الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 606
المشاهدات: 233321
تحميل: 5422


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233321 / تحميل: 5422
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 5

مؤلف:
العربية

الثّاني من أصحاب الأعراف ، وهم السادة والأنبياء والأئمّة والصلحاء.

ونرى في بعض الرّوايات ـ أيضا ـ شاهدا واضحا وجليا على هذا الجمع مثل الحديث المنقول عن الإمام الصّادقعليه‌السلام الذي قال فيه : «الأعراف كثبان بين الجنّة والنّار ، والرجال الأئمّة يقفون على الأعراف مع شيعتهم وقد سبق المؤمنون إلى الجنّة بلا حساب». ويقصد من الشيعة الذي يقفون مع الأئمّة على الأعراف العصاة منهم.

ثمّ يضيف قائلا : «فيقول الأئمّة لشيعتهم من أصحاب الذنوب : انظروا إلى إخوانكم في الجنّة قد سبقوا إليها بلا حساب ، وهو قوله تبارك وتعالى :( سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) ثمّ يقال : انظروا إلى أعدائكم في النّار ، وهو قوله تعالى :( وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ثمّ يقولون لمن في النّار من أعدائهم : هؤلاء شيعتي وإخواني الذين كنتم أنتم تختلفون (تحلفون) في الدنيا أن لا ينالهم الله برحمة ، ثمّ تقول الأئمّة لشيعتهم : ادخلوا الجنّة لا خوف عليكم وأنتم تحزنون(1) .

ونظير هذا المضمون روي في تفاسير أهل السنة عن حذيفة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) .

ونكرر مرّة أخرى هنا أنّ الحديث حول تفاصيل وجزئيات القيامة وخصوصيات الحياة في العالم الآخر أشبه بما لو أننا أردنا أن نصف شبحا من بعيد ، في حين أنّ بين ذلك الشبح وبين حياتنا تفاوتا واسعا واختلافا كبيرا ، فما نفعله في هذه الصورة هو أنّنا نستطيع بألفاظنا المحدودة والقاصرة أن نشير إليه إشارة ناقصة قصيرة.

هذا ، والنقطة الجديرة بالالتفات هي أنّ الحياة في العالم الآخر مبتنية على

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 19 و 20.

(2) تفسير الطبري ، ج 8 الصفحة ، 142 و 143.

٦١

أساس النماذج والعيّنات الموجودة في هذه الدنيا ، فهكذا الحال بالنسبة إلى الأعراف ، لأنّ الناس في هذه الدنيا ثلاث فرق : المؤمنون الصادقون الذين وصلوا إلى الطمأنينة الكاملة في ضوء الإيمان ، ولم يدخروا وسعا في طريق المجاهدة.

والمعاندون وأعداء الحق المتصلبون المتمادون في لجاجهم الذين لا يهتدون بأية وسيلة. والفريق الثّالث هم الذين يقفون في هذا الممر الصّعب عبوره ـ في الوسط بين الفريقين ، وأكثر عناية القادة الصادقين وأئمّة الحق موجهة إلى هؤلاء ، فهم يبقون إلى جانب هؤلاء ، ويأخذون بأيديهم لإنقاذهم وتخليصهم من مرحلة الأعراف ليستقروا في صف المؤمنين الحقيقيين.

ومن هنا يتّضح أن تدخّل الأنبياء والأئمّة في انقاذ هذا الفريق في الآخرة كتدخلهم لذلك في الدنيا لا ينافي أبدا قدرة الله وحاكميته على كل شيء ، بل كل ما يفعلونه إنّما هو بإذن الله تعالى وأمره.

* * *

٦٢

الآيتان

( وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) )

التّفسير

نعم الجنّة حرام على أهل النّار :

بعد أن استقر كل من أهل الجنّة وأهل النّار في أماكنهم ومنازلهم ، تدور بينهم حوارات نتيجتها العقوبة الروحية والمعنوية لأهل النّار.

وفي البداية يبدأ الكلام من جانب أهل النّار :( وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) . فهم يطلبون أن يجودوا عليهم بشيء من الماء أو من نعم الجنّة.

ولكن أهل الجنّة يبادرون إلى رفض هذا المطلب( قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ ) .

