الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 252079 / تحميل: 6012
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) .

«الأذن» في الأصل تطلق على الجزء الظاهر من الحاسة السامعة (الصيوان) ، لكنّها تطلق على الأفراد الذين يصغون كثيرا لكلام الناس أو كما يقال : سمّاع.

هؤلاء المنافقون اعتبروا هذه الصفة ـ والتي هي سمة ايجابية للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي يجب توفرها في أي قائد كامل ـ نقطة ضعف في سيرته ومعاملتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكأنّهم غفلوا عن أن القائد إذا أراد أن يحبه الناس لا بدّ أن يظهر لهم كل محبّة ولطف ، وأن يقبل عذر المعتذر ما أمكن ، ويستر على عيوبهم ، (إلّا أن تكون هذه الصفة الحميدة سببا لاستغلالها من قبل البعض).

من هنا نلاحظ أنّ القرآن قد ردّهم مباشرة ، وأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهم بأنّه إذا كان يصغي لكلامكم ، ويقبل أعذاركم ، أو كما تظنون بأنّه أذن ، فإنّ ذلك في مصلحتكم ولمنفعتكم( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ) ، فإنّه بذلك يحفظ ماء وجوهكم وشخصيتكم ، ولا يجرح شعوركم وعواطفكم ، وبذلك ـ أيضا ـ يسعى لحفظ وحدتكم واتحادكم ومودتكم ، ولو أراد أن يرفع الستار عن أفعالكم القبيحة ، ويفضح الكاذبين على رؤوس الأشهاد ، لضرّكم ذلك وشق عليكم ، وافتضح عدّة منكم ، وعندها سيغلق أمامهم باب التوبة ممّا يؤدي إلى توغلهم في الكفر والابتعاد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن كان من المحتمل هدايتهم.

إن القائد الرحيم والمحنّك يجب أن يكون مطّلعا على كل شيء ، لكن لا ينبغي له أن يجابه أفراده بأمورهم الخاصّة والمجهولة عند الآخرين حتى يتربى من لهم الاستعداد والقابلية وتبقى اسرار الناس في طي الكتمان.

ويحتمل في تفسير الآية أن يراد معنى آخر ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في جواب هؤلاء الذين يعيبون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إصغاءه للآخرين : ليس الأمر كما تظنون بأنّه يسمع كل ما يقال له ، بل إنّه يصغي إلى الكلام الذي فيه نفعكم ، أي أنّه يسمع الوحي الإلهي ، والاقتراح المفيد ، ويقبل اعتذار الأفراد إذا كان هذا القبول

١٠١

في صالح المعتذرين والمجتمع(١) .

ومن أجل أن لا يستغل المتتبعون لعيوب الناس ذلك ، ولا يجعلون هذه الصفة وسيلة لتأكيد كلامهم ، أضاف الله تعالى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤمن بالله ويطيع أوامره ، ويصغي إلى كلام المؤمنين المخلصين ، ويقبله ويرتب عليه الأثر ،( يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ، وهذا يعني أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له طريقان وأسلوبان في عمله :

أحدهما : الحفاظ على الظاهر والحيلولة دون هتك الأستار وفضح أسرار الناس.

والثّاني : في مرحلة العمل ، فقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البداية يسمع من كل أحد ، ولا ينكر على أحد ظاهرا ، أمّا في الواقع العملي فإنّه لا يعتني ولا يقبل إلّا أوامر الله واقتراحات وكلام المؤمنين المخلصين ، والقائد الواقعي يجب أن يكون كذلك فإن تأمين مصالح المجتمع لا يتم إلّا عن هذا الطريق ، لذلك عبر عنه بأنّه رحمة للمؤمنين( وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

ويمكن أن يطرح هنا سؤال ، وهو أننا نلاحظ في بعض الآيات التعبير عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه( رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) ،(٢) لكننا نقرأ هنا أنّه رحمة للمؤمنين ، فهل يتطابق ذلك العموم مع هذا التخصيص؟

إلّا أنّنا إذا لا حظنا نقطة دقيقة سيتّضح جواب هذا السؤال ، وهي أنّ للرحمة درجات ومراتب متعددة ، فإحداها مرتبة (القابلية والاستعداد) ، والأخرى (الفعلية).

فمثلا : المطر رحمة إلهية ، أي أنّ هذه القابلية واللياقة موجودة في كل قطرات المطر ، فهي منشأ الخير والبركة والنمو والحياة ، لكن من المسلّم أنّ آثار هذه

__________________

(١) في الحقيقة ، بناء على التّفسير الأوّل فإنّ( أُذُنُ خَيْرٍ ) التي هي مضاف ومضاف إليه من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة ، وعلى التّفسير الثّاني فهي من قبيل إضافة الوصف إلى المفعول ، فعلى الاحتمال الأوّل يكون المعنى ، إنّه إنسان يقبل الكلام وهو خير لكم ، وعلى الاحتمال الثّاني فالمعنى : إنّه يسمع الكلام المفيد الذي ينفعكم ، لا أنّه يسمع كل كلام.

