الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245295 / تحميل: 6212
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

= فتراه يستشكل في عمل من بايعوا محمد بن الأشعث بإمرة المؤمنين، التي رآها مخالفة للإجماع المدعى يوم السقيفة. وتراه يعترف بمخالفة سعد ثم يدعي أنه رجع عن ذلك.. ولست أدري كيف رجع عنه، مع أنه من المتسالم عليه تاريخياً: أنه استمر على الخلاف معهم، حتى اغتيل بالشام ـ اغتالته السياسة، على حد تعبير طه حسين في كتابه: من تاريخ الأدب العربي ج ١ ص ١٤٦، وغيره.. وذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان.

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا هو الإشارة إلى أن كون الأئمة من قريش ليس فقط أصبح تقليداً متبعاً، بل هو قد أصبح من عقائد أهل السنة المعترف بها.

ولكن ما تأتي به السياسة، تذهب به السياسة، إذ بعد تسعماية سنة جاء السلطان سليم، وخلع الخليفة العباسي، وتسمى هو ب‍ـ (أمير المؤمنين) مع أنه لم يكن من قريش. وبهذا يكون قد ألغى هذا التقليد عملا من عقائد طائفة من المسلمين، وأبطله.

ومهما يكن من أمر فإن أول من ادعى استحقاق الخلافة بالقربى النسبية من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أبو بكر، ثم عمر، وجاء بعدهما بنو أمية، فعرفوا أنفسهم ذوي قربى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى لقد حلف عشرة من قواد أهل الشام، وأصحاب النعم والرياسة فيها ـ حلفوا ـ للسفاح: على أنهم لم يكونوا يعرفون إلى أن قتل مروان، أقرباء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية. فراجع النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٢٨، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ / ١٥٩، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٣.

بل لقد ذكر المسعودي والمقريزي: أن إبراهيم بن المهاجر البجلي، الموالي للعباسيين قد نظم قضية هؤلاء الأمراء شعرا، فقال:

أيها الناس اسمعوا أخبركم

عجباً زاد على كل العجب

عـجبا من عبد شمس إنهم

فتحوا للناس أبواب الكذب

ورثـوا أحـمد فيما زعموا

دون عباس بن عبد المطلب

كـذبـوا والله مـا نـعلمه

يحرز الميراث إلا من قرب

ويقول الكميت عن دعوى بني أمية هذه:

وقالوا: ورثناها أبانا وأمنا

ولا ورثتهم ذاك أم ولا أب

٤١

= وفي العقد الفريد ج ٢ / ١٢٠ طبع دار الكتاب العربي: أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب قالت لمعاوية: (.. ونبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المنصور، فوليتم علينا من بعده، تحتجون بقرابتكم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحن أقرب إليه منكم، وأولى بهذا الأمر الخ).

ثم جاء العباسيون، وادعوا نفس هذه الدعوى، كما هو واضح من النصوص التي ذكرناها، ونذكرها. بل لقد ادعى نفس هذه الدعوى أيضاً أكثر إن لم يكن كل من خرج مطالبا بالخلافة، سواء كان خروجه على الأمويين أو على العباسيين..

وهذا يعني أن العامل النسبي قد لعب دوراً هاماً في الخلافة الإسلامية، وكان الناس بسبب جهلهم. وعدم وعيهم لمضامين الإسلام يصدقون ويسلمون بأن القربى النسبية تكفي وحدها في أن تجعل لمدعيها الحق في منصب الخلافة. ولعل أكثر ما ورد في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة من الوصايا بأهل البيتعليهم‌السلام ، والأمر بمودتهم، ومحبتهم، والتمسك بهم جعل الناس يظنون أن سبب ذلك هو مجرد قرباهم النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وكان أن استغل الطامحون فهم الناس الخاطئ هذا. بل لقد حاولوا ما أمكنهم تكريسه، وتثبيته.

إلا أن حقيقة الأمر هي غير ذلك، فإن منصب الخلافة في الإسلام، لا يدور مدار القربى النسبية منه. بل هو يدور مدار الأهلية والجدارة، والاستعداد الذاتي لقيادة الأمة قيادة صالحة، كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقودها، يدلك على ذلك أننا لو رجعنا إلى النصوص القرآنية. وإلى ما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن الخليفة بعده، فلعلنا لا نعثر على نص واحد منها يفهم منه أن استحقاق الخلافة يدور مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحسب.

وكل ما ورد في القرآن، وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأمر بموالاة أهل بيته، وحبهم، والتمسك بهم، ومن تعيينه خلفاءه منهم، فليس لأجل قرباهم النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل لأن الأهلية، والجدارة الحقيقية لهذا المنصب قد انحصرت في الخارج فيهم. فهو على حد تعبير الأصوليين: من باب الإشارة إلى الموضوع الخارجي. وليس تصريحهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقربى لأجل بيان الميزان والمقياس والملاك في استحقاقهم الخلافة.

وواضح أنه كان لا بد من الالتجاء إلى الله ورسوله لتعيين الشخص الذي له الجدارة والأهلية لقيادة الأمة، لأن الناس قاصرون عن إدراك حقائق الأمور، ونفسيات، وغرائز، وملكات بعضهم البعض.. إدراكا دقيقا وحقيقيا، وعن إدراك عدم طرو تغير أو تبدل عليه في المستقبل. ولقد عينهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفعل، ودل عليه بمختلف الدلالات، =

٤٢

= بالقول، تصريحاً، وتلويحاً، وكناية، ونصاً، ووصفاً، وغير ذلك، وبالفعل أيضاً، حيث أمره على المدينة، وعلى كل غزوة لا يكون هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها، ولم يؤمر عليه أحداً، وغير ذلك..

هذا هو رأي الشيعة، وهذا هو رأي أئمتهم في هذا الأمر، وكلماتهم طافحة ومشحونة بما يدل على ذلك. ولا يبقى معه مجال لأي لبس أو توهم، فراجع كلام الإمام علي في شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٢، وغيره مما قد يتعسر استقصاؤه..

ومما ذكرنا نستطيع أن نعرف أن ما ورد عن الإمام عليعليه‌السلام ، أو عن غيره من الأئمة الطاهرين، من قولهم: أنهم هم الذين عندهم ميراث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنما يقصدون به الميراث الخاص، الذي يختص الله به من يشاء من عباده، أعني: ميراث العلم، على حد قوله تعالى:

( ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا.. ) وقد اعترف أبو بكر نفسه لفاطمة الزهراء بأن الأنبياء يورثون العلم لأشخاص معينين من بعدهم، وعلى كل فلقد أنكر علي عليه‌السلام مبدأ استحقاق الخلافة بالقرابة والصحابة أشد الإنكار، فقد جاء في نهج البلاغة قوله عليه‌السلام : ((وا عجباً!! أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة؟!!)). هكذا في نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ولكن الظاهر هو أنها محرفة، وأن الصحيح هو ما في نسخة ابن أبي الحديد، وهي هكذا ((وا عجباً!! أن تكون الخلافة بالصحابة، ولا تكون بالصحابة والقرابة!!)).

وأما ما يظهر منه أنهم يستدلون لاستحقاقهم الخلافة بالقربى من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنما اقتضاه الحجاج مع الخصوم، فهو من باب: (الزموهم بما ألزموا به أنفسهم). ويدل على هذا المعنى ويوضحه ما قاله الإمام عليعليه‌السلام لأبي بكر، عندما جيء به ليبايع، فكان مما قاله: ((.. واحتججتم عليهم -أي على الأنصار- بالقرابة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى الخ)).. راجع: الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٨.

ويشير أيضاًعليه‌السلام ـ إلى هذا المعنى في بعض خطبه الموجودة في نهج البلاغة فمن أراد فليراجعه.. كما ويشير إليه أيضاً ما نسب إليهعليه‌السلام من الشعر(على ما في نهج البلاغة) وهو قوله:

فـإن كنت بالشورى ملكت أمورهم

فـكيف بـهذا والـمشيرون غيب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فـغيرك أولـى بـالنبي وأقـرب

ولكن أحمد أمين المصري في كتابه: ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٦١، و ص ٣٠٠، و ص ٢٢٢، و ص ٢٣٥، وكذلك سعد محمد حسن في كتابه: المهدية في الإسلام ص ٥.

والخضري في محاضراته ج ١ ص ١٦٦: إن هؤلاء ينسبون إلى الشيعة القول: بأن منصب الخلافة يدور مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسب، رغم اعتراف أحمد أمين في نفس الكتاب، وبالتحديد في ص ٢٠٨، ٢١٢: بأن الشيعة يحتجون بالنص في خصوص الخليفة بعد الرسول. بل والخضري يعترف بذلك أيضاً حيث قال: (أما الانتخاب عند أهل التنصيص على البيت العلوي، فإنه كان منظورا فيه إلى الوراثة الخ).=

٤٣

= وهي نسبة غريبة حقاً ـ بعد هذا الاعتراف الصريح منهم، ومن غيرهم ـ فإن عقيدة الشيعة ـ تبعاً لأئمتهم هي ما ذكرنا، أي ليس منصب الخلافة دائراً مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأدلة الشيعة تنطق وتصرح بأن القربى النسبية وحدها لا توجب بأي حال من الأحوال استحقاق الخلافة، وإنما لا بد من النص المعين لذلك الشخص الذي يمتلك الجدارة والأهلية والاستعداد الذاتي لها.

إنهم يستدلون على خلافة عليعليه‌السلام بالنصوص القرآنية، والنبوية المتواترة عند جميع الفرق الإسلامية، ولا يستدلون بالقربى إلا من باب: ألزموهم.. أو من باب تكثير الأدلة، أو في مقابل استدلال أبي بكر وعمر بها، وإذا ما شذ واحد منهم، واستدل بذلك، معتقداً بخلاف ما قلناه عن قصور نظر، وقلة معرفة، أو لفهمه ـ خطأ ـ ما ورد عنهمعليهم‌السلام . من أن عندهم ميراث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يجب، بل لا يجوز أن يحسب على الشيعة، ومن ثم القول بأن ذلك هو قولهم، وأن تلك هي عقيدتهم.

