الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245155 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) و أنّه في موضع التعليل لقوله:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ) و المعنى أنّه تعالى إنّما جعل هذه المعقّبات و وكّلها بالإنسان يحفظونه بأمره من أمره و يمنعونه من أن يهلك أو يتغيّر في شي‏ء ممّا هو عليه لأنّ سنّته جرت أن لا يغيّر ما بقوم من الأحوال حتّى يغيّروا ما بأنفسهم من الحالات الروحيّة كأن يغيّروا الشكر إلى الكفر و الطاعة إلى المعصية و الإيمان إلى الشرك فيغيّر الله النعمة إلى النقمة و الهداية إلى الإضلال و السعادة إلى الشقاء و هكذا.

و الآية أعني قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ) إلخ، يدلّ بالجملة على أنّ الله قضى قضاء حتم بنوع من التلازم بين النعم الموهوبة من عنده للإنسان و بين الحالات النفسيّة الراجعة إلى الإنسان الجارية على استقامة الفطرة فلو جرى قوم على استقامة الفطرة و آمنوا بالله و عملوا صالحاً أعقبهم نعم الدنيا و الآخرة كما قال:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا ) الأعراف: ٩٦ و الحال ثابتة فيهم دائمة عليهم ما داموا على حالهم في أنفسهم فإذا غيّروا حالهم في أنفسهم غيّر الله سبحانه حالهم الخارجيّة بتغيير النعم نقما.

و من الممكن أن يستفاد من الآية العموم و هو أنّ بين حالات الإنسان النفسيّة و بين الأوضاع الخارجيّة نوع تلازم سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشرّ فلو كان القوم على الإيمان و الطاعة و شكر النعمة عمّهم الله بنعمه الظاهرة و الباطنة و دام ذلك عليهم حتّى يغيّروا فيكفروا و يفسقوا فيغيّر الله نعمه نقما و دام ذلك عليهم حتّى يغيّروا فيؤمنوا و يطيعوا و يشكروا فيغيّر الله نقمه نعما و هكذا. هذا.

و لكن ظاهر السياق لا يساعد عليه و خاصّة ما تعقّبه من قوله( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) فإنّه أصدق شاهد على أنّه يصف معنى تغييره تعالى ما بقوم حتّى يغيّروا فالتغيير لما كان إلى السيّئة كان الأصل أعني( ما بِقَوْمٍ ) لا يراد به إلّا الحسنة فافهم ذلك.

على أنّ الله سبحانه يقول:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ

٣٤١

يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠ فيذكر أنّه يعفو عن كثير من السيّئات فيمحو آثارها فلا ملازمة بين أعمال الإنسان و أحواله و بين الآثار الخارجيّة في جانب الشرّ بخلاف ما في جانب الخير كما قال تعالى في نظير الآية:( ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) الأنفال: ٥٣.

و أمّا قوله تعالى:( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) فإنّما دخل في الحديث لا بالقصد الأوّليّ لكنّه تعالى لمّا ذكر أنّ كلّ شي‏ء عنده بمقدار و أنّ لكلّ إنسان معقّبات يحفظونه بأمره من أمره و لا يدعونه يهلك أو يتغيّر أو يضطرب في وجوده و النعم الّتي اُوتيها، و هم على حالهم من الله لا يغيّرها عليهم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم وجب أن يذكر أنّ هذا التغيير من السعادة إلى الشقاء و من النعمة إلى النقمة أيضاً من الاُمور المحكمة المحتومة الّتي ليس لمانع أن يمنع من تحقّقها، و إنّما أمره إلى الله لا حظّ فيه لغيره، و بذلك يتمّ أنّ الناس لا مناص لهم من حكم الله في جانبي الخير و الشرّ و هم مأخوذ عليهم و في قبضته.

فالمعنى: و إذا أراد الله بقوم سوء و لا يريد ذلك إلّا إذا غيّروا ما بأنفسهم من سمات معبوديّة و مقتضيات الفطرة فلا مردّ لذلك السوء من شقاء أو نقمة أو نكال.

ثمّ قوله:( وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ) عطف تفسيريّ على قوله:( إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) و يفيد معنى التعليل له فإنّه إذا لم يكن لهم من وال يلي أمرهم إلّا الله سبحانه لم يكن هناك أحد يردّ ما أراد الله بهم من السوء.

فقد بان من جميع ما تقدّم أنّ معنى الآية - على ما يعطيه السياق - و الله أعلم - أنّ لكلّ من الناس على أيّ حال كان معقّبات يعقّبونه في مسيره إلى الله من بين يديه و من خلفه أي في حاضر حاله و ماضيه يحفظونه بأمر الله من أن يتغيّر حاله بهلاك أو فساد أو شقاء بأمر آخر من الله، و هذا الأمر الآخر الّذي يغيّر الحال إنّما يؤثّر أثره إذا غيّر قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغيّر الله ما عندهم من نعمة و يريد بهم السوء و إذا أراد الله بقوم سوء فلا مردّ له لأنّهم لا والي لهم يلي أمرهم من دونه حتّى يردّ ما أراد الله بهم من سوء.

٣٤٢

و قد تبيّن بذلك اُمور:

أحدها: أنّ الآية كالبيان التفصيلي لما تقدّم في الآيات السابقة من قوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) فإنّ الجملة تفيد أنّ للأشياء حدوداً ثابتة لا تتعدّاها و لا تتخلّف عنها عندالله حتّى تعزب عن علمه، و هذه الآية تفصّل القول في الإنسان أنّ له معقّبات من بين يديه و من خلفه موكّلة عليه يحفظونه و جميع ما يتعلّق به من أن يهلك أو يتغيّر عمّا هو عليه، و لا يهلك و لا يتغيّر إلّا بأمر آخر من الله.

الثاني: أنّه ما من شي‏ء من الإنسان من نفسه و جسمه و أوصافه و أحواله و أعماله و آثاره إلّا و عليه ملك موكّل يحفظه، و لا يزال على ذلك في مسيره إلى الله حتّى يغيّر فالله سبحانه هو الحافظ و له ملائكة حفظة عليها، و هذه حقيقة قرآنيّة.

الثالث: أنّ هناك أمراً آخر يرصد الناس لتغيير ما عندهم و قد ذكر الله سبحانه من شأن هذا الأمر أنّه يؤثّر فيما إذا غيّر قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغيّر الله ما بهم من نعمة بهذا الأمر الّذي يرصدهم، و من موارد تأثيره مجي‏ء الأجل المسمّى الّذي لا يختلف و لا يتخلّف، قال تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣ و قال:( إِنَّ أَجَلَ الله إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ) نوح: ٤.

الرابع: أنّ أمره تعالى هو المهيمن المتسلّط على متون الأشياء و حواشيها على أيّ حال و أنّ كلّ شي‏ء حين ثباته و حين تغيّره مطيع لأمره خاضع لعظمته، و أنّ الأمر الإلهيّ و إن كان مختلفاً بقياس بعضه إلى بعض منقسماً إلى أمر حافظ و أمر مغيّر ذو نظام واحد لا يتغيّر و قد قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) هود ٥٦، و قال:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شيئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الّذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣.

الخامس: أنّ من القضاء المحتوم و السنّة الجارية الإلهيّة التلازم بين الإحسان و التقوى و الشكر في كلّ قوم و بين توارد النعم و البركات الظاهريّة و الباطنيّة و نزولها من عندالله إليهم و بقاؤها و مكثها بينهم ما لم يغيّروا كما يشير إليه قوله

٣٤٣

تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف: ٩٦ و قوله:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم: ٧ و قال:( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ) الرحمن: ٦٠.

هذا هو الظاهر من الآية في التلازم بين شيوع الصلاح في قوم و دوام النعمة عليهم، و أمّا شيوع الفساد فيهم أو ظهوره من بعضهم و نزول النقمة عليهم فالآية ساكتة عن التلازم بينهما و غاية ما يفيده قوله:( لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ) جواز تغيره تعالى عند تغييرهم و إمكانه لا وجوبه و فعليّته، و لذلك غيّر السياق فقال:( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) و لم يقل: فيريد الله بهم من السوء ما لا مردّ له.

و يؤيّد هذا المعنى قوله:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠ حيث يدلّ صريحاً على أنّ بعض التغيير عند التغيير معفوّ عنه.

و أمّا الفرد من النوع فالكلام الإلهيّ يدلّ على التلازم بين صلاح عمله و بين النعم المعنويّة و على التغيّر عند التغيّر دون التلازم بين صلاحه و النعم الجسمانيّة.

و الحكمة في ذلك كلّه ظاهرة فإنّ التلازم المذكور مقتضى حكم التلاؤم و التوافق بين أجزاء النظام و سوق الأنواع إلى غاياتها فإنّ الله جعل للأنواع غايات و جهّزها بما يسوقها إلى غاياتها ثمّ بسط تعالى التلاؤم و التوافق بين أجزاء هذا النظام كان المجموع شيئاً واحداً لا معاندة و لا مضادّة بين أجزائه فمقتضى طباعها أن يعيش كلّ نوع في عافية و نعمة و كرامة حتّى يبلغ غايته فإذا لم ينحرف النوع الإنسانيّ عن مقتضى فطرته الأصليّة و لا منحرف من الأنواع ظاهراً غيره جرى الكون على سعادته و نعمته و لم يعدم رشداً، و أمّا إذا انحرف عن ذلك و شاع فيه الفساد أفسد ذلك التعادل بين أجزاء الكون و أوجب ذلك هجرة النعمة و اختلال المعيشة و ظهور الفساد في البرّ و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم الله بعض ما

٣٤٤

عملوا لعلّهم يرجعون.

و هذا المعنى كما لا يخفى إنّما يتمّ في النوع دون الشخص و لذلك كان التلازم بين صلاح النوع و النعم العامّة المفاضة عليهم و لا يجري في الأشخاص لأنّ الأشخاص ربّما بطلت فيها الغايات بخلاف الأنواع فإنّ بطلان غاياتها من الكون يوجب اللعب في الخلقة قال تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) الدخان: ٣٨ و قد تقدّم بعض الكلام في هذا الباب في أبحاث الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب.