(٢) الأنبياء ، ١٠٧.

١٠٢

الرحمة لا تظهر إلّا في الأراضي المستعدّة ، وعلى هذا فإنّه يصح قولنا : إنّ جميع قطرات المطر رحمة ، كما يصح قولنا : إنّ هذه القطرات أساس الرحمة في الأراضي التي لها القابلية والاستعداد لتقبل هذه الرحمة ، فالجملة الأولى إشارة إلى مرحلة (الاقتضاء والقابلية) ، والجملة الثّانية إشارة إلى مرحلة (الوجود والفعل) ، وعلى هذا فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أساس الرحمة لكل العالمين بالقوة ، أمّا بالفعل فهو مختص بالمؤمنين.

بقي هنا شيء واحد ، وهو أنّ هؤلاء الذين يؤذون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلامهم ويتتبعون أحواله لعلهم يجدون عيبا يشهّرون به يجب أن لا يتصوروا أنّهم سوف يبقون بدون جزاء وعقاب ، فصحيح أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمور ، ومن واجبه ـ كقائد ـ أن يقابل هؤلاء برحابة صدر ولا يفضحهم ، لكن هذا لا يعني أنّهم سوف يبقون بدون جزاء ، ولهذا قال تعالى في نهاية الآية :( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

* * *

١٠٣

الآيتان

( يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) )

سبب النّزول

يستفاد من أقوال بعض المفسّرين أنّ الآيتين المذكورتين مكملتان للآية السابقة ، ومن الطبيعي أن يكون سبب نزولها نفس السبب السابق ، إلّا أن جمعا آخر من المفسّرين ذكر سببا آخر لنزول هاتين الآيتين ، وهو أنّه لما نزلت الآيات التي ذمت المتخلفين عن غزوة تبوك ووبختهم قال أحد المنافقين : أقسم بالله أنّ هؤلاء أشرافنا وأعياننا ، فإن كان ما يقوله محمّد حقّا فإنّ هؤلاء أسوا حالا من الدواب ، فسمعه أحد المسلمين وقال : والله إن ما يقوله لحق ، وإنّك أسوأ من الدابة. فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعث إلى ذلك المنافق فأحضر ، فسأله عن سبب قوله ذلك الكلام ، فحلف أنّه لم يقل ذلك ، فقال الرجل المؤمن الذي كان طرفا في خصومة الرجل وأبلغ كلامه لرسول الله : اللهم صدّق الصادق وكذّب الكاذب. فنزلت الآيتين أعلاه.

١٠٤

التّفسير

المنافقون والتظاهر بالحق :

إن إحدى علامات المنافقين وأعمالهم القبيحة والتي أشار إليها القرآن مرارا هي إنكارهم الأعمال القبيحة والمخالفة للدين والعرف ، وهم إنّما ينكرونها من أجل التغطية على واقعهم السيء وإخفاء الصورة الحقيقية لهم ، ولما كان المجتمع يعرفهم ويعرف كذبهم في هذا الإنكار فقد كانوا يلجؤون إلى الأيمان الكاذبة من أجل مخادعة الناس وإرضائهم.

وفي الآيات السابقة الذكر نرى أنّ القرآن المجيد يكشف الستار عن هذا العمل القبيح ليفضح هؤلاء من جهة ، ويحذّر المسلمين من تصديق الإيمان الكاذبة من جهة أخرى.

في البداية يخاطب القرآن الكريم المسلمين وينبههم إلى أنّ هدف هؤلاء من القسم هو إرضاؤكم( يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ) ، ومن الواضح إذن أن هدف هؤلاء من هذه الأيمان لم يكن بيان الحقيقة ، بل إنّهم يسعون عن طريق المكر والخديعة إلى أن يصوروا لكم الأشياء والواقع على غير صورته الحقيقة ، ويصلون عن هذا الطريق إلى مقاصدهم ، وإلّا فلو كان هدفهم هو إرضاء المؤمنين الحقيقيين عنهم ، فإنّ إرضاء الله ورسوله أهم من إرضاء المؤمنين ، غير أنا نرى أنّهم بأعمالهم هذه قد أسخطوا الله ورسوله ، ولذا عقبت الآية فقالت :( وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ ) .

