الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245296 / تحميل: 6212
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

= فتراه يستشكل في عمل من بايعوا محمد بن الأشعث بإمرة المؤمنين، التي رآها مخالفة للإجماع المدعى يوم السقيفة. وتراه يعترف بمخالفة سعد ثم يدعي أنه رجع عن ذلك.. ولست أدري كيف رجع عنه، مع أنه من المتسالم عليه تاريخياً: أنه استمر على الخلاف معهم، حتى اغتيل بالشام ـ اغتالته السياسة، على حد تعبير طه حسين في كتابه: من تاريخ الأدب العربي ج ١ ص ١٤٦، وغيره.. وذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان.

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا هو الإشارة إلى أن كون الأئمة من قريش ليس فقط أصبح تقليداً متبعاً، بل هو قد أصبح من عقائد أهل السنة المعترف بها.

ولكن ما تأتي به السياسة، تذهب به السياسة، إذ بعد تسعماية سنة جاء السلطان سليم، وخلع الخليفة العباسي، وتسمى هو ب‍ـ (أمير المؤمنين) مع أنه لم يكن من قريش. وبهذا يكون قد ألغى هذا التقليد عملا من عقائد طائفة من المسلمين، وأبطله.

ومهما يكن من أمر فإن أول من ادعى استحقاق الخلافة بالقربى النسبية من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أبو بكر، ثم عمر، وجاء بعدهما بنو أمية، فعرفوا أنفسهم ذوي قربى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى لقد حلف عشرة من قواد أهل الشام، وأصحاب النعم والرياسة فيها ـ حلفوا ـ للسفاح: على أنهم لم يكونوا يعرفون إلى أن قتل مروان، أقرباء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية. فراجع النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٢٨، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ / ١٥٩، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٣.

بل لقد ذكر المسعودي والمقريزي: أن إبراهيم بن المهاجر البجلي، الموالي للعباسيين قد نظم قضية هؤلاء الأمراء شعرا، فقال:

أيها الناس اسمعوا أخبركم

عجباً زاد على كل العجب

عـجبا من عبد شمس إنهم

فتحوا للناس أبواب الكذب

ورثـوا أحـمد فيما زعموا

دون عباس بن عبد المطلب

كـذبـوا والله مـا نـعلمه

يحرز الميراث إلا من قرب

ويقول الكميت عن دعوى بني أمية هذه:

وقالوا: ورثناها أبانا وأمنا

ولا ورثتهم ذاك أم ولا أب

٤١

= وفي العقد الفريد ج ٢ / ١٢٠ طبع دار الكتاب العربي: أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب قالت لمعاوية: (.. ونبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المنصور، فوليتم علينا من بعده، تحتجون بقرابتكم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحن أقرب إليه منكم، وأولى بهذا الأمر الخ).

ثم جاء العباسيون، وادعوا نفس هذه الدعوى، كما هو واضح من النصوص التي ذكرناها، ونذكرها. بل لقد ادعى نفس هذه الدعوى أيضاً أكثر إن لم يكن كل من خرج مطالبا بالخلافة، سواء كان خروجه على الأمويين أو على العباسيين..

وهذا يعني أن العامل النسبي قد لعب دوراً هاماً في الخلافة الإسلامية، وكان الناس بسبب جهلهم. وعدم وعيهم لمضامين الإسلام يصدقون ويسلمون بأن القربى النسبية تكفي وحدها في أن تجعل لمدعيها الحق في منصب الخلافة. ولعل أكثر ما ورد في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة من الوصايا بأهل البيتعليهم‌السلام ، والأمر بمودتهم، ومحبتهم، والتمسك بهم جعل الناس يظنون أن سبب ذلك هو مجرد قرباهم النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وكان أن استغل الطامحون فهم الناس الخاطئ هذا. بل لقد حاولوا ما أمكنهم تكريسه، وتثبيته.

إلا أن حقيقة الأمر هي غير ذلك، فإن منصب الخلافة في الإسلام، لا يدور مدار القربى النسبية منه. بل هو يدور مدار الأهلية والجدارة، والاستعداد الذاتي لقيادة الأمة قيادة صالحة، كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقودها، يدلك على ذلك أننا لو رجعنا إلى النصوص القرآنية. وإلى ما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن الخليفة بعده، فلعلنا لا نعثر على نص واحد منها يفهم منه أن استحقاق الخلافة يدور مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحسب.

وكل ما ورد في القرآن، وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأمر بموالاة أهل بيته، وحبهم، والتمسك بهم، ومن تعيينه خلفاءه منهم، فليس لأجل قرباهم النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل لأن الأهلية، والجدارة الحقيقية لهذا المنصب قد انحصرت في الخارج فيهم. فهو على حد تعبير الأصوليين: من باب الإشارة إلى الموضوع الخارجي. وليس تصريحهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقربى لأجل بيان الميزان والمقياس والملاك في استحقاقهم الخلافة.

وواضح أنه كان لا بد من الالتجاء إلى الله ورسوله لتعيين الشخص الذي له الجدارة والأهلية لقيادة الأمة، لأن الناس قاصرون عن إدراك حقائق الأمور، ونفسيات، وغرائز، وملكات بعضهم البعض.. إدراكا دقيقا وحقيقيا، وعن إدراك عدم طرو تغير أو تبدل عليه في المستقبل. ولقد عينهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفعل، ودل عليه بمختلف الدلالات، =

٤٢

= بالقول، تصريحاً، وتلويحاً، وكناية، ونصاً، ووصفاً، وغير ذلك، وبالفعل أيضاً، حيث أمره على المدينة، وعلى كل غزوة لا يكون هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها، ولم يؤمر عليه أحداً، وغير ذلك..

هذا هو رأي الشيعة، وهذا هو رأي أئمتهم في هذا الأمر، وكلماتهم طافحة ومشحونة بما يدل على ذلك. ولا يبقى معه مجال لأي لبس أو توهم، فراجع كلام الإمام علي في شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٢، وغيره مما قد يتعسر استقصاؤه..

ومما ذكرنا نستطيع أن نعرف أن ما ورد عن الإمام عليعليه‌السلام ، أو عن غيره من الأئمة الطاهرين، من قولهم: أنهم هم الذين عندهم ميراث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنما يقصدون به الميراث الخاص، الذي يختص الله به من يشاء من عباده، أعني: ميراث العلم، على حد قوله تعالى:

( ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا.. ) وقد اعترف أبو بكر نفسه لفاطمة الزهراء بأن الأنبياء يورثون العلم لأشخاص معينين من بعدهم، وعلى كل فلقد أنكر علي عليه‌السلام مبدأ استحقاق الخلافة بالقرابة والصحابة أشد الإنكار، فقد جاء في نهج البلاغة قوله عليه‌السلام : ((وا عجباً!! أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة؟!!)). هكذا في نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ولكن الظاهر هو أنها محرفة، وأن الصحيح هو ما في نسخة ابن أبي الحديد، وهي هكذا ((وا عجباً!! أن تكون الخلافة بالصحابة، ولا تكون بالصحابة والقرابة!!)).

وأما ما يظهر منه أنهم يستدلون لاستحقاقهم الخلافة بالقربى من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنما اقتضاه الحجاج مع الخصوم، فهو من باب: (الزموهم بما ألزموا به أنفسهم). ويدل على هذا المعنى ويوضحه ما قاله الإمام عليعليه‌السلام لأبي بكر، عندما جيء به ليبايع، فكان مما قاله: ((.. واحتججتم عليهم -أي على الأنصار- بالقرابة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى الخ)).. راجع: الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٨.

ويشير أيضاًعليه‌السلام ـ إلى هذا المعنى في بعض خطبه الموجودة في نهج البلاغة فمن أراد فليراجعه.. كما ويشير إليه أيضاً ما نسب إليهعليه‌السلام من الشعر(على ما في نهج البلاغة) وهو قوله:

فـإن كنت بالشورى ملكت أمورهم

فـكيف بـهذا والـمشيرون غيب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فـغيرك أولـى بـالنبي وأقـرب

ولكن أحمد أمين المصري في كتابه: ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٦١، و ص ٣٠٠، و ص ٢٢٢، و ص ٢٣٥، وكذلك سعد محمد حسن في كتابه: المهدية في الإسلام ص ٥.

والخضري في محاضراته ج ١ ص ١٦٦: إن هؤلاء ينسبون إلى الشيعة القول: بأن منصب الخلافة يدور مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسب، رغم اعتراف أحمد أمين في نفس الكتاب، وبالتحديد في ص ٢٠٨، ٢١٢: بأن الشيعة يحتجون بالنص في خصوص الخليفة بعد الرسول. بل والخضري يعترف بذلك أيضاً حيث قال: (أما الانتخاب عند أهل التنصيص على البيت العلوي، فإنه كان منظورا فيه إلى الوراثة الخ).=

٤٣

= وهي نسبة غريبة حقاً ـ بعد هذا الاعتراف الصريح منهم، ومن غيرهم ـ فإن عقيدة الشيعة ـ تبعاً لأئمتهم هي ما ذكرنا، أي ليس منصب الخلافة دائراً مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأدلة الشيعة تنطق وتصرح بأن القربى النسبية وحدها لا توجب بأي حال من الأحوال استحقاق الخلافة، وإنما لا بد من النص المعين لذلك الشخص الذي يمتلك الجدارة والأهلية والاستعداد الذاتي لها.

إنهم يستدلون على خلافة عليعليه‌السلام بالنصوص القرآنية، والنبوية المتواترة عند جميع الفرق الإسلامية، ولا يستدلون بالقربى إلا من باب: ألزموهم.. أو من باب تكثير الأدلة، أو في مقابل استدلال أبي بكر وعمر بها، وإذا ما شذ واحد منهم، واستدل بذلك، معتقداً بخلاف ما قلناه عن قصور نظر، وقلة معرفة، أو لفهمه ـ خطأ ـ ما ورد عنهمعليهم‌السلام . من أن عندهم ميراث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يجب، بل لا يجوز أن يحسب على الشيعة، ومن ثم القول بأن ذلك هو قولهم، وأن تلك هي عقيدتهم.

