الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245364 / تحميل: 6215
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وأنسجة الاتصال فيتفاهم معها على البذة الجثمانية التي سيكون عليها هذا الكائن ، وفيبدأ العظم في التفاهم مع الدم والكلس والمعادن والأخلاط والبروتينات والشحوم وبقية الغدد على انجاز الهيكل العظمي بشكل يتفق مع الخريطة الهندسية التي أطلعه عليها هورمون النمو ، وكأن هذا الهورمون هو المهندس الذي يصمم الخريطة وبقية الأعضاء هم العمال والمقاولون والبناؤون والعتالون والنقالون الذين يبنون هذه البناية الإنسانية الفريدة ، وهكذا يقوم الهيكل العظمي بشكل متزن من كل جهاته ويساهم معه غضروف الاتصال ، وأنسجه الاتصال في كل البدن.

وأما الحاث الذي ينبه الثدي على إفراز اللبن(1) فهو يطلع غدد الثدي وخلاياها على الطريقة السحرية الغامضة التي يمكن بواسطتها قلب محصول الدم في الخلايا إلى حليب يناسب الطفل من كل جانب ، كما أن نفس الحليب يزداد تركيز المواد فيه مع الزمن بحيث يناسب الولد مع تقدم نموه واشتداد عضلاته ، وقوة مفاصله ، وتدرج تكوينه.

وأما الحاث الثالث فهو الذي يتصل الدرقية(2) وهو يعلم الدرق كيفية اصطياد اليود من الدم ، وتركيب هورمونات الدرق منه مثل التيرونين والتيروكسين ، والتيروكسين بدوره يفعل كما ذكرنا على مستويين : الأول هو تثبيط مفرز الغدة النخامية ، والثاني على مستوى

__________________

(1) يسمى اختصاراً L.T.H.

(2) الغدد التي تترابط بشكل مباشر مع النخامة هي الدرق وتقع في أسفل ومتتصف العنق ولا تظهر إلا في الاحوال المرضية ، وغدة الكظر وهي مثل القبعة المثلثة فوق رأس الكلية ، وغدة المبيض وتقع في أسفل البطن والخصية والثدي ، واجهزة النمو بشكل عام ، والهورمونات الستة اختصاراً هي A.C.T.H لقشر الكظر أو مغذي الكظر و T.S.H مغذي الدرق ، و L.T.H مغذي الثدي ، و G.H النمو ، و F.S.H لجريب دو غراف ، و I.C.S.H لخلايا المبيض والخصية.

٢٤١

الجسم ، فهو يؤثر في كل الأجهزة على الإطلاق عدا الدماغ لأنه مركز القيادة ، والطحال لأنه المقبرة الموحشة المنعزلة ، والخصية والرحم لأنهما من اختصاص الغدة النخامية.

وهذا الهورمون أصح ما يقال عنه إنه هورمون الفعالية والنشاط فهو يدفع النشاط والحيوية في كل مسارب البدن ، فالقلب يضرب ، والتوتر يرتفع ، والفعالية تزداد ، والعرق يتصبب ، والصوت يعلو ، والحرارة تتدفق في أرجاء البدن ، والنمو يزداد ، ومنعكسات الجهاز العصبي تزداد ، والكلية تعمل ، ويزداد ادرار البول ، والعضلات تشتد ، والسكاكر تحرق ، والشحوم تذاب في البدن ، والفيتامينات تتكون مثل الفيتامين A من الكاروتين إنها الفعالية والنشاط في كل مستويات البدن. إنها حرارة العمل ، ونشاط الانتاج ، ووهج الحيوية ، ولكن إذا زاد الأمر أو نقص انقلب الأمر بشكل مريع ، وهو ما يعرف بقصور الغدة الدرقية ونشاط الغدة الدرقية ، ففي الأول يسيطر الكسل والخمول على كل فعاليات البدن ، فإذا تحرك نقل المريض نفسه ببطء ، وإذا تكلم كان صوته خشناً خافتاً وكأنه ينبعث من كهف ، وأما وجهه ففيه تعابير البلادة ، وأما قلبه ففيه بطء الحياة ، وهكذا يعم الكسل وينتشر الخمول!! وإذا اشتد نشاط هذه الغدة تدفق العرق من الجسم فلا تصافح المريض إلا ويده رطبة من التعرق ، وتفيض الحرارة على الجسم فيشعر المريض وكأنه في أتون ويتضايق من الحر. ويميل إلى حب البرد ، وإذا تكلم ارتفع صوته واشتد غضبه وحدثت لديه الانفعالات بسرعة وبشدة ، وإذا مد يديه أصابهما الرجفان ، وهكذا تنتشر السرعة ، ويعم الاضطراب العصبي وكأن الحالة الأولى هي القطار البطىء والثانية هي القطار الأهوج السريع!!!

وأما الحاث الرابع فهو الرسول الموقر إلى مملكة الكظر حيث يقابل

٢٤٢

عناصر الدولة في الحدود الأولى ، وهي القشر في الكظر ، وهناك تشرح الخطة التي يجب أن يقوم بها الكظر ، حيث يبدأ بإفراز الهورمونات من ثلاث مناطق ، وبعدد يبلغ الثلاثين هورموناً ، وهي تقوم بثلاث وظائف حيوية : الأولى على مستوى السكاكر ، والثانية على مستوى معادن البدن ، والثالثة في الوظائف الجنسية ، ولذا تسمى هذه الهورمونات : بالقشرية السكرية ، والمعدنية ، والجنسية. وهي تفرز من مناطق اختصاص من منطقة قشر الكظر.

وهذه الهورمونات الثلاثون تقوم بجملة عجيبة في البدن فتعدل الشوارد المعدنية فيه ، وتحسن وظائف أجهزته ، وتحافظ على اتزان أخلاطه ، وتسير أموره ، وتضبط موازينه فيما يزيد على سبعين وظيفة لسنا بصددها الآن ، هذا مع العلم بأن كل الكظر بما فيه القشر واللب لا يتجاوز وزنه سبعة غرامات فقط.

وأما الرسولان الأخيران فهما يرسلان إلى مراكز الجنس ومستودعات الذخيرة الإنسانية ، وهي الخصية والمبيض ، وهناك تشرح الخطة المفصلة لانضاج البيضة الإنسانية وإعدادها للالقاح ، كما يهىء الحيوان المنوي بما يلزمه في الرحلة التي يقطعها عبر الرحم والأخلاط والمفرزات والطرق المتعرجة ، والمسارب الملتوية ، والأحماض والسوائل ، فهو يزود بذنب طويل يساعده على الحركة اللولبية ، كما يفهم كيف يجب أن يمشي وأي الطرق يختار ، وما هي السرعة التي يجب أن يسير بها ، والطريقة التي يسرع بها ، وأنسب ما تكون الحركة اللولبية ، كما يغطى رأسه من الأمام بخوذة مصفحة حتى لا يتأثر بالصدمات والرضوض والضربات ، وهي القلنسوة الامامية ، وحتى يلج بها جدار البيضة التي تنتظره. ثم يزود بعد ذلك بالأدعية أن يحفظه الله في رحلته الميمونة الخطرة!! فكيف علمت وعلمت هذه الهورمونات ، أهو عامل الصدقة؟ أم هو

٢٤٣

قوة النطفة بذاتها ، أم هي القوة المدبرة اللطيفة الحكيمة والعقل المنظم الدافع الذي يبعث الحياة ، ويهب الحكمة ، ويمنح الرحمة ، ويعطي الهداية للكائنات( قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ايتوني بكتاب من قبل هذا أن أثارة من علم إن كنتم صادقين ) سورة الأحقاف( أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون ) سورة الطور

هذا ما كان من أخبار الفص الأمامي للغدة النخامية ، وأما الفص المتوسط فيفرز حاثاً يتعلق بالجلد حيث يوفد هذا السفير إلى تلك الأصقاع النائية الشاسعة التي تغطي الوجود الانساني كله من مفرق رأسه إلى قدمه ، ولا تنفتح عنه إلا في الفوهات مثل الفم والانف والاحليل والمستقيم ، والجلد في هذه الفوهات يستدير ويفصل بطريقة ملائمة جداً ، ويأتي هذا السفير إلى تلك الاصقاع فيخبرهم بالخطر الذي يتعرض له الجلد من الضياء والحرارة والأعداء الخارجيين ، لذا فان أنسب تلوين يأخذه هو من طبيعة الأرض ولون الأرض التي يعيش عليها ، كما أن المناطق التي تتعرض بكثرة للنور يجب أن لا تبقى بيضاء والا احترقت خاصة في المناطق التي تزداد فيها أشعة الشمس مثل المناطق الاستوائية ولذا يتلون الجلد باللون الأسود ويحدث العكس في المناطق الباردة والمناطق القليلة الشمس.

إن تتظيم الصباغ الذي بلون الجلد يعود إلى هذا الهورمون الحاث حيث يتفاهم مع خلايا قاعدة الجلد على افراز صباغ خاص يسمى بالميلانين ، وهذا الصباغ يلون الجلد باللون المناسب حسب الحرارة ووهج الضياء الخارجي ، ولنا أن نتساءل أمام هذه الحقيقة : ما ذنب الزنجي الاسود حتى تسقط حقوقه ، وتداس كرامته ، ويحرم من التعليم ، ويسام الخسف والهوان والضيم والذل ، ويسلط عليه الفقر والجهل

٢٤٤

والمرض ، ويطارد كالكلب ، بل يكتب على المطاعم ممنوع دخول الكلاب والسود!! ما ذنبه إذا كان كل صباغ الميلانين هذا الذي يتوزع في جلده يساوي غراماً واحداً فقط ، ولكن هل تساوي هذه الحضارة المزيفة غراماً واحداً من الخلق والإنسانية؟!!