و بما تقدّم يظهر فساد الاعتراض على الآية حيث إنّها تفيد بظاهرها أنّه لا يقع تغيير النعم بقوم حتّى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أنّ ذلك خلاف ما قرّرته الشريعة من عدم جواز أخذ العامّة بذنوب الخاصّة هذا فإنّه أجنبيّ عن مفاد الآية بالكلّيّة.

هذا بعض ما يعطيه التدبّر في الآية الكريمة و للمفسّرين في تفسيرها اختلاف شديد من جهات شتّى:

من ذلك اختلافهم في مرجع الضمير في قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ ) فمن قائل: إنّ الضمير راجع إلى( مِنْ ) في قوله:( مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ) إلخ، كما قدّمناه، و من قائل: إنّه يرجع إليه تعالى أي لله ملائكة معقّبات من بين يدي الإنسان و من خلفه يحفظونه. و فيه أنّه يستلزم اختلاف الضمائر. على أنّه يوجب وقوع الالتفات في قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) من غير نكتة ظاهرة، و من قائل: إنّ الضمير للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و الآية تذكر أنّ الملائكة يحفظونه. و فيه أنّه كسابقه يستلزم اختلاف الضمائر و الظاهر خلافه. على أنّه يوجب عدم اتّصال الآية بسوابقها و لم يتقدّم للنبيّ- (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) ذكر.

و من قائل: إنّ الضمير عائد إلى من هو سارب بالنهار. و هذا أسخف الوجوه و سنعود إليه.

و من ذلك اختلافهم في معنى المعقّبات فقيل: إنّ أصله المعتقبات صار معقّبات

٣٤٥

بالنقل و الإدغام يقال: اعتقبه إذا حبسه و اعتقب القوم عليه أي تعاونوا و ردّ بأنّه خطأ، و قيل: هو من باب التفعيل و التعقيب هو أن يتبع آخر في مشيته كأنّه يطأ عقبه أي مؤخّر قدمه فقيل: إنّ المعقّبات ملائكة يعقّبون الإنسان في مسيره إلى الله لا يفارقونه و يحفظونه كما تقدّم، و قيل: المعقّبات كتّاب الأعمال من ملائكة الليل و النهار يعقّب بعضهم بعضاً فملائكة الليل تعقّب ملائكة النهار و هم يعقّبون ملائكة الليل يحفظون على الإنسان عمله. و فيه: أنّه خلاف ظاهر قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ ) على أنّ فيه جعل يحفظونه بمعنى يحفظون عليه.

و قيل: المراد بالمعقّبات الأحراس و الشرط و المواكب الّذين يعقّبون الملوك و الاُمراء و المعنى: أنّ لمن هو سارب بالنهار و هم الملوك و الاُمراء معقّبات من الأحراس و الشرط يحيطون بهم و يحفظونهم من أمر الله أي قضائه و قدره توهّما منهم أنّهم يقدرون على ذلك، و هذا الوجه على سخافته لعب بكلامه تعالى.

و من ذلك اختلافهم في قوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) فقيل: إنّه متعلّق بمعقّبات أي يعقّبونه من بين يديه و من خلفه. و فيه أنّ التعقيب لا يتحقّق إلّا من خلف، و قيل: متعلّق بقوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و في الكلام تقديم و تأخير و الترتيب: يحفظونه من بين يديه و من خلفه من أمر الله. و فيه عدم الدليل على ذلك، و قيل: متعلّق بمقدر كالوقوع و الإحاطة و نحوهما أو بنحو التضمين و المعنى له معقّبات يحيطون به من بين يديه و من خلفه و قد تقدّم.

و من جهة اُخرى قيل: إنّ المراد بما بين يديه و ما خلفه ما هو من جهة المكان أي يحيطون به من قدّامه و خلفه يحفظونه من المهالك و المخاطر، و قيل: المراد بهما ما تقدّم من أعماله و ما تأخّر يحفظها عليه الملائكة الحفّظ و يكتبونها و لا دليل على ما في الوجهين من التخصيص، و قيل: المراد بما بين يديه و من خلفه ما للإنسان من الشؤون الجسميّة و الروحيّة ممّا له في حاضر حاله و ما خلّفه وراءه و هو الّذي قدّمناه.

و من ذلك اختلافهم في معنى قوله:( يَحْفَظُونَهُ ) فقيل هو بمعنى يحفظون

٣٤٦

عليه، و قيل: هو مطلق الحفظ، و قيل: هو الحفظ من المضارّ.

و من ذلك اختلافهم في قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) فقيل: هو متعلّق بقوله:( مُعَقِّباتٌ ) و أنّ قوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) و قوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) ثلاث صفات لمعقّبات. و فيه أنّه خلاف الظاهر، و قيل: هو متعلّق بقوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و( مِنْ ) بمعنى الباء للسببيّة أو المصاحبة و المعنى يحفظونه بسبب أمر الله أو بمصاحبة أمر الله، و قيل: متعلّق بيحفظونه و( مِنْ ) للابتداء أو للنشوّ أي يحفظونه مبتدءً ذلك أو ناشئاً ذلك من أمر الله، و قيل: هو كذلك لكن( مِنْ ) بمعنى( عن ) أي يحفظونه عن أمر الله أن يحلّ به و يغشاه و فسّروا الحفظ من أمر الله بأنّ الأمر بمعنى البأس أي يحفظونه من بأس الله بأن يستمهلوا كلّما أذنب و يسألوا الله سبحانه أن يؤخّر عنه المؤاخذة و العقوبة أو إمضاء شقائه لعلّه يتوب و يرجع، و فساد أغلب هذه الوجوه ظاهر غنيّ عن البيان.

و من ذلك اختلافهم في اتّصال قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إلخ فقيل: متّصل بقوله:( سارِبٌ بِالنَّهارِ ) و قد تقدّم معناه، و قيل: متّصل بقوله:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أو قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) أي كما يعلمهم جعل عليهم حفظة يحفظونهم. و قيل متّصل بقوله:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ) الآية يعني أنّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) محفوظ بالملائكة. و الحقّ أنّه متّصل بقوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) و نوع بيان له، و قد تقدّم ذكره.

و من ذلك اختلافهم في اتّصال قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) إلخ فقيل: إنّه متّصل بقوله:( وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ) الآية أي أنّه لا ينزل العذاب إلّا على من يعلم من جهتهم بالتغيير حتّى لو علم أنّ فيهم من سيؤمن بالله أو من في صلبه ممّن سيولد و يعيش بالإيمان لم ينزل عليهم العذاب، و قيل: متّصل بقوله:( سارِبٌ بِالنَّهارِ ) يعني أنّه إذا اقترف المعاصي فقد غيّر ما به من سمة العبوديّة و بطل حفظه و نزل عليه العذاب. و القولان - كما ترى - بعيدان من السياق و الحقّ أنّ قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) إلخ، تعليل لما تقدّمه من قوله:( يَحْفَظُونَهُ

٣٤٧

مِنْ أَمْرِ الله ) و قد مرّ بيانه.

قوله تعالى: ( هُوَ الّذي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ) السحاب بفتح السين جمع سحابة بفتحها و لذلك وصف بالثقال.

و الإراء إظهار ما من شأنه أن يحسّ بالبصر للمبصر ليبصره أو جعل الإنسان على صفة الرؤية و الإبصار، و التقابل بين قوله:( يُرِيكُمُ ) و قوله:( يُنْشِئُ ) يؤيّد المعنى الأوّل.

و قوله:( خَوْفاً وَ طَمَعاً ) مفعول له أي لتخافوا و تطمعوا، و يمكن أن يكون مصدرين بمعنى الفاعل حالين من ضمير( يُرِيكُمُ ) أي خائفين و طامعين.

و المعنى: هو الّذي يظهر لعيونكم البرق ليظهر فيكم صفتا الخوف و الطمع كما أنّ المسافر يخافه و الحاضر يطمع فيه، و أهل البحر يخافونه و أهل البرّ يطعمون فيه و يخاف صاعقته و يطمع في غيثه، و يخلق بإنشائه السحابات الّتي تثقل بالمياه الّتي تحملها، و في ذكر آية البرق بالإراءة و آية السحاب بالإنشاء لطف ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) إلخ، الصواعق جمع صاعقة و هو القطعة الناريّة النازلة من السماء عن برق و رعد، و الجدل المفاوضة و المنازعة في القول على سبيل المغالبة، و أصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، و المحال بكسر الميم مصدر ماحله يماحله إذا ماكره و قاواه ليتبيّن أيّهما أشدّ و جادله لإظهار مساويه و معايبه فقوله:( وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي الله وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) معناه - و الله أعلم - أنّ الوثنيّين - و إليهم وجه الكلام في إلقاء هذه الحجج - يجادلون في ربوبيّته تعالى بتلفيق الحجّة على ربوبيّة أربابهم كالتمسّك بدأب آبائهم و الله سبحانه شديد المماحلة لأنّه عليم بمساويهم و معايبهم قدير على إظهارها و فضاحتهم.

قوله تعالى: ( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ ) إلى آخر الآية الدعاء و الدعوة توجيه نظر المدعوّ إلى الداعي و يتأتّى غالبا بلفظ أو إشارة، و الاستجابة و الإجابة إقبال المدعوّ على الداعي عن دعائه،

٣٤٨

و أمّا اشتمال الدعاء على سؤال الحاجة و اشتمال الاستجابة على قضائها فذلك غاية متمّمة لمعنى الدعاء و الاستجابة غير داخلة في مفهوميهما.

نعم: الدعاء إنّما يكون دعاء حقيقة إذا كان المدعوّ ذا نظر يمكن أن يوجّه إلى الداعي و ذا جدة و قدرة يمكنه بهما استجابة الدعاء و أمّا دعاء من لا يفقه أو يفقه و لا يملك ما ترفع به الحاجة فليس بحقّ الدعاء و إن كان في صورته.