ولعل أحمد أمين لم يراجع أدلة الشيعة!!

أو أنه راجعها، واشتبه عليه الأمر!!

أو أنه. لا هذا. ولا ذاك.. وإنما أراد التشنيع عليهم، فنسب إليهم ما ليس من مذهبهم!

ويدلنا على صحة هذا الاحتمال الأخير، اعترافه المشار إليه، بأن الشيعة يستدلون على إمامة عليعليه‌السلام بالنص، لا بالقربى!!..

وخلاصة القول هنا: إن القربى النسبية ليست هي الملاك في استحقاق الخلافة. ولم تكن دعوى أنها كذلك، لا من الأئمة، ولا من شيعتهم. وإنما كانت من قبل أبي بكر، وعمر، ثم الأمويين، فالعباسيين.

وإذا كان أهل السنة ـ تبعاً لأئمتهم ـ قد جعلوا كون الإمامة في قريش من عقائدهم. وإذا كان غير أهل البيت هم الذين ادعوا هذه الدعوى، وهللوا وكبروا لها. فمن الحق لنا إذن أن نقول:

(رمتني بدائها وانسلت).

وأخيراً.. فلقد كان من أبسط نتائج هذه العقيدة لدى أهل السنة، وقبولهم أن القربى النسبية تجعل لمدعيها الحق في الخلافة.. أن سنحت الفرصة لأن يصل أشخاص إلى الحكم من أبرز مميزاتهم، وخصائصهم جهلهم بتعاليم الدين، وانسياقهم وراء شهواتهم، أينما كانت، وحيثما وجدت، جاعلين الحكم والسلطان، وسيلة إليها، مسدلين على حماقاتهم هنا، وتفاهاتهم هناك ستاراً من القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو من هؤلاء وأمثالهم بريء.

ولما لم يعد ذلك الستار يقوى على المنع من استكناه واقعهم، وحقيقة نواياهم وتصرفاتهم، كان لا بد لهم من الالتجاء إلى أساليب أخرى، تبرر لهم واقعهم، وتحمي تصرفاتهم، وتؤمن لهم الاستمرار في الحكم، ولعل بيعة المأمون للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد هي من تلك الأساليب، كما سيتضح إن شاء الله تعالى..

٤٤

وعندما ذهب داوود بن علي إلى مكة، والياً عليها، من قبل أخيه السفاح، وأراد أن يخطب في مكة خطبته الأولى، طلب منه سديف بن ميمون أن يأذن له في الكلام، فأذن له، فوقف، وقال من جملة ما قال:

(.. أتزعم الضلال: أن غير آل الرسول أولى بتراثه؟! ولم؟! وبم؟! معاشر الناس؟! ألهم الفضل بالصحابة، دون ذوي القرابة؟ الشركاء في النسب، والورثة للسلب)(١) .

ويقول داوود بن علي في نفس المناسبة، أعني في أول خطبة له: (لم يقم فيكم إمام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا علي بن أبي طالب، وهذا القائم فيكم..) وأشار إلى السفاح(٢) .

____________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٩، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب ج ٤ ص ٤٨٥.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٧ و ٢٥٦، والطبري ج ١٠ ص ٣٣ و ٣٧، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ٢ ص ٢٥٢، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٧، ٨٨، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٦، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٢٩ و ١٧٣، وإمبراطورية العرب ص ٤٢٢، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٤٢، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٥، وفيه: (إنه لم يخطب على منبركم هذا خليفة حق إلخ).. وبرواية أخرى فيه: (أقسم بالله قسماً براً، ما قام هذا المقام أحد بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أحق به من علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين هذا)..

٤٥

وقال المنصور في خطبة له: (وأكرمنا من خلافته، وميراثنا من نبيه..)(١) .

ولكنهم بعد المنصور ـ بل وحتى من زمن المنصور نفسه كما سيتضح ـ قد غيروا سلسلة الإرث هذه، وجعلوها عن طريق العباس، وولده عبد الله، ولكنهم أجازوا بيعة علي، لأن العباس نفسه كان قد أجازها.

كما سيأتي بيانه.. فكانت استدلالات الخلفاء ابتداء من المنصور ناظرة إلى الإرث عن هذا الطريق..

فنرى المنصور يبين في رسالة منه لمحمد بن عبد الله بن الحسن: أن الخلافة قد ورثها العباس في جملة ما ورثه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنها في ولده(٢) .

وكان الرشيد يقول: (ورثنا رسول الله، وبقيت فينا خلافة الله)(٣) . وقال الأمين عندما بويع له، بعد موت أبيه الرشيد: (.. وأفضت خلافة الله، وميراث نبيه إلى أمير المؤمنين الرشيد..) (٤) .

ومدح البعض المأمون، وعرض بأخيه الذي غدر به، فقال في جملة أبيات له:

إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه.. ولنعد إلى ما كنا فيه أولاً، فنقول:

إن تغدروا جهلاً بوارث أحمد

ووصي كل مسدد وموفق(٥)

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٠١، والطبري ج ١٠ ص ٤٣٢.

(٢) الطبري ج ١٠ ص ٢١٥، والعقد الفريد طبع دار الكتاب ج ٥ ص ٨١، إلى ٨٥، وصبح الأعشى ج ١ ص ٣٣٣، فما بعد، والكامل للمبرد، وطبيعة الدعوة العباسية..

(٣) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢١٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٦٣.

(٥) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٩٩.

٤٦

دعوى الأخذ بثارات العلويين:

وأما ادعاؤهم: أنهم إنما خرجوا للأخذ بثارات العلويين، واستمرارهم على ربط الثورة بأهل البيت، حتى بعد نجاح ثورتهم، وتسلمهم لازمة الحكم والسلطان ـ وهذه هي الناحية الثانية من المرحلة الرابعة ـ فذلك أوضح من أن يخفى.. وقد تقدم قول محمد بن علي لبكير بن ماهان: (وسنأخذ بثأرهم..) يعني بثارات العلويين.. وتقدم أيضاً قول داوود ابن علي: (وإنما أخرجنا الآنفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا..)..

ويقول السفاح، عندما أتي برأس مروان: (ما أبالي متى طرقني الموت، فقد قتلت بالحسين، وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم)(١) .

ويقول صالح بن علي لبنات مروان: (ألم يقتل هشام بن عبد الملك، زيد بن علي بن الحسين، وصلبه في كناسة الكوفة؟. وقتل امرأة زيد بالحيرة، على يد يوسف بن عمرو الثقفي؟!

ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد، وصلبه بخراسان؟!

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٥٧ وفي شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٣١، وحياة الإمام موسى بن جعفر للقرشي ج ١ ص ٣٣٧، نقلاً عن مختصر أخبار الخلفاء، هكذا. (.. وقد قتلت بالحسين ألفاً من بني أمية. إلى أن قال: وقتلنا سائر بني أمية بحسين، ومن قتل معه، وبعده من بني عمنا أبي طالب)..

٤٧

ألم يقتل الدعي عبيد الله بن زياد، مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة؟!

ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين(١) ؟!.

وبرواية ابن أبي الحديد، أنه قال لهن: (.. إذن، لا نستبقي منكم أحداً، لأنكم قد قتلتم إبراهيم الإمام، وزيد بن علي، ويحيى بن زيد، ومسلم بن عقيل.

وقتلتم خير أهل الأرض حسيناً، وإخوته، وبنيه، وأهل بيته، وسقتم نساءه سبايا ـ كما يساق ذراري الروم ـ على الأقتاب إلى الشام..)(٢) .

ولا بأس بمراجعة ما قاله داوود بن علي عندما قتل ثمانين أموياً مرة واحدة(٣) .

وكذلك فإنهم ما لقبوا أبا سلمة الخلال، أول وزير في الدولة العباسية بـ‍ (وزير آل محمد)، وأبا مسلم الخراساني بـ‍ (أمين، أو أمير آل محمد)(٤) . إلا من أجل الحفاظ على ربط الدعوة بأهل البيت عليهم‌السلام ، ولتبقى ـ من ثم ـ محتفظة بقوتها، وحيويتها.

وأخيراً.. فلم يكن اتخاذهم السواد شعاراً إلا تعبيراً عن الحزن والأسى

____________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٣٢، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٤٧، ولا بأس بمراجعة خطبة السفاح في مروج الذهب أيضاً ج ٣ ص ٢٥٧.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٢٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٩٢.

(٤) الفخري في الآداب السلطانية ص ١٥٥، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٧١، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٥٤، والطبري ج ١٠ ص ٦٠، وتاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الأول، جزء ١ ص ١٥٢، وغيرهم، فإنه مما نص عليه أكثر المؤرخين..

٤٨

لما نال أهل البيت في عهد بني أمية(١) .

وهكذا. يتضح، بما لا مجال معه للشك: أنهم كانوا يستغلون سمعة العلويين، ودماءهم الزكية في محاولاتهم للوصول إلى الحكم، وتثبيت أقدامهم فيه..

بل إن من الملاحظ أن كثيراً من الثورات التي قامت بعد ثورة بني العباس، كانت تحاول ذلك ـ بطريقة أو بأخرى ـ أي أنها كانت تظهر للناس ارتباطها بأهل البيتعليهم‌السلام ، وأنها تحظى بتأييدهم، وموافقتهم، وكثير منها كان يرفع شعار: (الرضا من آل محمد).

نهاية المطاف..

وبعد كل ما تقدم.. يتضح لنا بجلاء، الأسلوب الذي انتهجه العباسيون، والخطة التي اتبعوها، من أجل كسب ثقة الناس بهم، وتأييدهم لهم، وصرف أنظار الحكام عنهم..