ولعل أحمد أمين لم يراجع أدلة الشيعة!!

أو أنه راجعها، واشتبه عليه الأمر!!

أو أنه. لا هذا. ولا ذاك.. وإنما أراد التشنيع عليهم، فنسب إليهم ما ليس من مذهبهم!

ويدلنا على صحة هذا الاحتمال الأخير، اعترافه المشار إليه، بأن الشيعة يستدلون على إمامة عليعليه‌السلام بالنص، لا بالقربى!!..

وخلاصة القول هنا: إن القربى النسبية ليست هي الملاك في استحقاق الخلافة. ولم تكن دعوى أنها كذلك، لا من الأئمة، ولا من شيعتهم. وإنما كانت من قبل أبي بكر، وعمر، ثم الأمويين، فالعباسيين.

وإذا كان أهل السنة ـ تبعاً لأئمتهم ـ قد جعلوا كون الإمامة في قريش من عقائدهم. وإذا كان غير أهل البيت هم الذين ادعوا هذه الدعوى، وهللوا وكبروا لها. فمن الحق لنا إذن أن نقول:

(رمتني بدائها وانسلت).

وأخيراً.. فلقد كان من أبسط نتائج هذه العقيدة لدى أهل السنة، وقبولهم أن القربى النسبية تجعل لمدعيها الحق في الخلافة.. أن سنحت الفرصة لأن يصل أشخاص إلى الحكم من أبرز مميزاتهم، وخصائصهم جهلهم بتعاليم الدين، وانسياقهم وراء شهواتهم، أينما كانت، وحيثما وجدت، جاعلين الحكم والسلطان، وسيلة إليها، مسدلين على حماقاتهم هنا، وتفاهاتهم هناك ستاراً من القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو من هؤلاء وأمثالهم بريء.

ولما لم يعد ذلك الستار يقوى على المنع من استكناه واقعهم، وحقيقة نواياهم وتصرفاتهم، كان لا بد لهم من الالتجاء إلى أساليب أخرى، تبرر لهم واقعهم، وتحمي تصرفاتهم، وتؤمن لهم الاستمرار في الحكم، ولعل بيعة المأمون للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد هي من تلك الأساليب، كما سيتضح إن شاء الله تعالى..

٤٤

وعندما ذهب داوود بن علي إلى مكة، والياً عليها، من قبل أخيه السفاح، وأراد أن يخطب في مكة خطبته الأولى، طلب منه سديف بن ميمون أن يأذن له في الكلام، فأذن له، فوقف، وقال من جملة ما قال:

(.. أتزعم الضلال: أن غير آل الرسول أولى بتراثه؟! ولم؟! وبم؟! معاشر الناس؟! ألهم الفضل بالصحابة، دون ذوي القرابة؟ الشركاء في النسب، والورثة للسلب)(١) .

ويقول داوود بن علي في نفس المناسبة، أعني في أول خطبة له: (لم يقم فيكم إمام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا علي بن أبي طالب، وهذا القائم فيكم..) وأشار إلى السفاح(٢) .

____________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٩، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب ج ٤ ص ٤٨٥.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٧ و ٢٥٦، والطبري ج ١٠ ص ٣٣ و ٣٧، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ٢ ص ٢٥٢، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٧، ٨٨، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٦، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٢٩ و ١٧٣، وإمبراطورية العرب ص ٤٢٢، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٤٢، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٥، وفيه: (إنه لم يخطب على منبركم هذا خليفة حق إلخ).. وبرواية أخرى فيه: (أقسم بالله قسماً براً، ما قام هذا المقام أحد بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أحق به من علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين هذا)..

٤٥

وقال المنصور في خطبة له: (وأكرمنا من خلافته، وميراثنا من نبيه..)(١) .

ولكنهم بعد المنصور ـ بل وحتى من زمن المنصور نفسه كما سيتضح ـ قد غيروا سلسلة الإرث هذه، وجعلوها عن طريق العباس، وولده عبد الله، ولكنهم أجازوا بيعة علي، لأن العباس نفسه كان قد أجازها.

كما سيأتي بيانه.. فكانت استدلالات الخلفاء ابتداء من المنصور ناظرة إلى الإرث عن هذا الطريق..

فنرى المنصور يبين في رسالة منه لمحمد بن عبد الله بن الحسن: أن الخلافة قد ورثها العباس في جملة ما ورثه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنها في ولده(٢) .

وكان الرشيد يقول: (ورثنا رسول الله، وبقيت فينا خلافة الله)(٣) . وقال الأمين عندما بويع له، بعد موت أبيه الرشيد: (.. وأفضت خلافة الله، وميراث نبيه إلى أمير المؤمنين الرشيد..) (٤) .

ومدح البعض المأمون، وعرض بأخيه الذي غدر به، فقال في جملة أبيات له:

إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه.. ولنعد إلى ما كنا فيه أولاً، فنقول:

إن تغدروا جهلاً بوارث أحمد

ووصي كل مسدد وموفق(٥)

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٠١، والطبري ج ١٠ ص ٤٣٢.

(٢) الطبري ج ١٠ ص ٢١٥، والعقد الفريد طبع دار الكتاب ج ٥ ص ٨١، إلى ٨٥، وصبح الأعشى ج ١ ص ٣٣٣، فما بعد، والكامل للمبرد، وطبيعة الدعوة العباسية..

(٣) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢١٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٦٣.

(٥) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٩٩.

٤٦

دعوى الأخذ بثارات العلويين:

وأما ادعاؤهم: أنهم إنما خرجوا للأخذ بثارات العلويين، واستمرارهم على ربط الثورة بأهل البيت، حتى بعد نجاح ثورتهم، وتسلمهم لازمة الحكم والسلطان ـ وهذه هي الناحية الثانية من المرحلة الرابعة ـ فذلك أوضح من أن يخفى.. وقد تقدم قول محمد بن علي لبكير بن ماهان: (وسنأخذ بثأرهم..) يعني بثارات العلويين.. وتقدم أيضاً قول داوود ابن علي: (وإنما أخرجنا الآنفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا..)..

ويقول السفاح، عندما أتي برأس مروان: (ما أبالي متى طرقني الموت، فقد قتلت بالحسين، وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم)(١) .

ويقول صالح بن علي لبنات مروان: (ألم يقتل هشام بن عبد الملك، زيد بن علي بن الحسين، وصلبه في كناسة الكوفة؟. وقتل امرأة زيد بالحيرة، على يد يوسف بن عمرو الثقفي؟!

ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد، وصلبه بخراسان؟!

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٥٧ وفي شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٣١، وحياة الإمام موسى بن جعفر للقرشي ج ١ ص ٣٣٧، نقلاً عن مختصر أخبار الخلفاء، هكذا. (.. وقد قتلت بالحسين ألفاً من بني أمية. إلى أن قال: وقتلنا سائر بني أمية بحسين، ومن قتل معه، وبعده من بني عمنا أبي طالب)..

٤٧

ألم يقتل الدعي عبيد الله بن زياد، مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة؟!

ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين(١) ؟!.

وبرواية ابن أبي الحديد، أنه قال لهن: (.. إذن، لا نستبقي منكم أحداً، لأنكم قد قتلتم إبراهيم الإمام، وزيد بن علي، ويحيى بن زيد، ومسلم بن عقيل.

وقتلتم خير أهل الأرض حسيناً، وإخوته، وبنيه، وأهل بيته، وسقتم نساءه سبايا ـ كما يساق ذراري الروم ـ على الأقتاب إلى الشام..)(٢) .

ولا بأس بمراجعة ما قاله داوود بن علي عندما قتل ثمانين أموياً مرة واحدة(٣) .

وكذلك فإنهم ما لقبوا أبا سلمة الخلال، أول وزير في الدولة العباسية بـ‍ (وزير آل محمد)، وأبا مسلم الخراساني بـ‍ (أمين، أو أمير آل محمد)(٤) . إلا من أجل الحفاظ على ربط الدعوة بأهل البيت عليهم‌السلام ، ولتبقى ـ من ثم ـ محتفظة بقوتها، وحيويتها.

وأخيراً.. فلم يكن اتخاذهم السواد شعاراً إلا تعبيراً عن الحزن والأسى

____________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٣٢، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٤٧، ولا بأس بمراجعة خطبة السفاح في مروج الذهب أيضاً ج ٣ ص ٢٥٧.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٢٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٩٢.

(٤) الفخري في الآداب السلطانية ص ١٥٥، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٧١، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٥٤، والطبري ج ١٠ ص ٦٠، وتاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الأول، جزء ١ ص ١٥٢، وغيرهم، فإنه مما نص عليه أكثر المؤرخين..

٤٨

لما نال أهل البيت في عهد بني أمية(١) .

وهكذا. يتضح، بما لا مجال معه للشك: أنهم كانوا يستغلون سمعة العلويين، ودماءهم الزكية في محاولاتهم للوصول إلى الحكم، وتثبيت أقدامهم فيه..

بل إن من الملاحظ أن كثيراً من الثورات التي قامت بعد ثورة بني العباس، كانت تحاول ذلك ـ بطريقة أو بأخرى ـ أي أنها كانت تظهر للناس ارتباطها بأهل البيتعليهم‌السلام ، وأنها تحظى بتأييدهم، وموافقتهم، وكثير منها كان يرفع شعار: (الرضا من آل محمد).

نهاية المطاف..

وبعد كل ما تقدم.. يتضح لنا بجلاء، الأسلوب الذي انتهجه العباسيون، والخطة التي اتبعوها، من أجل كسب ثقة الناس بهم، وتأييدهم لهم، وصرف أنظار الحكام عنهم..

