الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245183 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

من تعاملهم مع الهنود الحمر في امريكا ، ولو تجاوزنا بعض المظالم والضغوطات التي قمنا بها في حروبنا غير المشروعة ضدهم ، فأن تعاملنا ( شعوب اوروبا ) مع شعوب الشرق يبقىٰ باعثاً علىٰ العداء والبغضاء ، فلو لم يستطع الاوروبيون الاستفادة مباشرة من الشرقيين كما حصل في الهند ، حيث كانوا لا يبقون لهم الّا ما يسدون به رمقهم ، بأسم الضرائب ، فقد كانوا يحصلون منهم الاموال من خلال تجارة غير مشروعة ومضاربات مالية ، ومن هنا يتّضح حجم الانحطاط الاخلاقي الذي وصل اليه الاوروبيون ، ولو اردنا محاكمة التجّار الاوروبيون علىٰ ضوء قانونهم التجاري لما نجىٰ إلّا القليلين منهم من اشد العقوبات ».

حرب الافيون في الصين

ثم يقول الدكتور لوبون :

« ومن الصفحات السوداء في تاريخ اوروبا ، تلك التي تختص بالعلاقة مع الصين في القرن التاسع عشر ، ولربما ينال احفادنا يوماً ما عقاب ما فعلناه هناك علىٰ يد الصينيين(1) ، فما هو تعليق الشعوب الاوروبية علىٰ الحرب المدمرة التي تعرف بحرب الافيون ، حيث قام الانجليز بادخال سمّ قاتل ( الترياق ) الىٰ الصين ، فعارضت الحكومة الصينية آنذاك هذا العمل لكن الانجليز اجبروهم علىٰ الاستسلام والقبول في النهاية بالقوة ومن خلال دوي ________________

(1) ونحن أيضاً ننتظر ذلك اليوم ، حيث تنتقم الشعوب المستضعفة ، وليس الشعب الصيني فقط ، منهم ان شاء الله.

٢٢١

المدافع ، وصحيح ان بريطانيا تجني حالياً مائة وخمسين مليون جنيه في السنة من تجاره ( الترياق ) ، لكنه وحسب الاحصائية التي قام بها حديثاً الدكتور كريستليب(1) فأن هذا الترياق ينتهي بستمائة الف صيني سنوياً الىٰ خشبة الاعدام ، وحرب الترياق المدمرة مثال يحتفظ به الصينيون علىٰ وحشية الاوروبيين وانحطاطهم الاخلاقي ، وهو ما سينقلونه لأجيالهم اللاحقة أيضاً(2) فعندما كان المبشرون الانجليز يدعون الصينيين الىٰ النصرانية ، كان جوابهم : سبجان الله ! انكم تسمّونا اولاً وتقتلوننا وبعد ذلك تعطونا دروساً في التقوىٰ والعفة.

وبعد ان ينقل الدكتور لوبون حديثاً عن السيد ششوار(3) في بعض الصينيين والهنود للاوروبيين ، يضيف :

« تعاملنا مع شعوب الشرق ، يعطيعم الحق في بعضنا والعداء لنا ، فكلما تصورت نفسي شرقياً لا اجد تردداً في اظهار ذلك البغض والعداء للاوروبيين ، فحتىٰ لو اظهرنا نحن الاوروبيين الامانة والصدق حالياً في جميع معاملاتنا مع شعوب الشرق ، يبقىٰ من مصلحة الشرق ان يقطع كل علاقة له بالقرب مع الغرب ويكمل الجدار القديم الذي بناه ذلك الملك العاقل علىٰ حدود الصين ».

________________

(1) Dr. Chritlieb

(2) يجب ان نشكر الشعب الصيني الذي وصفهم بالوحوش والبرابرة ، في حين ان بعض ابناء شعبنا ورغم المآسي التي لحقت بهم من الاوروبيين وهي اخطر مئات المرات من حرب الافيون ، لا يزالون يعبدونهم مثل الاصنام.

3 ـ Mr. Rochechouart

٢٢٢

كان ذلك اعترافاً من اشهر علماء اوروبا المنصف الدكتور لوبون ، ويظهر منه المستوىٰ الذي وصل اليه ظلم الغرب واعتداءاته علىٰ الشعوب والدول المستضعفة التي تطالب بأستقلالها وحقوقها ، اجل هؤلاء السارقون الدوليون والمدججون بالسلاح والتكنولوجيا والسباع الضارية ، هم انفسهم الذين يعتبرون قطع يد السارق عقاباً له عملاً وحشياً خلافاً للعواطف الانسانية !

سعادة الدكتور ، هذه بضع نماذج قدمتها لكم عن قوانين الاسلام العظيم ، واعتذر لضيق المجال عن ذكر جميع القوانين التي اتىٰ بها الاسلام ، ومقارنتها بالقوانين الوضعية التي تحكم عالمنا المعاصر.

فهذه القوانين السامية هي التي ادت الىٰ انتشار الاسلام بسرعة بين الناس في عالم الامس وعالم اليوم ، كما ان دقتها العلمية هي التي جعلت كبار علماء العالم يسلمون امام عظمة نبي الاسلام الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته.

٢٢٣

البحث في قوانين الاسلام العسكرية

العقيد : ما ارودتموه في اثبات قوة القوانين الاسلامية من الناحية العلمية وفي جميع شؤون الحياة المادية والمعنوية ، قياساً بقوانين عالم اليوم ، مقنع جداً ، لكن الجزء الذي ارأىٰ صعوبة في قبوله من كلامكم ، هو ان القوانين الاسلامية المحيّرة للعقول هي العامل الوحيد في التقدّم السريع الذي كان للاسلام في عالم الامس وانتشاره في عالم اليوم ، لأنه والحق يقال ، وكما اشار الىٰ ذلك الكثير من المبشرين المسيحيين فان الحروب الكثيرة التي خاضها المسلمون ، لعبت دوراً كبيراً وهاماً في تقدم الاسلام وانتشاره.

الشيخ : سيادة العقيد ! ان الذين يرون ان الاسلام انتشر بالسيف ، أمّا ان يكونوا من اعداء الاسلام أو أنَّهم ممن يجهلون البرنامج العسكري والحربي للاسلام ، ولا يدركون الهدف الاساسي الذي ينشده المسلمون من الحرب ، ولأثبات بطلان التهم التي تصدر من اعداء الاسلام وخاصة المبشرين المسيحيين الذين استفادوا من جهل المسلمين بتاريخهم وادعوا أن الاسلام انتشر بالسيف والقوة ، سوف أكون مضطراً لشرح البرنامج العسكري الاسلامي وهدف المسلمين من الحرب.

جوع وميدان معركة !

وفي هذه الاثناء ارتفع صوت عامل مطعم القطار في الممر :

٢٢٤

الغداء الغداء ايها السادة الغداء جاهز.

نظر الشيخ وبقية الاصدقاء الىٰ ساعاتهم فوجدوا الوقت ، اول الظهر.

الدكتور : سيادة العقيد ، الوقت اول الظهر ، ولن ادعك تجر هذا الشيخ الىٰ ساحة القتال وهو جائع ، فأنت عسكري وتستطيع تحمل الجوع ، لكن هذا العم يتحدث لنا منذ ساعات وبالتأكيد ليس بأستطاعته الآن شرح برنامج الاسلام العسكري ببطن فارغة.

العقيد : سعادة الدكتور ، اتصوّر انك اتّخذت الشيخ ذريعة ، والحقيقة انكم انتم الجائعون ، وهنا ضحك الاصدقاء.

الدكتور : بالتأكيد ، الجميع جياع ، والامر لا يختص بي سوىٰ انني تكلمت بصراحة ، لكنكم اضمرتم ذلك ، حسناً ، مع انني جائع جداً ، إلّا اني اوافق علىٰ الحديث عن البرنامج الحربي يطرحه الاسلام اولاً ، ثم نذهب للغداء من بعد.

العقيد : شكراً علىٰ ذلك.

الشيخ : قبل الدخول في بحث قوانين الاسلام العسكرية ، لابد من الاشارة إلى أن الاسلام دين كامل ومذهب مستقل ، ولو كان هذا الدين لا يملك برنامجاً ، واحكاماً فيما يتعلق بالامور العسكرية فانه بلا شك ناقص وغير تام.

ولا بدّ ان يكون لهذا الدين السماوي الكامل افضل واكمل القوانين أيضاً في المجال العسكري ، لأن الاسلام لا يواجه في مسيرة الكمال التي يدعو لها اهل العلم والمنطق أو الناس البسطاء غير المتعلمين فقط ، بل هناك الجبابرة

٢٢٥

والطواغيت الذين يُعد الاسلام خطراً مواجهاً لهم في استمرار سيطرتهم واستضعافهم للناس والمحرومين ، لذلك من الطبيعي ان يقفوا ضده ويضعوا العوائق في طريقه ، وهؤلاء الذين لم يتعاملوا مع المسلمين إلّا بمنطق القوة والسيف ، كان لابدّ للمسلمين أيضاً ان يواجهونهم بنفس المنطق الذي لا يفهمون غيره وان يزيلوهم عن طريق الدعوة الىٰ الاسلام الذي هو السبيل لكمال الانسان وسعادته ، والآن حيث اتّضحت الحاجة الىٰ برنامج ونظام حربي الاسلامي ، لابد من شرح قوانين الاسلام واحكامه العسكرية لمعرفة قوتها وقيمتها الحقيقية.

