الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245103 / تحميل: 6208
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

الآيات

( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) )

التّفسير

إنذار إلى كل أبناء آدم :

إنّ قصة آدم ومشكلته مع الشيطان ـ كما أسلفنا في آخر بحث في الآيات السابقة ـ عكست تصويرا واقعيا عن حياة جميع أفراد البشر على الأرض ، ولهذا بيّن الله تعالى في الآيات الحاضرة وما بعدها سلسلة من التعاليم والبرامج البنّاءة لجميع أبناء آدم ، وهي تعتبر في الحقيقة استمرارا لبرامج آدم في الجنّة.

ففي البداية يشير إلى مسألة اللباس وستر سوءات البدن التي كان لها دور

٥

مهم في قصّة آدم ، إذ يقول :( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ ) .

ولكن فائدة اللباس الذي أرسلناه لكم لا تقتصر على ستر البدن وإخفاء العيوب والسوءات ، بل للتجمل والزينة أيضا حيث يجعل أجسامكم أجمل ممّا هي عليه.( وَرِيشاً ) .

وكلمة «ريش» في الأصل هو ما يستر أجسام الطيور ، وحيث أنّ ريش الطيور هو اللباس الطبيعي في أجسامها ، لهذا أطلق على نوع من أنواع الألبسة ، ولكن حيث أنّ ريش الطير في الأغلب مختلف الألوان جميلها ، لذلك تتضمّن هذه الكلمة مفهوم الزينة والجمال ، هذا مضافا إلى أنّه تطلق كلمة الريش على الأقمشة التي تلقى على سرج الفرس أو جهاز البعير.

وقد أطلق بعض المفسّرين وأهل اللغة هذه اللفظة على معنى أوسع أيضا ، وهو كل نوع من أنواع الأثاث والحاجيات التي يحتاج إليها الإنسان ، ولكن الأنسب في الآية الحاضرة هو الألبسة الجميلة وثياب الزينة.

ثمّ تحدث القرآن عقيب هذه الجملة التي كانت حول اللباس الظاهري ، عن حدّ اللباس المعنوي تبعا لسيرته في الكثير من الموارد التي تمزج بين الجانبين المادي والمعنوي ، الظاهري والباطني إذ قال :( وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ) .

وتشبيه التقوى باللباس تشبيه قوي الدلالة ، معبّر جدّا ، لأنّه كما أنّ اللباس يحفظ البدن من الحرّ والقرّ ، يقي الجسم عن الكثير من الأخطار ، ويستر العيوب الجسمانية ، وهو بالإضافة الى هذا وذاك زينة للإنسان ، ووقايته من الكثير من الأخطار الفردية والاجتماعية ، تعدّ زينة كبرى له زينة ملفتة للنظر تضيف إلى شخصيته رفعة وسمّوا ، وتزيدها جلالا وبهاء.

ثمّ إنّ هناك مذاهب متعددة للمفسّرين في تحديد المراد من لباس التقوى ،

٦

وأنّه ما هو؟

فبعض فسّره بـ «العمل الصالح» وبعض بـ «الحياء» وبعض بـ «لباس العبادة» ، وبعض بـ «لباس الحرب» مثل الدرع والخوذة ، وحتى الترس ، لأنّ لفظة التقوى مشتقّة من مادة «الوقاية» بمعنى الحفظ والحماية ، وبهذا المعنى جاء في القرآن الكريم أيضا ، كما نقرأ في سورة النحل الآية (٨١) :( وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ) .

ولكن للآيات القرآنية ـ كما قلنا مرارا ـ معنى واسعا في الغالب ، ولها مصاديق متعددة ومختلفة ، وفي الآية الحاضرة ـ أيضا ـ يمكن استفادة جميع هذه المعاني منها.

وحيث أنّ لباس التقوى في هذه الآية موضوع في مقابل اللباس الساتر للبدن ، لهذا يبدو للنظر أنّ المراد منه هو «روح التقوى» التي تحفظ الإنسان ، وتنطوي تحتها معاني «الحياء» و «العمل الصالح» وأمثالهما.

ثمّ إنّ الله تعالى يقول في ختام الآية :( ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) أي إنّ هذه الألبسة التي جعلها الله لكم ، سواء الألبسة المادية أو المعنوية ، اللباس الجسماني أو لباس التقوى ، كلّها من آيات الله ليتذكر الناس نعم الربّ تعالى.

نزول اللباس!

نلاحظ في آيات متعددة من القرآن الكريم أنّ الله سبحانه يقول في صعيد توفير اللباس للبشر : «وأنزلنا» وهو بمعنى الإرسال من مكان عال إلى الأسفل ، إذ يقول :( قَدأَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً ) في حين أنّ اللباس كما هو المعلوم أمّا أنّه يتّخذ من الصوف ، أو يتّخذ من مواد نباتيّة وما شاكل ذلك من أشياء الأرض.

كما أننا نقرأ في الآية (٦) من سورة الزمر( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) وفي سورة الحديد الآية (٣٥)( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) . فما ذا يعني هذا؟

٧

يصرّ كثير من المفسّرين على تفسير مثل هذه الآيات بالنّزول المكاني أي من فوق إلى تحت ، مثلا يقولون : إنّ ماء المطر ينزل من السماء إلى الأرض فتروى منه النباتات والحيوانات ، من هنا تكون مواد اللباس قد نزلت ـ بهذا المعنى ـ من السماء إلى الأرض.

وفي مجال الحديد أيضا يقولون : إنّ الأحجار والصخور السماوية العظيمة التي تحتوي على عناصر الحديد قد انجذبت إلى الأرض.

ولكن النّزول ربّما استعمل بمعنى النّزول المقامي ، وقد استعملت هذه اللفظة في المحاورات اليومية بهذا الشكل كثيرا ، فيقال مثلا : أصدر الحاكم أمره إلى أمرائه ومعاونيه ، أو يقال : رفعت شكواي إلى القاضي ، لهذا لا داعي إلى الإصرار على تفسير هذه الآيات بالنّزول المكاني.

فحيث أنّ النعم الإلهية قد صدرت من المقام الرّبوبي الرفيع إلى البشر ، لهذا عبّر عن هذا المفهوم بهذا اللفظ ، وهو تعبير يدركه الإنسان بدون إشكال أو صعوبة.

ويشبه هذا الموضوع ما نلاحظه في ألفاظ الإشارة القريبة والبعيدة أيضا ، فقد يكون شيء ما ذا بال أو موضوع مهمّ في متناول أيدينا ، ولكنّه ـ لما كان من حيث الشأن ـ يتمتّع بمقام مهمّ رفيع ، فإنّنا نشير إليه باسم الإشارة البعيد ، فنقول في محاوراتنا مثلا : تلك الشّخصية ، ونحن نقصد رجلا حاضرا قريبا ، وقد جاء في القرآن الكريم :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) . والمقصود من الكتاب المشار إليه بالإشارة البعيدة القرآن الحاضر ، ولكن تعظيما له أستعيض في الإشارة إليه عن أداة الإشارة القريبة بأداة الإشارة البعيدة.

اللباس في الماضي والحاضر :

لم يزل الإنسان فيما مضى ـ كما يشهد به التاريخ ـ يلبس الثياب ، ولكن

٨

الألبسة قد تغيرت وتنوعت تنوعا بالغا عبر الزمن ، فقد كانت الثياب تلبس فيما سبق ـ وفي الأغلب ـ لأجل حفظ الجسم من الحرّ والقرّ وكذا للزينة والتجمل ، والجانب الوقائي كان يأتي في الدرجة اللاحقة ، ولكن في ظل الحياة الصناعية الحاضرة أصبح الجانب الوقائي في المرتبة الأولى من الأهمية في كثير من الحقول ، فرجال الفضاء ورجال الإطفاء ، وعمال المعادن والمناجم والغواصون ، وغيرهم كثيرون ، يستخدمون ألبسة خاصّة لوقاية أنفسهم من مختلف الأخطار.

لقد تطورت وسائل إنتاج الألبسة والثياب في عصرنا الراهن تطورا هائلا ، واتسع نطاقها اتساعا كبيرا ، بحيث أصبح لا يقاس بما مضى.

