الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245245 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الفصل الثاني

ضوابط الحوار وآدابه

١ ـ شروط الحوار

٢ ـ آداب الحوار

١٦١
١٦٢

لما كان الحوار في الواقع الإنساني من الوسائل التي تستخدم لنشر الأفكار والإقتناع بها ؛ كان الهدف منه تعاون أطراف الحوار على معرفة الحقيقة والتوصل إليها ، تبصير كل منهما صاحبه بالأمور التي خفيت عنه حينما أخذ بنظر باحثاً عن الحقيقة ، وذلك باستخدام الحوار البريء من التعصب ؛ الخالي من العنف والإنفصال ، المتمشي وفق الأصول العامة للحوار الهادف البنّاء.

ولا يتحقق هذا الحوار إلا بعد تطبيق ما ذكره العلماء من الضوابط والآداب كما يلي :

١ ـ شروط الحوار :

ذكر العلماء والباحثون أنّ للحوار المّذون به شروطاً ينبغي إتباعها ، خشية أن يتحول إلى مماراة بعيدة عن الوصول إلى الحقيقة ، أو إلى مشاحنات أنانية ، ونحو ذلك مما يفسد القلوب ، ويهيج النفوس ، ويورث التعصب ولا يوصل إلى الحق ، نذكر منها التالي :

١ ـ أن يكون أطراف الحوار على معرفة بقوانين وقواعد الحوار ، متبعين المعايير العقلية والمنطقية ، باسلوب علمي رصين.

٢ ـ أن يكونوا على معرفة بالموضوع الذي يراد التحاور فيه ، بحيث يمكن التكلم بما يتناسب مع طبية المضوع المتحاور فيه ، بحيث لو تكلم أحد الأطراف لم يخبط خبط عشواء ، ولم يناقش في البديهيات بغير علم ، وإذا لُزم بالحق إلتزم به دون مكابرة.

٣ ـ أن يكون الموضوع مهماً ، أو مما يجوز أن تجري فيه المحاورة ضمن قواعد هذا الفن وضوابطه ، فالمفردات والبديهيات الجلية مثلاً ، لا تجري فيها المحاورة أصلا.

١٦٣

٤ ـ أن يكون المحاور متمكناً من الحوار ، بحيث يتمتع بوجهة علمية ومقدرة بيانية ، ومطلعاً على أفكار وآراء خصمه ، مستخدماً الألفاظ المناسبة الجزلة الفخمة ، متجنباً العبارات والألفاظ الركيكة.

وإلى هذا يشير إمامنا الصادق عليه السلام في الحديث التالي :

عن أبي خالد الكابلي ، قال : (رأيت أبا جعفر ـ صاحب الطاق ـ وهو قاعد في الروضة قد قطع أهل المدينة أزراره ، وهو دائب يجيبهم ويسألونه ، فدنوت منه فقلت : إنّ أبا عبد الله نهانا عن الكلام فقال : أمرك أن تقول لي؟ فقلت : لا ، ولكنه أمرني ألا أكَلِّم أحداً.

قال : فاذهب فأطعه فيما أمرك. فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام فأخبرته بقصة صاحب الطاق ، وما قلت له ، وقوله لي : إذهب وأطعه فيما أمرك ، فتبسم أبو عبد الله عليه السلام وقال : يا أبا خالد ، إّ صاحب الطاق يكلّم الناس فيطير وينقض ، وأنت إو قصوك لن تطير)(٢١٢) .

٢ ـ آداب الحوار :

وضع العلماء لفَن آداب البحث والمحاورة جملة من الآداب ، وألزموا المتحاورين بها ، محافظة على سلامة المحاورة ، وتحقيقاً للغرض منها ، نذكر فيما يلي أهمها :

١ ـ أن يجتنب المحاور محاورة ذي هيبة يخشاه ، لئلا يؤثر ذلك عليه ، فيضعفه عن القيام بحجته كما ينبغي.

٢ ـ ألا يظن خصمه أقوى منه بكثير ، حتى لا يتخاذل ويضعف عن تقديم حجته على الوجه المطلوب.

__________________

(٢١٢) ـ الطوسي ، الشيخ محمد بن الحسن : رجال الكشي ، ج ٢ / ٤٢٤.

١٦٤

٣ ـ ألا يظن خصمه حقيراً ضعيفاً قليل الشأن ، فذلك يقلل من إهتمامه ، فيمكن خصمه الضعيف منه.

٤ ـ ألا يكون في حالة قلق نفسي وإضطراب ؛ أو في حالة نفسد عليه مزاجه الفكري والنفسي ، كأن يكون جائعاً ، أو ظامئاً ، أو نحو ذلك.

٥ ـ أن يتقابل المتحاوران في المجلس ، ويبصر أحدهما الآخر إن أمكن ، ويكونا متماثلين أو متقاربين علماً ومقداراً.

٦ ـ أن يجتنب كلا المتحاورين الهزء والسخرية ، وكل ما يشعر بإحتقار وإزدراء لصاحبه ، أو وسمه بالجهل أو قلة الفهم ، كالتبسم والضحك والغمز واللمز ونحو ذلك ، مما يثير عواطف الغير ، ويؤدي إلى إفساد المحاورة التي ينبغي أن تكون بالتي أحسن.

٧ ـ ألا يرفع صوته فوق المتعارف المألوف ، فإنّ هذا يدل على الشعور بالضعف والشعور بالمغلوبية ، بل ينبغي إلقاء الكلام قوي الأداء ، وإن كان بصوت منخفض هادئ ، فإنّ تأثيره أقوى بكثير من اسلوب الصياح والصراخ.

٨ ـ أن يتجنب ـ حد الإمكان ـ مجادلة طلب الرياء والسمعة ومُؤثر الغلبة والعناد ، فإنّ هذا من جهة يُعديه بمرضه فينساق بالأخير مقهوراً إلى أن يكون شبيهاً به في هذا المرض ، ومن جهة أخرى لا يستطيع الوصول مع مثل هذا الشخص إلى نتيجة مرْضِيّة.

٩ ـ ألا يكون المحاور متسرعاً يقصد إسكات خصمه في زمن يسير ؛ لأنّ ذلك يفسد عليه رويته الفكرية ، ويبعده عن منهج المنطق السديد ، والتفكير في الوصول إلى الحق.

١٦٥

١٠ ـ أن يحترز المحاور عن الإختصار المخل في الكلام ، وعن إطالة الكلام بلا فائدة ترجى من ذلك.

١١ ـ أن يأتي كل من المتحاورين بالكلام الملائم للموضوع ؛ فلا يخرج عما هما بصدده.

١٢ ـ ألا يتعرض أحدهما لكلام خصمه قبل أن يفهم مراده تماماً.

١٣ ـ أن ينتظر كل واحد منهما صاحبه حتى يفرغ من كلامه ، ولا يقطع عليه كلامه قبل أن يتمه.

١٤ ـ الإستعانة بالله عَزّ وجَلّ ، للتوفيق والوصول إلى الحقيقة ، فقد ورد عن إمامنا زين العابدين عليه السلام في الصحيفة السجادية ، من دعائه في مكارم الأخلاق : (اللهُمّ صل على محمد وآله ، واجعل لي يداً على من ظلمني ، ولساناً على من خاصمني ، وظفراً بمن عاندني)(٢١٣) .

وعنه عليه السلام ـ كما في المناجاة (المعروفة بالإنجيلية الطويلة) ـ : وأعوذ بك من دعاءٍ محجوبٍ ، ورجاء مكذوب ، وحياء مسلوب ، وإخاء مَعْبُوب ، وإحتجاج مغلوب ، ورأي غير مصيب)(٢١٤) .

__________________

(٢١٣) ـ زين العابدين ، الإمام علي بن الحسين : الصحيفة السجادية / ١١١ (جمع السيد محمد باقر الأبطحي).

(٢١٤) ـ نفس المصدر / ٤٣٩ ـ ٤٤٠.

١٦٦

الفصل الثالث

الحوار المتعلق بتربة الحسين (عليه السلام)

بحوث تمهيدية :

١ ـ الوحدة الإسلامية.

٢ ـ التقريب بين المذاهب الإسلامية.

