الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245208 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الثّاني من أصحاب الأعراف ، وهم السادة والأنبياء والأئمّة والصلحاء.

ونرى في بعض الرّوايات ـ أيضا ـ شاهدا واضحا وجليا على هذا الجمع مثل الحديث المنقول عن الإمام الصّادقعليه‌السلام الذي قال فيه : «الأعراف كثبان بين الجنّة والنّار ، والرجال الأئمّة يقفون على الأعراف مع شيعتهم وقد سبق المؤمنون إلى الجنّة بلا حساب». ويقصد من الشيعة الذي يقفون مع الأئمّة على الأعراف العصاة منهم.

ثمّ يضيف قائلا : «فيقول الأئمّة لشيعتهم من أصحاب الذنوب : انظروا إلى إخوانكم في الجنّة قد سبقوا إليها بلا حساب ، وهو قوله تبارك وتعالى :( سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) ثمّ يقال : انظروا إلى أعدائكم في النّار ، وهو قوله تعالى :( وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ثمّ يقولون لمن في النّار من أعدائهم : هؤلاء شيعتي وإخواني الذين كنتم أنتم تختلفون (تحلفون) في الدنيا أن لا ينالهم الله برحمة ، ثمّ تقول الأئمّة لشيعتهم : ادخلوا الجنّة لا خوف عليكم وأنتم تحزنون(١) .

ونظير هذا المضمون روي في تفاسير أهل السنة عن حذيفة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

ونكرر مرّة أخرى هنا أنّ الحديث حول تفاصيل وجزئيات القيامة وخصوصيات الحياة في العالم الآخر أشبه بما لو أننا أردنا أن نصف شبحا من بعيد ، في حين أنّ بين ذلك الشبح وبين حياتنا تفاوتا واسعا واختلافا كبيرا ، فما نفعله في هذه الصورة هو أنّنا نستطيع بألفاظنا المحدودة والقاصرة أن نشير إليه إشارة ناقصة قصيرة.

هذا ، والنقطة الجديرة بالالتفات هي أنّ الحياة في العالم الآخر مبتنية على

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة ١٩ و ٢٠.

(٢) تفسير الطبري ، ج ٨ الصفحة ، ١٤٢ و ١٤٣.

٦١

أساس النماذج والعيّنات الموجودة في هذه الدنيا ، فهكذا الحال بالنسبة إلى الأعراف ، لأنّ الناس في هذه الدنيا ثلاث فرق : المؤمنون الصادقون الذين وصلوا إلى الطمأنينة الكاملة في ضوء الإيمان ، ولم يدخروا وسعا في طريق المجاهدة.

والمعاندون وأعداء الحق المتصلبون المتمادون في لجاجهم الذين لا يهتدون بأية وسيلة. والفريق الثّالث هم الذين يقفون في هذا الممر الصّعب عبوره ـ في الوسط بين الفريقين ، وأكثر عناية القادة الصادقين وأئمّة الحق موجهة إلى هؤلاء ، فهم يبقون إلى جانب هؤلاء ، ويأخذون بأيديهم لإنقاذهم وتخليصهم من مرحلة الأعراف ليستقروا في صف المؤمنين الحقيقيين.

ومن هنا يتّضح أن تدخّل الأنبياء والأئمّة في انقاذ هذا الفريق في الآخرة كتدخلهم لذلك في الدنيا لا ينافي أبدا قدرة الله وحاكميته على كل شيء ، بل كل ما يفعلونه إنّما هو بإذن الله تعالى وأمره.

* * *

٦٢

الآيتان

( وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) )

التّفسير

نعم الجنّة حرام على أهل النّار :

بعد أن استقر كل من أهل الجنّة وأهل النّار في أماكنهم ومنازلهم ، تدور بينهم حوارات نتيجتها العقوبة الروحية والمعنوية لأهل النّار.

وفي البداية يبدأ الكلام من جانب أهل النّار :( وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) . فهم يطلبون أن يجودوا عليهم بشيء من الماء أو من نعم الجنّة.

ولكن أهل الجنّة يبادرون إلى رفض هذا المطلب( قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ ) .

٦٣

بحوث

هنا عدّة نقاط يجب أن نتوقف عندها ونلتفت إليها :

١ ـ يبدأ القرآن الكريم بأحاديث أهل النّار مع أهل الجنّة بلفظة (ونادى) التي تستعمل عادة للتخاطب من مكان بعيد ، وهذا يفيد بأنّ بين الفريقين فاصلة كبيرة ومع ذلك يتمّ هذا الحوار ويسمع كل منهما حديث الآخر ، وهذا ليس بعجيب ، فلو أن المسافه بلغت ملايين الفراسخ لأمكن أن يسمع كل واحد منهما كلام الآخر ، بل ويرى ـ في بعض الأحيان ـ الطرف الآخر.

ولو كان القبول بهذا أمرا متعذرا أو متعسرا في الماضي ، وكانت تشكل مشكلة بالنسبة إلى السامعين ، فإنّه مع انتقال الصوت والصورة في عصرنا الحاضر من مسافات بعيدة جدا انحلّت هذه المشكلة ، ولم تعد الآية موضع تعجب وغرابة.

٢ ـ إنّ أوّل طلب يطلبه أهل النّار هو الماء ، وهذا أمر طبيعي ، لأنّ الشخص الذي يحترق في النّار المستعرة يطلب الماء قبل أي شيء حتى يبرد غليلة ويرفع به عطشه.

٣ ـ إنّ عبارة( مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) التي هي عبارة مجملة ، وتتسم بالإبهام ، تفيد أنّه حتى أهل النّار لا يمكنهم أن يعرفوا بشيء من حقيقة النعم الموجودة في الجنّة وأنواعها. وهذا الموضوع يتفق وينسجم مع بعض الأحاديث التي تقول : (إنّ في الجنّة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر).