يقول كاتب تفسير المنار في المجلد الثّامن عند تفسير الآية المبحوثة هنا : «لقد بلغ من إتقان صناعات اللباس أنّ عاهل ألمانية الأخير (قيصرها) دخل مرّة أحد معامل الثياب ليشاهد ما وصلت إليه من الإتقان ، فجزوا أمامه عند دخوله صوف بعض كباش الغنم ، ولما انتهى من التجوال في المعمل ومشاهدة أنواع العمل فيه ، وأراد الخروج قدّموا له معطفا ليلبسه تذكارا لهذه الزيارة ، وأخبروه أنّه صنع من الصوف الذي جزوه أمامه عند دخوله ، فهم قد نظفوه في الآلات المنظّفة ، فغزلوه بآلات الغزل ، فنسجوه بآلات النسج ، ففصّلوه فخاطوه في تلك الفترة القصيرة ، فانتقل في ساعة أو ساعتين من ظهر الخروف إلى ظهر الإمبراطور».(١)

ولكن ـ للأسف ـ قد اتسعت الجوانب الفرعية ، بل وغير المحمودة والفاضحة للثياب والألبسة وتعددت كثيرا إلى درجة أنّها غطت على الفلسفة الأصلية للباس.

لقد أصبح اللباس ـ اليوم ـ وسيلة لأنواع التظاهر ، وإشاعة الفساد ، وتحريك الشهوات ، والتكبر والإسراف والتبذير ، وما شابه ذلك. حتى أنّنا ربّما نشاهد

__________________

(١) المنار ، ج ٨ ، ص ٣٥٩.

٩

ألبسة يرتديها جماعات من الناس ـ وبخاصّة الشباب المتغرب ـ يفوق طابعها الجنوني على الطابع العقلاني ، وتكون أشبه بكل شيء إلّا باللباس والثوب.

والذي تقود إليه الدراسة الموضوعية لهذه الظاهرة ، هو أنّ للعقد النفسية دورا مهمّا في ارتداء مثل هذه الألبسة العجيبة الغريبة ، فالأفراد الذين لا يتمكنون من القيام بعمل مهم وملفت للنظر لتوكيد وجودهم في المجتمع يلجأون إلى هذا الأسلوب ويحاولون بارتداء هذه الألبسة غير المأنوسة والعجيبة إثبات وجودهم وحضورهم ، ولهذا نلاحظ أنّ أصحاب الشخصيات المحترمة ، أو الذين لا يعانون من عقد نفسيّة ينفرون من ارتداء مثل هذه الثياب.

وعلى كل حال فإنّ مبالغ طائلة وثروات عظيمة جدّا تهدر وتبدّد ـ اليوم ـ في سبيل اقتناء وتعاطي الألبسة المتنوعة والموضات المختلفة ولو منع من تبذيرها وتبديدها والإسراف فيها لأمكن حل الكثير من المشكلات الاجتماعية بها ، ولتحولت إلى بلاسم وضمادات ناجعة لكثير من جراحات الطبقات المحرومة والفئات البائسة الفقيرة في المجتمعات البشرية.

هذا ويستفاد من تاريخ حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأئمّة العظام أنّهم كانوا يعارضون بشدّة مسألة التفاخر بالألبسة والإفراط في التجمل بها ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الرّوايات أنّ وفدا من النصارى قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ، وهم يلبسون الألبسة الحريرية الجميلة جدا ، والتي لم يرها العرب إلى ذلك اليوم ولم يعهد أن لبسوها ، فلما حضروا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلموا عليه ، لم يردّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سلامهم ، بل أحجم حتى عن التحدث معهم ولو بكلمة ، وأعرض عنهم ، فلمّا سألوا عليّاعليه‌السلام عن سبب إعراض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم ، قالعليه‌السلام لهم : أرى أن تضعوا حللكم هذه وخواتيمكن ثمّ تعودون إليه.

ففعل النصارى ما قاله لهم الإمامعليه‌السلام ، ثمّ دخلوا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّموا عليه فردّ عليهم وتحدث معهم. ثمّ قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي بعثني بالحق لقد أتوني

١٠

المرّة الأولى وإنّ إبليس لمعهم».(١)

الآية اللاحقة يحذّر فيها الله سبحانه جميع أبناء البشر من ذرية آدم من كيد الشيطان ومكره ، ويدعو إلى مراقبته ، والحذر منه ، لأنّ الشّيطان أبدى عداءه لأبيهم آدم ، فكما أنّه نزع عنه لباس الجنّة بوساوسه يمكن أن ينزع عنهم لباس التقوى ، ولهذا يقول تعالى :( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ) .

وفي الحقيقة إنّ الأمر الذي يربط الآية الحاضرة بالآية السابقة هو أنّ الآية السابقة تحدثت عن اللباس الظاهري والمعنوي للإنسان (لباس التقوى) ، وهذه الآية تضمنت تحذيرا ودعوة له لمراقبة الشيطان والحذر من نزعه لباس التقوى عنكم.

على أنّ ظاهر عبارة( لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ ) هو نهي الشيطان عن هذا العمل ، ولكن أمثال هذه العبارات تعتبر كنايات لطيفة لنهي المخاطب ، وتشبه ما إذا خاطبنا صديقا نحبه قائلين : لا يصح أن يوجه إليك فلان ضربة ، أي راقبه حتى لا تتعرض لضربته وأذاه.

ثمّ إنّ الله تعالى يؤكّد على أنّ الشيطان وأعوانه يختلفون عن غيرهم من الأعداء( إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) فلا بدّ من شدّة الحذر من مثل هذا العدوّ.

وفي الحقيقة عند ما تظن أنك وحيد ، فإنّه من الممكن أن يكون حاضرا معك ، فيجب عليك الحذر من هذا العدوّ الخفيّ الذي لا يمكن معرفة لحظات هجومه وعدوانه المباغت ، ولا بدّ من اتخاذ حالة الدفاع الدائم أمامه.

وفي خاتمة الآية يأتي سبحانه بجملة هي في الحقيقة إجابة على سؤال

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد الثاني ، ص ٤ ـ ٥ ، مادة لبس.

١١

مهم ، فقد يتساءل أحد : كيف سلّط الله العادل الرحيم عدوّا بهذه القوة على الإنسان عدوّا لا يمكن مقايسة قواه بقوى الإنسان عدوا يذهب حيث يشاء دون أن يحس أحد بتحركاته ، بل إنّه ـ حسبما جاء في بعض الأحاديث ـ يجري من الإنسان مجرى الدم في عروقه ، فهل تنسجم هذه الحقيقة مع عدالة الله سبحانه؟! الآية الشريفة ـ في خاتمتها ـ ترد على هذا السؤال الاحتمالي إذ تقول :( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) .

أي إنّ الشياطين لا يسمح لهم قط بأن يتسلّلوا وينقذوا إلى قلوب وأرواح المؤمنين الذين لم يكونوا على استعداد لقبول الشيطان والتعامل معه.

وبعبارة أخرى : إنّ الخطوات الأولى نحو الشيطان إنّما يخطوها الإنسان نفسه ، وهو الذي يسمح للشيطان بأن يتسلل إلى مملكة جسمه. فالشيطان لا يستطيع اجتياز حدود الروح ويعبرها إلّا بعد موافقة من الإنسان نفسه ، فإذا أغلق الإنسان نوافذ قلبه في وجه الشياطين والأبالسة ، فسوف لا تتمكن من النفوذ إلى باطنه.

إن الآيات القرآنية الأخرى شاهدة أيضا على هذه الحقيقة ، ففي سورة النحل في الآية (١٠٠) نقرأ( إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) ، فالذين يتعشقون الشيطان ويسلمون إليه زمام أمرهم ويعبدونه هم الذين يتعرضون لسيطرته ووساوسه.

وفي الآية (٤٧) من سورة الحجر نقرأ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) .

