الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245293 / تحميل: 6212
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

كلّ مؤمن ، ولا يكترثون بكل شيء ولا يرعون حرمة ولا عهدا ، فهم في الحقيقة أعداء الإيمان والحقّ ، وهم مصداق ما ذكره القرآن في شأن أقوام سابقين أيضا حيث يقول :( وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (١) .

* * *

ملاحظتان

١ ـ من هم المستثنون في هذه الآية؟

جرى الكلام بين المفسّرين في الطائفة المستثناة من الحكم :( إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فمن هؤلاء المستثنون في هذه الآية؟!

إلّا أنّه بملاحظة الآيات السابقة ، يظهر أن المراد من هذه الجملة هم أولئك الذين بقوا على عهدهم ووفائهم ، أي القبائل التي هي من بني ضمرة وبني كنانة وبني خزيمة وأضرابهم.

وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة بمنزلة التأكيد للآيات السابقة ، فإنّ على المسلمين أن يكونوا حذرين واعين ، وأن يعرفوا هؤلاء الأوفياء بالعهد ويميزوهم عن سواهم الناكثين للعهد.

وما قوله تعالى :( عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فلعل هذا التعبير يشير إلى ما كان من معاهدة بين المسلمين والمشركين في السنة السادسة للهجرة ، عند صلح الحديبية على بعد خمسة عشر ميلا عن مكّة ، فقد التحق جماعة آخرون من مشركي العرب كالقبائل المشار إليها آنفا بهذه المعاهدة حيث عاهدوا المسلمين عن ترك الخصام ، إلّا أن مشركي قريش نقضوا عهدهم ، ثمّ أسلموا في السنة الثامنة عند فتح مكّة ، أمّا الجماعة التي التحقت حينئذ من المشركين بمن عاهد المسلمين ، فلم يسلموا ولم ينقضوا عهدهم.

__________________

(١) سورة البروج ، الآية ٨.

٥٤١

ولمّا كانت أرض مكّة تستوعب منطقة واسعة «حولي ٤٨ ميلا» فقد عدّت المنطقة كلها جزءا من المسجد الحرام ، كما نقرأ عن ذلك في الآية (١٩٦) من سورة البقرة ، إذ تذكر موضوع حج التمتع وأحكامه فتقول :( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

والمعروف عند الفقهاء وفتاواهم أن أحكام حج التمتع إنما تجب على من تبعد داره «أو دار أهله» أكثر من ٤٨ ميلا عن مكّة.

فبناء على ذلك لا مانع أبدا من أن يطلق على الحديبية ، التي تبعد ١٥ ميلا عن مكّة ، تعبير : عند المسجد الحرام.

وأمّا قول بعضهم : إن الاستثناء الوارد في الآية إنما هو في شأن مشركي قريش ، الذين عدّ القرآن الكريم عهدهم الذي عقدوه في صلح الحديبية محترما ، فهذا القول يبدو بعيدا ، بل هو غير صحيحى ، لأنّه.

أوّلا : من المعلوم أنّ مشركي قريش نقضوا العهد ، فنقضهم مقطوع به ، ولا مراء فيه ، فإن لم يكونوا قد نقضوا العهد ، فمن الذين لم ينقضوا عهدهم إذا؟!

ثانيا : إن صلح الحديبية إنّما كان في السنة السادسة للهجرة ، بينما أسلم مشركو قريش في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكّة ، فبناء على ذلك فالآيات هذه النازلة في السنة التاسعة للهجرة ، لا يمكن أن تكون ناظرة إليهم.

٢ ـ متى يجوز الغاء المعاهدة؟

كما قلنا ذيل الآيات المتقدمة ، فإنّ المراد من الآيات محل البحث لا يعني جواز الغاء العهد بمجرّد تصميم المشركين وعزمهم على نقض العهد عند بلوغهم القدرة ، بل إنّهم أبدوا هذا الأسلوب وطريقة تفكيرهم عمليّا مرارا ، فمتى استطاعوا أن يوجهوا ضربتهم إلى الإسلام دون الالتفات إلى المعاهدة وجهوها. وهذا المقدار من عملهم كاف لإلغاء عهدهم.

* * *

٥٤٢

الآيات

( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) )

التّفسير

لم تخشون مقاتلة العدوّ؟!

إنّ أحد أساليب الفصاحة والبلاغة أن يكرر المتحدّث المطلب المهم بتعابير مختلفة للتأكيد على أهمية ، وليكون له أثر في النفوس. ولما كانت مسألة تطهير

٥٤٣

المحيط الإسلامي من الوثنية وعبادة الأصنام وإزالة آثارها ، من المسائل ذات الأهميّة القصوى ، فإنّ القرآن يكرر هذه المطالب بعبارات جديدة ـ في الآيات محل البحث ـ ويورد القرآن كذلك لطائف تخرج المطلب ـ عن صورة التكرار ، ولو التكرار المجازي.

فتقول الآية الأولى من هذا الآيات محل البحث :( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) .

وتضيف معقبة( وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

وكان التعبير في الآيات المتقدمة أنّهم إذا أدّوا وظيفتهم الإسلامية ، أي تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزّكاة( فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) أمّا التعبير في هذه الآية( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) أي لا فارق بينهم وبين أحد من المسلمين من حيث الاحترام والمحبّة ، كما لا فارق بين الإخوان.

وهذه التعابير تؤثر من الناحية النفسية في أفكار المشركين وعواطفهم لتقبل الإسلام ، إذ تقول في حقّهم تارة( فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) وتارة( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) إلخ

ولكن لو استمر المشركون في نقض العهود ، فتقول الآية التالية :( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ ) .

صحيح أنّهم عاهدوكم على عدم المخاصمة والمقاتلة ، إلّا أن هذه المعاهدة ـ بنقضها مرارا ، وكونها قابلة للنقض في المستقبل ـ لا اعتبار لها أصلا ولا قيمة لها.

وتعقّب الآية مضيفة( لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ) .

وفي الآية الأخرى خطاب للمسلمين لإثارة هممهم ، وإبعاد روح الضعف والخوف والتردد عنهم في هذا الأمر الخطير ، إذ تقول الآية :( أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ ) .

فعلام تقلقون وأنتم لم تبدأوهم بالقتال وإلغاء العهد من قبلكم( وَهُمْ بَدَؤُكُمْ

٥٤٤

أَوَّلَ مَرَّةٍ ) ؟

وإذا كان بعضكم يتردد في مقاتلتهم خشية ، منهم ، فإنّ هذه الخشية لا محل لها( أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

وفي الآية التالية وعد بالنصر الحاسم للمسلمين ، إذ تقول( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

وليس ذلك فحسب ، بل ،( وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ) .

وبهذا يشعر المؤمنون بالراحة والطمأنينة بعد أن كانوا يقاسون الألم والعذاب تحت وطأة هؤلاء المجرمين ، ويزيل الله تعالى عن قلوبهم آلام المحنة بهذا النصر( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ المراد من( قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) هم جماعة المؤمنين من بني خزاعة ، وقد استغفلهم عبدة الأوثان من بني بكر فهجموا عليهم غدرا.

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد من هذا التعبير هم جماعة من أهل اليمن استجابوا لدعوة الإسلام ، ولما وصلوا مكّة عذّبوا وأوذوا من قبل عبدة الأصنام.

إلّا أنّه لا يبعد أن تشمل هذه العبارة جميع أولئك الذين تعرّضوا لأذى المشركين وعبدة الأصنام وتعذيبهم فكانت قلوبهم تغلي دما منهم.

أمّا الآية التالية فتضيف : إنّ في انتصار المؤمنين وهزيمة الكافرين سرورا للمؤمنين ، وإنّ الله يسدّدهم( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) .

ويحتمل أن تكون هذه الجملة تأكيدا للجملة السابقة( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) كما يحتمل أن تكون مستقلة عنها. وأن تكون الجملة السابقة إشارة إلى أنّ القلوب التي مرضت وتألمت سنين طوالا من أجل الإسلام والنّبي الكريم ، شفيت بانتصار الإسلام.

وأمّا الجملة الثّانية( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) فهي إشارة أن أولئك الذين فقدوا أعزّتهم وأحبّتهم بما لا قوه من تعذيب وحشي من قبل المشركين

٥٤٥

فأغاظوهم ، سيقّر الله عيونهم بهلاك المشركين( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) .

وتختتم الآية بالقول :( وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

كما تشير العبارة الأخيرة ضمنا إلى امكانية أن يلج بعضهم باب التوبة ، فينبغي على المسلمين أن يعرفوا أن الله يقبل توبتهم ، فلا يعاملوهم بشدة وقسوة فلا يجوز ذلك. كما أن الجمل بنفسها تحمل البشرى بأنّ مثل هؤلاء سيميلون نحو الإسلام ويشملهم توفيق الله ، لما لديهم من التهيؤ الروحي والقابليّة.