وآخر الأقسام الثلاثة من النخامة هو الفص الخلفي ، ويسمى بالفص العصبي ، لأن له اتصالات عصبية مباشرة مع مراكز الدماغ العليا أكثر من الفص الأمامي والمتوسط ، وكما ذكرنا سابقاً فهناك مراكز تقع فوق النخامة وتحت السرير البصري ، وهذه المناطق هي مناطق التنظيم والقياده العليا التي تنصّب الملوك ، وتعين الأمراء ، وترسل الرسل ، وتهيمن على الجميع!! إن هذه المنطقة ترسل أليافاً عصبية تسيطر بها على فعالية الغدة النخامية حتى تتناسق في العمل مع بقية أعضاء الجسم عن طريق الدماغ ، وهذه الألياف تنحدر إلى الغدة وتتوزع في الفصوص الثلاثة ، وأكثرها في الفص الخلفي ، ويبلغ عدد الألياف وسطياً في كل فص (50) ألف ليف عصبي ، فهي شبكة اتصالات هاتفية مكونة من أكثر من (100000) مائة ألف خط للتفاهم وتنسيق الجهود.

هذا الفص يفرز ثلاثة هرمونات ، وهذه الهورمونات تقوم بثلاثة أدوار هي تقليص عضلة الرحم ، وتقبيض الأوعية الدموية ، والدور الثالث عبارة عن عملية مضادة للإدرار في الكلية. فأما الهورمون الأول فهو الذي ينظم تقلص الرحم في ساحة الخلاص وبشكل تدريجي ونتساءل لماذا يبدأ هذا الهورمون عمله وفي هذه اللحظة بالذات؟ لقد وجد من أسرار التنظيم العجيبة أن هناك تضاداً ما بين إفراز هذا الهورمون من غدة النخامة ، وما بين الهورمونات التي تفرزها المشيمة المتعلقة بأرجل هي أقوى من مائة (100) أخطبوط إلى جدار الرحم ، وهي هورمونات البروجسترون والأستروجين ، ولقد لوحظ ان هذه

٢٤٥

الهورمونات تنخفض كلياً وبسرعة في لحظة ما ، وكأن هذا اللجام للغدة النخامية قد أفلت وكأن تعلق المشيمة بجدار الرحم قد تزعزع من الأساس فيبدأ هذا الهورمون باقناع الرحم أن يتقلص لدفع الجنين إلى الخارج بشكل منظم تدريجي بعد أن حواه تسعة أشهر كاملة ( حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) ونتساءل مرة أخرى ما الذي دعا الى هبوط مستوى هورمونات المشيمة من الدم كلياً دفعة واحدة وبسرعة؟ هل لأن المشيمة شاخت ، أو ماذا؟ لا أحد يدري وقيل في هذا تعليلات مختلفة ولكن أصدق ما يقال هو قدرة الله المنسقة للكون والحيان والانسان(1) .

وييدأ الرحم في التقلص ، ويبدأ صراخ الأم وتمر بمراحل مختلفة من الالم يشتد فيها تدريجياً حتى يصل الألم إلى درجة لا تستطيع الام أن تخرج معه صوتها ، نقف هنا لنلفت نظر القارئ إلى نقطة عجيبة وهي : إن تفلص الرحم المنظم المشتد تدريحياً هو الذي يخرج الجنين إلى الحياة لأن نقص التقلص يفضي إلى ما يعرف بعطالة الرحم حيث يمتنع الرحم عن التقلص ويبقى الجنين في الداخل ينتظر ساعة الخلاص ، وهنا يعمد الاطباء إلى ما يعرف بتحريض المخاض عن طريق حقن مواد ودوائية في الوريد ، وإذا اشتد تقلص الرحم حدث ما يعرف باشتداد تقلص الرحم ، وفرط مقوية الرحم التي قد تصل إلى درجة تكزز الرحم حيث تتوالى التقلصات بدون فواصل راحة وكأنها هستريا تشنجية في عضلة الرحم ، ويصل الامر في آخره إلى أن تنقبض الرحم مرة واحدة فلا ترتخي ، وهذا معناه الهلاك المبين للجنين ، لا تشنج الرحم

__________________

(1) لا يعني هذا ان بقية الآليات والتفاعلات في الجسم إذا جاء العلماء وفسروها فان معناها ان قدرة الله لا تتدخل فيها ، بل إن نفس الدماغ الذي يفسر بواسطته العالم مشاكل العلم هو من هبات الله التي لا تحصى.

٢٤٦

وانقباضه بهذا الشكل يعني انقطاع ورود الدم إلى الجنين عبر المشيمة ، ويبدأ الجنين في التالم ويرسل صيحات النجدة وإشارات الاستغاثة ، ولكن كيف سنعرف أنه في حالة محنة وكرب؟ إنه يرسل صرخات النجدة من خلال أثمن ما يملك وهو دقات القلب(1) ، وهكذا يعرف الطبيب وضع الجنين تماماً من خلال سماع دقات قلب الجنين ، وتكون إشارات الاستغاثة تماماً كالإشارات الخضراء والصفراء والحمراء. فالقلب أولاً يسرع ثم يبطؤ ، ثم تخف ضرباته ويضيع انتظامه ، وكأن الحالة الأولى الانفعال السريع ثم التراخي ثم الاقتراب من سكرة الموت وضياع الوعي ، فما أعقل قلب هذا الجنين الذي يرسل هذه الإشارات المعبرة!! ان سماع هذه الدقات يعني للطبيب أن يتدخل بسرعة لانقاذ حياة هذا الذي يغرق في الموت كل لحظة.

إن هذا الهورمون هو الذي ينظم تقلصات الرحم كحد السيف فلا تزيد ولا تنقص وكل شي بمقدار ، حتى يسهل خروج الجنين إلى الحياة ولكن إذا خرج سالماً هل انتهت القضية؟ إن المحنة تبقى للأم فجدار الرحم مثقوب بآلاف الثقوب من أوعية الدم التي كانت تغذي المشيمة وها هي قد انفتحت دفعة واحدة فيا للهول الهائل!! إن هذا يعني موت الأم في دقائق لأن النزيف سيقتلها ولن ينقذها شيء في هذه اللحظة إلا القدرة الحكيمة اللطيفة التي رتبت الأمور!!

يا أيها الهورمون الذكي لقد كنت تشبه الذي يلعب الأستغماية فأنت تبرز وجهك للرحم فيخاف وينكمش ثم تختفي فيرتخي الرحم ويبش ،

__________________

(1) دقات قلب الجنين ضعف دقات قلب الرجل الكهل أي 120 ـ 140 ضربة في الدقيقة الواحد وهي تشبه دقات الساعة ، وقد ترتفع في حالات تألم الجنين إلى 160 ـ 180 ـ 200 واكثر في الدقيقة الواحدة.

٢٤٧

وهكذا تتوالى التقلصات ، فالآن جاء دورك أيها الهورمون الذكي إجعل الرحم ينقبض دفعة واحدة ، ولفترة طويلة(1) ، لقد جاء دور الانقباض الآن!! ألا تعجب أيها القارىء ما بين خطورة الانقباض قبل قليل وفائدته الآن!! ان انقباض الرحم قبل قليل معناه موت الجنين ، وعدم انقباض الرحم الآن يعني موت الام ، نفس العمل يميت ويحيي ، فتباركت اللهم الذي جعلت من الموت حياة ومن الحياة موتاً( إن الله فالق الحب والنوى ، يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنّى تؤفكون ، فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم. وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون. وهو الذي انشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون ) سورة الانعام ، هذا هو عمل هذا الهورمون الذكي العاقل فهو هورمون ساعة الخلاص ، وهو هورمون النجدة ، وهو هورمون التخفيف والمواساة للأم.

وأما الهورمون الثاني من الفص الخلفي للنخامة فهو يتعلق بالعروق الدموية المرنة ، فهو يخنقها أو يرخيها. وأما كيف يتم هذا التقلص أو الارتخاء ، وبالتالي يرتفع ضغط الدم أو ينزل ، فان السبب فيه يرجع إلى أن هذا الهورمون له علاقة وصحبة قديمة مع عناصر مهمة في جدار العرق الدموي وخاصة الشرايين ، فالشريان يتكون جداره من ثلاث طبقات ، وتحوي الطبقة المتوسطة أليافاً عضلية مرنة ، فإذا تقلصت هذه الألياف العضلية أدى ذلك إلى صغر لمعة الوعاء الدموي وبالتالي اشتد

__________________

(1) يسمى هذا الفعل عند المولدين بالارقاء الحي ، وسماها بينار تشكل كرة الامان لأن الشعور بها يبعث الى الاطمئنان على حياة الأم ، وعدم تشكلها يعني النزف كافواه القرب

٢٤٨

ضغط الدم ، والعكس بالعكس ، إن هذا الهورمون الجوال لا يهمه من كل ما يحيط به إلا هذه المنطقة فقط فيأوي اليها ويفهمها أن ترتخي وتتقلص بما يناسب حالة البدن بشكل عام من الداخل أو الخارج. وأما كيف يتم التفاهم بين هذا الهورمون وبين الألياف العضلية اللاارادية أو ما تسمى بالألياف الملس فتقوم بما املاه عليها اقتناعها؟ فذلك سر من الاسرار!