وبعبارة أخرى : صحيح أنّنا لا نرى الشيطان وجنوده وأعوانه ، إلّا أننا نستطيع أن نرى آثار أقدامهم ، ففي كل مجلس معصية ، وفي كل مكان تهيّأت فيه وسائل الذنب ، وفي كل مكان توفرت فيه زبارج الدنيا وبهارجها ، وعند طغيان الغرائز ، وعند اشتعال لهيب الغضب ، يكون حضور الشيطان حتميا ومسلّما ، وكأنّ

١٢

الإنسان يسمع في هذه المواقع صوت وساوس الشيطان بآذان قلبه ، ويرى آثار قدمه بأمّ عينيه.

وقد روي ـ في هذا الصعيد ـ حديث رائع عن الإمام الباقرعليه‌السلام إذ يقول : «لما دعا نوح ربّهعزوجل على قومه أتاه إبليس لعنة الله فقال : يا نوح إنّ لك عندي يدا! أريد أن أكافئك عليها.

فقال نوح : إنّه ليبغض إليّ أن يكون لك عندي يد ، فما هي؟

قال : بلى دعوت الله على قومك فأغرقتهم ، فلم يبق أحد أغويه ، فأنا مستريح حتى ينشأ قرن آخر وأغويهم.

فقال نوح : ما الذي تريد أن تكافيني به؟

قال : أذكرني في ثلاثة مواطن ، فإنّي أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في أحدهن :

أذكرني إذا غضبت؟

واذكرني إذا حكمت بين اثنين!

واذكرني إذا كنت مع امرأة خاليا ليس معكما أحد!»(١) .

النقطة الأخرى التي يجب الانتباه إليها هنا ، هي أنّ ثلّة من المفسّرين استنبطوا من هذه الآية أنّ الشيطان غير قابل للرؤية للإنسان مطلقا ، في حين يستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الأمر ممكن أحيانا.

ولكن الظاهر أنّ هذين الاتجاهين غير متعارضين ، لأنّ القاعدة الأولية والأصلية هي أن لا يرى ، ولكن لهذه القاعدة ـ كغيرها ـ استثناءات ، فلا تناف.

في الآية التالية يشير تعالى إلى واحدة من وساوس الشيطان المهمّة والتي

__________________

(١) بحار الأنوار ، الطبعة الجديدة ، الجزء ١١ ، الصفحة ٣١٨.

١٣

تجري على ألسنة بعض الشياطين من الإنس أيضا ، وهي أنّه عند ما يسأل الشخص لدى ارتكابه عملا قبيحا ، عن دليله يجيب قائلا : هذا ما وجدنا آباءنا يفعلونه :( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا ) .

ثمّ يضيفون إلى هذه الحجّة حجّة كاذبة أخرى قائلين :( وَاللهُ أَمَرَنا بِها ) .

إنّ مسألة التقليد الأعمى للآباء ، بالإضافة إلى الافتراء على الله ، عذران مختلفان ، وحجّتان داحضتان يتشبث بهما العصاة المتشيطنون لتبرير أعمالهم القبيحة غالبا.

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم لم يعبأ بالدليل الأوّل (يعني التقليد الأعمى للآباء والأسلاف) ولم يعتن به ، وكأنّه وجد نفسه في غنى عن الرّدّ عليه وإبطاله ، لأنّ العقل السليم يدرك بطلانه ، هذا مضافا إلى أنّه قد ردّ عليه في مواضع عديدة من القرآن الكريم. وإنّما اكتفى بالردّ على الحجّة الثّانية ، أو بالأحرى (التبرير الثّاني) حيث قال :( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) .

إنّ الأمر بالفحشاء حسب تصريح الآيات القرآنية عمل الشيطان لا عمل الله ، فإنّه تعالى لا يأمر إلّا بالمعروف والخير(١) .

ثمّ يختم الآية بهذه العبارة :( أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .

ورغم أنّ الأنسب أن يقول : لماذا تنسبون ما هو كذب وليس له واقع إلى الله؟ لكنّه قال بدل ذلك : لماذا تقولون ما لا تعلمون على الله؟ وهذا في الحقيقة استنادا الى الحدّ الأدنى من موضع قبول الطرف الآخر ، فيقال : إذا كنتم لا تتيقنون كذب هذا الكلا ، فعلى الأقل ليس لديكم دليل على إثباته ، فلما ذا تتهمون الله وتقولون على الله ما لا تعلمون؟!.

__________________

(١) راجع سورة البقرة ، ٢٦٨ و ٢٦٩.

١٤

ما هو المقصود من الفحشاء؟

ما هو المراد من الفحشاء هنا؟ قالت طائفة كبيرة من المفسّرين : إنّها إشارة إلى تقليد كان سائدا بين جماعة من العرب في العهد الجاهلي ، وهو الطواف حول بيت الله المعظم عريانا «رجالا ونساء» ظنا منهم بأنّ الثياب التي ارتكبت فيها الذنوب لا تليق بأن يطاف بها حول الكعبة المعظمة.

على أنّ هذا التّفسير يتناسب مع الآيات السابقة التي دار الحديث فيها عن الثّياب والألبسة.

ولكنّنا نقرأ في روايات متعددة أنّ المراد من الفحشاء هنا هو كلام حكّام الجور الذين يدعون الناس إلى أنفسهم ، ويعتقدون بأنّ الله فرض طاعتهم على الناس.

ولكن بعض المفسّرين ـ مثل كاتب «المنار» و «الميزان» ـ أخذوا للآية مفهوما واسعا إذ قالوا : إنّ الفحشاء تشمل كل عمل قبيح منكر ، وبملاحظة سعة مفهوم لفظة الفاحشة ، فإنّ الأنسب هو أنّ للآية معنى واسعا سعة معنى الكلمة ، ومسألة «الطواف بالبيت عريانا» و «اتباع القادة والزعماء الظلمة» تعدّ من المصاديق الواضحة لذلك ، فلا منافاة بين الطائفتين من الرّوايات.

هذا وقد أعطينا توضيحا كافيا حول التسليم المطلق لتقاليد الأسلاف وأعرافهم عند تفسير الآية (١٧٠) من سورة البقرة.

* * *

١٥

الآيتان

( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) )

التفسير

حيث أنّ الحديث في الآية السابقة دار حول الفحشاء التي يشمل مفهوما كلّ أنواع الفعل القبيح ، وتأكّد أنّ الله يأمر بالفحشاء إطلاقا لهذا أشير في هذه الآية إلى أصول ومبادئ التعاليم الإلهية في مجال الوظائف والواجبات العملية في جملة قصيرة ، ثمّ تبعه بيان أصول العقائد الدينية ، أي المبدأ والمعاد ، بصورة مختصرة موجزة.

يقول أوّلا : أيّها النّبي( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) والعدل.

ونحن نعلم أنّ للعدل مفهوما واسعا يشمل جميع الأعمال الصالحة ، لأنّ حقيقة العدل هي استخدام كل شيء في مجاله ، ووضع كل شيء في محلّه.

ثمّ إنّه وإن كان بين «العدالة» و «القسط» تفاوتا ، إذ تطلق «العدالة» ويراد

١٦

منها إعطاء كل ذي حق حقه ، ويقابلها «الظلم» وهو منع ذوي الحقوق من حقوقهم ، بينما يعني «القسط» أن لا تعطي حق أحد لغيره.

وبعبارة أخرى : أن لا يرضى بالتبعيض ، ويقابله أن يعطي حقّ أحد لغيره.

ولكن المفهوم الواسع لهاتين الكلمتين اللتين قد تستعملان منفصلتين ، متساو تقريبا ، وهما يعنيان رعاية الاعتدال والتوازن في كل شيء وفي كل عمل ، وبالتالي وضع كل شيء في مكانه.

ثمّ إنّه سبحانه أمر بالتوحيد في العبادة ومحاربة كلّ ألوان الشرك وأنواعه ، إذ قال :( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) أي وجهوا قلوبكم نحو الله الواحد دون سواه ،( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) .

وبعد تحكيم وإرساء قاعدة التوحيد ، وجه الأنظار نحو مسألة المعاد والبعث يوم القيامة ، إذ قال :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) .