____________

(١) هذا يصح بالنسبة للملابس السوداء. وأما كون الرايات سوداء، فيحتمل أن يكون لأجل ذلك، حسبما صرح به ابن خلدون ص ٢٥٩، ويحتمل أن يكون لما ورد من أن راية عليعليه‌السلام يوم صفين كانت سوداء، على ما نص عليه فإن فلوتن في هامش: ص ١٢٦ من كتابه السيادة العربية، أو لأن رايات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حروبه مع الكفار كانت سوداء، يقول الكميت مشيراً إلى ذلك:

وإلا فارفعوا الرايات سوداً

على أهل الضلالة والتعدي

وفي صبح الأعشى ج ٣ ص ٣٧٠، نقلاً عن القاضي الماوردي في كتابه: (الحاوي الكبير): أن السبب في اختيارهم السواد هو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عقد في يوم حنين ويوم الفتح لعمه العباس راية سوداء. وفي صبح الأعشى أيضاً ج ٣ ص ٣٧١ نقل عن أبي هلال العسكري في كتابه (الأوائل) أن سبب ذلك هو قتل مروان لإبراهيم الإمام، حيث لبس شيعته السواد حدادا عليه، فلزمهم ذلك، وصار شعاراً لهم..

ونرجح أن حادثة قتل يحيى بن يزيد، ولبس الخراسانيين السواد عليه سبعة أيام، هي التي شجعت العباسيين على اتخاذ السواد شعاراً لهم، إظهارا للحزن والأسى لما نال أهل البيت في الدولة الأموية. ويذهب إلى هذا الرأي السيد عباس المكي في نزهة الجليس ج ١ ص ٣١٦. بل صرح البلاذري في أنساب الأشراف ج ٣ ص ٢٦٤ بما يدل على ذلك فراجع.

٤٩

وأيضاً الطريقة التي اتبعوها في إبعاد العلويين عن مجال السياسة، وأن بيعتهم لهم ما كانت إلا خداعاً وتمويهاً، من أجل تنفيذ خطتهم، وإنجاح دعوتهم..

كما وظهر أن كون الدعوة ـ في بادئ الأمر ـ باسم العلويين، لم يكن أمراً عفوياً، وتلقائياً. وإنما كان ضمن خطة دقيقة، ومدروسة، وضعت بعناية فائقة، كما توضحه لنا النصوص المتقدمة.

وظهر أيضاً: كيف أن العباسيين قد حرصوا كل الحرص على ربط الثورة بأهل البيتعليهم‌السلام ، وكانوا يعتمدون على هذا الربط كل الاعتماد، ويصرون، ويؤكدون عليه، كلما سنحت لهم الفرصة، وواتاهم الظرف، حتى عندما وصلوا إلى الحكم، وفازوا بالسلطان.

وقد انقاد الناس لهم في البداية، واستقامت لهم الأمور، ظنا منهم بحسن نيتهم، وسلامة طويتهم.

ولكن.. ماذا كانت النتيجة بعد ذلك، بالنسبة للناس عامة، وبشكل خاص بالنسبة للعلويين، الذين قامت الثورة باسمهم ونجحت بفضلهم؟! وماذا كان نصيبهم، ومصيرهم، من هذه الثورة ومعها؟!

هذا.. ما سوف نحاول الإجابة عليه فيما يأتي من الفصول.

مصدر الخطر على العباسيين

العلويون هم مصدر الخطر:

قد تقدم معنا: أن الدولة العباسية إنما قامت ـ في بداية أمرها ـ على الدعوة لخصوص العلويين، ثم لأهل البيت، ثم إلى الرضا من آل محمد.. وأن سر نجاحها ليس إلا ربطها بأهل البيتعليهم‌السلام . وإن كانت قد انحرفت فيما بعد، حيث تحكم العباسيون وتسلطوا على الأمة بدعوى القربى النسبية من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٥٠

ومن هنا.. فإن من الطبيعي، أن يكون الخطر الحقيقي الذي يتهدد العباسيين، وخلافتهم، هو من جهة أبناء عمهم العلويين، الذين كانوا أقوى منهم حجة، وأقرب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم، باعتراف العباسيين أنفسهم(١) ..

فادعاؤهم الخلافة إذن، له مبرراته الكاملة، سيما وأن من بينهم من له الجدارة والأهلية، ويتمتع بأفضل الصفات والمؤهلات لهذا المنصب من العلم، والعقل، والحكمة، وبعد النظر في الدين والسياسة. هذا بالإضافة إلى ما كان يكنه الناس لهم، من مختلف الفئات والطبقات، من الاحترام والتقدير، الذي نالوه بفضل تلك المميزات والصفات، وبفضل سلوكهم المثالي، وترفعهم عن كل المشينات، والموبقات.

أضف إلى ذلك كله: أن رجالات الإسلام، وأبطاله، كانوا هم آل أبي طالب (رضي الله تعالى عنه)، فأبو طالب مربي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفيله، وعليعليه‌السلام وصيه وظهيره، وكذلك الحسن، والحسين، وعلي زين العابدين، وباقي الأئمة. ومنهم زيد بن علي الخارج على بني أمية، وغيرهم، ممن يطول المقام بذكرهم، (رضوان الله عليهم أجمعين).

ولقد كانت بطولات العلويين، ومواقفهم على كل شفة ولسان، وفي كل قلب وفؤاد، حتى لقد ألفت الكتب الكثيرة في وصف تلك البطولات، وبيان هاتيك المواقف..

وخلاصة الأمر: إنه لم يكن هناك مجال لإنكار نفوذ العلويين الواسع في تلك الفترة، أو تجاهله، فإن ذلك إما أن يكون عن قصر نظر، وقلة معرفة، أو مكابرة وعناداً.

____________

(١) سيأتي اعتراف عيسى بن موسى بذلك، واعتراف الرشيد للكاظمعليه‌السلام والمأمون للرضاعليه‌السلام في الكتاب التي سنورده في أواخر هذا الكتاب، وأيضاً قوله للرضاعليه‌السلام : أنتم والله أمس برسول الله رحماً، وبيعة السفاح والمنصور وغيرهم لمحمد بن عبد الله العلوي وكلام المنصور في مجلس البيعة يدل على ذلك أيضاً، إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه واستقصائه.. وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيداً مقدار هذا النفوذ.

٥١

تخوف العباسيين من العلويين:

وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيداً مقدار هذا النفوذ، للعلويين، ويتخوفون منه، منذ أيامهم الأولى في السلطة. ومما يدل على ذلك:

أن السفاح، من أول عهده كان قد وضع الجواسيس على بني الحسن، حيث قال لبعض ثقاته، وقد خرج وفد بني الحسن من عنده: (قم بإنزالهم ولا تأل في ألطافهم، وكلما خلوت معهم، فأظهر الميل إليهم، والتحامل علينا، وعلى ناحيتنا. وأنهم أحق بالأمر منا، وأحص لي ما يقولون، وما يكون منهم في مسيرهم، ومقدمهم..)(١) .

وقد تنوعت هذه المراقبة، وتعددت أساليبها بعد عهد السفاح، يظهر ذلك لكل من راجع كتب التاريخ(٢) .

خوف المنصور من العلويين

ومما يدل على مدى تخوف العباسيين من العلويين وصية المنصور لولده المهدي، التي يحثه فيها على القبض على عيسى بن زيد العلوي، يقول المنصور: (.. يا بني، إني قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها. ولست أخاف عليك إلا أحد رجلين: عيسى بن موسى، وعيسى بن زيد. فأما عيسى بن موسى، فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، ووالله، لو لم يكن إلا أن يقول قولاً لما خفته عليك، فأخرجه من قلبك، وأما عيسى بن يزيد، فانفق هذه الأموال، واقتل هؤلاء الموالي، واهدم هذه المدينة، حتى تظفر به،

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ١١ ص ٧٥٢، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ ص ٧٤، وتاريخ التمدن الإسلامي، وغير ذلك..

(٢) وقد اعترف المنصور نفسه بهذه المراقبة في بعض خطبه: فراجع: الطبري ج ١٠ ص ٤٣٢، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٠١.

٥٢

ثم لا ألومك..)(١) .

وليس تخوف المنصور إلى هذا الحد من عيسى بن زيد لعظمة خارقة في عيسى هذا، وإنما كل ما في الأمر أن المجتمع الإسلامي كان قد قبل ـ في تلك الفترة من الزمن ـ أن الخلافة الشرعية إنما هي في ولد عليعليه‌السلام . وإذا ما قام عيسى بن زيد بثورة، فإنه سوف يلقى تأييدا واسعا، فهو من جهة ابن زيد الشهيد، الثائر على بني أمية.

ومن جهة أخرى: كان من المعاونين لمحمد بن عبد الله العلوي ـ قتيل المدينة ـ الذي كان السفاح والمنصور قد بايعاه، حسبما تقدم، والذي ادعي على نطاق واسع ـ باستثناء الإمام الصادقعليه‌السلام ـ أنه مهدي هذه الأمة. ـ كما أنه ـ أي عيسى بن زيد ـ كان من المعاونين لإبراهيم أخي محمد بن عبد الله الآنف الذكر، والذي خرج بالبصرة، وقتل بباخمرى..

ومما يدل على مدى خوف المنصور من العلويين أنه: عندما كان مشغولا بحرب محمد بن عبد الله، وأخيه إبراهيم، كان لا ينام الليل في تلك الأيام. وأهديت له جاريتان، فلم ينظر إليهما، فكلم في ذلك، فنهر المتكلمة، وقال: (.. ليست هذه الأيام من أيام النساء، لا سبيل لي إليهما، حتى أعلم: أرأس إبراهيم لي، أم رأسي لإبراهيم؟)(٢) .

____________

(١) الطبري طبع ليدن ج ١٠ ص ٤٤٨.

وتحسن الإشارة هنا إلى أن الأموال التي خلفها المنصور للمهدي تبلغ ٦٠٠ مليون درهم، و ١٤ مليون دينار. راجع أمراء الشعر العربي في العصر العباسي ص ٣٥.

(٢) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٩٥، والطبري ج ١٠ ص ٣٠٦، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١١٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٨. وأنساب الأشراف ج ٣ ص ١١٨، ولكنه يذكر أنهما امرأتان من قريش كانتا قد خطبتا للمنصور.