٦٣

بحوث

هنا عدّة نقاط يجب أن نتوقف عندها ونلتفت إليها :

1 ـ يبدأ القرآن الكريم بأحاديث أهل النّار مع أهل الجنّة بلفظة (ونادى) التي تستعمل عادة للتخاطب من مكان بعيد ، وهذا يفيد بأنّ بين الفريقين فاصلة كبيرة ومع ذلك يتمّ هذا الحوار ويسمع كل منهما حديث الآخر ، وهذا ليس بعجيب ، فلو أن المسافه بلغت ملايين الفراسخ لأمكن أن يسمع كل واحد منهما كلام الآخر ، بل ويرى ـ في بعض الأحيان ـ الطرف الآخر.

ولو كان القبول بهذا أمرا متعذرا أو متعسرا في الماضي ، وكانت تشكل مشكلة بالنسبة إلى السامعين ، فإنّه مع انتقال الصوت والصورة في عصرنا الحاضر من مسافات بعيدة جدا انحلّت هذه المشكلة ، ولم تعد الآية موضع تعجب وغرابة.

2 ـ إنّ أوّل طلب يطلبه أهل النّار هو الماء ، وهذا أمر طبيعي ، لأنّ الشخص الذي يحترق في النّار المستعرة يطلب الماء قبل أي شيء حتى يبرد غليلة ويرفع به عطشه.

3 ـ إنّ عبارة( مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) التي هي عبارة مجملة ، وتتسم بالإبهام ، تفيد أنّه حتى أهل النّار لا يمكنهم أن يعرفوا بشيء من حقيقة النعم الموجودة في الجنّة وأنواعها. وهذا الموضوع يتفق وينسجم مع بعض الأحاديث التي تقول : (إنّ في الجنّة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر).

ثمّ إنّ عطف الجملة بـ «أو» يشير الى أنّ النعم الاخروية الأخرى وخاصّة الفواكه يمكنها أن تحلّ محل الماء وتطفئ عطش الإنسان.

4 ـ إنّ عبارة( إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ ) إشارة إلى أهل الجنّة بأنفسهم ، ليسوا هم الذين يمتنعون عن إعطاء شيء من هذه النعم لأهل النّار ، لأنّه لا يقلّ منها شيء بسبب الإعطاء ، ولا أنّهم يحملون حقدا أو ضغينة على أحد في

٦٤

صدورهم ، حتى بالنسبة إلى أعدائهم ، ولكن وضع أهل النّار بشكل لا يسمح لهم أن يستفيدوا من نعم الجنّة.

إنّ هذا الحرمان ـ في الحقيقة ـ نوع من «الحرمان التكويني» مثل حرمان كثير من المرضى من الأطعمة اللذيذة المتنوعة.

في الآية اللاحقة يبيّن سبب حرمانهم ، ويوضح بذكر صفات أهل النّار أهل هذا المصير الأسود قد هيّئوه هم لأنفسهم ، فيقول أوّلا : إنّ هؤلاء هم الذين اتخذوا دينهم لعبا( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً ) .

وهذا إلى جانب أنّهم خدعتهم الدنيا واغتروا بها( وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) .

إنّ هذه الأمور سببت في أن يغرقوا في وحل الشهوات ، وينسوا كل شيء حتى الآخرة ، وينكروا أقوال الأنبياء ، ويكذبوا بالآيات الإلهية ، ولهذا أضاف قائلا :( فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ، وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ) .

ومن البديهي أنّ المراد من «النسيان» الذي نسب هنا إلى الله هو بمعنى أنّنا نعاملهم معاملة الناسي تماما ، مثل أن يقول شخص لصديقه : (كما أنّك نسيتني فسوف أنساك أن أيضا) أي أنني سوف أعاملك معاملة المتناسي لشيء.

كما أنّه يستفاد من هذه الآية أنّ أوّل مرحلة من مراحل الانحراف والضلال ، هو أن لا يأخذ الإنسان قضاياه المصيرية بمأخذ الجدّ ، بل يتعامل معها معاملة المتسلّي والهازل ، فتؤدي به هذه الحالة إلى الكفر المطلق ، وإنكار جميع الحقائق.