٣ ـ دعوة إلى الحوار.

١٦٧
١٦٨

تلعب الشائعات وحجب الحقائق دوراً كبيراً في محاربة الأفكار والمعتقدات ، ولعل مرجع هذه الشائعات ، هي عوامل سياسية ومصلحة نفعية ، ومن بين تلك المعتقدات التي حوربت بهذه الطريقة عقيدة الشيعة الإمامية ، الذين يمثلون فئة كبيرة من المسلمين ، فقد بالغ المغرضون والوضاعون النفعيون ، في تصوير معتقداتهم ، وتحريفها عن واقعها ومدلولها الصحيح. وقد أشار إلى هذه الحقيقة الناصعة ، الدكتور حامد حنفي داود(٢١٥) بقوله : «يخطئ كثيراً من يدّعي أنّه يستطيع أن يقف على عقائد الشيعة الإمامية وعلومهم وآدابهم مما كتبه عنهم الخصوم من العلم والإحاطة ، ومهما أحرزوا من الأمانة العلمية في نقل النصوص والتعليق عليها بأسلوب نزيه بعيد عن التعصب الأعمى. أقول ذلك جازماً بصحة ما أدعي بعد أن قضيت ردحاً طويلاً من الزمن ، أدرس فيه عقائد الأئمة الإثني عشرة بخاصة وعقائد الشيعة بعامة. فما خرجت من هذه الدراسة الطويلة التي قضيتها متصفحاً في كتب المؤرخين والنقاد من علماء أهل السنة بشيء ذي بال. وما زادني إشتياقي إلى هذه الدراسة وميلي الشديد في الوقوف على دقائقها إلا بعداً عنها وخروجاً عما أردت من الوصول إلى حقائقها ذلك لأنّها كانت دراسة بتراء أحلت نفسي فيها على كتب الخصوم لهذا المذهب وهو المذهب الذي يمثل شطر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، ومن ثم اضطررت بحكم ميلي الشديد إلى طلب الحقيقة حيث كانت ، والحكمة حيث وجدت ، والحكمة ضالة المؤمن ، أن أدير دفة دراستي العلمية لمذهب الأئمة الإثني عشر إلى الناحية الأخرى ، تلك هي دراسة المذهب

__________________

(٢١٥) ـ أستاذ الأدب العربي بكلية الألسن العليا ، ورئيس قسم الأدب العربي بجامعة عين شمس ، من رواد الإصلاح ، ودعاة التقريب بين المذاهب الإسلامية.

١٦٩

في كتب أربابه ، وأن أتعرف عقائد القوم مما كتبه شيوخهم والباحثون المحققون من علمائهم وجهابذتهم. ومن البديهي أنّ رجال ال مذهب أشدّ معرفة لمذهبهم من معرفة الخصوم به ، مهما بلغ أولئك الخصوم من الفصاحة والبلاغة ، أو أوتوا حظاً من اللسن والإبانة عما في الشمس»(٢١٦) .

وقال الدكتور مصطفى الرافعي(٢١٧) : «... أجل ، عن مثل هؤلاء المستشرقين أو أولئك الجهلة والمغرضين أخذ خصوم الشيعة معلوماتهم عن الشيعة ، وأثاروا الكثير من الشبهات حول بعض المعتقدات التي يدينون بها ؛ أو الأحكام الفرعية التي يمارسونها ، فشوهوها وألبسوها لباس العداوة للإسلام حتى ظن معها قصار النظر ومن ليس لديه معلومات واسعة عن فقه الشيعة أنّ أتباع هذا المذهب بسبب إيمانهم بتلك المعتقدات أو ممارستهم لهذه الأحكام ، قد نؤوا عن الحق وجانبوا الصواب وربما بالغوا في التشنيع عليهم فقالوا : أنهم فرقة مرقت من الدين وخرججت من ربقة الإسلام»(٢١٨) .

هذه بعض كلمات الكتاب والباحثين من السنة ، الذين أنصفوا الشيعة الإمامية ، فيما حصل لهم من مظلومية وتشويه لسمعتهم أمام المسلم وغيره؟! والسؤال الذي ينبغي طرحه : ما هو الحل لعلاج هذه المشكلة الخطيرة؟

__________________

(٢١٦) ـ المظفر ، الشيخ محمد رضا : عقائد الإمامية / ٤١ ـ ٤٢ (تقديم).

(٢١٧) ـ كاتب وباحث لبناني ، ولد في طرابلس عام ١٩٢٣ م ، جمع بين الدراسة في الأزهر ـ حيث نال إجازة تخصص في القضاء عام ١٩٤٧ م ـ ، والدراسة في جامعة السوربون بفرنسا ، حيث نال شهادة الدكتوراه في الحقوق عام ١٩٤٨ م ، مثّل لبنان في كثير من المؤتمرات الإسلامية والثقافية ، وله مجموعة من المؤلفات.

(٢١٨) ـ الرافعي ، الدكتور مصطفى : إسلامنا / ١٣١.

١٧٠

لعلّ أهم الحلول التي طرحت لحلّ هذه المشكلة ، هي كالتالي :

١ ـ الوحدة الإسلامية :

والمراد بها إدماج مذهب في مذهب ، أو تغليب مذهب على مذهب ، وممن يرى هذه الفكرة الأستاذ أمين خولي(٢١٩) ، حيث قال : «أنا في العام الماضي تكلمت مع الشيخ محمد تقي الحكيم(٢٢٠) ، وقلت : فلنتنازل نحن السنة وأنتم الشيعة عن بعض الأشياء ، ونتفق على أشياء ونكون يداً واحدة»(٢٢١) .

وهذه الفكرة يصعب تطبيقها ، وقد أجاب عنها السيد مرتضى الرضوي بقوله ـ مخاطباً الأستاذ أمين الخولي ـ : «يا أستاذ ؛ لا يمكن التفاهم والإتفاق على شيء قبل أن نضع رجال الصدر الأول في ميزان الحساب ؛ لأنّهم خَلّفُوا أموراً خلافية كثيرة لا يمكن التغاضي عنها ، وتركها من دون علاج ، وبعد ذلك ، فمن السهل أن نتحد ونتفق على كل شيء. فسكت الأستاذ الخولي»(٢٢٢) .

٢ ـ التقريب بين المذاهب الإسلامية :

قامت مجموعة من أعلام المسلمين ـ ويأتي في طليعتهم الشيخ عبد المجيد سليم ، والشيخ محمود شلتوت ، والشيخ محمد تقي القمي ، والشيخ محمد محمد المدني ـ ، بتأسيس (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية) وذلك سنة (١٣٦٦ هـ

__________________

(٢١٩) ـ من كبار الأساتذة وعمالقة الفكر في مصر ، ولد عام ١٩٠٤ م ، من أوائل أساتذة كلية الآداب بجامعة القاهرة ، وصل إلى منصب كرسي الأدب العربي بكلية الآداب بجامعة القاهرة ، كان من أبرز أعضاء المجلس الأعلى لدار الكتب المصرية ، الذي يضم جهابذة رجال الفكر والقلم في مصر.

(٢٢٠) ـ المراد به ، هو سماحة السيد محمد تقي الحكيم ، أحد علماء النجف ، عميد كلية الفقه في النجف الأشرف ، وأستاذ الفقه المقارن في جامعة بغداد ، وعضو المجمع العلمي في العراق ، وعضو مراسل المجمع اللغوي بمصر ، له بعض المؤلفات القيمة. ولد عام ١٣٤١ هـ ، وتوفي عام ١٤٢٣ هـ.

(٢٢١) ـ الرضوي ، السيد مرتضى : مع رجال الفكر في القاهرة / ٥١.

(٢٢٢) ـ نفس المصدر.