* * *

بحثان

هنا نقطتان يجب الالتفات إليهما والوقوف عندهما :

١ ـ ما المقصود من «( أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ .)

ذكر المفسّرون في تفسير( أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) تفاسير متنوعة ، فتارة قالوا : المراد هو التوجه صوب القبلة.

وأخرى : إنّ المراد هو المشاركة في المساجد أثناء الصلوات اليومية.

وثالثة احتملوا أيضا أن يكون الهدف منه هو حضور القلب والنية الخالصة عند العبادة.

ولكن التّفسير الذي ذكرناه أعلاه (أي التوجه إلى الله ، ومحاربة كل ألوان

١٧

الشرك والتوجه إلى غير الله) يبدو للنظر أنّه أنسب مع ما سبق وما يلحق هذه الجملة ، وإن لم تكن إرادة كل هذه المعاني بعيدة عن مفهوم الآية أيضا.

٢ ـ أقصر الأدلة على المعاد

لقد بحث أمر المعاد والبعث في يوم القيامة كثيرا ، ويستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ هضم هذه المسألة كان أمرا صعبا وعسيرا بالنسبة إلى كثير من الناس في العصور الغابرة ، إلى درجة أنّهم كانوا يتخذون أحيانا من طرح مسألة القيامة والمعاد من قبل الأنبياء دليلا على عدم صحة دعوتهم ، وبل حتى (والعياذ بالله) دليلا على الجنون ويقولون :( أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) (١) .

ولكن يجب الانتباه إلى أنّ ما كان يدعو لمزيد من تعجبهم ودهشتهم ، هو مسألة المعاد الجسماني ، لأنّهم ما كانوا يصدّقون بأنّ الأبدان بعد صيرورتها ترابا ، وتبعثر ذراتها بفعل الرياح والأعاصير وتناثرها في أرجاء الأرض. أن تجتمع هذه الذرات المتبعثرة من بين أكوام التراب. وأمواج البحار ، ومن بين ثنايا ذرات الهواء ، ويلبس ذلك الإنسان لباس الوجود والحياة مرّة أخرى.

إن القرآن الكريم أجاب في آيات متنوعة على هذا الظن الخاطئ ، والآية الحاضرة تعكس إحدى أقصر وأجمل التعابير في هذا المجال ، إذ تقول : أنظروا إلى بداية الخلق ، انظروا إلى جسمكم الذي يتكون من مقدار كبير من الماء ، ومقدار أقل من المواد المعدنية وشبه المعدنية المختلفة المتنوعة أين كان في السابق؟ فالمياه المستخدمة في جسمكم يحتمل أنّ كل قطرة منها كانت سادرة في محيط من محيطات الأرض ثمّ تبخّرت وتبدلت إلى السّحب ، ثمّ نزلت في شكل قطرات المطر على الأراضي ، والذرات التي استخدمت في نسيج جسمكم من مواد الأرض الجامدة كانت ذات يوم في هيئة حبّة قمح أو ثمرة شجرة ، أو خضروات مختلفة جمعت من مختلف نقاط الأرض.

__________________

(١) سورة سبأ ، ٨.

١٨

وعلى هذا فلا مكان للتعجب والدهشة إذا سمعنا أنّه بعد تلاشي بدن الإنسان ورجوعه إلى حالته الأولى تجتمع تلك الذرّات ثانية ، وتتواصل وتترابط ويتشكل الجسم الأوّل ، فلو كان هذا الأمر محالا فلما ذا وقع في مبدأ الخلقة.

إذا «كما بدأكم» الله «تعودون» أي يعيدكم في الآخرة ، وهذا هو الموضوع الذي تضمنته العبارة القصيرة.

في الآية اللاحقة يصف سبحانه ردود الفعل التي أظهرها الناس قبال هذه الدعوة (الدعوة إلى التوحيد والخير والمعاد) فيقول :( فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) (١) .

ولأجل أن لا يتصور أحد أنّ الله يهدي فريقا أو يضلّ فريقا من دون سبب ، أضاف في الجملة ما يلي :( إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ ) أي إنّ الضالين هم الذين اختاروا الشياطين أولياء لهم بدل أن يدخلوا تحت ولاية الله ، فضلوا.

والعجب أنّه رغم كل ما أصابهم من ضلال وانحراف يحسبون أنّهم المهتدون الحقيقون( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) .

إنّ هذه الحالة تختص بالذين غرقوا في الطغيان والمعصية ، وكان انغماسهم في الفساد ، والضلال والانحراف ، والوثنية ، كبيرا إلى درجة أنّه انقلبت حاسة تمييزهم رأسا على عقب ، فحسبوا القبيح حسنا ، والضلالات هداية ، وفي هذه الحالة أغلقت في وجوههم كل أبواب الهداية ، وهذا هو ما أوجدوه وجلبوه لأنفسهم.

* * *

__________________

(١) جملة «فريقا هدى» من حيث الإعراب والتركيب تكون كالتالي : فريقا مفعول هدى فعل وفاعل مؤخرين ، وفريقا (الثّانية) مفعول مقدم.

وأضل فعل وفاعل مؤخران مقدران دل عليهما جملة «حق عليهم الضلالة».

١٩

الآيتان

( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) )

التّفسير

الحديث في هاتين الآيتين يتناسب مع قصّة آدم في الجنّة ، وكذلك يتناول مسألة اللباس وسائر مواهب الحياة ، وكيفية الاستفادة الصحيحة منها.

في البداية يأمر جميع أبناء آدم ضمن دستور عام أبدي ، يشمل جميع الأعصار والقرون ، أن يتخذوا زينتهم عند ما يذهبون إلى المساجد( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) .

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى كل «زينة جسمانية» ممّا يشمل لبس الثياب المرتبة الطاهرة الجميلة ، ومشط الشعر ، واستعمال الطيب والعطر وما شابه ذلك كما يمكن أيضا أن تكون إشارة إلى كل «زينة معنوية» يعني الصفات

٢٠

الإنسانية والملكات الأخلاقية ، وصدق النية وطهارتها وإخلاصها.

وإذا رأينا أنّ بعض الرّوايات الإسلامية تشير ـ فقط ـ إلى اللباس الجيّد أو مشط الشعر ، أو إذا رأينا أنّ بعضها الآخر يتحدث ـ فقط ـ عن مراسيم صلاة العيد وصلاة الجمعة ، فإنّ ذلك لا يدل على الانحصار ، بل الهدف هو بيان مصاديقها الواضحة(1) .

وهكذا إذا رأينا أنّ طائفة أخرى من الرّوايات تفسر الزينة بالقادة الصالحين(2) ، فإنّ كل ذلك يدل على سعة مفهوم الآية الذي يشمل جميع أنواع الزينة الظاهرية والباطنية.

وهذا الحكم وإن كان يتعلق بجميع أبناء آدم في كل زمان ومكان ، إلّا أنّه ينطوي ضمنا على ذم عمل قبيح كان يقوم به جماعة من الأعراب في العهد الجاهلي عند دخولهم في المسجد الحرام والطواف بالكعبة المعظمة ، حيث كانوا يطوفون بالبيت المعظم عراة من دون ساتر يستر عوراتهم ، كما أنّه يتضمن ـ أيضا ـ نصيحة لأولئك الذين يرتدون عند إقامة الصلاة أو الدخول إلى المساجد ثيابا وسخة خلقة أو ألبسة تخصّ المنزل ، ويشتركون في مراسيم عبادة وهم على تلك الهيئة المزرية ، الأمر الذي نشاهده اليوم ـ وللأسف ـ بين بعض الغفلة السذج من المسلمين ، في حين أننا مكلّفون ـ طبقا للآية الحاضرة ، والرّوايات الواردة في هذا الصعيد ـ بأن نرتدي لدى ارتيادنا للمساجد أفضل ثيابنا وألبستنا.

ثمّ في العبارة اللاحقة يشير سبحانه إلى مواهب أخرى ، يعني الأطعمة والأشربة الطاهرة الطيبة ، ويقول :( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ) .