* * *

٦٥

الآيتان

( وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) )

التّفسير

هذه الآية إشارة ـ في الدرجة الأولى ـ إلى أنّ حرمان الكفار ومصيرهم المشؤوم إنّما هو نتيجة تقصيراتهم أنفسهم ، وإلّا فليس هناك من جانب الله أي تقصير في هدايتهم وقيادتهم وإبلاغ الآيات إليهم وبيان الدروس التربوية لهم ، لهذا يقول تعالى : إنّنا لم نال جهدا ولم ندخر شيئا في مجال الهداية والإرشاد ، بل أرسلنا لهم كتابا شرحنا فيه كل شيء بحكمة ودراية( وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ ) .

وهو كتاب فيه رحمة وهداية ، لا للمعاندين الأنانيين ، بل للمؤمنين( هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

٦٦

الآية اللاحقة تشير إلى الطريقة الخاطئة في تفكير العصاة والمنحرفين في صعيد الهداية الإلهية فيقول :( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ) أي كأنّ هؤلاء يتوقعون أن يروا نتيجة الوعد والوعيد الإلهي بعيونهم (أي يروا أهل الجنّة وهم فيها ، وأهل النّار وهم فيها) حتى يؤمنوا.

ولكنّه توقّع سخيف ، لأنّه عند ما تترجم الوعود الإلهية على صعيد الواقع ينتهي الأمر ، ولم يعد هناك مجال للرجوع ولا طريق للعودة ، وهناك سيعترفون بأنّهم قد تناسوا كتاب الله وتجاهلوا التعاليم الإلهية التي أنزلها على رسله بالحق ، وكان قولهم حقّا أيضا :( يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ ) .

سيغرقون في هذا الوقت في قلق واضطراب ، ويفكرون في مخلص ينقذهم من هذه المشكلة ويقولون( فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا ) .

وإذا لم يكن هناك شفعاء لنا ، أو إنّنا لا نصلح أساسا للشّفاعة ، أفلا يمكن أن نرجع إلى الدنيا ونقوم بأعمال غير ما عملناه سابقا ، ونسلّم للحق والحقيقة( أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) .

ولكن هذا التنبيه جاء ـ وللأسف ـ متأخرا جدا ، فلا طريق للعودة ولا صلاحية لهم للشفاعة ، لأنّهم قد خسروا كلّ رؤوس أموالهم ، وتورطوا في خسران جميع وجودهم( قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) .

وسوف يثبت لهم أنّ أصنامهم ومعبوداتهم ليس لها أي دور هناك ، وفي الحقيقة ضاعت ـ في نظرهم ـ جميعا( وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

وكأنّ الجملتين الأخيرتين ردّ على طلبهم ، يعني إذا كانوا يريدون شفعاء يشفعون فإنّ عليهم حتما أن يتوسّلوا بأصنامهم التي كانوا يسجدون لها ، في حين أنّ تلك الأصنام ولأوثان لا تكون مؤثرة هناك مطلقا.

وأمّا عودتهم إلى الدنيا فإنّها ممكنة في ما لو بقي لديهم رأس مال ، ولكنّهم

٦٧

قد خسروا كل رؤوس أموالهم وفقدوا كل وجودهم.

من هذه الآية يستفاد أوّلا أنّ الإنسان حرّ مختار في أعماله ، وإلّا لما طلب العودة والرجوع إلى الدنيا لملافاة ما فات ، وثانيا : إنّ العالم الآخر ليس مكان العمل واكتساب الفضائل والنجاة.

* * *

٦٨

الآية

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) )

التّفسير

في الآيات السابقة قرأنا أنّ المشركين يقفون يوم القيامة على خطأهم الكبير في صعيد انتخاب المعبود ، والآية الحاضرة تصف المعبود الحقيقي مع ذكر صفاته الخاصّة حتى يستطيع الذين يطلبون الحقيقة وينشدونها أن يعرفوه بوضوح في هذا العالم وقبل حلول يوم القيامة ، ويبدأ حديثه هذا بقوله :( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) أي أنّ المعبود لا يمكن أن يكون إلّا من كان خالقا.