ممّا يلفت النظر أن الجملة المذكورة لما كانت تتحدث عن الله ورسوله ، فعلى القاعدة النحوية ينبغي أن يكون الضمير في «يرضوه» ضمير التثنية غير أن المستعمل هنا هو ضمير المفرد ، وهذا الاستعمال والتعبير يشير إلى أن رضا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رضا الله. بل أنّه لا يرتضي من الأعمال إلّا ما يرتضيه الله سبحانه ، وبعبارة أخرى : فإنّ هذا التعبير يشير إلى حقيقة (توحيد الأفعال) ، لأنّ النّبي

١٠٥

الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يملك استقلالية العمل في مقابل الله ، بل إن غضبه ورضاه وكل أعماله تنتهي إلى الله ، فكل شيء من أجل الله وفي سبيله.

روي أنّ رجلا في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ضمن كلامه : من أطاع الله ورسوله فقد فاز، ومن عصاهما فقد غوى. فلما سمع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلامه غضب ـ حيث أن الرجل ذكر الله ورسوله بضمير التثنية فكأنّه جعل الله ورسوله في درجة واحدة ـ وقال : «بئس الخطيب أنت ، هلا قلت : ومن عصى الله ورسوله»(١) ؟!

وفي الآية الثّانية نرى أنّ القرآن يهدد المنافقين تهديدا شديدا ، فقال :( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ) ومن أجل أن يؤكّد ذلك أضاف تعالى( ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ) .

(يحادد) مأخوذ من (المحادّة) وأصلها (حدّ) ، ومعناها نهاية الشيء وطرفه ، ولما كان الأعداء والمخالفون يقفون في الطرف الآخر المقابل ، لذا فإن مادة (المحادّة) قد وردت بمعنى العداوة أيضا ، كما نستعمل كلمة (طرف) في حياتنا اليومية ونريد منها المخالفة والعداوة.

* * *

__________________

(١) تفسير أبي الفتوح الرازي ، ذيل الآية.

١٠٦

الآيات

( يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) )

سبب النّزول

ذكرت عدّة أسباب لنزول هذه الآيات ، وكلّها ترتبط بأعمال المنافقين بعد غزوة تبوك. فمن جملتها : إنّ جمعا من المنافقين كانوا قد اجتمعوا في مكان خفي وقرّروا قتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند رجوعه من غزوة تبوك ، وكانت خطتهم أن ينصبوا كمينا في إحدى عقبات الجبال الصعبة ، وعند ما يمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تلك العقبة ينفرون بعيره ، فأطلع الله نبيّه على ذلك ، فأمر جماعة من المسلمين بمراقبة الطريق والحذر ، فلمّا وصل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى العقبة ـ وكان عمار يقود الدابة وحذيفة يسوقها ـ اقترب المنافقون متلثّمين لتنفيذ مؤامرتهم فأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حذيفة أن يضرب وجوه دوابهم ويدفعهم ، ففعل حذيفة ذلك.

فلمّا جاوز النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العقبة ـ وقد زال الخطر ـ قال لحذيفة : هل عرفتهم؟ فقال:

١٠٧

لم أعرف أحدا منهم ، فعرّفه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهم ، فقال حذيفة : ألا ترسل إليهم من يقتلهم؟ فقال : «إني أكره أن تقول العرب : إنّ محمّدا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه».

وقد نقل سبب النزول هذا عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، وجاء أيضا في العديد من كتب التّفسير والحديث.

وذكر سبب آخر للنزول وهو : أنّ مجموعة من المنافقين لما رأوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تهيّأ للقتال واصطف أمام الأعداء ، قال هؤلاء بسخرية : أيظن هذا الرجل أنّه سيفتح حصون الشام الحصينة ويسكن قصورها ، إن هذا الشيء محال ، فأطلع الله نبيّه على ذلك ، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسدوا عليهم المنافذ والطرق ، ثمّ ناداهم ولا مهم وأخبرهم بما قالوا ، فاعتذروا بأنّهم إنّما كانوا يمزحون وأقسموا على ذلك.

التّفسير

مؤامرة أخرى للمنافقين :

لا حظنا في الآيات السابقة كيف أنّ المنافقين اعتبروا نقاط القوّة في سلوك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقاط ضعف ، وكيف حاولوا استغلال هذه المسألة من أجل بثّ التفرقة بين المسلمين. وفي هذه الآيات إشارة إلى نوع آخر من برامجهم وطرقهم.

فمن الآية الأولى يستفاد أنّ الله سبحانه وتعالى يكشف الستار عن أسرار المنافقين أحيانا ، وذلك لدفع خطرهم عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفضحهم أمام الناس ليعرفوا حقيقتهم ، ويحذروهم وليعرف المنافقون موقع اقدامهم ويكفّوا عن تآمرهم ، ويشير القرآن إلى خوفهم من نزول سورة تفضحهم وتكشف خبيئة أسرارهم فقال :( يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ) .

