ـ حقيقة تأريخية يسعى بعضهم إلى طمس معالمها

من المتفق عليه بين جميع المؤرخين والمفسّرين تقريبا أنّه لما نزلت الآيات الأولى من سورة براءة ، وألغيت العهود التي كانت بين المشركين والمسلمين ، أمر النّبي أبا بكر أن يبلغ هذه الآيات في موسم الحج ، ثمّ أخذها منه وأعطاها علياعليه‌السلام ليقوم بتبليغها ، فقرأها علي على الناس في موسم الحج. وبالرغم من اختلاف الرّوايات في جزئيات هذه القصة وجوانبها المتفرقة ، إلّا أن ذكر النقاط التالية يمكن أن يجلو لنا حقيقة ناصعة :

1 ـ يروي أحمد بن حنبل ـ إمام أهل السنة المعروف ـ في مسنده عن ابن عباس ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل فلانا «المقصود بفلان هو أبو بكر كما سيتّضح ذلك بعدئذ» وأعطاه سورة التوبة ليبلغها الناس في موسم الحج ، ثمّ أرسل عليّا خلفه وأخذها منه وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يذهب بها إلّا رجل منّي وأنا منه»(1) .

2 ـ كما جاء في المسند ذاته عن أنس بن مالك ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل سورة براءة مع أبي بكر ليبلغها ، فلمّا وصل أبو بكر إلى ذي الحليفة ـ ويدعى بمسجد الشجرة أيضا ـ وهو وعلى بعد مسافة فرسخ عن المدينة تقريبا ، قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يبلغها إلّا أنا أو رجل من أهل بيتي» فبعث بها مع عليعليه‌السلام (2) .

3 ـ وورد أيضا في المسند نفسه ـ بإسناد آخر ـ عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه لما بعثه النّبي ومعه براءة قال : يا رسول الله لست خطيبا ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا محيص عن ذلك ، فإمّا أن أذهب بها أو تذهب بها ، فقال علي : إذا كان ولا بدّ فأنا أذهب بها. فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انطلق بها فإنّ الله يثبت لسانك ويهدي قلبك»(3) .

4 ـ وينقل النسائي ـ أحد كبار علماء السنة ـ في خصائصه ، عن زيد بن

__________________

(1) مسند أحمد بن حنبل ، ج 1 ، ص 331 ، ط مصر.!

(2) مسند أحمد بن حنبل ، ج 3 ، ص 212.

(3) مسند أحمد بن حنبل ، ج 1 ، ص 150.

٥٢١

سبيع ، عن عليعليه‌السلام ، أن النّبي أرسل أبا بكر بسورة براءة إلى أهل مكّة ، ثمّ بعث عليّا خلفه ليأخذ الكتاب منه «يعني السورة» فلحقه في الطريق وأخذ الكتاب منه ، فعاد أبو بكر حزينا أسيفا ، وقال : يا رسول الله أنزل فيّ شيء؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ، إلّا أنّي أمرت أن أبلغه أنا أو رجل من أهل بيتي»(1) .

5 ـ وفي سند آخر أيضا ، عن عبد الله بن أرقم ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبا بكر بسورة براءة ، فلمّا سار وبلغ بعض الطريق بعث النّبي عليا فلحقه وأخذ منه السورة ، فذهب بها علي إلى مكّة ، فرجع أبو بكر إلى النّبي متأثرا فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يؤدي عنّي إلّا أنا أو رجل منّي»(2) .

6 ـ وأورد ابن كثير ـ المفسّر المعروف ـ عن أحمد بن حنبل ، عن حنش ، عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، أنّه عند ما نزلت عشر آيات من سورة براءة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا أبا بكر وأعطاه إيّاها ليبلغها أهل مكّة ، ثمّ بعث خلفي وأمرني بالذهاب خلفه وأخذ الكتاب منه ، فعاد أبو بكر إلى النّبي وقال : أنزل فيّ شيء؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ، ولكنّ جبرئيل جاءني وقال : لن يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك»(3) .

7 ـ ونقل ابن كثير هذا المضمون عينه عن زيد بن سبيع(4) .

8 ـ كما أنّه روى هذا الحديث عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (محمّد الباقرعليه‌السلام ) في تفسيره(5) .

9 ـ وروى العلّامة ابن الأثير وهو ـ الآخر ـ من علماء السنة الكبار ، في «جامع الأصول» عن الترمذي عن أنس بن مالك ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل سورة

__________________

(1) الخصائص للنسائي ، ص 28.