____________

(١) هذا يصح بالنسبة للملابس السوداء. وأما كون الرايات سوداء، فيحتمل أن يكون لأجل ذلك، حسبما صرح به ابن خلدون ص ٢٥٩، ويحتمل أن يكون لما ورد من أن راية عليعليه‌السلام يوم صفين كانت سوداء، على ما نص عليه فإن فلوتن في هامش: ص ١٢٦ من كتابه السيادة العربية، أو لأن رايات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حروبه مع الكفار كانت سوداء، يقول الكميت مشيراً إلى ذلك:

وإلا فارفعوا الرايات سوداً

على أهل الضلالة والتعدي

وفي صبح الأعشى ج ٣ ص ٣٧٠، نقلاً عن القاضي الماوردي في كتابه: (الحاوي الكبير): أن السبب في اختيارهم السواد هو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عقد في يوم حنين ويوم الفتح لعمه العباس راية سوداء. وفي صبح الأعشى أيضاً ج ٣ ص ٣٧١ نقل عن أبي هلال العسكري في كتابه (الأوائل) أن سبب ذلك هو قتل مروان لإبراهيم الإمام، حيث لبس شيعته السواد حدادا عليه، فلزمهم ذلك، وصار شعاراً لهم..

ونرجح أن حادثة قتل يحيى بن يزيد، ولبس الخراسانيين السواد عليه سبعة أيام، هي التي شجعت العباسيين على اتخاذ السواد شعاراً لهم، إظهارا للحزن والأسى لما نال أهل البيت في الدولة الأموية. ويذهب إلى هذا الرأي السيد عباس المكي في نزهة الجليس ج ١ ص ٣١٦. بل صرح البلاذري في أنساب الأشراف ج ٣ ص ٢٦٤ بما يدل على ذلك فراجع.

٤٩

وأيضاً الطريقة التي اتبعوها في إبعاد العلويين عن مجال السياسة، وأن بيعتهم لهم ما كانت إلا خداعاً وتمويهاً، من أجل تنفيذ خطتهم، وإنجاح دعوتهم..

كما وظهر أن كون الدعوة ـ في بادئ الأمر ـ باسم العلويين، لم يكن أمراً عفوياً، وتلقائياً. وإنما كان ضمن خطة دقيقة، ومدروسة، وضعت بعناية فائقة، كما توضحه لنا النصوص المتقدمة.

وظهر أيضاً: كيف أن العباسيين قد حرصوا كل الحرص على ربط الثورة بأهل البيتعليهم‌السلام ، وكانوا يعتمدون على هذا الربط كل الاعتماد، ويصرون، ويؤكدون عليه، كلما سنحت لهم الفرصة، وواتاهم الظرف، حتى عندما وصلوا إلى الحكم، وفازوا بالسلطان.

وقد انقاد الناس لهم في البداية، واستقامت لهم الأمور، ظنا منهم بحسن نيتهم، وسلامة طويتهم.

ولكن.. ماذا كانت النتيجة بعد ذلك، بالنسبة للناس عامة، وبشكل خاص بالنسبة للعلويين، الذين قامت الثورة باسمهم ونجحت بفضلهم؟! وماذا كان نصيبهم، ومصيرهم، من هذه الثورة ومعها؟!

هذا.. ما سوف نحاول الإجابة عليه فيما يأتي من الفصول.

مصدر الخطر على العباسيين

العلويون هم مصدر الخطر:

قد تقدم معنا: أن الدولة العباسية إنما قامت ـ في بداية أمرها ـ على الدعوة لخصوص العلويين، ثم لأهل البيت، ثم إلى الرضا من آل محمد.. وأن سر نجاحها ليس إلا ربطها بأهل البيتعليهم‌السلام . وإن كانت قد انحرفت فيما بعد، حيث تحكم العباسيون وتسلطوا على الأمة بدعوى القربى النسبية من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٥٠

ومن هنا.. فإن من الطبيعي، أن يكون الخطر الحقيقي الذي يتهدد العباسيين، وخلافتهم، هو من جهة أبناء عمهم العلويين، الذين كانوا أقوى منهم حجة، وأقرب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم، باعتراف العباسيين أنفسهم(١) ..

فادعاؤهم الخلافة إذن، له مبرراته الكاملة، سيما وأن من بينهم من له الجدارة والأهلية، ويتمتع بأفضل الصفات والمؤهلات لهذا المنصب من العلم، والعقل، والحكمة، وبعد النظر في الدين والسياسة. هذا بالإضافة إلى ما كان يكنه الناس لهم، من مختلف الفئات والطبقات، من الاحترام والتقدير، الذي نالوه بفضل تلك المميزات والصفات، وبفضل سلوكهم المثالي، وترفعهم عن كل المشينات، والموبقات.

أضف إلى ذلك كله: أن رجالات الإسلام، وأبطاله، كانوا هم آل أبي طالب (رضي الله تعالى عنه)، فأبو طالب مربي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفيله، وعليعليه‌السلام وصيه وظهيره، وكذلك الحسن، والحسين، وعلي زين العابدين، وباقي الأئمة. ومنهم زيد بن علي الخارج على بني أمية، وغيرهم، ممن يطول المقام بذكرهم، (رضوان الله عليهم أجمعين).

ولقد كانت بطولات العلويين، ومواقفهم على كل شفة ولسان، وفي كل قلب وفؤاد، حتى لقد ألفت الكتب الكثيرة في وصف تلك البطولات، وبيان هاتيك المواقف..

وخلاصة الأمر: إنه لم يكن هناك مجال لإنكار نفوذ العلويين الواسع في تلك الفترة، أو تجاهله، فإن ذلك إما أن يكون عن قصر نظر، وقلة معرفة، أو مكابرة وعناداً.

____________

(١) سيأتي اعتراف عيسى بن موسى بذلك، واعتراف الرشيد للكاظمعليه‌السلام والمأمون للرضاعليه‌السلام في الكتاب التي سنورده في أواخر هذا الكتاب، وأيضاً قوله للرضاعليه‌السلام : أنتم والله أمس برسول الله رحماً، وبيعة السفاح والمنصور وغيرهم لمحمد بن عبد الله العلوي وكلام المنصور في مجلس البيعة يدل على ذلك أيضاً، إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه واستقصائه.. وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيداً مقدار هذا النفوذ.

٥١

تخوف العباسيين من العلويين:

وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيداً مقدار هذا النفوذ، للعلويين، ويتخوفون منه، منذ أيامهم الأولى في السلطة. ومما يدل على ذلك:

أن السفاح، من أول عهده كان قد وضع الجواسيس على بني الحسن، حيث قال لبعض ثقاته، وقد خرج وفد بني الحسن من عنده: (قم بإنزالهم ولا تأل في ألطافهم، وكلما خلوت معهم، فأظهر الميل إليهم، والتحامل علينا، وعلى ناحيتنا. وأنهم أحق بالأمر منا، وأحص لي ما يقولون، وما يكون منهم في مسيرهم، ومقدمهم..)(١) .

وقد تنوعت هذه المراقبة، وتعددت أساليبها بعد عهد السفاح، يظهر ذلك لكل من راجع كتب التاريخ(٢) .

خوف المنصور من العلويين

ومما يدل على مدى تخوف العباسيين من العلويين وصية المنصور لولده المهدي، التي يحثه فيها على القبض على عيسى بن زيد العلوي، يقول المنصور: (.. يا بني، إني قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها. ولست أخاف عليك إلا أحد رجلين: عيسى بن موسى، وعيسى بن زيد. فأما عيسى بن موسى، فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، ووالله، لو لم يكن إلا أن يقول قولاً لما خفته عليك، فأخرجه من قلبك، وأما عيسى بن يزيد، فانفق هذه الأموال، واقتل هؤلاء الموالي، واهدم هذه المدينة، حتى تظفر به،

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ١١ ص ٧٥٢، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ ص ٧٤، وتاريخ التمدن الإسلامي، وغير ذلك..

(٢) وقد اعترف المنصور نفسه بهذه المراقبة في بعض خطبه: فراجع: الطبري ج ١٠ ص ٤٣٢، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٠١.

٥٢

ثم لا ألومك..)(١) .

وليس تخوف المنصور إلى هذا الحد من عيسى بن زيد لعظمة خارقة في عيسى هذا، وإنما كل ما في الأمر أن المجتمع الإسلامي كان قد قبل ـ في تلك الفترة من الزمن ـ أن الخلافة الشرعية إنما هي في ولد عليعليه‌السلام . وإذا ما قام عيسى بن زيد بثورة، فإنه سوف يلقى تأييدا واسعا، فهو من جهة ابن زيد الشهيد، الثائر على بني أمية.

ومن جهة أخرى: كان من المعاونين لمحمد بن عبد الله العلوي ـ قتيل المدينة ـ الذي كان السفاح والمنصور قد بايعاه، حسبما تقدم، والذي ادعي على نطاق واسع ـ باستثناء الإمام الصادقعليه‌السلام ـ أنه مهدي هذه الأمة. ـ كما أنه ـ أي عيسى بن زيد ـ كان من المعاونين لإبراهيم أخي محمد بن عبد الله الآنف الذكر، والذي خرج بالبصرة، وقتل بباخمرى..

ومما يدل على مدى خوف المنصور من العلويين أنه: عندما كان مشغولا بحرب محمد بن عبد الله، وأخيه إبراهيم، كان لا ينام الليل في تلك الأيام. وأهديت له جاريتان، فلم ينظر إليهما، فكلم في ذلك، فنهر المتكلمة، وقال: (.. ليست هذه الأيام من أيام النساء، لا سبيل لي إليهما، حتى أعلم: أرأس إبراهيم لي، أم رأسي لإبراهيم؟)(٢) .

____________

(١) الطبري طبع ليدن ج ١٠ ص ٤٤٨.