ثمّ إنّ عطف الجملة بـ «أو» يشير الى أنّ النعم الاخروية الأخرى وخاصّة الفواكه يمكنها أن تحلّ محل الماء وتطفئ عطش الإنسان.

٤ ـ إنّ عبارة( إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ ) إشارة إلى أهل الجنّة بأنفسهم ، ليسوا هم الذين يمتنعون عن إعطاء شيء من هذه النعم لأهل النّار ، لأنّه لا يقلّ منها شيء بسبب الإعطاء ، ولا أنّهم يحملون حقدا أو ضغينة على أحد في

٦٤

صدورهم ، حتى بالنسبة إلى أعدائهم ، ولكن وضع أهل النّار بشكل لا يسمح لهم أن يستفيدوا من نعم الجنّة.

إنّ هذا الحرمان ـ في الحقيقة ـ نوع من «الحرمان التكويني» مثل حرمان كثير من المرضى من الأطعمة اللذيذة المتنوعة.

في الآية اللاحقة يبيّن سبب حرمانهم ، ويوضح بذكر صفات أهل النّار أهل هذا المصير الأسود قد هيّئوه هم لأنفسهم ، فيقول أوّلا : إنّ هؤلاء هم الذين اتخذوا دينهم لعبا( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً ) .

وهذا إلى جانب أنّهم خدعتهم الدنيا واغتروا بها( وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) .

إنّ هذه الأمور سببت في أن يغرقوا في وحل الشهوات ، وينسوا كل شيء حتى الآخرة ، وينكروا أقوال الأنبياء ، ويكذبوا بالآيات الإلهية ، ولهذا أضاف قائلا :( فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ، وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ) .

ومن البديهي أنّ المراد من «النسيان» الذي نسب هنا إلى الله هو بمعنى أنّنا نعاملهم معاملة الناسي تماما ، مثل أن يقول شخص لصديقه : (كما أنّك نسيتني فسوف أنساك أن أيضا) أي أنني سوف أعاملك معاملة المتناسي لشيء.

كما أنّه يستفاد من هذه الآية أنّ أوّل مرحلة من مراحل الانحراف والضلال ، هو أن لا يأخذ الإنسان قضاياه المصيرية بمأخذ الجدّ ، بل يتعامل معها معاملة المتسلّي والهازل ، فتؤدي به هذه الحالة إلى الكفر المطلق ، وإنكار جميع الحقائق.

* * *

٦٥

الآيتان

( وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣) )

التّفسير

هذه الآية إشارة ـ في الدرجة الأولى ـ إلى أنّ حرمان الكفار ومصيرهم المشؤوم إنّما هو نتيجة تقصيراتهم أنفسهم ، وإلّا فليس هناك من جانب الله أي تقصير في هدايتهم وقيادتهم وإبلاغ الآيات إليهم وبيان الدروس التربوية لهم ، لهذا يقول تعالى : إنّنا لم نال جهدا ولم ندخر شيئا في مجال الهداية والإرشاد ، بل أرسلنا لهم كتابا شرحنا فيه كل شيء بحكمة ودراية( وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ ) .

وهو كتاب فيه رحمة وهداية ، لا للمعاندين الأنانيين ، بل للمؤمنين( هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

٦٦

الآية اللاحقة تشير إلى الطريقة الخاطئة في تفكير العصاة والمنحرفين في صعيد الهداية الإلهية فيقول :( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ) أي كأنّ هؤلاء يتوقعون أن يروا نتيجة الوعد والوعيد الإلهي بعيونهم (أي يروا أهل الجنّة وهم فيها ، وأهل النّار وهم فيها) حتى يؤمنوا.

ولكنّه توقّع سخيف ، لأنّه عند ما تترجم الوعود الإلهية على صعيد الواقع ينتهي الأمر ، ولم يعد هناك مجال للرجوع ولا طريق للعودة ، وهناك سيعترفون بأنّهم قد تناسوا كتاب الله وتجاهلوا التعاليم الإلهية التي أنزلها على رسله بالحق ، وكان قولهم حقّا أيضا :( يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ ) .

سيغرقون في هذا الوقت في قلق واضطراب ، ويفكرون في مخلص ينقذهم من هذه المشكلة ويقولون( فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا ) .

وإذا لم يكن هناك شفعاء لنا ، أو إنّنا لا نصلح أساسا للشّفاعة ، أفلا يمكن أن نرجع إلى الدنيا ونقوم بأعمال غير ما عملناه سابقا ، ونسلّم للحق والحقيقة( أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) .

ولكن هذا التنبيه جاء ـ وللأسف ـ متأخرا جدا ، فلا طريق للعودة ولا صلاحية لهم للشفاعة ، لأنّهم قد خسروا كلّ رؤوس أموالهم ، وتورطوا في خسران جميع وجودهم( قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) .

وسوف يثبت لهم أنّ أصنامهم ومعبوداتهم ليس لها أي دور هناك ، وفي الحقيقة ضاعت ـ في نظرهم ـ جميعا( وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

وكأنّ الجملتين الأخيرتين ردّ على طلبهم ، يعني إذا كانوا يريدون شفعاء يشفعون فإنّ عليهم حتما أن يتوسّلوا بأصنامهم التي كانوا يسجدون لها ، في حين أنّ تلك الأصنام ولأوثان لا تكون مؤثرة هناك مطلقا.

وأمّا عودتهم إلى الدنيا فإنّها ممكنة في ما لو بقي لديهم رأس مال ، ولكنّهم

٦٧

قد خسروا كل رؤوس أموالهم وفقدوا كل وجودهم.

من هذه الآية يستفاد أوّلا أنّ الإنسان حرّ مختار في أعماله ، وإلّا لما طلب العودة والرجوع إلى الدنيا لملافاة ما فات ، وثانيا : إنّ العالم الآخر ليس مكان العمل واكتساب الفضائل والنجاة.