ان اغلب الحروب ، تحدث للتوسع وفتح البلدان واستعمارها واستثمارها ، وفي هذه الحروب تهاجم دولة ، دولة اخرىٰ وتحاول الانتصار عليها بأية وسيلة حتىٰ تسيطر علىٰ ذلك البلد وتوسع من دائرة سلطتها وحكومتها ، لذلك نشاهد الجرائم والمآسي التي تأتي بها تلك الحروب في الماضي والحاضر وتلك الاعمال الدنيئة التي يخجل الانسان من ذكرها.

أمّا الاسلام فلا يهدف من حروبه فتح البلدان أو استثمار الشعوب ، لأنه اساساً يقف في حروبه امام الطغاة الذين قاموا بأستثمار الناس وعملوا على تخلفهم.

وللاسلام أهداف مقدّسة وانسانية سامية في الحروب والمعارك التي يخوضها ، لذلك فالبرنامج العسكري الوحيد المليء بالمفاخر والاعتزاز هو البرنامج العسكري الاسلامي ، لأن حروب الاسلام هي حروب تحريرية ، وعلىٰ هذا الاساس ، فالقوانين العسكرية والحربية الاسلامية بمستوىٰ من الشرف والنخوة ، استطيع ان ادعي معه بصراحة انه لا يوجد مثيل لها في جميع

٢٢٦

القوانين العسكرية والحربية في العالم ، وهذه بعض المواد الاساسية للنظام العسكري والحربي في الاسلام :

1 ـ علىٰ الجندي المسلم عندما يواجه العدو ، ان يدعوه في البدء الىٰ الاسلام ، وفيما لو قبل الدعوة واصبح مسلماً فلا يحق لأحد من جيش المسلمين الاعتداء عليه أو علىٰ ماله وبلده ، بل لو اعتدىٰ أحد الجنود المسلمين علىٰ ذلك الشخص الحديث الاسلام وقتله ، لابدّ من معاقبة ذلك الجندي المسلم ، والاقتصاص منه علىٰ اساس قانون القصاص.

2 ـ فيما لم يقبل الاعداء غير المسلمين الدعوة الىٰ الاسلام ، لايحق للجنود المسلمين ايضاً مهاجمتهم والاقتتال معهم ، بل يجب ان يدعوهم لأعطاء الجزية(1) ولو قبلوا بذلك لايحق للجيش الاسلامي الاعتداء عليهم ومهاجمتهم.

3 ـ بعد ان يمتنع الاعداء غير المسلمين من دفع الجزية ، عند ذاك تكون دور الحرب معهم ، لكن الحرب تكون مع الجنود غير المسلمين الذين جاؤا الىٰ ساحة المعركة بهدف القتال ، ولو فرّوا من ساحة القتال لا يحق للمسلمين مطاردتهم ، ولو اندحر جيش الكفار ودخل المسلمون بلاد الاعداء ، لا يحق لهم التعرّض الىٰ الشيوخ والعجائز وقتلهم ، أو ايذاء الاطفال والنساء والضعفاء ، وحتىٰ الحيوانات ، كما يجب عليهم ان لا يدمروا المزارع والبساتين ، ولا يخربوا الانهار والقنوات ، ولا يحق لهم تخريب الابنية أو قطع الاشجار المثمرة

________________

(1) ضريبة خاصة تؤخذ من المشركين ( اهل الكتاب ) حسب قدراتهم المالية ، وفي المقابل تتعهد الدولة الاسلامية بضمان امنهم.

٢٢٧

والخضراء.

عندما أراد جيش المسلمين التحرك نحو مؤته ، خطب فيهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال :

« ستجدون فيها رجالاً معتزلين الناس فلا تتعرضوا لهم ، لاتقتلن امرأة ولا صغيراً ضرعاً ولا كبيراً فانياً ولا تقطعن نخلاً ولا شجراً ولا تهدمن بناء »(1) .

وفي خطبة لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام لجيشه قبل قتال جيش معاوية ، يقول :

« فاذا كانت الهزيمة باذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً ولا تجهزوا علىٰ جريح ولا تهيجوا النساء بأذىٰ »(2) .

أصدقائي الاعزاء !

هذه بعض مواد القانون الحربي في الاسلام ، وكما تلاحظون ، مع ان هدف المسلمين هو احتلال البلدان غير الاسلامية ، ( من اجل غاية مقدسة سنشرحها لاحقاً ) ، لكنهم يراعون جميع جوانب الفضيلة والانسانية ، والقوانين الحربية في الاسلام لا تسمح بأي عمل غير اخلاقي أو مما يخدش بالرجولة والضمير.

________________

(1) نواسخ التواريخ.

(2) نهج البلاغة : 16 ، طبعة مصر.

٢٢٨

لنكتشف مجرىٰ الماء

في احدىٰ معارك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع اليهود ، كان اليهود قد لجأوا الىٰ حصن منيع لا يطاله المسلمون ، فبقي المسلمون محاصرين للحصن اياماً ، وهم يفكرون بحلّ لفتح الحصن والانتصار علىٰ اليهود ، وفي مثل تلك اللحظات الحساسة جاء أحد قادة الجيش الاسلامي الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال ان ماء شرب اهالي الحصن يأتي من خارجها ، ونستطيع نحن من خلال اكتشاف مجرىٰ الماء ان نسيطر عليه ، ونمنع عنهم الماء فنضطرهم الىٰ الاستسلام ، فهل تسمح لنا القيام بذلك ؟ فأجابه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لن اسمح لكم بذلك ، ففي الحصن اشخاص كبار في السن طاعنين ومرضىٰ وفيها نساء واطفال وحيوانات ، فلماذا نمنع الماء وهم لا يقاتلوننا(1) .

لن اسمح بمنع الماء

حدث في معركة صفين ان جيش معاوية استولىٰ علىٰ أطراف نهر الفرات قبل وصول جيش الامام عليعليه‌السلام ، ولم يسمح لجيش الامام عليعليه‌السلام ان يأخذ من ماء النهر ، فأشتد العطش بجيش الامام عليعليه‌السلام فطلبوا الاذن من الامام بالهجوم علىٰ قوات معاوية التي تحول دون وصولهم للنهر ، فسمح لهم الامام بذلك ، وبعد هجوم سريع استطاع جيش الامام علي ان يخرج الفرات من قبضة جيش معاوية.

________________

(1) ناسخ التواريخ.

٢٢٩

ورداً لما قام به معاوية وجيشه من دناءة ، اقترحوا علىٰ الامام عليعليه‌السلام ان لا يسمح هو أيضاً لجيش معاوية الاستفادة من ماء الفرات ، وبذلك سيفقد الجيش قدرته علىٰ الصمود من شدة العطش ، فينهار ويستسلم دفعة واحدة ، فأجابهم الامامعليه‌السلام علىٰ اقتراحهم : لا اكافيهم ، بمثل ما فعلوا ، افسحوا لهم عن الشريعة(1) .

اصدقائي الاعزاء !

يتّضح من المثالين التاريخيين اللذين سقتهما ، كيف ان انتصار الجنود المسلمين علىٰ الاعداء ممزوج بالرجولة والفضيلة.

هدف الاسلام الاساسي من الحرب مع غير المسلمين

الطالب الجامعي ، حسن : القوانين الحربية والعسكرية الاسلامية التي نقلتها ـ والخطاب للشيخ ـ رجولية وعطوفة جداً ، وصحيح انه لا يوجد مثل هذه القوانين الفاضلة المشرّعة لساحة القتال حيث يصل الغضب والحقد ذروته ، في جميع قوانين العالم الحربية ، لكنه يبقىٰ هناك سؤال وهو هدف الاسلام من الحرب والانتصار علىٰ الدول غير الاسلامية ؟

الشيخ : لم يكن هدف المسلمين من الانتصار علىٰ الدول غير الاسلامية ، هو ادخالهم الىٰ الاسلام بالسيف ، بل الهدف الاساسي والمهم من

________________

(1)المصدر نفسه.