وتحسن الإشارة هنا إلى أن الأموال التي خلفها المنصور للمهدي تبلغ ٦٠٠ مليون درهم، و ١٤ مليون دينار. راجع أمراء الشعر العربي في العصر العباسي ص ٣٥.

(٢) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٩٥، والطبري ج ١٠ ص ٣٠٦، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١١٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٨. وأنساب الأشراف ج ٣ ص ١١٨، ولكنه يذكر أنهما امرأتان من قريش كانتا قد خطبتا للمنصور.

٥٣

وهيئت له آنئذٍ عجينة من مخ وسكر، فاستطابها، فقال: (أراد إبراهيم أن يحرمني هذا وأمثاله)(١) .

وأرسل إلى كل باب من أبواب عاصمته ـ وهي الكوفة آنئذٍ ـ إبلاً ودواباً، حتى إذا أتى إبراهيم وجيشه من ناحية، هرب هو إلى الري من الناحية الأخرى(٢) .

وفي حربه ـ أي المنصور ـ مع محمد بن عبد الله اتسخت ثيابه جداً، حيث لم ينزعها عن بدنه أكثر من خمسين يوماً(٣) .

وكان لا يستطيع أن يتابع كلامه من كثرة همه(٤) .

وأخيراً.. فكم من مرة رأيناه يجلب الإمام الصادقعليه‌السلام ، ويتهدده ويتوعده، ويتهمه بأنه يدبر للخروج عليه وعلى سلطانه.

فكل ذلك يدل دلالة واضحة على مدى رعب المنصور، وخوفه من العلويين، وما ذلك إلا لإدراكه مدى ما يتمتعون به من التأكيد، في مختلف الطبقات، وعند جميع الفئات.

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٩٨. وهذا يعبر بوضوح عن نوعية تفكير خليفة المسلمين ونوعية طموحاته.

(٢) الطبري ج ١٠ ص ٣١٧، طبع ليدن، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١١٣. ومرآة الجنان ج ١ ص ٢٩٩، وشرح ميمية أبي فراس ص ١١٦، وفرج المهموم في تاريخ علماء النجوم ص ٢١٠، نقلاً عن تجارب الأمم لابن مسكويه ج ٤.

(٣) الطبري ج ١٠ ص ٣٠٦، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٩٥، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٨، والمحاسن والمساوي ص ٣٧٣، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، وأنساب الأشراف للبلاذري ج ٣ ص ١١٨.

(٤) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، وقال اليافعي في مرآة الجنان ج ١ ص ٢٩٨، ٢٩٩: (.. ولم يأو إلى فراش خمسين ليلة، وكان كل يوم يأتيه فتق من ناحية. هذا، ومئة ألف سيف كامنة له بالكوفة، قالوا: ولولا السعادة لسل عرشه بدون ذلك).

٥٤

حتى إنه عندما سئل عن المبايعين لمحمد بن عبد الله أجاب: (.. ولد علي، وولد جعفر، وعقيل، وولد عمر بن الخطاب، وولد الزبير بن العوام، وسائر قريش، وأولاد الأنصار)(١) .

وسيمر معنا أن المنصور ادعى أن ولده هو المهدي، عندما رأى أن الناس ـ ما عدا الإمام الصادقعليه‌السلام ـ قد قبلوا بمهدوية محمد بن عبد الله العلوي. وسيمر معنا أيضاً طرف من معاملته للعلويين فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

خوف المهدي من العلويين:

وأما خوف المهدي من العلويين، فذلك لعله من أوضح الواضحات، فمثلا نرى أنه: عندما أخرج الإمام الكاظمعليه‌السلام من السجن، يطلب منه أن لا يخرج عليه، ولا على أحد من ولده(٢) .

كما أنه قد مكث مدة يطلب عيسى بن زيد، والحسن بن إبراهيم، بعد هربه من السجن.. فقال المهدي يوماً لجلسائه: (لو وجدت رجلاً من الزيدية، له معرفة بآل حسن، وبعيسى بن زيد، وله فقه. فاجتلبه عن طريق الفقه، فيدخل بيني وبين آل حسن، وعيسى بن زيد)، فدله الربيع على يعقوب بن داوود، فلم يزل أمره يرتفع عند الخليفة المهدي، حتى استوزره، وفوضه جميع أمور الخلافة، وخرج كتابه على الدواوين

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٩٤، ٢٩٥.

(٢) راجع: مروج الذهب، وابن خلكان: ترجمة الإمام الكاظم، وفصل الخطاب، وينابيع المودة، وكشف الغمة، ومرآة الجنان، وصفة الصفوة.

وصرح في ينابيع المودة ص ٣٨٢، ٣٨٣ باتفاق المؤرخين على ذلك.

٥٥

بأنه: قد آخاه(١) . كل ذلك من أجل أن يدله على الحسن بن إبراهيم، وعيسى بن زيد، مع أن يعقوب هذا كان قد سجنه المنصور، لخروجه عليه مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، والمهدي هو الذي أطلقه..

ولكنه لما لم يدله على عيسى بن زيد اتهمه بأنه: يمالئ الطالبيين فسجنه(٢) وبقي في السجن إلى زمن الرشيد، فأخرجه. وقد كف بصره وصار شعره كالأنعام..

خوف الرشيد من العلويين:

وأما الرشيد (الذي ثارت الفتن في زمنه بين أهل السنة والرافضة(٣) ،

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ ص ٤٦٤، ٥٠٧، ٥٠٨، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣١٢، والفخري في الآداب السلطانية ص ١٨٤، ١٨٥، وليراجع: الوزراء والكتاب ص ١٥٥ وغير ذلك. وسيأتي في فصل: ظروف البيعة المزيد من الكلام حول نفوذ يعقوب هذا.. ونكتفي هنا بالقول: إنه قد بلغ من نفوذه، أن جاز لبشار أن يقول أبياته المشهورة:

بني أمية هبوا طال نومكـــم

إن الخليفة يعقوب بن داوود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا

خليفة الله بين الزق والعـود

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٣١٢، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٢، والطبري، وغير ذلك. وفي مرآة الجنان ج ١ ص ٤١٩ وغيره: أنه حبسه في بئر، وبنى عليه قبة، وليراجع الوزراء والكتاب ص ١٥٥ أيضاً.

وقد دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي بعد أن سجن يعقوب، وقال له: (إن يعقوب رجل رافضي)..

ومع ذلك.. فإننا نرى البعض يتهم يعقوب هذا بأنه هو الذي وشى للرشيد بالإمام موسى ابن جعفرعليه‌السلام ، فراجع عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٧٣، وغيره..

(٣) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٧٧.

٥٦

فقد كان معنياً بالمسألة عن آل علي، وكل من كان ذا نباهة وشأن منهم، كما سيأتي.

وقضيته مع يحيى بن عبد الله بن الحسن، الذي كان قد خرج في الديلم، وحالته السيئة، وهمومه في أيام خروجه، أشهر من أن تحتاج إلى بيان. وكيف لا تأخذه الهموم، وتذهب به الوساوس، وقد اتبع يحيى (خلق كثير، وجم غفير، وقويت شوكته، وارتحل إليه الناس من الكور والأمصار، فانزعج لذلك الرشيد، وقلق من أمره). وكان الساعي بالصلح بينه وبين يحيى هو الفضل بن يحيى، وبسبب تمكنه من إخماد ثورة يحيى عظمت منزلته عند الرشيد جداً، وفرح بذلك الصلح فرحاً عظيماً(١) . وإن كان قد غدر بيحيى بعد ذلك، كما هو معروف ومشهور..

كما أنه عندما ذهب إلى المدينة لم يعط الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، سوى مائتي دينار، رغم أنه كان يعطي من لا يقاسون به الآلاف منها، وكان اعتذاره عن ذلك لولده المأمون، أنه لو أعطاه أكثر من ذلك لم يأمن أن يخرج عليه من الغد مئة ألف سيف من شيعته، ومحبيه صلوات الله وسلامه عليه(٢) .

ثم عاد وسجنه بعد ذلك بحجة أنه كان يجبى إليه الخراج، ثم يدس إليه السم، ويتخلص منه، وذلك هو مصير أكثر الأئمة على يد الخلفاء قبله وبعده.

____________

(١) راجع في ذلك كله: البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٦٧، وعمدة الطالب، طبع بيروت ص ١٢٤، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٩٠.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٩٢، والبحار ج ٤٨ ص ١٣١، ١٣٢.

وقد رأينا أن العباسيين ابتداء من المنصور، بل السفاح ـ مع الإمام الصادقعليه‌السلام ـ كانوا دائما يتهددون الأئمة ـ الذين ما كانوا يجدون الفرصة لأي تحرك، ومن أي نوع، كما سنوضحه ـ ويتهمونهم بأنهم كانوا يدبرون في الخفاء للخروج عليهم، ليجدوا الوسيلة من ثم ـ للتضييق عليهم، والمبرر لسجنهم، ومصادرة أموالهم و و. وكان الأئمة ينفون ذلك، ويدحضون تلك التهم باستمرار.. لكنهم ما كانوا يقبلون منهم ذلك!!

٥٧

وأما في زمن المأمون!

وأما في زمن المأمون: فقد كان الأمر أعظم، وأمر، وأدهى، حيث قد شملت الثورات والفتن الكثيرة من الولايات والأمصار، حتى لم يعد يعرف المأمون من أين يبدأ، ولا كيف يعالج. وأصبح يرى، ويؤلمه أن يرى مصيره، ومصير خلافته في مهب الريح، تتقاذفه الأنواء، ويضري به الأعصار.

عقدة الحقارة لدى العباسيين:

وكان ذلك بطبيعة الحال يزيد من رعب العباسيين، ويضاعف من مخاوفهم.. سيما بملاحظة أنهم كانوا يعيشون عقدة الحقارة والمهانة.