ولكن حيث أنّ الإنسان حريص بحكم طبيعته البشرية ، يمكن أن يسيء

__________________

(1) للاطلاع على هذه الرّوايات راجع تفسير البرهان المجلد 2 ، الصفحة الثّانية 9 و 10 وتفسير نور الثقلين المجلد الثّاني الصفحة 18 و 19.

(2) المصدر السابق.

٢١

استخدام هذين التعليمين ، وبدل أن يستفيد من نعمة اللباس والغذاء الصحيح بالشكل المعقول والمعتدل ، يسلك سبيل الإسراف والتبذير والبذخ ، لهذا أضاف مباشرة قائلا :( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) .

وكلمة «الإسراف» كلمة جامعة جدّا بحيث تشمل كل إفراط في الكم والكيف ، وكذا الأعمال العابثة والإتلاف وما شابه ذلك ، وهذا هو أسلوب القرآن خاصّة ، فهو عند الحث على الاستفادة من مواهب الحياة والطبيعة يحذّر فورا من سوء استخدامها ، ويوصي برعاية الاعتدال.

وفي الآية اللاحقة يعمد إلى الرّد ـ بلهجة أكثر حدّة ـ على من يظن أنّ تحريم أنواع الزينة والتزين والاجتناب من الأطعمة الطيبة الحلال علامة الزهد ، وسببا للتقرب إلى الله فيقول : أيّها النّبي( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) ؟

إذا كانت هذه الأمور قبيحة فإنّ الله تعالى لا يخلق القبيح ، وإذا خلقها الله ليتمتع بها عباده فكيف يمكن أن يحرّمها؟ وهل يمكن أن يكون هناك تناقض بين جهاز الخلق ، وبين التعاليم الدينية؟!

ثمّ أضاف للتأكيد :( قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي أنّ هذه النعم والمواهب قد خلقت للمؤمنين في هذه الحياة ، وإن كان الآخرون ـ أيضا ـ يستفيدون منها رغم عدم صلاحيتهم لذلك ، ولكن في يوم القيامة حيث الحياة الأعلى والأفضل ، وحيث يتميز الخبيث عن الطيب ، فإنّ هذه المواهب والنّعم ستوضع تحت تصرف المؤمنين الصالحين فقط ، ويحرم منها الآخرون حرمانا كليّا.

وعلى هذا الأساس فإنّ ما هو للمؤمنين في الدنيا والآخرة ، وخاص بهم في العالم الآخر كيف يمكن أن يحرّم عليهم؟ أنّ الحرام هو ما يورث مفسدة ، لا ما هو نعمة وموهبة.

٢٢

هذا وقد احتمل أيضا في تفسير هذه العبارة من الآية أنّ هذه المواهب وإن كانت في هذه الدنيا ممزوجة بالآلام والمصائب والبلايا ، إلّا أنّها توضع تحت تصرف المؤمنين وهي خالصة من كل ذلك في العالم الآخر (ولكن التّفسير الأوّل يبدو أنّه أنسب).

وفي ختام الآية يقول من باب التأكيد :( كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

الزّينة والتّجمل من وجهة نظر الإسلام :

لقد اختار الإسلام ـ كسائر الموارد ـ حدّ التوسط والاعتدال في مجال الانتفاع والاستفادة من أنواع الزينة ، لا كما يظن البعض من أنّ التمتع والاستفادة من الزينة والتجمل ـ مهما كان بصورة معتدلة ـ أمر مخالف للزّهد ، ولا كما يتصور المفرطون في استعمال الزينة والتجمل الذين يجوّزون لأنفسهم فعل كل عمل شائن بغية الوصول إلى هذا الهدف الرخيص.

ولو أننا أخذنا بناء الجسم والروح بنظر الإعتبار ، لرأينا أنّ تعاليم الإسلام في هذا الصعيد تنسجم تماما مع خصائص الروح الإنسانية وبناء الجسم البشري ومتطلباتهما ، واحتياجاتهما الذاتية.

توضيح ذلك : إنّ غريزة حبّ الجمال ـ باعتراف علماء النفس ـ هي إحدى أبعاد الروح الإنسانية الأربعة ، والتي تشكل مضافا إلى غريزة حب الخير ، وغريزة حب الاستطلاع ، وغريزة التّدين ، الأبعاد الأصلية في النفس الإنسانية. ويعتقدون بأنّ جميع الظواهر الجمالية الأدبية والشعرية ، والصناعات الجميلة ، والفن بمعناه الواقعي ، إنّما هو نتيجة هذه الغريزة وهذا الإحساس.

ومع هذا كيف يمكن أن يعمد قانون صحيح إلى خنق هذا الحس المتأصل والمتجذر في أعماق الروح الإنسانية ، ويتجاهل العواقب السيئة في حال عدم

٢٣

إشباعه بصورة صحيحة.

ولهذا لم يكتف في الإسلام بتجويز التمتع بجمال الطبيعة والاستفادة من الألبسة الجميلة والمناسبة ، واستعمال كل أنواع العطور ، وما شابه ذلك ، بل أوصى بذلك وحثّ عليه أيضا ، ورويت في هذا المجال أحاديث كثيرة عن أئمّة الدين في المصادر والكتب الموثوقة.

فإننا نقرأ ـ مثلا ـ في تاريخ حياة الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام أنّه عند ما كان ينهض إلى الصلاة كان يرتدي أحسن ثيابه ، ولما سئل : لماذا يلبس أحسن ثيابه؟ قال : «إنّ الله جميل يحبّ الجمال ، فأتجمل لربّي وهو يقول : خذوا زينتكم عند كل مسجد»(1) .

وفي الحديث أنّ أحد الزهاد ، ويدعى عباد بن كثير البصري ، رأى الإمام الصادقعليه‌السلام وهو يلبس ثيابا غالية الثمن فقال معترضا عليه : يا أبا عبد الله ، إنّك من أهل بيت نبوة وكان أبوك وكان ، فما لهذه الثياب المزينة عليك؟ فلو لبست دون هذه الثياب. فقال له أبو عبد اللهعليه‌السلام : «ويلك ـ يا عباد ـ من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرّزق؟»(2) .

وأحاديث أخرى.

إنّ هذا التعبير ، أي أنّ الله جميل يحب الجمال ، أو أنّ الله مصدر الجمال إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي : أنّ الاستفادة من كل نوع من أنواع الزينة والجمال لو كان ممنوعا لما خلق الله تلك الزينة أبدا ، إنّ خلق الأشياء الجميلة في عالم الوجود دليل على أنّ خالقها يحبّ الجمال.

ولكن المهم هنا أنّ الناس يسلكون ـ غالبا ـ في مثل هذه المواضيع طريق الإفراط والمبالغة ، ويعمدون إلى الترف بمختلف الحجج والمعاذير.

__________________

(1) الوسائل ، المجلد الثالث ، أبواب أحكام الملابس.

(2) الوسائل ، أبواب أحكام الملابس الباب 7 ، ح 3.

٢٤

ولهذا يعمد القرآن الكريم فورا وبعد ذكر هذا الحكم الإسلامي ـ كما أسلفنا ـ إلى تحذير المسلمين من الإسراف والإفراط والمبالغة في الاستفادة من هذه الأمور ، ففي أكثر من عشرين موضعا من القرآن الكريم يشير إلى مسألة الإسراف ويذمّه بشدّة (وقد تحدثنا بإسهاب حول الإسراف في تفسير الآيات المناسبة).

وعلى كل حال ، فإنّ أسلوب القرآن الكريم والإسلام في هذا الصعيد أسلوب يتسم بالتوازن والاعتدال ، فلا جمود فيه يقمع الرغبات المودعة في الروح الإنسانية إلى الجمال ، ولا هو يؤيد مسلك المسرفين المتطرفين وذوي البطنة والجشع في التمتع بالزينة والجمال.

بل هو ينهي حتى عن التزين والتجمل المعتدل في المجتمعات التي يعيش فيها محرومين مساكين ، ولهذا نلاحظ في بعض الرّوايات والأحاديث أنّه عند ما يسأل أحد الأئمّة : لماذا يلبس ثيابا فاخرة ، وقد كان جدّه لا يلبس مثل هذه الثياب؟ فيجيب الإمامعليه‌السلام قائلا : «إنّ على بن أبي طالبعليه‌السلام كان في زمان ضيق فإذا اتّسع الزمان فأبرار الزّمان أولى به»(1) .