* * *

٦٨

الآية

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) )

التّفسير

في الآيات السابقة قرأنا أنّ المشركين يقفون يوم القيامة على خطأهم الكبير في صعيد انتخاب المعبود ، والآية الحاضرة تصف المعبود الحقيقي مع ذكر صفاته الخاصّة حتى يستطيع الذين يطلبون الحقيقة وينشدونها أن يعرفوه بوضوح في هذا العالم وقبل حلول يوم القيامة ، ويبدأ حديثه هذا بقوله :( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) أي أنّ المعبود لا يمكن أن يكون إلّا من كان خالقا.

هل خلق العالم في ستّة أيّام؟

لقد ورد البحث عن خلق العالم وتكوينه في ستّة أيّام ، في سبعة موارد من

٦٩

آيات القرآن الكريم(١) ، ولكنّه في ثلاثة موارد أضيف إلى السماوات والأرض لفظة «وما بينهما» أيضا. والتي هي في الحقيقة توضيح للجملة السابقة ، لأنّ جميع هذه الأشياء تدخل في معنى السماوات والأرض ، لأنّنا نعلم أنّ السماء تشمل جميع الأشياء التي توجد في الأعلى ، والأرض هي النقطة المقابلة للسماء.

وهنا يتبادر هذا السؤال فورا وهو : قبل أن تخلق السماوات والأرض لم يكن ليل ولا نهار ليقال : خلقت السماوات والأرض فيهما ، لأنّ الليل والنهار ناشئان من دوران الأرض حول نفسها في مقابل الشمس.

هذا مضافا إلى أنّ ظهور المجموعة الكونية في ستّة أيام ـ يعني أقل من أسبوع ـ يخالف العلم ، لأنّ العلم يقول : لقد استغرق تكوّن الأرض والسماء حتى وصل الى الواضع الحالي ملياردات من السنوات والأعوام.

ولكن نظرا إلى المفهوم الواسع للفظة «يوم» وما يعادلها في مختلف اللغات ، يكون جواب هذا السؤال واضحا ، لأنّه كثيرا ما يستعمل اليوم بمعنى الدورة ، سواء استغرقت مدة سنة ، أو مائة سنة ، أو مليون سنة أو ملياردات السنين ، والشواهد التي تثبت هذه الحقيقة ، وتفيد أنّ أحد معاني اليوم هو الدورة ، كثيرة :

١ ـ لقد استعملت لفظة اليوم والأيّام في القرآن الكريم مئات المرات ، وفي كثير من الموارد لم تكن بمعنى الليل والنهار ، مثلا يعبر عن عالم البعث بيوم القيامة ، وهذا يشهد بأنّ مجموع عملية القيامة التي هي دورة طويلة الأمد والمدّة ، تسمى يوم القيامة.

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ يوم القيامة ومحاسبة أعمال الناس يستغرق خمسين ألف سنة (سورة المعارج الآية ٤).

__________________

(١) وهي : الآية المبحوثة هنا ، و ٣ يونس ، و ٧ هود ، و ٥٩ الفرقان و ٤ السجدة و ٣٨ ق ، و ٤ الحديد.

٧٠

٢ ـ نقرأ في كتب اللغة أيضا أنّ اليوم ربّما يطلق على الزمن بين طلوع الشمس وغروبها ، وربّما على مقدار من الزمان مهما كان قدره ، قال الراغب في المفردات : «اليوم يعبّر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها ، وقد يعبّر عن مدة من الزمان أي مدّة كانت».

٣ ـ جاء في روايات أئمّة الدين وأحاديثهم ـ كذلك ـ استعمال اليوم بمعنى الدهر ، كما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في نهج البلاغة أنّه قال : «الدّهر يومان : يوم لك ، ويوم عليك».

ونقرأ في تفسير البرهان في تفسير هذه الآية ، عن تفسير علي بن إبراهيم الإمامعليه‌السلام قال : «في ستة أيّام ، أي في ستة أوقات» ، أي في ست دورات.

٤ ـ كثيرا ما نشاهد في المحاورات اليومية ، وأشعار الشعراء في اللغات المختلفة ، أنّ كلمة اليوم وما يعادلها قد استعملت بمعنى الدورة والعهد ، مثلا نقول يوم كانت الكرة الأرضية حارة ومشتعلة ، ويوم صارت باردة وظهرت فيها آثار الحياة ، في حين أنّ فترة سخونة الأرض واشتعالها استغرقت ملياردات من الأعوام.

أو عند ما نقول غصب آل أمية الخلافة الإسلامية يوما ، وغصبها بنو العباس يوما آخر. في حين أنّ فترة اغتصاب الأمويين للخلافة استغرقت عشرات السنين وفترة اغتصاب العباسيين لها استغرقت المئات.

من مجموع الحديث السابق نستنتج أنّ الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ست دورات متوالية ، وإن استغرقت كل دورة من هذه الدورات ملايين أو ملياردات السنين ، والعلم الحديث لم يبيّن أي أمر يخالف هذا الموضوع.

وهذه الدورات ـ احتمالا ـ هي على الترتيب :

١ ـ يوم كان الكون في شكل كتلة غازية الشكل ، فانفصلت منها أجزاء

٧١

بسبب دورانها حول نفسها ، وتشكلت من المواد المنفصلة الكرات والأنجم.

٢ ـ هذه الكرات قد تحولت تدريجا إلى هيئة كتلة من المواد الذائبة المشعة أم الباردة القابلة للسكنى.

٣ ـ في دورة أخرى تألفت المنظومة الشمسية وانفصلت الأرض عن الشمس.

٤ ـ في الدورة الرّابعة بردت الأرض وأصبحت قابلة للحياة.

٥ ـ ثمّ ظهرت النباتات والأشجار على الأرض.

٦ ـ وبالتالي ظهرت الحيوانات والإنسان فوق سطح الأرض.