يقول أبو فراس مشيراً إلى ذلك:

ثـم ادعاها بنو العباس ملكهم

ومـا لـهم قـدم فيها ولا قدم

لا يذكرون إذا ما معشر ذكروا

ولا يـحكم فـي أمر لهم حكم

ولا رآهـم أبو بكر وصاحبه

أهلا لما طلبوا منها وما زعموا

فـهل هم يدعوها غير واجبة

أم هل أئمتهم في أخذها ظلموا

وقد كتب أبو مسلم للمنصور، من جملة رسالة له: (.. وأظهركم الله بعد الإخفاء، والحقارة والذل، ثم استنقذني بالتوبة الخ)(١) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٦٤. وغيره.

٥٨

وفي رسالة أخرى: (.. حتى عرفكم من كان جهلكم)(١) .

بل لقد صرح المنصور بذلك لعمه عبد الصمد بن علي، حيث قال له: (نحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة، واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا إلا باستعمال العقوبة، ونسيان العفو) كما سيأتي.

في مواجهة الخطر:

وإذا كان العباسيون يدركون: أن الخطر الحقيقي الذي يتهددهم، إنما هو من قبل أبناء عمهم العلويين، فإن عليهم إذن. أن يتحركوا. أن يفعلوا شيئاً. أن يواجهوا الخطر المحدق بهم بكل وسيلة، وبأي أسلوب كان. سيما وهم يشهدون عن كثب سرعة استجابة الناس للعلويين، وتأييدهم، ومساندتهم لكل دعوة من قبلهم.

فكيف عالج العباسيون الموقف؟!.

وما هو مدى نجاحهم في ذلك؟ إن كان قدر لهم النجاح!!.

سياسة العباسيين ضد العلويين

مما سبق:

قد تقدم معنا بعض ما يدل على مدى نفوذ العلويين، وعلى المكانة التي كانوا يتمتعون بها على العموم. وأنهم هم الذين كانوا يشكلون الخطر الحقيقي على العباسيين، ومركزهم في الحكم..

وقد كان العباسيون يدركون بالفعل هذه الحقيقة، فكان عليهم أن يبعدوهم عن مجال السياسة بأي وسيلة كانت وأن يحدوا ما استطاعوا من نفوذهم، ويضعفوا ما أمكنهم من قوتهم..

وقد اتبعوا من أجل ذلك أساليب شتى، وطرق متنوعة: فحاولوا في بادئ الأمر أن يقارعوهم الحجة بالحجة..

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٦٩، والإمامة والسياسة ج ٢ ص ١٣٣، وغير ذلك.

٥٩

تطوير نظرية الإرث:

وكان من جملة أساليبهم في ذلك أنهم غيروا وبدلوا في السلسلة، التي كانوا يواجهون بها الناس في تقريرهم لشرعية خلافتهم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وذلك لأنهم كانوا في بداية أمرهم يصلون حبل وصايتهم بأمير المؤمنينعليه‌السلام ، ثم منه إلى ولده محمد بن الحنفية، ثم إلى ابنه أبي هاشم، ثم إلى علي بن عبد الله بن العباس، فإلى ولده محمد بن علي، فإبراهيم الإمام، ثم منه إلى أخيه السفاح(١) وهكذا..

هذا.. مع إنكارهم لشرعية خلافة أبي بكر وعمر، وعثمان، وغيرهم من خلفاء الأمويين، وغيرهم.

ويتضح إنكارهم وتبرؤهم هذا من كثير من النصوص التاريخية. فمن ذلك قصة أبي عون مع المهدي، التي ستأتي في بعض هوامش هذا الفصل.

ومن ذلك أيضاً قول أبي مسلم في خطبته في أهل المدينة في السنة التي حج فيها في عهد السفاح، قال: (.. وما زلتم بعد نبيه تختارون تيميا مرة، وعدوياً مرة، وأسدياً مرة وسفيانياً مرة، ومروانياً مرة، حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه، ولا بيته (يعني نفسه) يضربكم بسيفه، فأعطيتموها عنوة، وأنتم صاغرون، ألا وإن آل محمد أئمة الهدى، ومنار سبيل التقى، القادة الذادة السادة الخ(٢) . وتقدم قول داوود ابن علي: (لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله الخ..) وروى أبو سليمان الناجي، قال: (جلس المهدي يوماً يعطي قريشاً صلات لهم، وهو ولي عهد، فبدأ ببني هاشم، ثم بسائر قريش. فجاء السيد أي (الحميري)، فرفع إلى الربيع حاجب المنصور رقعة مختومة، وقال: إن فيها نصيحة للأمير، فأوصلها إليه. فأوصلها.

فإذا فيها:

____________

(١) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٧٣، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٨، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٤٥٤، ٤٥٥، طبع سنة ١٣١٠، وإمبراطورية العرب ص ٤٠٦، وغير ذلك، وقد أشرنا إلى أن هذه هي عقيدة الكيسانية، فراجع.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٦١، ١٦٢.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

٦ ـ حقيقة تأريخية يسعى بعضهم إلى طمس معالمها

من المتفق عليه بين جميع المؤرخين والمفسّرين تقريبا أنّه لما نزلت الآيات الأولى من سورة براءة ، وألغيت العهود التي كانت بين المشركين والمسلمين ، أمر النّبي أبا بكر أن يبلغ هذه الآيات في موسم الحج ، ثمّ أخذها منه وأعطاها علياعليه‌السلام ليقوم بتبليغها ، فقرأها علي على الناس في موسم الحج. وبالرغم من اختلاف الرّوايات في جزئيات هذه القصة وجوانبها المتفرقة ، إلّا أن ذكر النقاط التالية يمكن أن يجلو لنا حقيقة ناصعة :

١ ـ يروي أحمد بن حنبل ـ إمام أهل السنة المعروف ـ في مسنده عن ابن عباس ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل فلانا «المقصود بفلان هو أبو بكر كما سيتّضح ذلك بعدئذ» وأعطاه سورة التوبة ليبلغها الناس في موسم الحج ، ثمّ أرسل عليّا خلفه وأخذها منه وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يذهب بها إلّا رجل منّي وأنا منه»(١) .

٢ ـ كما جاء في المسند ذاته عن أنس بن مالك ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل سورة براءة مع أبي بكر ليبلغها ، فلمّا وصل أبو بكر إلى ذي الحليفة ـ ويدعى بمسجد الشجرة أيضا ـ وهو وعلى بعد مسافة فرسخ عن المدينة تقريبا ، قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يبلغها إلّا أنا أو رجل من أهل بيتي» فبعث بها مع عليعليه‌السلام (٢) .

٣ ـ وورد أيضا في المسند نفسه ـ بإسناد آخر ـ عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه لما بعثه النّبي ومعه براءة قال : يا رسول الله لست خطيبا ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا محيص عن ذلك ، فإمّا أن أذهب بها أو تذهب بها ، فقال علي : إذا كان ولا بدّ فأنا أذهب بها. فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انطلق بها فإنّ الله يثبت لسانك ويهدي قلبك»(٣) .

٤ ـ وينقل النسائي ـ أحد كبار علماء السنة ـ في خصائصه ، عن زيد بن

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ، ج ١ ، ص ٣٣١ ، ط مصر.!

(٢) مسند أحمد بن حنبل ، ج ٣ ، ص ٢١٢.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ، ج ١ ، ص ١٥٠.

٥٢١

سبيع ، عن عليعليه‌السلام ، أن النّبي أرسل أبا بكر بسورة براءة إلى أهل مكّة ، ثمّ بعث عليّا خلفه ليأخذ الكتاب منه «يعني السورة» فلحقه في الطريق وأخذ الكتاب منه ، فعاد أبو بكر حزينا أسيفا ، وقال : يا رسول الله أنزل فيّ شيء؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ، إلّا أنّي أمرت أن أبلغه أنا أو رجل من أهل بيتي»(١) .

٥ ـ وفي سند آخر أيضا ، عن عبد الله بن أرقم ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبا بكر بسورة براءة ، فلمّا سار وبلغ بعض الطريق بعث النّبي عليا فلحقه وأخذ منه السورة ، فذهب بها علي إلى مكّة ، فرجع أبو بكر إلى النّبي متأثرا فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يؤدي عنّي إلّا أنا أو رجل منّي»(٢) .

٦ ـ وأورد ابن كثير ـ المفسّر المعروف ـ عن أحمد بن حنبل ، عن حنش ، عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، أنّه عند ما نزلت عشر آيات من سورة براءة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا أبا بكر وأعطاه إيّاها ليبلغها أهل مكّة ، ثمّ بعث خلفي وأمرني بالذهاب خلفه وأخذ الكتاب منه ، فعاد أبو بكر إلى النّبي وقال : أنزل فيّ شيء؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ، ولكنّ جبرئيل جاءني وقال : لن يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك»(٣) .

٧ ـ ونقل ابن كثير هذا المضمون عينه عن زيد بن سبيع(٤) .

٨ ـ كما أنّه روى هذا الحديث عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (محمّد الباقرعليه‌السلام ) في تفسيره(٥) .

٩ ـ وروى العلّامة ابن الأثير وهو ـ الآخر ـ من علماء السنة الكبار ، في «جامع الأصول» عن الترمذي عن أنس بن مالك ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل سورة

__________________

(١) الخصائص للنسائي ، ص ٢٨.

(٢) المصدر السّابق.

(٣) تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٣٢٢.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.

٥٢٢

براءة مع أبي بكر ثمّ دعاه ، وقال : «لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذه إلّا رجل من أهلي» فدعا عليا فأعطاه إيّاها(١) .