وقد ذهب بعض المفسّرين أنّ الآيات الأخيرة ـ بصورة عامّة من قبيل الإخبار القراني بالمغيبات ، وهي من دلائل صدق دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ ما أخبر عنه القرآن قد تحقق فعلا.

* * *

ملاحظات

١ ـ هناك كلام بين المفسّرين في الجماعة الذين عنتهم الآية( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) من هم؟!

قال بعضهم : إنّ الآية تشير إلى اليهود ، وإلى بعض الأقوام الذين نازلوا المسلمين وقاتلوهم بعد حين كالفرس والرّوم.

وقال بعضهم : هي إشارة إلى كفّار قريش.

وقال بعضهم : بل هي إشارة إلى المرتدين بعد إسلامهم.

إلّا أنّ ظاهر الآيات يدلّ ـ بوضوح ـ على أن موضوعها هو جماعة المشركين وعبدة الأصنام الذين عاهدوا المسلمين على عدم القتال والمخاصمة ، إلّا أنّهم نقضوا عهدهم.

وكان هؤلاء المشركون في أطراف مكّة أو سائر نقاط الحجاز.

كما أنّه لا يمكن القبول بأنّ الآية ناظرة إلى قريش ، لأنّ قريشا

٥٤٦

ورئيسها ـ أبا سفيان ـ أعلنوا إسلامهم ـ ظاهرا ـ في السنة الثامنة بعد فتح مكّة ، والسورة محل البحث نزلت في السنة التاسعة للهجرة.

كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد من الآية هو الفرس أو الروم بعيد جدّا عن مفهوم الآية ، لأنّ الآية ـ أو الآيات محل البحث ـ تتكلم عن مواجهة فعلية ، لا على مواجهات مستقبلية أضف إلى ذلك فإنّ الفرس أو الروم لم يهمّوا بإخراج الرّسول من وطنه.

كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد هم المرتدون بعد الإسلام ، بعيد غاية البعد ، لإن التأريخ لم يتحدث عن مرتدين أقوياء واجهوا الرّسول ذلك الحين ليقاتلهم بمن معه من المسلمين.

ثمّ إنّ كلمة «أيمان» جمع «يمين» وكلمة «عهد» يشيران إلى المعاهدة بين المشركين والرّسول على عدم المخاصمة ، لا إلى قبول الإسلام. فلاحظوا بدقة.

وإذا وجدنا في بعض الرّوايات الإسلامية أنّ هذه الآية طبّقت على «النّاكثين» في «معركة الجمل» وأمثالها ، فلا يعني ذلك أن الآيات نزلت في شأنهم فحسب ، بل الهدف من ذلك أنّ روح الآية وحكمها يصدقان في شأن الناكثين ومن هم على شاكلتهم ممن سيأتون في المستقبل.

والسؤال الوحيد الذي يفرض نفسه ويطلب الإجابة ، هو : إذا كان المراد جماعة المشركين الذين نقضوا عهودهم ، وقد جرى الكلام عليهم في الآيات المتقدمة ، فعلام تعبّر الآية هنا عنهم بالقول :( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ) مع أنّهم قد نكثوها فعلا.

والجواب : إنّ المراد من هذه الجملة ـ المذكورة آنفا ـ أنّهم لو واصلوا نقضهم أو نكثهم للأيمان ، ولم يثوبوا إلى رشدهم ، فينبغي مقاتلتهم. ونظير ذلك ما جاء في قوله تعالى :( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ومفهومها أنّنا نطلب من الله أن يوفقنا لأنّ نسير على الصراط المستقيم وأن تستمرّ هدايته إيانا.

٥٤٧

والشاهد على هذا الكلام أنّ جملة( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ) جاءت في مقابل( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ ) أي لا يخلو الأمر من أحد وجهين ، فإمّا أن يتوبوا ويعرضوا عن الشرك ويتجهوا نحو الله ، وإمّا أن يستمرا على طريقهم ونكث أيمانهم. ففي الصورة الأولى هم إخوانكم في الدين ، وفي الصورة الثّانية ينبغي مقاتلتهم.

٢ ـ ممّا يسترعي الانتباه أنّ الآيات محل البحث لا تقول : قاتلوا الكفار ، بل تقول :( فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) وهي إشارة إلى أن (القاعدة الجماهيرية) وعامّة الناس تبع لزعمائهم ورؤسائهم ، فينبغي أن يكون الهدف القضاء على رؤسائهم وأئمتهم ، لأنّهم أساس الضلال والتضليل والظلم والفساد ، فاستأصلوا شجرة الكفر من جذورها وأحرقوها. فمواجهة الكفار لا تجدي نفعا ما دام أئمتهم في الوجود ، أضف إلى ذلك فإنّ هذا التعبير يعدّ ضربا من ضروب النظرة البعيدة المدى وعلو الهمة وتشجيع المسلمين ، إذ عدّ أئمّة الكفر في مقابل المسلمين ، فليواجهوهم فذلك أجدر من مواجهة من دونهم من الكفّار.

والعجيب أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا التعبير يعني أبا سفيان وأمثاله من زعماء قريش ، مع أنّ جماعة منهم قتلوا في معركة بدر ، وأسلم الباقي منهم كأبي سفيان بعد فتح مكّة ـ بحسب الظاهر ـ وكانوا عند نزول الآية في صفوف المسلمين ، فمقاتلتهم لا مفهوم لها.

واليوم ما يزال هذا الدستور القرآني المهم باقيا على قوته «ساري المفعول» فالكي نزيل الاستعمار والفساد والظلم ، لا بدّ من مواجهة رؤوساء والأكابر وأئمّة المنحرفين ، وإلّا فلا جدوى من مواجهة من دونهم من الأفراد ، فلاحظوا بدقة.

٣ ـ إنّ التّعبير بـ( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) الوارد في الآيات المتقدمة ، من ألطف التعابير التي يمكن أن يعبّر بها في شأن المساواة بين أفراد المجتمع ، وبيان أوثق العلائق العاطفية ، لأنّ أجلى العلائق العاطفية وأقربها في الناس التي تمثل

٥٤٨

المساواة الكاملة هي العلاقة ما بين الأخوين.

إلّا أنّ من المؤسف أن الانقسامات الطبقية والنداءات القومية سحقت هذه الأخوة الإسلامية التي كان الأعداء يغبطوننا عليها ، ووقف الإخوان في مواجهة إخوانهم متراصين بشكل لا يصدق ، وقد يقاتل كلّ منهما الآخر قتالا لا يقاتل العدوّ عدوه بمثل هذا القتال ، وهذا واحد من أسرار تأخرنا في عصرنا هذا.

٤ ـ يستفاد ـ إجمالا ـ من جملة «أتخشونهم» أنّه كان بين المسلمين جماعة يخافون من الاستجابة للأمر بالجهاد ، إمّا لقوّة العدوّ وقدرته ، أو لأنّهم كانوا يعدو نقض العهد ذنبا.

فالقرآن يخاطبهم بصراحة أن لا تخافوا من هؤلاء الضعاف ، بل ينبغي أن تخافوا من عصيان أمر الله. ثمّ إن خشيتكم من نكث الإيمان ونقض العهد ليست في محلها ، فهم الذين نكثوا أيمانهم وهم بدأوكم أوّل مرّة!

٥ ـ يبدو أنّ جملة( هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ ) إشارة إلى مسألة عزمهم على إخراج الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة (عند هجرته إلى المدينة) بادئ الأمر ، إلّا أن نياتهم تغيرت وتبدلت إلى الإقدام على قتله ، إلّا أنّ النّبي غادر مكّة في تلك الليلة بأمر الله.

وعلى كل حال ، فإنّ ذكر هذا الموضوع ليس على سبيل أنّهم نقضوا عهدهم ، بل هو بيان ذكرى مؤلمة من جنايات عبدة الأصنام ، حيث اشتركت قريش والقبائل الأخرى في هذا الأمر. أمّا نقض العهد من قبل عبدة الأصنام المشركين فكان واضحا من طرق أخرى.

٦ ـ ممّا يثير الدهشة والتعجب أنّ بعض أتباع مذهب الجبر يستدل على مذهبه بالآية( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) مع أنّنا لو تجردنا عن التعصب لما وجدنا في الآية أدنى دليل على مرادهم ، وهذا يشبه تماما لو أردنا أن ننجز

٥٤٩

عملا ـ مثلا ـ فنمضي إلى بعض أصدقائنا ونقول له : نأمل أن يصلح الله هذا الأمر على يدك ، فإنّ مفهوم كلامنا هذا لا يعني بأنّك مجبور على أداء هذا الأمر ، بل المراد أنّ الله منحك قدرة ونية طاهرة ، وبالإفادة منهما استطعت أن تؤدي عملك باختيارك وبحرية تامّة.

