الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 245262 / تحميل: 6211
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وإجابته ، وهي باختصار كالتالي :

١ ـ أن يكون الدعاء عن تضرّع وخفية.

٢ ـ أن لا يتجاوز حدّ الاعتدال.

٣ ـ أن لا يكون مقرونا بالإفساد والمعصية.

٤ ـ أن يكون مقرونا بالخوف والأصل المعتدلين.

٥ ـ أن يكون مقرونا بالبرّ والإحسان ، وفعل الخيرات.

* * *

٨١

الآيتان

( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨) )

التّفسير

لا بد من المربي والقابليّة :

في الآيات الماضية مرّت إشارات عديدة إلى مسألة «المبدأ» أي التوحيد ومعرفة الله ، من خلال الوقوف على أسرار الكون ، وفي هذه الآيات ضمن بيان طائفة من النعم الإلهية وردت الإشارة إلى مسألة «المعاد» والبعث ، ليكمل هذان البحثان أحدهما الآخر.

وهذه هي سيرة القرآن الكريم ودأبه في كثير من الموارد ، حيث يقرن بين «المبدأ» و «المعاد» ، والملفت للنظر أنّه يستعين لمعرفة الله ، وكذا لتوجيه الأنظار إلى أمر المعاد معا بالاستدلال بالأسرار الكامنة في خلق موجودات هذا العالم.

٨٢

فيقول تعالى أولا :( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) .

ثمّ يقول : إنّ هذه الرياح التي تهب من المحيطات تحمل معها سحبا ثقيلة مشبّعة بالماء( حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً ) .

ثمّ يسوق تلك السحب إلى الأراضي الظامئة اليابسة ، ويكلفها بأن تروي تلك العطاشي( سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ) .

وبذلك ينهمر ماء الحياة في كل مكان( فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ ) . وبمعونة هذا الماء نخرج للبشر أنواعا متنوعة من الثمار والفواكة( فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) .

نعم ، إنّ الشمس تسطع على المحيطات والبحار ، فيتبخر الماء ويتصاعد البخار إلى الأعلى ، وهناك في الطبقات العالية الباردة من الجو يتراكم البخار ويشكل كتلا ثقيلة من السحب ، ثمّ تحمل الرياح كتل السحاب العظيمة على ظهرها ، وتتوجه إلى الأراضي التي كلفت بسقيها ، فتجري بعض هذه الرياح قدام كتل السحاب ، وتكون مزيجة بشيء. من الرطوبة الخفيفة ، فتحدث نسيما مريحا تستشم منه رائحة المطر اللذيذة الباعثة للحياة والنشاط.

إنّها ـ في الحقيقة ـ المبشرات بنزول المطر ، ثمّ ترسل كتل الغيم العظيمة حبات المطر من بين ثناياها ، لكنّها ليست بالكبيرة جدّا فتتلف الزروع والأراضي ، ولا بالصغيرة جدّا فتضيع في الفضاء ولا تصل إلى الأرض ، ثمّ تحط هذه الحبات على الأرض برفق وهدوء ، وتنفذ في ترابها شيئا فشيئا ، فتنبت البذور والحبات. وتبدل الأرض المحترقة بالجفاف ، والتي كانت أشبه شيء بمقبرة مظلمة وساكنة وهامدة ، إلى مركز فعّال نابض بالحياة والحركة ، وتنشأ الجنائن الخضراء الغنية بالأزاهير والثمار.

ثمّ عقيب ذلك يضيف فورا( كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى ) ونلبسهم حلّة الوجود والحياة مرّة أخرى.

ولقد أتينا بهذا المثال لأجل أن نريكم أنموذجا من المعاد في هذه الدنيا ،

٨٣

الذي يتكرر أمام عيونكم كل يوم( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

وفي الآية اللاحقة ـ وحتى لا يظن أحد أن نزول المطر على نمط واحد يدل على أنّ جميع الأراضي تصير حيّة على نمط واحدا أيضا ، وحتى يتّضح أنّ القابليات والاستعدادات متفاوته تسبّبت في أن تتفاوت حالات الاستفادة والانتفاع بالمواهب الإلهية يقول :( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) أي أنّ الأرض الصالحة هي التي تستفيد من المطر ، وتثمر خير إثمار بإذن ربّها.

أمّا الأراضي السبخة والخبيثة فلا تثمر إلّا بعض الأعشاب غير النافعة( وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً ) (١) .

هكذا يكون الأمر بالبعث ، وإن كان سببا لعودة الحياة إلى جميع افراد البشر ، إلّا أنّ جميع الناس لا يحشرون على نمط واحد وهيئة واحدة ، إنّهم مختلفون متفاوتون في ذلك مثل تفاوت الأرض الحلوة ، والأرض المالحة ، نعم يتفاوتون ، ويكون هذا التفاوت ناشئا من الأعمال والعقائد والنيات.

ثمّ في ختام الآية يقول تعالى : إنّ هذه الآيات نبيّنها لمن يشكرونها ، ويستفيدون من عبرها ومداليلها ، ويسلكون في ضوئها سبيل الهداية( كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) .

إن الآية الحاضرة ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى مسألة مهمّة تتجلى في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى في كل مكان ، وهي أنّ فاعلية الفاعل وحدها لا تكفي للإثمار والإنتاج الصحيح المطلوب ، بل لا بدّ من «قابلية القابل» فهي شرط للتأثير والإثمار. فإنّه ليس هناك شيء ألطف وأكثر بعثا للحياة والنشاط من حبات المطر ، ولكن هذا المطر نفسه الذي لا شك في لطافة طبعه ، يورق ويورد في مكان ، وينبت الشوك والحنظل في مكان آخر.

* * *

__________________

(١) النّكد : هو البخيل الممسك الذي يتعذر أخذ شيء منه بسهولة ، ولو أنّه أعطى لأعطى الشيء اليسير الحقير. ولقد شبهت الأراضي المالحة السبخة غير المساعدة للزرع بمثل هذا الشخص.

٨٤

الآيات

( لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤) )

التّفسير

رسالة نوح أوّل الرّسل من أولي العزم :

تقدم أنّ هذه السورة ـ بعد ذكر سلسلة من القضايا الجوهرية والعامّة في صعيد معرفة الله والمعاد والهداية الإلهية للبشر ، ومسألة الشعور بالمسؤولية ـ

٨٥

تشير إلى قصص ثلة من الأنبياء الكرام والرسل العظام مثل «نوح» و «هود» و «صالح» و «شعيب» وبالتالي «موسى بن عمران»عليهم‌السلام أجمعين ، كي تقدم أمثلة حية لهذه الأبحاث وبصورة عملية في ثنايا تاريخهم الحافل بالحوادث والعبر.

فيبدأ سبحانه من قصة نوح النّبي ، ويستعرض قسما من حواراته مع قومه الوثنيين المعاندين.

وقد وردت قصة نوح في سور قرآنية متعددة ، مثل سورة هود ، الأنبياء ، والمؤمنون ، الشعراء ، كما أنّ هناك سورة قصيرة في القرآن الكريم باسم «سورة نوح» وهي السورة الحادية والسبعون من سور الكتاب العزيز.

وسوف يأتي شرح ودراسة جهود هذا النّبي العظيم ، وكيفية صنعه للسفينة ، والطوفان الرهيب ، وغرق قومه الأنانيين الفاسدين والوثنيين بإسهاب في السور المذكورة ، وهنا أكتفي ـ فقط ـ بإعطاء فهرست عن ذلك ضمن ست آيات هي :

يقول أوّلا :( لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ) .

إنّ أوّل شيء ذكّرهم به هو إلفات نظرهم إلى حقيقة التوحيد ، ونفي أي نوع من أنواع الوثنية( فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) .

إنّ شعار التوحيد ليس شعار نوح وحده ، بل هو أوّل شعار عند جميع الأنبياء والمرسلين الإلهين ، ولهذا يشاهد في آيات متعددة من هذه السورة ـ وغيرها من السور القرآنية ـ أنّ أوّل ما يفتتح أكثر الأنبياء دعواتهم به هو هذا الشعار :( يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) (راجع الآيات ٦٥ ، و ٧٣ و ٨٥ من نفس هذه السورة).