١٠ ـ وروى محب الدين الطبري ، في كتابه ذخائر العقبى ، عن أبو سعيد أو أبي هريرة ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أبا بكر أن يتولى أمر الحج ، فلمّا مضى وبلغ ضجنان سمع أبو بكر صوت بعير علي فعرفه ، فجاء إلى علي وقال : فيم جئت؟

فقالعليه‌السلام : أرسل النّبي معي سورة براءة. فلمّا رجع أبو بكر إلى النّبي وأظهر تأثره من تغيير «الرسالة» قال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يبلغ عنّي غيري أو رجل مني» يعني عليا(٢) .

وقد صرحت روايات أخرى أنّ النّبي أعطى ناقته عليا ليركبها ويأتي بها أهل مكّة فيبلغهم ، فلمّا وصل منتصف الطريق سمع أبو بكر صوت ناقة رسول الله فعرفها.

وهذا النص ـ مع ما ورد آنفا ـ يدل على أنّ الناقة كانت ناقة النّبي وقد أعطاها عليّا ، لأهمية ما أمر به.

وقد روى هذا الحديث كثير من كتب أهل السنة مسندا تارة ، ومرسلا تارة أخرى ، وهو من الأحاديث المتفق عليها ، ولا يطعن فيه أبدا.

وطبقا لبعض الرّوايات الواردة عن أهل السنة أنّ أبا بكر لما صرف عن إبلاغ سورة براءة ، جعل أميرا على الحاج بمكّة.

توضيح وتحقيق :

هذا الحديث يثبت ـ بجلاء ـ فضيلة للإمام عليعليه‌السلام ، إلّا أنّنا ـ ويا للأسف ـ نجد مثل هذه الأحاديث لا ينظر إليها بعين الإنصاف والحق ، إذ يسعى بعضهم إلى

__________________

(١) جامع الأصول ، ج ٩ ، ص ٤٧٥.

(٢) ذخائر العقبى ، ص ٦٩.

٥٢٣

محوها ونسيانها كليّا ، أو إلى التقليل من أهميتها وقيمتها بأساليب شتى ملتوية :

١ ـ فمثلا يتناول صاحب تفسير المنار تارة ـ من الحديث آنف الذكر ـ المقطع الذي يتعلق بجعل أبي بكر أميرا على الحاج ، ويختار الصمت والسكوت في بقية الحديث الذي يدور حول أخذ سورة من أبي بكر ليبلغها علي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قال فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يبلغها إلّا أنا أو رجل منّي» يعني عليّاعليه‌السلام .

مع أنّ سكوت قسم من الأحاديث عن هذا الموضوع لا يكون دليلا على أن نهمل جميع تلك الأحاديث الواردة في شأن عليعليه‌السلام ولا نأخذها بنظر الإعتبار!! فأسلوب التحقيق يقتضي تسليط الضوء على الأحاديث الواردة في هذا الشأن كافة ، حتى ولو كانت على خلاف ما يجنح إليه الكاتب وتميل نفسه ، وأن لا يصدر عليها حكما مسبقا.

٢ ـ ويقوم بعض المفسّرين تارة بتضعيف سند الحديث ، كما في بعض الأحاديث الواردة عن حنش والسمّاك «كما فعله المفسّر آنف الذكر».

مع أنّ هذا الحديث ليس له طريق واحد أو طريقان ، بل له طرق شتى في كتبهم المعتبرة.

٣ ـ ومن العجيب الغريب أن يوجهوا مثل الحديث آنف الذكر توجيها مثيرا ، فيقولون : إنّما أعطى النّبي سورة براءة عليّا ، لأنّ العرب اعتادت عند إلغاء المواثيق أو العهود أن يمضي الشخص بنفسه أو يرسل أحدا من أهله.

مع أنّه ورد التصريح عن النّبي :

أوّلا : من طرق متعددة ، أنّ جبرئيل أمره بأن يبلغ علي سورة براءة أو هكذا أمرت! ثانيا : إنّنا نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن طرقهم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليعليه‌السلام : ينبغي أن تبلغ سورة براءة ، وإن لم تفعل فينبغي أن أبلغها أنا (مؤدي الحديث).

٥٢٤

ترى ألم يكن العباس عمّ النّبي أو أحد من أقارب النّبي موجودا يومئذ بين المسلمين! حتى يقول النّبي لعلي : إن لم تذهب فينبغي أن أذهب ، لأنّه لا يبلغها عني إلّا أنا أو رجل منّي؟!

ثالثا : لم يذكروا دليلا لأصل هذا الموضوع ، وهو أنّه كان من عادة العرب (كذا وكذا) وأكبر الظن أنّهم وجّهوا الحديث آنف الذكر وفق ميولهم ونزعاتهم! رابعا : جاء في بعض الرّوايات المعتبرة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا يذهب بها إلّا رجل منّي وأنا منه» أو ما شابه ذلك.

وهذا التعبير يدل على أنّ النّبي كان يعدّ عليّا كنفسه ، ويعد نفسه كعلي أيضا. وهذا المضمون تناولته آية المباهلة.

ونستنتج ممّا ذكرناه آنفا أنّنا لو تركنا التعصب الأعمى والأحكام المسبقة جانبا ، وجدنا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعله هذا أبان أفضلية عليعليه‌السلام على جميع الصحابة إنه هذا إلا بلاغ.

* * *

٥٢٥

الآيتان

( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) )

التّفسير

إلغاء عهود المشركين :

كانت في المجتمع الإسلامي ومحيطه طوائف شتى ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتخذ منها موقفا خاصّا يتناسب وموقفها منه.

فطائفة منها مثلا لم يكن لها أيّ عهد مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك لم يكن له أيّ عهد معها.

وطوائف أخرى عاهدت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية ـ وأمثالها ـ على ترك المخاصمة والمنازعة ، وكانت عهود بعضهم ذات أجل مسمى ، وبعض العهود لم تكن ذات أجل مسمى.

وقد نقضت بعض تلك الطوائف عهودها من جانب واحد ، وبدون أي سبب يجيز النقض وذلك بمظاهرتها أعداء الإسلام. أو حاولت اغتيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٥٢٦

كما هو الحال في يهود بني النضير وبني قريظة ، فواجههم النّبي بشدة وطردهم من المدينة ، لكن بعض المعاهدات بقيت سارية المفعول ، سواء كانت ذات أجل مسمى أو لم تكن.

الآية الأولى من الآيتين محل البحث تعلن للمشركين كافة( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

ثمّ أمهلتهم مدّة أربعة أشهر ليفكروا فيها ويحدّدوا موقفهم من الإسلام ، فإمّا أن يتركوا عبادتهم للأصنام ، أو يتهيئوا للمواجهة والقتال ، فقالت :( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُر (١) وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ )

* * *

ملاحظتان

١ ـ هل يصحّ إلغاء المعاهدة من جانب واحد؟!

نحن نعرف أنّ الإسلام أولى أهمية قصوى للوفاء بالعهد والالتزام بالمواثيق حتى مع الكفار والمشركين ، وهنا ينقدح سؤال وهو : كيف أمر القرآن بإلغاء العهود التي كانت بين المسلمين والمشركين من جانب واحد؟!

ويتّضح الجواب بملاحظة الأمور التالية :

أوّلا : كما صرّح في الآيتين (٧) و (٨) من هذه السورة فإنّ إلغاء هذا العهد لم يكن دون أية مقدمة ، بل هناك قرائن ودلائل ظهرت من جانب المشركين تدلّ على نقضهم عهدهم ، وأنّهم كانوا على استعداد ـ في ما لو استطاعوا ـ أن يوجهوا ضربة قاضية للمسلمين دون أدنى اعتناء بعهودهم التي عاهدوها ، ومن المنطقي

__________________

(١) «سيحوا» فعل أمر مشتق من «السياحة» ومعناها الجولة الهادفة.

٥٢٧

أنّه إذا رأى الإنسان عدوّه يتربص به ويستعد لنقض عهده ، ولديه قرائن على ذلك وعلائم واضحة أن ينهض لمواجهته قبل أن يستغفله ويعلن إلغاء عهده ويردّ عليه بما يستحق.

ثانيا : ما المانع من إلغاء العهود والمواثيق التي تفرض في ظروف استثنائية على بعض الأمم والشعوب ـ فيضطرون مكرهين على قبولهم والرضا بها ـ من جانب واحد إذا حصلوا على القدرة الكافية لإلغائها.

وعبادة الأصنام ليست عقيدة ولا فكرا ، بل هي خرافة ووهم باطل خطر ، فيجب القضاء عليها وإزالتها من المجتمع الإنساني ، فإذا كانت قوة عبدة الأصنام وقدرتهم بالغة في الجزيرة العربية ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجبورا على معاهدتهم ومصالحتهم ، فإنّ ذلك لا يعني أنّه لا يحق له إلغاء ـ معاهدته إذا ما قويت شوكته ـ وأن يبقى على عهده الذي يخالف العقل والمنطق والدراية.

وهذا يشبه تماما ظهور مصلح كبير ـ مثلا ـ بين عبدة البقر ، فيقوم بعمل إعلامي كبير ، وحين يواجه ضغوطا شديدة يضطر إلى عقد هدنة بينهم وعند ما يجتمع له أتباع بقدر كاف ينتفض لإزالة هذه الخرافة ، والأفكار المنحطة ، ويلغي معاهدته.

ولهذا نلحظ أنّ هذا الحكم مختص بالمشركين ، أمّا أهل الكتاب وسائر الأقوام الذين كانوا في أطراف الجزيرة العربية من الذين كان بينهم وبين النّبي نوع من المواثيق والمعاهدات ، فقد بقيت على حالها ولم يلغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مواثيقهم وعهودهم حتى وفاته.