٢٣٠

ذلك هو ايجاد حالة من الترابط والاختلاط التام بين المسلمين وغير المسلمين ، كي يطلعوا علىٰ قوانين الاسلام السامية عن قرب ، ويشاهدوها عملياً من خلال تصرفات المسلمين ، وبالنتيجة سيدخلون الاسلام بأرادتهم ورغبتهم ، لأنه ليس هناك شك من ان القوانين الاسلامية فطرية وطبيعية وجذابة بشكل لو شوهد تطبيقها من قبل المسلمين ، ستكسب إليها كل انسان سليم القلب ، لذلك كان الناس يدخلون الاسلام افواجاً في البلدان التي فتحها المسلمون والتي شاهدوا فيها وفعة وسموّ القوانين الاسلامية وافضليتها ، من خلال سلوكيات المسلمين ، وهكذا ينتشر الاسلام بالمنطق والاستدلال ودون اي اكراه أو الزام.

لم ينتشر الاسلام بالسيف

الآن وقد تحدثنا عن برنامج الاسلام الحربي وقوانينه وكذلك الهدف الاساسي من الحرب بالنسبة للمسلمين ، سنجيب عن التهم الباطلة التي يرمي بها المبشرون والقساوسة المشركين الاسلام ، من انه دين انتشر بحد السيف ومن خلال الحروب التي خاضها المسلمون وفتحوا بها البلدان.

واجاباتنا علىٰ تلك التهم ، نحددها في عدة مواضيع :

1 ـ علىٰ مدىٰ ثلاثة عشر عاماً من البعثة ، كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذروة ضعفه العسكري وهو بين اعدائه الاقواياء الذين يسيطرون علىٰ كل شيء في مكة ، وفي تلك الفترة اعتنق الكثيرين الاسلام دون ان يرهبهم سيف ، لأنه فضلاً عن عدم وجود سيف وقوة للمسلمين ، فقد كانوا اقلية تخاف ان يتخطفها الناس

٢٣١

علىٰ حد تعبير القرآن الكريم ، وكانوا يضطرون احياناً للهجرة من ديارهم وترك اموالهم الىٰ بلدان اجنبية لكي يحفظوا اسلامهم.

اذن في الصدر الاول بحيث بدأ انتشار الاسلام لم يكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يمتلك قوة يرهب بها الناس لدخول الاسلام ، بل ان هؤلاء الناس ذوو النفوس النقية ، دخلوا الاسلام ونبذوا الكفر في ذروة قوته ، وبأختصار ، فلاسلام انتشر في البداية علىٰ اساس الاستدال والمنطق والايمان ، وبعد ذلك بدأ بفتح البلدان للهدف الذي ذكرناه مسبقاً.

2 ـ وكما قلنا سابقاً ، كان المسلمون وقبل بدأ القتال يدعون المشركين من الكفار الىٰ دفع الجزية ، وفيما لو دفعوا الجزية ، كان لهم الحق ان يبقوا علىٰ دينهم للأبد وتحت ظل الحكومة الاسلامية ، وهذا اكبر دليل علىٰ ان المسلمين لم يهدفوا في فتحهم البلدان الىٰ اجبار الناس علىٰ دخول الاسلام ، لانهم كان بأستطاعتهم ان لا يأخذوا الجزية من غير المسلمين ، ويجبروهم علىٰ دخول الاسلام.

3 ـ يحقُّ للذين يدفعون الجزية للمسلمين ليس فقط البقاء علىٰ دينهم ، بل اقامة شعائرهم الدينية الخاصة والذهاب الىٰ الكنائس والمعابد بشكل علني ، في ظل حماية المسلمين.

في حين لو كان المسلمون يريدون اجبار الكفار علىٰ دخول الاسلام ، لما اجازوا لهم اقامة شعائرهم بشكل علني في محافلهم ومعابدهم.

4 ـ الدليلان الرابع والخامس اللذان نسوقهما علىٰ ان هدف الاسلام من الحروب التي قام بها بعد انتشاره وقوته ، لم يكن ارغام الناس علىٰ الدخول فيه

٢٣٢

بالقوة ، هذان النموذجان عن تعامل نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله مع غير المسلمين :

وثيقة صلح الحديبية

في وثيقة صلح الحديبية ( وهي منطقة قريبة من المدينة ) التي وقّعت بين المسلمين والكفار ، تعهد المسلمون بأرجاع اي شخص من كفار مكة يدخل الاسلام ويلجأ الىٰ المدينة. فقال أحد المسلمين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، خذ منهم عهداً بأعادة أي شخص يرتد عن الاسلام ويذهب الى مكة.

فقال نبي الاسلام : لا آخذ مثل هذا العهد من اهالي مكة(1) لان المسلم الذي يرتد عن الدين ويلجأ الىٰ الكفار ، لن يفيدنا اذا اعادوه لنا ، لأن القلب هو مركز الايمان ، والشخص الذي لا يدخل الاسلام عن قناعة ورغبة ، لن يكون مسلماً حقيقياً.

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يعطي اربعة اشهر مهلة

بعد ان نقض اهل مكة مفاد صلح الحديبية ، تحرك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لفتح مكة ، فدخل جيش الاسلام مكة دون مقاومة تذكر ـ كما مرّ سابقاً ـ سوىٰ مقاومة صغيرة لبعض شباب مكة بزعامة صفوان بن اُمية وعكرمة بن أبي جهل ، وبعد قتال محدود ، اندحرت مجاميع الكفار ، وسيطر المسلمون علىٰ مكة كلها ، فهرب صفوان بن اُمية وعكرمة بن أبي جهل من مكة بنية مغادرة

________________

(1) ناسخ التواريخ.

٢٣٣

الحجاز تماماً ، إلّا ان عمير بن وهب ، جاء الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وشفع لصفوان بن اُمية ، فقبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شفاعة عمير ، وعفىٰ عن صفوان ، فذهب عمير بن وهب الىٰ خارج مكة ، وأبلغ صفوان عفو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله له ، وطلب منه ان يعود مطمئناً الىٰ مكة ، فقال له صفوان : أخاف أن يمكر بي نبيكم ويقتلني عند دخولي مكة ، فطمأنه عمير بأن ليس في الاسلام مكراً وخديعة ، عند ذلك اطمئن صفوان إلى كلام عمير بن وهب ورجع إلى مكة ، وعندما قابل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا محمد عمير بن وهب يدعي انك أعطيتني الامان.

فقال الرسول : يصدق عمير.

فطلب صفوان مهلة شهرين من الرسول كي يطلع علىٰ الاسلام ، ومن ثمّ يسلم ، فقال له الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : لك اربعة اشهر مهلة.

لكن صفوان اسلم عن قناعة قبل انقضاء المهله(1) .

ومن خلال هذه القصة يتّضح ، انه لو كان هدف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هو اجبار الناس علىٰ الاسلام بقوة السيف لما أمهل صفوان يوماً واحداً فضلاً عن اعطائه اربعة اشهر ، أو لاكتفىٰ بالشهرين اللذين طلبهما صفوان منه كمهلة.

اصدقائي الاعزاء !

هذه دلائل لا تقبل الشك ، يتضح خلالها هدف المسلمين من الحرب ، وهو غير اجبار الناس علىٰ الاسلام بالقوة ، بل ان اهم هدف من وراء ذلك هو

________________

1 ـ حياة محمد (ص).

٢٣٤

مدّ جسر وثيق من العلاقة والارتباط بين المسلمين وغير المسلمين لكي تطلع شعوب الدول غير الاسلامية علىٰ قوانين الاسلام العظيم ، ولكي لا يحول طواغيت الارض ، ولا تقف الانظمة الكافرة امام تعالي الانسان وخلاصة وتحرره من رجسها وذل عبودية غير الله.

لذلك فمن حقنا القول ان كلام المبشرين في ان الاسلام انتصر وانتشر بحد السيف ما هي الّا تهم باطلة ودنيئة تصدر عن اعداء الاسلام والحاقدين عليه.

اعتراف كبار العلماء بأن الاسلام لم ينتشر بالسيف

ولكي يعرف اصدقائي الاعزاء مقاصد المبشرين المسيحيين أكثر من التهم التي يسوقونها ضد الاسلام ، سننقل هنا بعض ما قاله كبار علماء اوروبا المسيحيين حول سرعة انتشار الاسلام :

يقول الدكتور غوستاف لوبون في كتابه حضارة الاسلام والعرب :

« ينتشر الاسلام بطريق بسيط وسهل ، جعل الجميع يحتارون في امره ، ولا بدّ ان نعتبر ذلك من خصوصيات الاسلام التي ينفرد بها دون غيره من الاديان ، ففي كل مكان وضع المسلمين اقدامهم ترسخ الاسلام في قلوب الناس ، في الصين وفي افريقيا الوسطىٰ وروسيا ، ولم يكن ذلك عن طريق الحرب وبواسطة الجيوش ، بل عن طريق التجار والتجارة ، واليوم نشاهد ملايين المسلمين في تلك البلدان ، فهؤلاء لم يدخلوا الاسلام بالترغيب أو القوة بل عن قناعة ورغبة ورضىٰ ، ولم نسمع لحد الآن عن قوة عسكرية

٢٣٥

كانت تدعم اولئك التجار ، والاغرب من ذلك هو نمو الاسلام وانتشاره السريع اين ما وصل التجار ودعوا الناس إليه ، فعلىٰ سبيل المثال منذ قرون والاسلام في روسيا ينتشر ، وفي الهند التي يعيش فيها الآن ملايين المسلمين ، صرف المبشرين والقساوسة البروتستانت مبالغ طائلة لنشر المسيحية دون نتيجة ، وفي الصين التي تعتبر من المناطق التي تفتخر بتراثها القومي لم يستطع المبشرون المسيحيون رغم الوسائل الكثيرة التي استخدموها هناك أن ينشروا المسيحية واعترفوا بكل صراحة عن عجزهم ، لكن الاسلام انتشر وينتشر هناك يومياً علىٰ الرغم من عدم وجود دعم خارجي ، بحيث يصل مجموع المسلمين اليوم هناك اكثر من اربعين مليون مسلم في كل انحاء الصين ، وفي بكين وحدها هناك اليوم ما يزيد علىٰ مائة الف مسلم ».