٥٣

وهيئت له آنئذٍ عجينة من مخ وسكر، فاستطابها، فقال: (أراد إبراهيم أن يحرمني هذا وأمثاله)(١) .

وأرسل إلى كل باب من أبواب عاصمته ـ وهي الكوفة آنئذٍ ـ إبلاً ودواباً، حتى إذا أتى إبراهيم وجيشه من ناحية، هرب هو إلى الري من الناحية الأخرى(٢) .

وفي حربه ـ أي المنصور ـ مع محمد بن عبد الله اتسخت ثيابه جداً، حيث لم ينزعها عن بدنه أكثر من خمسين يوماً(٣) .

وكان لا يستطيع أن يتابع كلامه من كثرة همه(٤) .

وأخيراً.. فكم من مرة رأيناه يجلب الإمام الصادقعليه‌السلام ، ويتهدده ويتوعده، ويتهمه بأنه يدبر للخروج عليه وعلى سلطانه.

فكل ذلك يدل دلالة واضحة على مدى رعب المنصور، وخوفه من العلويين، وما ذلك إلا لإدراكه مدى ما يتمتعون به من التأكيد، في مختلف الطبقات، وعند جميع الفئات.

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٩٨. وهذا يعبر بوضوح عن نوعية تفكير خليفة المسلمين ونوعية طموحاته.

(٢) الطبري ج ١٠ ص ٣١٧، طبع ليدن، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١١٣. ومرآة الجنان ج ١ ص ٢٩٩، وشرح ميمية أبي فراس ص ١١٦، وفرج المهموم في تاريخ علماء النجوم ص ٢١٠، نقلاً عن تجارب الأمم لابن مسكويه ج ٤.

(٣) الطبري ج ١٠ ص ٣٠٦، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٩٥، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٨، والمحاسن والمساوي ص ٣٧٣، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، وأنساب الأشراف للبلاذري ج ٣ ص ١١٨.

(٤) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، وقال اليافعي في مرآة الجنان ج ١ ص ٢٩٨، ٢٩٩: (.. ولم يأو إلى فراش خمسين ليلة، وكان كل يوم يأتيه فتق من ناحية. هذا، ومئة ألف سيف كامنة له بالكوفة، قالوا: ولولا السعادة لسل عرشه بدون ذلك).

٥٤

حتى إنه عندما سئل عن المبايعين لمحمد بن عبد الله أجاب: (.. ولد علي، وولد جعفر، وعقيل، وولد عمر بن الخطاب، وولد الزبير بن العوام، وسائر قريش، وأولاد الأنصار)(١) .

وسيمر معنا أن المنصور ادعى أن ولده هو المهدي، عندما رأى أن الناس ـ ما عدا الإمام الصادقعليه‌السلام ـ قد قبلوا بمهدوية محمد بن عبد الله العلوي. وسيمر معنا أيضاً طرف من معاملته للعلويين فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

خوف المهدي من العلويين:

وأما خوف المهدي من العلويين، فذلك لعله من أوضح الواضحات، فمثلا نرى أنه: عندما أخرج الإمام الكاظمعليه‌السلام من السجن، يطلب منه أن لا يخرج عليه، ولا على أحد من ولده(٢) .

كما أنه قد مكث مدة يطلب عيسى بن زيد، والحسن بن إبراهيم، بعد هربه من السجن.. فقال المهدي يوماً لجلسائه: (لو وجدت رجلاً من الزيدية، له معرفة بآل حسن، وبعيسى بن زيد، وله فقه. فاجتلبه عن طريق الفقه، فيدخل بيني وبين آل حسن، وعيسى بن زيد)، فدله الربيع على يعقوب بن داوود، فلم يزل أمره يرتفع عند الخليفة المهدي، حتى استوزره، وفوضه جميع أمور الخلافة، وخرج كتابه على الدواوين

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٩٤، ٢٩٥.

(٢) راجع: مروج الذهب، وابن خلكان: ترجمة الإمام الكاظم، وفصل الخطاب، وينابيع المودة، وكشف الغمة، ومرآة الجنان، وصفة الصفوة.

وصرح في ينابيع المودة ص ٣٨٢، ٣٨٣ باتفاق المؤرخين على ذلك.

٥٥

بأنه: قد آخاه(١) . كل ذلك من أجل أن يدله على الحسن بن إبراهيم، وعيسى بن زيد، مع أن يعقوب هذا كان قد سجنه المنصور، لخروجه عليه مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، والمهدي هو الذي أطلقه..

ولكنه لما لم يدله على عيسى بن زيد اتهمه بأنه: يمالئ الطالبيين فسجنه(٢) وبقي في السجن إلى زمن الرشيد، فأخرجه. وقد كف بصره وصار شعره كالأنعام..

خوف الرشيد من العلويين:

وأما الرشيد (الذي ثارت الفتن في زمنه بين أهل السنة والرافضة(٣) ،

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ ص ٤٦٤، ٥٠٧، ٥٠٨، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣١٢، والفخري في الآداب السلطانية ص ١٨٤، ١٨٥، وليراجع: الوزراء والكتاب ص ١٥٥ وغير ذلك. وسيأتي في فصل: ظروف البيعة المزيد من الكلام حول نفوذ يعقوب هذا.. ونكتفي هنا بالقول: إنه قد بلغ من نفوذه، أن جاز لبشار أن يقول أبياته المشهورة:

بني أمية هبوا طال نومكـــم

إن الخليفة يعقوب بن داوود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا

خليفة الله بين الزق والعـود

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٣١٢، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٢، والطبري، وغير ذلك. وفي مرآة الجنان ج ١ ص ٤١٩ وغيره: أنه حبسه في بئر، وبنى عليه قبة، وليراجع الوزراء والكتاب ص ١٥٥ أيضاً.

وقد دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي بعد أن سجن يعقوب، وقال له: (إن يعقوب رجل رافضي)..

ومع ذلك.. فإننا نرى البعض يتهم يعقوب هذا بأنه هو الذي وشى للرشيد بالإمام موسى ابن جعفرعليه‌السلام ، فراجع عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٧٣، وغيره..

(٣) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٧٧.

٥٦

فقد كان معنياً بالمسألة عن آل علي، وكل من كان ذا نباهة وشأن منهم، كما سيأتي.

وقضيته مع يحيى بن عبد الله بن الحسن، الذي كان قد خرج في الديلم، وحالته السيئة، وهمومه في أيام خروجه، أشهر من أن تحتاج إلى بيان. وكيف لا تأخذه الهموم، وتذهب به الوساوس، وقد اتبع يحيى (خلق كثير، وجم غفير، وقويت شوكته، وارتحل إليه الناس من الكور والأمصار، فانزعج لذلك الرشيد، وقلق من أمره). وكان الساعي بالصلح بينه وبين يحيى هو الفضل بن يحيى، وبسبب تمكنه من إخماد ثورة يحيى عظمت منزلته عند الرشيد جداً، وفرح بذلك الصلح فرحاً عظيماً(١) . وإن كان قد غدر بيحيى بعد ذلك، كما هو معروف ومشهور..

كما أنه عندما ذهب إلى المدينة لم يعط الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، سوى مائتي دينار، رغم أنه كان يعطي من لا يقاسون به الآلاف منها، وكان اعتذاره عن ذلك لولده المأمون، أنه لو أعطاه أكثر من ذلك لم يأمن أن يخرج عليه من الغد مئة ألف سيف من شيعته، ومحبيه صلوات الله وسلامه عليه(٢) .

ثم عاد وسجنه بعد ذلك بحجة أنه كان يجبى إليه الخراج، ثم يدس إليه السم، ويتخلص منه، وذلك هو مصير أكثر الأئمة على يد الخلفاء قبله وبعده.

____________

(١) راجع في ذلك كله: البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٦٧، وعمدة الطالب، طبع بيروت ص ١٢٤، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٩٠.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٩٢، والبحار ج ٤٨ ص ١٣١، ١٣٢.

وقد رأينا أن العباسيين ابتداء من المنصور، بل السفاح ـ مع الإمام الصادقعليه‌السلام ـ كانوا دائما يتهددون الأئمة ـ الذين ما كانوا يجدون الفرصة لأي تحرك، ومن أي نوع، كما سنوضحه ـ ويتهمونهم بأنهم كانوا يدبرون في الخفاء للخروج عليهم، ليجدوا الوسيلة من ثم ـ للتضييق عليهم، والمبرر لسجنهم، ومصادرة أموالهم و و. وكان الأئمة ينفون ذلك، ويدحضون تلك التهم باستمرار.. لكنهم ما كانوا يقبلون منهم ذلك!!

٥٧

وأما في زمن المأمون!

وأما في زمن المأمون: فقد كان الأمر أعظم، وأمر، وأدهى، حيث قد شملت الثورات والفتن الكثيرة من الولايات والأمصار، حتى لم يعد يعرف المأمون من أين يبدأ، ولا كيف يعالج. وأصبح يرى، ويؤلمه أن يرى مصيره، ومصير خلافته في مهب الريح، تتقاذفه الأنواء، ويضري به الأعصار.

عقدة الحقارة لدى العباسيين:

وكان ذلك بطبيعة الحال يزيد من رعب العباسيين، ويضاعف من مخاوفهم.. سيما بملاحظة أنهم كانوا يعيشون عقدة الحقارة والمهانة.

يقول أبو فراس مشيراً إلى ذلك:

ثـم ادعاها بنو العباس ملكهم

ومـا لـهم قـدم فيها ولا قدم

لا يذكرون إذا ما معشر ذكروا

ولا يـحكم فـي أمر لهم حكم

ولا رآهـم أبو بكر وصاحبه

أهلا لما طلبوا منها وما زعموا

فـهل هم يدعوها غير واجبة

أم هل أئمتهم في أخذها ظلموا

وقد كتب أبو مسلم للمنصور، من جملة رسالة له: (.. وأظهركم الله بعد الإخفاء، والحقارة والذل، ثم استنقذني بالتوبة الخ)(١) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٦٤. وغيره.

٥٨

وفي رسالة أخرى: (.. حتى عرفكم من كان جهلكم)(١) .