وأما الهورمون العاشر والأخير من سلسلة هورمونات الغدة النخامية ، أو الهورمون الثالث من هورمونات الفص الخلفي من النخامة ، فيختص بالكلية فهو معجب بها ولا يحب غيرها ، ولذا فهو يأوي اليها ليقوم ببعض المهام التي تعتبر في منتهى الخطورة بالنسبة للجسم ، إن هذا الهورمون يقع تأثيره بعمل معين وفي منطقة معينة ، فأما العمل المعين فهو الامتصاص وكأنه ذلك الحيوان الاسطوري الذي لا يكف عن شرب السوائل ليل نهار ، وأما مكان عمله فهذا يحتاج لشرح بسيط.

لقد وجد أن الكلية تتكون من مليون كبة!! وما هي الكبة؟ أهي كبة شعر؟!؟ لا إنها كبة من شعريات دموية فالشريان الكلوي يتفرع حتى يصل إلى درجة عظيمة من الدقة والصغر وهنا يلتف على نفسه حتى يكون كبة ، ولكن من وعاء دموي صغير هو أرفع من الشعرة ، وهذه الكبة يحيط بها غشاء هو أشبه بالقربة التي تتلقى السوائل التي ترشح من هذه الكبة ، ومن هذه القربة يمتد أنبوب متعرج ثم يشكل عروة صغيرة(1) ، ثم يتعرج مرة أخرى حتى يلتقي بأمثاله ، مكوّناً أنبوباً كبيراً ، وهكذا تجتمع الأنابيب فتكوّن أنبوباً أكبر ، وهكذا حتى تصب فيما يسمى بالكؤوس الكلوية ، وهي تشبه الخلجان البحرية ، ثم

__________________

(1) تسمى هذه العروة بعروة هانلة.

٢٤٩

يلقى البول المتكون الراشح في الحويضة ثم يمر إلى الحالب فالمثانة فالاحليل ، ثم إلى الخارج نهائياً ، ان الأنبوب القريب من الكبة تمتص منه معظم السوائل المرتشحة وهي ما تقارب 85% ، والمنطقة التي تقع بعد عروة هائلة تسمى بالأنبوب البعيد وهنا يمتص قرابة 14% من السائل الراشح ، والامتصاص هنا يخضع لهورمون الغدة النخامية ، ولذا سمي بالهورمون المضاد للأدرار ، ويتم الامتصاص هنا بشكل فاعل أي أن الامتصاص هنا يتعلق بكمية هذا الهورمون في الدم ، وبكمية الشوارد المعدنية والسوائل التي توجد في البدن ، ولكن الشيء المهم هو أن هذا الهورمون هو الذي يمسك هذه القناة فيصرف سوائلها ، بينما تعتبر المنطقة القريبة من الكبة منطقة منفعلة يتم الامتصاص فيها بشكل آلي وبدون تدخل أحد ، فهي قناة عامة لا يد لأحد فيها ، وحتى نتفهم خطورة هذا العمل الذي يقوم به الهورمون فيجب أن نعلم أن كمية الدم المارة في الدقيقة الواحدة هي (1300) سم 3 أي أن الكلية تقوم بتصفية (1800) ليترة من الدم يومياً فأي مصفاة عجيبة هذه!! وهذه المصفاة تصفي من الدم عشرات العناصر من المعادن والسموم والنفايات ، والمخلفات والمواد التي تعتبر حصيلة استقلابات البدن ، ولذا يعتبر فحص البول مهماً جداً لكشف الكثير من الأمراض التي تختص بجهاز البول وببقية الأجهزة.

إن الدم الذي يمر يرشح منه في تلك القربة السحرية ـ وتسمى بمحفظة بومان ـ مقدار يبلغ (127) سم 3 في الدقيقة أي ما يعادل (183) ليتر من البول يومياً فكيف يمتص ثانية؟ إن امتصاصه يتم عن طريق الأنابيب القريبة ، ثم الأنابيب البعيدة ، بواسطة هورمون النخامة المسمى بالهورمون المضاد للإدرار ، وهكذا يمتص ( 5 و 181 ) ليتراً ويطرح (5 و 1) ليتراً يومياً وهو البول العادي الذي يطرحه كل واحد منا ، وهكذا يمتص (1100) غرام من ملح الطعام و (410) غرام من ثاني فحمات الصوديوم و (150) غرام

٢٥٠

من سكر العنب وهذا يعني أن سوائل البدن التي تتراكم ما بين الخلايا وتقدر بـ (11) ليتر تترشح وتمتص (16) مرة في اليوم الواحد ، أي ان أخلاط البدن الداخلية تنقى وتصفى من الكدر والسموم والبقايا والنفايات والمواد الضارة ، والزائدة ، والتي لا لزوم لها ، ومحاصيل الاستقلاب ، كلها تنظفها الكلية من الجسد (16) مرة في اليوم ، فأي عناية وأي نظافة وأي تصفية عجيبة هذه!!

وإذا وقعت الواقعة وفقد هذا الهورمون من البدن فماذا يحدث؟ بول دائم ليلاً نهاراً! إن المريض يبول ويبول بدون توقف(1) ، وحتى يعوض عما يبول يشرب ويشرب ويشرب الماء ، وهكذا فان المريض لا يبقى له شغل إلا أن يكون بجانب حنفية الماء ودورة المياه ، وإذا لم يفعل هذا تجفف جسمه ومات في مدى أيام قليلة ، وكل هذا بسبب فقد هذا الهورمون الذي يسيطر على إدرار البول في الجسم وبتأثير يبلغ ملغرامات بسيطة قليلة

إنه الاتزان المحكم ، والدقة الرائعة ، والحكمة المهيمنة ، والإرادة المدبرة ، فلا شيء يقوم بالفوضى أو على الفوضى ، ولا شيء يوجد من تلقاء نفسه بل تقوم السنن والنواميس والقوانين المطردة الدقيقة الرائعة المتزنة( وخلق كل شيء فقدره تقديراً ) سورة الفرقان.

وهكذا رأينا في الغدة النخامية التي تزن نصف غرام ويبلغ طولها 1 سم وعرضها ( 1 ـ 5 و 1 ) سم وارتفاعها نصف سنتمتر ، أي أن حجمها يبلغ (1) سم 3 ، وجدنا فيها ثلاثة فصوص ، يوجد في الفص الأمامي

__________________

(1) يسمى هذا المرض بالبيلة التفهة أي التي لا طعم لها لكثرة احتوائها على الماء ، ولا تتصور أيها القارىء كم يشرب ويبول هذا المريض يومياً فلقد ذكر أن أحد المصابين بال في يوم واحد (43) ليتراً من البول أي قرابة ثلثي وزنه!!

٢٥١

وحده خمسة أنواع من الخلايا ، وتفرز هذه الغدة (10) عشرة هورمونات ، وتتصل بالدماغ بأكثر من (100) ألف خط هاتفي ( ليف عصبي!! ) وتسيطر على الدرق وقشر الكظر والخصية والمبيض والثدي وأجهزة النمو ، أي العظام والمفاصل والعضلات والغضاريف ، وعلى العروق الدموية والكلية وعضلة الرحم. وهي بهذه السيطرة والهيمنة تعدل أخلاط البدن ، وتصحح مزاجه ، وتضبط سوائله ، وتصرف فائضه ، وتقوّم ميزانيته ، وتعدل أحماضه وقلوياته ، وتوازن شوارده ، وتحكم تفاعلاته ، فكيف تم هذا المزيان الرائع؟ وكيف ركبت هذه الآليات المعقدة؟ وكيف وزنت الأمور وأقيمت بالقسطاس المستقيم؟( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزّله إلا بقدر معلوم ) سورة الحجر.

والان الى بحث شيق آخر من أبحاث الروعة والعظمة في هندسة وبناء الانسان.

وزارات الجسم

مكن أن يشبه الجسم إلى حد بعيد بالأمة والدولة ، فالخلايا هي أفراد الشعب العامل ، وتجمع الخلايا في عمل واحد يشبه المديريات والمؤسسات ، والاختصاصات في الجسم تشبه الوزارات إلى حد ما ، فالجهاز العصبي المركزي هو بمثابة السلطة الحاكمة المهيمنة ، المخلصة ، العاقلة ، العالمة ، والجسم كله يمثل الشعب المتفاني في الطاعة وتقديم الولاء.

وأما جهاز الدوران فهو يجمع بين خاصية نقل الغذاء والاكسجين إلى الأنسجة العطشى الجائعة وإرجاع بقايا الاحتراق ونفايات الغذاء ، فهذا الجهاز يعبّد الطرق ، ويشق الممرات ويحس الوصل ، ولذا فهو أشبه بوزارة المواصلات.

٢٥٢

وأما الجهاز الهضمي فهو ينقل إلى الأمعاء النشويات والبروتينات والدسم والماء والأملاح المعدنية والفيتامينات ويلقي الفضلات والقمامة التي لا يحتاجها البدن ، ولذا فإن هذا الجهاز أشبه بوزارة التموين في الجسم.

وأما الغدد العرقية فهي أشبه بوزارة السياحة والاصطياف لأنها تبرد الجسم وتخفف من حرارته.

وأما الجلد واللحف(1) والأظافر والاشعار فهي تمثل الانسان من الخارج ، فهي أشبه بوزارة الخارجية!!

وأما جهاز التنفس فهو يأتي بالغازات الضرورية للبدن مثل الاكسجين ويطرح غاز الفحم وهكذا يتصفى الدم من الكدر ، ولذا فهو اشبه بوزارة الاقتصاد لأنه يستورد ويصدر.

أما العضلات والمفاصل والعظام فهي أشبه بوزارة الدفاع أو الحربية والجيش لأنها تدافع عن الانسان كما تقوم بالهجوم إذا لزم الأمر.