من هذه العبارات يستفاد جيدا أنّ الوثنية كانت أسوأ مانع في طريق سعادة البشرية جمعاء ، وأنّ حملة غصون التوحيد هؤلاء كانوا أوّل ما يفعلونه لغرس هذه الغصون في مزرعة الحياة البشرية وتربية أنواع الورود الزاهية والأشجار المثمرة فيها ، هو أنّهم يشمرون عن ساعد الجدّ ليطهروا الحياة البشرية بمنجل

٨٦

تعاليمهم البناءة من الأشواك ، أشواك الوثنية والشرك والعبودية لغير الله تعالى.

ويستفاد من الآية (٢٣) في سورة نوح خاصّة أنّ الناس في زمن النّبي نوحعليه‌السلام كانوا يعبدون أصناما متعددة تدعى «ودّ» و «سواع» و «يغوث» و «يعوق» و «نسر» ، التي سيأتي الحديث عنها عند تفسير تلك الآية بإذن الله.

وبعد أن أيقظ نوح ضمائرهم وفطرتهم الغافية ، حذّرهم من مغبة الوثنية وعاقبتها المؤلمة إذ قال :( إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) .

والمراد من( عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) يمكن أن يكون الطوفان المعروف بطوفان نوح ، الذي قلّما شوهد مثله في العقوبات في العظمة والسعة ، كما ويمكن أن يكون إشارة إلى العقوبة الإلهية في يوم القيامة ، لأنّ هذا التعبير قد ورد في معنيين من القرآن الكريم. فإنّنا نقرأ في سورة الشعراء الآية (١٨٩) :( فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) الآية وردت حول العقوبة التي نزلت بقوم شعيب في هذه الدنيا بسبب ذنوبهم ومعاصيهم ، ونقرأ في سورة المطففين الآية (٥) :( أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) (١) .

إنّ عبارة «أخاف» (أي أخشى أن تصيبكم هذه العقوبة ، بعد ذكر مسألة الشرك في الآية المبحوثة ، يمكن أن تكون لأجل أن نوحا يريد أن يقول لهم : إذا لم تتيقنوا وقوع هذه العقوبة ، فعلى الأقل ينبغي أن تخافوا منها ، ولهذا لا يجيز العقل أن تسلكوا ـ مع هذا الاحتمال ـ هذا السبيل الوعر ، وتستقبلوا عذابا عظيما أليما كهذا.

ولكن قوم نوح بدل أن يستقبلوا دعوة هذا النّبي العظيم الإصلاحية ، المقرونة بقصد الخير والنفع لهم ، فينضوون تحت راية التوحيد ويكفون عن الظلم والفساد ، قال جماعة من الأعيان والأثرياء الذين كانوا يحسون بالخطر على

__________________

(١) كلمة عظيم في الآية أعلاه صفة «ليوم» لا للعذاب.

٨٧

مصالحهم بسبب يقظة الناس وانتباههم ، ويرون الدين مانعا من عبثهم ومجونهم وشهواتهم ، قالوا لنوح بكل صراحة وقحة : نحن نراك في ضلال واضح( قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

و «الملأ» تطلق عادة على الجماعة التي تختار عقيدة وفكرة واحدة ، ويملأ اجتماعها وجلالها الظاهري عيون الناظرين ، لأن مادة «الملأ» أصلا من «الملء» ، وقد استعملها القرآن على الأغلب في الجماعات الأنانية المستبدة ذات المظهر الأنيق والباطن الفاسد الملوث بالأوضاد والشرور ، والذين يملأون ساحات المجتمع المختلفة بوجودهم.

ولقد جابه نوحعليه‌السلام تعنتهم وخشونتهم بلحن هادئ ولهجة متينة تطفح بالمحبّة والرحمة ، فقال في معرض الردّ عليهم : أنا لست بضال ، بل ليست في أية علامة للضلال ، ولكنّي مرسل من الله( قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وهذه إشارة إلى أنّ الأرباب التي تعبدوها وتفترضون لكل واحد منها مجالا للسيادة والحاكمية ، مثل إله البحر ، إله السماء ، إله السلام والحرب ، وما شاكل ذلك ، كله لا أساس لها من الصحة ، ورب العالمين ما هو إلّا الله الواحد الذي خلقها جميعا وأوجدها من العدم.

ثمّ إنّ هدفي إنّما هو إبلاغ ما حمّلت من رسالة( أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ) . ولن آلو جهدا في تقديم النصح لكم ، وقصد نفعكم ، وإيصال الخير إليكم( وَأَنْصَحُ لَكُمْ ) .

«أنصح» من مادة «نصح» يعني الخلوص والغلو عن الغش وعن الشيء الدخيل ، لهذا يقال للعسل الخالص : ناصح العسل ، ثمّ أطلقت هذه اللفظة على الكلام الصادر عن سلامة نية ، وبقصد الخير ، ومن دون خداع ومكر.

ثمّ أضاف تعالى( وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .

٨٨

إنّ هذه العبارة يمكن أن يكون لها جانب تهديد في مقابل معارضاتهم ومخالفتهم ، وكأنّه يريد أن يقول : أنا أعلم بعقوبات إلهية أليمة تنتظر العصاة لا تعلمون شيئا عنها ، أو تكون إشارة إلى لطف الله ورحمته ، وتعني أنّكم إذا أطعتم الله ، وكففتم عن تعنتكم ، فإنّي أعلم مثوبات عظيمة لكم لا تعلمونها ولم تقفوا لحدّ الآن على سعتها. أو تكون إشارة إلى أنّني إذا كنت قد كلفت بهدايتكم فإنّني أعلم أمورا عن الله العظيم وعن أوامره لا تعرفونها ، ولهذا يجب أن تطيعوني وتتبعوني. ولا مانع من أن تكون كل هذه المعاني مقصودة ومجتمعة في مفهوم الجملة الحاضرة.

وفي الآية اللاحقة نقرأ لنوح كلاما آخر قاله في مقابل استغراب قومه من أنّه كيف يمكن لبشر أن يكون حاملا لمسؤولية إبلاغ الرسالة الإلهية ، إذ قال :( أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ، وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) .

يعني : أيّ شيء في هذه القضية يدعو إلى الاستغراب والتعجب ، لأنّ الإنسان الصالح هو الذي يمكنه أن يقوم بهذه الرسالة أحسن من أي كائن آخر. هذا مضافا إلى أنّ الإنسان هو القادر على قيادة البشر ، لا الملائكة ولا غيرهم.

ولكن بدل أن يقبلوا بدعوة مثل هذا القائد المخلص الواعي كذبه الجميع ، فأرسل الله عليهم طوفانا فغرق المكذبون ونجا في السفينة نوح ومن آمن( فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ) .

وفي خاتمة الآية بين دليل هذه العقوبة الصعبة ، وأنّه عمى القلب الذي منعهم عن رؤية الحق ، وأتباعه( إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ ) (١) .

وهذا العمى القلبي كان نتيجة أعمالهم السيئة وعنادهم المستمر ، لأنّ

__________________

(١) «عمين» جمع عمي ، وهو يطلق عادة على من تعطلت بصيرته الباطنية ، ولكن الأعمى يطلق على من فقد بصره الظاهري ، وكذلك يطلق على من فقد بصيرته الباطنية أيضا (وعمي حينما يدخل عليها الإعراب تتبدل إلى عم).

٨٩

التجربة أثبتت أنّ الإنسان إذا بقي في الظلام مدة طويلة ، أو أغمض عينيه لسبب من الأسباب وامتنع عن النظر مدة من الزمن ، فإنّه سيفقد قدرته على الرؤية تدريجا وسيصاب بالعمى في النهاية.

وهكذا سائر أعضاء البدن إذا تركت الفعالية والعمل مدّة من الزمن يبست وتعطلت عن العمل نهائيا.

وبصيرة الإنسان هي الأخرى غير مستثناة عن هذا القانون ، فالتغاضي المستمر عن الحقائق ، وعدم استخدام العقل والتفكير في فهم الحقائق والواقعيات بصورة مستمرة ، يضعف بصيرة الإنسان تدريجا إلى أن تعمى عين القلب والعقل في النهاية تماما.

هذه لمحة عن قصة نوح ، وأمّا بقية هذه القصّة وكيفية وقوع الطوفان وتفاصيلها الأخرى ، فسوف نشير إليها في السور التي أشرنا إليها في مطلع هذا البحث.