و لمّا كانت الآية الكريمة قرّر فيها التقابل بين قوله( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) و بين قوله:( وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) إلخ، الّذي يذكر أنّ دعاء غيره خال عن الاستجابة ثمّ يصف دعاء الكافرين بأنّه في ضلال علمنا بذلك أنّ المراد بقوله:( دَعْوَةُ الْحَقِّ ) الدعوة الحقّة غير الباطلة و هي الدعوة الّتي يسمعها المدعوّ ثمّ يستجيبها ألبتّة، و هذا من صفاته تعالى و تقدّس فإنّه سميع الدعاء قريب مجيب و هو الغنيّ ذو الرحمة و قد قال:( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ) البقرة: ١٨٦ و قال:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن: ٦٠ فأطلق و لم يشترط في الاستجابة إلّا أن تتحقّق هناك حقيقة الدعاء و أن يتعلّق ذلك الدعاء به تعالى لا غير.

فلفظة دعوة الحقّ من إضافة الموصوف إلى الصفة أو من الإضافة الحقيقيّة بعناية أنّ الحقّ و الباطل كأنّهما يقتسمان الدعاء فقسم منه للحقّ و هو الّذي لا يتخلّف عن الاستجابة، و قسم منه للباطل و هو الّذي لا يهتدي إلى هدف الإجابة كدعاء من لا يسمع أو لا يقدر على الاستجابة.

فهو تعالى لمّا ذكر في الآيات السابقة أنّه عليم بكلّ شي‏ء و أنّ له القدرة العجيبة ذكر في هذه الآية أنّ له حقيقة الدعاء و الاستجابة فهو مجيب الدعاء كما أنّه عليم قدير، و قد ذكر ذلك في الآية بطريقي الإثبات و النفي أعني إثبات حقّ الدعاء لنفسه و نفيه عن غيره.

أمّا الأوّل فقوله:( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) و تقديم الظرف يفيد الحصر و يؤيّده ما بعده من نفيه عن غيره، و أمّا الثاني فقوله:( وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ ) و قد أخبر فيه أنّ

٣٤٩

الّذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيبون لهم بشي‏ء و قد بيّن ذلك في مواضع من كلامه فإنّ هؤلاء المدعوّين إمّا أصنام يدعوهم عامّتهم و هي أجسام ميتة لا شعور فيها و لا إرادة، و إمّا أرباب الأصنام من الملائكة أو الجنّ و روحانيّات الكواكب و البشر كما ربّما يتنبّه له خاصّتهم فهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و لا نشوراً فكيف بغيرهم و لله الملك كلّه و له القوّة كلّها فلا مطمع عند غيره تعالى.

ثمّ استثنى من عموم نفي الاستجابة صورة واحدة فقط و هي ما يشبه مورد المثل المضروب بقوله:( كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ ) .

فإنّ الإنسان العطشان إذا أراد شرب الماء كان عليه أن يدنو من الماء ثمّ يبسط كفّيه فيغترفه و يتناوله و يبلغ فاه و يرويه و هذا هو حقّ الطلب يبلغ بصاحبه بغيته في هدى و رشاد، و أمّا الظمآن البعيد من الماء يريد الريّ لكن لا يأتي من أسبابه بشي‏ء غير أنّه يبسط إليه كفّيه يبلغ فاه فليس يبلغ ألبتّة فاه و ليس له من طلبه إلّا صورته فقط.

و مثل من يدعو غير الله سبحانه مثل هذا الباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و ليس له من الدعاء إلّا صورته الخالية من المعنى و اسمه من غير مسمّى فهؤلاء المدعوّون من دون الله لا يستجيبون للّذين يدعونهم بشي‏ء و لا يقضون حاجتهم إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و يقضي حاجته أي لا يحصل لهم إلّا صورة الدعاء كما لا يحصل لذلك الباسط إلّا صورة الطلب ببسط الكفّين.

و من هنا يعلم أنّ هذا الاستثناء( إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ ) إلخ، لا ينتقض به عموم النفي في المستثنى منه و لا يتضمّن إلّا صورة الاستثناء فهو يفيد تقوية الحكم في جانب المستثنى منه فإنّ مفاده أنّ الّذين يدعون من دون الله لا يستجاب لهم إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء و لن يستجاب له، و بعبارة اُخرى لن ينالوا بدعائهم إلّا أن لا ينالوا شيئاً أي لن ينالوا شيئاً ألبتّة.

و هذا من لطيف كلامه تعالى و يناظر من وجه قوله تعالى الآتي:( قُلْ

٣٥٠

أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) و آكد منه كما سيجيي‏ء إن شاء الله.

و قد تبيّن بما تقدّم:

أوّلاً: أنّ قوله:( دَعْوَةُ الْحَقِّ ) المراد به حقّ الدعاء و هو الّذي يستجاب و لا يردّ ألبتّة، و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد كلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلّا الله فلا شاهد عليه من جهة السياق.

و ثانياً: أنّ تقدير قوله( وَ الّذينَ يَدْعُونَ ) إلخ بإظهار الضمائر: الّذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيب اُولئك المدعوّون للمشركين بشي‏ء.

و ثالثاً: أنّ الاستثناء من قوله:( لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ ) و في الكلام حذف و إيجاز و المعنى: لا يستجيبون لهم بشي‏ء و لا ينيلونهم شيئاً إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و ينال من بسطه، و لعلّ الاستجابة مضمّن معنى النيل و نحوه.

ثمّ أكّد سبحانه الكلام بقوله:( وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) مع ما فيه من الإشارة إلى حقيقة أصيلة اُخرى و هي أنّه لا غرض لدعاء إلّا الله سبحانه فإنّه العليم القدير و الغنيّ ذو الرحمة فلا طريق له إلّا طريق التوجّه إليه تعالى فمن دعا غيره و جعله الهدف لدعائه فقد الارتباط بالغرض و الغاية و خرج بذلك عن الطريق فضلّ دعاؤه فإنّ الضلال هو الخروج عن الطريق و سلوك ما لا يوصل إلى المطلوب.

قوله تعالى: ( وَ لله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) السجود الخرور على الأرض بوضع الجبهة أو الذقن عليها قال تعالى:( وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) يوسف: ١٠٠، و قال:( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) أسرى: ١٠٧. و الواحدة منه سجدة.

و الكره ما يأتي به الإنسان من الفعل بمشّقة فإن حمل عليه من خارج فهو الكره بفتح الكاف و ما حمل عليه من داخل نفسه فهو الكره بضمّها و الطوع يقابل الكره مطلقا.

٣٥١

و قال الراغب: الغدوة و الغداة من أوّل النهار، و قوبل في القرآن الغدوّ بالآصال نحو قوله:( بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) و قوبل الغداة بالعشيّ قال:( بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ ) انتهى و الغدوّ جمع غداة كقنىّ و قناة و قال في المجمع: الآصال جمع اُصل - بضمّتين - و اُصل جمع أصيل فهو جمع الجمع مأخوذ من الأصل فكأنّه أصل الليل الّذي ينشأ منه و هو ما بين العصر إلى مغرب الشمس. انتهى.

و الأعمال الاجتماعيّة الّتي يؤتى بها لأغراض معنويّة كالتصدّر الّذي يمثّل به الرئاسة و التقدّم الّذي يمثّل به السيادة و الركوع الّذي يظهر به الصغر و الصغار و السجود الّذي يظهر به نهاية تذلّل الساجد و ضعته قبال تعزّز المسجود له و اعتلائه تسمّى غاياتها بأساميها كما تسمّى نفسها فكما يسمّى التقدّم تقدّماً كذلك تسمّى السيادة تقدّماً و كما أنّ الانحناء الخاصّ ركوع كذلك الصغر و الصغار الخاصّ ركوع و كما أنّ الخرور على الأرض سجود كذلك التذلّل سجود كلّ ذلك بعناية أنّ الغاية من العمل هي المطلوبة بالحقيقة دون ظاهر هيئة العمل.

و هذه النظرة هي الّتي يعتبرها القرآن الكريم في نسبة السجود و ما يناظره من القنوت و التسبيح و الحمد و السؤال و نحو ذلك إلى الأشياء كقوله تعالى:( كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ) البقرة: ١١٦ و قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) أسرى: ٤٤ و قوله:( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الرحمن: ٢٩ و قوله:( وَ لله يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) النحل: ٤٩.

و الفرق بين هذه الاُمور المنسوبة إلى الأشياء الكونيّة و بينها و هي واقعة في ظرف الاجتماع الإنسانيّ أنّ الغايات موجودة في القسم الأوّل بحقيقة معناها بخلاف القسم الثاني فإنّها إنّما توجد فيها بنوع من الوضع و الاعتبار فذلّة المكوّنات و ضعتها تجاه ساحة العظمة و الكبرياء ذلّة وضعة حقيقيّة بخلاف الخرور على الأرض و وضع الجبهة عليها فإنّه ذلّة وضعة بحسب الوضع و الاعتبار و لذلك ربّما يتخلّف.

فقوله تعالى:( وَ لله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أخذ بما تقدّم من

٣٥٢

النظر و لعلّه إنّما خصّ اُولي العقل بالذكر حيث قال:( مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) مع شمول هذه الذلّة و الضعة جميع الموجودات كما في آية النحل المتقدّمة و كما يشعر به ذيل الآية حيث قال:( وَ ظِلالُهُمْ ) إلخ، لأنّ الكلام في السورة مع المشركين و الاحتجاج عليهم فكأنّ في ذلك بعثا لهم أن يسجدوا لله طوعا كما يسجد له من دونهم من عقلاء السماوات و الأرض طوعا حتّى أنّ ظلالهم تسجد له. و لذلك أيضاً تعلّقت العناية بذكر سجود الظلال ليكون آكد في استنهاضهم فافهمه.

ثمّ إنّ هذا التذلّل و التواضع، الّذي هو من عامّة الموجودات لساحة ربّهم عزّ و علا، خضوع ذاتيّ لا ينفكّ عنها و لا يتخلّف فهو بالطوع ألبتّة و كيف لا و ليس لها من نفسها شي‏ء حتّى يتوهّم لها كراهة أو امتناع و جموح و قد قال تعالى:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) حم السجدة: ١١.