وأما الكبد فهو مركز الجمارك العام لأن كل ما يرد إلى البدن من الطريق الهضمي يمر فيه حيث يبعد المشتبه به ، ويدخل المرغوب فيه ، كما يعدل الشيء المشكوك به ويرسل معه مراقباً حتى يلقيه خارج الحدود عن طريق الكلية ، وهو ما يعرف بالازدواج الكبريتي أو الغلو كوروني ، لأن هاتين المادتين تترافقان مع المادة التي ستطرح إلى الكلية.

وأما الطحال فهو المقبرة الموحشة للكريات الحمر لأن الكرية لا تعيش أكثر من شهرين وسطياً حيث تنقل إلى الطحال وتواري مثواها الأخير وطريقة الدفن في الطحال عجيبة فهي اشبه ما تكون بطريقة الدفن

__________________

(1) يقصد باللحف الأغشية الخارجية التي تغطي الفوهات الخارجية مثل العين حيث تغطيها الملتحمة ، والفم من الداخل الغشاء المخاطي وهكذا.

٢٥٣

عند المسلمين حيث يدفن الجثمان ويرجع بالتابون خلافاً لطريقة الآخرين الذين يدفنون الجثمان والتابوت جميعاً ، ومظهره هنا العودة بذرة الحديد مرة أخرى حتى يتستفيد منها الجسم في بناء كريات حمر جديدة!!

وأما النخاع الموجود في باطن العظام وأماكن أخرى متنائرة في الجسم فهي أشبه ما تكون بوزارة الصناعة لأنها تصنع الكريات الحمر والبيض والصفيحات ، وعناصر أخرى كثيرة.

وأما الجهاز البولي فهو أشبه بوزارة الداخلية لأنها تطرح العناصر المشتبة خارج الحدود ، وتحافظ على نظام البدن الداخلي حتى يتزن ولا يتقلب ، كما تنظم السوائل الداخلة والخارجة حتى لا يحصل العبث بالنظام الداخلي ولذا فهي مصفاة البدن الكبيرة والمحافظة على الاتزان الداخلي.

وأما الحواس فهي امتدادات وزارة الخارجية ، أي الجلد.

وأما اللسان وأعضاء التصويت فهي وزارة الإعلام التي تذيع الاخبار وتبث الأحاديث ، وتنقل الأفكار والمفاهيم ، والإذاعة هي مراكز التصويت المتجمعة في الحبال الصوتية والحنجرة وغضاريفها ، واللسان وعضلاته ، والجمجمة وحفرها ، والشفة ومقدم الفم.

وبقي أن نتساءل : أين تقع وزارة الأوقاف بين هذه الوزارات؟ والجواب أنه لا حاجة لمكان تحدد فيه لأن الجسم وغدده وأخلاطه ودمه ولمفه وعروقه وأعصابه وشعره وجلده كله يمشي وفق الناموس الذي رسمه له الخالق العظيم ، فكل خلاياه وأنسجته وأعضاءه وأجهزته انما هي في حالة عبادة واستسلام وإسلام لله رب العالمين ، فليس هناك من مكان يخصص لعبادة الله والتفرغ له وأماكن أخرى تخصص لعبادات أخرى( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) الكل يعبد ويسبح الله والكل يصلي لله وفق اختصاصه ، فالدم يصلي في جريانه ، والرئة تصلي

٢٥٤

في تنفسها ، والقلب يصلي في نبضاته ووالعصب يصلي في سريانه( كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ) سورة النور.

ونقف هنا لنلفت نظرالقارىء ولنحرك وجدان الطبيب والعالم ، إن الانسان سخر له الكون وهو يتصرف فيه كما يشاء ، وتتخصص طوائف البشر في الصناعات والحرف تعالج عللها وتكتشف أسرارها ، وتسخر سننها ، ولكن أخطر الاختصاصات هو الذي ينصب على نفس الانسان ، فالانسان يختص بدراسة كل الكون ، والطبيب يختص بمفتاح هذا كله وهو الانسان ، فماذا أثمرت هذه الدراسة؟

إن كاتب هذه السطور درس الطب سبع سنوات طويلة مليئة من عمره فلم يسمع كلمة الله من أحد من الذين يختصون بالدراسات الطبية العميقة سواء على مستوى الطب الطبيعي أو على مستوى الطب المرضي(1) ، إلا ان تذكر الكلمة عرضاً وبسرعة ، أو أن يفتتح الكتاب بجملة( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، ثم تقرأ ، وتقرأ مئات الصفحات حتى تفرغ من الكتاب فلا تشعر بلمسة إيمان ، أو نبضة روح من المؤلف أو المترجم أو الناقل ، آيات تمر ، ومعجزات تسطر ومع هذا لا يتحرك وجدان ، ولا تستيقظ( وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) وحقاً إن الآية بالذات لا فائدة منها إلا للمتفكر والمتأمل والمتدبر( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) ، وتقرأ كتاباً لمؤلف آخر فتراه يعرض الآية القرآنية مبتورة وبمنتهى السرعة ، ثم اننا لفظنا الآية القرآنية والاصح أن يقال آية قرآنية لأن كتابين كبيرين من كتب الطب ليس فيهما الا نصف آية من القرآن وبشكل مبتور ، فيا أيها

__________________

(1) نستثني من هذا الكلام بعض الاساتذة ولكن كما هو معروف في اطلاق القواعد ان الحكم للاغلبية وليس للاقلية فضلاً عن أفراد معدودين على رؤوس الأصابع.

٢٥٥

القارىء بالله عليك ما فائدة الآيات إذا لم توصل إلى الإيمان ، وهل يكفي أن نقول ان الماء فيه سر الحياة وفيه خواص عجيبة ومدهشة ثم نأتي لنستشهد بالقرآن فنقول :( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) وباقي الآية؟! فلتبلغ!! ان تتمة الآية هو المقصود من سوق الآية فالماء وغيره آية تشده البصيرة وتقود إلى الايمان ، ولذلك كانت الآية القرآنية كما يلي :( وجعلنا من الماء كل شيء حي افلا يؤمنون ) سورة الأنبياء.

وطالما سار الأمر في هذا البحث ، فلنسمع شهادة التاريخ وشهادة العلماء لا لندعم به إيماننا ، ولكن لنحاكم أولئك الذين لا يصدقون إلا بما يقوله أصحاب الاسماء الرنانة ، والشهادات العريضة ، ونسوا ان الانسان مهما بلغ علمه ، وارتفعت خبرته فانه لا يحيط بالوجود ، ولا ينفذ إلى خزائن الأسرار ، لأنه مركب من نقص ، وضعف وقصور ، وهوى ،( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا ) سورة النساء.

لنذكر أولاً احصائية قام بها العالم دينرت(1) عن كبار العلماء والفالسفة في القرون الاربعة الاخيرة ، وكان عددهم (290) عالماً ، فوجد ما يلي : (28) منهم لم يصلوا إلى عقيدة ما ، (242) أعلنوا إيمانهم على رؤوس الاشهاد و (20) لم يكونوا يبالون بالوجهة الدينية ، وهذا يعني أن 92% أظهروا إيمانهم أمام الناس ، وهذا ما يثبت الفكرة التي طرحناها لامتنا وهي ان العلم والطب هما من جملة محاريب الإيمان ، ولنسمع إلى اقوال بعض العلماء في هذا الصدد :

1 ـ الطبيب المشهور باستور : ( الإيمان لا يمنع أي ارتقاء كان ،

__________________

(1) نقلاً عن كتاب روح الدين الإسلامي ، عفيف عبد الفتاح طبارة ص 82 [ معظم الفقرات ].

٢٥٦

لأن كل ترق ، يبين ويسجل الاتساق البادي في مخلوقات الله ، ولو كنت علمت أكثر مما أعلم اليوم ، لكان ايماني بالله أشد وأعمق مما هو عليه الآن ).

2 ـ الدكتور ( وتز ) عميد كلية الطب في باريس ، وعضو اكاديمية العلوم ، وكيميائي : ( اذا أحسست في حين من الأحيان أن عقيدتي بالله قد تزعزعت وجهت وجهي الى أكاديمية العلوم لتثبيتها )

3 ـ باسكال : ( صنفان فقط من الناس يجوز أن نسميهم عقلاء : الذين يعرفون الله ، والذين يجدّون في البحث عنه لأنهم لا يعرفونه ).

4 ـ اينشتاين : ( إن الإيمان هو أقوى وأنبل نتائج البحوث العلمية ) ، ( ان الايمان بلا علم ليمشي مشية الأعرج ، وان العلم بلا إيمان ليتلمس تلمس الأعمى )

5 ـ ادمون هربرت ، جيولوجي ذائع الصيت ، ومدرس بجامعة السوربون : ( العلم لا يمكن أن يؤدي الى الكفر ، ولا الى المادية ، ولا يفضي إلى التشكيك ).

6 ـ فابر : العلامة المؤرخ الطبيعي : ( كل عهد له أهواء جنونية ، واني اعتبر الكفر بالله من الأهواء الجنونية وهو مرض العهد الحالي وأيسر عندي أن ينزعوا جلدي من أن ينزعوا مني العقيدة بالله ).

7 ـ ألبرت ماكوب ونشستر : أستاذ الاحياء بجامعة بايلور وعميد أكاديمية العلوم بفلوريدا سابقاً : ( ان اشتغالي بالعلوم قد دعم إيماني بالله حتى صار أشد قوة وأمتن أساساً مما كان عليه من قبل ، ليس من

٢٥٧

شك ان العلوم تزيد الانسان تبصراً بقدرة الله وجلاله ، وكلما اكتشف الانسان جديداً في دائرة بحثه ودراسته ازداد إيماناً بالله )

8 ـ اسحق نيوتن : ( ان هذا التفرع في الكائنات وما فيها من ترتيب أجزائها ومقوماتها وتناسبها مع غيرها ومع الزمان والمكان لا يمكن أن تصدر إلا من حكيم عليم ).