* * *

٩٠

الآيات

( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢) )

٩١

التّفسير

لمحة عن قصّة قوم هود :

عقيب ذكر رسالة نوح والدروس الغنية بالعبر الكامنة فيها ، عمد القرآن الكريم إلى إعطاء لمحة سريعة عن قصّة نبي آخر من الأنبياء العظام ، وهو النّبي هودعليه‌السلام ، وذكر ما جرى بينه وبين قومه.

وهذه القصّة ذكرت في سور أخرى من القرآن الكريم مثل سورة «الشعراء» وسورة «هود» التي تناولت هذه القصّة بشيء من التفصيل ، وأمّا في الآيات الحاضرة فقد ذكر شيء مختصر عمّا دار بين هود والمعارضين له ونهايتهم.

يقول تعالى أوّلا : ولقد أرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هودا( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ) .

وقوم «عاد» كانوا أمّة تعيش في أرض «اليمن» وكانت أمّة قوية من حيث المقدرة البدنية والثروة الوافرة التي كانت تصل إليهم عن طريق الزراعة والرعي ، ولكنّها كانت متخمة بالانحرافات الاعتقادية وبخاصّة الوثنية والمفاسد الأخلاقية المتفشية بينهم.

وقد كلّف «هود» الذي كان منهم ـ وكان يرتبط بهم بوشيجة القربى ـ من جانب الله بأن يدعوهم إلى الحق ومكافحة الفساد ، ولعل التعبير بـ «أخاهم» إشارة إلى هذه الوشيجة النسبية بين هود وقوم عاد.

ثمّ إنّه يحمل أيضا أن يكون التعبير بـ «الأخ» في شأن النّبي هود ، وكذا في شأن عدّة أشخاص آخرين من الأنبياء الإلهيين مثل نوحعليه‌السلام (سورة الشعراء الآية ١٠٦) وصالح (سورة الشعراء الآية ١٤٢) ولوط (سورة الشعراء الآية ١٦١) وشعيب (سورة الأعراف الآية ٨٥) إنّما هو لأجل أنّهم كانوا يتعاملون مع قومهم في منتهى الرحمة ، والمحبّة مثل أخ حميم ، ولا يألون جهدا في إرشادهم وهدايتهم ودعوتهم إلى الخير والصلاح.

٩٢

إنّ هذه الكلمة تستعمل في من يعطف على أحد أو جماعة غاية العطف ، ويتحرق لهم غاية التحرق ، مضافا إلى أنّها تحكي عن نوع من التساوي ونفي أي رغبة في التفوق والزعامة ، يعني أن رسل الله لا يحملون في نفوسهم أية دوافع شخصية في صعيد هدايتهم ، إنما يجاهدون فقط لانقاد شعوبهم وأقوامهم من ورطة الشقاء.

وعلى كل حال ، فإنّ من الواضح والبيّن أنّ التعبير بـ «أخاهم» ليس إشارة إلى الأخوة الدينية مطلقا ، لأنّ هؤلاء الأقوام لم تستجب ـ في الأغلب ـ لدعوة أنبيائها الإصلاحية.

ثمّ يذكر تعالى أنّ هود شرع في دعوته في مسألة التوحيد ومكافحة الشرك والوثنية :( قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ) .

ولكن هذه الجماعة الأنانية المستكبرة ، وبخاصّة أغنياؤها المغرورون المعجبون بأنفسهم ، والذين يعبّر عنهم القرآن بلفظة «الملأ» باعتبار أنّ ظاهرهم يملأ العيون ، قالوا لهود نفس ما قاله قوم نوح لنوحعليه‌السلام ( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ ) .

«السفاهة» وخفة العقل كانت تعني في نظرهم أن ينهض أحد ضد تقاليد بيئته مهما كانت تلكم التقاليد خاوية باطلة ، ويخاطر حتى بحياته في هذا السبيل.

لقد كانت السفاهة في نظرهم ومنطقهم هي أن لا يوافق المرء على تقاليد مجتمعه وسننه البالية ، بل يثور على تلك السنن والتقاليد ، ويستقبل برحابة صدر كل ما تخبئه له تلك الثورة والمجابهة.

ولكن هودا ـ وهو يتحلى بالوقار والمتانة التي يتحلى بها الأنبياء والهداة الصادقون الطاهرون ـ من دون أن ينتابه غضب ، أو تعتريه حالة يأس( قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

ثمّ إنّ هودا أضاف : إنّ مهمته هي إبلاغ رسالات الله إليهم ، وإرشادهم إلى ما

٩٣

فيه سعادتهم وخيرهم ، وانقادهم من ورطة الشرك والفساد ، كل ذلك مع كامل الإخلاص والنصح والأمانة والصدق( أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ ) .

ثمّ إنّ هودا أشار ـ في معرض الرّد على من تعجب من أن يبعث الله بشرا رسولا ـ إلى نفس مقولة نوح النّبي لقومه :( أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ) أي هل تعجبون من أن يرسل الله رجلا من البشر نبيّا ، ليحذركم من مغبة أعمالكم ، وما ينتظركم من العقوبات في مستقبلكم؟

ثمّ إنّه استثارة لعواطفهم الغافية ، وإثارة لروح الشكر في نفوسهم ، ذكر قسما من النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم ، فقال :( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) ، فقد ورثتم الأرض بكل ما فيها من خيرات عظيمة بعد أن هلك قوم نوح بالطوفان بسبب طغيانهم وبادوا.

ولم تكن هذه هي النعمة الوحيدة ، بل وهب لكم قوة جسدية عظيمة( وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً ) .

إنّ جملة( زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً ) يمكن أن تكون ـ كما ذكرنا ـ إشارة إلى قوة قوم عاد الجسدية المتفوقة ، لأنّه يستفاد من آيات قرآنية عديدة ، وكذا من التواريخ ، أنّهم كانوا ذوي هياكل عظيمة قوية وكبيرة ، كما نقرأ ذلك من قولهم في سورة «فصلت» الآية ١٥( مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) وفي الآية (٧) من سورة الحاقة نقرأ ـ عند ذكر ما نزل بهم من البلاء بذنوبهم ـ( فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ) حيث شبه جسومهم بجذوع النخل الساقطة على الأرض.

ويمكن أن تكون إشارة ـ أيضا ـ إلى تعاظم ثروتهم وإمكانياتهم المالية ، ومدنيتهم الظاهرية المتقدمة ، كما يستفاد من آيات قرآنية وشواهد تاريخية أخرى ، ولكن الاحتمال الأوّل أنسب مع ظاهر الآية.

وفي خاتمة الآية يذكّر تلك الجماعة الأنانيّة بأن يتذكروا نعم الله لتستيقظ

٩٤

فيهم روح الشكر فيخضعوا لأوامره ، علّهم يفلحون( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

ولكن في مقابل جميع المواعظ والإرشادات المنطقية ، والتذكير بنعم الله ومواهبه ، انبرت تلك الثلة من الناس الذين كانوا يرون مكاسبهم المادية في خطر ، وقبول دعوة النّبي تصدّهم عن التمادي في أهوائهم وشهواتهم ، انبرت إلى المعارضة ، وقالوا بصراحة ، : إنّك جئت تدعونا إلى عبادة الله وحده وترك ما كان أسلافنا يعبدون دهرا طويلا ، كلّا ، لا يمكن هذا بحال( قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ) ؟

لقد كان مستوى تفكير هذه الثّلة منحطا جدّا ـ كما تلاحظ ـ إلى درجة أنّهم كانوا يستوحشون من عبادة الله وحده ، بينما يعتبرون تعدّد الآلهة والمعبودات مفخرة من مفاخرهم.

والجدير بالتأمل أنّ دليلهم في هذا المجال لم يكن إلّا التقليد الأعمى لما كان عليه الآباء والأسلاف ، وإلّا فكيف يمكن أن يبرروا خضوعهم لقطعات من الصخور والأخشاب؟!

وفي النهاية ، ولأجل أن يقطعوا أمل هود فيهم تماما ، ويقولوا كلمتهم الأخيرة قالوا : إذا كان حقا وواقعا ما تنذرنا به من العذاب ، فلتبادر به ، أي أنّنا لا نخشى تهديداتك أبدا( فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .

وعند ما بلغ الحوار إلى هذه النقطة ، وأطلق أولئك المتعنتون كلمتهم الأخيرة الكاشفة عن رفضهم الكامل لدعوة هود ، وأيس هود ـ هو الآخر ـ من هدايتهم تماما ، قال : إذن ما دام الأمر هكذا فسيحلّ عليكم عذاب ربّكم( قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ) .