(2) المصدر السّابق.

(3) تفسير ابن كثير ، ج 2 ، ص 322.

(4) المصدر السابق.

(5) المصدر السابق.

٥٢٢

براءة مع أبي بكر ثمّ دعاه ، وقال : «لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذه إلّا رجل من أهلي» فدعا عليا فأعطاه إيّاها(1) .

10 ـ وروى محب الدين الطبري ، في كتابه ذخائر العقبى ، عن أبو سعيد أو أبي هريرة ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أبا بكر أن يتولى أمر الحج ، فلمّا مضى وبلغ ضجنان سمع أبو بكر صوت بعير علي فعرفه ، فجاء إلى علي وقال : فيم جئت؟

فقالعليه‌السلام : أرسل النّبي معي سورة براءة. فلمّا رجع أبو بكر إلى النّبي وأظهر تأثره من تغيير «الرسالة» قال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يبلغ عنّي غيري أو رجل مني» يعني عليا(2) .

وقد صرحت روايات أخرى أنّ النّبي أعطى ناقته عليا ليركبها ويأتي بها أهل مكّة فيبلغهم ، فلمّا وصل منتصف الطريق سمع أبو بكر صوت ناقة رسول الله فعرفها.

وهذا النص ـ مع ما ورد آنفا ـ يدل على أنّ الناقة كانت ناقة النّبي وقد أعطاها عليّا ، لأهمية ما أمر به.

وقد روى هذا الحديث كثير من كتب أهل السنة مسندا تارة ، ومرسلا تارة أخرى ، وهو من الأحاديث المتفق عليها ، ولا يطعن فيه أبدا.

وطبقا لبعض الرّوايات الواردة عن أهل السنة أنّ أبا بكر لما صرف عن إبلاغ سورة براءة ، جعل أميرا على الحاج بمكّة.

توضيح وتحقيق :

هذا الحديث يثبت ـ بجلاء ـ فضيلة للإمام عليعليه‌السلام ، إلّا أنّنا ـ ويا للأسف ـ نجد مثل هذه الأحاديث لا ينظر إليها بعين الإنصاف والحق ، إذ يسعى بعضهم إلى

__________________

(1) جامع الأصول ، ج 9 ، ص 475.

(2) ذخائر العقبى ، ص 69.

٥٢٣

محوها ونسيانها كليّا ، أو إلى التقليل من أهميتها وقيمتها بأساليب شتى ملتوية :

1 ـ فمثلا يتناول صاحب تفسير المنار تارة ـ من الحديث آنف الذكر ـ المقطع الذي يتعلق بجعل أبي بكر أميرا على الحاج ، ويختار الصمت والسكوت في بقية الحديث الذي يدور حول أخذ سورة من أبي بكر ليبلغها علي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قال فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يبلغها إلّا أنا أو رجل منّي» يعني عليّاعليه‌السلام .

مع أنّ سكوت قسم من الأحاديث عن هذا الموضوع لا يكون دليلا على أن نهمل جميع تلك الأحاديث الواردة في شأن عليعليه‌السلام ولا نأخذها بنظر الإعتبار!! فأسلوب التحقيق يقتضي تسليط الضوء على الأحاديث الواردة في هذا الشأن كافة ، حتى ولو كانت على خلاف ما يجنح إليه الكاتب وتميل نفسه ، وأن لا يصدر عليها حكما مسبقا.

2 ـ ويقوم بعض المفسّرين تارة بتضعيف سند الحديث ، كما في بعض الأحاديث الواردة عن حنش والسمّاك «كما فعله المفسّر آنف الذكر».

مع أنّ هذا الحديث ليس له طريق واحد أو طريقان ، بل له طرق شتى في كتبهم المعتبرة.

3 ـ ومن العجيب الغريب أن يوجهوا مثل الحديث آنف الذكر توجيها مثيرا ، فيقولون : إنّما أعطى النّبي سورة براءة عليّا ، لأنّ العرب اعتادت عند إلغاء المواثيق أو العهود أن يمضي الشخص بنفسه أو يرسل أحدا من أهله.

مع أنّه ورد التصريح عن النّبي :

أوّلا : من طرق متعددة ، أنّ جبرئيل أمره بأن يبلغ علي سورة براءة أو هكذا أمرت! ثانيا : إنّنا نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن طرقهم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليعليه‌السلام : ينبغي أن تبلغ سورة براءة ، وإن لم تفعل فينبغي أن أبلغها أنا (مؤدي الحديث).