١٧١

ـ ١٩٤٧ م) ، في القاهرة ، وكان هدف هذه المجموعة ، عدم إستغلال الفوارق المذهبية ، وما يترتب على ذلك من شق صف المسلمين ، وإضعاف وحدتهم. كما كانت دعوتهم إلى تقريب وجهات النظر ، من خلال إلقاء الضوء على المشتركات بينهم ، وعدم السعي إلى إلغاء بعضها على حساب بعض ، وبعبارة أخرى ، تسعى إلى بقاء المسلمين كل على مذهبه ، وعدم دمجهم في مذهب واحد. وكان من ثمارها ، إصدار مجلة (رسالة الإسلام) صدر العدد الأول منها سنة ١٣٦٨ هـ ، وتوقفت في شهر رمضان سنة ١٣٩٢ هـ ، بعد ما صدر منها ستون عدداً ، إهتمت بأدب التقريب بين المذاهب. وإدخال الفقه الشيعي إلى مواد التدريس في الأزهر الشريف ، كما أصدر شيخ الأزهر محمود شلتوت فتواه بجواز التعبد بالمذهب الجعفري ، ونشرتها مجلة (رسالة الإسلام ـ في العدد الثالث ، من السنة الحادية عشر ، ص ٢٢٨ ـ عام ١٩٥٩).

يقول الشيخ الشعراوي ـ بعد هذه الفتوى : «الشيعة الإمامية الإثني عشرية ، وإمامهم جعفر الصادق ؛ بن محمد ، بن علي زين العابدين ، بن الحسين ، بن علي بن أبي طالب ، وهو أحد أساتذة الإمام ابي حنيفة ، رضي الله عنهم جميعاً ، وهؤلاء الإمامية الجعفرية ؛ الذين نوضح أنهم من أرباب ال مذاهب النقيّة ؛ هم الذين أصدر شيخنا المرحوم شيخ الأزهر محمود شلتوت ، فتواه المشهورة في صحة التعبد على مذهبهم ؛ معلّلاً ذلك بأنّه من المذاهب الإسلامية ، الثابتة الأصول المعروفة المصادر ، المتبعة لسبيل المؤمنين. نعم : لقد أخذنا في مصر طائفة من الأحكام في قوانين الأحوال الشخصية عن الشيعة الإمامية الإثني عشريّة ، ومنها بعض أحكام الطلاق ، والقول بالوصيّة الواجبة

١٧٢

في الميراث»(٢٢٣) . وخلاصة هذه الفكرة ـ على حد تعبير الشيخ كاشف الغطاء (قده)(٢٢٤) . «وليس معنى الوحدة في الأمة أن يهضم أحد الفريقين حقوق الآخر فيصمت ، ويتغلب عليه فيسكت ، ولا من العدل أن يقال للمهضوم إذا طالب بحق ، أو دعا إلى عدل إنك مفرق أو مشاغب ، بل ينظر الآخرون إلى طلبه ، فإن كان حقاً نصروه ، وإذا كان حيفاً أرشدوه وأقنعوه ، وإلا جادلوه بالتي هي أحسن مجادلة الحميم لحميه ، والشقيق لشقيقه ، لا بالشتائم والسباب ، والمنابزة بالألقاب ، فتحتدم نار البغضاء بينهما حتى يكونا لها معغاً حطباً ، ويصبحا معاً للأجنبي لقمة سائغة ، وغنيمة باردة»(٢٢٥) .

وبعد هذا البيان المستفاد من كلمات العلماء والباحثين ، نقول : أنّ الهدف من التقريب بين المذاهب الإسلامية هو الحد من تضييق شقة الخلاف ، وبعض الظروف في عهود غابرة ، ولو قدر لها أن تبحث بحثاً موضوعياً ؛ لوصل الفريقان إلى الوحدة والتعاون المشترك ، في المنافع والفوائد في النهاية.

٣ ـ الدعوة إلى الحوار :

إذا أراد المسلمون تشكيل قوة متحدة متماسكة ، تستطيع أن تفرض إرادتها وإحترامها ، وترفع راية الإسلام فوق ربوع الأرض ؛ فعليهم أن ينبذوا الخلاف بالحوار الهادف المخلص ، وهذه المهمة يتحمل عِبْأَها العلماء ورواد الفكر السلامي ، فقد قام جماعة منهم بالدعوة إلى الحوار ونبذ الخلاف ،

__________________

(٢٢٣) ـ الأهرام ـ السنة ١٠٣ ـ العدد ٣٢٩٣٢.

(٢٢٤) ـ الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (١٢٩٤ هـ ـ ١٣٧٣ هـ) ، من أعلام الشيعة الإمامية ، ومنابع العلم والأدب ودعاة الاصلاح والتقريب بين المذاهب الاسلامية ، من فقهاء العراق.

(٢٢٥) ـ كاشف الغطاء ، الشيخ محمد حسين : أصل الشيعة وأصولها / ٦٦.

١٧٣

وعلى رأسهم العلمان البارزان : السيد عبد الحسين شرف الدين(٢٢٦) ، والشيخ سليم البشري(٢٢٧) .

وقد طَبّق هذا الحوار العلمان المذكوران بروح إتصفت بالنزاهة والطهر ، عَبّر عنها السيد شرف الدين (قده) بقوله : «وما أحسن ما يتعارف به العلماء من الورح النقي ، والقول الرضي ، والخلق النبوي ، ومتى كان العالم بهذا اللباس الأنيق المترف ، كان على خير ونعمة ، وكان ال ناس منه في أمان ورحمة ، لا يأبى أحد أن يفضي إليه بدخيلة رأيه ، أو يبثه ذات نفسه ، ذلك كان علم مصر وإمامها ، وهكذا كانت مجالسنا التي شكرناها شكراً لا إنقضاء له ولا حد»(٢٢٨) .

وقد إستغرق هذا الحوار مائة وإثنتي عشر حلقة ، وكان ذلك في الفترة ما بين ذي القعدة عام ١٣٢٩ هـ ، وجمادي الأولى عام ١٣٣٣ هـ ، وكانت حصيلة هذا الحوار كتب (المراجعات) ، الذي دَوّنه العالم الشيعي السيد عبد الحسين شرف الدين (قده) ، مما جعل لهذا الحوار أثره في العصر الذي جرى فيه والعصور المتأخرة ، بل يعتبر نموذجاً لكل من أراد الحوار الهادف ، وصرخة مدوية في أذن كل سني وشيعي ، أراد الوصول إلى الحقيقة ، أو على الأقل يعرف المذهب الجعفري بحقيقته الناصعة ، ولا يأخذها من كتب وأفواه خصومهم ، الذين لَفّقَوا فيهم التهم والأكاذيب. ومن بين تلك الأكاذيب ، عبادة التربة الحسينية الشريفة ، التي هي موضوع بحثنا.

__________________

(٢٢٦) ـ الشيخ عبد الحسين شرف الدين (١٢٩٠ هـ ـ ١٣٧٧ هـ) من أعلام الشيعة الإمامية ، ومنابع العلم والأدب ودعاة الإصلاح ، والتقريب بين المذاهب الإسلامية ، من فقهاء جبل عامل في لبنان.

(٢٢٧) ـ الشيخ سليم البشري (المالكي) ، ولد في محلة بشر ، بمحافظة البحيرة عام (١٢٤٨ هـ وتوفي عام ١٣٣٥ هـ) تولى مشيخة الأزهر مرتين : الأولى ـ من عام ١٣١٧ هـ إلى عام ١٣٢٠ هـ ، والثانية ـ من عام ١٣٢٧ هـ إلى عام ١٣٣٥ هـ. وفي عهده طبق نظام إمتحان الراغبين في التدريس بالأزهر.

(٢٢٨) ـ شرف الدين ، السيد عبد السحين : المراجعات / ٣٢.

١٧٤

نماذج للحوار في التربة الحسينية

١ ـ السيد الشيرازي مع رجل دين مصري.

٢ ـ السيد سلطان الواعظين مع الشيخ عبد السلام الأفغاني.

٣ ـ الشيخ الأنطاكي مع بعض أعلام السنة.

٤ ـ الدكتور التيجاني مع الشهيد الصدر.

٥ ـ المستر رايلي مع سكرتير وزارة المعارف العراقية.

٦ ـ الأستاذ محمد خير مع خصوم الشيعة.