توصية صحية هامّة :

إنّ عبارة( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) التي جاءت في الآية الحاضرة ، وإن كانت تبدو للنظر أمرا بسيطا جدّا ، إلّا أنّه ثبت اليوم أنّه واحد من أهم الأوامر والتعاليم الصحيحة ، وذلك لأنّ تحقيقات العلماء توصلت إلى أنّ منبع الكثير من الأمراض والآلام هو الأطعمة الإضافية الزائدة التي تبقي في بدن الإنسان إنّ هذه المواد الإضافية تشكل من جانب عبئا ثقيلا على القلب وغيره من أجهزة الجسم ، وهي من جانب آخر منبع مهيّأ لمختلف أنواع العفونات والأمراض ، ولهذا فإنّ

__________________

(1) الوسائل ، ج 3 ، أبواب الملابس الباب 7 ، ح 11.

٢٥

الخطوة الأولى لعلاج الكثير من الأمراض هو أن تحترق هذه المواد الزائدة التي تمثل ـ في الحقيقة ـ فضلات الجسم ، وتتم عملية تطهير الجسم منها عمليا.

إنّ العامل الأصل في وجود هذه المواد الزائدة هو الإسراف ، والإفراط في الأكل والبطنة ، والطريق إلى تجنب هذه الحالة ليس إلّا رعاية الاعتدال في الأكل ، وخاصّة في عصرنا هذا الذي كثرت فيه أمراض مختلفة مثل السكري ، وتصلب الشرايين ، وأنواع السكتة ، وما شابه ذلك من الأمراض التي يعدّ الإفراط في الأكل مع عدم الحركة البدنية بالمقدار الكافي أحد العوامل الاساسية لها ، وليس هناك من سبيل لإزالة هذه الأمراض وتجنبها إلّا الحركة البدنية الكافية ، والاعتدال في المأكل والمشرب.

وقد نقل المفسّر الكبير العلامة «الطبرسي» في «مجمع البيان» قصة رائعة في هذا المجال وهي أنّه : حكي أنّ هارون الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق ، فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان : علم الأديان ، وعلم الأبدان.

فقال له علي : قد جمع الله الطب كلّه في نصف آية من كتابه وهو قوله :( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) وجمع نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطب في قوله : «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء ، وأعط كل بدن ما عودته».

فقال الطبيب : ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّا(1) .

فمن كان يظن أنّ هذه التوصية سطحية ، فما عليه إلّا أن يجرّبها في حياته كما يدرك أهميتها ويسبر غورها ، ويشاهد المعجزة في سلامة الجسم برعاية هذا الدّستور الصحي.

* * *

__________________

(1) مجمع البيان ، المجلد 4 ، ص 413.

٢٦

الآية

( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) )

التّفسير

المحرمات الإلهية :

لقد شاهدنا مرارا أنّ القرآن الكريم كلّما تحدث عن أمر مباح أو لازم ، تحدث فورا عن ما يقابله ، من الأمور القبيحة والمحرمات ، ليكمّل كلّ واحد منهما الآخر.

وهنا أيضا تحدّث ـ عقيب السماح بالتمتع والاستفادة من المواهب الإلهية وإباحة كل ما هو زينة وجمال ـ عن المحرمات على نحو العموم ، ثمّ أشار بصورة خاصّة إلى عدة نقاط مهمّة.

ففي البداية تحدث عن تحريم الفواحش وقال : يا أيّها النّبى( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) .

و «الفواحش» جمع «فاحشة» وتعني الأعمال القبيحة البالغة في القبح

٢٧

والسوء لا جميع الذنوب ، ولعلّ التأكيد على هذا المطلب (ما ظهر منها وما بطن) هو لأجل أنّ العرب الجاهليين كانوا لا يستقبحون عمل الزنا إذا أتي به سرّا ، ويحرّمونه إذا كان ظاهرا مكشوفا.

ثمّ إنّه عمّم الموضوع ، وأشار إلى جميع الذنوب وقال «والإثم» أي كل إثم. والإثمّ في الأصل يعني كل عمل مضرّ ، وكل ما يوجب انحطاط مقام الإنسان وتردّي منزلته ، ويمنعه ويحرمه من نيل الثواب والأجر الحسن. وعلى هذا يدخل كل نوع من أنواع الذنوب في المفهوم الواسع للإثم.

ولكن بعض المفسّرين أخذوا الإثمّ هنا فقط بمعنى «الخمر» واستدلوا لذلك بالشعر المعروف.

شربت الإثمّ حتى ضلّ عقلي

كذاك الإثمّ يصنع بالعقول(1)

ولكنّ الظاهر أنّ هذا المعنى ليس هو تمام مفهوم الكلمة ، بل أحد مصاديقه.

ومرّة أخرى يشير بصورة خاصّة إلى عدد من كبريات المعاصي والآثام ، فيقول :( وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ ) أي كل نوع من أنواع الظلم ، والتجاوز على حقوق الآخرين.

و «البغي» يعني السعي والمحاولة لتحصيل شيء ، ولكن يراد منه غالبا الجهود المبذولة لغصب حقوق الآخرين ، ولهذا يكون مفهومه ـ في الغالب ـ مساويا لمفهوم الظلم.

ومن الواضح أنّ وصف «البغي» في الآية المبحوثة بوصف «غير الحق» من قبيل التوضيح والتأكيد على معنى «البغي».

ثمّ أشار تعالى إلى مسألة الشرك وقال :( وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ) فهو أيضا محرّم عليكم.

__________________

(1) التبيان عند تفسير الآية المبحوثة ، وتاج العروس مادة «إثم».

٢٨

ومن الواضح أنّ جملة( ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ) للتأكيد ، ولإلفات النظر إلى حقيقة أنّ المشركين لا يملكون أي دليل منطقي وأي برهان معقول ، وكلمة «السلطان» تعني كل دليل وبرهان يوجب تسلّط الإنسان وانتصاره على من يخالفه.

وآخر ما يؤكّد عليه من المحرمات هو نسبة شيء لم يستند إلى علم الله( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .

ولقد بحثنا حول القول على الله بغير علم عند تفسير الآية (28) من نفس هذه السورة أيضا.

ولقد أكّد في الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية على هذه المسألة كثيرا ، ومنع المسلمون بشدة عن قول ما لا يعلمون إلى درجة أنّه روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض».(1)

ولو أنّنا أمعنا النظر ودققنا جيدا في أوضاع المجتمعات البشرية ، والمصائب والمتاعب التي تعاني منها تلكم المجتمعات ، لعرفنا أنّ القسط الأكبر من هذا الشقاء ناشئ من بث الشائعات ، والقول بغير علم ، والشهادة بغير الحق ، وإبداء وجهات نظر لا تستند إلى برهان أو دليل.

* * *

__________________

(1) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ، طبقا لرواية تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 26.

٢٩

الآية

( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) )

التّفسير

لكلّ أمّة أجل :

في هذه الآية يشير الله تعالى إلى واحدة من سنن الكون والحياة ، يعني فناء الأمم وزوالها ، ويلقي ضوءا أكثر على الأبحاث التي تتعلق بحياة أبناء البشر على وجه الأرض ومصير العصاة ، التي سبق الحديث عنها في الآيات السابقة.

فيقول أوّلا :( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) .

ثمّ يشير إلى أنّ هذا الأجل لا يتقدم ولا يتأخر إن جاء( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) .

أي أنّ الأمم والشعوب مثل الأفراد ، لها موت وحياة ، وأنّ الأمم تندثر وينمحي أثرها من على وجه الأرض ، وتحل مكانها أمم أخرى ، وإنّ سنّة الموت وقانون الفناء لا يختصان بأفراد الإنسان ، بل تشمل الجماعات والأقوام والأمم أيضا ، مع فارق وهو أنّ موت الشعوب والأمم يكون ـ في الغالب ـ على أثر

٣٠

انحرافها عن جادة الحق والعدل ، والإقبال على الظلم والجور ، والانغماس في بحار الشهوات ، والغرق في أمواج الإفراط في التجمل والرفاهية.