٥٢٤

ترى ألم يكن العباس عمّ النّبي أو أحد من أقارب النّبي موجودا يومئذ بين المسلمين! حتى يقول النّبي لعلي : إن لم تذهب فينبغي أن أذهب ، لأنّه لا يبلغها عني إلّا أنا أو رجل منّي؟!

ثالثا : لم يذكروا دليلا لأصل هذا الموضوع ، وهو أنّه كان من عادة العرب (كذا وكذا) وأكبر الظن أنّهم وجّهوا الحديث آنف الذكر وفق ميولهم ونزعاتهم! رابعا : جاء في بعض الرّوايات المعتبرة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا يذهب بها إلّا رجل منّي وأنا منه» أو ما شابه ذلك.

وهذا التعبير يدل على أنّ النّبي كان يعدّ عليّا كنفسه ، ويعد نفسه كعلي أيضا. وهذا المضمون تناولته آية المباهلة.

ونستنتج ممّا ذكرناه آنفا أنّنا لو تركنا التعصب الأعمى والأحكام المسبقة جانبا ، وجدنا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعله هذا أبان أفضلية عليعليه‌السلام على جميع الصحابة إنه هذا إلا بلاغ.

* * *

٥٢٥

الآيتان

( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) )

التّفسير

إلغاء عهود المشركين :

كانت في المجتمع الإسلامي ومحيطه طوائف شتى ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتخذ منها موقفا خاصّا يتناسب وموقفها منه.

فطائفة منها مثلا لم يكن لها أيّ عهد مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك لم يكن له أيّ عهد معها.

وطوائف أخرى عاهدت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية ـ وأمثالها ـ على ترك المخاصمة والمنازعة ، وكانت عهود بعضهم ذات أجل مسمى ، وبعض العهود لم تكن ذات أجل مسمى.

وقد نقضت بعض تلك الطوائف عهودها من جانب واحد ، وبدون أي سبب يجيز النقض وذلك بمظاهرتها أعداء الإسلام. أو حاولت اغتيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٥٢٦

كما هو الحال في يهود بني النضير وبني قريظة ، فواجههم النّبي بشدة وطردهم من المدينة ، لكن بعض المعاهدات بقيت سارية المفعول ، سواء كانت ذات أجل مسمى أو لم تكن.

الآية الأولى من الآيتين محل البحث تعلن للمشركين كافة( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

ثمّ أمهلتهم مدّة أربعة أشهر ليفكروا فيها ويحدّدوا موقفهم من الإسلام ، فإمّا أن يتركوا عبادتهم للأصنام ، أو يتهيئوا للمواجهة والقتال ، فقالت :( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُر (1) وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ )

* * *

ملاحظتان

1 ـ هل يصحّ إلغاء المعاهدة من جانب واحد؟!

نحن نعرف أنّ الإسلام أولى أهمية قصوى للوفاء بالعهد والالتزام بالمواثيق حتى مع الكفار والمشركين ، وهنا ينقدح سؤال وهو : كيف أمر القرآن بإلغاء العهود التي كانت بين المسلمين والمشركين من جانب واحد؟!

ويتّضح الجواب بملاحظة الأمور التالية :

أوّلا : كما صرّح في الآيتين (7) و (8) من هذه السورة فإنّ إلغاء هذا العهد لم يكن دون أية مقدمة ، بل هناك قرائن ودلائل ظهرت من جانب المشركين تدلّ على نقضهم عهدهم ، وأنّهم كانوا على استعداد ـ في ما لو استطاعوا ـ أن يوجهوا ضربة قاضية للمسلمين دون أدنى اعتناء بعهودهم التي عاهدوها ، ومن المنطقي

__________________

(1) «سيحوا» فعل أمر مشتق من «السياحة» ومعناها الجولة الهادفة.

٥٢٧

أنّه إذا رأى الإنسان عدوّه يتربص به ويستعد لنقض عهده ، ولديه قرائن على ذلك وعلائم واضحة أن ينهض لمواجهته قبل أن يستغفله ويعلن إلغاء عهده ويردّ عليه بما يستحق.