١٧٥
١٧٦

١ ـ السيد الشيرازي(٢٢٩) مع رجل علم مصري :

قال السيد عبد الله الشيرازي (قده) : «كنت يوماً جالساً في الروضة النبوية المطهرة بعد الفراغ من فريضة الصبح ، قرب المنبر مشغولاً بقراءة القرآن وكان المصحف بيدي ، فجاء رجل شيعي ووقف على يساري وكَبّر للصلاة ، وكان على يميني رجلان من أهل العلم مصريان ـ على الظاهر ـ متكئان على الإسطوانة ، فأدخل المصلي يده في جيبه بعد تكبير الإحرام لإخراج التربة أو الحجر للسجود عليه ، فقال أحدهما للآخر : إنظر إلى هذا العجمي يريد أن يسجد على الحجر. فلما هوى المصلي للسجود بعد ركوعه ، حمل عليه أحدها ليختطف ما في يده ، لكني أمسكت على يده قبل وصولها إلى المصلي ، وقلت : لماذا تبطل صلاة الرجل المسلم ، وهو يصلي مقابل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال : يريد أن يسجد على الحجر. قلت : وأيّ بأس في ذلك؟ وأنا أيضاً أسجد على الحجر.

قال : كيف؟ قلت : هو جعفري ، وهذا هو الصحيح على مذهبنا ، ثم قلت : هل تعرف جعفر بن محمد عليهما السلام؟

قال : نعم. قلت : هو من أهل البيت؟ قال : نعم. قلت : هو رئيس مذهبنا ، ويقول لا يجوز السجود على الفراش أو السجاد ، ويقول : لابد أن يكون السجود على أجزاء الأرض. فسكت قليلاً ، ثم قال : الدين واحد ، والصلاة واحدة. قلت : إذا كان واحداً ، والصلاة واحدة ، فكيف تُصلون

__________________

(٢٢٩) ـ أحد الفقهاء الكبار ، والمراجع العظام ، ولد في شيراز عام ١٣٠٩ هـ ، وهاجر الى النجف الأشرف عام ١٣٣٣ هـ ، حتى أصبح أحد أعلامها ، وفي عام ١٣٩٥ هـ إستقر في مشهد المقدسة ، قائماً بأعباء المرجعية وإدارة حوزتها العلمية ، وتوفي بها عام ١٤٥ هـ ، ودفن بجوار الإمام الرضا (ع).

١٧٧

أنتم السنة في حال القيام على أربعة أشكال من جهة التكتف : فالمالكية يصلون مرسلين الأيدي ، والحنفية يتكتفون ، والشافعية نحو ثالثاً ، والحنبلية نحواً رابعاً ، مع أنّ الدين واحد ، والصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت نحواً واحداً؟!

ولقنته الجواب ، وقلت : غير أنكم تقولون إنّ أبا حنفية هكذا قال : والشافعي هكذا ، والمالكي هكذا ، والحنبلي هكذا ، وصوّرت له بيدي صور الحالات الأربع. قال : نعم.

قلت : جعفر بن محمد الصادق عليه السلام رئيس مذهبنا الذي إعترفت بأنّه من أهل البيت أدرى بما في البيت ، لم يكن أقل من أبي حنفية ، ومن هؤلاء علمنا أنّه لابدّ أن يكون السجود على أجزاء الأرض ، ولا يجوز السجود على الصوف والقطن ، وهذا الإختلاف بيننا وبينكم لا يكون إلا مثل الإختلاف بين أنفسكم في كيفية الصلاة من جهة التكتف وغيرها من سائر الإختلاف بينكم في الفروع ولا يرتبط بالأصول ، ولا يكون مربوطاً بالشرك أصلاً. فصدقني الجالسون من أهل السنة ، حتى صاحب هذا الشخص الذي كان جالساً إلى جانبه ، ولما وجدت الجو مناسباً بعد تصديقه كلامي حملت عليه بالكلام الحاد ، وقلت : أما تستحي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبطل صلاة رجل مسلم يصلي عند قبره ـ صلوات الله عليه وآله ـ بمقتضى مذهبه ، وهو مذهب أهل البيت صاحب هذا القبر ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تهيراً ، ولا يكون قولهم ومذهبهم إلا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومذهبه.

فحمل الجالسون عليه أيضاً بالكلام الخشن ، واعتذروا مني من إعتقادهم بأنّ السجود على التربة أو الحجر شرك من الشيعة. أقول : لا يكاد ينقضي تعجبي من أنّ علماءهم كيف أشربوا في قلوب عوامهم أنّ الجسود على التربة

١٧٨

الحسنية ، أو الحجر ، أو الخشب من سائر أجزاء الأرض شرك بالله ، مع أنّه في حال السجود يذكرون الله تعالى بالتحميد والعلو ، وكثيراً في حال السجود عليها ، يقولون : لا إله إلا الله ، أليس السجود على الحجر الذي هو جزء ـ من ـ الأرض مثل السجدة على نفس الأرض ، أو السجدة على الفراش ، أو الحصير أو السجاد؟ فإذا سجد على الأرض أو الحصير أو السجاد ، هل يكون ذلك بمعنى أنّه عبدها؟ فليكن السجود على الحجر مثل السجود عليها!

وأعجب من أصل الموضوع أنّ لسان أكثرهم عربي ، وهم أعرف بمعاني اللغة وخصوصيات معاني الألفاظ ، فكيف غفلوا أو تجاهلوا عن الفرق بين السجود عليه ، والسجود له؟ والسجدة على شيء سواء كان أرضاً أو حجراً أو فراشاً يحتاج تحقق العبادة معه إلى شيء آخر يكون هو المعبود ، ولا يكون نفس السجود عليه معبوداً وهل رأى أحد وثنياً أو صنمياً في مقام العبادة يضع الصنم على الأرض ويسجد عليه؟

لا والله ، بل يجعلون الأصنام في مقابلهم ويسجدون على الأرض ويخرّون عليها تخضعاً وتخشعاً لها ، فحينئذ المعبود هل الصنم أو ما سجد عليه من الأرض أو الحجر أو الشيء الذي سجد عليه ووقع تحت جبهته بلا إختيار ولا إلتفات أو معهما؟

فيا ليت كان في البين ثالث عارف باللغة يحكم بين الفريقين ، هل السجود لله على أجزاء الأرض عبادة لها وشرك بالله ، أو يكون مثل السجدة على نفس الأرض والمعبود في كليهما هو الله الواحد؟

وإن كان بحمد الله الحاكم موجوداً وهو اللغة. فنرجو ـ من الله ـ أن يتنبّه العلماء والفضلاء منهم إلى هذه النقطة ، وإن لم يكن تجااهلاً ، وينبّهوا عوامهم

١٧٩

إلى عدم نسبة الشرك إلى الشيعة ، لسجودهم على أجزاء الأرض من التربة الحسينية أو الحجر أو الخشب»(٢٣٠) .

٢ ـ السيد سلطان الواعظين(٢١٣) ، مع الشيخ عبد السلام الأفغاني :

قال السيد سلطان الواعظين (طاب ثراه) : «ولكنا إذا خالفنا العامة في صلاتنا ، بأن سجدنا على طينة يابسة فبدل أن يسألونا عن الدليل والسبب ، يتهمونا بعبادة الأصنام ويسمون تلك الطينة التي نسجد عليها بالصنم ، فلماذا هذا الجهل والجفاء؟! ولماذا هذا التفريق بين المسلمين؟!

قال الشيخ عبد السلام : كما قلتم بأنّ مجلسنا هذا إنما إنعقد للتعارف والتفاهم ، وأنا أشهد الله سبحانه بأنّي لم أقصد الإساءة إليكم والتجاسر عليكم ، فإذا صدر مني ما يسوء فسببه عدم إطلاعنا على مذهبكم وعدم مطالعتنا لكتبكم ، فما كنا نعرفكم حق المعرفة ، لأنّا ما عاشرناكم ولا جالسناكم ، وانما سمعنا وصفكم من لسان غيركم وتلقيناها بالقبول من دون تحقيق ، فإلتبست علينا كثير من الحقائق ، ومع تكرار الإعتذار أرجوكم أن تُبينوا لنا سبب سجودكم على الطينة اليابسة؟

قلت : أشكر شعوركم الطيب ، وبيانكم الحلو العذب ، وأشكركم على هذا الإستفهام ؛ لأنّ السؤال والإستفهام أجمل طريقة وأعقل وسيلة لإزاحة أي شبهة وابهام.