بل لقد صرح المنصور بذلك لعمه عبد الصمد بن علي، حيث قال له: (نحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة، واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا إلا باستعمال العقوبة، ونسيان العفو) كما سيأتي.

في مواجهة الخطر:

وإذا كان العباسيون يدركون: أن الخطر الحقيقي الذي يتهددهم، إنما هو من قبل أبناء عمهم العلويين، فإن عليهم إذن. أن يتحركوا. أن يفعلوا شيئاً. أن يواجهوا الخطر المحدق بهم بكل وسيلة، وبأي أسلوب كان. سيما وهم يشهدون عن كثب سرعة استجابة الناس للعلويين، وتأييدهم، ومساندتهم لكل دعوة من قبلهم.

فكيف عالج العباسيون الموقف؟!.

وما هو مدى نجاحهم في ذلك؟ إن كان قدر لهم النجاح!!.

سياسة العباسيين ضد العلويين

مما سبق:

قد تقدم معنا بعض ما يدل على مدى نفوذ العلويين، وعلى المكانة التي كانوا يتمتعون بها على العموم. وأنهم هم الذين كانوا يشكلون الخطر الحقيقي على العباسيين، ومركزهم في الحكم..

وقد كان العباسيون يدركون بالفعل هذه الحقيقة، فكان عليهم أن يبعدوهم عن مجال السياسة بأي وسيلة كانت وأن يحدوا ما استطاعوا من نفوذهم، ويضعفوا ما أمكنهم من قوتهم..

وقد اتبعوا من أجل ذلك أساليب شتى، وطرق متنوعة: فحاولوا في بادئ الأمر أن يقارعوهم الحجة بالحجة..

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٦٩، والإمامة والسياسة ج ٢ ص ١٣٣، وغير ذلك.

٥٩

تطوير نظرية الإرث:

وكان من جملة أساليبهم في ذلك أنهم غيروا وبدلوا في السلسلة، التي كانوا يواجهون بها الناس في تقريرهم لشرعية خلافتهم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وذلك لأنهم كانوا في بداية أمرهم يصلون حبل وصايتهم بأمير المؤمنينعليه‌السلام ، ثم منه إلى ولده محمد بن الحنفية، ثم إلى ابنه أبي هاشم، ثم إلى علي بن عبد الله بن العباس، فإلى ولده محمد بن علي، فإبراهيم الإمام، ثم منه إلى أخيه السفاح(١) وهكذا..

هذا.. مع إنكارهم لشرعية خلافة أبي بكر وعمر، وعثمان، وغيرهم من خلفاء الأمويين، وغيرهم.

ويتضح إنكارهم وتبرؤهم هذا من كثير من النصوص التاريخية. فمن ذلك قصة أبي عون مع المهدي، التي ستأتي في بعض هوامش هذا الفصل.

ومن ذلك أيضاً قول أبي مسلم في خطبته في أهل المدينة في السنة التي حج فيها في عهد السفاح، قال: (.. وما زلتم بعد نبيه تختارون تيميا مرة، وعدوياً مرة، وأسدياً مرة وسفيانياً مرة، ومروانياً مرة، حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه، ولا بيته (يعني نفسه) يضربكم بسيفه، فأعطيتموها عنوة، وأنتم صاغرون، ألا وإن آل محمد أئمة الهدى، ومنار سبيل التقى، القادة الذادة السادة الخ(٢) . وتقدم قول داوود ابن علي: (لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله الخ..) وروى أبو سليمان الناجي، قال: (جلس المهدي يوماً يعطي قريشاً صلات لهم، وهو ولي عهد، فبدأ ببني هاشم، ثم بسائر قريش. فجاء السيد أي (الحميري)، فرفع إلى الربيع حاجب المنصور رقعة مختومة، وقال: إن فيها نصيحة للأمير، فأوصلها إليه. فأوصلها.

فإذا فيها:

____________

(١) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٧٣، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٨، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٤٥٤، ٤٥٥، طبع سنة ١٣١٠، وإمبراطورية العرب ص ٤٠٦، وغير ذلك، وقد أشرنا إلى أن هذه هي عقيدة الكيسانية، فراجع.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٦١، ١٦٢.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

أمّا الآية التالية فتوضح ما أجملته الآية السابقة وتؤكّده بالقول :( الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) .

وأمّا الآية الثّالثة ـ من الآيات محل البحث ـ فتقول : إنّ الله أنعم على المؤمنين والمهاجرون والمجاهدين في سبيله ثلاث مواهب هي :

١ ـ( يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ ) .

٢ ـ( وَرِضْوانٍ ) .

٢٣ ـ( وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ ) .

وتعقب الآية الأخيرة لمزيد التوكيد بالقول( خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

* * *

ملاحظتان

١ ـ تحريف التاريخ

كما قرأنا آنفا في شأن نزول الآيات محل البحث ، وطبقا لرواية وردت في كثير من كتب الآيات أهل السنة الشهيرة ، أنّها نزلت في عليعليه‌السلام وبيان فضائله ، على أنّ مفهوم الآيات عام واسع «وقد قلنا مرارا بأن أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآي».

إلّا أنّ بعض مفسّري أهل السنة لم يرغب في أن تثبت للإمام عليعليه‌السلام فضائل بارزة مع اعتقادهم بأنّه رابع خلفاء المسلمين! وكأنّهم خافوا إن أذعنوا لما يجدونه عند عليعليه‌السلام من الفضائل أن يقف الشيعة أمامهم متسائلين : لم قدّمتم على علي غيره؟

فلذلك أغمضوا النظر عن كثير من مناقبه وفضائله ، وسعوا جاهدين لأن

٥٦١

يقدحوا في سند الرواية التي تذكر فضل عليعليه‌السلام على غيره أو في دلالتها.

ويا للأسف ما زال هذا التعصب المقيت ممتدا إلى عصرنا الحاضر ، حتى أنّ بعض علمائهم المثقفين لم يسلموا من هذا الداء الوبيل والتعصب دون دليل!

ولا أنسى المحاورة التي جرت بيني وبين بعض علماء أهل السنة ، إذ أظهر كلاما عجيبا عند ذكرنا لمثل هذه الأحاديث ، فقال : في عقيدتي أنّ الشيعة يستطيعون أن يثبتوا جميع معتقدات مذهبهم «أصولها وفروعها» من مصادرنا وكتبنا ، لأنّ في كتبنا أحاديث كافية لصالح آراء الشيعة وصحة مذهبهم.

إلّا أنّه من أجل أن يريح نفسه من جميع هذه الكتب ، قال : أعتقد أن أسلافنا كانوا حسني الظن ، وقد أوردوا كل ما سمعوه في كتبهم ، فليس لنا أن نأخذ كل ما أوردوه ببساطة!! «طبعا كان حديثه يشمل الكتب الصحاح والمسانيد المعتبرة وما هو عندهم في المرتبة الأولى».

فقلت له : ليس هذا هو الأسلوب في التحقيق ، حيث يعتقد إنسان ما بمذهب معين ، لأنّ آباءه كانوا عليه وورثه عن سلفه ، فما وجده من حديث ينسجم ومذهبه قال : إنّه صحيح ، وما لم ينسجم حكم عليه بعدم الصحة ، لأنّ السلف الصالح كان حسن الظن ، حتى لو كان الحديث معتبرا.

فما أحسن أن نختار أسلوبا آخر للتحقيق بدل ذلك ، وهو أن نتجرّد من عقيدتنا الموروثة ثمّ ننتخب الأحاديث الصحيحة دون تعصب.

ونسأل الآن : لماذا سكتوا عن الأحاديث الشهيرة التي تذكر فضل علي وعلو مقامه ، بل نسوها وربّما طعنوا فيها ، فكأن مثل هذه الأحاديث لا وجود لها أصلا؟

ومع الالتفات إلى ما ذكرناه آنفا ، ننقل كلاما لصاحب تفسير «المنار» المعروف ، إذ أهمل شأن نزول الآيات محل البحث المذكور آنفا ، ونقل رواية لا تنطبق ومحتوى الآيات أصلا ، وينبغي أن نعدّها حديثا مخالفا للقرآن ، فقال عنها : إنّها معتبرة!

٥٦٢

وهي ما نقل عن النعمان بن بشير إذ يقول : كنت جالسا في عدة من أصحاب النّبي إلى جوار منبره ، فقال بعضهم : لا أرى عملا بعد الإسلام أفضل من سقاية الحاج وإروائهم ، وقال الآخر : إنّ عمارة المسجد الحرام أفضل من كل عمل ، فقال الثالث ، في سبيل الله أفضل ممّا قلتما.

فنهاهم عمر عن الكلام وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ـ وكان ذلك اليوم يوم الجمعة ـ ولكنّي سأسأل رسول الله بعد الفراغ من الصلاة ـ صلاة الجمعة ـ في ما اختلفتم فيه.

وبعد أن أتمّ صلاته جاء إلى رسول الله فسأله عن ذلك ، فنزلت الآيات محل البحث(١) .

إلّا أنّ هذه الرّواية لا تنسجم والآيات محل البحث من عدّة جهات ، ونحن نعرف أن كلّ رواية مخالفة للقرآن ينبغي أن تطرح جانبا ويعرض عنها ؛ لأنّه :

أوّلا : لم يكن في الآيات محل البحث قياس ما بين الجهاد وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ، بل القياس ما بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من جهة ، والإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد من جهة أخرى ، وهذا يدل على أن من كان يقوم بمثل السقاية والعمارة في زمان الجاهلية كان يقيس عمله بالإيمان والجهاد. فالقرآن يصرّح بأنّ سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لا يستويان ـ كل منهما ـ مع الإيمان بالله والجهاد في سبيله وليس القياس بين الجهاد وعمران المسجد وسقاية الحاج (لاحظ بدقة).

ثانيا : إنّ جملة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) تدل على أن أعمال الطائفة الأولى كانت معروفة بالظلم ، وإنما يفهم ذلك فيما لو كانت هذه الأعمال صادرة في حال الشرك ، لإنّ القرآن يقول( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (٢) .

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٢١٥.