ثانيا : ما المانع من إلغاء العهود والمواثيق التي تفرض في ظروف استثنائية على بعض الأمم والشعوب ـ فيضطرون مكرهين على قبولهم والرضا بها ـ من جانب واحد إذا حصلوا على القدرة الكافية لإلغائها.

وعبادة الأصنام ليست عقيدة ولا فكرا ، بل هي خرافة ووهم باطل خطر ، فيجب القضاء عليها وإزالتها من المجتمع الإنساني ، فإذا كانت قوة عبدة الأصنام وقدرتهم بالغة في الجزيرة العربية ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجبورا على معاهدتهم ومصالحتهم ، فإنّ ذلك لا يعني أنّه لا يحق له إلغاء ـ معاهدته إذا ما قويت شوكته ـ وأن يبقى على عهده الذي يخالف العقل والمنطق والدراية.

وهذا يشبه تماما ظهور مصلح كبير ـ مثلا ـ بين عبدة البقر ، فيقوم بعمل إعلامي كبير ، وحين يواجه ضغوطا شديدة يضطر إلى عقد هدنة بينهم وعند ما يجتمع له أتباع بقدر كاف ينتفض لإزالة هذه الخرافة ، والأفكار المنحطة ، ويلغي معاهدته.

ولهذا نلحظ أنّ هذا الحكم مختص بالمشركين ، أمّا أهل الكتاب وسائر الأقوام الذين كانوا في أطراف الجزيرة العربية من الذين كان بينهم وبين النّبي نوع من المواثيق والمعاهدات ، فقد بقيت على حالها ولم يلغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مواثيقهم وعهودهم حتى وفاته.

أضف إلى ذلك أن إلغاء عهود المشركين لم يكن قد حدث بصورة مفاجئة ، بل أمهلوا مدّة أربعة أشهر ، وأعلن هذا القرار في الملأ العام ، وفي اجتماع الحاج يوم عيد الأضحى ، وفي البيت الحرام ، لتكون لهم الفرصة الكافية للتفكير ، ولتحديد الموقف ، لعلهم يرجعون عن تلك الخرافة التي كانت أساس تفرقتهم

٥٢٨

وتشتتهم وجهلهم ، ويرتدعون عن خيانتهم. والله سبحانه لم يرض لهم أن يكونوا غافلين عن هذا القرار ، فلم يسلبهم فرصة التفكّر ، فإنّ لم يسلموا فقد كانت لهم الفرصة الكافية للاستعداد للمواجهة القتالية والحرب ، لئلا تكون المواجهة غير متكافئة الطرفين.

فلو لم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليرعى الأصول الإنسانية والأخلاقية لما كان أمهلهم مدّة أربعة أشهر ، والفرصة الكافية لأن توقظهم من نومتهم ؛ أو يستعدوا لتهيئة القوّة القتالية المناسبة لمواجهة المسلمين ومحاربتهم إيّاهم بها.

أجل ، لو لم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك لما أمهلهم ولحاربهم من يوم إلغاء المعاهدة!

ومن هنا فإنّنا نجد الكثير من أولئك المشركين ـ عبدة الأصنام ـ راجعوا أنفسهم وفكروا مليّا في التعاليم الإسلامية حتى ثابوا إلى رشدهم واعتنقوا الإسلام.

2 ـ متى بدأت الأشهر الأربعة؟

هناك بين المفسّرين كلام كثير في الجواب على هذا السؤال ، إلّا أنّ ظاهر الآي يدل على أن المدّة بدأت منذ إعلان البلاغ المهم على المشركين ، أي من يوم عيد الأضحى ، وهو العاشر من شهر ذي الحجة ، وانتهت في العاشر من شهر ربيع الثاني من السنة التالية.

ويؤيد ذلك ما ورد من حديث مروي عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في هذا الشأن «راجع تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 103».

* * *

٥٢٩

الآيتان

( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) )

التّفسير

العهود المحترمة :

نلحظ في هاتين الآيتين البيّنتين مزيد تأكيد على موضوع إلغاء المعاهدات التي كانت بين النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمشركين ، حتى أنّ تاريخ الإلغاء قد أعلن في هذه الآية إذ نقول :( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (1) .

__________________

(1) جملة وأذان إلخ. معطوفة على جملة : براءة من الله. وهناك احتمالات أخرى في تركيب الجملة «ونظمها» ، غير أن ما ذكرناه أكثر ظهورا كما يبدوا.