و «الرّجس» في الأصل بمعنى الشيء غير الطاهر ، ويرى بعض المفسّرين أنّ لأصل هذه اللفظة معنى أوسع ، فهو يعني كل شيء يبعث على النفور والتقزز

٩٥

والقرف ، ولهذا يطلق على جميع أنواع الخبائث والنجاسات والعقوبات لفظ «الرجس» لأنّ جميع هذه الأمور توجب نفور الإنسان ، وابتعاده.

وعلى كل حال فإنّ هذه الكلمة في الآية المبحوثة يمكن أن تكون بمعنى العقوبات الإلهية ، ويكون ذكرها مع جملة «قد وقع» التي هي بصيغة الفعل الماضي إشارة إلى أنّكم قد أصبحتم مستوجبين للعقوبة حتما وقطعا ، وأن العذاب سيحل بكم لا محالة.

كما يمكن أن يكون بمعنى النجاسة وتلوث الروح ، يعني أنّكم قد غرقتم في دوّامة الانحراف والفساد إلى درجة أنّ روحكم قد دفنت تحت أوزار كثيفة من النجاسات ، وبذلك استوجبتم غضب الله ، وشملكم سخطه.

ثمّ لأجل أن لا يبقى منطق عبادة الأوثان من دون ردّ أضاف قائلا :( أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) فهذه براء ، وجئتم تجادلونني في عبادتها في حين لم ينزل بذلك أي دليل من جانب الله.

وفي الحقيقة ، أنّ هذه الأصنام لا تملك من الألوهية إلّا أسماء من دون مسمّيات ، وهي أسماء من نسج خيالكم وخيال أسلافكم ، وإلّا فهي كومة أحجار وأخشاب لا تختلف عن غيرها من أحجار البراري وأخشاب الغابات.

ثمّ قال : فإذا كان الأمر هكذا فلننتظر جميعا ، انتظروا أنتم أن تنفعكم أصنامكم ومعبوداتكم وتنصركم ، وأنتظر أنا أن يحلّ بكم غضب الله وعذابه الأليم جزاء تعنتكم ، وسيكشف المستقبل أي واحد من هذين الانتظارين هو الأقرب إلى الحقيقة والواقع( فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) .

وفي نهاية الآية بيّن القرآن مصير هؤلاء القوم المتعنتين في عبارة قصيرة موجزة :( فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ ) أجل ، لقد أنجى الله هودا ومن اتبعه من القوم بلطفه ورحمته ، وأمّا

٩٦

الذين كذبوا بآيات الله ، ورفضوا الانضواء تحت لواء دعوته ، والانصياع للحق ، فقد أبيدوا نهائيا.

و «دابر» في اللغة بمعنى آخر الشيء ومؤخرته ، وبناء على هذا المفهوم يكون معنى الآية : أنّنا أبدنا هؤلاء القوم إبادة كاملة واستأصلنا شأفتهم.

(وسوف نبحث بالتفصيل حول قوم عاد وبقية خصوصيات حياتهم وكيفية عقوبة الله لهم والعذاب الذي نزل وحلّ بهم عند تفسير سورة هود بإذن الله).

* * *

٩٧

الآيات

( وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) )

٩٨

التّفسير

قصة قوم صالح وما فيها من عبر

في هذه الآيات جاءت الإشارة إلى قيام «صالح» النّبي الإلهي العظيم في قومه «ثمود» الذين كانوا يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام ، وبهذا يواصل القرآن أبحاثه السابقة الغنية بالعبر حول قوم نوح وهود.

وقد أشير إلى هذا القصة أيضا في سورة : «هود» و «الشعراء» و «القمر» و «الشمس» وجاءت بصورة أكثر تفصيلا في سورة «هود» أمّا هذه الآيات فقد أوردت ما دار بين صالحعليه‌السلام وقومه قوم ثمود ، وعن مصيرهم ، وعاقبة أمرهم بصورة مختصرة.

فيقول تعالى في البداية :( وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ) .

وقد مر بيان العلة في إطلاق لفظة «الأخ» على الأنبياء عند تفسير الآية (٦٥) من نفس هذه السورة في قصة هود.

ولقد كانت أوّل خطوة خطاها نبيّهم صالح في سبيل هدايتهم ، هي الدعوة إلى التوحيد ، وعبادة الله الواحد( قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) .

ثمّ أضاف : إنّه لا يقول شيئا من دون حجة أو دليل ، بل قد جاء إليهم ببيّنة من ربّهم( قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً ) .

و «النّاقة» أنثى الإبل ، وقد أشير إلى ناقة صالح في سبعة مواضع من القرآن الكريم(١) .

وأمّا حقيقة هذه الناقة ، وكيف كانت معجزة صالح الساطعة ، وآيته المفحمة لقومه ، فذلك ما سنبحثه في سورة هود ، في ذيل الآيات المرتبطة بقوم ثمود بإذن الله.

__________________

(١) قال الطبرسي في المجمع : الناقة أصلها من التوطئة والتذليل بعير منوق أي مذلل موطأ ، ولعل إطلاقها على أثنى الإبل لكونها أكثر ذلولا للامتطاء والركوب.

٩٩

على أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ إضافة «الناقة» إلى «الله» في الآيات الحاضرة من قبيل الإضافة التشريفية ـ كما هو المصطلح ـ فهي إشارة إلى أنّ هذه الناقة المذكورة لم تكن ناقة عادية ، بل كانت لها ميزات خاصّة.

ثمّ إنّه يقول لهم : اتركوا الناقة تأكل في أرض الله ولا تمنعوها( فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

وإضافة الأرض إلى «الله» إشارة إلى أنّ هذه الناقة لا تزاحم أحدا ، فهي تعلف من علف الصحراء فقط ، ولهذا يجب أن لا يزاحموها.

ثمّ يقول في الآية اللاحقة( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ) أي من جانب لا تنسوا نعم الله الكثيرة ، ومن جانب آخر انتبهوا إلى أنّه قد سبقكم أقوام (مثل قوم عاد) طغوا فحاق بهم عذاب الله بذنوبهم وهلكوا.

ثمّ ركز على بعض النعم الإلهية كالأرض فقال :( تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً ،وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً ) ، فالأرض قد خلقت بنحو تكون سهولها المستوية والمزودة بالتربة الصالحة لإقامة القصور الفخمة ، كما تكون جبالها صالحة لأن تنحت فيها البيوت القوية المحصنة لفصل الشتاء والظروف الجوية القاسية.

ويبدو للنظر من هذا التعبير هو أنّهم كانوا يغيرون مكان سكناهم في الصيف والشتاء ، ففي فصل الربيع والصيف كانوا يعمدون إلى الزراعة والرعي في السهول الواسعة والخصبة ، ولهذا كانت عندهم قصور جميلة في السهول ، وعند حلول فصل البرد والانتهاء من الحصاد يسكنون في بيوت قوية منحوتة في قلب الصخور ، وفي أماكن آمنة تحفظهم من خطر السيول والعواصف والاخطار.

وفي ختام الآية يقول تعالى :( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وبذلك سيستهزيء بالاسلام واحكامه ، ولن يكون حريصاً في تعليمه للطلاب ، فهل نترك ابناءنا يتعلمون ويفهمون الاسلام من خلال هؤلاء.

هذه يا سيد بيضاوي مادة التربية الدينية التي تدرّس في مدارسنا !!

عباس بيضاوي : فيما يتعلق بالتربية الدينية ، كلامك صحيح ، لكن يجب ان لا نغفل ان التربية والتعليم في بلادنا تقدمت خطوات واسعة وقامت بانجازات كثيرة.

الشيخ : سيد البيضاوي ! ارىٰ انه من الافضل لك ان تترك الدفاع عن مؤسسات التربية والتعليم الىٰ شخص آخر ! فما هي الخطوات الواسعة والانجازات التي تمت في مجال التربية والتعليم ، ولو ترىٰ شبابنا يسيرون في الاتّجاه الصحيح ، فهو سبب نبوغهم الذاتي واصالتهم وجهود بعض الخيّرين من الاساتذة وعلماء الدين ، وليس سببه برامج التربية والتعليم التي تقررها الوزارة ، خاصة في ضوء الظروف الحالية السائدة في البلاد وتكاليف الدراسة التي ستجعل العلم في هذا البلد أيضاً محصوراً بابناء التجار والمستثمرين.