إلّا أنّ العجيب في الأمر أن هؤلاء ولشدة حقدهم وعنادهم لم يكفّوا عن استهزائهم وسخريتهم ، لذلك تضيف الآية : بأنّهم مهما سخروا من أعمال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٠٨

فإن الله لهم بالمرصاد وسوف يظهر خبيث أسرارهم ويكشف عن دنيء نيّاتهم ، فقال :( قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ ) .

تجدر الإشارة إلى أنّ جملة (استهزءوا) من قبيل الأمر لأجل التهديد كما يقول الإنسان لعدوّه : اعمل كل ما تستطيع من أذى وإضرار لترى عاقبة أمرك ، ومثل هذه الأساليب والتعبيرات تستعمل في مقام التهديد.

كما يجب الالتفات إلى أنّنا نفهم من الآية بصورة ضمنية أنّ هؤلاء المنافقين يعلمون بأحقية دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدقها ، ويعلمون في ضميرهم ووجدانهم ارتباط النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالله سبحانه وتعالى ، إلّا أنهم لعنادهم وإصرارهم بدل أن يؤمنوا به ويسلموا بين يديه ، فإنّهم بدأوا بمحاربته وإضعاف دعوته المباركة ، ولذلك قال القرآن الكريم :( يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ) .

وينبغي الالتفات إلى أنّ جملة( تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ) لا تعني أن أمثال هذه الآيات كانت تنزل على المنافقين ، بل المقصود أنّها كانت تنزل في شأن المنافقين وتبيّن أحوالهم.

أمّا الآية الثّانية فإنّها أشارت إلى أسلوب آخر من أساليب المنافقين ، وقالت :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ) (١) . أي إذا سألتهم عن الدافع لهم على هذه الأعمال المشينة قالوا : نحن نمزح وبذلك ضمنوا طريق العودة ، فهم من جهة كانوا يخططون المؤامرات ، ويبثون السموم ، فإذا تحقق هدفهم فقد وصلوا إلى مآربهم الخبيثة أمّا إذا افتضح أمرهم فإنّهم سيتذرعون ويعتذرون بأنّهم كانوا يمزحون ، وعن هذا الطريق سيتخلصون من معاقبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس لهم.

إن المنافقين في أي زمان ، تجمعهم وحدة الخطط ، والضرب على نفس الوتر ،

__________________

(١) خوض على وزن حوض ، وهو ـ كما ورد في كتب اللغة ـ بمعنى الدخول التدريجي في الماء ، ثمّ أطلقت على الدخول في مختلف الأعمال من باب الكناية ، إلّا أنّها جاءت في القرآن غالبا بمعنى الدخول أو الشروع بالأعمال أو الأقوال القبيحة البذيئة.

١٠٩

لذا فلهم نغمة واحدة ، وهم كثيرا ما يستفيدون ويتبعون هذا الطرق ، بل إنّهم في بعض الأحيان يطرحون أكثر المسائل جدية لكن بلباس المزاح الساذج البسيط ، فإن وصلوا إلى هدفهم وحققوه فهو ، وإلّا فإنّهم يفلتون من قبضة العدالة بحجّة المزاح.

غير أنّ القرآن الكريم واجه هؤلاء بكل صرامة ، وجابههم بجواب لا مفرّ معه من الإذعان للواقع ، فأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطبهم( قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ) ، أي إنّه يسألهم : هل يمكن المزاح والسخرية حتى بالله ورسوله وآيات القرآن؟!

هل إنّ هذه المسائل التي هي أدق الأمور وأكثرها جدية قابلة للمزاح؟!

هل يمكن إخفاء قضية تنفير البعير وسقوط النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تلك العقبة الخطيرة ، والتي تعني الموت ، تحت عنوان ونقاب المزاح؟ أم أنّ السخرية والاستهزاء بالآيات الإلهية وإخبار النّبي بالانتصارات المستقبلية من الأمور التي يمكن أن يشملها عنوان اللعب؟ كل هذه الشواهد تدل على أنّ هؤلاء كان لديهم أهداف خطيرة مستترة خلف هذه الأستار والعناوين.

ثمّ يأمر القرآن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول للمنافقين بصراحة :( لا تَعْتَذِرُوا ) ، والسبب في ذلك أنّكم( قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ) ، فهذا التعبير يشعر أن هذه الفئة لم تكن منذ البداية في صف المنافقين ، بل كانوا مؤمنين لكنّهم ضعيفو الإيمان ، بعد هذه الحوادث الآنفة الذكر سلكوا طريق الكفر.