(٢) سورة لقمان : الآية ١٣.

٥٦٣

ولو كان القياس بين الإيمان وسقاية الحاج المقرونة بالإيمان والجهاد ، لكانت جملة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) لغوا ـ والعياذ بالله ـ لأنّها حينئذ لا مفهوم لها هنا.

ثالثا : إنّ الآية الثّانية ـ محل البحث ـ التي تقول( الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ) مفهومها أن أولئك أفضل وأعظم درجة ممن لم يؤمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا في سبيل الله ، وهذا المعنى لا ينسجم وكلام النعمان ـ آنف الذكر ـ لأنّ المتكلمين وفقا لحديثه كلهم مؤمنون ولعلهم أسهموا في الهجرة والجهاد.

رابعا : كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إقدام المشركين على عمارة المساجد وعدم جواز ذلك :( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ) والآيات محل البحث تعقب على الموضوع ذاته ، ويدل هذا الأمر على أن موضوع الآيات هو عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج حال الشرك ، وهذا لا ينسجم ورواية النعمان.

والشيء الوحيد الذي يمكن أن يستدل عليه هو التعبير ب( أَعْظَمُ دَرَجَةً ) حيث يدل على أن الطرفين المقيسين كل منهما حسن بنفسه ، وإن كان أحدهما أعظم من الآخر.

إلّا أنّ الجواب على ذلك واضح ، لأنّ أفعل التفضيل غالبا تستعمل في الموازنة بين أمرين ، أحدهما واجد للفضيلة والآخر غير واجد ، كأن يقال مثلا : الوصول متأخرا خير من عدم الوصول ، فمفهوم هذا الكلام لا يعني أن عدم الوصول شيء حسن ، لكن الوصول بتأخير أحسن.

أو أننا نقرأ في القرآن( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) أي من الحرب [سورة النساء الآية ٢٨] فهذا لا يعني أنّ الحرب شيء حسن.

أو نقرأ مثلا( وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ ) [سورة البقرة الآية ٢٢١] ترى

٥٦٤

هل المشرك حسن وفيه خير؟!

أو نقرأ في سورة التوبة ذاتها (الآية ١٠٨)( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) أي أحق من مسجد ضرار الذي بناه المنافقون للعبادة ، مع أننا نعرف أن العبادة في مسجد ضرار ليست بحق أبدا ، فنظير هذه التعابير في القرآن واللغة العربية ، بل في سائر اللغات كثير.

من مجموع ما ذكرناه نستنتج أن رواية النعمان بن بشير لأنّها مخالفة لمحتوى القرآن ينبغي أن تطرح وتنبذ جانبا ، وأن نأخذ بما ينسجم وظاهر الآي ، وهو ما قدمناه بين يدي تفسير هذه الآيات ، على أنّه سبب لنزولها ، وأنّه لفضيلة كبرى لإمام الإسلام العظيم عليعليه‌السلام .

نسأل الله أن يثبت أقدامنا على متابعة الحق وأهله من الأئمّة الصالحين ، وأن يجنبنا التعصب ، ويفتح أبصارنا وأسماعنا وأفكارنا لقبول الحق.

٢ ـ ما هو مقام الرضوان؟

يستفاد من الآيات ـ محل البحث ـ أنّ مقام الرضوان الذي هو من أعظم المواهب التي يهبها الله المؤمنين والمجاهدين في سبيله ، هو شيء غير الجنات والنعيم المقيم وغير رحمته الواسعة.

وسنتناول بيان هذا الموضوع ذيل الآية (٧٢) من هذه السورة ، في تفسير جملة( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) إن شاء الله.

* * *

٥٦٥

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤) )

التّفسير

كلّ شيء فداء للهدف :

إنّ آخر وسوسة أو ذريعة يمكن أن يتذرع بها جماعة من المسلمين للامتناع عن جهاد المشركين (وفعلا فقد تذرع بعضهم وفقا لما ورد في قسم من التفاسير) بأن من بين المشركين وعبدة الأوثان أقارب لهم ، فقد يسلم الأب ويبقى ولده في الشرك على حاله ، وقد يقع العكس إذ يخطو الابن نحو توحيد الله ويبقى أبوه مشركا ، وهذه الحالة ربّما كانت موجودة بين الأخ وأحيه ، والزوج

٥٦٦

وزوجه ، والفرد وعشيرته أو قبيلته ، وهكذا.

فإذا كان القرار أن يجاهد الجميع المشركين فلا بدّ أن يغمضوا أعينهم عن أرحامهم وأقاربهم وعشيرتهم إلخ. هذا كلّه من جهة.

ثمّ ومن جهة أخرى كانت رؤوس الأموال والقدرة التجارية بيد المشركين تقريبا ، ولهذا يسبب تردد المشركين إلى مكّة ازدهار التجارة.

ومن جهة ثالثة كان للمسلمين في مكّة بيوت عامرّة نسبيا ، فإذا قاتلوا المشركين فمن المحتمل أن يهدمها المشركون ، أو تفقد قيمتها إذا عطل المشركون مراسم الحاج ومناسكه بمكّة.

فالآيتان ـ محل البحث ـ ناظرتان إلى مثل هؤلاء الأشخاص ، وتردّان عليهم ببيان صريح ، فتقول الآية الأولى منهما :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ ) .

ثمّ تعقب ـ على وجه التأكيد ـ مضيفة :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

وأي ظلم أسوأ من أن يظلم الإنسان نفسه بتعلقه بأعداء الحق والمشركين ، ويظلم مجتمعه ، ويظلم نبيّه أيضا؟!

أمّا الآية التالية فهي تتناول هذا الموضوع بنحو من التفصيل والتأكيد والتهديد والتقريع ، فتخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعنف أولئك الذين لا يرغبون في جهاد المشركين لما ذكرناه آنفا ، فتقول( قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) .

ولما كان ترجيح مثل هذه الأمور على رضا الله والجهاد في سبيله ، يعدّ نوعا من العصيان والفسق البيّن ، وإن من تشبث قلبه بالدنيا وزخرفها وزبرجها غير جدير بهداية الله ، فإنّ الآية تعقب في الختام قائلة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

٥٦٧

الْفاسِقِينَ ) .

وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي في شأن الآيتين ما يلي : «لما أذّن أمير المؤمنين أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك ، جزعت قريش جزعا شديدا ، وقالوا : ذهبت تجارتنا وضاعت علينا وخربت دورنا ، فأنزل الله في ذلك قل (يا محمّد) إلخ والآيتان ـ محل البحث ـ ترسمان خطوط الإيمان الأصيل وتميزانها عن الإيمان المبطن بالشرك والنفاق.

كما أنّهما تضعان حدا فاصلا بين المؤمنين الواقعيين وبين ضعاف الإيمان ، وتقول إحداهما بصراحة : إن كانت هذه الأمور الثمانية «في الحياة المادية» التي يتعلق أربعة منها بالأرحام والأقارب( آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ ) .

ويتعلق قسم منها بالمجتمع و «العشيرة».

والقسم السّادس يرتبط بالمال.

والسابع بالتجارة والاكتساب.

وأمّا الثامن ـ وهو الأخير ـ فيتعلق بالمساكن ذات الأناقة «ومساكن ترضونها».

فإذا كانت هذه الأمور الثمانية ـ المذكورة آنفا ـ أغلى وأعزّ وأحب عند الإنسان من الله ورسوله ، والجهاد في سبيله وامتثال أوامره ، حتى أن الإنسان لا يكون مستعدا بالتضحية بتلك الأمور الثمانية من أجل الله والرّسول والجهاد ، فيتّضح أن إيمانه الواقعي لم يكمل بعد!

فحقيقة الإيمان وروحه وجوهره ، كل ذلك يتجلّى بالتضحية بمثل هذه الأمور من دون تردد.

أضف إلى ذلك ، فإن من لم يكن مستعدا للتضحية بمثل تلك الأمور ، فقد ظلم

٥٦٨

نفسه ومجتمعه في الواقع ، كما أنّه سيقع في ما كان يخاف من الوقوع فيه لأنّ الأمّة التي تتلكأ في اللحظات الحساسة من تأريخها المصيري ، وفي المآزق الحاسمة ، فلا يضحي أبناؤها بمثل ذلك ، فستواجه الهزيمة عاجلا أو آجلا ، وسيتعرض كلّ ما تعلقت القلوب به فلم تجاهد من أجله الى خطر الضياع والتلف بيد الأعداء.

* * *

ملاحظات

١ ـ ما قرأناه في الآيتين ـ محل البحث ـ ليس مفهومه قطع علائق المحبة بالأرحام ، وإهمال رؤوس الأموال الاقتصادية ، والانسياق إلى تجاوز العواطف الإنسانية وإلغائها ، بل المراد من ذلك أنّه ينبغي أن لا ننحرف عند مفترق الطرق إلى الأموال والأزواج والأولاد والدور والمقام الدنيوي ، بحيث لا نطبّق في تلك الحالة حكم الله ، أو لا نرغب في الجهاد ، ويحول عشقنا المادي دون تحقيق الهدف المقدس.

لهذا يلزم على الإنسان إذا لم يكن على مفترق الطرق أن يرعى الجانبين «العلاقة بالله والعلاقة بالرحم».

فنحن نقرأ في الآية (١٥) من سورة لقمان ، قوله تعالى في شأن الأبوين المشركين( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) .

٢ ـ إنّ أحد تفاسير جملة( فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) ما أشرنا إليه آنفا ، وهو التهديد من قبل الله لأولئك الذين يقدّمون منافعهم المادية ويفضلونها على رضا الله ، ولما كان هذا التهديد مجملا كان أثره أشدّ وحشة وإشفاقا ، وهذا التعبير يشبه قول من يكلم صاحبه الذي دونه وتحت أمره ، فيقول له : إذا لم تفعل ما

٥٦٩

أمرتك ، فسأقوم بما ينبغي أيضا.