ثم يضيف الدكتور لوبون حول كيفية معاملة المسلمين مع شعوب الدول التي يفتحونها والحرية التي كانت للنصارىٰ في ظل الحكم الاسلامي ، فيقول :

« لقد عامل العرب الاندلسيين ( الاسبان ) الذين فتحت بلادهم علىٰ ايدي المسلمين ، كما كانوا يعاملون اهل مصر والشام ، وقد تركوا لهم حرية التصرف بأموالهم ومعابدهم وخيرّوهم في البقاء تحت حكم وقضاء اشخاص من نفس دينهم بشرط ان يدفعوا جزية سنوية ، ولقد كانت الشروط بسيطة وسهلة بحيث قبل بها الجميع مباشرة ، وكان تعامل المسلمين مع الشعوب التي فتحت بلادها حسناً بحيث كان يجوز للأساقفة ان يعقدوا لأنفسهم مجالس دينية ».

٢٣٦

اعتراف الدكتور لورا فاكسيا واغليري

يقول الدكتور فاغليري استاذ جامعة نابل :

« كانت حياة الشعوب المغلوبة وحقوقها المدنية وثرواتها الوطنية مصانة من قبل الدولة الاسلامية بشكل يتساوىٰ تقريباً مع ما كان للمسلمين انفسهم ».

ويضيف في مكان آخر :

« كان العرب الفاتحون مستعدون وفي ذروة قوتهم وانتصاراتهم ، لأن يقولوا لأعداءهم : كفّوا عن الحرب وادفعوا ضريبة مالية معتدلة ، ولكم ان تعيشوا تحت حمايتنا بشكل كامل ، ولكم من الحقوق مالنا ، ولو نظرنا جيداً الىٰ اقوال النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أوالىٰ فتوحات المسلمين ، في صدر الاسلام ، سنشاهد بسهولة كذب تهمة ادخال الناس بقوة السيف الىٰ الاسلام. فالقرآن الكريم يقول :

( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (1) .

ثم يضيف الدكتور واغليري :

« في التاريخ الاسلامي نماذج عديدة علىٰ مداراة الاسلام مع اتباع الاديان الالهية الاخرىٰ ، كما تعهد الرسول بنفسه حماية معابد مسيحيوا نجران ، وكذلك امر احد قادة الجيش الذي ارسله الىٰ اليمن ان لا يتعرض لأي شخص

________________

(1) سورة البقرة : 258.

٢٣٧

من اليهود في اماكنهم ومساكنهم ، وكان هذا تعامل المسلمين مع اتباع الديانات الاخرىٰ ، فهم احرار في العمل حسب آرائهم وشعائرهم الدينية ، بشرط ان يدفعوا ضريبة جزئية تسمىٰ الجزية ، وهذه الجزية عادة اقل من الضريبة التي يدفعها المسلمون انفسهم للدولة الاسلامية ، وفي مقابل تلك الجزية ، ولأتباع الديانات الاخرىٰ الحق في حرية العمل حسب مذاهبهم ولا يجبرون علىٰ تركها ، كما ان الدولة الاسلامية توفر لهم الحماية التامة ».

اصدقائي الاعزاء !

كان ذلك موجزاً عن برنامج الاسلام الحربي وهدف المسلمين من الحروب وكيفية تعامل المسلمين مع شعوب البلدان التي يسيطرون عليها واستشهدنا في ذلك بنماذج من تاريخ الاسلام ، واقوال علماء اوروبا ، واثبتنا ان المسلمين لوحدهم لم يجبروا الآخرين علىٰ اعتناق دينهم بالقوة والسيف ، بل منحوا الآخرين حرية دينية تامة في ظل حكمهم.

لكن لننظر ماذا فعل هؤلاء المسيحيون والاوروبيون عندما دارت الامور واستولوا هم علىٰ بلاد المسلمين ، لقد قاموا بجرائم ومجازر ومآسي سوّدت وجه التاريخ ويخجل الانسان من مجرد ذكرها !

تاريخ الحروب الصليبية الاسود

ولكي لا يتصور اصدقائي ان حديثي عن توحش وجرائم الشعوب الاوروبية مصدره التعصب الديني ، سأنقل لكم بعض الجرائم التي قام بها

٢٣٨

الصليبوين في الحروب الدموية والمعروفة بالحروب الصليبية ، وذلك ايضاً علىٰ حدّ ما جاء في كلام وكتابات العلماء والمؤرخين القساوسة الاوروبيين المسيحيين.

يتحدث الدكتور غوستاف لوبون في البداية عن الحرب التي شنها المسيحيين والاوروبيين ضد المسلمين ، فيقول :

« الكلام حول القتال الذي دار بين العالم الاوروبي المتوحش ، واسمىٰ الحضارات التي نشاهد آثارها في التاريخ ».

ثم يضيف :

« لقد قامت المسيحية الاوروبية بارتكاب اعمال وحشية في الحروب الصليبية ، لا يمكن ان اعبر عنها بشيء سوىٰ انهم ( المسيحيين ) كانوا قد جنوا ، فعندما انتصر الصليبيون علىٰ المسلمين الاتراك ، قاموا بقطع رؤوس المجروحين المسلمين وحملوها معهم علىٰ خيلولهم الىٰ معسكرهم وهم يفتخرون بما قاموا به ، ثم قاموا برمي تلك الرؤوس من فوق حصار كانوا يضربونه حول احدىٰ المدن المسلمين ، بأتجاه اهالي المدينة ، ان تصرفات المسيحيين الاوروبيين المشينة في جميع تلك الحروب جعلتهم بمستوىٰ اكثر الناس توحشاً وبربرية علىٰ وجه الارض ، وكانوا في تعاملهم السيء ذلك لا يفرقون بين اتباع دينهم واعدائهم أو الناس العاديين من النساء والاطفال والشيوخ والشبان والعسكر الذي يواجهونه ، في المدن التي يهاجمونها ، اي انهم كانوا يقتلون وينهبون الجميع دون استثناء ».

٢٣٩

تقول انكومن(1) ابنة امبراطور القسطنطنية :

« من جملة ماكان الاوروبيون يرفهون عن انفسهم فيه في تلك الحروب ، هو انهم كانوا يقتلون كل طفل يمرّ من امامهم ويلقون به في النار ! ».

ويقول الراهب روبرت(2) وهو من القساوسة المسيح حول المجازر التي ارتكبها المسيحيين الاوروبيين بحق المسلمين في مدينة مارا(3) :

« كان الجيش المسيحي يتحرك في انحاء المدينة مثل اللبوة التي سرقوا اطفالها ، وكانوا يتلذّون بالمجازر التي يرتكبونها بحق الناس ، فكانوا يقطعون أيدي الاطفال ويضربون اعناق الشيوخ والشبان ، ومن اجل ان يسرعوا في عملهم ، كانوا يشنقون عدة اشخاص في حبل واحد !

وكان المسيحيون في تلك الحروب ينهبون كل مايجدون عند الحيّ والميت من نقود ومجوهرات ، وكانت ازقة مدينة « مارا » تحولت الىٰ بركة من الدماء ، تسبح فيها جثث القتلىٰ المنتشرة في جميع ارجاء المدينة ، وكان المسيحيون يعبرون من فوقها !

في وصفه لدخول المسيحيين الاوروبيين الىٰ القدس ، يقول العالم الاوروبي المعروف ، رايموند داجلس(4) :

« عندما احتل المسيحيون الاوروبيون سور المدينة وقلاعها ، ظهرت

________________

(1) Aonicomnen

(2) Robert

(3) Marrat

(4) Rayimond Dagiles

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

أمّا الآية التالية فتوضح ما أجملته الآية السابقة وتؤكّده بالقول :( الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) .

وأمّا الآية الثّالثة ـ من الآيات محل البحث ـ فتقول : إنّ الله أنعم على المؤمنين والمهاجرون والمجاهدين في سبيله ثلاث مواهب هي :

١ ـ( يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ ) .

٢ ـ( وَرِضْوانٍ ) .

٢٣ ـ( وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ ) .