ويحتمل أيضا في تفسير العبارة أعلاه أن هؤلاء كانوا منافقين من قبل ، إلّا أنّهم لم يظهروا عملا مخالفا ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين كانوا مكلّفين أن يعاملوهم كأفراد مؤمنين ، لكن لما رفع النقاب بعد أحداث غزوة تبوك ، وظهر كفرهم ونفاقهم أعلم هؤلاء بأنّهم لم يعودوا من المؤمنين.

واختتمت الآية بهذه العبارة :( إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ

١١٠

كانُوا مُجْرِمِينَ ) فهي تبيّن أنّ طائفة قد استحقت العذاب نتيجة الذنوب والمعاصي ، وهذا دليل على أن أفراد الطائفة الأخرى إنّما شملهم العفو الإلهي لأنّهم غسلوا ذنوبهم ومعاصيهم بماء التوبة من أعماق وجودهم.

وفي الآيات القادمة ـ كالآية ٧٤ ـ قرينة على هذا المبحث.

وقد وردت روايات عديدة في ذيل الآية ، تبيّن أن بعض هؤلاء المنافقين الذين مرّ ذكرهم في هذه الآيات قد ندموا على ما بدر منهم من أعمال منافية للدين والأخلاق فتابوا، غير أن البعض الآخر قد بقي على مسيرته حتى النهاية.

ولمزيد التوضيح والاطلاع راجع : تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٣٩.

* * *

١١١

الآيات

( الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) )

١١٢

التّفسير

علامات المنافقين :

البحث في هذه الآيات يدور كالسابق حول سلوك المنافقين وعلاماتهم وصفاتهم ، «فالآية الأولى من هذه الآيات تشير إلى أمر كلّي ، وهو أن روح النفاق يمكن أن تتجلّى بأشكال مختلفة وتبدو في صور متفاوتة بحيث لا تلفت النظر في أوّل الأمر ، خصوصا أن روح النفاق هذه يمكن أن تختلف بين الرجل والمرأة ، لكن يجب أن لا يخدع الناس بتغيير صور النفاق بين المنافقين ، المنافقين يشتركون في مجموعة من الصفات تعتبر العامل المشترك فيما بينهم ، لذلك يقول الله سبحانه :( الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ) .

وبعد ذلك يشرع القرآن الكريم في ذكر خمس صفات لهؤلاء :

الأولى والثّانية : إنّهم يدعون الناس إلى فعل المنكرات ويرغبونهم فيها من جهة ، ويبعدونهم وينهونهم عن فعل الأعمال الصالحة من جهة أخرى( يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ) أي أنّهم يسلكون طريقا ويتّبعون منهاجا هو عكس طريق المؤمنين تماما ، فإنّ المؤمنين يسعون دائما ـ عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ إلى أن يصلحوا المجتمع وينقوه من الشوائب والفساد ، بينما يسعى المنافقون إلى إفساد كل زاوية في المجتمع واقتلاع جذور الخير والأعمال الصالحة من بين الناس من أجل الوصول إلى أهدافهم المشؤومة ، ولا شك أنّ وجود مثل هذا المحيط الفاسد والبيئة الملوّثة ستساعدهم كثيرا في تحقيق أهدافهم.

الثّالثة : إنّ هؤلاء بخلاء لا يتمتعون بروح الخير للناس فلا ينفقون في سبيل الله ، ولا يعينون محروما ، ولا يستفيد أقوامهم ومعارفهم من أموالهم ، فعبّر عنهم القرآن :( وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ) ولا شك أنّ هؤلاء إنّما يبخلون بأموالهم لأنّهم لا يؤمنون بالآخرة والثواب والجزاء المضاعف لمن أنفق في سبيل الله ، بالرغم من أنّهم كانوا

١١٣

يبذلون الأموال الطائلة من أجل الوصول إلى أغراضهم وآمالهم الشريرة الدنيئة ، وربّما بذلوها رياء وسمعة ، لكنّهم لا يقدمون على البذل على أساس الإخلاص لله سبحانه وتعالى.

الرّابعة : إنّ كل أعمالهم وأقوالهم وسلوكهم يوضح أن هؤلاء قد نسوا الله ، والوضع الذي يعيشونه يبيّن أن الله قد نسيهم في المقابل ، وبالتالي فإنّهم قد حرموا من توفيق الله وتسديده ومواهبه السنية ، أي أنّه سبحانه قد عاملهم معاملة المنسيين ، وآثار وعلامات هذا النسيان المتقابل واضحة في كل مراحل حياتهم ، وإلى هذا تشير الآية :( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ) .