* * *

٥٥٠

الآية

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) )

التّفسير

في هذه الآية ترغيب للمسلمين في الجهاد عن طريق آخر ، حيث تحمّل الآية المسلمين مسئولية ذات عبء كبير ، وهي أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أن كلّ شيء سيكون تامّا بادعائكم الإيمان فحسب ، بل يتجلى صدق النيّة وصدق القول والإيمان الواقعي في قتالكم الأعداء قتالا خالصا من أي نوع من أنواع النفاق.

فتقول الآية أوّلا :( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) (١) .

و «الوليجة» مشتقة من «الولوج» ومعناه الدخول ، وتطلق الوليجة على من

__________________

(١) «أم» حرف عطف ويعطف بها جملة استفهامية على جملة استفهامية أخرى ، ولهذا فهي تعطي معنى الاستفهام ، غاية ما في الأمر أنّها تأتي بعد جملة استفهامية دائما ، وفي الآية محل البحث عطفت على الجملة «ألا تقاتلون» التي بدئت بها الآية (١٣).

٥٥١

يعتمد عليه في الأسرار ومعناها يشبه معنى البطانة تقريبا.

وفي الحقيقة فإنّ الجملة المتقدمة تنّبه المسلمين إلى أنّ الأعمال لا تكمل بإظهار الإيمان فحسب ، ولا تتجلى شخصية الأشخاص بذلك ، بل يعرف الناس باختبارهم عن طريقين :

الأوّل : الجهاد في سبيل الله لغرض محو آثار الشرك والوثنية.

الثاني : ترك أية علاقة أو أي تعاون مع المنافقين والأعداء.

فالأوّل لدفع العدو الخارجي ، والثّاني يحصّن المجتمع من خطر العدو الداخلي.

وجملة( لَمَّا يَعْلَمِ اللهُ ) التي قد يلاحظ نظيرها في بعض آيات القرآن الأخر ، تعني أن أمركم لم يتحقق بعد ، وبتعبير آخر : إنّ نفي العلم هنا معناه نفي المعلوم ، ويستعمل مثل هذا التعبير في مواطن التأكيد. وإلّا فإنّ الله ـ طبقا للأدلة العقلية وصحيح آيات القرآن الكثيرة ـ كان عالما بكل شيء ، وسيبقى عالما بكل شيء.

وهذه الآية تشبه الآية الأولى من سورة العنكبوت ، إذ تقول :( الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) .

وكما ذكرنا آنفا في تفسيرنا لسورة آل عمران أنّ اختبار الله لعباده ليس لكشف أمر مجهول عنده ، بل هو لتربيتهم ولأجل إنّما الاستعدادات وتجلّي الأسرار الداخلية في الناس.

وتختتم الآية بما يدلّ على الإخطار والتأكيد( وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

فلا ينبغي أن يتصور أحدّ أنّ الله لا يعرف العلائق السرّية بين بعض الأفراد وبين المنافقين ، بل يعرف كل شيء جيدا وهو خبير بالأعمال كلها.

ويستفاد من سياق الآية أن بين المسلمين يؤمئذ من كان حديث العهد بالإسلام ولم يكن على استعداد للجهاد ، فيشمله هذا الكلام أمّا المجاهدون الصادقون فقد بيّنوا مواقفهم في سوح الجهاد مرارا.

* * *

٥٥٢

الآيتان

( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) )

التّفسير

من يعمر مساجد الله؟

من جملة المسائل التي يمكن أن تخالط أذهان البعض بعد إلغاء عهد المشركين وحكم الجهاد ، هو : لم نبعد هذه الجماعة العظيمة من المشركين عن المسجد الحرام لأداء مناسك الحج ، مع أنّ مساهمتهم في هذه المراسم عمارة للمسجد من جميع الوجوه «المادية والمعنوية» إذ يستفاد من إعاناتهم المهمّة لبناء المسجد الحرام ، كما يكون لوجودهم أثر معنوي في زيادة الحاجّ والطائفين حول الكعبة المشرفة وبيت الله.

فالآيتان ـ محل البحث ـ تردّان على مثل هذه الأفكار الواهية التي لا أساس

٥٥٣

لها ، وتصرّح الآية الأولى منهما بالقول :( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) .

وشهادتهم على كفرهم جلية من خلال أحاديثهم وو أعمالهم ، بل هي واضحة في طريقة عبادتهم ومراسم حجّهم.

ثمّ تشير الآية إلى فلسفة هذا الحكم فتقول :( أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) .

ولذلك فهي لا تجديهم نفعا :( وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ ) .

فمع هذه الحال لا خير في مساعيهم لعمارة المسجد الحرام وبنائه وما إلى ذلك ، كما لا فائدة من كثرتهم واحتشادهم حول الكعبة.

فالله طاهر منزّه ، وينبغي أن يكون بيته طاهرا منزّها كذلك ، فلا يصح أن تمسه الأيدي الملوثة بالشرك.

أمّا الآية التّالية فتذكر شروط عمارة المسجد الحرام ـ إكمالا للحديث آنف الذكر ـ فتبيّن خمسة شروط مهمّة في هذا الصدد ، فتقول ،( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) .

وهذا النص إشارة إلى الشرطين الأوّل والثّاني ، اللذين يمثلان الأساس العقائدي ، فما لم يتوفر هذان الشرطان لا يصدر من الإنسان أي عمل خالص نزيه ، بل لو كان عمله في الظاهر سليما فهو في الباطن ملّوث بأنواع الأغراض غير المشروعة.

ثمّ تشير الآية إلى الشرطين الثّالث والرّابع فتقول :( وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ ) .

أي أن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يكفي أن يكون مجرّد ادعاء فحسب ، بل تؤيده الأعمال الكريمة ، فعلاقة الإنسان بالله ينبغي أن تكون قوية محكمة ، وأن يؤدي صلاته بإخلاص ، كما ينبغي أن تكون علاقته بعباد الله وخلقه قوية ، فيؤدي الزكاة إليهم.

٥٥٤

وتشير الآية إلى الشرط الخامس والأخير فتقول :( وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ ) .

فقلبه مليء بعشق الله ، ولا يحسّ إلّا بالمسؤولية في امتثال أمره ولا يرى لأحد من عبيده أثرا في مصيره ومصير مجتمعه وتقدمه ، هم أقل من أن يكون لهم أثر في عمارة محل للعبادة.

ثمّ تضيف الآية معقبة بالقول :( فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) فيبلغون أهدافهم ويسعون لعمارة المسجد.

* * *

ملاحظات

١ ـ ما المراد من العمارة

هل تعني عمارة المسجد بناءه وتأسيسه وترميمه ، أو تعني الاجتماع فيه والمساهمة في الحضور عنده؟!

اختار بعض المفسّرين أحد هذين المعنيين في تفسير «عمارة المسجد» في الآية ـ محل البحث ـ غير أنّ الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه الأمور وما شاكلّها جميعا. فليس للمشركين أن يحضروا في المساجد ، وليس لهم أن يبنوا مسجدا ـ وما إلى ذلك ـ بل على المسلمين أن يقوموا بكل ذلك.

ويستفاد من الآية ـ ضمنا ـ أنّه لا ينبغي للمسلمين أن يقبلوا من المشركين ـ بل جميع الفرق غير الإسلامية ـ هدايا أو إعانات للمساجد وبنائها ، لأنّ الآية الأولى وإن كانت تتكلم على المشركين ، لكنّ الآية الثّانية بدأت بكلمة «إنما» لتدل على أن عمارة مساجد الله خاصّة بالمسلمين.

ومن هنا يتّضح أيضا أنّ متولي المساجد ومسئوليها ينبغي أن يكونوا من أنزه الناس ، ولا ينتخب لهذه المهمّة من لا حريجة له في الدين طمعا في ماله وثروته ، أو مقامه الاجتماعي كما هو الحال في كثير من البلاد ، إذ تولّى مساجدها

٥٥٥

من ليس لها أهلا.

بل يجب ابعاد جميع الأيدي الملوثة عن هذه الأماكن المقدسة.

ومنذ أن تدخل في أمور المساجد والمراكز الإسلامية أو أشرف عليها حكام الجور ، أو الأثرياء المذنبون ، فقدت تلك المساجد والمراكز الإسلامية «حيثيتها» ومكانتها ومسخت مناهجها البنّاءة ، ولذا فنحن نرى كثيرا من هذه المساجد على شاكلة مسجد ضرار.

٢ ـ العمل الخالص ينبع من الإيمان فحسب

قد يتساءل بعضنا قائلا : ما يمنع أن نستعين بأموال غير المسلمين لبناء المساجد وعمارتها؟!