وتعقب الآية الأخيرة لمزيد التوكيد بالقول( خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

* * *

ملاحظتان

١ ـ تحريف التاريخ

كما قرأنا آنفا في شأن نزول الآيات محل البحث ، وطبقا لرواية وردت في كثير من كتب الآيات أهل السنة الشهيرة ، أنّها نزلت في عليعليه‌السلام وبيان فضائله ، على أنّ مفهوم الآيات عام واسع «وقد قلنا مرارا بأن أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآي».

إلّا أنّ بعض مفسّري أهل السنة لم يرغب في أن تثبت للإمام عليعليه‌السلام فضائل بارزة مع اعتقادهم بأنّه رابع خلفاء المسلمين! وكأنّهم خافوا إن أذعنوا لما يجدونه عند عليعليه‌السلام من الفضائل أن يقف الشيعة أمامهم متسائلين : لم قدّمتم على علي غيره؟

فلذلك أغمضوا النظر عن كثير من مناقبه وفضائله ، وسعوا جاهدين لأن

٥٦١

يقدحوا في سند الرواية التي تذكر فضل عليعليه‌السلام على غيره أو في دلالتها.

ويا للأسف ما زال هذا التعصب المقيت ممتدا إلى عصرنا الحاضر ، حتى أنّ بعض علمائهم المثقفين لم يسلموا من هذا الداء الوبيل والتعصب دون دليل!

ولا أنسى المحاورة التي جرت بيني وبين بعض علماء أهل السنة ، إذ أظهر كلاما عجيبا عند ذكرنا لمثل هذه الأحاديث ، فقال : في عقيدتي أنّ الشيعة يستطيعون أن يثبتوا جميع معتقدات مذهبهم «أصولها وفروعها» من مصادرنا وكتبنا ، لأنّ في كتبنا أحاديث كافية لصالح آراء الشيعة وصحة مذهبهم.

إلّا أنّه من أجل أن يريح نفسه من جميع هذه الكتب ، قال : أعتقد أن أسلافنا كانوا حسني الظن ، وقد أوردوا كل ما سمعوه في كتبهم ، فليس لنا أن نأخذ كل ما أوردوه ببساطة!! «طبعا كان حديثه يشمل الكتب الصحاح والمسانيد المعتبرة وما هو عندهم في المرتبة الأولى».

فقلت له : ليس هذا هو الأسلوب في التحقيق ، حيث يعتقد إنسان ما بمذهب معين ، لأنّ آباءه كانوا عليه وورثه عن سلفه ، فما وجده من حديث ينسجم ومذهبه قال : إنّه صحيح ، وما لم ينسجم حكم عليه بعدم الصحة ، لأنّ السلف الصالح كان حسن الظن ، حتى لو كان الحديث معتبرا.

فما أحسن أن نختار أسلوبا آخر للتحقيق بدل ذلك ، وهو أن نتجرّد من عقيدتنا الموروثة ثمّ ننتخب الأحاديث الصحيحة دون تعصب.

ونسأل الآن : لماذا سكتوا عن الأحاديث الشهيرة التي تذكر فضل علي وعلو مقامه ، بل نسوها وربّما طعنوا فيها ، فكأن مثل هذه الأحاديث لا وجود لها أصلا؟

ومع الالتفات إلى ما ذكرناه آنفا ، ننقل كلاما لصاحب تفسير «المنار» المعروف ، إذ أهمل شأن نزول الآيات محل البحث المذكور آنفا ، ونقل رواية لا تنطبق ومحتوى الآيات أصلا ، وينبغي أن نعدّها حديثا مخالفا للقرآن ، فقال عنها : إنّها معتبرة!

٥٦٢

وهي ما نقل عن النعمان بن بشير إذ يقول : كنت جالسا في عدة من أصحاب النّبي إلى جوار منبره ، فقال بعضهم : لا أرى عملا بعد الإسلام أفضل من سقاية الحاج وإروائهم ، وقال الآخر : إنّ عمارة المسجد الحرام أفضل من كل عمل ، فقال الثالث ، في سبيل الله أفضل ممّا قلتما.

فنهاهم عمر عن الكلام وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ـ وكان ذلك اليوم يوم الجمعة ـ ولكنّي سأسأل رسول الله بعد الفراغ من الصلاة ـ صلاة الجمعة ـ في ما اختلفتم فيه.

وبعد أن أتمّ صلاته جاء إلى رسول الله فسأله عن ذلك ، فنزلت الآيات محل البحث(١) .

إلّا أنّ هذه الرّواية لا تنسجم والآيات محل البحث من عدّة جهات ، ونحن نعرف أن كلّ رواية مخالفة للقرآن ينبغي أن تطرح جانبا ويعرض عنها ؛ لأنّه :

أوّلا : لم يكن في الآيات محل البحث قياس ما بين الجهاد وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ، بل القياس ما بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من جهة ، والإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد من جهة أخرى ، وهذا يدل على أن من كان يقوم بمثل السقاية والعمارة في زمان الجاهلية كان يقيس عمله بالإيمان والجهاد. فالقرآن يصرّح بأنّ سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لا يستويان ـ كل منهما ـ مع الإيمان بالله والجهاد في سبيله وليس القياس بين الجهاد وعمران المسجد وسقاية الحاج (لاحظ بدقة).

ثانيا : إنّ جملة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) تدل على أن أعمال الطائفة الأولى كانت معروفة بالظلم ، وإنما يفهم ذلك فيما لو كانت هذه الأعمال صادرة في حال الشرك ، لإنّ القرآن يقول( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (٢) .

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٢١٥.

(٢) سورة لقمان : الآية ١٣.

٥٦٣

ولو كان القياس بين الإيمان وسقاية الحاج المقرونة بالإيمان والجهاد ، لكانت جملة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) لغوا ـ والعياذ بالله ـ لأنّها حينئذ لا مفهوم لها هنا.

ثالثا : إنّ الآية الثّانية ـ محل البحث ـ التي تقول( الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ) مفهومها أن أولئك أفضل وأعظم درجة ممن لم يؤمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا في سبيل الله ، وهذا المعنى لا ينسجم وكلام النعمان ـ آنف الذكر ـ لأنّ المتكلمين وفقا لحديثه كلهم مؤمنون ولعلهم أسهموا في الهجرة والجهاد.

رابعا : كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إقدام المشركين على عمارة المساجد وعدم جواز ذلك :( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ) والآيات محل البحث تعقب على الموضوع ذاته ، ويدل هذا الأمر على أن موضوع الآيات هو عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج حال الشرك ، وهذا لا ينسجم ورواية النعمان.

والشيء الوحيد الذي يمكن أن يستدل عليه هو التعبير ب( أَعْظَمُ دَرَجَةً ) حيث يدل على أن الطرفين المقيسين كل منهما حسن بنفسه ، وإن كان أحدهما أعظم من الآخر.

إلّا أنّ الجواب على ذلك واضح ، لأنّ أفعل التفضيل غالبا تستعمل في الموازنة بين أمرين ، أحدهما واجد للفضيلة والآخر غير واجد ، كأن يقال مثلا : الوصول متأخرا خير من عدم الوصول ، فمفهوم هذا الكلام لا يعني أن عدم الوصول شيء حسن ، لكن الوصول بتأخير أحسن.

أو أننا نقرأ في القرآن( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) أي من الحرب [سورة النساء الآية ٢٨] فهذا لا يعني أنّ الحرب شيء حسن.

أو نقرأ مثلا( وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ ) [سورة البقرة الآية ٢٢١] ترى

٥٦٤

هل المشرك حسن وفيه خير؟!

أو نقرأ في سورة التوبة ذاتها (الآية ١٠٨)( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) أي أحق من مسجد ضرار الذي بناه المنافقون للعبادة ، مع أننا نعرف أن العبادة في مسجد ضرار ليست بحق أبدا ، فنظير هذه التعابير في القرآن واللغة العربية ، بل في سائر اللغات كثير.

من مجموع ما ذكرناه نستنتج أن رواية النعمان بن بشير لأنّها مخالفة لمحتوى القرآن ينبغي أن تطرح وتنبذ جانبا ، وأن نأخذ بما ينسجم وظاهر الآي ، وهو ما قدمناه بين يدي تفسير هذه الآيات ، على أنّه سبب لنزولها ، وأنّه لفضيلة كبرى لإمام الإسلام العظيم عليعليه‌السلام .

نسأل الله أن يثبت أقدامنا على متابعة الحق وأهله من الأئمّة الصالحين ، وأن يجنبنا التعصب ، ويفتح أبصارنا وأسماعنا وأفكارنا لقبول الحق.

٢ ـ ما هو مقام الرضوان؟

يستفاد من الآيات ـ محل البحث ـ أنّ مقام الرضوان الذي هو من أعظم المواهب التي يهبها الله المؤمنين والمجاهدين في سبيله ، هو شيء غير الجنات والنعيم المقيم وغير رحمته الواسعة.