وهنا نودّ الإشارة إلى أن نسبة النسيان إلى الله جلّ وعلا ليست نسبة واقعية وحقيقية ـ كما هو المعلوم بديهة ـ بل هي كناية عن معاملة لهؤلاء معاملة الناسي ، أي إنّه لا يشملهم برحمته وتوفيقه لأنّهم نسوه في البداية ، ومثل هذا التعبير متداول حتى في الحياة اليومية بين الناس ، فقد نقول لشخص مثلا : إنّنا سوف ننساك عند إعطاء الأجرة أو الجائزة لأنّك قد نسيت واجبك ، وهذا تعبير يعني أنّنا سوف لا نعطيه أجره ومكافأته. وهذا المعنى ورد كثيرا في روايات أهل البيتعليهم‌السلام (١) .

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ موضوع نسيان الله تعالى قد عطف بفاء التفريع على نسيان هؤلاء القوم ، وهذا يعني أنّ نتيجة نسيان هؤلاء لأوامر الله تعالى وطغيانهم وعصيانهم هي حرمانهم من مواهب الله ورحمته وعنايته.

الخامسة : إنّ المنافقين فاسقون وخارجون من دائرة طاعة أوامر الله سبحانه وتعالى ، وقالت الآية :( إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) .

ونلاحظ أنّ هذه الصفات المشتركة متوفرة في المنافقين في كل الاعصار. فمنافقو عصرنا الحاضر وإن تلبسوا بصور وأشكال جديدة ، إلّا أنّهم يتحدون في الصفات والأصول المذكورة أعلاه مع منافقي العصور الغابرة ، فإنّهم كسابقيهم

__________________

(١) راجع تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

١١٤

يدعون الناس إلى الفساد ويرغبونهم فيه ، وينهون الناس عن فعل الخير ويمنعونهم إن استطاعوا ، وكذلك في بخلهم وإمساكهم وعدم إنفاقهم ، وبعد كل ذلك فإنّهم يشتركون في الأصل الأهم ، وهو أنّهم قد نسوا الله سبحانه وتعالى في جميع مراحل حياتهم ، وتعديهم على قوانينه وفسقهم. وممّا يثير العجب أنّ هؤلاء بالرغم من كل هذه الصفات القبيحة السيئة يدّعون الإيمان بالله والإعتقاد الرصين بأحكام الدين الإسلامي وأصوله ومناهجه!

في الآية التي تليها نلاحظ الوعيد الشديد والإنذار بالعذاب الأليم والجزاء الذي ينتظر هؤلاء حيث تقول :( وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ ) وأنّهم سيخلدون في هذه النّار المحرقة( خالِدِينَ فِيها ) وأن هذه المجازاة التي تشمل كل أنواع العذاب والعقوبات تكفي هؤلاء ، إذ( هِيَ حَسْبُهُمْ ) وبعبارة أخرى : إنّ هؤلاء لا يحتاجون إلى عقوبة أخرى غير النّار ، حيث يوجد في نار جهنم كل أنواع العذاب : الجسمية منها والروحية.

وتضيف الآية في خاتمتها أن الله تعالى قد أبعد هؤلاء عن ساحة رحمته وجازاهم بالعذاب الأبدي( وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ ) ، بل إن البعد عن الله تعالى يعتبر بحد ذاته أعظم وأشد عقوبة وآلمها.

تكرر التأريخ والإعتبار به :

من أجل توعية هؤلاء المنافقين ، وضعت الآية الآتية مرآة التاريخ أمامهم ، ودعتهم إلى ملاحظة حياتهم وسلوكهم ومقارنتها بالمنافقين والعتاة المردة الذين تمردوا على أوامر الله سبحانه وتعالى ، وأعطتهم أوضح الدروس وأكثرها عبرة ، فذكّرهم بأنّهم كالمنافقين الماضين ويتبعون نفس المسير وسيلقون نفس المصير :( كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) علما أنّ هؤلاء( كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً ) .

وكما أنّ هؤلاء قد تمتعوا بنصيبهم في هذه الحياة الدنيا ، وصرفوا أعمارهم في

١١٥

طريق قضاء الشهوات والمعصية والفساد والانحراف ، فإنّكم قد تمتعتم بنصيبكم كهؤلاء :( فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ) والخلاق في اللغة بمعنى النصيب والحصة ، يقول الراغب في مفرداته : أنّها مأخوذة من مادة (خلق) ، ويحتمل ـ على هذا ـ أن الإنسان قد يستفيد ويتمتع بنصيبه في هذه الحياة الدنيا بما يناسب خلقه وخصاله.