٥٣٠

وفي الحقيقة ، أنّ الله سبحانه يريد في هذا الإعلان العام في مكّة المكرمة ، وفي ذلك اليوم العظيم ، أن يوصد كل ذريعة يتذرع بها المشركون والأعداء ، ويقطع ألسنة المفسدين ، لئلا يقولوا : إنّهم استغفلوا في الحملة أو الهجوم عليهم ، وإن ذلك ليس من الشّهامة والرجولة.

كما أنّ التّعبير بـ «إلى الناس» مكان أن يقال «إلى المشركين» يدل على وجوب إبلاغ هذا «الأذان» والإعلام لجميع الناس الحاضرين في مكّة ذلك اليوم ، ليكون غير المشركين شاهدا على هذا الأمر أيضا.

ثمّ يتوجه الخطاب في الآية إلى المشركين أنفسهم ترغيبا وترهيبا ، لعلهم يهتدون ، إذ تقول الآية :( فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) .

أي أنّ الاستجابة لرسالة التوحيد فيها صلاحكم وفيها خير لكم ولمجتمعكم ودنياكم وآخرتكم ، فلو تدبّرتم بجد وصدق لرأيتم أن قبول الدعوة هو البلسم الشافي لكلّ جراحاتكم وليس في الأمر منفعة لله أو لرسوله.

ثمّ إنّ الآية تحذر المخالفين المعاندين المتعصبين فتقول :( وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ) . فلا يمكنكم الخروج من دائرة قدرته المطلقة بحال.

وأخيرا فإنّ الآية أنذرت المعاندين المتعصبين قائلة :( وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) .

وكما أشرنا من قبل فإنّ إلغاء هذه العهود من جانب واحد ـ ورفض عهد المشركين ـ يختص بأولئك الذين دلّت القرائن على استعدادهم لنقض عهدهم وبدت بوادره ، لذلك فإنّ الآية استثنت قسما منهم لوفائهم بالعهد ، فقالت( إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) .

* * *

٥٣١

ملاحظات

1 ـ الحج الأكبر!

اختلف المفسّرون في المراد من قوله تعالى :( يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) والذي نستفيده من كثير من الرّوايات الواردة عن الفريقين ، روايات أهل البيتعليهم‌السلام وأهل السنة ، أنّه يوم العاشر من ذي الحجة «عيد الأضحى» وبتعبير آخر «يوم النحر».

وانتهاء المدة باليوم العاشر من شهر ربيع الثّاني «للسنة العاشرة» ، وفقا لما جاء في المصادر الإسلامية ، دليل آخر على هذا الموضوع : أضف إلى ذلك كله فإنّ يوم النحر في الواقع ينتهي فيه القسم الأساس من أعمال الحج ، ومن هنا فيمكن أن يدعى ذلك اليوم بيوم الحج الأكبر(1) .

وأمّا سبب تسميته بالحج الأكبر ، فلأنّه اجتمع في ذلك العام جميع الطوائف من المسلمين وعبدة الأوثان والمشركين ، [كما اعتادوا عليه في موسم الحج] إلّا أنّ هذا الأمر لم يتحقق في السنين التالية «لمنع غير المسلمين من الحج».

وهناك تفسير آخر مضافا إلى التّفسير المذكور آنفا وهو أن المراد منه مراسم الحج في قبال مراسم العمرة التي يعبر عنها بالحج الأصغر.

وهذا التّفسير جاء في بعض الرّوايات الإسلامية ، ولا يمنع أن تكون كلتا العلّتين مدعاة لهذه التسمية(2) .

__________________

(1)جاء في تفسير نور الثقلين ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : «إنّما سمّي الأكبر لأنّها كانت سنة حج المسلمون والمشركون ولم يحج المشركون بعد تلك السنة. (ج 2 ، ص 184)

(2) وجاء في التّفسير المذكور آنفا عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في جوابه لبعض أصحابه : الأكبر هو يوم النحر والأصغر العمرة (ج 2 ، ص 186)

٥٣٢

2 ـ المواد الأربع التي أعلنت ذلك اليوم

وإن كان القرآن الكريم أعلن براءة الله من المشركين بشكل مطلق ، إلّا أنّ الذي يستفاد من الرّوايات أنّ عليّاعليه‌السلام قد أمر بإبلاغ أربع مواد إلى الناس ، وهي :

1 ـ إلغاء عهد المشركين.

2 ـ لا يحق للمشركين أن يحجّوا في المواسم المقبلة.