فالعناية المذكورة توجب الطوع لجميع الموجودات في سجودهم لله تعالى و تقطع دابر الكره عنهم ألبتّة غير أنّ هناك عناية اُخرى ربّما صحّحت نسبة الكره إلى بعضها في الجملة و هي أنّ بعض هذه الأشياء واقعة في مجتمع التزاحم مجهّزة بطباع ربّما عاقتها عن البلوغ إلى غاياتها و مبتغياتها أسباب اُخر و هي الأشياء المستقرّة في عالمنا هذا عالم المادّة الّتي ربّما زوحمت في مآربها و منعتها عن البلوغ إلى مقتضيات طباعها موانع متفرّقة و لا شكّ أنّ مخالف الطبع مكروه كما أنّ ما يلائمه مطلوب.

فهذه الأشياء ساجدة لله خاضعة لأمره في جميع الشؤون الراجعة إليها غير أنّها فيما يخالف طباعها كالموت و الفساد و بطلان الآثار و الآفات و العاهات و نحو ذلك ساجدة له كرها، و فيما يلائم طباعها كالحياة و البقاء و البلوغ إلى الغايات و الظفر بالكمال ساجدة له طوعا كالملائكة الكرام الّذين لا يعصون الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون.

و ممّا تقدّم يظهر فساد قول بعضهم إنّ المراد بالسجدة هو الحقيقيّ منها يعني الخرور على الأرض بوضع الجبهة عليها مثلاً فهم جميعاً ساجدون غير أنّ المؤمن يسجد

٣٥٣

طوعاً و الكافر يسجد خوفاً من السيف و قد نسب القول به إلى الحسن.

و كذا قول بعض: إنّ المراد بالسجود الخضوع فله يخضع الكلّ إلّا أنّ ذلك من المؤمن خضوع طوع و من الكافر خضوع كره لما يحلّ به من الآلام و الأسقام و نسب إلى الجبائيّ.

و كذا قول آخرين: إنّ المراد بالآية خضوع جميع ما في السماوات و الأرض من اُولي العقل و غيرهم و التعبير بلفظ يخصّ اُولي العقل للتغليب.

و أمّا قوله:( وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) ففيه إلحاق أظلال الأجسام الكثيفة بها في السجود فإنّ الظلّ و إن كان عدميّا من حجب الجسم بكثافته عن نفوذ النور إلّا أنّ له آثاراً خارجيّة و هو يزيد و ينقص في طرفي النهار و يختلف اختلافاً ظاهراً للحسّ فله نحو من الوجود ذو آثاره يخضع في وجوده و آثاره لله و يسجد له.

و هي تسجد لله سبحانه سجدة طوع في جميع الأحيان، و إنّما خصّ الغدوّ و الآصال بالذكر لا لما قيل: إنّ المراد بهما الدوام لأنّه يذكر مثل ذلك للتأبيد إذ لو اُريد سجودها الدائم لكان الأنسب به أن يقال: بأطراف النهار حتّى يعمّ جميع ما قبل الظهر و ما بعده كما وقع في قوله:( وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) طه: ١٣٠.

بل النكتة فيه - والله أعلم - أنّ الزيادة و النقيصة دائمتان للأظلال في الغداة و الأصيل فيمثّلان للحسّ السقوط على الأرض و ذلّة السجود، و أمّا وقت الظهيرة و أوساط النهار فربّما انعدمت الأظلال فيها أو نقصت و كانت كالساكنة لا يظهر معنى السجدة منها ذلك الظهور.

و لا شكّ في أنّ سقوط الأظلال على الأرض و تمثيلها لخرور السجود منظور إليه في نسبة السجود إلى الأظلال في تفيّؤها، و ليس النظر مقصوراً على مجرّد طاعتها التكوينيّة في جميع أحوالها و آثارها و الدليل على ذلك قوله:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لله وَ هُمْ داخِرُونَ ) النحل: ٤٨ فإنّ العناية بذلك ظاهرة فيه.

٣٥٤

و ليس ذلك قولاً شعريّاً و تصويراً تخييليّاً يتوسّل به في الدعوة الحقّة في كلامه تعالى - و حاشاه - و قد نصّ أنّه ليس بشعر بل الحقائق المتعالية عن الأوهام الثابتة عند العقل السليم البعيدة بطباعها عن الحسّ إذا صادفت موارد أمكن أن يظهر فيها للحسّ نوع ظهور و يتمثّل لها بوجه كان من الحريّ أن يستمدّ به في تعليم الأفهام الساذجة و العقول البسيطة و نقلها من مرتبة الحسّ و الخيال إلى مرحلة العقل السليم المدرك للحقائق من المعارف فإنّه من الحسّ و الخيال الحقّ المستظهر بالحقائق المؤيّد بالحقّ فلا بأس بالركون إليه.

و من هذا الباب عدّه تعالى ما يشاهد من الضلال المتفيّئة من الأجسام المنتصبة بالغدوّ و الآصال ساجدة لله سبحانه لما فيها من السقوط على الأرض كخرور السجود من اُولي العقل.

و من هذا الباب أيضاً ما تقدّم من قوله:( وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) حيث أطلق التسبيح على صوت الرعد الهائل الّذي يمثّل لساناً ناطقاً بتنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين و الثناء عليه لرحمته المبشّر به بالريح و السحاب و البرق مع أنّ الأشياء قاطبة مسبّحة بحمده بوجوداتها القائمة به تعالى المعتمدة عليه، و هذا تسبيح ذاتيّ منهم و دلالته دلالة ذاتيّة عقليّة غير مرتبطة بالدلالات اللفظيّة الّتي توجد في الأصوات بحسب الوضع و الاعتبار لكنّ الرعد بصوته الشديد الهائل يمثّل للسمع و الخيال هذا التسبيح الذاتيّ فذكره الله سبحانه بما له من الشأن لينتقل به الأذهان البسيطة إلى معنى التسبيح الذاتيّ الّذي يقوم بذات كلّ شي‏ء من غير صوت قارع و لا لفظ موضوع.

و يقرب من هذا الباب ما تقدّم في مفتتح السورة في قوله تعالى:( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) و قوله:( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ) الآية أنّ التمسّك في مقام الاحتجاج عليه تعالى بالاُمور المجهول أسبابها عند الحسّ ليس لأنّ سببيّته تعالى مقصورة على هذا النوع من الموجودات و الاُمور المعلومة الأسباب في غنى عنه تعالى فإنّ القرآن الكريم ينصّ على عموم قانون السببيّة و أنّه تعالى

٣٥٥

فوق الجميع بل لأنّ الاُمور الّتي لا تظهر أسبابها على الحسّ لبادئ نظرة تنبّه الأفهام البسيطة و تمثّل لها الحاجة إلى سبب أحسن تمثيل فتنتزع إلى البحث عن أسبابها و ينتهي البحث لا محالة إلى سبب أوّل هو الله سبحانه، و في القرآن الكريم من ذلك شي‏ء كثير.

و بالجملة فتسمية سقوط ظلال الأشياء بالغدوّ و الآصال على الأرض سجوداً منها لله سبحانه مبنيّة على تمثيلها في هذه الحال معنى السجدة الذاتيّة الّتي لها في ذواتها بمثال حسّيّ ينبّه الحسّ لمعنى السجدة الذاتيّة و يسهل للفهم البسيط طريق الانتقال إلى تلك الحقيقة العقليّة.

هذا هو الّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى، و أمّا حمل هذه المعاني على محض الاستعارة الشعريّة أو جعلها مجازاً مثلاً يراد به انقياد الأشياء لأمره تعالى بمعنى أنّها توجد كما شاء أو القول بأنّ المراد بالظلّ هو الشخص فإنّ من يسجد يسجد ظلّه معه فإنّ هذه معان واهية لا ينبغي الالتفات إليها.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) الآية بما تشتمل على أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالاحتجاج على المشركين بمنزلة الفذلكة من الآيات السابقة.

و ذلك أنّ الآيات السابقة تبيّن بأوضح البيان أنّ تدبير السماوات و الأرض و ما فيهما من شي‏ء إلى الله سبحانه كما أنّ خلقها منه و أنّه يملك ما يفتقر إليه الخلق و التدبير من العلم و القدرة و الرحمة و أنّ كلّ من دونه مخلوق مدبّر لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضرّاً و ينتج ذلك أنّه الربّ دون غيره.

فأمر تعالى نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يسجّل عليهم نتيجة بيانه السابق و يسألهم بعد تلاوة الآيات السابقة عليهم الكاشفة عن وجه الحقّ لهم بقوله:( مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أي من هو الّذي يملك السماوات و الأرض و ما فيهما و يدبّر أمرها؟ ثمّ أمره أن يجيب هو نفسه عن السؤال و يقول:( اللَّهُ ) لأنّهم و هم مشركون معاندون يمتنعون عن الإقرار بتوحيد الربوبيّة و في ذلك تلويح إلى أنّهم لا يعقلون حجّة

٣٥٦

و لا يفقهون حديثا.

ثمّ استنتج بمعونة هذه النتيجة نتيجة ثانية بها يتّضح بطلان شركهم أوضح البيان و هي أنّ مقتضى ربوبيّته تعالى الثابتة بالحجج السابقة أنّه هو المالك للنفع و الضرر فكلّ من دونه لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرّا فكيف لغيره؟ فاتّخاذ أرباب من دون الله أي فرض أولياء من دونه يلون أمر العباد و يملكون لهم نفعا و ضرّا في الحقيقة فرض لأولياء ليسوا بأولياء لأنّهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً و لا ضرّاً فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟.

و هذا هو المراد بقوله مفرّعاً على السؤال السابق:( قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) أي فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟ أي إذا كان الله سبحانه هو ربّ السماوات و الأرض فقد قلتم باتّخاذكم أولياء آلهة من دونه قولاً يكذّبه نفسه و هو عدم ولايتهم في عين ولايتهم و هو التناقض الصريح بأنّهم أولياء غير أولياء و أرباب لا ربوبيّة لهم.