ـ * ـ

٢٥٨

الطعام والتغذية

يقول الخالق الرازق :( فلينظر الانسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ، ثم شققنا الأرض شقاً ، فأنبتنا فيها حباً ، وعنباً وقضباً ، وزيتوناً ونخلاً ، وحدائق غلبا ، وفاكهة وأبا ، متاعاً لكم ولأنعامكم ) سورة عبس

ـ 1 ـ

كيف يستطيع الإنسان أن يتغذى بكل هذه الأنواع ، من الأطعمة ، من الماء الى الخبز الى اللحم إلى الفاكهة الى الخضراوات ، كيف تهضم امعاؤه كل هذه الأصناف المتباينة من الأغذية؟ كيف تهضم المشوي والمقلي والمسلوق؟ كيف تهضم المطبوخ والنيء؟ كيف تتقبل وبنفس الوقت المالح والحامض والحلو والمر؟ ثم كيف تتحول هذه الأغذية الى طاقة تحرك البدن ، ومواد ترميم ، وخامات تصنيع جديدة؟

ـ 2 ـ

ثم لننظر في الأسنان والشفاه والفم وكيف ركب بشكل مدهش لتقبل الطعام ، فالأسنان منها القواطع والثنايا الأمامية لتقطيع الطعام ، ومنها الأنياب لتمزيق اللحم والأشياء القاسية ، والأضراس في كل جانب

٢٥٩

لطحن وجرش المأكولات ، بحيث ان اللقمة تنقلب إلىعجينة عندما تصل إلى المري والمعدة.

ثم لننظر في الغدد اللعابية وهي ثلاثة أزواج : تحت الفك ، وتحت اللسان ، والغدة النكفية في كل جانب ، وهذه الغدد تفرز المصل والمخاط والخمائر الخاصة بهضم النشويات وتبلل الطعام وتبلل الحلق ويصل إفرازها اليومي إلى قرابة اللتر ، والخميرة التي تهضم النشا يبقى تأثيرها حتى الساعة والنصف ولولاها لتأخر امتصاص النشويات وكلنا يعرف عسر الهضم عند المسنين وذلك لنقص إفراز هذه الخميرة من غدد اللعاب ، كما تذيب مفرزات الغدد المواد فنشعر بطعمها وهكذا نشعر بطعم المواد ومذاقها ، كما تشترك في تزليق المواد الصلبة فيسهل بلعها ، وفي تليين الغذاء فيسهل مضغه ، كما تقوم هذه المفرزات بتعديل المواد الداخلة الى الفم فيما إذا كانت ضارة أو حارة أو باردة وهكذا نشرب الشاي الساخن الذي لا يتحمله إلا الفم بهذه الدرجة وبفضل الغدد اللعابية ، كما تقوم الغدد اللعابية بجرف الخلايا المتوسفة وبقايا الأغذية والجراثيم ، وهكذا تفعل هذه الغدد كما تفعل أمانة العاصمة في تنظيف هذه الأماكن وتطهيرها ، كما تعتبر مشعراً في العطش فعندما تنقص السوائل في البدن يشعر الإنسان بجفاف حلقه فيشرب الماء ، ونرى الخطباء الذي يتكلمون الساعات الطويلة ، والمتحدث والمتكلم العادي فكيف يمكن لكل واحد فيهم من متابعة حديثه وتزييت لسانه؟!! إنه اللعاب الذي يرطب جوف الفم ولولاه لما استطعنا متابعة الحديث ، وكلنا يشعر بذلك عندما يجف حلقه كيف يصعب عليه الكلام.

فكيف اجتمعت كل هذه الوظائف في هذا اللعاب العجيب فهو المنظف والمطهر والمعدل والمرطب والمزلق والملين والحامي ، والمبلل ، والمذوق ، والمحلل ، والمشعر ، وجرس الانذار في الفم ، عشرات الوظائف في سائل

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

٦ ـ حقيقة تأريخية يسعى بعضهم إلى طمس معالمها

من المتفق عليه بين جميع المؤرخين والمفسّرين تقريبا أنّه لما نزلت الآيات الأولى من سورة براءة ، وألغيت العهود التي كانت بين المشركين والمسلمين ، أمر النّبي أبا بكر أن يبلغ هذه الآيات في موسم الحج ، ثمّ أخذها منه وأعطاها علياعليه‌السلام ليقوم بتبليغها ، فقرأها علي على الناس في موسم الحج. وبالرغم من اختلاف الرّوايات في جزئيات هذه القصة وجوانبها المتفرقة ، إلّا أن ذكر النقاط التالية يمكن أن يجلو لنا حقيقة ناصعة :

١ ـ يروي أحمد بن حنبل ـ إمام أهل السنة المعروف ـ في مسنده عن ابن عباس ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل فلانا «المقصود بفلان هو أبو بكر كما سيتّضح ذلك بعدئذ» وأعطاه سورة التوبة ليبلغها الناس في موسم الحج ، ثمّ أرسل عليّا خلفه وأخذها منه وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يذهب بها إلّا رجل منّي وأنا منه»(١) .

٢ ـ كما جاء في المسند ذاته عن أنس بن مالك ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل سورة براءة مع أبي بكر ليبلغها ، فلمّا وصل أبو بكر إلى ذي الحليفة ـ ويدعى بمسجد الشجرة أيضا ـ وهو وعلى بعد مسافة فرسخ عن المدينة تقريبا ، قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يبلغها إلّا أنا أو رجل من أهل بيتي» فبعث بها مع عليعليه‌السلام (٢) .

٣ ـ وورد أيضا في المسند نفسه ـ بإسناد آخر ـ عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه لما بعثه النّبي ومعه براءة قال : يا رسول الله لست خطيبا ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا محيص عن ذلك ، فإمّا أن أذهب بها أو تذهب بها ، فقال علي : إذا كان ولا بدّ فأنا أذهب بها. فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انطلق بها فإنّ الله يثبت لسانك ويهدي قلبك»(٣) .

٤ ـ وينقل النسائي ـ أحد كبار علماء السنة ـ في خصائصه ، عن زيد بن

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ، ج ١ ، ص ٣٣١ ، ط مصر.!

(٢) مسند أحمد بن حنبل ، ج ٣ ، ص ٢١٢.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ، ج ١ ، ص ١٥٠.

٥٢١

سبيع ، عن عليعليه‌السلام ، أن النّبي أرسل أبا بكر بسورة براءة إلى أهل مكّة ، ثمّ بعث عليّا خلفه ليأخذ الكتاب منه «يعني السورة» فلحقه في الطريق وأخذ الكتاب منه ، فعاد أبو بكر حزينا أسيفا ، وقال : يا رسول الله أنزل فيّ شيء؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ، إلّا أنّي أمرت أن أبلغه أنا أو رجل من أهل بيتي»(١) .

٥ ـ وفي سند آخر أيضا ، عن عبد الله بن أرقم ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبا بكر بسورة براءة ، فلمّا سار وبلغ بعض الطريق بعث النّبي عليا فلحقه وأخذ منه السورة ، فذهب بها علي إلى مكّة ، فرجع أبو بكر إلى النّبي متأثرا فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يؤدي عنّي إلّا أنا أو رجل منّي»(٢) .

٦ ـ وأورد ابن كثير ـ المفسّر المعروف ـ عن أحمد بن حنبل ، عن حنش ، عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، أنّه عند ما نزلت عشر آيات من سورة براءة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا أبا بكر وأعطاه إيّاها ليبلغها أهل مكّة ، ثمّ بعث خلفي وأمرني بالذهاب خلفه وأخذ الكتاب منه ، فعاد أبو بكر إلى النّبي وقال : أنزل فيّ شيء؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ، ولكنّ جبرئيل جاءني وقال : لن يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك»(٣) .

٧ ـ ونقل ابن كثير هذا المضمون عينه عن زيد بن سبيع(٤) .

٨ ـ كما أنّه روى هذا الحديث عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (محمّد الباقرعليه‌السلام ) في تفسيره(٥) .

٩ ـ وروى العلّامة ابن الأثير وهو ـ الآخر ـ من علماء السنة الكبار ، في «جامع الأصول» عن الترمذي عن أنس بن مالك ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل سورة

__________________

(١) الخصائص للنسائي ، ص ٢٨.

(٢) المصدر السّابق.

(٣) تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٣٢٢.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.

٥٢٢

براءة مع أبي بكر ثمّ دعاه ، وقال : «لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذه إلّا رجل من أهلي» فدعا عليا فأعطاه إيّاها(١) .

١٠ ـ وروى محب الدين الطبري ، في كتابه ذخائر العقبى ، عن أبو سعيد أو أبي هريرة ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أبا بكر أن يتولى أمر الحج ، فلمّا مضى وبلغ ضجنان سمع أبو بكر صوت بعير علي فعرفه ، فجاء إلى علي وقال : فيم جئت؟

فقالعليه‌السلام : أرسل النّبي معي سورة براءة. فلمّا رجع أبو بكر إلى النّبي وأظهر تأثره من تغيير «الرسالة» قال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يبلغ عنّي غيري أو رجل مني» يعني عليا(٢) .

وقد صرحت روايات أخرى أنّ النّبي أعطى ناقته عليا ليركبها ويأتي بها أهل مكّة فيبلغهم ، فلمّا وصل منتصف الطريق سمع أبو بكر صوت ناقة رسول الله فعرفها.