هل خلق العالم في ستّة أيّام؟

لقد ورد البحث عن خلق العالم وتكوينه في ستّة أيّام ، في سبعة موارد من

٦٩

آيات القرآن الكريم(1) ، ولكنّه في ثلاثة موارد أضيف إلى السماوات والأرض لفظة «وما بينهما» أيضا. والتي هي في الحقيقة توضيح للجملة السابقة ، لأنّ جميع هذه الأشياء تدخل في معنى السماوات والأرض ، لأنّنا نعلم أنّ السماء تشمل جميع الأشياء التي توجد في الأعلى ، والأرض هي النقطة المقابلة للسماء.

وهنا يتبادر هذا السؤال فورا وهو : قبل أن تخلق السماوات والأرض لم يكن ليل ولا نهار ليقال : خلقت السماوات والأرض فيهما ، لأنّ الليل والنهار ناشئان من دوران الأرض حول نفسها في مقابل الشمس.

هذا مضافا إلى أنّ ظهور المجموعة الكونية في ستّة أيام ـ يعني أقل من أسبوع ـ يخالف العلم ، لأنّ العلم يقول : لقد استغرق تكوّن الأرض والسماء حتى وصل الى الواضع الحالي ملياردات من السنوات والأعوام.

ولكن نظرا إلى المفهوم الواسع للفظة «يوم» وما يعادلها في مختلف اللغات ، يكون جواب هذا السؤال واضحا ، لأنّه كثيرا ما يستعمل اليوم بمعنى الدورة ، سواء استغرقت مدة سنة ، أو مائة سنة ، أو مليون سنة أو ملياردات السنين ، والشواهد التي تثبت هذه الحقيقة ، وتفيد أنّ أحد معاني اليوم هو الدورة ، كثيرة :

1 ـ لقد استعملت لفظة اليوم والأيّام في القرآن الكريم مئات المرات ، وفي كثير من الموارد لم تكن بمعنى الليل والنهار ، مثلا يعبر عن عالم البعث بيوم القيامة ، وهذا يشهد بأنّ مجموع عملية القيامة التي هي دورة طويلة الأمد والمدّة ، تسمى يوم القيامة.

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ يوم القيامة ومحاسبة أعمال الناس يستغرق خمسين ألف سنة (سورة المعارج الآية 4).

__________________

(1) وهي : الآية المبحوثة هنا ، و 3 يونس ، و 7 هود ، و 59 الفرقان و 4 السجدة و 38 ق ، و 4 الحديد.

٧٠

2 ـ نقرأ في كتب اللغة أيضا أنّ اليوم ربّما يطلق على الزمن بين طلوع الشمس وغروبها ، وربّما على مقدار من الزمان مهما كان قدره ، قال الراغب في المفردات : «اليوم يعبّر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها ، وقد يعبّر عن مدة من الزمان أي مدّة كانت».

3 ـ جاء في روايات أئمّة الدين وأحاديثهم ـ كذلك ـ استعمال اليوم بمعنى الدهر ، كما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في نهج البلاغة أنّه قال : «الدّهر يومان : يوم لك ، ويوم عليك».

ونقرأ في تفسير البرهان في تفسير هذه الآية ، عن تفسير علي بن إبراهيم الإمامعليه‌السلام قال : «في ستة أيّام ، أي في ستة أوقات» ، أي في ست دورات.

4 ـ كثيرا ما نشاهد في المحاورات اليومية ، وأشعار الشعراء في اللغات المختلفة ، أنّ كلمة اليوم وما يعادلها قد استعملت بمعنى الدورة والعهد ، مثلا نقول يوم كانت الكرة الأرضية حارة ومشتعلة ، ويوم صارت باردة وظهرت فيها آثار الحياة ، في حين أنّ فترة سخونة الأرض واشتعالها استغرقت ملياردات من الأعوام.

أو عند ما نقول غصب آل أمية الخلافة الإسلامية يوما ، وغصبها بنو العباس يوما آخر. في حين أنّ فترة اغتصاب الأمويين للخلافة استغرقت عشرات السنين وفترة اغتصاب العباسيين لها استغرقت المئات.