و بالتأمّل فيما قدّمناه أنّ الآية بمنزلة الفذلكة من سابق البيانات يعود مفاد الآية إلى مثل قولنا: إذا تبيّن ما تقدّم فمن ربّ السماوات و الأرض إلّا الله؟ أ فأتّخذتم من دونه أولياء لا يملكون نفعاً و لا ضرّاً؟ فالعدول عن التفريع إلى أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بقوله: قل كذا و قل كذا و تكراره مرّة بعد مرّة إنّما هو للتنزّه عن خطابهم على ما بهم من قذارة الجهل و العناد و هذا من لطيف نظم القرآن.

قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ ) مثلان ضربهما الله سبحانه بعد تمام الحجّة و إتمامها عليهم و أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يضربهما لهم يبيّن بأحدهما حال المؤمن و الكافر فالكافر بالحجّة الحقّة و الآيات البيّنات غير المسلّم لها أعمى و المؤمن بها بصير فالعاقل لا يسوّي بينهما ببديهة عقله، و يبيّن بالثاني أنّ الكفر بالحقّ ظلمات كما أنّ الكافر الواقع فيها غير بصير و الإيمان بالحقّ نور كما أنّ المؤمن الأخذ به بصير و لا يستويان ألبتّة فمن الواجب على المشركين إن كان لهم عقول سليمة - كما يدعون - أن يسلّموا للحقّ

٣٥٧

و يرفضوا الباطل و يؤمنوا بالله وحده.

قوله تعالى: ( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ - إلى قوله -وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) في التعبير بقوله:( جَعَلُوا ) و( عَلَيْهِمْ ) دون أن يقال جعلتم و عليكم دليل على أنّ الكلام مصروف عنهم إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) دون أن يؤمر بإلقائه إليهم.

ثمّ العود في جواب هذا الاحتمال الّذي يتضمّنه قوله:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) إلى الأمر بإلقائه إليهم بقوله:( قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) دليل على أنّ السؤال إنّما هو عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و المطلوب من إلقاء توحيد الخالق إليهم هو الإلقاء الابتدائيّ لا الإلقاء بنحو الجواب، و ليس إلّا لأنّهم لا يقولون بخالق غير الله سبحانه كما قال تعالى:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨ و قد كرّر تعالى نقل ذلك عنهم.

فهؤلاء الوثنيون ما كانوا يرون لله سبحانه شريكاً في الخلق و الإيجاد و إنّما كانوا ينازعون الإسلام في توحيد الربوبيّة لا في توحيد الاُلوهيّة بمعنى الخلق و الإيجاد، و تسليمهم توحيد الخالق المبدع و قصر ذلك على الله يبطل قولهم بالشركاء في الربوبيّة و تتمّ الحجّة عليهم لأنّ اختصاص الخلق و الإيجاد بالله سبحانه ينفي استقلال الوجود و العلم و القدرة عن غيره تعالى و لا ربوبيّة مع انتفاء هذه النعوت الكماليّة.

و لذلك لم يبق لهم في القول بربوبيّة شركائهم مع الله سبحانه إلّا أن ينكروا توحّده تعالى في الخلق و الإيجاد و يثبتوا بعد الخلق و الإيجاد لآلهتهم و هم لا يفعلونه و هذا هو الموجب لذكره تعالى هذا الاحتمال لنبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) من دون أن يخاطبهم به أو يأمره أن يخاطبهم.

فكأنّه تعالى إذ يقول:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) يقول لنبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): هؤلاء تمّت عليهم الحجّة في توحيد الربوبيّة من جهة اختصاصه تعالى بالخلق و الإيجاد فلم يبق لهم إلّا أن يقولوا بشركة شركائهم في

٣٥٨

الخلق و الإيجاد فهل هم قائلون بأنّ شركائهم خلقوا خلقاً كخلقه ثمّ تشابه الخلق عليهم فقالوا بربوبيّتهم إجمالاً مع الله.

ثمّ أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يلقي إليهم ما يقطع دابر هذا الاحتمال فقال:( قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) و الجملة صدرها دعوى دليلها ذيلها أي أنّه تعالى واحد في خالقيّته لا شريك له فيها، و كيف يكون له فيها شريك و له وحدة يقهر كلّ عدد و كثرة و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ :) يوسف: ٣٩ بعض الكلام في معنى كونه تعالى هو الواحد القهّار، و تبيّن هناك أنّ مجموع هاتين الصفتين ينتج صفة الأحديّة.

و قد بان ممّا ذكرناه وجه تغيير السياق في قوله:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) و الإعراض عن سياق الخطاب السابق فتأمّل في ذلك و اعلم أنّ أكثر المفسّرين اشتبه عليهم الحال في الحجج الّتي تقيمها الآيات القرآنيّة لإثبات ربوبيّته تعالى و توحيده فيها و نفي الشريك عنه فخلطوا بينها و بين ما اُقيمت لإثبات الصانع فتنبّه لذلك.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تبارك و تعالى( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): أنا المنذر و عليّ الهادي‏ الحديث.

أقول: و روى هذا المعنى الكلينيّ في الكافي، و الصدوق في المعاني، و الصفّار في البصائر، و العيّاشيّ و القمّيّ في تفسيريهما و غيرهم بأسانيد كثيرة مختلفة.

و معنى قوله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم):( أنا المنذر و عليّ الهادي) أنّي مصداق المنذر و الإنذار هداية مع دعوة و علىّ مصداق للهادي من غير دعوة و هو الإمام لا أنّ المراد بالمنذر هو رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و المراد بالهادي هو عليّ (عليه السلام) فإنّ ذلك مناف لظاهر الآية ألبتّة.

٣٥٩

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة و الديلميّ و ابن عساكر و ابن النجّار قال: لمّا نزلت:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) وضع رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يده على صدره فقال: أنا المنذر و أومأ بيده إلى منكب عليّ فقال: أنت الهادي يا عليّ بك يهتدي المهتدون من بعدي:.

أقول: و رواه الثعلبيّ في الكشف، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم).

و في مستدرك الحاكم، بإسناده عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن الحكم بن جرير عن أبي بريدة الأسلميّ قال: دعا رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالطهور و عنده عليّ بن أبي طالب فأخذ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بيد عليّ بعد ما تطهّر فألصقها بصدره ثمّ قال:( إنّما أنت منذر) و يعني نفسه ثمّ ردّها إلى صدر عليّ ثمّ قال:( و لكلّ قوم هاد) ثمّ قال له: أنت منار الأنام و غاية الهدى و أمير القرّاء أشهد على ذلك إنّك كذلك:.

أقول: و رواه ابن شهرآشوب عن الحاكم في شواهد التنزيل، و المرزبانيّ في ما نزل من القرآن في أميرالمؤمنين.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالله بن أحمد في زوائد المسند و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ في الأوسط و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و ابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب: في قوله تعالى:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال: رسول الله المنذر و أنا الهادي. و في لفظ: و الهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه.

أقول: و من طرق أهل السنّة في هذا المعنى روايات اُخرى كثيرة.

و في المعاني، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) في قوله تعالى:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال: كلّ إمام هاد لكلّ قوم في زمانهم.

و في الكافي، بإسناده عن فضيل قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال: كلّ إمام هاد للقرن الّذي هو فيهم.

و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام)( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

كلّ مؤمن ، ولا يكترثون بكل شيء ولا يرعون حرمة ولا عهدا ، فهم في الحقيقة أعداء الإيمان والحقّ ، وهم مصداق ما ذكره القرآن في شأن أقوام سابقين أيضا حيث يقول :( وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (١) .

* * *

ملاحظتان

١ ـ من هم المستثنون في هذه الآية؟

جرى الكلام بين المفسّرين في الطائفة المستثناة من الحكم :( إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فمن هؤلاء المستثنون في هذه الآية؟!

إلّا أنّه بملاحظة الآيات السابقة ، يظهر أن المراد من هذه الجملة هم أولئك الذين بقوا على عهدهم ووفائهم ، أي القبائل التي هي من بني ضمرة وبني كنانة وبني خزيمة وأضرابهم.

وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة بمنزلة التأكيد للآيات السابقة ، فإنّ على المسلمين أن يكونوا حذرين واعين ، وأن يعرفوا هؤلاء الأوفياء بالعهد ويميزوهم عن سواهم الناكثين للعهد.

وما قوله تعالى :( عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فلعل هذا التعبير يشير إلى ما كان من معاهدة بين المسلمين والمشركين في السنة السادسة للهجرة ، عند صلح الحديبية على بعد خمسة عشر ميلا عن مكّة ، فقد التحق جماعة آخرون من مشركي العرب كالقبائل المشار إليها آنفا بهذه المعاهدة حيث عاهدوا المسلمين عن ترك الخصام ، إلّا أن مشركي قريش نقضوا عهدهم ، ثمّ أسلموا في السنة الثامنة عند فتح مكّة ، أمّا الجماعة التي التحقت حينئذ من المشركين بمن عاهد المسلمين ، فلم يسلموا ولم ينقضوا عهدهم.

__________________

(١) سورة البروج ، الآية ٨.

٥٤١

ولمّا كانت أرض مكّة تستوعب منطقة واسعة «حولي ٤٨ ميلا» فقد عدّت المنطقة كلها جزءا من المسجد الحرام ، كما نقرأ عن ذلك في الآية (١٩٦) من سورة البقرة ، إذ تذكر موضوع حج التمتع وأحكامه فتقول :( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

والمعروف عند الفقهاء وفتاواهم أن أحكام حج التمتع إنما تجب على من تبعد داره «أو دار أهله» أكثر من ٤٨ ميلا عن مكّة.

فبناء على ذلك لا مانع أبدا من أن يطلق على الحديبية ، التي تبعد ١٥ ميلا عن مكّة ، تعبير : عند المسجد الحرام.

وأمّا قول بعضهم : إن الاستثناء الوارد في الآية إنما هو في شأن مشركي قريش ، الذين عدّ القرآن الكريم عهدهم الذي عقدوه في صلح الحديبية محترما ، فهذا القول يبدو بعيدا ، بل هو غير صحيحى ، لأنّه.

أوّلا : من المعلوم أنّ مشركي قريش نقضوا العهد ، فنقضهم مقطوع به ، ولا مراء فيه ، فإن لم يكونوا قد نقضوا العهد ، فمن الذين لم ينقضوا عهدهم إذا؟!