وهذا النص ـ مع ما ورد آنفا ـ يدل على أنّ الناقة كانت ناقة النّبي وقد أعطاها عليّا ، لأهمية ما أمر به.

وقد روى هذا الحديث كثير من كتب أهل السنة مسندا تارة ، ومرسلا تارة أخرى ، وهو من الأحاديث المتفق عليها ، ولا يطعن فيه أبدا.

وطبقا لبعض الرّوايات الواردة عن أهل السنة أنّ أبا بكر لما صرف عن إبلاغ سورة براءة ، جعل أميرا على الحاج بمكّة.

توضيح وتحقيق :

هذا الحديث يثبت ـ بجلاء ـ فضيلة للإمام عليعليه‌السلام ، إلّا أنّنا ـ ويا للأسف ـ نجد مثل هذه الأحاديث لا ينظر إليها بعين الإنصاف والحق ، إذ يسعى بعضهم إلى

__________________

(١) جامع الأصول ، ج ٩ ، ص ٤٧٥.

(٢) ذخائر العقبى ، ص ٦٩.

٥٢٣

محوها ونسيانها كليّا ، أو إلى التقليل من أهميتها وقيمتها بأساليب شتى ملتوية :

١ ـ فمثلا يتناول صاحب تفسير المنار تارة ـ من الحديث آنف الذكر ـ المقطع الذي يتعلق بجعل أبي بكر أميرا على الحاج ، ويختار الصمت والسكوت في بقية الحديث الذي يدور حول أخذ سورة من أبي بكر ليبلغها علي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قال فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يبلغها إلّا أنا أو رجل منّي» يعني عليّاعليه‌السلام .

مع أنّ سكوت قسم من الأحاديث عن هذا الموضوع لا يكون دليلا على أن نهمل جميع تلك الأحاديث الواردة في شأن عليعليه‌السلام ولا نأخذها بنظر الإعتبار!! فأسلوب التحقيق يقتضي تسليط الضوء على الأحاديث الواردة في هذا الشأن كافة ، حتى ولو كانت على خلاف ما يجنح إليه الكاتب وتميل نفسه ، وأن لا يصدر عليها حكما مسبقا.

٢ ـ ويقوم بعض المفسّرين تارة بتضعيف سند الحديث ، كما في بعض الأحاديث الواردة عن حنش والسمّاك «كما فعله المفسّر آنف الذكر».

مع أنّ هذا الحديث ليس له طريق واحد أو طريقان ، بل له طرق شتى في كتبهم المعتبرة.

٣ ـ ومن العجيب الغريب أن يوجهوا مثل الحديث آنف الذكر توجيها مثيرا ، فيقولون : إنّما أعطى النّبي سورة براءة عليّا ، لأنّ العرب اعتادت عند إلغاء المواثيق أو العهود أن يمضي الشخص بنفسه أو يرسل أحدا من أهله.

مع أنّه ورد التصريح عن النّبي :

أوّلا : من طرق متعددة ، أنّ جبرئيل أمره بأن يبلغ علي سورة براءة أو هكذا أمرت! ثانيا : إنّنا نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن طرقهم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليعليه‌السلام : ينبغي أن تبلغ سورة براءة ، وإن لم تفعل فينبغي أن أبلغها أنا (مؤدي الحديث).

٥٢٤

ترى ألم يكن العباس عمّ النّبي أو أحد من أقارب النّبي موجودا يومئذ بين المسلمين! حتى يقول النّبي لعلي : إن لم تذهب فينبغي أن أذهب ، لأنّه لا يبلغها عني إلّا أنا أو رجل منّي؟!

ثالثا : لم يذكروا دليلا لأصل هذا الموضوع ، وهو أنّه كان من عادة العرب (كذا وكذا) وأكبر الظن أنّهم وجّهوا الحديث آنف الذكر وفق ميولهم ونزعاتهم! رابعا : جاء في بعض الرّوايات المعتبرة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا يذهب بها إلّا رجل منّي وأنا منه» أو ما شابه ذلك.

وهذا التعبير يدل على أنّ النّبي كان يعدّ عليّا كنفسه ، ويعد نفسه كعلي أيضا. وهذا المضمون تناولته آية المباهلة.

ونستنتج ممّا ذكرناه آنفا أنّنا لو تركنا التعصب الأعمى والأحكام المسبقة جانبا ، وجدنا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعله هذا أبان أفضلية عليعليه‌السلام على جميع الصحابة إنه هذا إلا بلاغ.

* * *

٥٢٥

الآيتان

( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) )

التّفسير

إلغاء عهود المشركين :

كانت في المجتمع الإسلامي ومحيطه طوائف شتى ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتخذ منها موقفا خاصّا يتناسب وموقفها منه.

فطائفة منها مثلا لم يكن لها أيّ عهد مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك لم يكن له أيّ عهد معها.

وطوائف أخرى عاهدت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية ـ وأمثالها ـ على ترك المخاصمة والمنازعة ، وكانت عهود بعضهم ذات أجل مسمى ، وبعض العهود لم تكن ذات أجل مسمى.

وقد نقضت بعض تلك الطوائف عهودها من جانب واحد ، وبدون أي سبب يجيز النقض وذلك بمظاهرتها أعداء الإسلام. أو حاولت اغتيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٥٢٦

كما هو الحال في يهود بني النضير وبني قريظة ، فواجههم النّبي بشدة وطردهم من المدينة ، لكن بعض المعاهدات بقيت سارية المفعول ، سواء كانت ذات أجل مسمى أو لم تكن.

الآية الأولى من الآيتين محل البحث تعلن للمشركين كافة( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

ثمّ أمهلتهم مدّة أربعة أشهر ليفكروا فيها ويحدّدوا موقفهم من الإسلام ، فإمّا أن يتركوا عبادتهم للأصنام ، أو يتهيئوا للمواجهة والقتال ، فقالت :( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُر (١) وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ )

* * *

ملاحظتان

١ ـ هل يصحّ إلغاء المعاهدة من جانب واحد؟!

نحن نعرف أنّ الإسلام أولى أهمية قصوى للوفاء بالعهد والالتزام بالمواثيق حتى مع الكفار والمشركين ، وهنا ينقدح سؤال وهو : كيف أمر القرآن بإلغاء العهود التي كانت بين المسلمين والمشركين من جانب واحد؟!

ويتّضح الجواب بملاحظة الأمور التالية :

أوّلا : كما صرّح في الآيتين (٧) و (٨) من هذه السورة فإنّ إلغاء هذا العهد لم يكن دون أية مقدمة ، بل هناك قرائن ودلائل ظهرت من جانب المشركين تدلّ على نقضهم عهدهم ، وأنّهم كانوا على استعداد ـ في ما لو استطاعوا ـ أن يوجهوا ضربة قاضية للمسلمين دون أدنى اعتناء بعهودهم التي عاهدوها ، ومن المنطقي

__________________

(١) «سيحوا» فعل أمر مشتق من «السياحة» ومعناها الجولة الهادفة.

٥٢٧

أنّه إذا رأى الإنسان عدوّه يتربص به ويستعد لنقض عهده ، ولديه قرائن على ذلك وعلائم واضحة أن ينهض لمواجهته قبل أن يستغفله ويعلن إلغاء عهده ويردّ عليه بما يستحق.

ثانيا : ما المانع من إلغاء العهود والمواثيق التي تفرض في ظروف استثنائية على بعض الأمم والشعوب ـ فيضطرون مكرهين على قبولهم والرضا بها ـ من جانب واحد إذا حصلوا على القدرة الكافية لإلغائها.

وعبادة الأصنام ليست عقيدة ولا فكرا ، بل هي خرافة ووهم باطل خطر ، فيجب القضاء عليها وإزالتها من المجتمع الإنساني ، فإذا كانت قوة عبدة الأصنام وقدرتهم بالغة في الجزيرة العربية ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجبورا على معاهدتهم ومصالحتهم ، فإنّ ذلك لا يعني أنّه لا يحق له إلغاء ـ معاهدته إذا ما قويت شوكته ـ وأن يبقى على عهده الذي يخالف العقل والمنطق والدراية.

وهذا يشبه تماما ظهور مصلح كبير ـ مثلا ـ بين عبدة البقر ، فيقوم بعمل إعلامي كبير ، وحين يواجه ضغوطا شديدة يضطر إلى عقد هدنة بينهم وعند ما يجتمع له أتباع بقدر كاف ينتفض لإزالة هذه الخرافة ، والأفكار المنحطة ، ويلغي معاهدته.

ولهذا نلحظ أنّ هذا الحكم مختص بالمشركين ، أمّا أهل الكتاب وسائر الأقوام الذين كانوا في أطراف الجزيرة العربية من الذين كان بينهم وبين النّبي نوع من المواثيق والمعاهدات ، فقد بقيت على حالها ولم يلغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مواثيقهم وعهودهم حتى وفاته.

أضف إلى ذلك أن إلغاء عهود المشركين لم يكن قد حدث بصورة مفاجئة ، بل أمهلوا مدّة أربعة أشهر ، وأعلن هذا القرار في الملأ العام ، وفي اجتماع الحاج يوم عيد الأضحى ، وفي البيت الحرام ، لتكون لهم الفرصة الكافية للتفكير ، ولتحديد الموقف ، لعلهم يرجعون عن تلك الخرافة التي كانت أساس تفرقتهم

٥٢٨

وتشتتهم وجهلهم ، ويرتدعون عن خيانتهم. والله سبحانه لم يرض لهم أن يكونوا غافلين عن هذا القرار ، فلم يسلبهم فرصة التفكّر ، فإنّ لم يسلموا فقد كانت لهم الفرصة الكافية للاستعداد للمواجهة القتالية والحرب ، لئلا تكون المواجهة غير متكافئة الطرفين.