لكن من يسأل مثل هذا السؤال لم يلتفت إلى أنّ الإسلام يعد العمل الصالح ثمرة شجرة الإيمان في كل مكان ، فالعمل ثمرة نيّة الإنسان وعقيدته دائما وهو انعكاس لها ويتخذ شكلهما ولونهما دائما ، فالنيات غير الخالصة لا تنتج عملا خالصا.

٣ ـ الحماة الشجعان

تدل عبارة( وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ ) على أنّ عمارة المسجد المحافظة عليها لا تكون إلّا في ظل الشهامة والشجاعة ، فلا تكون هذه المراكز المقدسة مراكز لبناء شخصية الإنسان وذات منهج تربوي عال إلّا إذا كان بانوها وحماتها رجالا شجعانا لا يخشون أحدا سوى الله ، ولا يتأثرون بأي مقام ، ولا يطبقون منهجا غير المنهج الإلهي.

٤ ـ هل المراد من الآية هو المسجد الحرام فحسب؟!

يعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية محل البحث تختص بالمسجد الحرام ، مع أنّ

٥٥٦

ألفاظ الآية عامّة ، ولا دليل على هذا التخصيص ، وإن كان المسجد الحرام الذي هو أعظم المساجد الإسلامية في مقدمتها ، ويوم نزول الآية كان المسجد الحرام هو محل إشارة الآية ، إلّا أنّ ذلك لا يدلّ على تخصيص مفهوم الآية.

٥ ـ أهمية بناء المساجد

وردت أحاديث كثيرة في أهمية بناء المساجد عن طرق أهل البيت وأهل السنة ، تدلّ على ما لهذا العمل من الشأن الكبير.

فقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنّة»(١) .

كما ورد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه»(٢) .

إلّا أنّ ما هو أكثر أهمية هذا اليوم هو عمارة المسجد المعنوية ، وبتعبير آخر ينبغي أن نهتم بعمارة شخصية الذين يرتادون المسجد وأهله وحفظته اهتمامنا بعمارة المسجد ذاته.

فالمسجد ينبغي أن يكون مركزا لكل تحرك إسلامي فاعل يؤدي إلى إيقاظ الناس ، وتطهير البيئة والمحيط ، وحثّ المسلمين للدفاع عن ميراث الإسلام.

وينبغي الالتفات إلى أن المسجد جدير بأن يكون مركزا للشباب المؤمن ، لا محلا للعجزة والكسالى والمقعدين ، فالمسجد مجال للنشاط الاجتماعي الفعال ، لا مجال العاطلين والبطّالين والمرضى.

* * *

__________________

(١) ورد هذا الحديث في كتاب وسائل الشيعة ، الباب ٨ من أبواب أحكام المساجد كما ورد عن ابن عباس في تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٢١٣.

(٢) كتاب المحاسن ، ص ٥٧ حسب نقل كنز العرفان ، ج ١ ، ص ١٠٨.

٥٥٧

الآيات

( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) )

سبب النّزول

هناك روايات مختلفة في سبب نزول الآيات ـ محل البحث ـ منقولة في كتب أهل السنة والشيعة ، ونورد هنا ما يبدو أكثر صحة.

يروي «أبو القاسم الحسكاني» عالم أهل السنة المعروف ، عن بريدة ، أن «شيبة» و «العباس» كان يفتخر كلّ منهما على صاحبه ، وبينما هما يتفاخران إذ مرّ عليهما علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقال : فيم تتفاخران؟

فقال العباس : حبيت بما لم يحب به أحد وهو سقاية الحاج.

٥٥٨

فقال شيبة : إني أعمر المسجد الحرام ، وأنا سادن الكعبة.

فقال عليعليه‌السلام : على أنّي مستحي منكما ، فلي مع صغر سني ما ليس عندكما. فقالا : وما ذاك؟!

فقال : جاهدت بسيفي حتى آمنتما بالله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فخرج العباس مغضبا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاكيا عليّا فقال : ألا ترى ما يقول؟

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدعو لي عليّا فلمّا جاءه علي قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم كلّمت عمّك العباس بمثل هذا الكلام؟ فقالعليه‌السلام : إذا كنت أغضبته ، فلما بيّنت من الحق ، فمن شاء فليرض بالقول الحق ومن شاء فليغضب.

فنزل جبرئيلعليه‌السلام وقال : يا محمّد ، إنّ ربّك يقرؤك السلام ويقول : اتل هذه الآيات :( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (١) .

وقد وردت هذه الرواية بالمضمون ذاته مع اختلاف يسير في التعابير في كتب كثيرة لأهل السنة ، كتفسير الطبري والثعلبي ، وأسباب النّزول للواحدي وتفسير الخازن البغدادي ، ومعالم التنزيل للعلّامة البغوي ، والمناقب لابن المغازلي ، وجامع الأصول لابن الأثير ، وتفسير الفخر الرازي ، وكتب أخرى.(٢)

وعلى كل حال ، فالحديث آنف الذكر من الأحاديث المعروفة والمشهورة ، التي يقرّبها حتى المتعصبون ، وسنتكلم عنه مرّة أخرى بعد تفسير الآيات.

التّفسير

مقياس الفخر والفضل :

مع أنّ للآيات ـ محل البحث ـ شأنا في نزولها ، إلّا أنّها في الوقت ذاته

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآيات محل البحث.

(٢) لمزيد الإيضاح يراجع كتاب إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ١٢٢ ـ ١٢٧.

٥٥٩

تستكمل البحث الذي تناولته الآيات المتقدمة ، ونظير ذلك كثير في القرآن.

فالآية الأولى من هذه الآيات تقول :( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

«السقاية» لها معنى مصدري وهو إيصال الماء للآخرين ، وكما تعني المكيال ، كما جاء في الآية ٧٠ من سورة يوسف( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ) وتعني الإناء الكبير أو الحوض الذي يصب فيه الماء.

وكان في المسجد الحرام بين بئر زمزم والكعبة محل يوضع فيه الماء يدعى بـ «سقاية العباس» وكان معروفا آنئذ ، ويبدو أنّ هناك إناء كبيرا فيه ماء يستقى منه الحاج يومئذ.

ويحدثنا التأريخ أنّ منصب «سقاية الحاج» قبل الإسلام كان من أهل المناصب ، وكان يضاهي منصب سدانة الكعبة ، وكانت حاجة الحاج الماسة في أيّام الحج إلى الماء في تلك الأرض القاحلة اليابسة المرمضة(١) التي يقل فيها الماء ، وجوّها حار أغلب أيّام السنة ، وكانت هذه الحاجة الماسة تولي موضوع «سقاية الحاج» أهميّة خاصّة ، ومن كان مشرفا على السقاية كان يتمتع بمنزلة اجتماعية نادرة ، لأنّه كان يقدم للحاج خدمة حياتية.

وكذلك «عمارة المسجد الحرام» أو سدانته ورعايته ، كان لها أهميته الخاصّة ، لأنّ المسجد الحرام حتى في زمن الجاهلية كان يعدّ مركزا دينيا ، فكان المتصدي لعمارة المسجد أو سدانته محترما.

ومع كل ذلك فإنّ القرآن يصّرح بأنّ الإيمان بالله وباليوم الآخر والجهاد في سبيل الله أفضل من جميع تلك الأعمال وأشرف.

__________________

(١) «المرمضة» مشتقة من «الإرماض» أي شديدة الحر ، والأرض الرمضاء كذلك : شدية الحر.

٥٦٠

أمّا الآية التالية فتوضح ما أجملته الآية السابقة وتؤكّده بالقول :( الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) .

وأمّا الآية الثّالثة ـ من الآيات محل البحث ـ فتقول : إنّ الله أنعم على المؤمنين والمهاجرون والمجاهدين في سبيله ثلاث مواهب هي :

1 ـ( يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ ) .

2 ـ( وَرِضْوانٍ ) .

23 ـ( وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ ) .

وتعقب الآية الأخيرة لمزيد التوكيد بالقول( خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

* * *

ملاحظتان

1 ـ تحريف التاريخ

كما قرأنا آنفا في شأن نزول الآيات محل البحث ، وطبقا لرواية وردت في كثير من كتب الآيات أهل السنة الشهيرة ، أنّها نزلت في عليعليه‌السلام وبيان فضائله ، على أنّ مفهوم الآيات عام واسع «وقد قلنا مرارا بأن أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآي».