ثانيا : إن صلح الحديبية إنّما كان في السنة السادسة للهجرة ، بينما أسلم مشركو قريش في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكّة ، فبناء على ذلك فالآيات هذه النازلة في السنة التاسعة للهجرة ، لا يمكن أن تكون ناظرة إليهم.

٢ ـ متى يجوز الغاء المعاهدة؟

كما قلنا ذيل الآيات المتقدمة ، فإنّ المراد من الآيات محل البحث لا يعني جواز الغاء العهد بمجرّد تصميم المشركين وعزمهم على نقض العهد عند بلوغهم القدرة ، بل إنّهم أبدوا هذا الأسلوب وطريقة تفكيرهم عمليّا مرارا ، فمتى استطاعوا أن يوجهوا ضربتهم إلى الإسلام دون الالتفات إلى المعاهدة وجهوها. وهذا المقدار من عملهم كاف لإلغاء عهدهم.

* * *

٥٤٢

الآيات

( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) )

التّفسير

لم تخشون مقاتلة العدوّ؟!

إنّ أحد أساليب الفصاحة والبلاغة أن يكرر المتحدّث المطلب المهم بتعابير مختلفة للتأكيد على أهمية ، وليكون له أثر في النفوس. ولما كانت مسألة تطهير

٥٤٣

المحيط الإسلامي من الوثنية وعبادة الأصنام وإزالة آثارها ، من المسائل ذات الأهميّة القصوى ، فإنّ القرآن يكرر هذه المطالب بعبارات جديدة ـ في الآيات محل البحث ـ ويورد القرآن كذلك لطائف تخرج المطلب ـ عن صورة التكرار ، ولو التكرار المجازي.

فتقول الآية الأولى من هذا الآيات محل البحث :( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) .

وتضيف معقبة( وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

وكان التعبير في الآيات المتقدمة أنّهم إذا أدّوا وظيفتهم الإسلامية ، أي تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزّكاة( فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) أمّا التعبير في هذه الآية( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) أي لا فارق بينهم وبين أحد من المسلمين من حيث الاحترام والمحبّة ، كما لا فارق بين الإخوان.

وهذه التعابير تؤثر من الناحية النفسية في أفكار المشركين وعواطفهم لتقبل الإسلام ، إذ تقول في حقّهم تارة( فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) وتارة( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) إلخ

ولكن لو استمر المشركون في نقض العهود ، فتقول الآية التالية :( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ ) .

صحيح أنّهم عاهدوكم على عدم المخاصمة والمقاتلة ، إلّا أن هذه المعاهدة ـ بنقضها مرارا ، وكونها قابلة للنقض في المستقبل ـ لا اعتبار لها أصلا ولا قيمة لها.

وتعقّب الآية مضيفة( لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ) .

وفي الآية الأخرى خطاب للمسلمين لإثارة هممهم ، وإبعاد روح الضعف والخوف والتردد عنهم في هذا الأمر الخطير ، إذ تقول الآية :( أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ ) .

فعلام تقلقون وأنتم لم تبدأوهم بالقتال وإلغاء العهد من قبلكم( وَهُمْ بَدَؤُكُمْ

٥٤٤

أَوَّلَ مَرَّةٍ ) ؟

وإذا كان بعضكم يتردد في مقاتلتهم خشية ، منهم ، فإنّ هذه الخشية لا محل لها( أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

وفي الآية التالية وعد بالنصر الحاسم للمسلمين ، إذ تقول( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

وليس ذلك فحسب ، بل ،( وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ) .

وبهذا يشعر المؤمنون بالراحة والطمأنينة بعد أن كانوا يقاسون الألم والعذاب تحت وطأة هؤلاء المجرمين ، ويزيل الله تعالى عن قلوبهم آلام المحنة بهذا النصر( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ المراد من( قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) هم جماعة المؤمنين من بني خزاعة ، وقد استغفلهم عبدة الأوثان من بني بكر فهجموا عليهم غدرا.

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد من هذا التعبير هم جماعة من أهل اليمن استجابوا لدعوة الإسلام ، ولما وصلوا مكّة عذّبوا وأوذوا من قبل عبدة الأصنام.

إلّا أنّه لا يبعد أن تشمل هذه العبارة جميع أولئك الذين تعرّضوا لأذى المشركين وعبدة الأصنام وتعذيبهم فكانت قلوبهم تغلي دما منهم.

أمّا الآية التالية فتضيف : إنّ في انتصار المؤمنين وهزيمة الكافرين سرورا للمؤمنين ، وإنّ الله يسدّدهم( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) .

ويحتمل أن تكون هذه الجملة تأكيدا للجملة السابقة( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) كما يحتمل أن تكون مستقلة عنها. وأن تكون الجملة السابقة إشارة إلى أنّ القلوب التي مرضت وتألمت سنين طوالا من أجل الإسلام والنّبي الكريم ، شفيت بانتصار الإسلام.

وأمّا الجملة الثّانية( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) فهي إشارة أن أولئك الذين فقدوا أعزّتهم وأحبّتهم بما لا قوه من تعذيب وحشي من قبل المشركين

٥٤٥

فأغاظوهم ، سيقّر الله عيونهم بهلاك المشركين( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) .

وتختتم الآية بالقول :( وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

كما تشير العبارة الأخيرة ضمنا إلى امكانية أن يلج بعضهم باب التوبة ، فينبغي على المسلمين أن يعرفوا أن الله يقبل توبتهم ، فلا يعاملوهم بشدة وقسوة فلا يجوز ذلك. كما أن الجمل بنفسها تحمل البشرى بأنّ مثل هؤلاء سيميلون نحو الإسلام ويشملهم توفيق الله ، لما لديهم من التهيؤ الروحي والقابليّة.

وقد ذهب بعض المفسّرين أنّ الآيات الأخيرة ـ بصورة عامّة من قبيل الإخبار القراني بالمغيبات ، وهي من دلائل صدق دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ ما أخبر عنه القرآن قد تحقق فعلا.

* * *

ملاحظات

١ ـ هناك كلام بين المفسّرين في الجماعة الذين عنتهم الآية( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) من هم؟!

قال بعضهم : إنّ الآية تشير إلى اليهود ، وإلى بعض الأقوام الذين نازلوا المسلمين وقاتلوهم بعد حين كالفرس والرّوم.

وقال بعضهم : هي إشارة إلى كفّار قريش.

وقال بعضهم : بل هي إشارة إلى المرتدين بعد إسلامهم.

إلّا أنّ ظاهر الآيات يدلّ ـ بوضوح ـ على أن موضوعها هو جماعة المشركين وعبدة الأصنام الذين عاهدوا المسلمين على عدم القتال والمخاصمة ، إلّا أنّهم نقضوا عهدهم.

وكان هؤلاء المشركون في أطراف مكّة أو سائر نقاط الحجاز.

كما أنّه لا يمكن القبول بأنّ الآية ناظرة إلى قريش ، لأنّ قريشا

٥٤٦

ورئيسها ـ أبا سفيان ـ أعلنوا إسلامهم ـ ظاهرا ـ في السنة الثامنة بعد فتح مكّة ، والسورة محل البحث نزلت في السنة التاسعة للهجرة.

كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد من الآية هو الفرس أو الروم بعيد جدّا عن مفهوم الآية ، لأنّ الآية ـ أو الآيات محل البحث ـ تتكلم عن مواجهة فعلية ، لا على مواجهات مستقبلية أضف إلى ذلك فإنّ الفرس أو الروم لم يهمّوا بإخراج الرّسول من وطنه.

كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد هم المرتدون بعد الإسلام ، بعيد غاية البعد ، لإن التأريخ لم يتحدث عن مرتدين أقوياء واجهوا الرّسول ذلك الحين ليقاتلهم بمن معه من المسلمين.

ثمّ إنّ كلمة «أيمان» جمع «يمين» وكلمة «عهد» يشيران إلى المعاهدة بين المشركين والرّسول على عدم المخاصمة ، لا إلى قبول الإسلام. فلاحظوا بدقة.

وإذا وجدنا في بعض الرّوايات الإسلامية أنّ هذه الآية طبّقت على «النّاكثين» في «معركة الجمل» وأمثالها ، فلا يعني ذلك أن الآيات نزلت في شأنهم فحسب ، بل الهدف من ذلك أنّ روح الآية وحكمها يصدقان في شأن الناكثين ومن هم على شاكلتهم ممن سيأتون في المستقبل.

والسؤال الوحيد الذي يفرض نفسه ويطلب الإجابة ، هو : إذا كان المراد جماعة المشركين الذين نقضوا عهودهم ، وقد جرى الكلام عليهم في الآيات المتقدمة ، فعلام تعبّر الآية هنا عنهم بالقول :( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ) مع أنّهم قد نكثوها فعلا.

والجواب : إنّ المراد من هذه الجملة ـ المذكورة آنفا ـ أنّهم لو واصلوا نقضهم أو نكثهم للأيمان ، ولم يثوبوا إلى رشدهم ، فينبغي مقاتلتهم. ونظير ذلك ما جاء في قوله تعالى :( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ومفهومها أنّنا نطلب من الله أن يوفقنا لأنّ نسير على الصراط المستقيم وأن تستمرّ هدايته إيانا.

٥٤٧

والشاهد على هذا الكلام أنّ جملة( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ) جاءت في مقابل( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ ) أي لا يخلو الأمر من أحد وجهين ، فإمّا أن يتوبوا ويعرضوا عن الشرك ويتجهوا نحو الله ، وإمّا أن يستمرا على طريقهم ونكث أيمانهم. ففي الصورة الأولى هم إخوانكم في الدين ، وفي الصورة الثّانية ينبغي مقاتلتهم.

٢ ـ ممّا يسترعي الانتباه أنّ الآيات محل البحث لا تقول : قاتلوا الكفار ، بل تقول :( فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) وهي إشارة إلى أن (القاعدة الجماهيرية) وعامّة الناس تبع لزعمائهم ورؤسائهم ، فينبغي أن يكون الهدف القضاء على رؤسائهم وأئمتهم ، لأنّهم أساس الضلال والتضليل والظلم والفساد ، فاستأصلوا شجرة الكفر من جذورها وأحرقوها. فمواجهة الكفار لا تجدي نفعا ما دام أئمتهم في الوجود ، أضف إلى ذلك فإنّ هذا التعبير يعدّ ضربا من ضروب النظرة البعيدة المدى وعلو الهمة وتشجيع المسلمين ، إذ عدّ أئمّة الكفر في مقابل المسلمين ، فليواجهوهم فذلك أجدر من مواجهة من دونهم من الكفّار.