من مجموع الحديث السابق نستنتج أنّ الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ست دورات متوالية ، وإن استغرقت كل دورة من هذه الدورات ملايين أو ملياردات السنين ، والعلم الحديث لم يبيّن أي أمر يخالف هذا الموضوع.

وهذه الدورات ـ احتمالا ـ هي على الترتيب :

1 ـ يوم كان الكون في شكل كتلة غازية الشكل ، فانفصلت منها أجزاء

٧١

بسبب دورانها حول نفسها ، وتشكلت من المواد المنفصلة الكرات والأنجم.

2 ـ هذه الكرات قد تحولت تدريجا إلى هيئة كتلة من المواد الذائبة المشعة أم الباردة القابلة للسكنى.

3 ـ في دورة أخرى تألفت المنظومة الشمسية وانفصلت الأرض عن الشمس.

4 ـ في الدورة الرّابعة بردت الأرض وأصبحت قابلة للحياة.

5 ـ ثمّ ظهرت النباتات والأشجار على الأرض.

6 ـ وبالتالي ظهرت الحيوانات والإنسان فوق سطح الأرض.

وكل ما ذكرناه أعلاه من الأدوار الستة لعملية خلق وتكوين السماوات والأرض تنطبق على الآيات (8) إلى (11) من سورة فصلت التي سيأتي تفسيرها في المستقبل إن شاء الله.

لماذا لم يخلق الله العالم في لحظة واحدة؟

وهنا يطرح سؤال آخر نفسه وهو : لماذا خلق الله السماوات والأرض في دورات عديدة وطويلة ، وهو القادر على خلقها في لحظة واحدة؟

إنّ جواب هذا السؤال يمكن الوقوف عليه بالالتفات إلى نقطة واحدة ، وهي أنّ الخلق لو تمّ في لحظة واحدة ، لكان ذلك أقل دلالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه ، ولكن لما تمّت عملية الخلق والتكوين في مراحل مختلفة وأشكال متنوعة ، وفق برنامج منظم محسوب ، كان لذلك دلالة أوضح على معرفة الخالق.

ففي المثل لو كانت النّطفة البشرية تتبدل في لحظة واحدة إلى وليد كامل ، لمّا كان ذلك يحكي عظمة الخلق والتكوين ، ولكن عند ما ظهر الوليد خلال 9 أشهر ، وضمن برنامج دقيق واتخذ في كل يوم وشهر شكلا خاصا وصورة خاصّة ، استطاعت كل واحدة من هذه المراحل أن تقدّم آية جديدة من آيات العظمة

٧٢

الإلهية ، وتكون دليلا جديدا على قدرة الخالق.

ثمّ يقول القرآن الكريم : إنّ الله تعالى بعد خلق السماوات والأرض أخذ زمام إدارتها بيده (أي ليس الخلق منه فقط ، بل منه الإدارة والتدبير أيضا) فقال تعالى :( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) .

وهذا جواب لمن يعتقد أنّ الكون محتاج إلى الله تعالى في الخلق والإيجاد دون البقاء.

ما هو العرش؟

«العرش» في اللغة هو ما له سقف ، وقد يطلق العرش على نفس السقف ، مثل قوله تعالى :( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ) (1) .

وربّما يأتي بمعنى الأسرة الكبيرة المرتفعة ، مثل أسرة الملوك والسلاطين ، كما جاء في قصة سليمان :( أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها ) (2) .

وهكذا يطلق لفظ العرش على الأسقف التي يقيمها المزارعون لحفظ بعض الأشجار ، وبخاصّة المتسلقة منها ، كما نقرأ في القرآن الكريم :( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ) (3) .

ولكن عند ما ينسب الى الله سبحانه وتعالى ويقال : عرش الله ، يراد منه مجموعة عالم الوجود ، الذي يعدّ في الحقيقة سرير حكومة الله تعالى.

وأساسا فإنّ عبارة( اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) كناية عن سيطرة حاكم من الحكام على أمور بلده ، كما أنّ المراد من جملة «ثلّ عرشه» هو خروج زمام الأمر من يده وفقدان السيطرة عليه ، وقد استعملت هذه الكناية في اللغة بكثرة إذ

__________________

(1) البقرة ، 259.