إلّا أنّ بعض مفسّري أهل السنة لم يرغب في أن تثبت للإمام عليعليه‌السلام فضائل بارزة مع اعتقادهم بأنّه رابع خلفاء المسلمين! وكأنّهم خافوا إن أذعنوا لما يجدونه عند عليعليه‌السلام من الفضائل أن يقف الشيعة أمامهم متسائلين : لم قدّمتم على علي غيره؟

فلذلك أغمضوا النظر عن كثير من مناقبه وفضائله ، وسعوا جاهدين لأن

٥٦١

يقدحوا في سند الرواية التي تذكر فضل عليعليه‌السلام على غيره أو في دلالتها.

ويا للأسف ما زال هذا التعصب المقيت ممتدا إلى عصرنا الحاضر ، حتى أنّ بعض علمائهم المثقفين لم يسلموا من هذا الداء الوبيل والتعصب دون دليل!

ولا أنسى المحاورة التي جرت بيني وبين بعض علماء أهل السنة ، إذ أظهر كلاما عجيبا عند ذكرنا لمثل هذه الأحاديث ، فقال : في عقيدتي أنّ الشيعة يستطيعون أن يثبتوا جميع معتقدات مذهبهم «أصولها وفروعها» من مصادرنا وكتبنا ، لأنّ في كتبنا أحاديث كافية لصالح آراء الشيعة وصحة مذهبهم.

إلّا أنّه من أجل أن يريح نفسه من جميع هذه الكتب ، قال : أعتقد أن أسلافنا كانوا حسني الظن ، وقد أوردوا كل ما سمعوه في كتبهم ، فليس لنا أن نأخذ كل ما أوردوه ببساطة!! «طبعا كان حديثه يشمل الكتب الصحاح والمسانيد المعتبرة وما هو عندهم في المرتبة الأولى».

فقلت له : ليس هذا هو الأسلوب في التحقيق ، حيث يعتقد إنسان ما بمذهب معين ، لأنّ آباءه كانوا عليه وورثه عن سلفه ، فما وجده من حديث ينسجم ومذهبه قال : إنّه صحيح ، وما لم ينسجم حكم عليه بعدم الصحة ، لأنّ السلف الصالح كان حسن الظن ، حتى لو كان الحديث معتبرا.

فما أحسن أن نختار أسلوبا آخر للتحقيق بدل ذلك ، وهو أن نتجرّد من عقيدتنا الموروثة ثمّ ننتخب الأحاديث الصحيحة دون تعصب.

ونسأل الآن : لماذا سكتوا عن الأحاديث الشهيرة التي تذكر فضل علي وعلو مقامه ، بل نسوها وربّما طعنوا فيها ، فكأن مثل هذه الأحاديث لا وجود لها أصلا؟

ومع الالتفات إلى ما ذكرناه آنفا ، ننقل كلاما لصاحب تفسير «المنار» المعروف ، إذ أهمل شأن نزول الآيات محل البحث المذكور آنفا ، ونقل رواية لا تنطبق ومحتوى الآيات أصلا ، وينبغي أن نعدّها حديثا مخالفا للقرآن ، فقال عنها : إنّها معتبرة!

٥٦٢

وهي ما نقل عن النعمان بن بشير إذ يقول : كنت جالسا في عدة من أصحاب النّبي إلى جوار منبره ، فقال بعضهم : لا أرى عملا بعد الإسلام أفضل من سقاية الحاج وإروائهم ، وقال الآخر : إنّ عمارة المسجد الحرام أفضل من كل عمل ، فقال الثالث ، في سبيل الله أفضل ممّا قلتما.

فنهاهم عمر عن الكلام وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ـ وكان ذلك اليوم يوم الجمعة ـ ولكنّي سأسأل رسول الله بعد الفراغ من الصلاة ـ صلاة الجمعة ـ في ما اختلفتم فيه.

وبعد أن أتمّ صلاته جاء إلى رسول الله فسأله عن ذلك ، فنزلت الآيات محل البحث(1) .

إلّا أنّ هذه الرّواية لا تنسجم والآيات محل البحث من عدّة جهات ، ونحن نعرف أن كلّ رواية مخالفة للقرآن ينبغي أن تطرح جانبا ويعرض عنها ؛ لأنّه :

أوّلا : لم يكن في الآيات محل البحث قياس ما بين الجهاد وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ، بل القياس ما بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من جهة ، والإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد من جهة أخرى ، وهذا يدل على أن من كان يقوم بمثل السقاية والعمارة في زمان الجاهلية كان يقيس عمله بالإيمان والجهاد. فالقرآن يصرّح بأنّ سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لا يستويان ـ كل منهما ـ مع الإيمان بالله والجهاد في سبيله وليس القياس بين الجهاد وعمران المسجد وسقاية الحاج (لاحظ بدقة).

ثانيا : إنّ جملة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) تدل على أن أعمال الطائفة الأولى كانت معروفة بالظلم ، وإنما يفهم ذلك فيما لو كانت هذه الأعمال صادرة في حال الشرك ، لإنّ القرآن يقول( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (2) .

__________________

(1) تفسير المنار ، ج 10 ، ص 215.

(2) سورة لقمان : الآية 13.

٥٦٣

ولو كان القياس بين الإيمان وسقاية الحاج المقرونة بالإيمان والجهاد ، لكانت جملة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) لغوا ـ والعياذ بالله ـ لأنّها حينئذ لا مفهوم لها هنا.

ثالثا : إنّ الآية الثّانية ـ محل البحث ـ التي تقول( الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ) مفهومها أن أولئك أفضل وأعظم درجة ممن لم يؤمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا في سبيل الله ، وهذا المعنى لا ينسجم وكلام النعمان ـ آنف الذكر ـ لأنّ المتكلمين وفقا لحديثه كلهم مؤمنون ولعلهم أسهموا في الهجرة والجهاد.

رابعا : كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إقدام المشركين على عمارة المساجد وعدم جواز ذلك :( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ) والآيات محل البحث تعقب على الموضوع ذاته ، ويدل هذا الأمر على أن موضوع الآيات هو عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج حال الشرك ، وهذا لا ينسجم ورواية النعمان.

والشيء الوحيد الذي يمكن أن يستدل عليه هو التعبير ب( أَعْظَمُ دَرَجَةً ) حيث يدل على أن الطرفين المقيسين كل منهما حسن بنفسه ، وإن كان أحدهما أعظم من الآخر.

إلّا أنّ الجواب على ذلك واضح ، لأنّ أفعل التفضيل غالبا تستعمل في الموازنة بين أمرين ، أحدهما واجد للفضيلة والآخر غير واجد ، كأن يقال مثلا : الوصول متأخرا خير من عدم الوصول ، فمفهوم هذا الكلام لا يعني أن عدم الوصول شيء حسن ، لكن الوصول بتأخير أحسن.

أو أننا نقرأ في القرآن( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) أي من الحرب [سورة النساء الآية 28] فهذا لا يعني أنّ الحرب شيء حسن.

أو نقرأ مثلا( وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ ) [سورة البقرة الآية 221] ترى

٥٦٤

هل المشرك حسن وفيه خير؟!

أو نقرأ في سورة التوبة ذاتها (الآية 108)( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) أي أحق من مسجد ضرار الذي بناه المنافقون للعبادة ، مع أننا نعرف أن العبادة في مسجد ضرار ليست بحق أبدا ، فنظير هذه التعابير في القرآن واللغة العربية ، بل في سائر اللغات كثير.

من مجموع ما ذكرناه نستنتج أن رواية النعمان بن بشير لأنّها مخالفة لمحتوى القرآن ينبغي أن تطرح وتنبذ جانبا ، وأن نأخذ بما ينسجم وظاهر الآي ، وهو ما قدمناه بين يدي تفسير هذه الآيات ، على أنّه سبب لنزولها ، وأنّه لفضيلة كبرى لإمام الإسلام العظيم عليعليه‌السلام .

نسأل الله أن يثبت أقدامنا على متابعة الحق وأهله من الأئمّة الصالحين ، وأن يجنبنا التعصب ، ويفتح أبصارنا وأسماعنا وأفكارنا لقبول الحق.

2 ـ ما هو مقام الرضوان؟

يستفاد من الآيات ـ محل البحث ـ أنّ مقام الرضوان الذي هو من أعظم المواهب التي يهبها الله المؤمنين والمجاهدين في سبيله ، هو شيء غير الجنات والنعيم المقيم وغير رحمته الواسعة.

وسنتناول بيان هذا الموضوع ذيل الآية (72) من هذه السورة ، في تفسير جملة( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) إن شاء الله.

* * *

٥٦٥

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) )

التّفسير

كلّ شيء فداء للهدف :

إنّ آخر وسوسة أو ذريعة يمكن أن يتذرع بها جماعة من المسلمين للامتناع عن جهاد المشركين (وفعلا فقد تذرع بعضهم وفقا لما ورد في قسم من التفاسير) بأن من بين المشركين وعبدة الأوثان أقارب لهم ، فقد يسلم الأب ويبقى ولده في الشرك على حاله ، وقد يقع العكس إذ يخطو الابن نحو توحيد الله ويبقى أبوه مشركا ، وهذه الحالة ربّما كانت موجودة بين الأخ وأحيه ، والزوج

٥٦٦

وزوجه ، والفرد وعشيرته أو قبيلته ، وهكذا.