__________________

(٢٣٠) ـ الشيرازي ، السيد عبد الله : الإحتجاجات العشرة / ٥٥ ـ ٥٩.

(٢٣١) ـ السيد محمد الموسوي الشيرازي ، المعروف بسلطان الواعظين ، كان من العلماء العاملين ، والخطباء البارعين ، ولد في طهران عام ١٣١٤ هـ. وأخذ المقدمات والأوليات على أساتذتها ، وفي عام ١٣٢٦ هـ. هاجر إلى كربلاء مع والده وحضر على أعلام حوزتها ، حتى برع وكمل في كربلاء ، ثم إتصل بالزعيم الشيخ عبد الكريم الحائري في قم وحضر دروسه ، وتوفي يوم الإثنين ٢٠ شعبان عام ١٣٩١ هـ.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ) (١) .

وهو إشارة إلى أن وعد الله قد تحقق عمليا في إتيان العباس خيرا ممّا أخذ منه.

ويعرف من هذا الحديث أنّ النّبي كان في صدد أن يعوض الأسرى الذين أسلموا عمّا أخذ منهم ، ترغيبا وتشويقا ، وأن يعيد إليهم أموالهم المأخوذة منهم بصورة أحسن.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٦٨.

٥٠١

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(٧٥) )

٥٠٢

التّفسير

أربع طوائف مختلفة :

تبحث هذه الآيات التي تختتم بها سورة الأنفال ـ وتعدّ آخر فصل من فصولها ـ عن طوائف المهاجرين والأنصار والطوائف الأخرى من المسلمين وبيان قيمة هؤلاء جميعا ، فتعطي كل طائفة قيمة ، وتستكمل ما تناولته الآيات السابقة في شأن الجهاد والمجاهدين.

وبتعبير آخر : إنّ هذه الآيات عالجت نظام المجتمع الإسلامي من حيث العلائق المختلفة ، لأنّ خطة الحرب وخطة الصلح كسائر الخطط والمناهج العامّة ، لا يمكن أن يتمّ أيّ منها دون تكوين علاقة اجتماعية صحيحة ، وأخذها بنظر الإعتبار.

وقد تناولت هذه الآيات خمس طوائف ، أربع منها من المسلمين ، وواحدة من غير المسلمين ، والطوائف الأربع هي :

١ ـ المهاجرون السابقون.

٢ ـ الأنصار في المدينة.

٣ ـ المؤمنون الذين لم يهاجروا.

٤ ـ الذين آمنوا من بعد وهاجروا.

فتقول الآية الأولى من الآيات محل البحث( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) .

فقد أشير في هذا القسم من الآية إلى الطائفتين ، الأولى والثّانية [المهاجرون ، والأنصار] أي الذين آمنوا في مكّة ثمّ هاجروا منها إلى المدينة ، والذين آمنوا في المدينة ثمّ آزروا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصروه ودافعوا عنه وعن المهاجرين ، وقد وصفتهم الآية بأنّهم بعضهم أولياء بعض ، وبعضهم حماة بعض.

٥٠٣

والذي يسترعي النظر أنّ الآية وصفت الطائفة الأولى بأربع صفات هي : الإيمان ، والهجرة والجهاد المالي والاقتصادي «وذلك عن طريق الإعراض عن أموالهم في مكّة ، وما بذلوه من أموال في غزوة بدر» ، والصفة الرّابعة جهادهم بأنفسهم ودمائهم وأرواحهم.

أمّا الأنصار فقد وصفتهم الآية بصفتين هما : الإيواء ، والنصرة.

وقد جعلت هذه الآية الجميع مسئولين بعضهم عن بعض ، ويتعهد كلّ بصاحبه بقولها( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) .

فهاتان الطائفتان ـ في الحقيقة ـ كانتا تمثلان مجموعتين متلازمتين لا يمكن لأحدهما الاستغناء عن الأخرى ، إذ منهما يتكون نسيج المجتمع الإسلامي ، فهما بمثابة «المغزل والخيط».

ثمّ تشير الآية إلى الطائفة الثّالثة فتقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ) .

ثمّ استثنت في الجملة التي بعدها مسئولية واحدة فحسب ، وأثبتتها في شأن هذه الطائفة ، فقالت :( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) .

وبتعبير آخر : يلزم الدفاع عن أولئك في صورة ما لو أصبحوا قبال عدوّ مشترك ، أمّا إذا واجهوا كفارا بينكم وبينهم عهد وميثاق ، فإنّه يجب الوفاء بالعهد والميثاق ، وهي مقدمة على الدفاع في هذه الصورة.

وحضّت الآية على رعاية العهود والمواثيق والدقة في أداء هذه المسؤولية ، ومنبهة إلى علم الله بكل الأمور ، فقالت :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

فهو يرى جميع أعمالكم ويطلع على ما تفعلون من جهاد ، أو أداء للوظيفة الملقاة على عاتقكم ، أو إحساس بالمسؤولية ، كما يعلم بمن لم يعتن بالأمر ، وكذلك بالوهن والضعف وعدم الإحساس بالمسؤولية إزاء هذه الوظائف

٥٠٤

الكبيرة.

أمّا الآية الثّانية فتشير إلى النقطة المقابلة للمجتمع الإسلامي ، أي مجتمع الكفر وأعداء الإسلام ، فتقول :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) .

أي أنّ علاقاتهم منحصرة فيما بينهم ، ولا يحق لكم أن تتعاهدوا معهم ، أو تحاموا عنهم ، أو تطلبوا منهم النصرة لأنفسكم ، أو تلجؤوهم وتؤووهم إليكم ، أو تأووا وتلتجئوا إليهم.

وبعبارة موجزة : لا يحق للكفار أن يدخلوا في نسيج المجتمع الإسلامي ، ولا يحق للمسلمين أن يدخلوا في نسيج الكفار.

ثمّ تنبه الآية المسلمين وتحذرهم من مخالفة هذا التعليم ، فتقول :( إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ ) .

وأي فتنة وفساد أكبر من تهميش انتصاركم ، وسريان دسائس الأعداء في مجتمعكم ، وتخطيطهم لهدم دينكم دين الحق والعدل.

أمّا في الآية التالية فنجد تأكيدا على مقام المهاجرين والأنصار مرّة أخرى ، وما لهما من موقع وأثر في تحقق أهداف المجتمع الإسلامي ، فتثني عليهم الآية بقولها :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ) .

لأنّهم هبوا لنصرة الإسلام في الأيام الصعبة الشديدة وفي الغربة والمحنة وقد اشترك كل فرد منهم بنوع من النصرة لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) .

فهم فائزون بثواب الله والنعمة الأخروية ، كما أنّهم يتمتعون في هذه الدنيا بالعزة ورفعة الرأس والكرامة.

أمّا الآية الأخيرة فتشير إلى الطائفة الرّابعة من المسلمين ، أي أولئك الذين آمنوا وهاجروا من بعد ، فتقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا

٥٠٥

مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ) .

أي أنّ المجتمع الإسلامي ليس مجتمعا منغلقا ومحصورا على نفسه ، بل أبوابه مفتوحة لجميع المؤمنين والمهاجرين والمجاهدين ، وإن كان للمهاجرين الأوائل مقام خاص ومنزلة كريمة ، إلّا أنّ ذلك لا يعني أن المؤمنين الجدد والمهاجرين في المستقبل لا يعدّون جزاء من المجتمع الإسلامي ولا يكونون من نسيجه.

وتشير الآية في ختامها إلى ولاية الأرحام بعضهم لبعض ، وأوليتها فيما جعله الله في عبادة من أحكام ، فتقول :( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الآيات السابقة تتكلم عن ولاية المؤمنين والمسلمين العامّة «بعضهم إلى بعض» أمّا هذه الآية محل البحث فتؤكّد هذا الموضوع في شأن الأرحام والأقارب ، فهم إضافة إلى ولاية الإيمان والهجرة يتمتعون بولاية الأرحام أيضا ، ومن هنا فهم يرثون ويورثون بعضهم بعضا ، إلّا أنّه لا إرث بين غيرهم من المؤمنين الذين لا علاقة قربى بينهم.