أضف إلى ذلك أن إلغاء عهود المشركين لم يكن قد حدث بصورة مفاجئة ، بل أمهلوا مدّة أربعة أشهر ، وأعلن هذا القرار في الملأ العام ، وفي اجتماع الحاج يوم عيد الأضحى ، وفي البيت الحرام ، لتكون لهم الفرصة الكافية للتفكير ، ولتحديد الموقف ، لعلهم يرجعون عن تلك الخرافة التي كانت أساس تفرقتهم

٥٢٨

وتشتتهم وجهلهم ، ويرتدعون عن خيانتهم. والله سبحانه لم يرض لهم أن يكونوا غافلين عن هذا القرار ، فلم يسلبهم فرصة التفكّر ، فإنّ لم يسلموا فقد كانت لهم الفرصة الكافية للاستعداد للمواجهة القتالية والحرب ، لئلا تكون المواجهة غير متكافئة الطرفين.

فلو لم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليرعى الأصول الإنسانية والأخلاقية لما كان أمهلهم مدّة أربعة أشهر ، والفرصة الكافية لأن توقظهم من نومتهم ؛ أو يستعدوا لتهيئة القوّة القتالية المناسبة لمواجهة المسلمين ومحاربتهم إيّاهم بها.

أجل ، لو لم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك لما أمهلهم ولحاربهم من يوم إلغاء المعاهدة!

ومن هنا فإنّنا نجد الكثير من أولئك المشركين ـ عبدة الأصنام ـ راجعوا أنفسهم وفكروا مليّا في التعاليم الإسلامية حتى ثابوا إلى رشدهم واعتنقوا الإسلام.

٢ ـ متى بدأت الأشهر الأربعة؟

هناك بين المفسّرين كلام كثير في الجواب على هذا السؤال ، إلّا أنّ ظاهر الآي يدل على أن المدّة بدأت منذ إعلان البلاغ المهم على المشركين ، أي من يوم عيد الأضحى ، وهو العاشر من شهر ذي الحجة ، وانتهت في العاشر من شهر ربيع الثاني من السنة التالية.

ويؤيد ذلك ما ورد من حديث مروي عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في هذا الشأن «راجع تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٠٣».

* * *

٥٢٩

الآيتان

( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) )

التّفسير

العهود المحترمة :

نلحظ في هاتين الآيتين البيّنتين مزيد تأكيد على موضوع إلغاء المعاهدات التي كانت بين النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمشركين ، حتى أنّ تاريخ الإلغاء قد أعلن في هذه الآية إذ نقول :( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (١) .

__________________

(١) جملة وأذان إلخ. معطوفة على جملة : براءة من الله. وهناك احتمالات أخرى في تركيب الجملة «ونظمها» ، غير أن ما ذكرناه أكثر ظهورا كما يبدوا.

٥٣٠

وفي الحقيقة ، أنّ الله سبحانه يريد في هذا الإعلان العام في مكّة المكرمة ، وفي ذلك اليوم العظيم ، أن يوصد كل ذريعة يتذرع بها المشركون والأعداء ، ويقطع ألسنة المفسدين ، لئلا يقولوا : إنّهم استغفلوا في الحملة أو الهجوم عليهم ، وإن ذلك ليس من الشّهامة والرجولة.

كما أنّ التّعبير بـ «إلى الناس» مكان أن يقال «إلى المشركين» يدل على وجوب إبلاغ هذا «الأذان» والإعلام لجميع الناس الحاضرين في مكّة ذلك اليوم ، ليكون غير المشركين شاهدا على هذا الأمر أيضا.

ثمّ يتوجه الخطاب في الآية إلى المشركين أنفسهم ترغيبا وترهيبا ، لعلهم يهتدون ، إذ تقول الآية :( فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) .

أي أنّ الاستجابة لرسالة التوحيد فيها صلاحكم وفيها خير لكم ولمجتمعكم ودنياكم وآخرتكم ، فلو تدبّرتم بجد وصدق لرأيتم أن قبول الدعوة هو البلسم الشافي لكلّ جراحاتكم وليس في الأمر منفعة لله أو لرسوله.

ثمّ إنّ الآية تحذر المخالفين المعاندين المتعصبين فتقول :( وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ) . فلا يمكنكم الخروج من دائرة قدرته المطلقة بحال.

وأخيرا فإنّ الآية أنذرت المعاندين المتعصبين قائلة :( وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) .

وكما أشرنا من قبل فإنّ إلغاء هذه العهود من جانب واحد ـ ورفض عهد المشركين ـ يختص بأولئك الذين دلّت القرائن على استعدادهم لنقض عهدهم وبدت بوادره ، لذلك فإنّ الآية استثنت قسما منهم لوفائهم بالعهد ، فقالت( إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) .

* * *

٥٣١

ملاحظات

١ ـ الحج الأكبر!

اختلف المفسّرون في المراد من قوله تعالى :( يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) والذي نستفيده من كثير من الرّوايات الواردة عن الفريقين ، روايات أهل البيتعليهم‌السلام وأهل السنة ، أنّه يوم العاشر من ذي الحجة «عيد الأضحى» وبتعبير آخر «يوم النحر».

وانتهاء المدة باليوم العاشر من شهر ربيع الثّاني «للسنة العاشرة» ، وفقا لما جاء في المصادر الإسلامية ، دليل آخر على هذا الموضوع : أضف إلى ذلك كله فإنّ يوم النحر في الواقع ينتهي فيه القسم الأساس من أعمال الحج ، ومن هنا فيمكن أن يدعى ذلك اليوم بيوم الحج الأكبر(١) .

وأمّا سبب تسميته بالحج الأكبر ، فلأنّه اجتمع في ذلك العام جميع الطوائف من المسلمين وعبدة الأوثان والمشركين ، [كما اعتادوا عليه في موسم الحج] إلّا أنّ هذا الأمر لم يتحقق في السنين التالية «لمنع غير المسلمين من الحج».

وهناك تفسير آخر مضافا إلى التّفسير المذكور آنفا وهو أن المراد منه مراسم الحج في قبال مراسم العمرة التي يعبر عنها بالحج الأصغر.

وهذا التّفسير جاء في بعض الرّوايات الإسلامية ، ولا يمنع أن تكون كلتا العلّتين مدعاة لهذه التسمية(٢) .

__________________

(١)جاء في تفسير نور الثقلين ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : «إنّما سمّي الأكبر لأنّها كانت سنة حج المسلمون والمشركون ولم يحج المشركون بعد تلك السنة. (ج ٢ ، ص ١٨٤)

(٢) وجاء في التّفسير المذكور آنفا عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في جوابه لبعض أصحابه : الأكبر هو يوم النحر والأصغر العمرة (ج ٢ ، ص ١٨٦)

٥٣٢

٢ ـ المواد الأربع التي أعلنت ذلك اليوم

وإن كان القرآن الكريم أعلن براءة الله من المشركين بشكل مطلق ، إلّا أنّ الذي يستفاد من الرّوايات أنّ عليّاعليه‌السلام قد أمر بإبلاغ أربع مواد إلى الناس ، وهي :

١ ـ إلغاء عهد المشركين.

٢ ـ لا يحق للمشركين أن يحجّوا في المواسم المقبلة.

٣ ـ منع العراة والحفاة من الطواف الذي كان شائعا ومألوفا حتى ذلك الوقت.

٤ ـ منع المشركين من دخول البيت الحرام.

وقد جاء في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ الإمام عليا خطب في موسم الحج ذلك العام فقال : «لا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يحجن البيت مشرك ، ومن كان له مدة فهو إلى مدته ، ومن لم تكن له مدة فمدته أربعة أشهر».

وفي بعض الروايات إشارة إلى المادة الرّابعة ، وهي عدم دخول المشركين وعبدة الأصنام البيت الحرام(١) .

٣ ـ من هم الذين كانت لهم عهود «إلى مدّة»

يظهر من أقوال المؤرخين وبعض المفسّرين أنّ الذين كانت لعهدهم مدة ، هم جماعة من بني كنانه وبني ضمرة ، فقد بقي من عهدهم في ترك المنازعة تسعة أشهر ، وقد بقي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عهده وفيّا ، لأنّهم بقوا أوفياء لعهدهم ولم يظاهروا المشركين في مواجهة الإسلام حيت انتهت مدّتهم(٢) .

وقد عدّ بعضهم طائفة بني خزاعة من هؤلاء الذين كان لعهدهم مدّة.(٣)

* * *

__________________

(١) جاء في بعض الرّوايات منع المشركين من دخول المسجد.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ذيل الآية محل البحث.

(٣) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ذيل الآية محل البحث.

٥٣٣

الآيتان

( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) )

التّفسير

الشدّة المقرونة بالرّفق :

نقرأ في الآيتين أعلاه بيان وظيفة المسلمين بعد انتهاء مدّة إمهال المشركين «الأشهر الأربعة» وقد أصدر القرآن أوامره الصارمة في هذا الصدد فقال :( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (١) .

ثمّ يقول :( وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) (٢) .

__________________

(١) الفعل «انسلخ» مأخوذ من الانسلاخ ومعناه الخروج ، وأصله من «سلخ الشاة» أي إخراج الشاة من جلدها عند الذبح.

(٢) المرصد مأخوذ من الرّصد ويعني الطريق أو الكمين.

٥٣٤

ويلاحظ في هذه الآية أربعة أوامر صارمة صادرة في شأن المشركين «إيصاد الطرق بوجههم ، محاصرتهم ، أسرهم ، ثمّ قتلهم». وظاهر النص أنّ الأمور الأربعة ليست على نحو التخيير ، بل ينبغي ملاحظة الظروف والمحيط والزمان والمكان والأشخاص ، والعمل بما يناسب هذه الأمور ، فلو كان في الأسر والمحاصرة وإيصاد السبيل بوجه المشركين الكفاية فيها ، وإلّا فلا محيص عن قتالهم.

وهذه الشدّة متناغمة ومتوائمة مع منهج الإسلام وخطته في إزالة الوثنية وقلعها من جذورها ، وكما أشرنا إلى ذلك سلفا ، فإنّ حرية الإعتقاد «أي عدم إكراه أهل الأديان الأخرى على قبول الإسلام» تنحصر في أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولا تشمل عبدة الأوثان ، لأنّ الوثنية ليست عقيدة صحيحة ، ولا دينا كي تلحظ بعين الاحترام ، بل هي تخلّف وخرافة وانحراف وجهل ، ولا بدّ من استئصال جذورها بأي ثمن كان وكيف ما كان.