داء بلا دواء

ولو تركنا هذا كله ، فهناك مشكلة كبيرة ومهمة ستواجه البلد في المستقبل ، وهذهِ المشكلة هي من صنع الثقافة السائدة والتربية والتعليم الحالي ، وهي عدم وجود عدد لازم من الفروع والجمعيات الصناعية والمهنية ، لان طلابنا لا يحلمون الّا بمنضدة وكرسي في احدىٰ الدوائر المكيّفة جيداً وان يكون احد موظفي الدولة ، ولا يفكر احد بمجالات اخرىٰ مثل : الزراعة

٣٦١

والميكانيك وغيرها من الفروع المنتجة والمفيدة للمجتمع.

اصدقائي الاعزاء !

من خلال هذا التفكير السائد ، ومع الاخذ بان جميع ابناءنا سيذهبون يوماً ما الىٰ المدارس والثانويات والجامعات ، ارجو أن تحكموا علىٰ مستقبل البلاد ومصيرها ، لان جيلنا القادم جميعه يريد وظائف حكومية ، وسنضطر في السنوات القادنة الىٰ استيراد التجار والمزارعين والخياطين والخبازين و من الخارج ونضيفهم الىٰ جدول وارداتنا التي لا يمكن احصاءها ، وطبيعي فان الذنب في ذلك يعود الىٰ برامج التربية والتعليم. والآن يا أخي بيضاوي ! اذ قلنا هذهِ الثقافة لو لم تكن نتيجتها انحطاط البلاد وتبعية البلاد للأجانب علىٰ الاقل ، فأنها ثقافة ناقصة لا قيمة لها ؟

ـ تأييد الجميع واقرارهم.

٣٦٢

الموسيقىٰ من الناحيتين الصحّيّة والنفسية

في هذهِ اللحظة ارتفع فجأة صوت موسيقىٰ صاخبة من الغرفة المجاورة ، وكانت مرتفعة بحيث لم يكن بالاستطاعة سماع كلام الشيخ. فغضب اصدقاءه جميعاً ، اما الدكتور فنهض الىٰ الغرفة المجاورة ، وعندما فتح بابها ، خاطب الشخص الذي كان بحمل مذياعاً : أيُّها السيد المحترم ! لو كنت تحب سماع الموسيقىٰ. فلماذا تزعج الآخرين ؟ لربما هناك في الغرفة المجاورة مريض او شخصاً يشكو من الصداع او ضعف عصبي. أمّا صاحب المذياع الذي كان في الظاهر شاباً مؤدباً ، لكنه وللأسف في حقيقته بعيد عن كل أدب ونزاهة فما ان سمع كلام الدكتور المنطقي ، قال بخشونة : ما الذي تقوله ؟ نحن أحرار في هذا البلد نستطيع عمل كل ما يحلو لنا.

فقال له الدكتور : عزيزي ، اي قانون اعطاك كل تلك الحرية ، بحيث يمكنك سلب راحة الآخرين وحقوقهم ؟! ألا تعلم ان حرية الفرد للحد الذي لا تضر بحريات الآخرين وحقوقهم ، وأيضاً فالسيارة والقطار من الاماكن العامة التي لا يحق للشخص عمل ما يزعج الآخرين فيها ؟! وبغض النظر عن كل ذلك. ما هذا الذي تقوم به ، انت تتلف اعصابك وقواك بهذهِ الايقاعات البشعة ؟!

فقال الشاب للدكتور : الظاهر انك رجعي ، فما المانع من سماع الموسيقىٰ ، أليست الروح أيضاً بحاجة الىٰ غذاء.

٣٦٣

فأجابه الدكتور : لو كنت تريد معرفة تأثير الموسيقىٰ السلبي علىٰ الروح والعقل تعالى الىٰ غرفتنا واستمع الىٰ بحث يقدمه شيخ عالم في هذا الموضوع.

بعد هذا الاقتراح نهض الشاب مع الدكتور وجاء الىٰ الغرفة التي اجتمع فيها الشيخ واصدقاءه ، فسلما وجلسا ، ثم توجه الدكتور الىٰ الشيخ وقال له : ايها العم العزيز ، هذا الشاب يريد ان يعرف تأثير الموسيقىٰ في الصحة والنفس ، في ضوء آخر نظريات كبار العلماء.

الشيخ : كثيرة هي الاضرار التي تتركها الموسيقىٰ علىٰ الصحة والنفس ، ولكن ، قبل الخوض في تأثيرات الموسيقى السلبية ، لابد من الاشارة الىٰ ان علماء الفسيولوجيا قسمّوا الجهاز العصبي عند الانسان الىٰ قسمين :

1 ـ الاعصاب الارتباطية.

2 ـ الاعصاب النباتية.

والاعصاب النباتية تنقسم بدورها الىٰ قسمين هما : السمباتيك والباراسمباتيك.

والاعصاب السمباتيك في الجسم هي : تضييق الاوردة والشرايين ، بسط العضلات ، منع الترشح ، رفع ضغط الدم.

أمّا وظيفة الباراسمباتيك ، فهي تماماً عكس الاولىٰ ، مثل : توسيع الاوردة والشرايين ، قبض العضلات ، ايجاد الترشح ، تخفيض ضغط الدم.

٣٦٤

وما دامت هاتان المجموعتان العصبيتان بدون محرك خارجي ، فانهما تعملان بشكل منظم معاً وتشتركان في الحفاظ علىٰ تعادل الجسم ، ولكن اذا كان هناك محرك خارجي ، فانهما تخرجان من حالتهما الطبيعية وتكون النتيجة اضطرابات نفسية وجسدية عديدة.

ومن أهم العوامل الخارجية المحركة والتي تخلّ بتعادل السمباتيك مع الباراسمباتيك هي الارتعاشات الموسقية. فالموسيقىٰ وعلىٰ شكليها الحزين والمُسرّ تؤثر احياناً علىٰ تعادل هاتين المجموعتين العصبيتين بحيث تخلّ بالكثير من اعمال الجسم الطبيعة مثل : الدفع والترشح وضغط الدم وضربات القلب و مما يعرض الشخص الىٰ الكثير من الامراض. فالموسيقىٰ الصاخبة ونتيجة لتحريك الاعصاب النباتية ، قد تؤدي احياناً الىٰ اضطرابات نفسية تجعل الشخص يقوم بحركات ونشاطات مفاجئة ولا ارادية كالضحك والثرثرة والفرح المفرط والهيجان وقد ينتهي به الامر الىٰ نوع من الجنون يتميز بالانفعال الشديد(1) .

اصدقائي الاعزاء !

بعد هذهِ المقدّمة سأوضح لكم الآثار السلبية للموسيقىٰ بالتفصيل ، وهي عبارة عن :

1 ـ الموسيقىٰ سبب رئيسي في الانهيار العصبي :

________________

(1) mania

٣٦٥

اهم تأثير للموسيقىٰ هو اضعفاها للأعصاب ودورها في الانهيار العصبي ، واهمية هذا الامر جعلت عالمنا المعاصر يعيش حالة من الرعب ، لان ضعف الاعصاب يعد العامل الرئيسي ومصدراً لكل والوكعات الجسمية والنفسية ، ويعدّ ضعف الاعصاب من الامراض التي يصعب علاجها اليوم وهو اخطر من مرض السلّ كما انه شائع اليوم في جميع انحاء العالم خاصة الدول الغربية ، ولهذا قامت دراسات وابحاث عديدة حوله من قبل المحافل والمؤسسات الطبية وقد بينت النتائج ان الموسيقىٰ الصاخبة هي السبب الرئيسي له.

وهد أكّد هذا الرأي العديد من علماء اوروبا وامريكا ، وقبل به الجميع بالتدريج ، للحد الذي قام فيه عدد من المثقفين والكتاب والعلماء الامريكيين ، بأعداد لائحة وقدموها الىٰ مجلس الشيوخ الامريكي. لمنع اقامة حفلات موسيقية صاخبة في الاماكن العامة ، لأنها السبب في الكثير من الامراض ، وخاصة ضعف الاعصاب.(1)

2 ـ الموسيقىٰ سبب ضعف الارادة والالتفات غير الطبيعي :

ومن التأثيرات السلبية الاُخرىٰ للموسيقى ، هو تضعيف الارادة وايجاد التفاته غير طبيعية عند المستمع ، لان الموسيقىٰ وبسبب التأثيرات الصوتية والارتعاشات توجد حالة من البهتة والالتفات غير الطبيعي عند المستمع ، مما يؤدي بدوره الىٰ تأثيرات مبهمة في المخ علىٰ حدّ قول علماء النفس(2) ، وهو

________________

(1) الاسلام والموسيقىٰ ، نقلاً عن مجلة « ديمانش ايولستر » الباريسية.