وسنتناول بيان هذا الموضوع ذيل الآية (٧٢) من هذه السورة ، في تفسير جملة( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) إن شاء الله.

* * *

٥٦٥

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤) )

التّفسير

كلّ شيء فداء للهدف :

إنّ آخر وسوسة أو ذريعة يمكن أن يتذرع بها جماعة من المسلمين للامتناع عن جهاد المشركين (وفعلا فقد تذرع بعضهم وفقا لما ورد في قسم من التفاسير) بأن من بين المشركين وعبدة الأوثان أقارب لهم ، فقد يسلم الأب ويبقى ولده في الشرك على حاله ، وقد يقع العكس إذ يخطو الابن نحو توحيد الله ويبقى أبوه مشركا ، وهذه الحالة ربّما كانت موجودة بين الأخ وأحيه ، والزوج

٥٦٦

وزوجه ، والفرد وعشيرته أو قبيلته ، وهكذا.

فإذا كان القرار أن يجاهد الجميع المشركين فلا بدّ أن يغمضوا أعينهم عن أرحامهم وأقاربهم وعشيرتهم إلخ. هذا كلّه من جهة.

ثمّ ومن جهة أخرى كانت رؤوس الأموال والقدرة التجارية بيد المشركين تقريبا ، ولهذا يسبب تردد المشركين إلى مكّة ازدهار التجارة.

ومن جهة ثالثة كان للمسلمين في مكّة بيوت عامرّة نسبيا ، فإذا قاتلوا المشركين فمن المحتمل أن يهدمها المشركون ، أو تفقد قيمتها إذا عطل المشركون مراسم الحاج ومناسكه بمكّة.

فالآيتان ـ محل البحث ـ ناظرتان إلى مثل هؤلاء الأشخاص ، وتردّان عليهم ببيان صريح ، فتقول الآية الأولى منهما :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ ) .

ثمّ تعقب ـ على وجه التأكيد ـ مضيفة :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

وأي ظلم أسوأ من أن يظلم الإنسان نفسه بتعلقه بأعداء الحق والمشركين ، ويظلم مجتمعه ، ويظلم نبيّه أيضا؟!

أمّا الآية التالية فهي تتناول هذا الموضوع بنحو من التفصيل والتأكيد والتهديد والتقريع ، فتخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعنف أولئك الذين لا يرغبون في جهاد المشركين لما ذكرناه آنفا ، فتقول( قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) .

ولما كان ترجيح مثل هذه الأمور على رضا الله والجهاد في سبيله ، يعدّ نوعا من العصيان والفسق البيّن ، وإن من تشبث قلبه بالدنيا وزخرفها وزبرجها غير جدير بهداية الله ، فإنّ الآية تعقب في الختام قائلة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

٥٦٧

الْفاسِقِينَ ) .

وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي في شأن الآيتين ما يلي : «لما أذّن أمير المؤمنين أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك ، جزعت قريش جزعا شديدا ، وقالوا : ذهبت تجارتنا وضاعت علينا وخربت دورنا ، فأنزل الله في ذلك قل (يا محمّد) إلخ والآيتان ـ محل البحث ـ ترسمان خطوط الإيمان الأصيل وتميزانها عن الإيمان المبطن بالشرك والنفاق.

كما أنّهما تضعان حدا فاصلا بين المؤمنين الواقعيين وبين ضعاف الإيمان ، وتقول إحداهما بصراحة : إن كانت هذه الأمور الثمانية «في الحياة المادية» التي يتعلق أربعة منها بالأرحام والأقارب( آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ ) .

ويتعلق قسم منها بالمجتمع و «العشيرة».

والقسم السّادس يرتبط بالمال.

والسابع بالتجارة والاكتساب.

وأمّا الثامن ـ وهو الأخير ـ فيتعلق بالمساكن ذات الأناقة «ومساكن ترضونها».

فإذا كانت هذه الأمور الثمانية ـ المذكورة آنفا ـ أغلى وأعزّ وأحب عند الإنسان من الله ورسوله ، والجهاد في سبيله وامتثال أوامره ، حتى أن الإنسان لا يكون مستعدا بالتضحية بتلك الأمور الثمانية من أجل الله والرّسول والجهاد ، فيتّضح أن إيمانه الواقعي لم يكمل بعد!

فحقيقة الإيمان وروحه وجوهره ، كل ذلك يتجلّى بالتضحية بمثل هذه الأمور من دون تردد.

أضف إلى ذلك ، فإن من لم يكن مستعدا للتضحية بمثل تلك الأمور ، فقد ظلم

٥٦٨

نفسه ومجتمعه في الواقع ، كما أنّه سيقع في ما كان يخاف من الوقوع فيه لأنّ الأمّة التي تتلكأ في اللحظات الحساسة من تأريخها المصيري ، وفي المآزق الحاسمة ، فلا يضحي أبناؤها بمثل ذلك ، فستواجه الهزيمة عاجلا أو آجلا ، وسيتعرض كلّ ما تعلقت القلوب به فلم تجاهد من أجله الى خطر الضياع والتلف بيد الأعداء.

* * *

ملاحظات

١ ـ ما قرأناه في الآيتين ـ محل البحث ـ ليس مفهومه قطع علائق المحبة بالأرحام ، وإهمال رؤوس الأموال الاقتصادية ، والانسياق إلى تجاوز العواطف الإنسانية وإلغائها ، بل المراد من ذلك أنّه ينبغي أن لا ننحرف عند مفترق الطرق إلى الأموال والأزواج والأولاد والدور والمقام الدنيوي ، بحيث لا نطبّق في تلك الحالة حكم الله ، أو لا نرغب في الجهاد ، ويحول عشقنا المادي دون تحقيق الهدف المقدس.

لهذا يلزم على الإنسان إذا لم يكن على مفترق الطرق أن يرعى الجانبين «العلاقة بالله والعلاقة بالرحم».

فنحن نقرأ في الآية (١٥) من سورة لقمان ، قوله تعالى في شأن الأبوين المشركين( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) .

٢ ـ إنّ أحد تفاسير جملة( فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) ما أشرنا إليه آنفا ، وهو التهديد من قبل الله لأولئك الذين يقدّمون منافعهم المادية ويفضلونها على رضا الله ، ولما كان هذا التهديد مجملا كان أثره أشدّ وحشة وإشفاقا ، وهذا التعبير يشبه قول من يكلم صاحبه الذي دونه وتحت أمره ، فيقول له : إذا لم تفعل ما

٥٦٩

أمرتك ، فسأقوم بما ينبغي أيضا.

وهناك احتمال آخر لتفسير الجملة ـ محل البحث ـ وهو أنّ الله سبحانه يقول : إذا لم تكونوا مستعدين للتضحية ، فإنّ الله يفتح لنبيّه عن طريق آخر. وكيف شاء ، إذ ليس ذلك بعسير عليه. ونظير هذا المعنى ما جاء في الآية (٥٤) من سورة المائدة ، إذ نقرأ فيها( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) .

الماضي والحاضر مرهونان بهذا الأمر :

٣ ـ قد يتصور بعضهم بأنّ ما جاء في الآيتين يخص صدر الإسلام والتاريخ الماضي ، إلّا أنّ ذلك خطأ كبير ، فالآيتان تستوعبان حاضر المسلمين ومستقبلهم أيضا.

فإذا قدّر للمسلمين أن لا يضحوا بأموالهم وأنفسهم وأولادهم ودورهم إلخ في سبيل الله ، ولا يكون لهم إيمان متين ، ويفضلون الأمور المادية على رضا الله ، وتبقى قلوبهم متعلقة بالمال والأولاد وزبارج الدنيا ، فيكون مستقبلهم مظلما ، لا مستقبلهم فحسب ، بل حتى يومهم هذا ، ففي مثل هذا الحال سيحدق بهم الخطر وسيفقدون موروثهم الحضاري ، وتكون مصادر حياتهم بأيدي الأجانب ويفقدون معنى الحياة ، لأن الحياة هي حياة الإيمان والجهاد في ظل الإيمان.

فعلينا أن نغرس مدلول هاتين الآيتين في قلوب أطفال المسلمين وشبابهم ونجعله شعارا لنا ، ونحيي في نفوس المسلمين روح التضحية والجهاد ، ليحافظوا على ثقافتهم وموروثهم المعرفي.

* * *

٥٧٠

الآيات

( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) )

التّفسير

الكثرة وحدها لا تجدي نفعا :

في الآيات المتقدمة رأينا أنّ الله سبحانه يدعوا المسلمين إلى التضيحة والجهاد على جميع الصعد في سبيل الله وقلع جذور الشرك وعبادة الأوثان ، ويهدد بشدّة من يتقاعس منهم عن الجهاد والتضحية بسبب التعلق بالأزواج والأولاد والأرحام والعشيرة والمال والثروة.