والعجيب أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا التعبير يعني أبا سفيان وأمثاله من زعماء قريش ، مع أنّ جماعة منهم قتلوا في معركة بدر ، وأسلم الباقي منهم كأبي سفيان بعد فتح مكّة ـ بحسب الظاهر ـ وكانوا عند نزول الآية في صفوف المسلمين ، فمقاتلتهم لا مفهوم لها.

واليوم ما يزال هذا الدستور القرآني المهم باقيا على قوته «ساري المفعول» فالكي نزيل الاستعمار والفساد والظلم ، لا بدّ من مواجهة رؤوساء والأكابر وأئمّة المنحرفين ، وإلّا فلا جدوى من مواجهة من دونهم من الأفراد ، فلاحظوا بدقة.

٣ ـ إنّ التّعبير بـ( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) الوارد في الآيات المتقدمة ، من ألطف التعابير التي يمكن أن يعبّر بها في شأن المساواة بين أفراد المجتمع ، وبيان أوثق العلائق العاطفية ، لأنّ أجلى العلائق العاطفية وأقربها في الناس التي تمثل

٥٤٨

المساواة الكاملة هي العلاقة ما بين الأخوين.

إلّا أنّ من المؤسف أن الانقسامات الطبقية والنداءات القومية سحقت هذه الأخوة الإسلامية التي كان الأعداء يغبطوننا عليها ، ووقف الإخوان في مواجهة إخوانهم متراصين بشكل لا يصدق ، وقد يقاتل كلّ منهما الآخر قتالا لا يقاتل العدوّ عدوه بمثل هذا القتال ، وهذا واحد من أسرار تأخرنا في عصرنا هذا.

٤ ـ يستفاد ـ إجمالا ـ من جملة «أتخشونهم» أنّه كان بين المسلمين جماعة يخافون من الاستجابة للأمر بالجهاد ، إمّا لقوّة العدوّ وقدرته ، أو لأنّهم كانوا يعدو نقض العهد ذنبا.

فالقرآن يخاطبهم بصراحة أن لا تخافوا من هؤلاء الضعاف ، بل ينبغي أن تخافوا من عصيان أمر الله. ثمّ إن خشيتكم من نكث الإيمان ونقض العهد ليست في محلها ، فهم الذين نكثوا أيمانهم وهم بدأوكم أوّل مرّة!

٥ ـ يبدو أنّ جملة( هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ ) إشارة إلى مسألة عزمهم على إخراج الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة (عند هجرته إلى المدينة) بادئ الأمر ، إلّا أن نياتهم تغيرت وتبدلت إلى الإقدام على قتله ، إلّا أنّ النّبي غادر مكّة في تلك الليلة بأمر الله.

وعلى كل حال ، فإنّ ذكر هذا الموضوع ليس على سبيل أنّهم نقضوا عهدهم ، بل هو بيان ذكرى مؤلمة من جنايات عبدة الأصنام ، حيث اشتركت قريش والقبائل الأخرى في هذا الأمر. أمّا نقض العهد من قبل عبدة الأصنام المشركين فكان واضحا من طرق أخرى.

٦ ـ ممّا يثير الدهشة والتعجب أنّ بعض أتباع مذهب الجبر يستدل على مذهبه بالآية( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) مع أنّنا لو تجردنا عن التعصب لما وجدنا في الآية أدنى دليل على مرادهم ، وهذا يشبه تماما لو أردنا أن ننجز

٥٤٩

عملا ـ مثلا ـ فنمضي إلى بعض أصدقائنا ونقول له : نأمل أن يصلح الله هذا الأمر على يدك ، فإنّ مفهوم كلامنا هذا لا يعني بأنّك مجبور على أداء هذا الأمر ، بل المراد أنّ الله منحك قدرة ونية طاهرة ، وبالإفادة منهما استطعت أن تؤدي عملك باختيارك وبحرية تامّة.

* * *

٥٥٠

الآية

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) )

التّفسير

في هذه الآية ترغيب للمسلمين في الجهاد عن طريق آخر ، حيث تحمّل الآية المسلمين مسئولية ذات عبء كبير ، وهي أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أن كلّ شيء سيكون تامّا بادعائكم الإيمان فحسب ، بل يتجلى صدق النيّة وصدق القول والإيمان الواقعي في قتالكم الأعداء قتالا خالصا من أي نوع من أنواع النفاق.

فتقول الآية أوّلا :( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) (١) .

و «الوليجة» مشتقة من «الولوج» ومعناه الدخول ، وتطلق الوليجة على من

__________________

(١) «أم» حرف عطف ويعطف بها جملة استفهامية على جملة استفهامية أخرى ، ولهذا فهي تعطي معنى الاستفهام ، غاية ما في الأمر أنّها تأتي بعد جملة استفهامية دائما ، وفي الآية محل البحث عطفت على الجملة «ألا تقاتلون» التي بدئت بها الآية (١٣).

٥٥١

يعتمد عليه في الأسرار ومعناها يشبه معنى البطانة تقريبا.

وفي الحقيقة فإنّ الجملة المتقدمة تنّبه المسلمين إلى أنّ الأعمال لا تكمل بإظهار الإيمان فحسب ، ولا تتجلى شخصية الأشخاص بذلك ، بل يعرف الناس باختبارهم عن طريقين :

الأوّل : الجهاد في سبيل الله لغرض محو آثار الشرك والوثنية.

الثاني : ترك أية علاقة أو أي تعاون مع المنافقين والأعداء.

فالأوّل لدفع العدو الخارجي ، والثّاني يحصّن المجتمع من خطر العدو الداخلي.

وجملة( لَمَّا يَعْلَمِ اللهُ ) التي قد يلاحظ نظيرها في بعض آيات القرآن الأخر ، تعني أن أمركم لم يتحقق بعد ، وبتعبير آخر : إنّ نفي العلم هنا معناه نفي المعلوم ، ويستعمل مثل هذا التعبير في مواطن التأكيد. وإلّا فإنّ الله ـ طبقا للأدلة العقلية وصحيح آيات القرآن الكثيرة ـ كان عالما بكل شيء ، وسيبقى عالما بكل شيء.

وهذه الآية تشبه الآية الأولى من سورة العنكبوت ، إذ تقول :( الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) .

وكما ذكرنا آنفا في تفسيرنا لسورة آل عمران أنّ اختبار الله لعباده ليس لكشف أمر مجهول عنده ، بل هو لتربيتهم ولأجل إنّما الاستعدادات وتجلّي الأسرار الداخلية في الناس.

وتختتم الآية بما يدلّ على الإخطار والتأكيد( وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

فلا ينبغي أن يتصور أحدّ أنّ الله لا يعرف العلائق السرّية بين بعض الأفراد وبين المنافقين ، بل يعرف كل شيء جيدا وهو خبير بالأعمال كلها.

ويستفاد من سياق الآية أن بين المسلمين يؤمئذ من كان حديث العهد بالإسلام ولم يكن على استعداد للجهاد ، فيشمله هذا الكلام أمّا المجاهدون الصادقون فقد بيّنوا مواقفهم في سوح الجهاد مرارا.

* * *

٥٥٢

الآيتان

( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) )

التّفسير

من يعمر مساجد الله؟

من جملة المسائل التي يمكن أن تخالط أذهان البعض بعد إلغاء عهد المشركين وحكم الجهاد ، هو : لم نبعد هذه الجماعة العظيمة من المشركين عن المسجد الحرام لأداء مناسك الحج ، مع أنّ مساهمتهم في هذه المراسم عمارة للمسجد من جميع الوجوه «المادية والمعنوية» إذ يستفاد من إعاناتهم المهمّة لبناء المسجد الحرام ، كما يكون لوجودهم أثر معنوي في زيادة الحاجّ والطائفين حول الكعبة المشرفة وبيت الله.

فالآيتان ـ محل البحث ـ تردّان على مثل هذه الأفكار الواهية التي لا أساس

٥٥٣

لها ، وتصرّح الآية الأولى منهما بالقول :( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) .

وشهادتهم على كفرهم جلية من خلال أحاديثهم وو أعمالهم ، بل هي واضحة في طريقة عبادتهم ومراسم حجّهم.

ثمّ تشير الآية إلى فلسفة هذا الحكم فتقول :( أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) .

ولذلك فهي لا تجديهم نفعا :( وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ ) .

فمع هذه الحال لا خير في مساعيهم لعمارة المسجد الحرام وبنائه وما إلى ذلك ، كما لا فائدة من كثرتهم واحتشادهم حول الكعبة.

فالله طاهر منزّه ، وينبغي أن يكون بيته طاهرا منزّها كذلك ، فلا يصح أن تمسه الأيدي الملوثة بالشرك.

أمّا الآية التّالية فتذكر شروط عمارة المسجد الحرام ـ إكمالا للحديث آنف الذكر ـ فتبيّن خمسة شروط مهمّة في هذا الصدد ، فتقول ،( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) .

وهذا النص إشارة إلى الشرطين الأوّل والثّاني ، اللذين يمثلان الأساس العقائدي ، فما لم يتوفر هذان الشرطان لا يصدر من الإنسان أي عمل خالص نزيه ، بل لو كان عمله في الظاهر سليما فهو في الباطن ملّوث بأنواع الأغراض غير المشروعة.

ثمّ تشير الآية إلى الشرطين الثّالث والرّابع فتقول :( وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ ) .

أي أن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يكفي أن يكون مجرّد ادعاء فحسب ، بل تؤيده الأعمال الكريمة ، فعلاقة الإنسان بالله ينبغي أن تكون قوية محكمة ، وأن يؤدي صلاته بإخلاص ، كما ينبغي أن تكون علاقته بعباد الله وخلقه قوية ، فيؤدي الزكاة إليهم.