ثمّ تقول بعد ذلك : إنّكم كمن مضى من أمثالكم قد أوغلتم وسلكتم مسلك الاستهزاء والسخرية ، تماما كهؤلاء :( وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا ) (١) .

ثمّ تبيّن الآية عاقبة أعمال المنافقين الماضين لتحذر المنافقين المعاصرين للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكل منافقي العالم في جملتين :

الأولى : إن كل أعمال المنافقين قد ذهبت أدراج الرياح ، في الدنيا والآخرة ، ولم يحصلوا على أي نتيجة حسنة ، فقالت :( حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) .

الثّانية : إنّ هؤلاء هم الخاسرون الحقيقيون بما عملوه من الأعمال السيئة :( وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

إن هؤلاء المنافقين يمكن أن يستفيدوا ويحققوا بعض المكاسب والامتيازات من أعمال النفاق ، لكن ما يحصلون عليه مؤقت ومحدود ، فإنّنا إذا أمعنا النظر فسنرى أن هؤلاء لم يجنوا من سلوك هذا الطريق شيئا ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، كما يعكس التاريخ هذه الحقيقة ، ويبيّن كيف أنّ المنافقين على مرّ الدهور والأيّام قد توالت عليهم النكبات وأزرت بهم وحكمت عليهم بالفناء والزوال ، كما أن ممّا لا شك فيها أنّ هذه العاقبة الدنيوية تبيّن المصير الذي ينتظرهم في الآخرة.

__________________

(١) إن جملة( كَالَّذِي خاضُوا ) في الواقع بمعنى : كالذي خاضوا فيه ، وبعبارة أخرى ، فإنّها تشبيه لفعل منافقي اليوم بفعل المنافقين السابقين ، كما شبهت الجملة السابقة استفادة هؤلاء من النعم والمواهب الإلهية في طريق الشهوات كالسابقين منهم ، وعلى هذا فإنّ هذا التشبيه ليس تشبيه شخص بشخص لنضطر إلى أن نجعل (الذي) بمعنى (الذين) أي المفرد بمعنى الجمع ، بل هو تشبيه عمل بعمل.

١١٦

إن الآية الكريمة تنبه المنافقين المعاصرين للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول لهم : إنّكم ترون أنّ هؤلاء السابقين رغم تلك الإمكانات والقدرات والأموال والأولاد لم يصلوا إلى نتيجة ، وأنّ أعمالهم قد أصبحت هباء منثورا لأنّها لم تستند إلى أساس محكم ، بل كانت أعمال نفاق ومراوغة ، فإنّكم ستواجهون ذلك المصير بطريق أولى ، لأنّكم أقل من هؤلاء قدرة وقوة وامكانات.

وبعد هذه الآيات يتحول الحديث من المنافقين ويتوجه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتبع أسلول الاستفهام الإنكاري ، فتقول الآية :( أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ ) (١) فإنّ هذه الأقوام كانت في الأزمان السالفة تسيطر على مناطق مهمّة من العالم ، إلّا أن كل فئة قد ابتليت بنوع من العقاب الإلهي نتيجة لانحرافها وطغيانها وإجرامها ، وفرارها من الحق والعدالة ، وإقدامها على الظلم والاستبداد والفساد.

فقوم نوح عوقبوا بالطوفان والغرق ، وقوم عاد (قوم هود) بالرياح العاصفة والرعب ، وقوم ثمود (قوم صالح) بالزلازل والهدم والدمار ، وقوم إبراهيم بسلب النعم ، وأصحاب مدين (قوم شعيب) بالصواعق المحرقة ، وقوم لوط بخسف المدن وفنائهم جميعا. ولم يبق من هؤلاء إلّا الجثث الهامدة ، والعظام النخرة تحت التراب أو في أعماق البحار.

إنّ هذه الحوادث المرعبة تهز وجدان وأحاسيس كل إنسان إذا امتلك أدنى إحساس وشعور عند مطالعتها وتحقيقها.

ورغم طغيان هؤلاء وتمردهم فانّ الله الرؤوف الرحيم لم يحرم هؤلاء من رحمته وعطفه لحظة ، وقد أرسل إليهم الرسل بالآيات البينات لهدايتهم وإنقاذهم من الضلالة إذ( أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) إلّا أن هؤلاء لم يصغوا إلى آية موعظة ولم

__________________

(١) المؤتفكات مأخوذة من مادة الائتفاك ، بمعنى انقلاب الأسفل إلى الأعلى وبالعكس ، وهي إشارة إلى مدن قوم لوط التي قلب عاليها سافلها نتيجة الزلزلة.