فلو لم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليرعى الأصول الإنسانية والأخلاقية لما كان أمهلهم مدّة أربعة أشهر ، والفرصة الكافية لأن توقظهم من نومتهم ؛ أو يستعدوا لتهيئة القوّة القتالية المناسبة لمواجهة المسلمين ومحاربتهم إيّاهم بها.

أجل ، لو لم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك لما أمهلهم ولحاربهم من يوم إلغاء المعاهدة!

ومن هنا فإنّنا نجد الكثير من أولئك المشركين ـ عبدة الأصنام ـ راجعوا أنفسهم وفكروا مليّا في التعاليم الإسلامية حتى ثابوا إلى رشدهم واعتنقوا الإسلام.

٢ ـ متى بدأت الأشهر الأربعة؟

هناك بين المفسّرين كلام كثير في الجواب على هذا السؤال ، إلّا أنّ ظاهر الآي يدل على أن المدّة بدأت منذ إعلان البلاغ المهم على المشركين ، أي من يوم عيد الأضحى ، وهو العاشر من شهر ذي الحجة ، وانتهت في العاشر من شهر ربيع الثاني من السنة التالية.

ويؤيد ذلك ما ورد من حديث مروي عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في هذا الشأن «راجع تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٠٣».

* * *

٥٢٩

الآيتان

( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) )

التّفسير

العهود المحترمة :

نلحظ في هاتين الآيتين البيّنتين مزيد تأكيد على موضوع إلغاء المعاهدات التي كانت بين النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمشركين ، حتى أنّ تاريخ الإلغاء قد أعلن في هذه الآية إذ نقول :( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (١) .

__________________

(١) جملة وأذان إلخ. معطوفة على جملة : براءة من الله. وهناك احتمالات أخرى في تركيب الجملة «ونظمها» ، غير أن ما ذكرناه أكثر ظهورا كما يبدوا.

٥٣٠

وفي الحقيقة ، أنّ الله سبحانه يريد في هذا الإعلان العام في مكّة المكرمة ، وفي ذلك اليوم العظيم ، أن يوصد كل ذريعة يتذرع بها المشركون والأعداء ، ويقطع ألسنة المفسدين ، لئلا يقولوا : إنّهم استغفلوا في الحملة أو الهجوم عليهم ، وإن ذلك ليس من الشّهامة والرجولة.

كما أنّ التّعبير بـ «إلى الناس» مكان أن يقال «إلى المشركين» يدل على وجوب إبلاغ هذا «الأذان» والإعلام لجميع الناس الحاضرين في مكّة ذلك اليوم ، ليكون غير المشركين شاهدا على هذا الأمر أيضا.

ثمّ يتوجه الخطاب في الآية إلى المشركين أنفسهم ترغيبا وترهيبا ، لعلهم يهتدون ، إذ تقول الآية :( فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) .

أي أنّ الاستجابة لرسالة التوحيد فيها صلاحكم وفيها خير لكم ولمجتمعكم ودنياكم وآخرتكم ، فلو تدبّرتم بجد وصدق لرأيتم أن قبول الدعوة هو البلسم الشافي لكلّ جراحاتكم وليس في الأمر منفعة لله أو لرسوله.

ثمّ إنّ الآية تحذر المخالفين المعاندين المتعصبين فتقول :( وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ) . فلا يمكنكم الخروج من دائرة قدرته المطلقة بحال.

وأخيرا فإنّ الآية أنذرت المعاندين المتعصبين قائلة :( وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) .

وكما أشرنا من قبل فإنّ إلغاء هذه العهود من جانب واحد ـ ورفض عهد المشركين ـ يختص بأولئك الذين دلّت القرائن على استعدادهم لنقض عهدهم وبدت بوادره ، لذلك فإنّ الآية استثنت قسما منهم لوفائهم بالعهد ، فقالت( إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) .

* * *

٥٣١

ملاحظات

١ ـ الحج الأكبر!

اختلف المفسّرون في المراد من قوله تعالى :( يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) والذي نستفيده من كثير من الرّوايات الواردة عن الفريقين ، روايات أهل البيتعليهم‌السلام وأهل السنة ، أنّه يوم العاشر من ذي الحجة «عيد الأضحى» وبتعبير آخر «يوم النحر».

وانتهاء المدة باليوم العاشر من شهر ربيع الثّاني «للسنة العاشرة» ، وفقا لما جاء في المصادر الإسلامية ، دليل آخر على هذا الموضوع : أضف إلى ذلك كله فإنّ يوم النحر في الواقع ينتهي فيه القسم الأساس من أعمال الحج ، ومن هنا فيمكن أن يدعى ذلك اليوم بيوم الحج الأكبر(١) .

وأمّا سبب تسميته بالحج الأكبر ، فلأنّه اجتمع في ذلك العام جميع الطوائف من المسلمين وعبدة الأوثان والمشركين ، [كما اعتادوا عليه في موسم الحج] إلّا أنّ هذا الأمر لم يتحقق في السنين التالية «لمنع غير المسلمين من الحج».

وهناك تفسير آخر مضافا إلى التّفسير المذكور آنفا وهو أن المراد منه مراسم الحج في قبال مراسم العمرة التي يعبر عنها بالحج الأصغر.

وهذا التّفسير جاء في بعض الرّوايات الإسلامية ، ولا يمنع أن تكون كلتا العلّتين مدعاة لهذه التسمية(٢) .

__________________

(١)جاء في تفسير نور الثقلين ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : «إنّما سمّي الأكبر لأنّها كانت سنة حج المسلمون والمشركون ولم يحج المشركون بعد تلك السنة. (ج ٢ ، ص ١٨٤)

(٢) وجاء في التّفسير المذكور آنفا عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في جوابه لبعض أصحابه : الأكبر هو يوم النحر والأصغر العمرة (ج ٢ ، ص ١٨٦)

٥٣٢

٢ ـ المواد الأربع التي أعلنت ذلك اليوم

وإن كان القرآن الكريم أعلن براءة الله من المشركين بشكل مطلق ، إلّا أنّ الذي يستفاد من الرّوايات أنّ عليّاعليه‌السلام قد أمر بإبلاغ أربع مواد إلى الناس ، وهي :

١ ـ إلغاء عهد المشركين.

٢ ـ لا يحق للمشركين أن يحجّوا في المواسم المقبلة.

٣ ـ منع العراة والحفاة من الطواف الذي كان شائعا ومألوفا حتى ذلك الوقت.

٤ ـ منع المشركين من دخول البيت الحرام.

وقد جاء في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ الإمام عليا خطب في موسم الحج ذلك العام فقال : «لا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يحجن البيت مشرك ، ومن كان له مدة فهو إلى مدته ، ومن لم تكن له مدة فمدته أربعة أشهر».

وفي بعض الروايات إشارة إلى المادة الرّابعة ، وهي عدم دخول المشركين وعبدة الأصنام البيت الحرام(١) .

٣ ـ من هم الذين كانت لهم عهود «إلى مدّة»

يظهر من أقوال المؤرخين وبعض المفسّرين أنّ الذين كانت لعهدهم مدة ، هم جماعة من بني كنانه وبني ضمرة ، فقد بقي من عهدهم في ترك المنازعة تسعة أشهر ، وقد بقي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عهده وفيّا ، لأنّهم بقوا أوفياء لعهدهم ولم يظاهروا المشركين في مواجهة الإسلام حيت انتهت مدّتهم(٢) .

وقد عدّ بعضهم طائفة بني خزاعة من هؤلاء الذين كان لعهدهم مدّة.(٣)

* * *

__________________

(١) جاء في بعض الرّوايات منع المشركين من دخول المسجد.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ذيل الآية محل البحث.

(٣) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ذيل الآية محل البحث.

٥٣٣

الآيتان

( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) )

التّفسير

الشدّة المقرونة بالرّفق :

نقرأ في الآيتين أعلاه بيان وظيفة المسلمين بعد انتهاء مدّة إمهال المشركين «الأشهر الأربعة» وقد أصدر القرآن أوامره الصارمة في هذا الصدد فقال :( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (١) .

ثمّ يقول :( وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) (٢) .

__________________

(١) الفعل «انسلخ» مأخوذ من الانسلاخ ومعناه الخروج ، وأصله من «سلخ الشاة» أي إخراج الشاة من جلدها عند الذبح.

(٢) المرصد مأخوذ من الرّصد ويعني الطريق أو الكمين.

٥٣٤

ويلاحظ في هذه الآية أربعة أوامر صارمة صادرة في شأن المشركين «إيصاد الطرق بوجههم ، محاصرتهم ، أسرهم ، ثمّ قتلهم». وظاهر النص أنّ الأمور الأربعة ليست على نحو التخيير ، بل ينبغي ملاحظة الظروف والمحيط والزمان والمكان والأشخاص ، والعمل بما يناسب هذه الأمور ، فلو كان في الأسر والمحاصرة وإيصاد السبيل بوجه المشركين الكفاية فيها ، وإلّا فلا محيص عن قتالهم.

وهذه الشدّة متناغمة ومتوائمة مع منهج الإسلام وخطته في إزالة الوثنية وقلعها من جذورها ، وكما أشرنا إلى ذلك سلفا ، فإنّ حرية الإعتقاد «أي عدم إكراه أهل الأديان الأخرى على قبول الإسلام» تنحصر في أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولا تشمل عبدة الأوثان ، لأنّ الوثنية ليست عقيدة صحيحة ، ولا دينا كي تلحظ بعين الاحترام ، بل هي تخلّف وخرافة وانحراف وجهل ، ولا بدّ من استئصال جذورها بأي ثمن كان وكيف ما كان.