وهذه الشدّة والقوّة والصرامة لا تعني سدّ الطريق ، ـ طريق الرجوع نحو التوبة ـ بوجههم ، بل لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويعودوا إلى سبيل الحق ، ولذلك فإنّ الآية عقبت بالقول :( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) .

وفي هذه الحال ، أي عند رجوعهم نحو الإسلام ، لن يكون هناك فرق بينهم وبين سائر المسلمين ، وسيكونون سواء وإياهم في الحقوق والأحكام.

( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) . يتوب على عباده المنيبين إليه.

وتستكمل الآية التالية هذا الموضوع بأمر آخر ، كما يتّضح بجلاء أن هدف الإسلام من هذا الأمر إنّما هو نشر التوحيد والحق والعدالة ، وليس هو الاستثمار أو الاستعمار وامتصاص المال ، أو الاستيلاء على أراضي الآخرين ، إذ تقول الآية :( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ) .

أي عليك أن تعامل من يلجأ إليك من المشركين برفق ولطف ، وامنحه

٥٣٥

المجال للتفكير حتى يبيّن له محتوى دعوتك في كمال الإرادة والحرية ، فإذا أشرقت أنوار الهداية في قلوبهم فسيؤمنون بدعوتك.

ثمّ تضيف الآية قائلة :( ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) وأوصله إلى مكان آمن حتى لا يعترضه أحد في طريقه.

وأخيرا فإنّ الآية تبين علة هذا الحكم ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ) .

فبناء على ذلك لو فتحت أبواب اكتساب المعرفة بوجوههم ، فإنّه يؤمّل فيهم خروجهم من الوثنية التي هي وليدة الجهل ـ والتحاقهم بركب التوحيد الذي هو وليد العلم والمعرفة.

وقد ورد في كتب السنة والشيعة أنّ أحد المشركين (عبدة الأصنام) سأل عليّاعليه‌السلام بعد إلغاء المعاهدة فقال : يا ابن أبي طالب ، لو أراد أحد أن يواجه النّبي بعد هذه المدّة «الأشهر الأربعة» ويسأله أو يسمع كلام الله منه ، أهو آمن؟!

فقال عليعليه‌السلام : أجل ، إنّ الله يقول :( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ ) (١) .

وهكذا تتوازن وتتساوى كفتا الشدّة المستفادة من الآية الأولى ـ محل البحث ـ واللين المستفاد من الآية التي تليها ، فإنّ سبيل التربية قائم على الشدة المشفوعة باللين ، ليكون منهما الدواء الناجع.

ملاحظات

* * *

١ ـ ما المراد من الأشهر الحرم؟

بالرّغم من أنّ المفسّرين قد بحثوا كثيرا في هذا الشأن ، إلّا أنّه ـ مع ملاحظة ما جاء في الآيات المتقدمة ـ يظهر أنّ المراد منها هي أربعة الأشهر التي كانت مدّة

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٠٦ وتفسير الفخر الرازي ، ص ٢٢٦.

٥٣٦

الإمهال للمشركين ، والتي بدأت من عاشر ذي الحجة للسنة التاسعة وانتهت بالعاشر من شهر ربيع الثّاني من السنة العاشرة الهجرية.

وهذا التّفسير يعتقد به أغلب المحققين ، والأهم من ذلك أنّ كثيرا من الرّوايات صرّحت بهذا المضمون أيضا(١) .

٢ ـ هل الصّلاة والزّكاة شرط في قبول الإسلام؟

يستفاد من الآيتين محل البحث أنّه لا بدّ من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لقبول توبة المشركين ، ولهذا فقد استدل بعض فقهاء أهل السنة على أن ترك الصلاة والزكاة دليل على الكفر.

إلّا أنّ الحق هو أنّ المراد من هذين الحكمين الإسلاميين هو متى ما شك في إسلام شخص ما ، كما هي الحال في المشركين يومئذ ، فعلامة إسلامه أن يؤدي هاتين الوظيفتين «الصلاة ، والزكاة».

أو أنّ المراد هو أن يقرّوا بالصلاة والزكاة على أنّهما أمران إلهيان ويلتزموا بهما ، ويعترفوا بهما على أنّهما فرضان واجبان وإن قصّروا في أدائمها ، لأن هناك أدلة وافرة تقضي بأنّ تارك الصلاة أو الزكاة ليس كافرا ، بل يعدّ إسلامه ناقصا.

وبالطبع إن كان ترك الزكاة له دلالة على تحدّي الحكومة الاسلامية والثورة عليها فهو سبب للكفر ، إلّا أن هذا بحث آخر لا علاقة له بموضوعنا هذا.

٣ ـ الإيمان وليد العلم

يستفاد من الآيات محل البحث أنّ الباعث على عدم الإيمان هو الجهل ، وأساس الإيمان الأصيل هو العلم ، لهذا فينبغي توفير الإمكانات اللازمة لإرشاد الناس وهدايتهم ليعرفوا طريق الحقّ ، ولا يقبلوا الإسلام بواسطة التقليد إلا عميق.

* * *

__________________

(١) ورد في تفسير نور الثقلين ، الجزء الثّاني منه ذيل الآية محل البحث حديث بهذا الشأن (فراجع إن شئت).

٥٣٧

الآيات

( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) )

التّفسير

المعتدون النّاقضون العهد :

كما لا حظنا في الآيات السابقة الإسلام ألغى جميع العهود التي كانت بينه وبين المشركين وعبدة الأوثان ـ إلّا جماعة خاصّة ـ وأمهلهم مدّة أربعة أشهر ليقرروا موقفهم منه.

وفالآيات ـ محل البحث ـ بيان لعلة إلغاء العهود من قبل الإسلام ، فتقول الآية الأولى من هذه الآيات مستفهمة استفهاما إنكاريا :( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ

٥٣٨

عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ) ؟! أي أنّهم لا ينبغي لهم أن يتوقعوا أو ينتظروا الوفاء بالعهد من قبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن جانب واحد ، في وقت تصدر منهم المخالفات وعدم الوفاء بالعهد.

ثمّ استثنت الآية مباشرة أولئك الذين لم ينقضوا عهدهم ، بل بقوا أوفياء له ، فقالت :( إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) .

وفي الآية التالية يثار هذا الموضوع بمزيد الصراحة والتأكيد ، ويستفهم عنه استفهاما إنكاريا أيضا ، إذ تقول الآية :( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) .

وكلمة «الإلّ» معناها القرابة ، وقال بعضهم : إنّها تعني هنا العهد والميثاق.

فعلى المعنى الأوّل أي «القرابة» يكون المراد من ظاهر الآية أنّه بالرغم من أنّ قريشا تربطها برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعض المسلمين علاقة قربى ، إلّا أنّها لا ترقب هذه القرابة أو الرحم ولا ترعى حرمتها ، فكيف إذن تتوقع من النّبي والمسلمين احترام علاقتهم بها.

وعلى المعنى الثّاني تكون كلمة «إلّ» مؤكّدة بكلمة (ذمّة) وتعني العهد والميثاق أيضا ، قال الراغب في المفردات : إن «الإل» كل حالة ظاهرة من عهد حلف وقرابة تئل (أي تلمع) فلا يمكن إنكاره(١) .

وتضيف الآية معقبة بأن هؤلاء يريدون أن يخدعوكم بألفاظهم المزوّقة فقالت :( يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ ) .

لأن قلوبهم مليئة بالحقد والقسوة وطلب الانتقام وعدم الاعتناء بالعهد وعلاقة القربى ، وإن أظهروا المحبّة بألسنتهم.

__________________

(١) المفردات ، ص ٢٠.

٥٣٩

وفي نهاية الآية إشارة إلى جذر هذا الموضوع وأساسه وهو فسقهم ، فتقول :( وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ ) .

وفي الآية التالية بيان لبعض علائم فسقهم وعصيانهم ، إذ أعربت الآية عن ذلك على النحو التالي( اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ) .

وقد جاء في بعض الرّوايات أن أبا سفيان أقام مأدبة ودعا إليها جماعة من الناس ، ليثير حفيظتهم وعداوتهم بوجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الطريق.

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية محل البحث تشير إلى هذه القصة ، إلّا أن الظاهر أن الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه القصّة وما شاكلها حيث أغمضوا أعينهم وصدوا عن سبيل الله وآياته من أجل منافعهم المادية التي لا تدوم طويلا.

ثمّ تعقب الآية بالقول :( إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) فقد خسروا طريق السعادة وضيعوها ، وحرّموا الهداية ، وهم في الوقت ذاته أو صدوا الطريق بوجه الآخرين ، وأي عمل أسوأ من أن يحمل الإنسان وزره ووزر سواه!

أمّا في آخر آية من الآيات ـ محل البحث ـ فهي تأكيد آخر على ما ورد في الآيات المتقدمة ، إذ تقول الآية :( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) .

وهذه الخصلة فيهم لم يبتل بها المؤمنون فحسب بل يعتدون على كل من تناله أيديهم( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ) .

وبالرغم من أنّ مضمون هذه الآية تأكيد لما سبق من الآيات المتقدمة ، إلّا أنّ هناك فرقا بينهما ، حيث كان الكلام في ما سبق على عدم رعاية المشركين حرمة لخصوص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المتقّين حوله( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) أمّا الآية محل البحث فالكلام فيها عن عدم رعايتهم حرمة لكل مؤمن( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) .

أي إن المشركين لا ينظرون إليكم (النّبي والخواص من الصحابة) نظرة تمتاز عن سواكم بل هذه النظرة ـ نظرة العداء والبغضاء ـ ينظر بها المشركون إلى

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606