فبناء على ذلك فإنّ الآية الأخيرة لا تتكلم عن الإرث ، بل تتكلم عن موضوع واسع من ضمنه موضوع الإرث.

وإذا وجدنا في الرّوايات الإسلامية ، وفي الكتب الفقهية ، استدلالا بهذه الآية والآية المشابهة لها في سورة الأحزاب على الإرث ، فلا يعني ذلك أن الآي الذي استدل به على الإرث منحصر بهذا الشأن فحسب ، بل توضح قانونا كليّا ، والإرث جزء منه. ولهذا نجد أنّه استدل بهذه الآية محل البحث على موضوع خلافة النّبي مع أنّها غير داخلة في موضوع الإرث المالي.

واستدل بها على أولوية غسل الميت ، كما صرّحت به الرّوايات الإسلامية.

وبملاحظة ما ذكرناه آنفا يتّضح أنّه لا دليل على ما أصر عليه جماعة من

٥٠٦

المفسّرين على انحصار هذه الآية بمسألة الإرث ، وإذا أردنا أن نختار مثل هذه التّفسير فإنّ السبيل الوحيد له أن نعده مستثنيا الإرث من الولاية المطلقة ، التي بيّنتها الآيات السابقة لعامّة المهاجرين والأنصار ، فنقول : إنّ الآية الأخيرة تقول بأنّ ولاية المسلمين العامّة بعضهم لبعض لا تشمل الإرث.

وأمّا الاحتمال بأنّ الآيات السابقة تشمل الإرث أيضا ثمّ نسخت الآية الأخيرة هذا الحكم منها ، فيبدو بعيدا جدّا ، لأنّ الترابط في المفهوم بين هذه الآيات جميعا من الناحية المعنوية ، بل حتى التشابه اللفظي ، كل ذلك يدل على أنّ الآيات نزلت معا في وقت واحد. وبهذا لا يمكن القول بالتناسخ بين هذه الآيات.

وعلى كل حال فإنّ التّفسير الأكثر تناسبا لهذه الآيات هو ما بيناه آنفا.

وفي آخر جملة من هذه الآية ـ التي هي آخر جملة من سورة الأنفال أيضا ـ يقول الله سبحانه :( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

فما نزل في هذه السّورة من أحكام تتعلق بالأنفال وغنائم الحرب ، وتعاليم الجهاد والصلح ، وأحكام الأسرى والحرب ، وما يتعلق بالهجرة وغيرها ، كل ذلك كان وفق حساب دقيق يتلاءم وروح المجتمع الإنساني ، والعواطف والبشرية ، والمصالح العامّة في جميع جوانبها المختلفة.

* * *

ملاحظات

١ ـ الهجرة والجهاد

إنّ دراسة التاريخ الإسلامي تدلّ على أن هذين الموضوعين كانا من عوامل انتصار المسلمين الرئيسية قبال عدوّهم ، فلولا الهجرة لتمّ دفن الإسلام في مكّة ، ولولا الجهاد لما اتسعت رقعة الإسلام ، فالهجرة أخرجت الإسلام من منطقة

٥٠٧

خاصّة إلى مداه الرحب وصيرته عالميّا ، والجهاد علّم المسلمين أنّهم إذا لم يعتمدوا على قدراتهم فإنّ عدوّهم الذي لا يلتزم بأيّة مقررات سوف لا يعترف لهم بأدنى حقّ. سوف لا يعطيهم حقوقهم المشروعة ، ولا يصيخ لهم سمعا أبدا.

واليوم إذا أردنا انقاذ الإسلام من الطرق المسدودة ، وإزاحة الموانع التي جعلها الأعداء في طريقه من كل جهة ، فلا سبيل إلى ذلك إلّا باحياء هذين الأصلين : الهجرة والجهاد.

فالهجرة توصل صوت المسلمين إلى أسماع العالم كله ، وتروي ظمأ القلوب المتعطشة للحق والعدل ومن هو في شوق إلى معرفة الحقيقة.

والجهاد يهب المسلمين التحرك والحياة ، ويبعد أعداءهم الذين لا ينفعهم إلّا منطق القوة عن قارعة الطريق ويبيدهم.

وقد حدثت الهجرة في الإسلام مرارا. فكانت هجرة المسلمين من مكّة إلى الحبشة حيث غرسوا بها الإسلام خارج الجزيرة العربية وبنوا فيها حصنا للمسلمين الأوائل قبال ضغوط أعدائهم.

ثمّ هجرة النّبي والمسلمين الأولى إلى المدينة ، ولهؤلاء المهاجرين الذين يطلق عليهم (مهاجرو بدر) أهمية قصوى في تأريخ الإسلام ، لأنّهم اتّجهوا ظاهرا نحو مستقبل مجهول مظلم ، وغضوا ابصارهم عن جميع ما ملكوه في سبيل الله ، وأعرضوا عن حطام الدنيا.

هؤلاء المهاجرين أي : «المهاجرون الأوّلون» مثلوا في الحقيقة الحجر الأساس لصرح الإسلام العظيم ، والقرآن يثني عليهم بالتكريم والتعظيم ، ولوليهم عناية خاصّة ، لأنّهم كانوا من أشد المسلمين تضحية.

«الهجرة الثّانية» أطلقت على هجرة طائفة أخرى من المسلمين إلى المدينة ، وذلك بعد صلح الحديبية والحصول على محيط آمن نسبيا بعد هذا الصلح ، وقد تطلق الهجرة على كل مهاجر من مكّة إلى المدينة حتى بعد واقعة

٥٠٨

بدر ، وإلى زمان فتح مكّة.

أمّا بعد فتح مكّة فقد انتفت الهجرة من مكّة إلى المدينة ، لأنّ مكّة أصبحت مدينة إسلامية أيضا ، والحديث النبوي المشهور «لا هجرة بعد الفتح» يشير إلى هذا المعنى.

لكن هذا الكلام لا يعني أن مفهوم الهجرة زاك من قاموس مبادئ الإسلام كليّا كما يتصور بعضهم ، بل الهجرة من مكّة إلى المدينة انتفى موضوعها ، وإلّا فمتى ما حدثت ظروف كظروف المسلمين الأوائل فقانون الهجرة باق على قوته ، وسوف يبقى ما دام الإسلام يتسع حتى يستوعب العالم أجمع.

ومع الأسف الشديد فإنّ أغلب المسلمين لنسيانهم هذا الأصل الإسلامي المهم انغلقوا على أنفسهم ، بينما نرى المبشرين المسيحيين والفرق الضالة والاستعمار يهاجرون إلى أنحاء المعمورة كلها ، ويذهبون حتى إلى القبائل أو الطوائف المتوحشة ممن يأكلون لحوم البشر في مجاهيل أفريقيا ، ويجوبون القطبين المتجمدين الشمالي والجنوبي في سبيل تحقيق أهدافهم ، مع أن هذه مهمّة المسلمين في الواقع ، إلّا أن العمل أضحى من الآخرين!

والأعجب من ذلك وجود الكثير من القرى في جوار المدن الإسلامية الكبرى ، وبمسافة لا تبعد كثيرا عنها ، إلّا أن أهلها لا يعرفون عن الإسلام شيئا ، ولا يعرفون أحكامه ، وربّما لم يروا وجه مبلغ إسلامي هناك أبدا. لهذا فإنّ محيطهم مستعد لنشوء جراثيم الفساد والمذاهب المختلقة والبدع التي يفتعلها «الاستعمار» ولا ندري بماذا يجيب المسلمون ربّهم يوم القيامة ـ وهم ورثة المهاجرين الأوائل ـ إزاء هذه الحال المزرية؟!

وبالرغم من مشاهدة تحرك في هذا الصدد أخيرا ، إلّا أنّه محدود وغير كاف ابدا.

وعلى أية حال ، فإن موضوع الهجرة وأثرها في تاريخ الإسلام ومصير

٥٠٩

المسلمين أكبر من أن نأتي على جميع جوانبه بهذا الاختصار (ولنا كلام بهذا الشأن لدى تفسير الآيات التي تتناول هذا الموضوع إن شاء الله ...).