3 ـ منع العراة والحفاة من الطواف الذي كان شائعا ومألوفا حتى ذلك الوقت.

4 ـ منع المشركين من دخول البيت الحرام.

وقد جاء في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ الإمام عليا خطب في موسم الحج ذلك العام فقال : «لا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يحجن البيت مشرك ، ومن كان له مدة فهو إلى مدته ، ومن لم تكن له مدة فمدته أربعة أشهر».

وفي بعض الروايات إشارة إلى المادة الرّابعة ، وهي عدم دخول المشركين وعبدة الأصنام البيت الحرام(1) .

3 ـ من هم الذين كانت لهم عهود «إلى مدّة»

يظهر من أقوال المؤرخين وبعض المفسّرين أنّ الذين كانت لعهدهم مدة ، هم جماعة من بني كنانه وبني ضمرة ، فقد بقي من عهدهم في ترك المنازعة تسعة أشهر ، وقد بقي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عهده وفيّا ، لأنّهم بقوا أوفياء لعهدهم ولم يظاهروا المشركين في مواجهة الإسلام حيت انتهت مدّتهم(2) .

وقد عدّ بعضهم طائفة بني خزاعة من هؤلاء الذين كان لعهدهم مدّة.(3)

* * *

__________________

(1) جاء في بعض الرّوايات منع المشركين من دخول المسجد.

(2) تفسير مجمع البيان ، ج 5 ، ذيل الآية محل البحث.

(3) تفسير المنار ، ج 10 ، ذيل الآية محل البحث.

٥٣٣

الآيتان

( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) )

التّفسير

الشدّة المقرونة بالرّفق :

نقرأ في الآيتين أعلاه بيان وظيفة المسلمين بعد انتهاء مدّة إمهال المشركين «الأشهر الأربعة» وقد أصدر القرآن أوامره الصارمة في هذا الصدد فقال :( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (1) .

ثمّ يقول :( وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) (2) .

__________________

(1) الفعل «انسلخ» مأخوذ من الانسلاخ ومعناه الخروج ، وأصله من «سلخ الشاة» أي إخراج الشاة من جلدها عند الذبح.

(2) المرصد مأخوذ من الرّصد ويعني الطريق أو الكمين.

٥٣٤

ويلاحظ في هذه الآية أربعة أوامر صارمة صادرة في شأن المشركين «إيصاد الطرق بوجههم ، محاصرتهم ، أسرهم ، ثمّ قتلهم». وظاهر النص أنّ الأمور الأربعة ليست على نحو التخيير ، بل ينبغي ملاحظة الظروف والمحيط والزمان والمكان والأشخاص ، والعمل بما يناسب هذه الأمور ، فلو كان في الأسر والمحاصرة وإيصاد السبيل بوجه المشركين الكفاية فيها ، وإلّا فلا محيص عن قتالهم.

وهذه الشدّة متناغمة ومتوائمة مع منهج الإسلام وخطته في إزالة الوثنية وقلعها من جذورها ، وكما أشرنا إلى ذلك سلفا ، فإنّ حرية الإعتقاد «أي عدم إكراه أهل الأديان الأخرى على قبول الإسلام» تنحصر في أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولا تشمل عبدة الأوثان ، لأنّ الوثنية ليست عقيدة صحيحة ، ولا دينا كي تلحظ بعين الاحترام ، بل هي تخلّف وخرافة وانحراف وجهل ، ولا بدّ من استئصال جذورها بأي ثمن كان وكيف ما كان.

وهذه الشدّة والقوّة والصرامة لا تعني سدّ الطريق ، ـ طريق الرجوع نحو التوبة ـ بوجههم ، بل لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويعودوا إلى سبيل الحق ، ولذلك فإنّ الآية عقبت بالقول :( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) .

وفي هذه الحال ، أي عند رجوعهم نحو الإسلام ، لن يكون هناك فرق بينهم وبين سائر المسلمين ، وسيكونون سواء وإياهم في الحقوق والأحكام.

( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) . يتوب على عباده المنيبين إليه.

وتستكمل الآية التالية هذا الموضوع بأمر آخر ، كما يتّضح بجلاء أن هدف الإسلام من هذا الأمر إنّما هو نشر التوحيد والحق والعدالة ، وليس هو الاستثمار أو الاستعمار وامتصاص المال ، أو الاستيلاء على أراضي الآخرين ، إذ تقول الآية :( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ) .