فإذا كان القرار أن يجاهد الجميع المشركين فلا بدّ أن يغمضوا أعينهم عن أرحامهم وأقاربهم وعشيرتهم إلخ. هذا كلّه من جهة.

ثمّ ومن جهة أخرى كانت رؤوس الأموال والقدرة التجارية بيد المشركين تقريبا ، ولهذا يسبب تردد المشركين إلى مكّة ازدهار التجارة.

ومن جهة ثالثة كان للمسلمين في مكّة بيوت عامرّة نسبيا ، فإذا قاتلوا المشركين فمن المحتمل أن يهدمها المشركون ، أو تفقد قيمتها إذا عطل المشركون مراسم الحاج ومناسكه بمكّة.

فالآيتان ـ محل البحث ـ ناظرتان إلى مثل هؤلاء الأشخاص ، وتردّان عليهم ببيان صريح ، فتقول الآية الأولى منهما :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ ) .

ثمّ تعقب ـ على وجه التأكيد ـ مضيفة :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

وأي ظلم أسوأ من أن يظلم الإنسان نفسه بتعلقه بأعداء الحق والمشركين ، ويظلم مجتمعه ، ويظلم نبيّه أيضا؟!

أمّا الآية التالية فهي تتناول هذا الموضوع بنحو من التفصيل والتأكيد والتهديد والتقريع ، فتخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعنف أولئك الذين لا يرغبون في جهاد المشركين لما ذكرناه آنفا ، فتقول( قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) .

ولما كان ترجيح مثل هذه الأمور على رضا الله والجهاد في سبيله ، يعدّ نوعا من العصيان والفسق البيّن ، وإن من تشبث قلبه بالدنيا وزخرفها وزبرجها غير جدير بهداية الله ، فإنّ الآية تعقب في الختام قائلة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

٥٦٧

الْفاسِقِينَ ) .

وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي في شأن الآيتين ما يلي : «لما أذّن أمير المؤمنين أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك ، جزعت قريش جزعا شديدا ، وقالوا : ذهبت تجارتنا وضاعت علينا وخربت دورنا ، فأنزل الله في ذلك قل (يا محمّد) إلخ والآيتان ـ محل البحث ـ ترسمان خطوط الإيمان الأصيل وتميزانها عن الإيمان المبطن بالشرك والنفاق.

كما أنّهما تضعان حدا فاصلا بين المؤمنين الواقعيين وبين ضعاف الإيمان ، وتقول إحداهما بصراحة : إن كانت هذه الأمور الثمانية «في الحياة المادية» التي يتعلق أربعة منها بالأرحام والأقارب( آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ ) .

ويتعلق قسم منها بالمجتمع و «العشيرة».

والقسم السّادس يرتبط بالمال.

والسابع بالتجارة والاكتساب.

وأمّا الثامن ـ وهو الأخير ـ فيتعلق بالمساكن ذات الأناقة «ومساكن ترضونها».

فإذا كانت هذه الأمور الثمانية ـ المذكورة آنفا ـ أغلى وأعزّ وأحب عند الإنسان من الله ورسوله ، والجهاد في سبيله وامتثال أوامره ، حتى أن الإنسان لا يكون مستعدا بالتضحية بتلك الأمور الثمانية من أجل الله والرّسول والجهاد ، فيتّضح أن إيمانه الواقعي لم يكمل بعد!

فحقيقة الإيمان وروحه وجوهره ، كل ذلك يتجلّى بالتضحية بمثل هذه الأمور من دون تردد.

أضف إلى ذلك ، فإن من لم يكن مستعدا للتضحية بمثل تلك الأمور ، فقد ظلم

٥٦٨

نفسه ومجتمعه في الواقع ، كما أنّه سيقع في ما كان يخاف من الوقوع فيه لأنّ الأمّة التي تتلكأ في اللحظات الحساسة من تأريخها المصيري ، وفي المآزق الحاسمة ، فلا يضحي أبناؤها بمثل ذلك ، فستواجه الهزيمة عاجلا أو آجلا ، وسيتعرض كلّ ما تعلقت القلوب به فلم تجاهد من أجله الى خطر الضياع والتلف بيد الأعداء.

* * *

ملاحظات

1 ـ ما قرأناه في الآيتين ـ محل البحث ـ ليس مفهومه قطع علائق المحبة بالأرحام ، وإهمال رؤوس الأموال الاقتصادية ، والانسياق إلى تجاوز العواطف الإنسانية وإلغائها ، بل المراد من ذلك أنّه ينبغي أن لا ننحرف عند مفترق الطرق إلى الأموال والأزواج والأولاد والدور والمقام الدنيوي ، بحيث لا نطبّق في تلك الحالة حكم الله ، أو لا نرغب في الجهاد ، ويحول عشقنا المادي دون تحقيق الهدف المقدس.

لهذا يلزم على الإنسان إذا لم يكن على مفترق الطرق أن يرعى الجانبين «العلاقة بالله والعلاقة بالرحم».

فنحن نقرأ في الآية (15) من سورة لقمان ، قوله تعالى في شأن الأبوين المشركين( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) .

2 ـ إنّ أحد تفاسير جملة( فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) ما أشرنا إليه آنفا ، وهو التهديد من قبل الله لأولئك الذين يقدّمون منافعهم المادية ويفضلونها على رضا الله ، ولما كان هذا التهديد مجملا كان أثره أشدّ وحشة وإشفاقا ، وهذا التعبير يشبه قول من يكلم صاحبه الذي دونه وتحت أمره ، فيقول له : إذا لم تفعل ما

٥٦٩

أمرتك ، فسأقوم بما ينبغي أيضا.

وهناك احتمال آخر لتفسير الجملة ـ محل البحث ـ وهو أنّ الله سبحانه يقول : إذا لم تكونوا مستعدين للتضحية ، فإنّ الله يفتح لنبيّه عن طريق آخر. وكيف شاء ، إذ ليس ذلك بعسير عليه. ونظير هذا المعنى ما جاء في الآية (54) من سورة المائدة ، إذ نقرأ فيها( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) .

الماضي والحاضر مرهونان بهذا الأمر :

3 ـ قد يتصور بعضهم بأنّ ما جاء في الآيتين يخص صدر الإسلام والتاريخ الماضي ، إلّا أنّ ذلك خطأ كبير ، فالآيتان تستوعبان حاضر المسلمين ومستقبلهم أيضا.

فإذا قدّر للمسلمين أن لا يضحوا بأموالهم وأنفسهم وأولادهم ودورهم إلخ في سبيل الله ، ولا يكون لهم إيمان متين ، ويفضلون الأمور المادية على رضا الله ، وتبقى قلوبهم متعلقة بالمال والأولاد وزبارج الدنيا ، فيكون مستقبلهم مظلما ، لا مستقبلهم فحسب ، بل حتى يومهم هذا ، ففي مثل هذا الحال سيحدق بهم الخطر وسيفقدون موروثهم الحضاري ، وتكون مصادر حياتهم بأيدي الأجانب ويفقدون معنى الحياة ، لأن الحياة هي حياة الإيمان والجهاد في ظل الإيمان.

فعلينا أن نغرس مدلول هاتين الآيتين في قلوب أطفال المسلمين وشبابهم ونجعله شعارا لنا ، ونحيي في نفوس المسلمين روح التضحية والجهاد ، ليحافظوا على ثقافتهم وموروثهم المعرفي.

* * *

٥٧٠

الآيات

( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) )

التّفسير

الكثرة وحدها لا تجدي نفعا :

في الآيات المتقدمة رأينا أنّ الله سبحانه يدعوا المسلمين إلى التضيحة والجهاد على جميع الصعد في سبيل الله وقلع جذور الشرك وعبادة الأوثان ، ويهدد بشدّة من يتقاعس منهم عن الجهاد والتضحية بسبب التعلق بالأزواج والأولاد والأرحام والعشيرة والمال والثروة.

أمّا الآيات محل البحث فتشير إلى مسألة مهمّة ، وهي أنّ على كل قائد أن ينّبه أتباعه في اللحظات الحساسة بأنّه إذا كان فيهم بعض الأشخاص من ضعاف

٥٧١

الايمان والذين يحجبهم التعلّق بالمال والولد والأزواج وما إلى ذلك عن الجهاد في سبيل الله ، فلا ينبغي أن يقلق المؤمنون المخلصون من هذا الأمر ، وعليهم أن يواصلوا طريقهم ، لأنّ الله لم يتخلّ عنهم يوم كانوا قلة ، كما هو الحال في معركة بدر ، ولا يوم كانوا كثرة ـ ملء العين (كما في معركة حنين) وقد أعجبتهم الكثرة فلم تغن عنهم شيئا ، لكن الله سبحانه أنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، فالله في الحالين ينصر المؤمنين ويرسل إليهم مدده لهذا فإن الآية الأولى من الآيات محل البحث تقول( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) .