(2) النمل ، 28

(3) الأنعام ، 141.

٧٣

يقال : إنّ جماعة من الناس ثارت في البلد الفلاني ، وأنزلت حاكمه من سريره وعرشه ، في حين من الممكن أن لا يكون لذلك الزعيم والحاكم تخت أصلا.

أو يقال : إنّ جماعة من الناس أيدوا فلانا ، وأجلسوه على العرش ، فكل هذه كناية عن امتلاك السلطة أو فقدانها.

وعلى هذا تكون عبارة( اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) كناية عن الإحاطة الكاملة لله تعالى وسيطرته على تدبير أمور الكون ـ سماء وأرضا ـ بعد خلقها.

ومن هنا يتّضح أنّ الذين أخذوا هذه الجملة دليلا على «جسمانيّة الله» كأنّهم لم يلتفتوا إلى موارد استعمال هذه الجملة العديدة في هذا المعنى الكنائي.

وهناك معنى آخر للعرش ، وهو أنّه قد ورد أحيانا في قبال «الكرسي» وفي مثل هذه الموارد يمكن أن يكون الكرسي (الذي يطلق عادة على المقعد القصير القوائم) كناية عن العالم المادي ، والعرش كناية عن عالم ما فوق المادة (أي عالم الأرواح والملائكة) كما جاء في تفسير آية( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) التي مرّت في سورة البقرة.

ثمّ يقول بأنّه تعالى هو الذي يلقي بالليل ـ كغشاء ـ على النهار ، ويستر ضوء النهار بالأستار المظلمة( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ) .

والملفت للنظر أنّ العبارة المذكورة ذكرت في مجال الليل فقط ، ولم يقل (ويغشي النهار الليل) لأنّ الغطاء والغشاء يناسب الظلمة فقط ولا يناسب النور والضوء.

ثمّ يضيف بعد ذلك قائلا : إنّ الليل يطلب النهار طلبا حثيثا (يطلبه حثيثا).

إنّ هذا التعبير ـ نظرا لوضع الليل والنهار في الكرة الأرضية ـ تعبير في غاية الروعة والجمال ، لأنّه لو نظر أحد إلى كيفية حركة الكرة الأرضية من الخارج ، وكيفية دورانها حول نفسها ووقوع ظلها المخروطي الشكل على نفسها ، مع العلم أنّ الكرة الأرضية تدور بسرعة فائقة حول نفسها (أي في حدود 30 كيلومترا في

٧٤

الدقيقة) لأحس أنّ غول الظلّ المخروطي الأسود يجري بسرعة كبيرة على هذه الكرة خلف ضوء النهار.

ولكن هذا الأمر غير صادق بالنسبة إلى ضوء النهار ، لأنّ ضوء الشمس منتشر في نصف الكرة الأرضية وفي جميع الفضاء المحيط بأطراف الأرض ، ولا يتخذ لنفسه شكلا خاصا ، وإنّما ظلمة الليل فقط هي التي تدور مثل شبح غامض الأسرار حول الأرض.

ثمّ يضيف تعالى أنّه هو الذي خلق الشمس والقمر والنجوم ، وهي خاضعة لأمره بعد خلقها :( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ ) وهي( مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ) .

(وسوف نبحث حول تسخير الشمس والقمر والنجوم ومعاني ذلك في ذيل الآيات المناسبة بإذن الله تعالى).

ثمّ بعد ذكر خلق العالم ونظام الليل والنهار ، وخلق الشمس والقمر والنجوم ، قال مؤكّدا : اعلموا أنّ خلق الكون وتدبير أموره كلّه بيده سبحانه دون سواه ،( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) .

ما هو «الخلق» و «الأمر»؟

هناك كلام كثير بين المفسّرين حول المراد من «الخلق» و «الأمر» أنّه ما هو؟

ولكن بالنظر إلى القرائن الموجودة في هذه الآية ـ والآيات القرآنية الأخرى يستفاد أنّ المراد من «الخلق» هو الخلق والإيجاد الأوّل. والمراد من «الأمر» هو السنن والقوانين الحاكمة على عالم الوجود بأسره بأمر الله تعالى ، والتي تقود الكون في مسيره المرسوم له.