أي عليك أن تعامل من يلجأ إليك من المشركين برفق ولطف ، وامنحه

٥٣٥

المجال للتفكير حتى يبيّن له محتوى دعوتك في كمال الإرادة والحرية ، فإذا أشرقت أنوار الهداية في قلوبهم فسيؤمنون بدعوتك.

ثمّ تضيف الآية قائلة :( ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) وأوصله إلى مكان آمن حتى لا يعترضه أحد في طريقه.

وأخيرا فإنّ الآية تبين علة هذا الحكم ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ) .

فبناء على ذلك لو فتحت أبواب اكتساب المعرفة بوجوههم ، فإنّه يؤمّل فيهم خروجهم من الوثنية التي هي وليدة الجهل ـ والتحاقهم بركب التوحيد الذي هو وليد العلم والمعرفة.

وقد ورد في كتب السنة والشيعة أنّ أحد المشركين (عبدة الأصنام) سأل عليّاعليه‌السلام بعد إلغاء المعاهدة فقال : يا ابن أبي طالب ، لو أراد أحد أن يواجه النّبي بعد هذه المدّة «الأشهر الأربعة» ويسأله أو يسمع كلام الله منه ، أهو آمن؟!

فقال عليعليه‌السلام : أجل ، إنّ الله يقول :( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ ) (1) .

وهكذا تتوازن وتتساوى كفتا الشدّة المستفادة من الآية الأولى ـ محل البحث ـ واللين المستفاد من الآية التي تليها ، فإنّ سبيل التربية قائم على الشدة المشفوعة باللين ، ليكون منهما الدواء الناجع.

ملاحظات

* * *

1 ـ ما المراد من الأشهر الحرم؟

بالرّغم من أنّ المفسّرين قد بحثوا كثيرا في هذا الشأن ، إلّا أنّه ـ مع ملاحظة ما جاء في الآيات المتقدمة ـ يظهر أنّ المراد منها هي أربعة الأشهر التي كانت مدّة

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 106 وتفسير الفخر الرازي ، ص 226.

٥٣٦

الإمهال للمشركين ، والتي بدأت من عاشر ذي الحجة للسنة التاسعة وانتهت بالعاشر من شهر ربيع الثّاني من السنة العاشرة الهجرية.

وهذا التّفسير يعتقد به أغلب المحققين ، والأهم من ذلك أنّ كثيرا من الرّوايات صرّحت بهذا المضمون أيضا(1) .

2 ـ هل الصّلاة والزّكاة شرط في قبول الإسلام؟

يستفاد من الآيتين محل البحث أنّه لا بدّ من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لقبول توبة المشركين ، ولهذا فقد استدل بعض فقهاء أهل السنة على أن ترك الصلاة والزكاة دليل على الكفر.

إلّا أنّ الحق هو أنّ المراد من هذين الحكمين الإسلاميين هو متى ما شك في إسلام شخص ما ، كما هي الحال في المشركين يومئذ ، فعلامة إسلامه أن يؤدي هاتين الوظيفتين «الصلاة ، والزكاة».

أو أنّ المراد هو أن يقرّوا بالصلاة والزكاة على أنّهما أمران إلهيان ويلتزموا بهما ، ويعترفوا بهما على أنّهما فرضان واجبان وإن قصّروا في أدائمها ، لأن هناك أدلة وافرة تقضي بأنّ تارك الصلاة أو الزكاة ليس كافرا ، بل يعدّ إسلامه ناقصا.

وبالطبع إن كان ترك الزكاة له دلالة على تحدّي الحكومة الاسلامية والثورة عليها فهو سبب للكفر ، إلّا أن هذا بحث آخر لا علاقة له بموضوعنا هذا.

3 ـ الإيمان وليد العلم

يستفاد من الآيات محل البحث أنّ الباعث على عدم الإيمان هو الجهل ، وأساس الإيمان الأصيل هو العلم ، لهذا فينبغي توفير الإمكانات اللازمة لإرشاد الناس وهدايتهم ليعرفوا طريق الحقّ ، ولا يقبلوا الإسلام بواسطة التقليد إلا عميق.

* * *

__________________

(1) ورد في تفسير نور الثقلين ، الجزء الثّاني منه ذيل الآية محل البحث حديث بهذا الشأن (فراجع إن شئت).