والمواطن جمع الموطن ، ومعناه المحل الذين يختاره الإنسان للسكن الدائم ، أو المؤّقت ، إلّا أن من معانيه أيضا ساحة الحرب والمعركة ، وذلك لأنّ المقاتلين يقيمون في مكان الحرب مدّة قصيرة أو طويلة أحيانا.

ثمّ تضيف الآية معقبة( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) وكان جيش المسلمين يوم حنين زهاء اثني عشر ألفا ، وقال بعض المؤرخين : كانوا عشرة آلاف أو ثمانية آلاف ، غير أنّ الرّوايات المشهورة تؤيد ما ذكرناه آنفا ، إذ تقول : إنّهم كانوا اثني عشر ألفا ، وهذا الرقم لم يسبق له مثيل في الحروب الإسلامية قبل ذلك الحين ، حتى اغترّ بعض المسلمين وقالوا : «لن نغلب اليوم».

إلّا أنّه ـ كما سنبيّن الموضوع في الحديث على غزوة حنين ـ قد فرّ كثير من المسلمين ذلك اليوم ، لكونهم جديدي عهد بالإسلام ولم يتوغل الإيمان في قلوبهم فانكسر جيش المسلمين في البداية وكاد العدوّ أن يغلبهم لولا أن الله أنزل بلطفه مدده وجنوده فنجّاهم.

ويصور القرآن هذه الهزيمة بقوله( وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) .

٥٧٢

وفي هذه اللحظات الحساسة حيث تفرق جيش الإسلام هنا وهناك ، ولم يبق مع النّبي إلّا القلة ، وكان النّبي مضطربا ومتألّما جدّا لهذه الحالة نزل التأييد الإلهي :( ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ) .

وكما قلنا في حديثنا عن غزوة بدر في ذيل الآيات الخاصّة بها ، أن نزول هذه الجنود غير المرئية كان لشدّ أزر المسلمين وتقوية معنوياتهم ، وإيجاد روح الثبات والاستقامة في نفوسهم وقلوبهم ، ولا يعني ذلك اشتراك الملائكة والقوى الغيبية في المعركة(1) .

ويذكر القرآن النتيجة النهائية لمعركة حنين الحاسمة فيقول( وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ) .

وكان هذا العذاب والجزاء أن قتل بعض الكافرين ، وأسر بعضهم ، وفرّ بعضهم إلى مناطق بعيدة عن متناول الجيش الاسلامي.

ومع هذا الحال فإنّ الله يفتح أبواب توبته للأسرى والفارين من الكفّار الذين يرغبون في قبول مبدأ الحق «الإسلام» لهذا فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقول :( ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وجملة «يتوب» التي وردت بصيغة الفعل المضارع ، والتي تدل على الاستمرار ، مفهومها أن أبواب التوبة والرجوع نحو الله مفتوحة دائما بوجه التائبين.

* * *

__________________

(1) لمزيد من الإيضاح يراجع تفسير الآيات 9 ـ 12 من هذا الجزء نفسه.

٥٧٣

ملاحظات

1 ـ غزوة حنين ذات العبرة

«حنين» منطقة قريبة من الطائف ، وبما أنّ الغزوة وقعت هناك فقد سميّت باسم المنطقة ذاتها ، وقد عبّر عنها في القرآن بـ «يوم حنين» ولها من الأسماء ـ غزوة أوطاس ، وغزوة هوازن أيضا.

أمّا تسميتها بأوطاس ، فلأن «أوطاس» أرض قريبة من مكان الغزوة ـ وأمّا تسميتها بهوازن ، فلأن إحدى القبائل التي شاركت في غزوة حنين تدعى بهوازن.

أمّا كيف حدثت هذه الغزوة ، فبناء على ما ذهب إليه ابن الأثير في الكامل ، أن هوازن لمّا علمت بفتح مكّة ، جمع القبيلة رئيسها مالك بن عوف وقال لمن حوله : من الممكن أن يغزونا محمّد بعد فتح مكّة ، فقالوا : من الأحسن أن نبدأه قبل أن يغزونا.

فلما بلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر المسلمين أن يتوجهوا إلى أرض هوازن(1) .

وبالرغم من عدم الاختلاف بين المؤرخين في شأن هذه الغزوة والمسائل العامّة فيها ، إلّا أنّ في جزئياتها روايات متعددة لا يكاد بعضها ينسجم مع الآخر ، وما ننقله هنا فقد اقتضبناه عن مجمع البيان للعلامة الطبرسي ، بناء على روايته القائلة : إنّ رؤساء طائفة هوازن جاءوا إلى مالك بن عوف واجتمعوا عنده في أخريات شهر رمضان أو شوال في السنة الثامنة للهجرة ، وكانوا قد جاءوا بأموالهم وأبنائهم وأزواجهم لئلا يفكر أحدهم بالفرار حال المعركة ، وهكذا فقد وردوا منطقة أوطاس.

فعقد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواءه ، وسلمّه عليّاعليه‌السلام وأمر حملة الرايات الذين ساهموا في فتح مكّة أن يتوجهوا براياتهم ذاتها مع علي بن أبي طالب إلى حنين ، واطّلع

__________________

(1) راجع الكامل لابن الأثير ، ج 2 ، ص 261 ، نقلنا القصة بشيء من الاختصار.

٥٧٤

النّبي أن صفوان بن أمية لديه دروع كثيرة ، فأرسل النّبي إليه أن أعرنا مائة درع ، فقال صفوان : أتريدونها عارية أم غصبا؟ فقال النّبي : بل عارية نضمنها ونعيدها سالمه إليك ، فأعطى صفوان النّبي مائة درع على أنّها عارية ، وتحرك مع النّبي بنفسه إلى حنين.

وكان ألفا شخص قد أسلم في فتح مكّة ، فأضيف عددهم إلى العشرة آلاف الذين ساهموا في فتح مكّة ، وصاروا حوالي اثني عشر ألفا ، وتحركوا نحو حنين.

فقال مالك بن عوف ـ وكان رجلا جريئا شهما ـ لقبيلته : اكسروا أغماد سيوفكم ، واختبئوا في كهوف الجبال والوديان وبين الأشجار ، واكمنوا لجيش الإسلام ، فإذا جاءوكم الغداة «عتمة» فاحملوا عليهم وأبيدوهم.

ثمّ أضاف مالك بن عوف قائلا : إن محمّدا لم يواجه حتى الآن رجال حرب شجعانا ، ليذوق مرارة الهزيمة!!

فلما صلّى النّبي صلاة الغداة «الصبح» بأصحابه أمر أن ينزلوا إلى حنين ، ففوجئوا بهجوم هوازن عليهم من كل جانب وصوب ، وأصبح المسلمون مرمى لسهامهم ، ففرّت طائفة من المقاتلين جديدي الإسلام (بمكّة) من مقدمة الجيش ، فكان أن ذهل المسلمون واضطروا وفرّ الكثير منهم.

فخلّى الله بين جيش المسلمين وجيش العدو ، وترك الجيشين على حالهما ، ولم يحم المسلمين لغرورهم ـ مؤقتا ـ حتى ظهرت آثار الهزيمة فيهم.

إلّا أنّ عليّا حامل لواء النّبي بقي يقاتل في عدّة قليلة معه ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (قلب) الجيش وحوله بنو هاشم ، وفيهم عمه العباس ، وكانوا لا يتجاوزون تسعة أشخاص عاشرهم أيمن ابن أم أيمن.

فمرّت مقدمة الجيش في فرارها من المعركة على النّبي فأمر النّبي عمّه العباس ـ وكان جهير الصوت ـ أن يصعد على تل قريب وينادي فورا : يا معشر المهاجرين والأنصار ، يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة ، إلى أين

٥٧٥

تفرّون؟ هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلمّا سمع المسلمون صوت العباس رجعوا وقالوا : لبيّك لبيّك ، ولا سيما الأنصار إذ عادوا مسرعين وحملوا على العدوّ من كل جانب حملة شديدة ، وتقدّموا بأذن الله ونصره ، بحيث تفرقت هوازن شذر مذر مذعورة ، والمسلمون ما زالوا يحملون عليها. فقتل حوالي مائة شخص من هوازن ، وغنم المسلمون أموالهم كما أسروا عدّة منهم(1) .