وكل ما ذكرناه أعلاه من الأدوار الستة لعملية خلق وتكوين السماوات والأرض تنطبق على الآيات (٨) إلى (١١) من سورة فصلت التي سيأتي تفسيرها في المستقبل إن شاء الله.

لماذا لم يخلق الله العالم في لحظة واحدة؟

وهنا يطرح سؤال آخر نفسه وهو : لماذا خلق الله السماوات والأرض في دورات عديدة وطويلة ، وهو القادر على خلقها في لحظة واحدة؟

إنّ جواب هذا السؤال يمكن الوقوف عليه بالالتفات إلى نقطة واحدة ، وهي أنّ الخلق لو تمّ في لحظة واحدة ، لكان ذلك أقل دلالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه ، ولكن لما تمّت عملية الخلق والتكوين في مراحل مختلفة وأشكال متنوعة ، وفق برنامج منظم محسوب ، كان لذلك دلالة أوضح على معرفة الخالق.

ففي المثل لو كانت النّطفة البشرية تتبدل في لحظة واحدة إلى وليد كامل ، لمّا كان ذلك يحكي عظمة الخلق والتكوين ، ولكن عند ما ظهر الوليد خلال ٩ أشهر ، وضمن برنامج دقيق واتخذ في كل يوم وشهر شكلا خاصا وصورة خاصّة ، استطاعت كل واحدة من هذه المراحل أن تقدّم آية جديدة من آيات العظمة

٧٢

الإلهية ، وتكون دليلا جديدا على قدرة الخالق.

ثمّ يقول القرآن الكريم : إنّ الله تعالى بعد خلق السماوات والأرض أخذ زمام إدارتها بيده (أي ليس الخلق منه فقط ، بل منه الإدارة والتدبير أيضا) فقال تعالى :( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) .

وهذا جواب لمن يعتقد أنّ الكون محتاج إلى الله تعالى في الخلق والإيجاد دون البقاء.

ما هو العرش؟

«العرش» في اللغة هو ما له سقف ، وقد يطلق العرش على نفس السقف ، مثل قوله تعالى :( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ) (١) .

وربّما يأتي بمعنى الأسرة الكبيرة المرتفعة ، مثل أسرة الملوك والسلاطين ، كما جاء في قصة سليمان :( أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها ) (٢) .

وهكذا يطلق لفظ العرش على الأسقف التي يقيمها المزارعون لحفظ بعض الأشجار ، وبخاصّة المتسلقة منها ، كما نقرأ في القرآن الكريم :( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ) (٣) .

ولكن عند ما ينسب الى الله سبحانه وتعالى ويقال : عرش الله ، يراد منه مجموعة عالم الوجود ، الذي يعدّ في الحقيقة سرير حكومة الله تعالى.

وأساسا فإنّ عبارة( اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) كناية عن سيطرة حاكم من الحكام على أمور بلده ، كما أنّ المراد من جملة «ثلّ عرشه» هو خروج زمام الأمر من يده وفقدان السيطرة عليه ، وقد استعملت هذه الكناية في اللغة بكثرة إذ

__________________

(١) البقرة ، ٢٥٩.

(٢) النمل ، ٢٨

(٣) الأنعام ، ١٤١.

٧٣

يقال : إنّ جماعة من الناس ثارت في البلد الفلاني ، وأنزلت حاكمه من سريره وعرشه ، في حين من الممكن أن لا يكون لذلك الزعيم والحاكم تخت أصلا.

أو يقال : إنّ جماعة من الناس أيدوا فلانا ، وأجلسوه على العرش ، فكل هذه كناية عن امتلاك السلطة أو فقدانها.

وعلى هذا تكون عبارة( اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) كناية عن الإحاطة الكاملة لله تعالى وسيطرته على تدبير أمور الكون ـ سماء وأرضا ـ بعد خلقها.

ومن هنا يتّضح أنّ الذين أخذوا هذه الجملة دليلا على «جسمانيّة الله» كأنّهم لم يلتفتوا إلى موارد استعمال هذه الجملة العديدة في هذا المعنى الكنائي.

وهناك معنى آخر للعرش ، وهو أنّه قد ورد أحيانا في قبال «الكرسي» وفي مثل هذه الموارد يمكن أن يكون الكرسي (الذي يطلق عادة على المقعد القصير القوائم) كناية عن العالم المادي ، والعرش كناية عن عالم ما فوق المادة (أي عالم الأرواح والملائكة) كما جاء في تفسير آية( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) التي مرّت في سورة البقرة.

ثمّ يقول بأنّه تعالى هو الذي يلقي بالليل ـ كغشاء ـ على النهار ، ويستر ضوء النهار بالأستار المظلمة( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ) .

والملفت للنظر أنّ العبارة المذكورة ذكرت في مجال الليل فقط ، ولم يقل (ويغشي النهار الليل) لأنّ الغطاء والغشاء يناسب الظلمة فقط ولا يناسب النور والضوء.

ثمّ يضيف بعد ذلك قائلا : إنّ الليل يطلب النهار طلبا حثيثا (يطلبه حثيثا).

إنّ هذا التعبير ـ نظرا لوضع الليل والنهار في الكرة الأرضية ـ تعبير في غاية الروعة والجمال ، لأنّه لو نظر أحد إلى كيفية حركة الكرة الأرضية من الخارج ، وكيفية دورانها حول نفسها ووقوع ظلها المخروطي الشكل على نفسها ، مع العلم أنّ الكرة الأرضية تدور بسرعة فائقة حول نفسها (أي في حدود ٣٠ كيلومترا في

٧٤

الدقيقة) لأحس أنّ غول الظلّ المخروطي الأسود يجري بسرعة كبيرة على هذه الكرة خلف ضوء النهار.