أمّا الآيات محل البحث فتشير إلى مسألة مهمّة ، وهي أنّ على كل قائد أن ينّبه أتباعه في اللحظات الحساسة بأنّه إذا كان فيهم بعض الأشخاص من ضعاف

٥٧١

الايمان والذين يحجبهم التعلّق بالمال والولد والأزواج وما إلى ذلك عن الجهاد في سبيل الله ، فلا ينبغي أن يقلق المؤمنون المخلصون من هذا الأمر ، وعليهم أن يواصلوا طريقهم ، لأنّ الله لم يتخلّ عنهم يوم كانوا قلة ، كما هو الحال في معركة بدر ، ولا يوم كانوا كثرة ـ ملء العين (كما في معركة حنين) وقد أعجبتهم الكثرة فلم تغن عنهم شيئا ، لكن الله سبحانه أنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، فالله في الحالين ينصر المؤمنين ويرسل إليهم مدده لهذا فإن الآية الأولى من الآيات محل البحث تقول( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) .

والمواطن جمع الموطن ، ومعناه المحل الذين يختاره الإنسان للسكن الدائم ، أو المؤّقت ، إلّا أن من معانيه أيضا ساحة الحرب والمعركة ، وذلك لأنّ المقاتلين يقيمون في مكان الحرب مدّة قصيرة أو طويلة أحيانا.

ثمّ تضيف الآية معقبة( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) وكان جيش المسلمين يوم حنين زهاء اثني عشر ألفا ، وقال بعض المؤرخين : كانوا عشرة آلاف أو ثمانية آلاف ، غير أنّ الرّوايات المشهورة تؤيد ما ذكرناه آنفا ، إذ تقول : إنّهم كانوا اثني عشر ألفا ، وهذا الرقم لم يسبق له مثيل في الحروب الإسلامية قبل ذلك الحين ، حتى اغترّ بعض المسلمين وقالوا : «لن نغلب اليوم».

إلّا أنّه ـ كما سنبيّن الموضوع في الحديث على غزوة حنين ـ قد فرّ كثير من المسلمين ذلك اليوم ، لكونهم جديدي عهد بالإسلام ولم يتوغل الإيمان في قلوبهم فانكسر جيش المسلمين في البداية وكاد العدوّ أن يغلبهم لولا أن الله أنزل بلطفه مدده وجنوده فنجّاهم.

ويصور القرآن هذه الهزيمة بقوله( وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) .

٥٧٢

وفي هذه اللحظات الحساسة حيث تفرق جيش الإسلام هنا وهناك ، ولم يبق مع النّبي إلّا القلة ، وكان النّبي مضطربا ومتألّما جدّا لهذه الحالة نزل التأييد الإلهي :( ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ) .

وكما قلنا في حديثنا عن غزوة بدر في ذيل الآيات الخاصّة بها ، أن نزول هذه الجنود غير المرئية كان لشدّ أزر المسلمين وتقوية معنوياتهم ، وإيجاد روح الثبات والاستقامة في نفوسهم وقلوبهم ، ولا يعني ذلك اشتراك الملائكة والقوى الغيبية في المعركة(١) .

ويذكر القرآن النتيجة النهائية لمعركة حنين الحاسمة فيقول( وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ) .

وكان هذا العذاب والجزاء أن قتل بعض الكافرين ، وأسر بعضهم ، وفرّ بعضهم إلى مناطق بعيدة عن متناول الجيش الاسلامي.

ومع هذا الحال فإنّ الله يفتح أبواب توبته للأسرى والفارين من الكفّار الذين يرغبون في قبول مبدأ الحق «الإسلام» لهذا فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقول :( ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وجملة «يتوب» التي وردت بصيغة الفعل المضارع ، والتي تدل على الاستمرار ، مفهومها أن أبواب التوبة والرجوع نحو الله مفتوحة دائما بوجه التائبين.

* * *

__________________

(١) لمزيد من الإيضاح يراجع تفسير الآيات ٩ ـ ١٢ من هذا الجزء نفسه.

٥٧٣

ملاحظات

١ ـ غزوة حنين ذات العبرة

«حنين» منطقة قريبة من الطائف ، وبما أنّ الغزوة وقعت هناك فقد سميّت باسم المنطقة ذاتها ، وقد عبّر عنها في القرآن بـ «يوم حنين» ولها من الأسماء ـ غزوة أوطاس ، وغزوة هوازن أيضا.

أمّا تسميتها بأوطاس ، فلأن «أوطاس» أرض قريبة من مكان الغزوة ـ وأمّا تسميتها بهوازن ، فلأن إحدى القبائل التي شاركت في غزوة حنين تدعى بهوازن.

أمّا كيف حدثت هذه الغزوة ، فبناء على ما ذهب إليه ابن الأثير في الكامل ، أن هوازن لمّا علمت بفتح مكّة ، جمع القبيلة رئيسها مالك بن عوف وقال لمن حوله : من الممكن أن يغزونا محمّد بعد فتح مكّة ، فقالوا : من الأحسن أن نبدأه قبل أن يغزونا.

فلما بلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر المسلمين أن يتوجهوا إلى أرض هوازن(١) .

وبالرغم من عدم الاختلاف بين المؤرخين في شأن هذه الغزوة والمسائل العامّة فيها ، إلّا أنّ في جزئياتها روايات متعددة لا يكاد بعضها ينسجم مع الآخر ، وما ننقله هنا فقد اقتضبناه عن مجمع البيان للعلامة الطبرسي ، بناء على روايته القائلة : إنّ رؤساء طائفة هوازن جاءوا إلى مالك بن عوف واجتمعوا عنده في أخريات شهر رمضان أو شوال في السنة الثامنة للهجرة ، وكانوا قد جاءوا بأموالهم وأبنائهم وأزواجهم لئلا يفكر أحدهم بالفرار حال المعركة ، وهكذا فقد وردوا منطقة أوطاس.

فعقد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواءه ، وسلمّه عليّاعليه‌السلام وأمر حملة الرايات الذين ساهموا في فتح مكّة أن يتوجهوا براياتهم ذاتها مع علي بن أبي طالب إلى حنين ، واطّلع

__________________

(١) راجع الكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ٢٦١ ، نقلنا القصة بشيء من الاختصار.

٥٧٤

النّبي أن صفوان بن أمية لديه دروع كثيرة ، فأرسل النّبي إليه أن أعرنا مائة درع ، فقال صفوان : أتريدونها عارية أم غصبا؟ فقال النّبي : بل عارية نضمنها ونعيدها سالمه إليك ، فأعطى صفوان النّبي مائة درع على أنّها عارية ، وتحرك مع النّبي بنفسه إلى حنين.

وكان ألفا شخص قد أسلم في فتح مكّة ، فأضيف عددهم إلى العشرة آلاف الذين ساهموا في فتح مكّة ، وصاروا حوالي اثني عشر ألفا ، وتحركوا نحو حنين.

فقال مالك بن عوف ـ وكان رجلا جريئا شهما ـ لقبيلته : اكسروا أغماد سيوفكم ، واختبئوا في كهوف الجبال والوديان وبين الأشجار ، واكمنوا لجيش الإسلام ، فإذا جاءوكم الغداة «عتمة» فاحملوا عليهم وأبيدوهم.

ثمّ أضاف مالك بن عوف قائلا : إن محمّدا لم يواجه حتى الآن رجال حرب شجعانا ، ليذوق مرارة الهزيمة!!

فلما صلّى النّبي صلاة الغداة «الصبح» بأصحابه أمر أن ينزلوا إلى حنين ، ففوجئوا بهجوم هوازن عليهم من كل جانب وصوب ، وأصبح المسلمون مرمى لسهامهم ، ففرّت طائفة من المقاتلين جديدي الإسلام (بمكّة) من مقدمة الجيش ، فكان أن ذهل المسلمون واضطروا وفرّ الكثير منهم.

فخلّى الله بين جيش المسلمين وجيش العدو ، وترك الجيشين على حالهما ، ولم يحم المسلمين لغرورهم ـ مؤقتا ـ حتى ظهرت آثار الهزيمة فيهم.

إلّا أنّ عليّا حامل لواء النّبي بقي يقاتل في عدّة قليلة معه ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (قلب) الجيش وحوله بنو هاشم ، وفيهم عمه العباس ، وكانوا لا يتجاوزون تسعة أشخاص عاشرهم أيمن ابن أم أيمن.

فمرّت مقدمة الجيش في فرارها من المعركة على النّبي فأمر النّبي عمّه العباس ـ وكان جهير الصوت ـ أن يصعد على تل قريب وينادي فورا : يا معشر المهاجرين والأنصار ، يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة ، إلى أين

٥٧٥

تفرّون؟ هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلمّا سمع المسلمون صوت العباس رجعوا وقالوا : لبيّك لبيّك ، ولا سيما الأنصار إذ عادوا مسرعين وحملوا على العدوّ من كل جانب حملة شديدة ، وتقدّموا بأذن الله ونصره ، بحيث تفرقت هوازن شذر مذر مذعورة ، والمسلمون ما زالوا يحملون عليها. فقتل حوالي مائة شخص من هوازن ، وغنم المسلمون أموالهم كما أسروا عدّة منهم(١) .