٢ ـ المبالغة والإغراق في تنزيه الصحابة

حاول بعض إخواننا أهل السنة أن يستنتج من ما أولاه القرآن للمهاجرين السابقين «الأوائل» من اهتمام واحترام ، أنّهم لن يرتكبوا ذنبا إلى آخر عمرهم وحياتهم. وذهبوا إلى إكرامهم واحترامهم جميعا دون استثناء ، ودون الاعتراض على هذا وذاك ، وكيف ذلك؟! ثمّ عمموا هذا القول على جميع الصحابة ـ فضلا عن المهاجرين ـ وذلك لثناء القرآن عليهم في بيعة الرضوان وغيرها ، وذهبوا عملا إلى أنّ الصحابة ـ دون النظر إلى اعمالهم ـ أفراد متميزون. فلا يحق لأيّ شخص توجيه النقد لهم والتحقيق في سلوكهم. يجوز بأيّ وجه أن يوجه النقد إليهم.

ومن جملة هؤلاء المفسّر المعروف صاحب المنار ، إذ حمل في ذيل الآيات محل البحث حملة شعواء على الشيعة ، لأنّهم ينتقدون المهاجرين الأولين ، ولم يلتفت إلى أن مثل هذا الإعتقاد لا يتضاد وروح الإسلام وتاريخه!!

فلا ريب أنّ للصحابة ـ وعلى الخصوص المهاجرين منهم ـ حرمة خاصّة ، إلّا أنّ هذه الحرمة كانت قائمة ما داموا في طريق الحق ويضحّون من أجل الحق ، لكن من المقطوع به أن نظرة القرآن إلى بعضهم أو حكمه قد تغير منذ انحرف عن النهج القويم والصراط المستقيم.

فمثلا ، كيف يمكننا أن نبرئ طلحة والزبير من نقضهما بيعة إمامهما الذي انتخبه المسلمون «بغض النظر عن تصريح النّبي بمقامه وشأنه» وكانا من ضمن المسلمين الذين بايعوه؟ وكيف يمكن تبرأتهما من دماء سبعة عشر ألف مسلم قتلوا في حرب الجمل ، مع أنّه لا عذر لمن يسفك دم إنسان واحد أمام الله مهما

٥١٠

كان ، فكيف بهذا العدد الهائل الذين سفكت دماؤهم؟

ترى هل يمكن أن نعدّ عليّاعليه‌السلام وأصحابه في حرب الجمل على الحق كما نعدّ أعداءه فيها على الحق أيضا؟! ونعد طلحة والزبير ومن معهما من الصحابة على الحق كذلك؟! وهل يقبل العقل والمنطق هذا التضاد الفاضح؟

وهل يمكننا أن نغض النظر من أجل عنوان «تنزيه الصحابة» ولا نلتفت إلى التأريخ وننسى كل ما حدث بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونضرب عرض الجدار قاعدة( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) ؟

مالكم كيف تحكمون؟!

وما يمنع أن يكون الإنسان من أهل الجنّة ومؤيدا للحق يوما ، ويكون من أهل النّار ومؤيدا للباطل ومن أعداء الحق يوما آخر؟ فهل الجميع معصومون؟ألسنا نرى التغييرات في أحوال الأشخاص بأم أعيننا؟!

قصة «اصحاب الردّة» وارتداد جمع من المسلمين بعد رحلة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مذكورة في كتب أهل السنّة والشّيعة ، وأن الخليفة الأوّل تصدى لهم وقاتلهم ، فهل يعقل أنّ أحدا من «اصحاب الردّة» لم ير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكونوا في عدّة الصحابة؟

والأعجب من ذلك أنّ بعضا تشبث بالاجتهاد للتخلص من الطريق المسدود والتناقض في ذلك ، وقالوا : إن أمثال طلحة والزبير ومعاوية ومن لفّ لفهم قد اجتهدوا فأخطأوا وليسوا مذنبين ، بل هم مثابون مأجورون بأعمالهم من قبل الله! فما أفضح هذا المنطق؟!

فهل الثورة على خليفة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونقض البيعة وهدر دماء الآلاف من الأبرياء من أجل رئاسات دنيوية وحب المال ، موضوع معقد ومبهم ولا يعرف أحد ما فيه من سوء؟!

ترى هل في سفك كل تلك الدماء البريئة أجر وثواب عند الله؟!

٥١١

فإذا أردنا تبرئة جماعة من الصحابة ممّا ارتكبوه من جرائم ، فسوف لا نرى مجرما أو مذنبا في الدنيا ، وسنبرئ بهذا المنطق جميع القتلة والمجرمين والجبابرة.

إنّ مثل هذا الدّفاع غير المنطقي ـ عن الصحابة ـ سيسبب النظرة السيئة إلى أصل الإسلام.

والخلاصة ، أنّنا لا سبيل لنا إلّا احترام الجميع خاصّة أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما داموا لم ينحرفوا عن مسير الحق والعدل ومناهج الإسلام ، وإلّا فلا.

٣ ـ الإرث في قوانين الإسلام

كما أشرنا سابقا في تفسير سورة النساء ، فإنّ الناس في زمان الجاهلية كانوا يتوارثون عن ثلاث طرق :

١ ـ عن طريق النسب «وكان منحصرا بالأولاد الذكور ، أمّا الأطفال والنساء فهؤلاء محرومون من الإرث».

٢ ـ وعن طريق «التبني» بأن يجعل ولد غيره ولده.

٣ ـ وعن طريق العهد الذي يعبر عنه بالولاء(١) .

وفي بداية الإسلام كان العمل جاريا بهذه الطرق قبل نزول قانون الإرث ، إلّا أنّه سرعان ما حلّت الأخوة الإسلامية مكان ذلك ، وورث المهاجرون الأنصار فحسب ، وهم الذين تآخوا وعقدوا عهد الأخوة الإسلامية ، وبعد أن اتسع الإسلام أكثر فأكثر شرّع حكم الإرث النسبي والسببي ، ونسخ حكم الأخوة الإسلامية في الإرث.

وقد أشارت إليه الآيات ـ محل البحث ـ والآية (٦) من سورة الأحزاب ، إذ

__________________

(١) بحثنا موضوع الإرث بالولاء في الجزء الثّالث بصورة مفصلة.

٥١٢

تقول :( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) .

كل هذا مقطوع به من حيث التاريخ ، إلّا أنّه ـ كما قلنا من قبل ـ فإن جملة( وَأُولُوا الْأَرْحامِ ) الواردة في الآيات محل البحث لا تختص بمسألة الإرث ، بل هي ذات معنى واسع ، والإرث جزء منه.

٤ ـ ما المراد من الفتنة والفساد الكبير

احتمل المفسّرون في تفسير هاتين الكلمتين الواردتين في الآيات محل البحث احتمالات كثيرة ، إلّا أنّ ما ينسجم أكثر مع مفهوم هذه الآية هو أنّ المراد من «الفتنة» هو الاختلاف والتفرق وتزلزل مباني العقيدة الإسلامية على أثر وسوسة الأعداء ، و «الفساد» يشمل كل إخلال وتخريب للنظم الاجتماعية المختلفة وخاصّة سفك الدماء البريئة والإرهاب وأمثال ذلك.

وفي الحقيقة فإنّ القرآن المجيد ينذر المسلمين إذا لم يحكموا علائق الأخوة والتعاون فيها بينهم ، ولم يقطعوا ارتباطهم بالعدوّ ، فإنّ جماعتهم تزداد تشتتا يوما بعد يوم ، وبنفوذ الأعداء داخل المجتمع الإسلامي ووساوس إغواءاتهم تزلزل أسس الإيمان وقواعده ، ويبتلى المسلمون عن هذا الطريق بفتنة عظيمة.

وكذلك إذا لم تكن علائق اجتماعية قوية ، فإنّ العدو سرعان ما ينفذ إلى المجتمع وتحدث أنواع المفاسد من إرهاب وسفك الدماء ، وتضيع الأموال وإغواء الأولاد ، ويبدو الضعف والنقص واضحا في المجتمع ، ويعم الفساد الكبير كل مكان.

ربّنا ، أيقظ مجتمعنا الإسلامي بلطفك. ونبّهنا إلى أخطار التعاون مع الأعداء وتكوين العلاقة وإياهم. ونزّه مجتمعنا من الفتنة والفساد الكبير بنور المعرفة ووحدة الكلمة ، برحمتك يا أرحم الراحمين.