ولكن هذا الأمر غير صادق بالنسبة إلى ضوء النهار ، لأنّ ضوء الشمس منتشر في نصف الكرة الأرضية وفي جميع الفضاء المحيط بأطراف الأرض ، ولا يتخذ لنفسه شكلا خاصا ، وإنّما ظلمة الليل فقط هي التي تدور مثل شبح غامض الأسرار حول الأرض.

ثمّ يضيف تعالى أنّه هو الذي خلق الشمس والقمر والنجوم ، وهي خاضعة لأمره بعد خلقها :( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ ) وهي( مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ) .

(وسوف نبحث حول تسخير الشمس والقمر والنجوم ومعاني ذلك في ذيل الآيات المناسبة بإذن الله تعالى).

ثمّ بعد ذكر خلق العالم ونظام الليل والنهار ، وخلق الشمس والقمر والنجوم ، قال مؤكّدا : اعلموا أنّ خلق الكون وتدبير أموره كلّه بيده سبحانه دون سواه ،( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) .

ما هو «الخلق» و «الأمر»؟

هناك كلام كثير بين المفسّرين حول المراد من «الخلق» و «الأمر» أنّه ما هو؟

ولكن بالنظر إلى القرائن الموجودة في هذه الآية ـ والآيات القرآنية الأخرى يستفاد أنّ المراد من «الخلق» هو الخلق والإيجاد الأوّل. والمراد من «الأمر» هو السنن والقوانين الحاكمة على عالم الوجود بأسره بأمر الله تعالى ، والتي تقود الكون في مسيره المرسوم له.

إن هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ ردّ على الذين يتصورون أنّ الله خلق الكون ثمّ تركه لحاله وأهله ، وجلس جانبا. أي إنّ العالم بحاجة إلى الله في وجوده

٧٥

وحدوثه ، دون بقائه واستمراره.

إنّ هذه الجملة تقول : كلّا ، بل إنّ العالم كما يحتاج إلى حدوثه إلى الله ، كذلك يحتاج إليه في تدبيره واستمرار حياته وإدارة شؤونه إلى الله ، ولو أنّ الله صرف عنايته ولطفه عن الكون لحظة واحدة لتبدد النظام وانهار وانهدم بصورة كاملة.

وقد مال بعض الفلاسفة إلى أن يفسّر عالم «الخلق» بعالم «المادة» وعالم «الأمر» بعالم «ما وراء المادة» لأنّ لعالم الخلق جانبا تدريجيا ، وهذه هي خاصية المادة. ولعالم الأمر جانبا دفعيا وفوريا ، وهذه هي خاصية عالم ما وراء المادة ، كما نقرأ في قوله تعالى :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

ولكن بالنظر إلى موارد استعمال لفظة الأمر في آيات القرآن ، وحتى عبارة( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ) الواردة في الآية المبحوثة يستفاد الأمر يعني كل أمر إلهي سواء في عالم المادة أو في عالم ما وراء المادة (تأملوا رجاء).

ثمّ في ختام الآية يقول :( تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) .

في الحقيقة إنّ هذه الجملة ـ بعد ذكر خلق السماوات والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وتدبير عالم الوجود ـ نوع من الثناء على الذات الربوبية المقدسة ، وقد سيق لتعليم العباد.

و «تبارك» من مادة البركة وأصلها «برك» ومعناها صدر البعير ، حيث أنّ الإبل عند ما تستقر في مكان ما تلصق صدورها على الأرض ، لهذا اتخذت هذه الكلمة تدريجيا معنى الثبوت والاستقرار والاستتباب ، ثمّ وصفت وسمّيت كل نعمة مستقرة ودائمة ، وكل كائن طويل العمر ، ومستمر الآثار والخيرات ، بأنّه موجود مبارك ، ويقال أيضا للمكان الذي يتجمع فيه الماء «بركة» لبقائه في ذلك

__________________

(١) سورة يس ، ٨٢.

٧٦

المكان مدة طويلة.

من هنا يتّضح أنّ رأس المال «المبارك» هو الذي يتصف بالدوام ، والكائن «المبارك» هو الموجود المستديم الآثار ، ومن البديهي أنّ أليق وجود لهذه الصفة هو وجود الله تعالى ، فهو وجود مبارك أزلي أبدي ، وهو بالتالي منشأ جميع البركات والخيرات ، ومنبع الخير المستمر( تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) (وسوف نتحدث في هذا المجال في تفسير الآية (٩٢) من سورة الأنعام أيضا).

* * *

٧٧

الآيتان

( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) )

التّفسير

شروط استجابة الدعاء :

لقد أثبتت الآية السابقة ـ في ضوء ما أقيم من برهان واضح ـ هذه الحقيقة ، وهي أنّ الذي يستحق للعبادة فقط هو الله ، وفي عقيب ذلك ورد الأمر هنا بالدعاء ، الذي هو مخ العبادة وروحها ، يقول أوّلا :( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ) .

و «التضرع» في الأصل من مادة «ضرع» بمعنى الثدي ، وعلى هذا يكون فعل التضرع بمعنى حلب اللبن من الضرع ، وحيث إنّه عند حلب اللبن تتحرك الأصابع على حلمة الثدي من جهاتها المختلفة استدارا للحليب ، لهذا استعملت هذه الكلمة في من يظهر حركات خاصّة إظهارا للخضوع والتواضع.

وعلى هذا فإنّ الآية المبحوثة ، وعبارة( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً ) تحثّنا على أن نقبل على الله بمنتهى الخضوع والخشوع والتواضع ، بل يجب أن تنعكس روح

٧٨

الدعاء في أعماق روحه ، وعلى جميع أبعاد وجوده ، ويكون اللسان مجرّد ترجمانها ، ويتحدث نيابة عن جميع أعضائه.

وأمره تعالى ـ في الآية الحاضرة ـ بأن يدعى الله «خفية» وفي السّر ، لأنّه أبعد عن الرياء ، وأقرب إلى الإخلاص ، ولأجل أن يكون الدعاء مقرونا بتمركز الفكر وحضور القلب.