٥٥٤

وتشير الآية إلى الشرط الخامس والأخير فتقول :( وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ ) .

فقلبه مليء بعشق الله ، ولا يحسّ إلّا بالمسؤولية في امتثال أمره ولا يرى لأحد من عبيده أثرا في مصيره ومصير مجتمعه وتقدمه ، هم أقل من أن يكون لهم أثر في عمارة محل للعبادة.

ثمّ تضيف الآية معقبة بالقول :( فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) فيبلغون أهدافهم ويسعون لعمارة المسجد.

* * *

ملاحظات

١ ـ ما المراد من العمارة

هل تعني عمارة المسجد بناءه وتأسيسه وترميمه ، أو تعني الاجتماع فيه والمساهمة في الحضور عنده؟!

اختار بعض المفسّرين أحد هذين المعنيين في تفسير «عمارة المسجد» في الآية ـ محل البحث ـ غير أنّ الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه الأمور وما شاكلّها جميعا. فليس للمشركين أن يحضروا في المساجد ، وليس لهم أن يبنوا مسجدا ـ وما إلى ذلك ـ بل على المسلمين أن يقوموا بكل ذلك.

ويستفاد من الآية ـ ضمنا ـ أنّه لا ينبغي للمسلمين أن يقبلوا من المشركين ـ بل جميع الفرق غير الإسلامية ـ هدايا أو إعانات للمساجد وبنائها ، لأنّ الآية الأولى وإن كانت تتكلم على المشركين ، لكنّ الآية الثّانية بدأت بكلمة «إنما» لتدل على أن عمارة مساجد الله خاصّة بالمسلمين.

ومن هنا يتّضح أيضا أنّ متولي المساجد ومسئوليها ينبغي أن يكونوا من أنزه الناس ، ولا ينتخب لهذه المهمّة من لا حريجة له في الدين طمعا في ماله وثروته ، أو مقامه الاجتماعي كما هو الحال في كثير من البلاد ، إذ تولّى مساجدها

٥٥٥

من ليس لها أهلا.

بل يجب ابعاد جميع الأيدي الملوثة عن هذه الأماكن المقدسة.

ومنذ أن تدخل في أمور المساجد والمراكز الإسلامية أو أشرف عليها حكام الجور ، أو الأثرياء المذنبون ، فقدت تلك المساجد والمراكز الإسلامية «حيثيتها» ومكانتها ومسخت مناهجها البنّاءة ، ولذا فنحن نرى كثيرا من هذه المساجد على شاكلة مسجد ضرار.

٢ ـ العمل الخالص ينبع من الإيمان فحسب

قد يتساءل بعضنا قائلا : ما يمنع أن نستعين بأموال غير المسلمين لبناء المساجد وعمارتها؟!

لكن من يسأل مثل هذا السؤال لم يلتفت إلى أنّ الإسلام يعد العمل الصالح ثمرة شجرة الإيمان في كل مكان ، فالعمل ثمرة نيّة الإنسان وعقيدته دائما وهو انعكاس لها ويتخذ شكلهما ولونهما دائما ، فالنيات غير الخالصة لا تنتج عملا خالصا.

٣ ـ الحماة الشجعان

تدل عبارة( وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ ) على أنّ عمارة المسجد المحافظة عليها لا تكون إلّا في ظل الشهامة والشجاعة ، فلا تكون هذه المراكز المقدسة مراكز لبناء شخصية الإنسان وذات منهج تربوي عال إلّا إذا كان بانوها وحماتها رجالا شجعانا لا يخشون أحدا سوى الله ، ولا يتأثرون بأي مقام ، ولا يطبقون منهجا غير المنهج الإلهي.

٤ ـ هل المراد من الآية هو المسجد الحرام فحسب؟!

يعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية محل البحث تختص بالمسجد الحرام ، مع أنّ

٥٥٦

ألفاظ الآية عامّة ، ولا دليل على هذا التخصيص ، وإن كان المسجد الحرام الذي هو أعظم المساجد الإسلامية في مقدمتها ، ويوم نزول الآية كان المسجد الحرام هو محل إشارة الآية ، إلّا أنّ ذلك لا يدلّ على تخصيص مفهوم الآية.

٥ ـ أهمية بناء المساجد

وردت أحاديث كثيرة في أهمية بناء المساجد عن طرق أهل البيت وأهل السنة ، تدلّ على ما لهذا العمل من الشأن الكبير.

فقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنّة»(١) .

كما ورد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه»(٢) .

إلّا أنّ ما هو أكثر أهمية هذا اليوم هو عمارة المسجد المعنوية ، وبتعبير آخر ينبغي أن نهتم بعمارة شخصية الذين يرتادون المسجد وأهله وحفظته اهتمامنا بعمارة المسجد ذاته.

فالمسجد ينبغي أن يكون مركزا لكل تحرك إسلامي فاعل يؤدي إلى إيقاظ الناس ، وتطهير البيئة والمحيط ، وحثّ المسلمين للدفاع عن ميراث الإسلام.

وينبغي الالتفات إلى أن المسجد جدير بأن يكون مركزا للشباب المؤمن ، لا محلا للعجزة والكسالى والمقعدين ، فالمسجد مجال للنشاط الاجتماعي الفعال ، لا مجال العاطلين والبطّالين والمرضى.

* * *

__________________

(١) ورد هذا الحديث في كتاب وسائل الشيعة ، الباب ٨ من أبواب أحكام المساجد كما ورد عن ابن عباس في تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٢١٣.

(٢) كتاب المحاسن ، ص ٥٧ حسب نقل كنز العرفان ، ج ١ ، ص ١٠٨.

٥٥٧

الآيات

( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) )

سبب النّزول

هناك روايات مختلفة في سبب نزول الآيات ـ محل البحث ـ منقولة في كتب أهل السنة والشيعة ، ونورد هنا ما يبدو أكثر صحة.

يروي «أبو القاسم الحسكاني» عالم أهل السنة المعروف ، عن بريدة ، أن «شيبة» و «العباس» كان يفتخر كلّ منهما على صاحبه ، وبينما هما يتفاخران إذ مرّ عليهما علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقال : فيم تتفاخران؟

فقال العباس : حبيت بما لم يحب به أحد وهو سقاية الحاج.

٥٥٨

فقال شيبة : إني أعمر المسجد الحرام ، وأنا سادن الكعبة.

فقال عليعليه‌السلام : على أنّي مستحي منكما ، فلي مع صغر سني ما ليس عندكما. فقالا : وما ذاك؟!

فقال : جاهدت بسيفي حتى آمنتما بالله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فخرج العباس مغضبا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاكيا عليّا فقال : ألا ترى ما يقول؟

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدعو لي عليّا فلمّا جاءه علي قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم كلّمت عمّك العباس بمثل هذا الكلام؟ فقالعليه‌السلام : إذا كنت أغضبته ، فلما بيّنت من الحق ، فمن شاء فليرض بالقول الحق ومن شاء فليغضب.

فنزل جبرئيلعليه‌السلام وقال : يا محمّد ، إنّ ربّك يقرؤك السلام ويقول : اتل هذه الآيات :( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (١) .

وقد وردت هذه الرواية بالمضمون ذاته مع اختلاف يسير في التعابير في كتب كثيرة لأهل السنة ، كتفسير الطبري والثعلبي ، وأسباب النّزول للواحدي وتفسير الخازن البغدادي ، ومعالم التنزيل للعلّامة البغوي ، والمناقب لابن المغازلي ، وجامع الأصول لابن الأثير ، وتفسير الفخر الرازي ، وكتب أخرى.(٢)

وعلى كل حال ، فالحديث آنف الذكر من الأحاديث المعروفة والمشهورة ، التي يقرّبها حتى المتعصبون ، وسنتكلم عنه مرّة أخرى بعد تفسير الآيات.

التّفسير

مقياس الفخر والفضل :

مع أنّ للآيات ـ محل البحث ـ شأنا في نزولها ، إلّا أنّها في الوقت ذاته

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآيات محل البحث.

(٢) لمزيد الإيضاح يراجع كتاب إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ١٢٢ ـ ١٢٧.

٥٥٩

تستكمل البحث الذي تناولته الآيات المتقدمة ، ونظير ذلك كثير في القرآن.

فالآية الأولى من هذه الآيات تقول :( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

«السقاية» لها معنى مصدري وهو إيصال الماء للآخرين ، وكما تعني المكيال ، كما جاء في الآية ٧٠ من سورة يوسف( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ) وتعني الإناء الكبير أو الحوض الذي يصب فيه الماء.

وكان في المسجد الحرام بين بئر زمزم والكعبة محل يوضع فيه الماء يدعى بـ «سقاية العباس» وكان معروفا آنئذ ، ويبدو أنّ هناك إناء كبيرا فيه ماء يستقى منه الحاج يومئذ.

ويحدثنا التأريخ أنّ منصب «سقاية الحاج» قبل الإسلام كان من أهل المناصب ، وكان يضاهي منصب سدانة الكعبة ، وكانت حاجة الحاج الماسة في أيّام الحج إلى الماء في تلك الأرض القاحلة اليابسة المرمضة(١) التي يقل فيها الماء ، وجوّها حار أغلب أيّام السنة ، وكانت هذه الحاجة الماسة تولي موضوع «سقاية الحاج» أهميّة خاصّة ، ومن كان مشرفا على السقاية كان يتمتع بمنزلة اجتماعية نادرة ، لأنّه كان يقدم للحاج خدمة حياتية.

وكذلك «عمارة المسجد الحرام» أو سدانته ورعايته ، كان لها أهميته الخاصّة ، لأنّ المسجد الحرام حتى في زمن الجاهلية كان يعدّ مركزا دينيا ، فكان المتصدي لعمارة المسجد أو سدانته محترما.

ومع كل ذلك فإنّ القرآن يصّرح بأنّ الإيمان بالله وباليوم الآخر والجهاد في سبيل الله أفضل من جميع تلك الأعمال وأشرف.

__________________

(١) «المرمضة» مشتقة من «الإرماض» أي شديدة الحر ، والأرض الرمضاء كذلك : شدية الحر.

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606