(2) psychologie

٣٦٦

عامل رئيسي في ضعف الارادة ، لأن المستع وكأنما يركز كل قواه في اُذنيه وبذلك يفقد السيطرة علىٰ سائر اعضاء جسمه ، ولهذا نشاهد احياناً حركات يقوم بها المستمع للموسيقىٰ ، دون ارادة ، وهو في الحقيقة نوع من الرقص الخفيف.

3 ـ الموسيقىٰ سبب في جمود الذهن :

ومن التأثيرات التي تتركها الموسيقىٰ علىٰ الانسان ، هو الركود والجمود الفكري والذهني ، للحد الذي سميت فيه الموسيقىٰ بحجاب العقل ، لان الانجذاب الروحي الذي يحدث عند الشخص الذي يسمع الموسيقىٰ ، يؤدي به الىٰ نوع من الصمت والتحجر العقلي ، بحيث انه حتىٰ لو كان من كبار المفكرين ، في تلك اللحظة ، يصبح عقله غير منتج ، ولو كان من كبار القضاة فسيعجز في تلك اللحظة عن البتّ في ابسط حادث ، بعبارة اخرىٰ ستتأثر قواه العقلية بالاصوات الموسيقية الىٰ حد يعجز عن استخدام عقله في المجالات العلمية ومن اجل حلّ المعضلات الاجتماعية ، ولذلك فكبار المفكرين وبعض الاحيان الطلبة الجامعيين الذين يسمعون الموسيقىٰ بكثرة ، بطيئون في الامور الفكرية ومتخلفون في مجال الرياضيات.(1)

4 ـ الموسيقىٰ سبب ارتفاع ضغط الدم :

التأثير الرابع للموسيقىٰ ، هو انها احد اسباب ارتفاع ضغط الدم ، فقد قام احد الاطباء الاوروبيين بتجربة لمعرفة العلاقة بين الموسيقىٰ وارتفاع ضغط الدم فوضع جهازاً لقياس الضغط علىٰ يديه وفتح المذياع يستمع

________________

(1) الاسلام والموسيقىٰ.

٣٦٧

لمختلف البرامج الموسيقية ، فتوصل من خلال تلك التجربة الىٰ النتائج التالية :

أ ـ كلما كانت الموسيقىٰ عنيفة اكثر ، ازداد ضغط الدم ، وعندما كان يستمع لموسيقىٰ خاملة تؤدي للكسل والانحلال. كان انخفاض مؤشر الضغط بحدّ ارعب فيه الطبيب.

ب ـ بعض البرامج الموسيقية ، لم تكن مؤثرة في المستمع بأي نحو من الانحاء.

ج ـ كان لبعض الموسيقىٰ تأثير مهدىء ، وباستمرارها لفترة جعلت الضغط ينخفض اقل من الحدّ الطبيعي.

د ـ وكانت هناك نوع من الموسيقىٰ ، لها تأثير علىٰ ضغط دم الدكتور بحيث اعتبرت تهديداً حقيقياً علىٰ صحته.(1)

5 ـ الموسيقىٰ من عوامل الجنون :

في بعض سجون روسيا الخاصة بالسجناء السياسيين هناك تعذيب خاص يسمىٰ « هومة او باتيك ». وعلىٰ غرار ذلك ، قاموا في احد سجون « روسيا » بتعريض سجين سياسي الىٰ موسيقىٰ وطنية منها النشيد الوطني الروسي. وذلك كي يعلموه حب الوطن ! لكن المسكين جُنَّ بعد خمسة اشهر فقط.(2)

________________

(1) الاسلام والموسيقىٰ ، نقلاً عن مجلة « ريدرز ايجست » ، ترجمة الدكتور صائبي.

(2) الاسلام والموسيقىٰ ، ترجمة ، جينور.

٣٦٨

6 ـ الموسيقىٰ سبب في الفجور :

ومن اهم التأثيرات الموسيقىٰ السيئة ، هي انها تسوق المستمع خاصة الفتيان والفتيات نحو الفاحشة ، لانها تحرك قواهم الشهوانية ، لأن الشباب وقبل سماعهم الموسيقىٰ ربما يعيشون حالة حياء وخجل او عوامل اخلاقية اخرىٰ لذلك لا يرضون بارتكاب اعمال حيوانية منافية للعفّة ، لكنهم يكونون مستعدين للقيام بأقبح الاعمال تحت تأثير الموسيقىٰ الصاخبة ، ولذلك يمكن القول ان الموسيقىٰ وخاصة الصاخبة منها لها دور كبير في اشاعة الفحشاء والمنكر اليوم.

7 ـ الموسيقىٰ تميت العواطف :

من تأثيرات الموسيقىٰ الاُخرىٰ ، انها تميت العاطفة والاحاسيس في مستمعها ، ولقد شوهد اشخاص كثيرون كانوا علىٰ درجة عالية من العاطفة والاحساس والشعور وكانوا يتأثرون لمشاهدة ابسط منظر ، لكنهم فقدوا تلك العاطفة وذلك الشعور بعد ان استمعوا للموسيقىٰ بشكل مستمر ، بحيث اصبحت اعنف المواقف لا تأثر فيهم قيد انملة ، وكلما ازداد سماع الموسيقىٰ قلّت العاطفة.

وهنا لابد من الاشارة الىٰ اننا قد نشاهد تأثر اهل الموسيقىٰ الشديد لمشهد بسيط يشاهدونه وقد يبكون أيضاً عليه ، ولكن هذا التأثر والبكاء سببه ضعف الارادة وعدم وجود تعادل لديهم ، لهذا علينا ان نفرّق بين العاطفة وضعف الارادة والاعصاب.

٣٦٩

اصدقائي الاعزاء !

هذهِ بعض اضرار الموسيقىٰ الصحية والنفسية ، والآن لنسمع نظريات بعض اشهر علماء اوروبا حول تأثيرات الموسيقىٰ السلبية :

رأي الدكتور ولف :(1)

ذكرت مجلة « ديمانش ايلوستر » التي تصدر في باريس :

« علىٰ الرغم من ان علماء القرن الاخير ، التفتوا الىٰ التأثيرات السيئة التي تتركها الموسيقىٰ في الانسان ، لكنه لا يزال العديد من الناس يجهلون ذلك ، حتىٰ اثبت الدكتور ولف پروفسور في جامعة كولومبيا(2) قبل سنوات ان افضل واكثر الالحان الموسيقية جذابيّة هي اكثرها تأثيراً علىٰ اعصاب الانسان ، خاصة اذا كان الطقس حاراً فان تأثيراتها المخربة تزداد ، وفي مناطق حاره مثل السعودية وبعض نواحي ايران فان تأثيرها سيء للغاية ».(3)

رأي الدكتور الكسيس كارل(4)

يقول الدكتور كارل ، عالم الفسيولوجيا الفرنسي الكبير :

________________

(1) Wolf

(2) Colombia

(3) الاسلام والموسيقى.

(4) Dr, A. carril

٣٧٠

« لربما ينتج عن ارضاء بعض الشهوات نوع من الاهمية ، ولكن ليس هناك شيء اسفه من الحياة التي لا تعرف سوىٰ الرقص والتجوال بالسيارات ومشاهدة الافلام وسمع الموسيقىٰ » !!

ويضيف : « العديد من العمال الشباب يملأون اوقات فراغهم بالذهاب لدور السينما والديسكوهات والنوادي الليلية ، او قراءة القصص السخيفة والهذيان مع بعضهم ، او سماع اكاذيب المذياع ، وبعض الطلاب لا يستطيعون حفظ دروسهم الّا عن طريق المذياع ، والمذياع ايضاً كالسينما والموسيقىٰ يجعل الذين يولعون به في غاية الكسل. ومع ان التنزه اكثر من الحدّ الطبيعي ، لا ينسجم مع الحياة. لأن الحياة عمل ، الّا ان اغلب الطلاب والموظفين والعمال و يعتبرون النزهة الشرط الوحيد في الحياة ! »

وفي بحث آخر يقول الدكتور كارل :

« ان اتجاه العمال المفرط نحو المشروبات الكحولية دمرّ مجتمعنا ، والبرامج الرياضية الرديئة التي تبث من الاذاعة او التلفزة ، اخذت بمعنويات ابناءنا ، ومع ان الحكومات منعت منذ زمن تناول لحم الحيوانات المصابة بالسلّ وأمراض اخرىٰ ، إلّا اننا بحاجة اليوم الىٰ قوانين تحدّ من انتشار تناول المشروبات الروحية المفرط والسفلس والامراض النفسية التي تسببها الافلام السينمائية والاذاعة والتلفزة والمجلات ، ولان اتلاف الوقت بمشاهدة الافلام السينمائية وسماع المذياع يقللان من الذكاء.(1)

________________

(1) الاسلام والموسيقىٰ.