٥٣٧

الآيات

( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) )

التّفسير

المعتدون النّاقضون العهد :

كما لا حظنا في الآيات السابقة الإسلام ألغى جميع العهود التي كانت بينه وبين المشركين وعبدة الأوثان ـ إلّا جماعة خاصّة ـ وأمهلهم مدّة أربعة أشهر ليقرروا موقفهم منه.

وفالآيات ـ محل البحث ـ بيان لعلة إلغاء العهود من قبل الإسلام ، فتقول الآية الأولى من هذه الآيات مستفهمة استفهاما إنكاريا :( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ

٥٣٨

عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ) ؟! أي أنّهم لا ينبغي لهم أن يتوقعوا أو ينتظروا الوفاء بالعهد من قبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن جانب واحد ، في وقت تصدر منهم المخالفات وعدم الوفاء بالعهد.

ثمّ استثنت الآية مباشرة أولئك الذين لم ينقضوا عهدهم ، بل بقوا أوفياء له ، فقالت :( إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) .

وفي الآية التالية يثار هذا الموضوع بمزيد الصراحة والتأكيد ، ويستفهم عنه استفهاما إنكاريا أيضا ، إذ تقول الآية :( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) .

وكلمة «الإلّ» معناها القرابة ، وقال بعضهم : إنّها تعني هنا العهد والميثاق.

فعلى المعنى الأوّل أي «القرابة» يكون المراد من ظاهر الآية أنّه بالرغم من أنّ قريشا تربطها برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعض المسلمين علاقة قربى ، إلّا أنّها لا ترقب هذه القرابة أو الرحم ولا ترعى حرمتها ، فكيف إذن تتوقع من النّبي والمسلمين احترام علاقتهم بها.

وعلى المعنى الثّاني تكون كلمة «إلّ» مؤكّدة بكلمة (ذمّة) وتعني العهد والميثاق أيضا ، قال الراغب في المفردات : إن «الإل» كل حالة ظاهرة من عهد حلف وقرابة تئل (أي تلمع) فلا يمكن إنكاره(1) .

وتضيف الآية معقبة بأن هؤلاء يريدون أن يخدعوكم بألفاظهم المزوّقة فقالت :( يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ ) .

لأن قلوبهم مليئة بالحقد والقسوة وطلب الانتقام وعدم الاعتناء بالعهد وعلاقة القربى ، وإن أظهروا المحبّة بألسنتهم.

__________________

(1) المفردات ، ص 20.

٥٣٩

وفي نهاية الآية إشارة إلى جذر هذا الموضوع وأساسه وهو فسقهم ، فتقول :( وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ ) .

وفي الآية التالية بيان لبعض علائم فسقهم وعصيانهم ، إذ أعربت الآية عن ذلك على النحو التالي( اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ) .

وقد جاء في بعض الرّوايات أن أبا سفيان أقام مأدبة ودعا إليها جماعة من الناس ، ليثير حفيظتهم وعداوتهم بوجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الطريق.

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية محل البحث تشير إلى هذه القصة ، إلّا أن الظاهر أن الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه القصّة وما شاكلها حيث أغمضوا أعينهم وصدوا عن سبيل الله وآياته من أجل منافعهم المادية التي لا تدوم طويلا.

ثمّ تعقب الآية بالقول :( إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) فقد خسروا طريق السعادة وضيعوها ، وحرّموا الهداية ، وهم في الوقت ذاته أو صدوا الطريق بوجه الآخرين ، وأي عمل أسوأ من أن يحمل الإنسان وزره ووزر سواه!

أمّا في آخر آية من الآيات ـ محل البحث ـ فهي تأكيد آخر على ما ورد في الآيات المتقدمة ، إذ تقول الآية :( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) .

وهذه الخصلة فيهم لم يبتل بها المؤمنون فحسب بل يعتدون على كل من تناله أيديهم( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ) .

وبالرغم من أنّ مضمون هذه الآية تأكيد لما سبق من الآيات المتقدمة ، إلّا أنّ هناك فرقا بينهما ، حيث كان الكلام في ما سبق على عدم رعاية المشركين حرمة لخصوص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المتقّين حوله( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) أمّا الآية محل البحث فالكلام فيها عن عدم رعايتهم حرمة لكل مؤمن( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) .

أي إن المشركين لا ينظرون إليكم (النّبي والخواص من الصحابة) نظرة تمتاز عن سواكم بل هذه النظرة ـ نظرة العداء والبغضاء ـ ينظر بها المشركون إلى

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606