فعند ما تسلك الأمم في العالم هذه المسالك وتنحرف عن سنن الكون وقوانين الخلقة ، تفقد مصادرها الحيوية الواحد تلو الآخر ، وتسقط في النهاية.

إنّ دراسة زوال مدنيات كبرى ، مثل حضارة بابل ، وفراعنة مصر ، وقوم سبأ ، والكلدانيين والآشوريين ، ومسلمي الأندلس وأمثالها ، توضح الحقيقة التالية ، وهي أنّه لدى صدور الأمر بزوال هذه المدنيات والحضارات الكبرى إثر بلوغ الفساد أوجه فيها لم تستطع حكوماتها أن تحفظ أسسها المتزعزعة حتى ساعة واحدة.

ويجب الالتفات إلى أنّ «الساعة» في اللغة تعني أصغر وحدة زمنية ، فربّما تكون بمعنى لحظة ، وربّما تكون بمعنى أقل قدر من الزمن ، وإن كانت الساعة تعني في عرفنا الحاضر اليوم مدة واحد من أربع وعشرين ساعة في اليوم.

الرد على خطأ :

رأت بعض المذاهب المختلفة التي ظهرت في القرون الأخيرة بغية الوصول إلى أهدافها ، أن تزعزع ـ بظنها ـ قبل أي شيء أسس خاتمية رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا تمسكت ببعض الآيات القرآنية التي لا تدل على هدفها ، وبمعونة من تفسيرها بالرأي ، وشيء من المغالطة والسفسطة للتدليل على مقصودها.

ومن تلك الآيات الآية المبحوثة هنا. فقالوا : إنّ القرآن يصرّح بأنّ لكل أمّة أجلا ونهاية ، والمراد من الأمّة الدين والشريعة ، ولهذا فإنّ للدّين الإسلامي أمدا ونهاية أيضا!.

إنّ أفضل الطرق لتقييم هذا الاستدلال هو أن ندرس المعنى الواقعي للفظة

٣١

الأمّة في اللغة ، ثمّ في القرآن الكريم.

يستفاده من كتب اللغة ، وكذا من موارد استعمال هذه اللفظة في القرآن الكريم ، والتي تبلغ 64 موضعا ، إنّ الأمّة في الأصل تعني الجماعة.

فمثلا في قصة موسى نقرأ هكذا :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) (1) أي يمتحون الماء من البئر لأنفسهم ولأنعامهم.

وكذا نقرأ في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ) (2) .

كما نقرأ أيضا :( وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ ) (3) . والمعنيون بالأمّة هم أهالي مدينة إيلة من بني إسرائيل.

ونقرأ حول بني إسرائيل :( وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً ) (4) .

من هذه الآيات يتّضح جيدا أنّ الأمّة تعني الجماعة ، ولا تعني الدين ، ولا أتباع الدين ، ولو أنّنا لا حظنا استعمالها في أتباع الدين ، فإنّما هو بلحاظ أنّهم جماعة.

وعلى هذا الأساس يكون معنى الآية المبحوثة هنا هو أنّ لكل جماعة من الجماعات البشرية نهاية ، فليس آحاد الناس هم الذين يموتون ، وتكون لأعمارهم آجال وآماد فحسب ، بل الأمم هي الأخرى تموت ، وتتلاشى وتنقرض.

وأساسا لم تستعمل لفظة الأمّة في الدين أبدا ، ولهذا فإنّ الآية لا ترتبط بمسألة الخاتمية مطلقا.

* * *

__________________

(1) القصص ، 23.

(2) آل عمران ، 104.

(3) الأعراف ، 164.

(4) الأعراف ، 160.

٣٢

الآيتان

( يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) )

التفسير

تعليم آخر لأبناء آدم :

مرّة أخرى يخاطب الله سبحانه أبناء آدم وذريّته ، إذ يقول :( يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (1) أي إذا أتاكم رسلي يتلون عليكم آياتي فاتّبعوهم ، لأنّ من اتّقى منكم واتبعهم وأصلح نفسه والآخرين كان في أمن من عذاب الله الأليم ، فلا يخاف ولا يحزن.

وفي الآية اللاحقة يضيف سبحانه وتعالى قائلا :( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

__________________

(1) «أمّا» مركبة في الأصل من «أن» ، و «ما» و «إن» حرف شرط و «ما» حرف للتأكيد.

٣٣

فتلك عاقبة المؤمنين ، وهذه عاقبة المكذبين لهم.

رد على سفسطة أخرى :

أقدم جماعة من مختلقي الأديان والمذاهب في العصور الأخيرة ـ على غرار ما قلنا في تفسير الآيات السابقة ـ على التمسك بطائفة من الآيات القرآنية بغية تعبيد الطريق لأهدافهم والتمهيد لتحقيقها ، وادعوا كونها دليلا على نفي خاتمية رسول الإسلام ، على حين لا ترتبط هذه الآيات بتلك المسألة قط.

ومن تلكم الآيات الآية الحاضرة ، فهم من دون أن يلاحظوا ما يسبقها وما يلحقها من الآيات قالوا : إن «يأتينّكم» فعل مضارع ، ويدلّ على أنّه من الممكن أن يبعث الله رسلا آخرين في المستقبل.

ولكن لو رجعنا إلى الوراء قليلا ، واستعرضنا الآيات التي تتحدث عن خلقة آدم وسكونته في الجنّة ، ثمّ إخراجه منها هو وزوجته. ولا حظنا أنّ المخاطبين في هذه الآيات ليسوا المسلمين ، بل مجموع البشر وجميع أبناء آدم ، لا تضح جواب هذه الشّبهة وردّ هذا الاستدلال ، لأنّه لا شك أنّه قد بعث لمجموع أبناء آدم رسل كثيرون ، جاء ذكر أسماء طائفة معتد بها في القرآن الكريم ، وجاء ذكر آخرين في كتب التواريخ.

غاية ما في الأمر أنّ هذا الفريق من مختلقي المذاهب والأديان ، تجاهلوا الآيات السابقة بغية إضلال الناس وخداعهم ، وقالوا : إنّ المخاطبين في هذه الآية هم خصوص المسلمين ، واستنتجوا من ذلك إمكان وجود رسل آخرين.

إنّ لأمثال هذه السفسطات نظائر كثيرة في السابق ، وبخاصّة في حالة الفصل بين آية وأخرى وجملة وأخرى ، والتغافل عن سوابق الآية ولواحقها ، فينتزعون منها مفهوما يوافق رغباتهم وإن كان يقابل المفهوم الواقعي للآية في الحقيقة.

* * *

٣٤

الآية

( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) )

التفسير

من هذه الآية فما بعد تتضمّن الآيات بيان أقسام مختلفة من المصير السيء الذي ينتظر المفترين والمكذبين لآيات الله تعالى ، وفي البداية تشير إلى كيفية حالهم عند الموت ، إذ تقول :( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ) .

وكما أسلفنا ـ في سورة الأنعام في ذيل الآية 21 ـ لقد عرف «أظلم الناس» في عدّة آيات من القرآن الكريم بتعابير مختلفة ، ولكن الصفات التي ذكرت لهم تعود كلّهم إلى جذر واحد ، وهو الشرك وعبادة الأصنام وتكذيب آيات الله سبحانه. وفي الآية المبحوثة هنا ذكرت مسألة الافتراء على الله سبحانه كصفة بارزة من صفاتهم ، مضافا إلى صفة التكذيب بالآيات الإلهية.

٣٥

ونظرا إلى أنّ منشأ جميع أنواع الشقاء في نظر القرآن هو الشرك ، ورأس مال جميع السعادات هو التوحيد ، يتّضح لماذا يكون هؤلاء الضالون المضلون أظلم الناس. إنّ هؤلاء ظلموا أنفسهم كما ظلموا المجتمع الذي يقيمون فيه ، إنّهم يغرسون النفاق والتفرقة في كل مكان ، ويشكّلون سدّا ومانعا كبيرا في طريق وحدة الصفوف والتقدم والإصلاحات الواقعية(1) .