إن هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ ردّ على الذين يتصورون أنّ الله خلق الكون ثمّ تركه لحاله وأهله ، وجلس جانبا. أي إنّ العالم بحاجة إلى الله في وجوده

٧٥

وحدوثه ، دون بقائه واستمراره.

إنّ هذه الجملة تقول : كلّا ، بل إنّ العالم كما يحتاج إلى حدوثه إلى الله ، كذلك يحتاج إليه في تدبيره واستمرار حياته وإدارة شؤونه إلى الله ، ولو أنّ الله صرف عنايته ولطفه عن الكون لحظة واحدة لتبدد النظام وانهار وانهدم بصورة كاملة.

وقد مال بعض الفلاسفة إلى أن يفسّر عالم «الخلق» بعالم «المادة» وعالم «الأمر» بعالم «ما وراء المادة» لأنّ لعالم الخلق جانبا تدريجيا ، وهذه هي خاصية المادة. ولعالم الأمر جانبا دفعيا وفوريا ، وهذه هي خاصية عالم ما وراء المادة ، كما نقرأ في قوله تعالى :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1) .

ولكن بالنظر إلى موارد استعمال لفظة الأمر في آيات القرآن ، وحتى عبارة( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ) الواردة في الآية المبحوثة يستفاد الأمر يعني كل أمر إلهي سواء في عالم المادة أو في عالم ما وراء المادة (تأملوا رجاء).

ثمّ في ختام الآية يقول :( تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) .

في الحقيقة إنّ هذه الجملة ـ بعد ذكر خلق السماوات والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وتدبير عالم الوجود ـ نوع من الثناء على الذات الربوبية المقدسة ، وقد سيق لتعليم العباد.

و «تبارك» من مادة البركة وأصلها «برك» ومعناها صدر البعير ، حيث أنّ الإبل عند ما تستقر في مكان ما تلصق صدورها على الأرض ، لهذا اتخذت هذه الكلمة تدريجيا معنى الثبوت والاستقرار والاستتباب ، ثمّ وصفت وسمّيت كل نعمة مستقرة ودائمة ، وكل كائن طويل العمر ، ومستمر الآثار والخيرات ، بأنّه موجود مبارك ، ويقال أيضا للمكان الذي يتجمع فيه الماء «بركة» لبقائه في ذلك

__________________

(1) سورة يس ، 82.

٧٦

المكان مدة طويلة.

من هنا يتّضح أنّ رأس المال «المبارك» هو الذي يتصف بالدوام ، والكائن «المبارك» هو الموجود المستديم الآثار ، ومن البديهي أنّ أليق وجود لهذه الصفة هو وجود الله تعالى ، فهو وجود مبارك أزلي أبدي ، وهو بالتالي منشأ جميع البركات والخيرات ، ومنبع الخير المستمر( تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) (وسوف نتحدث في هذا المجال في تفسير الآية (92) من سورة الأنعام أيضا).

* * *

٧٧

الآيتان

( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) )

التّفسير

شروط استجابة الدعاء :

لقد أثبتت الآية السابقة ـ في ضوء ما أقيم من برهان واضح ـ هذه الحقيقة ، وهي أنّ الذي يستحق للعبادة فقط هو الله ، وفي عقيب ذلك ورد الأمر هنا بالدعاء ، الذي هو مخ العبادة وروحها ، يقول أوّلا :( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ) .

و «التضرع» في الأصل من مادة «ضرع» بمعنى الثدي ، وعلى هذا يكون فعل التضرع بمعنى حلب اللبن من الضرع ، وحيث إنّه عند حلب اللبن تتحرك الأصابع على حلمة الثدي من جهاتها المختلفة استدارا للحليب ، لهذا استعملت هذه الكلمة في من يظهر حركات خاصّة إظهارا للخضوع والتواضع.

وعلى هذا فإنّ الآية المبحوثة ، وعبارة( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً ) تحثّنا على أن نقبل على الله بمنتهى الخضوع والخشوع والتواضع ، بل يجب أن تنعكس روح

٧٨

الدعاء في أعماق روحه ، وعلى جميع أبعاد وجوده ، ويكون اللسان مجرّد ترجمانها ، ويتحدث نيابة عن جميع أعضائه.