٣٧١

افضل جائزة لأفضل مغني !

اصدقائي الاعزاء !

وبعد ان سمعتم بالتأثيرات السيئة التي تتركها الموسيقىٰ علىٰ صحة الانسان وسلامته النفسية ، وكذلك الىٰ نظريات كبار علماء اوروبا وامريكا في هذا الصدد ، أليس من المؤسف ان تقدم في بلادنا سنوياً جائزة لافضل ملحّن ومغني وعازف ، تبلغ قيمتها ستون الف تومان(1) في حين ان جائزة افضل كتاب في السنة لا تتعدىٰ خمسة آلاف تومان فقط ؟! ألن يتساءل العالم : ما الذي يحدث في ايران حتىٰ انها تفضل المغنين والملحنيين علىٰ العلماء ، تفضل الشاب او الشابة الذي لا يعرف سوىٰ الغناء او العزف وتلهية الشعب المسكين واغفاله ، علىٰ العالم الذي قضىٰ جلّ حياته في طلب العلم والبحث العلمي ، وفي مثل هذا البلد ما هو مصير العلماء والعلم. فهل سيتقدم ويتطور بلد تكون فيه الراقصات اكثر قيمة من العلماء ؟! واذن ، علام كل هذهِ المهاترات والتبجحات ، بدعم العلم والثقافة ؟! بالاضافة الىٰ ذلك ، أليس في هذا البلد من هو احق بمثل تلك الجوائز ؟! وأما كان من الافضل ان يعطىٰ هذا المبلغ لافضل مزارع ، حتىٰ ينتج محاصيل جيدة ، او الىٰ موظف يخدم بلده وشعبه بصدق ، او الىٰ عامل ومهني مبدع ؟! ألا يحق للانسان الذي يشاهد هذهِ الاعمال التي تجري في البلدان يقول لو اننا متخلفون عن الغرب خمسين سنة صناعياً ، فاننا وبعض حكامنا متخلفون اكثر من ذلك عن الغرب فكرياً. فالكثير من اعمال

________________

(1) صحيفة اطلاعات ، العدد 10133.

٣٧٢

التي قام بها الغرب في الخمسين سنة الماضية تركها اليوم بعد ان وقف علىٰ مضارها الصحية والاجتماعية. في حين ان بلادنا لا زالت تريد الاتجاه نحو تلك الاشياء التي نبذها الغرب ، وتخصص لها جوائز باسم الفن ! والظاهر ان الفن الايراني هذه الايام اقتصر علىٰ الغناء والرقص فقط !!

الاسلام لا يمانع من استخدام المذياع او التلفاز

ولكن.. ارحموا اطفالكم وابناءكم

ايها المسلمون الغيارىٰ ! وايها الطامحون بسعادة انفسهم وأسرهم ! ويا من لا زال ضجيج حضارة الغرب لم يصمّ اسماعهم ويستطيعون سماع الحقائق واتباعها ! تعالوا وارحموا اطفالكم وصغاركم الذين لا ذنب لهم ، واذا لم تستطيعوا السيطرة علىٰ المذياع والتلفاز داخل البيت فالافضل ان لا تدخلوهما اليه.

ايها المسلمون الغيارىٰ ! أتعلمون عظمة الذنب الذي ترتكبونه وانتم تأخذون مثل هذهِ الاجهزة الىٰ منازلكم ( مع الاخذ بالبرامج الاستعمارية التي تبثها القنوات الاستعمارية في بلادنا ) ، فبشراءكم لهذهِ الاجهزة وادخالها للبيت دون السيطرة عليها ، تجعلون افكار وعقول نساءكم وابناءكم بيد حفنة من المغنين والمغنيات والراقصات !.

ايها المسلمون الشرفاء ، كيف ترضون بأن تصبح عقول ابناءكم مراتع لأفكار هؤلاء المنحطين والفاسقين ، الذين سيبعدون ابناءكم واهليكم عن كل فضيلة وخُلُق. وبالنتيجة سيجدون بعد فترة ورغم انكم منعتم اطفالكم

٣٧٣

وابناءكم من الاختلاط بمثل هؤلاء الناس. الّا انهم يعرفون كل انواع الرقص والغناء ، أتدرون من اين تعلموا ذلك ؟ نعم انا اقول لكم ، لقد تعلموا هذا الدرس القبيح والسيء من الراديو والتلفاز الذي ادخلتموه بأيديكم الىٰ البيت.

الاذاعة والتلفزة اللتان يقع عليهما جزء كبير من مسؤولية ارشاد الناس وتوجيههم بالمعنىٰ الحقيقي ، اصبحا اداة بيد الحكومات لكي تلقن الشعب ما ترتضيه هي ، وهذه الادوات في بلادنا اصبحت تعرّف لنا الراقصات والاميين والمستبدين بعناوين مختلفة مثل الفنانات والشخصيات البارزة والرجال العظماء و...!

اصدقائي الاعزاء !

ألا تعلمون ان الجهاز الاعلامي في بلادنا اصبح من اهم اسباب شقاء المجتمع وتعاسته ، ويقوم بتوجيه شبابنا وصغارنا ( جيل المستقبل ) نحو الرذيلة والفساد والشقاء دون ضجّة وبأعصاب باردة جداً ، وللأسف الشديد نشاهد انتشار هذين الجهازين ( المذياع والتلفاز ) في جميع الاماكن ، فالاسر التي لا تجد لقمة عيش تسدّ بها جوع اطفالها ، لابد ان تشتري احد هذين وخاصة التلفاز لانه اصبح من ضروريات الحياة الحديثة كما يقولون !!! وارجو ان لا نتصور ان الاسلام يحرم المذياع او التلفاز بحد ذاتها ، فهذان الجهازان قيمان جداً ، ويمكن الاستفادة منهما كثيراً في تثقيف الناس ورفع المستوىٰ العلمي ، اما عدم جوازه للجميع فهو بسبب البرامج التي تبثها هذهِ الاجهزة

٣٧٤

اليوم ، ولانهما اصبحا منطلقاً لتنفيذ مخططات الاعداء في افساد الشاب وتدمير ثقافة الامة والشعب ، ولان الاذاعة والتلفزة اصبحتا مركزاً للهو والفساد والغناء ، وهما من عوامل تخلف الناس فكرياً وروحياً ، ولهذا السبب يعتبر امتلاك المذياع والتلفاز غير جائز للجميع ، لانهما فارغان من البرامج المفيدة وليس فيها الا اغنية تتلوها اغنية اخرىٰ ورقص يتلوه رقص آخر و... هكذا ، فهل وصل هذا الشعب المسكين الىٰ هذهِ الدرجة من السعادة في العيش ، بحيثُ لابد ان يقضي ساعات طويلة من يومه بالغناء والرقص !!

اجل كل ذلك من اجل خنق صوت الشعب ، واغفاله عن التفكير بثرواته التي تنهب ، ومن اجل ان لا يلتفت الىٰ حياة الذل التي يعيشها ، وحتىٰ لا يفكر : الىٰ متىٰ نكون تبعاً للأجانب الذين يقضون في كل شاردة وواردة عندنا ، في حين ان العديد من شعبنا يموت لانه لا يمتلك ما يأكله او حتىٰ جرعة ماء مصفّىٰ يشربها ، والظاهر ان الاجانب وعملاؤهم لم يجدوا افضل من هذهِ الوسائل لاغفال الناس وألهاءهم ، وليس هناك افضل من تلك الاصوات العذبة ! والراقصات ( الفنانات ) الجميلات ! لهذا الغرض.

أليست هذهِ الالحان الراقصة والملهية ، هي ـ علىٰ الاقل ـ مصداقاً بارزاً لـ « اللهو واللعب » الذي ينهىٰ عنه القرآن الكريم.