وهناك احتمال آخر لتفسير الجملة ـ محل البحث ـ وهو أنّ الله سبحانه يقول : إذا لم تكونوا مستعدين للتضحية ، فإنّ الله يفتح لنبيّه عن طريق آخر. وكيف شاء ، إذ ليس ذلك بعسير عليه. ونظير هذا المعنى ما جاء في الآية (٥٤) من سورة المائدة ، إذ نقرأ فيها( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) .

الماضي والحاضر مرهونان بهذا الأمر :

٣ ـ قد يتصور بعضهم بأنّ ما جاء في الآيتين يخص صدر الإسلام والتاريخ الماضي ، إلّا أنّ ذلك خطأ كبير ، فالآيتان تستوعبان حاضر المسلمين ومستقبلهم أيضا.

فإذا قدّر للمسلمين أن لا يضحوا بأموالهم وأنفسهم وأولادهم ودورهم إلخ في سبيل الله ، ولا يكون لهم إيمان متين ، ويفضلون الأمور المادية على رضا الله ، وتبقى قلوبهم متعلقة بالمال والأولاد وزبارج الدنيا ، فيكون مستقبلهم مظلما ، لا مستقبلهم فحسب ، بل حتى يومهم هذا ، ففي مثل هذا الحال سيحدق بهم الخطر وسيفقدون موروثهم الحضاري ، وتكون مصادر حياتهم بأيدي الأجانب ويفقدون معنى الحياة ، لأن الحياة هي حياة الإيمان والجهاد في ظل الإيمان.

فعلينا أن نغرس مدلول هاتين الآيتين في قلوب أطفال المسلمين وشبابهم ونجعله شعارا لنا ، ونحيي في نفوس المسلمين روح التضحية والجهاد ، ليحافظوا على ثقافتهم وموروثهم المعرفي.

* * *

٥٧٠

الآيات

( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) )

التّفسير

الكثرة وحدها لا تجدي نفعا :

في الآيات المتقدمة رأينا أنّ الله سبحانه يدعوا المسلمين إلى التضيحة والجهاد على جميع الصعد في سبيل الله وقلع جذور الشرك وعبادة الأوثان ، ويهدد بشدّة من يتقاعس منهم عن الجهاد والتضحية بسبب التعلق بالأزواج والأولاد والأرحام والعشيرة والمال والثروة.

أمّا الآيات محل البحث فتشير إلى مسألة مهمّة ، وهي أنّ على كل قائد أن ينّبه أتباعه في اللحظات الحساسة بأنّه إذا كان فيهم بعض الأشخاص من ضعاف

٥٧١

الايمان والذين يحجبهم التعلّق بالمال والولد والأزواج وما إلى ذلك عن الجهاد في سبيل الله ، فلا ينبغي أن يقلق المؤمنون المخلصون من هذا الأمر ، وعليهم أن يواصلوا طريقهم ، لأنّ الله لم يتخلّ عنهم يوم كانوا قلة ، كما هو الحال في معركة بدر ، ولا يوم كانوا كثرة ـ ملء العين (كما في معركة حنين) وقد أعجبتهم الكثرة فلم تغن عنهم شيئا ، لكن الله سبحانه أنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، فالله في الحالين ينصر المؤمنين ويرسل إليهم مدده لهذا فإن الآية الأولى من الآيات محل البحث تقول( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) .

والمواطن جمع الموطن ، ومعناه المحل الذين يختاره الإنسان للسكن الدائم ، أو المؤّقت ، إلّا أن من معانيه أيضا ساحة الحرب والمعركة ، وذلك لأنّ المقاتلين يقيمون في مكان الحرب مدّة قصيرة أو طويلة أحيانا.

ثمّ تضيف الآية معقبة( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) وكان جيش المسلمين يوم حنين زهاء اثني عشر ألفا ، وقال بعض المؤرخين : كانوا عشرة آلاف أو ثمانية آلاف ، غير أنّ الرّوايات المشهورة تؤيد ما ذكرناه آنفا ، إذ تقول : إنّهم كانوا اثني عشر ألفا ، وهذا الرقم لم يسبق له مثيل في الحروب الإسلامية قبل ذلك الحين ، حتى اغترّ بعض المسلمين وقالوا : «لن نغلب اليوم».

إلّا أنّه ـ كما سنبيّن الموضوع في الحديث على غزوة حنين ـ قد فرّ كثير من المسلمين ذلك اليوم ، لكونهم جديدي عهد بالإسلام ولم يتوغل الإيمان في قلوبهم فانكسر جيش المسلمين في البداية وكاد العدوّ أن يغلبهم لولا أن الله أنزل بلطفه مدده وجنوده فنجّاهم.

ويصور القرآن هذه الهزيمة بقوله( وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) .

٥٧٢

وفي هذه اللحظات الحساسة حيث تفرق جيش الإسلام هنا وهناك ، ولم يبق مع النّبي إلّا القلة ، وكان النّبي مضطربا ومتألّما جدّا لهذه الحالة نزل التأييد الإلهي :( ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ) .

وكما قلنا في حديثنا عن غزوة بدر في ذيل الآيات الخاصّة بها ، أن نزول هذه الجنود غير المرئية كان لشدّ أزر المسلمين وتقوية معنوياتهم ، وإيجاد روح الثبات والاستقامة في نفوسهم وقلوبهم ، ولا يعني ذلك اشتراك الملائكة والقوى الغيبية في المعركة(١) .

ويذكر القرآن النتيجة النهائية لمعركة حنين الحاسمة فيقول( وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ) .

وكان هذا العذاب والجزاء أن قتل بعض الكافرين ، وأسر بعضهم ، وفرّ بعضهم إلى مناطق بعيدة عن متناول الجيش الاسلامي.

ومع هذا الحال فإنّ الله يفتح أبواب توبته للأسرى والفارين من الكفّار الذين يرغبون في قبول مبدأ الحق «الإسلام» لهذا فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقول :( ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وجملة «يتوب» التي وردت بصيغة الفعل المضارع ، والتي تدل على الاستمرار ، مفهومها أن أبواب التوبة والرجوع نحو الله مفتوحة دائما بوجه التائبين.

* * *

__________________

(١) لمزيد من الإيضاح يراجع تفسير الآيات ٩ ـ ١٢ من هذا الجزء نفسه.

٥٧٣

ملاحظات

١ ـ غزوة حنين ذات العبرة

«حنين» منطقة قريبة من الطائف ، وبما أنّ الغزوة وقعت هناك فقد سميّت باسم المنطقة ذاتها ، وقد عبّر عنها في القرآن بـ «يوم حنين» ولها من الأسماء ـ غزوة أوطاس ، وغزوة هوازن أيضا.

أمّا تسميتها بأوطاس ، فلأن «أوطاس» أرض قريبة من مكان الغزوة ـ وأمّا تسميتها بهوازن ، فلأن إحدى القبائل التي شاركت في غزوة حنين تدعى بهوازن.

أمّا كيف حدثت هذه الغزوة ، فبناء على ما ذهب إليه ابن الأثير في الكامل ، أن هوازن لمّا علمت بفتح مكّة ، جمع القبيلة رئيسها مالك بن عوف وقال لمن حوله : من الممكن أن يغزونا محمّد بعد فتح مكّة ، فقالوا : من الأحسن أن نبدأه قبل أن يغزونا.

فلما بلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر المسلمين أن يتوجهوا إلى أرض هوازن(١) .

وبالرغم من عدم الاختلاف بين المؤرخين في شأن هذه الغزوة والمسائل العامّة فيها ، إلّا أنّ في جزئياتها روايات متعددة لا يكاد بعضها ينسجم مع الآخر ، وما ننقله هنا فقد اقتضبناه عن مجمع البيان للعلامة الطبرسي ، بناء على روايته القائلة : إنّ رؤساء طائفة هوازن جاءوا إلى مالك بن عوف واجتمعوا عنده في أخريات شهر رمضان أو شوال في السنة الثامنة للهجرة ، وكانوا قد جاءوا بأموالهم وأبنائهم وأزواجهم لئلا يفكر أحدهم بالفرار حال المعركة ، وهكذا فقد وردوا منطقة أوطاس.

فعقد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواءه ، وسلمّه عليّاعليه‌السلام وأمر حملة الرايات الذين ساهموا في فتح مكّة أن يتوجهوا براياتهم ذاتها مع علي بن أبي طالب إلى حنين ، واطّلع

__________________

(١) راجع الكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ٢٦١ ، نقلنا القصة بشيء من الاختصار.

٥٧٤

النّبي أن صفوان بن أمية لديه دروع كثيرة ، فأرسل النّبي إليه أن أعرنا مائة درع ، فقال صفوان : أتريدونها عارية أم غصبا؟ فقال النّبي : بل عارية نضمنها ونعيدها سالمه إليك ، فأعطى صفوان النّبي مائة درع على أنّها عارية ، وتحرك مع النّبي بنفسه إلى حنين.

وكان ألفا شخص قد أسلم في فتح مكّة ، فأضيف عددهم إلى العشرة آلاف الذين ساهموا في فتح مكّة ، وصاروا حوالي اثني عشر ألفا ، وتحركوا نحو حنين.

فقال مالك بن عوف ـ وكان رجلا جريئا شهما ـ لقبيلته : اكسروا أغماد سيوفكم ، واختبئوا في كهوف الجبال والوديان وبين الأشجار ، واكمنوا لجيش الإسلام ، فإذا جاءوكم الغداة «عتمة» فاحملوا عليهم وأبيدوهم.

ثمّ أضاف مالك بن عوف قائلا : إن محمّدا لم يواجه حتى الآن رجال حرب شجعانا ، ليذوق مرارة الهزيمة!!

فلما صلّى النّبي صلاة الغداة «الصبح» بأصحابه أمر أن ينزلوا إلى حنين ، ففوجئوا بهجوم هوازن عليهم من كل جانب وصوب ، وأصبح المسلمون مرمى لسهامهم ، ففرّت طائفة من المقاتلين جديدي الإسلام (بمكّة) من مقدمة الجيش ، فكان أن ذهل المسلمون واضطروا وفرّ الكثير منهم.