ثمّ إنّه تعالى يصف وضعهم عند الموت فيقول :( أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) . أي أنّ هؤلاء سيأخذون ما هو نصيبهم وما هو مقدر مكتوب لهم من النعم المختلفة ، حتى إذا استوفوا حظهم من العمر ، وانتهوا إلى آجالهم النهائية ، حينئذ تأتيهم ملائكتنا الموكلون بقبض أرواحهم.

والمراد من «الكتاب» هي المقدرات من النعم المختلفة التي قدرها الله تعالى لعباده في هذا العالم ، وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الكتاب هو العذاب الإلهي ، أو ما هو أعمّ من المعنيين.

ولكن بالنظر إلى كلمة (حتى) التي تشير عادة إلى انتهاء الشيء ، يتّضح أنّ المراد هو فقط نعم الدنيا المتنوعة المختلفة التي لكل أحد فيها حظ ونصيب ، سواء المؤمن أو الكافر ، الصالح والطالح ، والتي تؤخذ عند الموت ، لا العقوبات الإلهية التي لا تنتهي بحلول الموت ، والتعبير بالكتاب عن هذه النعم والمقدرات إنّما هو لأجل شبهها بالأمور التي تخضع للتقسيم والأسهم وتكتب.

وعلى كل حال ، فإنّ عقوباتهم تبدأ منذ لحظة حلول الموت ، ففي البداية يواجهون التوبيخ وعتاب الملائكة المكلّفين بقبض أرواحهم ، فيسألونهم : أين معبوداتكم الّتي اتخذتموها من دون الله والتي طالما تحدثتم عنها ، وكنتم

__________________

(1) لمزيد من التوضيح راجع تفسير الآية (21) من سورة الأنعام.

٣٦

تسوقون إليها ثرواتكم سفها.( قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

فيجيبهم هؤلاء بعد أن يرون أنفسهم منقطعين عن كلّ شيء ، ويرون كيف تبددت جميع أوهامهم وتصوراتهم الخاطئة حول آلهتهم وذهبت أدراج الرياح ، قائلين : لا نرى منها أثرا وإنّها لا تملك أن تدافع عنّا ، وأنّ جميع ما فعلناه من العبادة لها كان عبثا وباطلا( قالُوا ضَلُّوا عَنَّا ) .

وهكذا يشهدون على أنفسهم بالكفر والضلال( وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ) .

إنّ ظاهر المسألة وإن كان يوحي بأنّ الملائكة تسأل وأنّهم يجيبون ، ولكنّه في الحقيقة نوع من العقوبة النفسية لهم يلفتون بها نظرهم إلى الوضع المأساوي الذي يصيبهم من جراء أعمالهم ، ويرونهم كيف ضلوا وتاهوا في المتاهات والضلالات مدة طويلة من العمر ، وضيّعوا كل رؤوس أموالهم الثمينة دون جدوى دون أن يحصدوا منها حصيلة مسرّة مشرّفة في حين أغلق في وجههم طريق العودة ، وهذا هو أوّل سوط جهنّمي من سياط العقوبة الإلهية التي تتعرض لها أرواحهم.

* * *

٣٧

الآيتان

( قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) )

التفسير

تنازع القادة والاتباع في جهنم!

في هذه الآية يواصل القرآن الكريم بيان المصير المشؤوم للمكذبين بآيات الله.

ففي الآيات السابقة صور لنا وضعهم عند حلول الموت ، وسؤال الملائكة القابضة للأرواح لهم ، وهنا يرسم لنا ما يجري بين الجماعات المظلّة والغاوية ، وبين من تعرضوا للإغواء في يوم القيامة.

ففي يوم القيامة يقول الله لهم : التحقوا بمن يشابهكم من الجن والإنس ممن

٣٨

سبقوكم ، وذوقوا نفس مصيرهم النّار( قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ ) .

إنّ هذا الأمر يمكن أن يكون بشكل أمر تكويني ، يعني أن يجعلهم جميعا في مكان واحد ، أو يكون شبيها بأمر تشريعي يصدر إليهم يسمعونه بآذانهم ، ويكونون مجبورين على إطاعته.

وعند ما يدخل الجميع في النّار تبدأ مصادماتهم مع زملائهم وأشباههم في المسلك ، وهي مصادمات عجيبة ، فكلّما دخلت جماعة منهم في النّار لعنت الأخرى واعتبرتها سببا لشقائها ومسئولة عن بلائها ومحنتها( كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها ) (1) .

ولعلنا قلنا مرارا : إنّ ساحة القيامة وما يجري فيها انعكاس واسع وكبير لمجريات هذه الدنيا. فلطالما رأينا في هذا العالم الجماعات والفرق والأحزاب المنحرفة تلعن إحداها الأخرى ، وتبدي تنفرها منها. على العكس من أنبياء الله ، والمؤمنين الصالحين ، والمصلحين الخيّرين ، فإنّ كل واحد منهم يؤيّد برنامج الآخر ، ويعلن عن ارتباطه به واتحاده معه في الأهداف والغايات.

إلّا أنّ الأمر لا ينتهي إلى هذا الحدّ ، بل عند ما يستقر الجميع ـ بمنتهى الذلّة والصغار ـ في الجحيم والعذاب الأليم ، تبدأ كل واحدة منها برفع شكايتها إلى الله من الأخرى.

ففي البداية يبدأ المخدوعون المغرّر بهم بعرض شكايتهم ، وحيث أنّهم لا يجدون مناصا ممّا هم فيه يقولون : ربّنا إنّ هؤلاء المغوين هم الذين أضلونا وخدعونا ، فضاعف يا ربّ عذابهم ، عذابا لضلالهم وعذابا لإضلالهم إيّانا. وهذا هو ما يتضمّنه قوله تعالى :( حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ

__________________

(1) التعبير بالأخت كناية عن الارتباط الفكري والصلة الروحية بين هذه الفرق المنحرفة ، وحيث أن الأمة مؤنث لفظي ، لهذا عبر عنها بالأخت ، لا الأخ.

٣٩

رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) .

ولا شك أنّ هذا الطلب منطقي ومعقول جدّا ، بل إنّ المضلين سينالون ضعفا من العذاب حتى من دون هذا الطلب ، لأنّهم يتحملون مسئولية انحراف من أضلوا أيضا دون أن ينقص من عذابهم شيء ، ولكن العجيب هو أن يقال لهم في معرض الإجابة على طلبهم : سيكون لكلتا الطائفتين ضعفان من العذاب وليس للمضلين فقط( قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ) .

ومع الإمعان والدقة يتّضح لماذا ينال المخدوعون المضللون ضعفا من العذاب أيضا ، لأنّه لا يستطيع أئمّة الظلم والجور ورؤوس الانحراف والضلال أن ينفذوا لوحدهم برامجهم ، بل هؤلاء الأتباع المعاندون المتعصبون لأسيادهم هم الذين يمدون قادة الضلال ورؤوس الانحراف بالقوّة والمدّد الذي يوصلهم إلى أهدافهم الشريرة ، وعلى هذا الأتباع يجب أن ينالوا ضعفا من العذاب أيضا ، عذابا لضلالهم هم ، وعذابا لمساعدتهم للظالمين وإعانتهم قادة الانحراف.

ولهذا نقرأ في حديث معروف عن الإمام الكاظمعليه‌السلام حول أحد شيعته يدعى صفوان ، حيث نهاه عن التعاون مع هارون الرشيد قائلا : «يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا».

قلت : جعلت فداك أي شيء؟

قالعليه‌السلام إكراؤك جمالك من هذا الرجل (هارون الرشيد العباسي).

قلت : والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا للصيد ولا للهو ، ولكنّي أكريته لهذا الطريق (يعني طريق مكّة) فقال ليعليه‌السلام : يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت : نعم جعلت فداك.

فقال لي : أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراؤك. قلت : نعم.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606