وهذه الشدّة والقوّة والصرامة لا تعني سدّ الطريق ، ـ طريق الرجوع نحو التوبة ـ بوجههم ، بل لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويعودوا إلى سبيل الحق ، ولذلك فإنّ الآية عقبت بالقول :( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) .

وفي هذه الحال ، أي عند رجوعهم نحو الإسلام ، لن يكون هناك فرق بينهم وبين سائر المسلمين ، وسيكونون سواء وإياهم في الحقوق والأحكام.

( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) . يتوب على عباده المنيبين إليه.

وتستكمل الآية التالية هذا الموضوع بأمر آخر ، كما يتّضح بجلاء أن هدف الإسلام من هذا الأمر إنّما هو نشر التوحيد والحق والعدالة ، وليس هو الاستثمار أو الاستعمار وامتصاص المال ، أو الاستيلاء على أراضي الآخرين ، إذ تقول الآية :( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ) .

أي عليك أن تعامل من يلجأ إليك من المشركين برفق ولطف ، وامنحه

٥٣٥

المجال للتفكير حتى يبيّن له محتوى دعوتك في كمال الإرادة والحرية ، فإذا أشرقت أنوار الهداية في قلوبهم فسيؤمنون بدعوتك.

ثمّ تضيف الآية قائلة :( ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) وأوصله إلى مكان آمن حتى لا يعترضه أحد في طريقه.

وأخيرا فإنّ الآية تبين علة هذا الحكم ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ) .

فبناء على ذلك لو فتحت أبواب اكتساب المعرفة بوجوههم ، فإنّه يؤمّل فيهم خروجهم من الوثنية التي هي وليدة الجهل ـ والتحاقهم بركب التوحيد الذي هو وليد العلم والمعرفة.

وقد ورد في كتب السنة والشيعة أنّ أحد المشركين (عبدة الأصنام) سأل عليّاعليه‌السلام بعد إلغاء المعاهدة فقال : يا ابن أبي طالب ، لو أراد أحد أن يواجه النّبي بعد هذه المدّة «الأشهر الأربعة» ويسأله أو يسمع كلام الله منه ، أهو آمن؟!

فقال عليعليه‌السلام : أجل ، إنّ الله يقول :( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ ) (١) .

وهكذا تتوازن وتتساوى كفتا الشدّة المستفادة من الآية الأولى ـ محل البحث ـ واللين المستفاد من الآية التي تليها ، فإنّ سبيل التربية قائم على الشدة المشفوعة باللين ، ليكون منهما الدواء الناجع.

ملاحظات

* * *

١ ـ ما المراد من الأشهر الحرم؟

بالرّغم من أنّ المفسّرين قد بحثوا كثيرا في هذا الشأن ، إلّا أنّه ـ مع ملاحظة ما جاء في الآيات المتقدمة ـ يظهر أنّ المراد منها هي أربعة الأشهر التي كانت مدّة

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٠٦ وتفسير الفخر الرازي ، ص ٢٢٦.

٥٣٦

الإمهال للمشركين ، والتي بدأت من عاشر ذي الحجة للسنة التاسعة وانتهت بالعاشر من شهر ربيع الثّاني من السنة العاشرة الهجرية.

وهذا التّفسير يعتقد به أغلب المحققين ، والأهم من ذلك أنّ كثيرا من الرّوايات صرّحت بهذا المضمون أيضا(١) .

٢ ـ هل الصّلاة والزّكاة شرط في قبول الإسلام؟

يستفاد من الآيتين محل البحث أنّه لا بدّ من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لقبول توبة المشركين ، ولهذا فقد استدل بعض فقهاء أهل السنة على أن ترك الصلاة والزكاة دليل على الكفر.

إلّا أنّ الحق هو أنّ المراد من هذين الحكمين الإسلاميين هو متى ما شك في إسلام شخص ما ، كما هي الحال في المشركين يومئذ ، فعلامة إسلامه أن يؤدي هاتين الوظيفتين «الصلاة ، والزكاة».

أو أنّ المراد هو أن يقرّوا بالصلاة والزكاة على أنّهما أمران إلهيان ويلتزموا بهما ، ويعترفوا بهما على أنّهما فرضان واجبان وإن قصّروا في أدائمها ، لأن هناك أدلة وافرة تقضي بأنّ تارك الصلاة أو الزكاة ليس كافرا ، بل يعدّ إسلامه ناقصا.

وبالطبع إن كان ترك الزكاة له دلالة على تحدّي الحكومة الاسلامية والثورة عليها فهو سبب للكفر ، إلّا أن هذا بحث آخر لا علاقة له بموضوعنا هذا.

٣ ـ الإيمان وليد العلم

يستفاد من الآيات محل البحث أنّ الباعث على عدم الإيمان هو الجهل ، وأساس الإيمان الأصيل هو العلم ، لهذا فينبغي توفير الإمكانات اللازمة لإرشاد الناس وهدايتهم ليعرفوا طريق الحقّ ، ولا يقبلوا الإسلام بواسطة التقليد إلا عميق.

* * *

__________________

(١) ورد في تفسير نور الثقلين ، الجزء الثّاني منه ذيل الآية محل البحث حديث بهذا الشأن (فراجع إن شئت).

٥٣٧

الآيات

( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) )

التّفسير

المعتدون النّاقضون العهد :

كما لا حظنا في الآيات السابقة الإسلام ألغى جميع العهود التي كانت بينه وبين المشركين وعبدة الأوثان ـ إلّا جماعة خاصّة ـ وأمهلهم مدّة أربعة أشهر ليقرروا موقفهم منه.

وفالآيات ـ محل البحث ـ بيان لعلة إلغاء العهود من قبل الإسلام ، فتقول الآية الأولى من هذه الآيات مستفهمة استفهاما إنكاريا :( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ

٥٣٨

عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ) ؟! أي أنّهم لا ينبغي لهم أن يتوقعوا أو ينتظروا الوفاء بالعهد من قبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن جانب واحد ، في وقت تصدر منهم المخالفات وعدم الوفاء بالعهد.

ثمّ استثنت الآية مباشرة أولئك الذين لم ينقضوا عهدهم ، بل بقوا أوفياء له ، فقالت :( إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) .

وفي الآية التالية يثار هذا الموضوع بمزيد الصراحة والتأكيد ، ويستفهم عنه استفهاما إنكاريا أيضا ، إذ تقول الآية :( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) .

وكلمة «الإلّ» معناها القرابة ، وقال بعضهم : إنّها تعني هنا العهد والميثاق.

فعلى المعنى الأوّل أي «القرابة» يكون المراد من ظاهر الآية أنّه بالرغم من أنّ قريشا تربطها برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعض المسلمين علاقة قربى ، إلّا أنّها لا ترقب هذه القرابة أو الرحم ولا ترعى حرمتها ، فكيف إذن تتوقع من النّبي والمسلمين احترام علاقتهم بها.

وعلى المعنى الثّاني تكون كلمة «إلّ» مؤكّدة بكلمة (ذمّة) وتعني العهد والميثاق أيضا ، قال الراغب في المفردات : إن «الإل» كل حالة ظاهرة من عهد حلف وقرابة تئل (أي تلمع) فلا يمكن إنكاره(١) .

وتضيف الآية معقبة بأن هؤلاء يريدون أن يخدعوكم بألفاظهم المزوّقة فقالت :( يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ ) .

لأن قلوبهم مليئة بالحقد والقسوة وطلب الانتقام وعدم الاعتناء بالعهد وعلاقة القربى ، وإن أظهروا المحبّة بألسنتهم.

__________________

(١) المفردات ، ص ٢٠.

٥٣٩

وفي نهاية الآية إشارة إلى جذر هذا الموضوع وأساسه وهو فسقهم ، فتقول :( وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ ) .

وفي الآية التالية بيان لبعض علائم فسقهم وعصيانهم ، إذ أعربت الآية عن ذلك على النحو التالي( اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ) .

وقد جاء في بعض الرّوايات أن أبا سفيان أقام مأدبة ودعا إليها جماعة من الناس ، ليثير حفيظتهم وعداوتهم بوجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الطريق.

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية محل البحث تشير إلى هذه القصة ، إلّا أن الظاهر أن الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه القصّة وما شاكلها حيث أغمضوا أعينهم وصدوا عن سبيل الله وآياته من أجل منافعهم المادية التي لا تدوم طويلا.

ثمّ تعقب الآية بالقول :( إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) فقد خسروا طريق السعادة وضيعوها ، وحرّموا الهداية ، وهم في الوقت ذاته أو صدوا الطريق بوجه الآخرين ، وأي عمل أسوأ من أن يحمل الإنسان وزره ووزر سواه!

أمّا في آخر آية من الآيات ـ محل البحث ـ فهي تأكيد آخر على ما ورد في الآيات المتقدمة ، إذ تقول الآية :( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) .

وهذه الخصلة فيهم لم يبتل بها المؤمنون فحسب بل يعتدون على كل من تناله أيديهم( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ) .

وبالرغم من أنّ مضمون هذه الآية تأكيد لما سبق من الآيات المتقدمة ، إلّا أنّ هناك فرقا بينهما ، حيث كان الكلام في ما سبق على عدم رعاية المشركين حرمة لخصوص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المتقّين حوله( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) أمّا الآية محل البحث فالكلام فيها عن عدم رعايتهم حرمة لكل مؤمن( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) .

أي إن المشركين لا ينظرون إليكم (النّبي والخواص من الصحابة) نظرة تمتاز عن سواكم بل هذه النظرة ـ نظرة العداء والبغضاء ـ ينظر بها المشركون إلى

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606