فخلّى الله بين جيش المسلمين وجيش العدو ، وترك الجيشين على حالهما ، ولم يحم المسلمين لغرورهم ـ مؤقتا ـ حتى ظهرت آثار الهزيمة فيهم.

إلّا أنّ عليّا حامل لواء النّبي بقي يقاتل في عدّة قليلة معه ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (قلب) الجيش وحوله بنو هاشم ، وفيهم عمه العباس ، وكانوا لا يتجاوزون تسعة أشخاص عاشرهم أيمن ابن أم أيمن.

فمرّت مقدمة الجيش في فرارها من المعركة على النّبي فأمر النّبي عمّه العباس ـ وكان جهير الصوت ـ أن يصعد على تل قريب وينادي فورا : يا معشر المهاجرين والأنصار ، يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة ، إلى أين

٥٧٥

تفرّون؟ هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلمّا سمع المسلمون صوت العباس رجعوا وقالوا : لبيّك لبيّك ، ولا سيما الأنصار إذ عادوا مسرعين وحملوا على العدوّ من كل جانب حملة شديدة ، وتقدّموا بأذن الله ونصره ، بحيث تفرقت هوازن شذر مذر مذعورة ، والمسلمون ما زالوا يحملون عليها. فقتل حوالي مائة شخص من هوازن ، وغنم المسلمون أموالهم كما أسروا عدّة منهم(١) .

ونقرأ في نهاية هذه الحادثة التأريخية أن ممثلي هوازن جاءوا النّبي وأعلنوا إسلامهم ، وأبدى لهم النّبي صفحه وحبّه ، كما أسلم مالك بن عوف رئيس القبيلة ، فردّ النّبي عليه أموال قبيلته وأسراه ، وصيره رئيس المسلمين في قبيلته أيضا.

والحقيقة أنّ السبب المهم في هزيمة المسلمين بادئ الأمر ـ بالإضافة إلى غرورهم لكثرتهم ـ هو وجود ألفي شخص ممن أسلم حديثا وكان فيهم جماعة من المنافقين طبعا ، وآخرون كانوا قد جاءوا مع النّبي لأخذ الغنائم ، وجماعة منهم كانوا بلا هدف ، فأثر فرار هؤلاء في بقية الجيش.

أمّا السرّ في انتصارهم النهائي فهو وقوف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليعليه‌السلام وجماعة قليلة من الأصحاب ، وتذكرهم عهودهم السابقة وإيمانهم بالله والركون إلى لطفه الخاص ونصره.

٢ ـ من هم الفارّين

ممّا لا شك فيه أنّ الأكثرية الساحقة فرّب بادئ الأمر من ساحة المعركة ، وما تبقى منهم كانوا عشرة فحسب ، وقيل أربعة عشر شخصا ، وأقصى ما أوصل عددهم المؤرخون لم يتجاوزوا مائة شخص.

ولما كانت الرّوايات المشهورة تصّرح بأن من بين الفارين الخلفاء الثلاثة ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ١٧ ـ ١٩.

٥٧٦

فإنّ بعض المفسّرين سعى لأن يعدّ هذا الفرار أمرا طبيعيا.

يقول صاحب تفسير المنار ما ملخصه : لما رشق العدوّ المسلمين بسهامه ، كان جماعة قد التحقوا بالمسلمين من مكّة ، وفيهم المنافقون وضعاف الإيمان والطامعون «للغنائم» ففرّ هؤلاء جميعا وتقهقروا إلى الخلف ، فاضطرب باقي الجيش طبعا ، وحسب العادة ـ لا خوفا ـ فقد فرّوا أيضا ، وهذا أمر طبيعي عند فرار طائفة فإنّه يتزلزل الباقي منهم فيفر أيضا ـ ففرارهم لا يعني ترك النّبي وعدم نصرته أو تسليمه بيد عدوه ، حتى يستحقوا غضبالله!!(١)

ونحن لا نعلّق على هذا الكلام ، لكن نتركه للقراء ليحكموا فيه حكمهم.

كما ينبغي أن نذكر هذه المسألة وهي أنّ «صحيح البخاري» حين يتكلم عن الهزيمة وفرار المسلمين ينقل ما يلي :

فإذا عمر بن الخطاب في الناس ، وقلت : (الراوي) : ما شأن الناس؟ قال : أمر الله ، ثمّ تراجع الناس إلى رسول الله(٢) .

غير أننا تجرّدنا من الأحكام المسبقة ، والتفتنا إلى القرآن الكريم ، وجدناه لا يذم جماعة بعينها ، بل يذم جميع الفارين.

ولا ندري ما الفرق بين قوله تعالى( ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) حيث قرأنا هذه العبارة في الآيات محل البحث ، وبين عبارة أخرى وردت في الآية (١٦) من سورة الأنفال إذ تقول( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ) ؟!

فبناء على ذلك لو ضممنا الآيتين بعضهما إلى بعض لعرفنا أنّ المسلمين ارتكبوا خطأ كبيرا يومئذ إلّا القليل منهم ، غاية ما في الأمر أنّهم تابوا بعدئذ ورجعوا.

__________________

(١) راجع تفسير المنار ، وإقرار التفصيل فيه ، ج ١ ، الصفحات ٢٦٢ و ٢٦٣ و ٢٦٥.

(٢) المصدر السابق.

٥٧٧

٣ ـ الإيمان والسكينة

السكينة في الأصل مأخوذة من السكون ، وتعني نوعا من الهدوء أو الاطمئنان الذي يبعد كل نوع من أنواع الشك والخوف والقلق والاستيحاش عن الإنسان ، ويجعله راسخ القدم بوجه الحوادث الصعبة والملتوية. والسكينة لها علاقة قربى بالإيمان ، أي أنّ السكينة وليدة الإيمان ، فالمؤمنون حين يتذكرون قدرة الله التي لا غاية لها ، ويتصورون لطفه ورحمته يملأ قلوبهم موج الأمل ويغمرهم الرجاء.

وما نراه من تفسير السكينة بالإيمان في بعض الرّوايات(١) ، أو بنسيم الجنّة متمثلا في صورة إنسان(٢) كل ذلك ناظر إلى هذا المعنى.

ونقرأ في القرآن في الآية (٤) من سورة الفتح قوله تعالى :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) .

وعلى كل حال فهذه الحالة نفسية خارقة للعادة ، وموهبة إلهية بحيث يستطيع الإنسان أن يهضم الحوادث الصعبة ، وأن يحس في نفسه عالما من الدعة والاطمئنان برغم كلّ ما يراه.

وممّا يسترعي النظر أن القرآن ـ في الآيات محل البحث ـ لا يقول : ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعليكم ، مع أنّ جميع الجمل في الآية تحتوي على ضمير الخطاب (كم) ، بل تقول الآية( عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) وهي إشارة إلى أن المنافقين وأهل الدنيا والذين كانوا مع النّبي في المعركة لم ينالوا سهما من السكينة والاطمئنان ، بل كانت السكينة من نصيب المؤمنين فحسب.

ونقرأ في بعض الرّوايات أن نسيم الجنّة هذا كان مع أنبياء الله ورسله(٣) ،

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١١٤.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٠١.

(٣) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١١٢.

٥٧٨

فلذلك كانوا ـ في الحوادث الصعبة التي يفقد فيها كل إنسان توازنه إزاءها ـ أصحاب عزم راسخ وسكينة واطمئنان ، وإرادة حديدية لا تقبل التزلزل.

وكان نزول السكينة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة حنين ـ كما ذكرنا آنفا ـ لرفع الاضطراب الناشئ من فرار أصحابه من المعركة ، وإلّا فهو كالجبل الشامخ الركين ، وكذلك ابن عمّه عليعليه‌السلام وقلة من أصحابه (المسلمين).

٤ ـ في الآيات محل البحث إشارة إلى أنّ الله نصر المسلمين في مواطن كثيرة!

هناك كلام كثير بين المؤرخين حول عدد مغازي النّبي وحروبه ، التي أسهم فيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصيّا ، وقاتل الأعداء ، أو حضرها دون أن يقاتل بنفسه ، أو الحروب التي وقف فيها المسلمون بوجه أعدائهم ولم يكن الرّسول حاضرا في المعركة.

إلّا أنّه يستفاد من بعض الرّوايات التي وصلتنا عن طرق أهل البيتعليهم‌السلام أنّها تبلغ الثمانين غزوة.

وقد ورد في كتاب (الكافي) أن أحد خلفاء بني العباس كان قد نذر مالا كثيرا إن هو عوفي من مرضه «ويقال أنّه قد سمّ» ، فلما عوفي جمع الفقهاء الذين كانوا عنده ، فسألهم عن المال الذي يجب أداؤه لإيفاء نذره ، فلم يعرفوا للمسألة جوابا. وأخيرا سأل الخليفة العباسي الإمام التاسع محمّد بن علي الجوادعليه‌السلام فقال : «الكثير ثمانون».

فلمّا سألوه عن دليله في ذلك استشهد الإمام بالآية( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) ثمّ قال : عددنا حروب النّبي التي انتصر فيها المسلمون على أعدائهم فكانت ثمانين(١) .

٥ ـ إن ما ينبغي على المسلمين أن يعتبروا به ويلزمهم أن يأخذوا منه درسا

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٩٧.

٥٧٩

بليغا ، هو أن ينظروا إلى الحوادث التي هي على شاكلة حادثة حنين ، فلا يغتروا بكثرة العدد أو العدد ، فالكثرة وحدها لا تغني شيئا ، بل المهم في الأمر وجود المؤمنين الراسخين في الإيمان ، ذوي الإرادة والتصميم ، حتى لو كانوا قلة.

كما أنّ طائفة قليلة استطاعت أن تغير هزيمة حنين إلى انتصار على العدو وكانت الكثيرة بادئ الأمر سبب الهزيمة ، لأنّها لم تنصهر بالإيمان تماما.

فالمهم أن يتوفر في مثل هذه الحوادث أناس مؤمنون ذوو استقامة وتضحية ، لتكون قلوبهم مركزا للسكينة الإلهية ، وليكونوا كالجبال الراسخة بوجه الأعاصير المدمرة.

* * *

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606