وأمره تعالى ـ في الآية الحاضرة ـ بأن يدعى الله «خفية» وفي السّر ، لأنّه أبعد عن الرياء ، وأقرب إلى الإخلاص ، ولأجل أن يكون الدعاء مقرونا بتمركز الفكر وحضور القلب.

ونحن نقرأ في حديث أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كان في إحدى غزواته ، ووصل جنود الإسلام إلى واد رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير قائلين : «لا إله إلّا الله» و «الله أكبر» فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أيّها الناس اربعوا على أنفسكم ، أمّا إنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا ، إنّكم تدعون سميعا قريبا ، إنّه معكم»(1) .

كما ويحتمل في هذه الآية أيضا أن يكون المراد من «التضرع» هو الدعاء الظاهر العلني ، والمراد من «الخفية» الدعاء الخفي السّري ، لأنّ لكل مقام اقتضاء خاصا ، فقد يقتضي أن يكون الدعاء علنا ، وربّما يقتضي خفية وسرا ، وهناك رواية وردت في ذيل هذه الآية تؤيد هذا الموضوع.

ثمّ قال تعالى في ختام الآية :( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) أي أنّ الله لا يحب المعتدين.

ولهذه العبارة معنى وسيع يشمل كل نوع من أنواع العدوان والتجاوز ، سواء الصراخ ورفع الصوت عاليا جدا حين الدعاء ، أو التظاهر وممارسة الرياء ، أو التوجه إلى غير الله حين الدعاء.

وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى حكم هو في الحقيقة شرط من شروط تأثير الدعاء ، إذ قال :( وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ) .

ومن المسلم أنّ الأدعية إنّما تكون عند الله أقرب إلى الإجابة إذا تحققت فيها

__________________

(1) مجمع البيان ، المجلد الرابع ، الصفحة 429.

٧٩

الشرائط اللازمة ، ومن جملة ذلك أن يكون الدعاء مقترنا بالجوانب البناءة والعملية في حدود المستطاع ، وأن تراعى حقوق الناس ، وأن تلقي حقيقة الدعاء بأنوارها وظلالها على وجود الإنسان الداعي بأسره ، ولهذا فلا تستجاب أدعية المفسدين والعصاة ، ولا تنتهي إلى أية نتيجة مرجوّة.

والمراد من «الفساد بعد الإصلاح» يمكن أن يكون الإصلاح من الكفر أو الظلم أو كليهما ، جاء في رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام : (إنّ الأرض كانت فاسدة فأصلحها نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(1) .

ومرّة أخرى يعود إلى مسألة الدعاء ويذكر شرطا آخر من شرائطه فيقول :( وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً ) .

أي لا تكونوا راضيين معجبين بأفعالكم بحيث تظنون أنّه لا توجد في حياتكم أية نقطة سوداء ، إذ أنّ هذا الظن هو أحد عوامل التقهقر والسقوط ، كما لا تكونوا يائسين إلى درجة أنّكم لا ترون أنفسكم لائقين للعفو الإلهي ، ولإجابة الدعاء ، إذ أنّ هذا اليأس والقنوط هو الآخر سبب لانطفاء شعلة السعي والاجتهاد ، بل لا بد أن تعرجوا نحوه تعالى بجناحي (الخوف) و (الأمل) الخوف من المسؤوليات والعثرات ، والأمل برحمته ولطفه.

وفي خاتمة الآية يقول تعالى للمزيد من التأكيد على أسباب الأمل بالرحمة الإلهية( إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) .

ويمكن أن تكون هذه العبارة إحدى شرائط إجابة الدعاء ، يعني إذا كنتم تريدون أن لا تكون أدعيتكم خاوية ، ومجرّد لقلقة لسان ، فيجب أن تقرنوها بعمل الخير والإحسان ، لتشملكم الرحمة الإلهية بمعونة ذلك وتثمر دعواتكم ، وبهذا تكون الآية قد تضمنت الإشارة إلى خمسة من شرائط قبول الدعاء

__________________

(1) مجمع البيان ، المجلد الرابع ، الصفحة 429.

٨٠