ونحن نقرأ في حديث أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كان في إحدى غزواته ، ووصل جنود الإسلام إلى واد رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير قائلين : «لا إله إلّا الله» و «الله أكبر» فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أيّها الناس اربعوا على أنفسكم ، أمّا إنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا ، إنّكم تدعون سميعا قريبا ، إنّه معكم»(١) .

كما ويحتمل في هذه الآية أيضا أن يكون المراد من «التضرع» هو الدعاء الظاهر العلني ، والمراد من «الخفية» الدعاء الخفي السّري ، لأنّ لكل مقام اقتضاء خاصا ، فقد يقتضي أن يكون الدعاء علنا ، وربّما يقتضي خفية وسرا ، وهناك رواية وردت في ذيل هذه الآية تؤيد هذا الموضوع.

ثمّ قال تعالى في ختام الآية :( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) أي أنّ الله لا يحب المعتدين.

ولهذه العبارة معنى وسيع يشمل كل نوع من أنواع العدوان والتجاوز ، سواء الصراخ ورفع الصوت عاليا جدا حين الدعاء ، أو التظاهر وممارسة الرياء ، أو التوجه إلى غير الله حين الدعاء.

وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى حكم هو في الحقيقة شرط من شروط تأثير الدعاء ، إذ قال :( وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ) .

ومن المسلم أنّ الأدعية إنّما تكون عند الله أقرب إلى الإجابة إذا تحققت فيها

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الرابع ، الصفحة ٤٢٩.

٧٩

الشرائط اللازمة ، ومن جملة ذلك أن يكون الدعاء مقترنا بالجوانب البناءة والعملية في حدود المستطاع ، وأن تراعى حقوق الناس ، وأن تلقي حقيقة الدعاء بأنوارها وظلالها على وجود الإنسان الداعي بأسره ، ولهذا فلا تستجاب أدعية المفسدين والعصاة ، ولا تنتهي إلى أية نتيجة مرجوّة.

والمراد من «الفساد بعد الإصلاح» يمكن أن يكون الإصلاح من الكفر أو الظلم أو كليهما ، جاء في رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام : (إنّ الأرض كانت فاسدة فأصلحها نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(١) .

ومرّة أخرى يعود إلى مسألة الدعاء ويذكر شرطا آخر من شرائطه فيقول :( وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً ) .

أي لا تكونوا راضيين معجبين بأفعالكم بحيث تظنون أنّه لا توجد في حياتكم أية نقطة سوداء ، إذ أنّ هذا الظن هو أحد عوامل التقهقر والسقوط ، كما لا تكونوا يائسين إلى درجة أنّكم لا ترون أنفسكم لائقين للعفو الإلهي ، ولإجابة الدعاء ، إذ أنّ هذا اليأس والقنوط هو الآخر سبب لانطفاء شعلة السعي والاجتهاد ، بل لا بد أن تعرجوا نحوه تعالى بجناحي (الخوف) و (الأمل) الخوف من المسؤوليات والعثرات ، والأمل برحمته ولطفه.

وفي خاتمة الآية يقول تعالى للمزيد من التأكيد على أسباب الأمل بالرحمة الإلهية( إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) .

ويمكن أن تكون هذه العبارة إحدى شرائط إجابة الدعاء ، يعني إذا كنتم تريدون أن لا تكون أدعيتكم خاوية ، ومجرّد لقلقة لسان ، فيجب أن تقرنوها بعمل الخير والإحسان ، لتشملكم الرحمة الإلهية بمعونة ذلك وتثمر دعواتكم ، وبهذا تكون الآية قد تضمنت الإشارة إلى خمسة من شرائط قبول الدعاء

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الرابع ، الصفحة ٤٢٩.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين ، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة :

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطا واسعا لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أن القوابل [من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل].

ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسىعليه‌السلام «وكان الحمل خفيّا لم يظهر أثره على أم موسى» وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع ، وأنّها تحمل جنينا في بطنها وتوشك أن تضعه ، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.

وحين ولد موسىعليه‌السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطبع حبّه في قلبها ، وأنار جميع زوايا قلبها.

فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها : كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه «وأنال بذلك جائزتي» ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي ، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه ، فاهتمي بالمحافظة عليه ، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيرا.

ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت ، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر ، فارتبكت ولم تدر ما ذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الارتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار ، فلم يجدوا شيئا إلّا التنور المشتعل نارا فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت : إنّها صديقتي وقد

١٨١

جاءت زائرة فحسب ، فخرجواءايسين.

ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت «أخت موسى» عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه ، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور ، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالما وقد جعل الله النّار عليه بردا وسلاما «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالما من التنور.

لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة ، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.

وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد ، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر ، ولكن مع ذلك أحسّت بالاطمئنان أيضا.

كان ذلك من الله ولا بدّ أن يتحقق ، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.

فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضا» فطلبت منه أن يصنع صندوقا صغيرا.

فسألها النجار قائلا : ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الأمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع ، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.

فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلّادين ، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع ، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة ، فظن أولئك أنّه يستهزئ بهم فضربوه وطردوه ، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي ، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأولى من الارتجاج والعيّ ، وأخيرا فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي ، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.

ولعلّ الوقت كان فجرا والناس ـ بعد ـ نيام ، وفي هذه الحال خرجت أم

١٨٢

موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى ، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى ، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل ، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج ، فلو لا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولانكشف الأمر واتضح كل شيء.

ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأم بدقّة.

لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة «پروين اعتصامي» ـ بتصرف ـ تحكي صورة «تقريبية» عن ذلك الموقف :

أمّ موسى حين ألقت طفلها

للذي رب السما أوحى لها

نظرت للنيل يمضي مسرعا

آه لو تعرف حقا حالها

ودوي الموج فيه صاخب

وفتاها شاغل بلبالها

* * *

وتناغيه بصمت : ولدي

كيف يمضي بك هذا الزورق

دون ربان ، وإن ينسك من

هو ذو لطف فمن ذا يشفق

فأتاها الوحي : مهلا ، ودعي

باطل الفكر ووهما يزهق

* * *

إن موسى قد مضى للمنزل

فاتق الله ولا تستعجلي

قد تلقينا الذي ألقيته

بيد ترعى الفتى لا تجهلي

وخرير الماء أضحى مهده

في اهتزاز مؤنس إن تسألي

* * *

وله الموج رؤوما حدبا

فاق من يحدب أمّا وأبا

١٨٣

كل نهر ليس يطغى عبثا

إن أمر الله كان السببا

* * *

يأمر البحر فيغدو هائجا

وله الطوفان طوعا مائجا

عالم الإيجاد من آثاره

كل شيء لعلاه عارجا

* * *

أين تمضين دعيه فله

خير ربّ يرتضيه لا هجا

كل هذا من جهة!

ولكن تعالوا لنرى ما يجري في قصر فرعون؟!

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة ، ولم يكن له من الأبناء سواها ، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء ، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له : نتكهّن ونتوقع أن إنسانا يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها ، وكان فرعون وزوجه «آسية» في انتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيّام فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار ، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثل الصندوق «المجهول» الخفيّ أمام فرعون ، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.

بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه ، وفتح الصندوق على يده فعلا!.

فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها ، ودخل حبّه في قلوب الجميع ، ولا سيما قلب امرأة فرعون «آسية» وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(١) .

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن

__________________

(١) ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير «أبو الفتوح» و «مجمع البيان».

١٨٤

في هذا الصدد :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) .

كلمة «التقط» مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي ، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضا

وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدوا لدودا ، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة كان ما كان وحدث ما حدث وكما يقول علماء الأدب : إنّ اللام في الآية هنا( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ) هي «لا العاقبة» ليست «لام العلة» ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته ، وكيف أن هذه الجماعة «الفراعنة» عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل ، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ أبنائهم.

والتعبير ـ ضمنا ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحدا ، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون ، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول :( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) .

كانوا خاطئين في كل شيء ، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسىعليه‌السلام ، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم : خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(١)

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : إن الفرق بين «الخاطئ» «والمخطئ» هو أنّ الخاطئ هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته ، إلّا أنّه يخطئ في الأثناء صدفة ، فيتلف العمل.

١٨٥

ويستفاد من الآية التالية أن شجارا حدث ما بين فرعون وامرأته ، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه ، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) .

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت «الصندوق» وإلقاءه بين أمواج النيل ، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل ، وأن زوال ملكه على يده ، فجثم كابوس ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة ، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة ، وقالوا : ينبغي أن يذبح هذا الطفل ، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولدا ذكرا ، ولم يكن قلبها منسوجا من قماش عمال قصر فرعون ، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا :( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ! ) .

أجل ، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر ، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطرا ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة ، ولا يمكن مخالفتها أبدا

* * *

١٨٦

ملاحظة

تخطيط الله العجيب

إظهار القدرة ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوما جبارين ، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض ، فيهلكهم ويدمرهم تدميرا.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم ، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم ، وأن يصنعوا لأنفسهم سجنا يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا ، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّا.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيرا فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) )

التّفسير

عودة موسى إلى حضن أمّه :

في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة فأمّ موسى التي قلنا عنها : إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل ، بحسب ما فصّلنا آنفا اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها ، فقد أصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خاليا وفارغا منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها ، لكن لطف الله تداركها ، وكما يعبّر القرآن الكريم( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

١٨٨

«الفارغ» معناه الخالي ، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خاليا من كل شيء إلّا من ذكر موسى وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أم موسى من قبل ، ولكن مع الالتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماما أنّ أمّا تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلّا ولدها الرضيع ، ويبلغ بها الذهول درجة لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله ، ولتعلم أنّه بعين الله ، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّا.

كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظا في مكانه ، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ «الرباط» ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط : الحفظ والتقوية والاستحكام ، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته أي تثبيت قلب أم موسى ، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالاطمئنان ، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها ، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره( وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) .

كلمة «قصّيه» مأخوذة من مادة «قصّ» على زنة «نصّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء ، وإنّما سميّت القصّة قصّة لأنّها تحمل في طياتها أخبارا مختلفة يتبع بعضها بعضا.

فاستجابت «أخت موسى» لأمر أمّها ، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة ، حتى بصرت به من مكان بعيد ، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه

١٨٩

آل فرعون ويقول القرآن في هذا الصدد :( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) .

ولكن أولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

قال البعض : إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثا عن مرضعة له ، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر ، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه ، فرأت ـ من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أخرى لجملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أيضا.

فالعلامة «الطبرسي» لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن فرعون جاهل بالأمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تقهر!؟.

وعلى كل حال ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أمّه عاجلا ليطمئن قلبها ، لذلك يقول القرآن الكريم :( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

وطبيعي أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع ، فيجب البحث عن مرضع له ، ولا سيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون» تعلق قلبها به بشدّة ، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثا عن مرضع له ، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات ، أو أنّه لم يكن يتذوق

__________________

(١) «المراضع» جمع «مرضع» على زنة «مخبر» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها ، وقال البعض : (المراضع) جمع (مرضع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع ، أي ، «الأثداء» وقال البعض : يحتمل أن تكون الكلمة جمعا للمصدر الميمي «مرضع» بمعنى الرضاع ، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو

١٩٠

ألبانهن ، إذ يبدو لبن كلّ منهن مرّا في فمه ، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع ، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعا.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثا عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاء وضجيجا ، وما زال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتا أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل ، فقالت :( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) .