ونقرأ في نهاية هذه الحادثة التأريخية أن ممثلي هوازن جاءوا النّبي وأعلنوا إسلامهم ، وأبدى لهم النّبي صفحه وحبّه ، كما أسلم مالك بن عوف رئيس القبيلة ، فردّ النّبي عليه أموال قبيلته وأسراه ، وصيره رئيس المسلمين في قبيلته أيضا.

والحقيقة أنّ السبب المهم في هزيمة المسلمين بادئ الأمر ـ بالإضافة إلى غرورهم لكثرتهم ـ هو وجود ألفي شخص ممن أسلم حديثا وكان فيهم جماعة من المنافقين طبعا ، وآخرون كانوا قد جاءوا مع النّبي لأخذ الغنائم ، وجماعة منهم كانوا بلا هدف ، فأثر فرار هؤلاء في بقية الجيش.

أمّا السرّ في انتصارهم النهائي فهو وقوف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليعليه‌السلام وجماعة قليلة من الأصحاب ، وتذكرهم عهودهم السابقة وإيمانهم بالله والركون إلى لطفه الخاص ونصره.

٢ ـ من هم الفارّين

ممّا لا شك فيه أنّ الأكثرية الساحقة فرّب بادئ الأمر من ساحة المعركة ، وما تبقى منهم كانوا عشرة فحسب ، وقيل أربعة عشر شخصا ، وأقصى ما أوصل عددهم المؤرخون لم يتجاوزوا مائة شخص.

ولما كانت الرّوايات المشهورة تصّرح بأن من بين الفارين الخلفاء الثلاثة ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ١٧ ـ ١٩.

٥٧٦

فإنّ بعض المفسّرين سعى لأن يعدّ هذا الفرار أمرا طبيعيا.

يقول صاحب تفسير المنار ما ملخصه : لما رشق العدوّ المسلمين بسهامه ، كان جماعة قد التحقوا بالمسلمين من مكّة ، وفيهم المنافقون وضعاف الإيمان والطامعون «للغنائم» ففرّ هؤلاء جميعا وتقهقروا إلى الخلف ، فاضطرب باقي الجيش طبعا ، وحسب العادة ـ لا خوفا ـ فقد فرّوا أيضا ، وهذا أمر طبيعي عند فرار طائفة فإنّه يتزلزل الباقي منهم فيفر أيضا ـ ففرارهم لا يعني ترك النّبي وعدم نصرته أو تسليمه بيد عدوه ، حتى يستحقوا غضبالله!!(١)

ونحن لا نعلّق على هذا الكلام ، لكن نتركه للقراء ليحكموا فيه حكمهم.

كما ينبغي أن نذكر هذه المسألة وهي أنّ «صحيح البخاري» حين يتكلم عن الهزيمة وفرار المسلمين ينقل ما يلي :

فإذا عمر بن الخطاب في الناس ، وقلت : (الراوي) : ما شأن الناس؟ قال : أمر الله ، ثمّ تراجع الناس إلى رسول الله(٢) .

غير أننا تجرّدنا من الأحكام المسبقة ، والتفتنا إلى القرآن الكريم ، وجدناه لا يذم جماعة بعينها ، بل يذم جميع الفارين.

ولا ندري ما الفرق بين قوله تعالى( ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) حيث قرأنا هذه العبارة في الآيات محل البحث ، وبين عبارة أخرى وردت في الآية (١٦) من سورة الأنفال إذ تقول( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ) ؟!

فبناء على ذلك لو ضممنا الآيتين بعضهما إلى بعض لعرفنا أنّ المسلمين ارتكبوا خطأ كبيرا يومئذ إلّا القليل منهم ، غاية ما في الأمر أنّهم تابوا بعدئذ ورجعوا.

__________________

(١) راجع تفسير المنار ، وإقرار التفصيل فيه ، ج ١ ، الصفحات ٢٦٢ و ٢٦٣ و ٢٦٥.

(٢) المصدر السابق.

٥٧٧

٣ ـ الإيمان والسكينة

السكينة في الأصل مأخوذة من السكون ، وتعني نوعا من الهدوء أو الاطمئنان الذي يبعد كل نوع من أنواع الشك والخوف والقلق والاستيحاش عن الإنسان ، ويجعله راسخ القدم بوجه الحوادث الصعبة والملتوية. والسكينة لها علاقة قربى بالإيمان ، أي أنّ السكينة وليدة الإيمان ، فالمؤمنون حين يتذكرون قدرة الله التي لا غاية لها ، ويتصورون لطفه ورحمته يملأ قلوبهم موج الأمل ويغمرهم الرجاء.

وما نراه من تفسير السكينة بالإيمان في بعض الرّوايات(١) ، أو بنسيم الجنّة متمثلا في صورة إنسان(٢) كل ذلك ناظر إلى هذا المعنى.

ونقرأ في القرآن في الآية (٤) من سورة الفتح قوله تعالى :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) .

وعلى كل حال فهذه الحالة نفسية خارقة للعادة ، وموهبة إلهية بحيث يستطيع الإنسان أن يهضم الحوادث الصعبة ، وأن يحس في نفسه عالما من الدعة والاطمئنان برغم كلّ ما يراه.

وممّا يسترعي النظر أن القرآن ـ في الآيات محل البحث ـ لا يقول : ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعليكم ، مع أنّ جميع الجمل في الآية تحتوي على ضمير الخطاب (كم) ، بل تقول الآية( عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) وهي إشارة إلى أن المنافقين وأهل الدنيا والذين كانوا مع النّبي في المعركة لم ينالوا سهما من السكينة والاطمئنان ، بل كانت السكينة من نصيب المؤمنين فحسب.

ونقرأ في بعض الرّوايات أن نسيم الجنّة هذا كان مع أنبياء الله ورسله(٣) ،

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١١٤.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٠١.

(٣) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١١٢.

٥٧٨

فلذلك كانوا ـ في الحوادث الصعبة التي يفقد فيها كل إنسان توازنه إزاءها ـ أصحاب عزم راسخ وسكينة واطمئنان ، وإرادة حديدية لا تقبل التزلزل.

وكان نزول السكينة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة حنين ـ كما ذكرنا آنفا ـ لرفع الاضطراب الناشئ من فرار أصحابه من المعركة ، وإلّا فهو كالجبل الشامخ الركين ، وكذلك ابن عمّه عليعليه‌السلام وقلة من أصحابه (المسلمين).

٤ ـ في الآيات محل البحث إشارة إلى أنّ الله نصر المسلمين في مواطن كثيرة!

هناك كلام كثير بين المؤرخين حول عدد مغازي النّبي وحروبه ، التي أسهم فيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصيّا ، وقاتل الأعداء ، أو حضرها دون أن يقاتل بنفسه ، أو الحروب التي وقف فيها المسلمون بوجه أعدائهم ولم يكن الرّسول حاضرا في المعركة.

إلّا أنّه يستفاد من بعض الرّوايات التي وصلتنا عن طرق أهل البيتعليهم‌السلام أنّها تبلغ الثمانين غزوة.

وقد ورد في كتاب (الكافي) أن أحد خلفاء بني العباس كان قد نذر مالا كثيرا إن هو عوفي من مرضه «ويقال أنّه قد سمّ» ، فلما عوفي جمع الفقهاء الذين كانوا عنده ، فسألهم عن المال الذي يجب أداؤه لإيفاء نذره ، فلم يعرفوا للمسألة جوابا. وأخيرا سأل الخليفة العباسي الإمام التاسع محمّد بن علي الجوادعليه‌السلام فقال : «الكثير ثمانون».

فلمّا سألوه عن دليله في ذلك استشهد الإمام بالآية( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) ثمّ قال : عددنا حروب النّبي التي انتصر فيها المسلمون على أعدائهم فكانت ثمانين(١) .

٥ ـ إن ما ينبغي على المسلمين أن يعتبروا به ويلزمهم أن يأخذوا منه درسا

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٩٧.

٥٧٩

بليغا ، هو أن ينظروا إلى الحوادث التي هي على شاكلة حادثة حنين ، فلا يغتروا بكثرة العدد أو العدد ، فالكثرة وحدها لا تغني شيئا ، بل المهم في الأمر وجود المؤمنين الراسخين في الإيمان ، ذوي الإرادة والتصميم ، حتى لو كانوا قلة.

كما أنّ طائفة قليلة استطاعت أن تغير هزيمة حنين إلى انتصار على العدو وكانت الكثيرة بادئ الأمر سبب الهزيمة ، لأنّها لم تنصهر بالإيمان تماما.

فالمهم أن يتوفر في مثل هذه الحوادث أناس مؤمنون ذوو استقامة وتضحية ، لتكون قلوبهم مركزا للسكينة الإلهية ، وليكونوا كالجبال الراسخة بوجه الأعاصير المدمرة.

* * *

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606