٣٧٥

المشروبات الكحولية

آه يا ناس ادركوني قتلني هذا النذل هذا الساقط

بمجرد سماعهم لهذهِ الكلمات نهض الركاب من مكانهم وخرجوا من غرفهم ليعرفوا حقيقة الامر وما الذي حدث ، وهكذا خرج الشيخ واصدقاءه ليروا ما الامر ، لكن ازدحام المسافرين الذين كانوا ينظرون الىٰ حادث وقع ، حال دون مشاهدتهم ، لكن شرطة القطار قامت بتفريق المسافرين وادخالهم الىٰ غرفهم ، وبما ان غرفة الشيخ كانت قريبة من مكان الحادث ، لذلك تمكنوا من ان يشاهدوا جثة شاب ملقات علىٰ الأرض تسبح بدمائها فيما الشرطة تمسك بشاب آخر ثمل واقتادته الىٰ جهة اخرىٰ من القطار. وعندما سأل الشيخ واصدقاءه عن الحادث ، قال بعض المسافرين : ان هذين الشابان كان يلعبان القمار وهما ثملين وبعد ربح وخسارة لكل منهما اخذا يتمازحان ، لكن مزاحهم انتهىٰ الىٰ العراك ، ولم نسمع إلّا واحدهما ينادي : آه يا ناس ادركوني قتلني هذا النذل هذا الساقط ، فخرجنا ورأينا ما شاهدتموه انتم أيضاً ، فتأثر الشيخ واصدقاءه كثيراً لهذا الحادث واقفلوا راجعين الىٰ غرفهم.

الدكتور : لا ادري اي مرض هذا القمار والخمر الذي ينتشر بين هذا الشعب المسكين ، ومسؤولي البلد غافلون ولا يعملون شيئاً لتخليص الناس منه.

٣٧٦

عباس بيضاوي : ماذا تفعل الدولة ، فالمشروب لا يمكن اجتثاثه ، لانه ضروري في بعض الاحيان ! وعلىٰ الناس ان لا يفرطوا في تناوله.

الشيخ : اتدري ماذا تقول يا سيد بيضاوي ، فهل تريد ان يبقىٰ هذا السمّ المهلك في البلد ؟! اتدري ما الذي تفعله المشروبات بأجسام هذا الشعب المسكين والشقيّ ؟

عباس بيضاوي : اعلم بعض مضاره ، ولكن ليست بحد الذي ادعوا لاجتثاثه من البلد ، فإذا تفضلت علينا برأي الصحة والطب فيه ، لربما اشاركك الرأي في منعه تماماً.

الشيخ : ان مضار المشروبات الكحولية اكثر من ان احصيها في هذه العجالة ، لكني سأتحدث عنها باختصار :

1 ـ المعتادون علىٰ المشروبات الكحولية اعمارهم قصيرة :

اثبت الدكتور باركر احد اشهر اطباء نيويورك. ان موت خمسين شاباً ( 21 ـ 22 سنة ) من المدمنين علىٰ شرب المسكر ، يقابله موت اقل من عشرة شباب غير مدمنين عليه.

وكذلك ، طبقاً للابحاث التي قام بها الانجليزي المشهُور بيسون ، فإن الشباب الذين يتصور انهم يعيشون الىٰ سنّ الخمسين سنة. لا تستمر اعمارهم اكثر من خمس وثلاثين سنة بسبب تناول المشروبات الكحولية.

ويقول السيد « توماس هويتغر » ان شركات التأمين علىٰ الحياة ، ثبت لديها ان اعمار الاشخاص المدمنين علىٰ تناول المشروبات الكحولية اقل من

٣٧٧

اعمار الآخرين بنسبة 25 الىٰ 30 بالمئة ؛ أي لو كان متوسط اعمار غير المدمنين اربعين سنة ، فان متوسط اعمار المدمنين سيكون ثلاثون او ثمان وعشرون سنة.(1)

ويقول وزير الصحة الفرنسي ( برناردشنو ) في احصائية مدهشة حول خسائر المشروبات الكحولية :

« ان خسائر الافراط في تناول المشروبات الكحولية بلغ سنة 1956 عشريف الف شخص »(2) .

ويقول الامين العام للجنة الدولية لمكافحة المسكرات :

ان 25% من الاخطار والسوانح التي تظهر في العمل ، و 57% من حوادث السيارات في فرنسا سببها استعمال المشروبات الكحولية.(3)

2 ـ المشروبات يؤدي الىٰ مرض الكحولية :

يقول الطبيب الفرنسي المعروف ، السيد دوبوي ، في كتابه « الطب الحديث » : تسوق المشروبات متناوليها نحو مرض يسمىٰ الكحولية ( Alcoholism ) ، فالسكران يشعر في بداية الامر بنوع من اللذة والنشوة ، لكن تلك اللذة تتحول بسرعة الىٰ ألم وضعف ، ولكن هذهِ اللذة السريعة هي التي تجعل الاشخاص يدمنون علىٰ شرب المسكر ، وهذا الادمان والافراط في شرب المسكر يؤدي بهم الىٰ نوع من التسمم يسري في جميع الاعضاء والدم و

________________

(1) مضار المشروبات الكحولية.

(2) مجلة الصحة ، العدد 12.

(3) المصدر نفسه.

٣٧٨

يصل الامر الىٰ سوء الهضم وتعطل عمل المعدة والكبد ، وتسوء حالة المجاري التنفسية وكذلك المجاري البولية ، ويظهر اختلال في الاعصاب ، وبالنهاية يؤدي الىٰ الجنون والخرف ، وفي بعض الاحيان يموت الشخص قبل تلك الحالة ؟

يقول الدكتور « غاليته بواسيه » الفرنسي :

في جميع المشروبات الكحولية سمّ يدعىٰ الكحول ( Alcohol ) وطبيعي كلما كان الحكول كثيراً في المشروبات ازدادت اضراره أيضاً.

ولهذا فالخمرة التي يوجد في كل عشرين غرام منها 8 ـ 10 غرامات كحول تكون اكثر ضراراً من سائر المشروبات الروحية.

والكحولية : هي التسمم الذي ينشأ عن الافراط في تناول المشروبات الكحولية والتي تؤدي الىٰ تلف احشاء المريض وتوقف العديد من اعضائه ، فيتجه المدمن نحو الموت دون ان يشعر ، والكحولية لا تحدث فجأة ، بل تظهر بالتدريج »(1) .

3 ـ تأثير المشروبات الكحولية علىٰ الدورة الدموية :

ان تناول الكحول يؤدي الىٰ الاخلال في عمل الدم وايصاله الغذاء الىٰ انسجة الجسم. كما تؤدي الىٰ تراكم الدهنيات المحيطة بالقلب مما يضعّف حركة القلب ، لذلك ، فان نبض المدمنين علىٰ الكحول بطيء في الغالب وغير منظم ، وهو السبب في اكثر امراض القلب ، كما ان الكحول يؤدي الىٰ

________________

(1) مضار المشروبات الكحولية.

٣٧٩

تصلب الشرايين وبالنتيجة الىٰ ارتفاع ضغط الدم ، وقد ينتهي الامر بتمزق الشراين.(1)

4 ـ تأثير المشروبات الكحولية علىٰ القلب :

ذكر استاذ كلية الطب ورئيس مستشفىٰ « سينا » في خطاب له :

« مع ان للقلب عصبان : احدهما. « بنومونماستريك » الذي يبطيء الانقباضات او يجعلها معتدلة ، والآخر ، « سمباتيك » الذي يسرّع الانقباضات ، فلو قطع هذين العصبين ، لأستمر القلب في نشاطه ، بشرط أن لا يكون الشخص مدمناً علىٰ الكحول اولاً ، ومصاباً بمرض السفلس ثانياً »(2)

5 ـ تأثير المشروبات الكحولية علىٰ الجهاز التنفسي :

ان المشروبات الكحولية تؤدي الىٰ تورم الحنجرة والقصبة الهوائية فيخشن صوته ويزداد عنده السعال نتيجة للتحريكات التي تحصل في القصبة.

كما ان المشروبات الكحولية تجعل الانسان المستعد يصاب بمرض السلّ ، فالاحصائيات اشارت الىٰ ان اغلب المسلولين هم من المدمنين علىٰ المشروبات الكحولية.

وقد اثبت « البروفسور ماس » ان لمرض السلّ الرئوي ارتباط وثيق

________________

(1) المصدر نفسه.

(2) م. ن.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606