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبنا ، وقلب طافح بالمحبّة ، وقد فقدت وليدها ، وهي مستعدة أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسّر بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون ، فلمّا شمّ الطفل رائحة أمّه التقم ثديها بشغف كبير ، وأشرقت عيناه سرورا ، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم ، وامرأة فرعون هي الأخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضا.

ولعلهم قالوا للمرضع : أين كنت حتى الآن ، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّة فليتك جئت قبل الآن ، فمرحبا بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات : حين استقبل موسى ثدي أمّه ، قال هامان وزير فرعون لأم موسى : لعلك أمّه الحقيقية ، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك ، فقالت : أيّها الملك ، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب ، لم يأتي طفل رضيع إلّا قبل بي ، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(١) .

ونقرأ في هذا الصدد حديثا قال الراوي : فقلت للإمام الباقرعليه‌السلام ؛ فكم مكث موسى غائبا من أمّه حتى ردّه الله؟ قال «ثلاثة أيّام»(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٤ ، ص ٢٣١.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٦.

١٩١

وقال بعضهم : هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام الملوّثة بأموال السرقة ، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين ، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله( فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

هنا ينقدح سؤال مهم وهو : هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليل قوي لأيّ من الاحتمالين ، إلّا أن الاحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضا ، وهو : هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة ، أم أنّه حافظ على علاقته بأمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم : أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته ، وتربى موسى عندهما ، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون ، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسىعليه‌السلام بعد بعثته( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟! ) (٢) ، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة ، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسىعليه‌السلام بقي مع كمال الاحترام في

__________________

(١) تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة «تقرّ عينها» في ذيل الآية «٧٤» من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.

(٢) الشعراء ، الآية ١٨.

١٩٢

قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ ، إلّا أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله ، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان ، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط ، فواجه النزاع بنفسه «وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله»(١) .

* * *

__________________

(١) لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما ورد في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٣

الآيات

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام وحماية المظلومين :

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسىعليه‌السلام وما جرى له مع فرعون ، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه ، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً

١٩٤

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة.

وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين :

فقال بعض المفسّرين : المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية ، وغالبا ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة ، وغالبا ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم : إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني ، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب معاني الأخبار قال : فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال : «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى ، التحى»(١) .

وليس بين هذه التعابير فرق كبير ، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين «الحكم» و «العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح ، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فيدل بصورة جليّة على أن موسىعليه‌السلام كان جديرا بهذه المنزلة ، نظرا لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة ، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما لأنّ موسىعليه‌السلام يومئذ لم يبعث بعد ، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّا.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٥

على القضاء الصحيح وما شابه ذلك ، وقد منح الله هذه الأمور لموسىعليه‌السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفا.

ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسىعليه‌السلام لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون ، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا رغم أنّ جزئيات تلك الأعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى( دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) .

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسىعليه‌السلام على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون ، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوما بعد يوم حتى بلغت أوجها ، حكم عليه بالتبعيد عن العاصمة لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضا ، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة( عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم ، ولا تراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة ، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم : هو أوّل الليل ، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم ، وجماعة يذهبون للتنزه ، وآخرون لأماكن أخرى هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الشأن يقول : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين».

١٩٦

وقد ورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء»(١) .

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيرا ما تحدث الجنايات والفساد والانحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل ، ولا هم نائمون ، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادة ، وتنشط مراكز الفساد أيضا في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار ، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة ، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال ، موسى دخل المدينة ، وهنالك واجه مشادّة ونزاعا ، فاقترب من منطقة النزاع( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ) .

والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل ، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) .

فجاءه موسىعليه‌السلام لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم الذي يقال عنه أنّه كان طباخا في قصر فرعون ، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر ، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره ، فهوى إلى الأرض ميتا في الحال تقول الآية :( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (٢) .

وممّا لا شك فيه ، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني ، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضا ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٤٩ [باب ٢٠ من أبواب الصلوات المندوبة].

(٢) «وكز» مأخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد ، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام

١٩٧

ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام أسف على هذا الأمر( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

وبتعبير آخر : فإنّ موسىعليه‌السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي ، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل ، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسىعليه‌السلام إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسىعليه‌السلام فيقول :( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

ومن المسلم به أنّ موسىعليه‌السلام لم يصدر منه ذنب هنا ، بل ترك الأولى ، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة ، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون ، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام حين نجا بلطف الله من هذا المأزق( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ ) من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) . ومعينا للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين ، ويريد موسىعليه‌السلام أن يقول : إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبدا بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين ..».

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى ، إلّا أن هذا الاحتمال بعيد جدّا ، حسب الظاهر.

* * *

١٩٨

مسألتان

١ ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفا للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل ، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسىعليه‌السلام التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول :( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) .

وفي مكان آخر يقول :( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة ، وهو أن ما صدر من موسىعليه‌السلام هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر ، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي ، فلم يحتط ، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية ، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمرا هينا حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتا ، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل ، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدمعليه‌السلام التي تقدم شرحه في ذيل الآية (١٩) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في تفسير الآيات

١٩٩

المتقدمة :

«قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله «إنه» يعنى الشيطان «عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ » ـ وأمّا المراد من جملة ـ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي » يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة «فَاغْفِرْ لِي » أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ...».(١)

٢ ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام :

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول «الإعانة على الإثم» و «معاونة الظلمة» وتدل على أن واحدا من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين ، وتكون سببا لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساسا فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّا كان هم أفراد معدودون ، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة ، فهؤلاء القلّة المتفرعنون إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا ، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعا ، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي ، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606