ونقرأ في نهاية هذه الحادثة التأريخية أن ممثلي هوازن جاءوا النّبي وأعلنوا إسلامهم ، وأبدى لهم النّبي صفحه وحبّه ، كما أسلم مالك بن عوف رئيس القبيلة ، فردّ النّبي عليه أموال قبيلته وأسراه ، وصيره رئيس المسلمين في قبيلته أيضا.

والحقيقة أنّ السبب المهم في هزيمة المسلمين بادئ الأمر ـ بالإضافة إلى غرورهم لكثرتهم ـ هو وجود ألفي شخص ممن أسلم حديثا وكان فيهم جماعة من المنافقين طبعا ، وآخرون كانوا قد جاءوا مع النّبي لأخذ الغنائم ، وجماعة منهم كانوا بلا هدف ، فأثر فرار هؤلاء في بقية الجيش.

أمّا السرّ في انتصارهم النهائي فهو وقوف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليعليه‌السلام وجماعة قليلة من الأصحاب ، وتذكرهم عهودهم السابقة وإيمانهم بالله والركون إلى لطفه الخاص ونصره.

2 ـ من هم الفارّين

ممّا لا شك فيه أنّ الأكثرية الساحقة فرّب بادئ الأمر من ساحة المعركة ، وما تبقى منهم كانوا عشرة فحسب ، وقيل أربعة عشر شخصا ، وأقصى ما أوصل عددهم المؤرخون لم يتجاوزوا مائة شخص.

ولما كانت الرّوايات المشهورة تصّرح بأن من بين الفارين الخلفاء الثلاثة ،

__________________

(1) مجمع البيان ، ج 5 ، ص 17 ـ 19.

٥٧٦

فإنّ بعض المفسّرين سعى لأن يعدّ هذا الفرار أمرا طبيعيا.

يقول صاحب تفسير المنار ما ملخصه : لما رشق العدوّ المسلمين بسهامه ، كان جماعة قد التحقوا بالمسلمين من مكّة ، وفيهم المنافقون وضعاف الإيمان والطامعون «للغنائم» ففرّ هؤلاء جميعا وتقهقروا إلى الخلف ، فاضطرب باقي الجيش طبعا ، وحسب العادة ـ لا خوفا ـ فقد فرّوا أيضا ، وهذا أمر طبيعي عند فرار طائفة فإنّه يتزلزل الباقي منهم فيفر أيضا ـ ففرارهم لا يعني ترك النّبي وعدم نصرته أو تسليمه بيد عدوه ، حتى يستحقوا غضبالله!!(1)

ونحن لا نعلّق على هذا الكلام ، لكن نتركه للقراء ليحكموا فيه حكمهم.

كما ينبغي أن نذكر هذه المسألة وهي أنّ «صحيح البخاري» حين يتكلم عن الهزيمة وفرار المسلمين ينقل ما يلي :

فإذا عمر بن الخطاب في الناس ، وقلت : (الراوي) : ما شأن الناس؟ قال : أمر الله ، ثمّ تراجع الناس إلى رسول الله(2) .

غير أننا تجرّدنا من الأحكام المسبقة ، والتفتنا إلى القرآن الكريم ، وجدناه لا يذم جماعة بعينها ، بل يذم جميع الفارين.

ولا ندري ما الفرق بين قوله تعالى( ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) حيث قرأنا هذه العبارة في الآيات محل البحث ، وبين عبارة أخرى وردت في الآية (16) من سورة الأنفال إذ تقول( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ) ؟!

فبناء على ذلك لو ضممنا الآيتين بعضهما إلى بعض لعرفنا أنّ المسلمين ارتكبوا خطأ كبيرا يومئذ إلّا القليل منهم ، غاية ما في الأمر أنّهم تابوا بعدئذ ورجعوا.

__________________

(1) راجع تفسير المنار ، وإقرار التفصيل فيه ، ج 1 ، الصفحات 262 و 263 و 265.

(2) المصدر السابق.

٥٧٧

3 ـ الإيمان والسكينة

السكينة في الأصل مأخوذة من السكون ، وتعني نوعا من الهدوء أو الاطمئنان الذي يبعد كل نوع من أنواع الشك والخوف والقلق والاستيحاش عن الإنسان ، ويجعله راسخ القدم بوجه الحوادث الصعبة والملتوية. والسكينة لها علاقة قربى بالإيمان ، أي أنّ السكينة وليدة الإيمان ، فالمؤمنون حين يتذكرون قدرة الله التي لا غاية لها ، ويتصورون لطفه ورحمته يملأ قلوبهم موج الأمل ويغمرهم الرجاء.

وما نراه من تفسير السكينة بالإيمان في بعض الرّوايات(1) ، أو بنسيم الجنّة متمثلا في صورة إنسان(2) كل ذلك ناظر إلى هذا المعنى.

ونقرأ في القرآن في الآية (4) من سورة الفتح قوله تعالى :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) .

وعلى كل حال فهذه الحالة نفسية خارقة للعادة ، وموهبة إلهية بحيث يستطيع الإنسان أن يهضم الحوادث الصعبة ، وأن يحس في نفسه عالما من الدعة والاطمئنان برغم كلّ ما يراه.

وممّا يسترعي النظر أن القرآن ـ في الآيات محل البحث ـ لا يقول : ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعليكم ، مع أنّ جميع الجمل في الآية تحتوي على ضمير الخطاب (كم) ، بل تقول الآية( عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) وهي إشارة إلى أن المنافقين وأهل الدنيا والذين كانوا مع النّبي في المعركة لم ينالوا سهما من السكينة والاطمئنان ، بل كانت السكينة من نصيب المؤمنين فحسب.

ونقرأ في بعض الرّوايات أن نسيم الجنّة هذا كان مع أنبياء الله ورسله(3) ،

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 114.

(2) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 201.

(3) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 112.

٥٧٨

فلذلك كانوا ـ في الحوادث الصعبة التي يفقد فيها كل إنسان توازنه إزاءها ـ أصحاب عزم راسخ وسكينة واطمئنان ، وإرادة حديدية لا تقبل التزلزل.

وكان نزول السكينة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة حنين ـ كما ذكرنا آنفا ـ لرفع الاضطراب الناشئ من فرار أصحابه من المعركة ، وإلّا فهو كالجبل الشامخ الركين ، وكذلك ابن عمّه عليعليه‌السلام وقلة من أصحابه (المسلمين).

4 ـ في الآيات محل البحث إشارة إلى أنّ الله نصر المسلمين في مواطن كثيرة!

هناك كلام كثير بين المؤرخين حول عدد مغازي النّبي وحروبه ، التي أسهم فيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصيّا ، وقاتل الأعداء ، أو حضرها دون أن يقاتل بنفسه ، أو الحروب التي وقف فيها المسلمون بوجه أعدائهم ولم يكن الرّسول حاضرا في المعركة.

إلّا أنّه يستفاد من بعض الرّوايات التي وصلتنا عن طرق أهل البيتعليهم‌السلام أنّها تبلغ الثمانين غزوة.

وقد ورد في كتاب (الكافي) أن أحد خلفاء بني العباس كان قد نذر مالا كثيرا إن هو عوفي من مرضه «ويقال أنّه قد سمّ» ، فلما عوفي جمع الفقهاء الذين كانوا عنده ، فسألهم عن المال الذي يجب أداؤه لإيفاء نذره ، فلم يعرفوا للمسألة جوابا. وأخيرا سأل الخليفة العباسي الإمام التاسع محمّد بن علي الجوادعليه‌السلام فقال : «الكثير ثمانون».

فلمّا سألوه عن دليله في ذلك استشهد الإمام بالآية( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) ثمّ قال : عددنا حروب النّبي التي انتصر فيها المسلمون على أعدائهم فكانت ثمانين(1) .

5 ـ إن ما ينبغي على المسلمين أن يعتبروا به ويلزمهم أن يأخذوا منه درسا

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 197.

٥٧٩

بليغا ، هو أن ينظروا إلى الحوادث التي هي على شاكلة حادثة حنين ، فلا يغتروا بكثرة العدد أو العدد ، فالكثرة وحدها لا تغني شيئا ، بل المهم في الأمر وجود المؤمنين الراسخين في الإيمان ، ذوي الإرادة والتصميم ، حتى لو كانوا قلة.

كما أنّ طائفة قليلة استطاعت أن تغير هزيمة حنين إلى انتصار على العدو وكانت الكثيرة بادئ الأمر سبب الهزيمة ، لأنّها لم تنصهر بالإيمان تماما.

فالمهم أن يتوفر في مثل هذه الحوادث أناس مؤمنون ذوو استقامة وتضحية ، لتكون قلوبهم مركزا للسكينة الإلهية ، وليكونوا كالجبال الراسخة بوجه الأعاصير المدمرة.

* * *

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606