* * *

٥١٣
٥١٤

سورة التّوبة

وهي مدنيّة

وعدد آياتها مائة وتسع وعشرون آية فحسب

٥١٥
٥١٦

سورة التّوبة

ينبغي الالتفات إلى الأمور التالية قبل الشروع في تفسير السورة

١ ـ أسماء هذه السّورة

ذكر المفسّرون لهذه السّورة أسماء عديدة تبلغ العشرة ، غير أنّ المشهور منها هو ما يلي : سورة البراءة ، وسورة التوبة ، والسورة الفاضحة. ولكلّ من التسميات سبب جلي.

فالبراءة ، لأنّها تبتدأ بإعلان براءة الله من المشركين ، والذين ينقضون عهدهم. والتوبة ، لما ورد من مزيد الكلام عن التوبة في هذه السورة.

والفاضحة ، لما فيها من الآيات التي تكشف النقاب عن أعمال المنافقين لتعريتهم وخزيهم وفضيحتهم.

٢ ـ متى نزلت هذه السورة

هذه السورة هي آخر سورة نزلت على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من أواخر السور النازلة عليه في المدينة ، وهي كما قلنا ذات ١٢٩ آية فحسب.

والمعروف أن بداية نزول هذه السورة كانت في السنة التاسعة للهجرة ، ويدلّ تتبع آياتها على أنّ قسما منها نزل قبل معركة تبوك ، وقسما منها نزل عند الاستعداد للمعركة أو «الغزوة» ، وقسما منها نزل بعد الرجوع من المعركة والفراغ منها.

٥١٧

ومن بداية السورة حتى الآية (٢٨) نزل قبيل موسم الحج ، كما سنبيّن ذلك بعون الله ، والآيات الأولى ـ هذه ـ والتي تتعلق بمن بقي من المشركين بلّغها أمير المؤمنينعليه‌السلام في موسم الحج.

٣ ـ محتوى السّورة

لمّا كان نزول هذه السورة إبّان انتشار الإسلام في الجزيرة العربية ، وتحطيم آخر مقاومة للمشركين فقد كان لما حوته من مفاهيم أهمية بالغة ومواضيع حساسة. إذ يتعلق قسم منها بالبقية الباقية من عبدة الأوثان والمشركين ، وقطع العلاقات معهم ، وإلغاء المعاهدات والمواثيق التي كانت بينهم وبين المسلمين ، لنقضهم لها مرارا ، ليتم تطهير المحيط الإسلامي من رجس الوثنية إلى الأبد.

وحيث إن بعض الأعداء عند انتشار رقعة الإسلام وتحطيم قوى الشرك غيّر مظهره بغية النفوذ بين المسلمين ، ولتوجيه ضربة قاضية للإسلام من قبل المنافقين فإنّ قسما مهما من آيات هذه السورة تتحدّث عن المنافقين وعاقبهم ، وتحذر المسلمين منهم.

وبعض آيات هذه السورة تتحدّث عن الجهاد في سبيل الله وأهميته ، لأنّ الغفلة عن هذا الأمر الحياتي في ذلك الظرف الحساس تبعث على ضعف المسلمين وتقهقرهم أو انكسارهم.

كما أنّ قسما منه يكمل البحوث السابقة التي تناولت انحراف أهل الكتاب «اليهود والنصارى» عن حقيقة التوحيد ، وتتكلم عن انصراف علمائهم عن واجبهم في التبليغ وقيادة المجتمع.

وفي بعض آيات هذه السورة حثّ للمسلمين على الاتحاد ورص الصفوف ـ تعقيبا على ما جاء آنفا في الحث على الجهاد ـ وتوبيخ للمتخاذلين المتحرّفين أو الضعاف الذين يتذرعون بذرائع واهية للتخلص من هذا الواجب ، ثمّ إنّ فيها

٥١٨

ثناء على المهاجرين السابقين إلى الهجرة ، والصفوة من المؤمنين الصادقين.

وحيث سبّب انتشار الإسلام واتساع رقعة مجتمعه آنئذ ظهور حاجات مختلفة ينبغي توفيرها ، فقد عرضت بقية الآيات من هذه السورة موضوع الزكاة وتحريم تراكم الثروات واكتنازها ، ووجوب طلب العلم أو التعلّم وتعليم الجهلة ، وتناولت بحوثا متنوعة أخرى كقصة هجرة النّبي ، والأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال ، وأخذ الجزية من الأقليات الدينية غير الإسلامية كاليهود والنصارى ، وما إلى ذلك.

٤ ـ لم لم تبدأ هذه السورة بالبسملة؟

يجيب استهلال السورة على السؤال آنف الذكر فقد بدئت بالبراءة ـ من قبل الله ـ من المشركين ، وإعلان الحرب عليهم ، واتباع أسلوب شديد لمواجهتهم ، وبيان غضب الله عليهم ، وكل ذلك لا يتناسب والبسملة( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) الدالة على الصفاء والصدق والسلام والحب ، والكاشفة عن صفة الرحمة واللطف الإلهي.

وقد ورد هذا التعليل عن عليعليه‌السلام (١) .

ويعتقد بعض المفسّرين أن سورة براءة ـ في الحقيقة ـ تتمة لسورة الأنفال ، لأنّ الأنفال تتحدث عن العهود ، وبراءة تتحدث عن نقض تلك العهود ، فلم تذكر البسملة بين هاتين السورتين لارتباط بعضهما ببعض. وقد ورد عن الإمام الصادق هذا المعنى أيضا(٢) .

ولا مانع أن يكون السبب في عدم ذكر البسملة مجموع الأمرين آنفي الذكر

__________________

(١)جاء في مجمع البيان عن الشيخ الطبرسي عن علي عليه‌السلام أنّه قال «لم تنزل ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) على رأس سورة «براءة» لأنّ بسم الله للأمان والرحمة ونزلت براءة لرفع الأمان والسيف فيه!».

(٢) قال الطبري نقلا عن الإمام الصادقعليه‌السلام «الأنفال وبراءة واحدة!».

٥١٩

ـ معا ـ فالأوّل ناظر إلى الرواية الأولى «رواية الإمام علي» والثّاني يشير إلى رواية الإمام الصادقعليه‌السلام .

٥ ـ فضيلة هذه السورة وآثارها

أولت الرّوايات الإسلامية أهميّة خاصّة لتلاوة سورتي براءة والأنفال ، وممّا جاء في شأنهما عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال «من قرأ براءة والأنفال في كل شهر لم يدخله نفاق أبدا ، وكان من شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام حقّا».

وقد قلنا مرارا : إنّ ما ورد من أهمية قصوى في الرّوايات الإسلامية في قراءة مختلف السور لا يعني ظهور آثار تلك القراءة من دون تفكّر وتطبيق لمضامينها ، فنقول مثلا : من قرأ سورتي براءة والأنفال دون إدراك لمعانيهما فسيدرأ عنه النفاق ، ويكون من شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بل المراد في الحقيقة أن يكون مضمون السورة مؤثّرا في بناء شخصية الفرد والمجتمع ، ولا يتحقق ذلك إلّا بإدراك مغزى السورة واستيعاب معناها ، والاستعداد والتهيؤ لتطبيقها.

وحيث أن السورتين قد أوضحتا الخطوط العريضة العامّة في حياة المؤمنين الصادقين ومن في قبالهم من المنافقين ، وأنارتا الطريق للعاملين لا للمدّعين فحسب ، فستكون ثمرة تلاوتهما والإعتبار بمضمونيهما هو ما ذكرته الرواية وبهذا تكون التلاوة مؤثرة بنّاءة.

وأمّا من ينظر إلى القرآن وآياته الشريفة بشكل آخر ، فهو أبعد ما يكون عن روح هذا الكتاب التربوي الذي جاء لبناء الإنسانية وهدايتها.

وقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيان الأهمية القصوى لما نوهنا عنه من لطائف ، أنّه قال «نزلت عليّ براءة والتوحيد في سبعين ألف صف من صفوف الملائكة ، وكان كل صف منهم يوصيني بأهمية هاتين السورتين».

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606