١١٧

يقبلوا نصيحة من أنبياء الله وأوليائه ، ولم يقيموا وزنا لجهاد ومتاعب هؤلاء الأبرار وتحملهم كل المصاعب في سبيل هداية خلق الله ، وإذا كان العقاب قد نالهم فلا يعني أن اللهعزوجل قد ظلمهم ، بل هم ظلموا أنفسهم بما أجرموا فاستحقوا العذاب( فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .

* * *

١١٨

الآيتان

( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢) )

التّفسير

صفات المؤمنين الحقيقيين :

مرّ في الآيات السابقة ذكر بعض الصفات المشتركة بين المنافقين ، الرجال منهم والنساء ، وتلخصت في خمس صفات : الأمر بالمنكر ، والنهي عن المعروف ، والبخل وعدم الإنفاق ، ونسيان الله سبحانه وتعالى ، ومخالفة وعصيان أوامر الله.

وتذكر هذه الآيات صفات وعلامات المؤمنين والمؤمنات ، وتتخلص في خمس صفات أيضا ، فتقابل كل صفة منها صفة من صفات المنافقين ، واحدة بواحدة ، لكنّها في الاتجاه المعاكس.

١١٩

وتشرع الآية بذكر صفات المؤمنين والمؤمنات ، وتبدأ ببيان أنّ بعضهم لبعض ولي وصديق( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) .

إنّ أوّل ما يلفت النظر أن كلمة (أولياء) لم تذكر أثناء الكلام عن المنافقين ، بل ورد (بعضهم من بعض) التي توحي بوحدة الأهداف والصفات والأعمال ، ولكنّها تشير ضمنا إلى أن هؤلاء المنافقين وإن كانوا في صف واحد ظاهرا ويشتركون في البرامج والصفات ، إلّا أنهم يفتقدون روح المودة والولاية لبعضهم البعض ، بل إنّهم إذا شعروا في أي وقت بأنّ منافعهم ومصالحهم الشخصية قد تعرضت للخطر فلا مانع لديهم من خيانة حتى أصدقائهم فضلا عن الغرباء ، وإلى هذه الحالة تشير الآية (١٤) من سورة الحشر :( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) .

وبعد بيان هذه القاعدة الكلية ، تشرع ببيان الصفات الجزئية للمؤمنين :

١ ـ ففي البداية تبيّن أن هؤلاء قوم يدعون الناس إلى الخيرات( يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) .

٢ ـ إنّهم ينهون الناس عن الرذائل والمنكرات( وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) .

٣ ـ إنّهم بعكس المنافقين الذين كانوا قد نسوا الله ، فإنّهم يقيمون الصلاة ، ويذكرون الله فتحيا قلوبهم وتشرف عقولهم( وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) .

٤ ـ إنّهم ـ على عكس المنافقين والذين كانوا يبخلون بأموالهم ـ ينفقون أموالهم في سبيل الله وفي مساعدة عباد الله وبناء المجتمع وإصلاح شؤونه ، ويؤدون زكاة أموالهم( وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) .

٥ ـ إنّ المنافقين فسّاق ومتمردون ، وخارجون من دائرة الطاعة لأوامر الله ، أمّا المؤمنون فهم على عكسهم تماما ، إذ( وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

أمّا ختام الآية فإنّه يتحدث عن امتيازات المؤمنين ، والمكافأة والثواب الذي ينتظرهم ، وأوّل ما تعرضت لبيانه هو الرحمة الإلهية التي تنتظرهم ف( أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ ) .

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

المأساة الخالدة

ولم تبقَ كارثة من كوارث الدنيا ولا رزية من رزايا الدنيا إلاّ جرت على حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعقيلة بني هاشم في كربلاء؛ فقد أحاطت بها المصائب يتبع بعضها بعضاً؛ فقد شاهدت أعداء الله وجيوش آل أبي سفيان قد اجتمعت على إبادة أهلها، وقد احتلّوا ماء الفرات ومنعوا ذرّية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الانتهال منه، وقد عجّت أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) ونساؤهم بالصراخ والعويل من شدّة الظمأ، وقد أحاطوا بالعقيلة يطلبون منها الماء وهي حائرة مذهولة تأمرهم بالصبر، كيف الصبر والعطش قد مزّق قلوبهم؟!

وقد زحفت جيوش الاُمويِّين نحو الإمام الحسين (عليه السّلام) في ليلة التاسع من المحرّم، كان سيّد الشهداء جالساً أمام بيته محتبياً بسيفه، إذ خفق برأسه، فسمعت اُخته العقيلة أصوات الجيش قد تدانت نحو أخيها، فانبرت إليه وهي مذهولة مرعوبة فأيقظته، وقالت له: إنّ العدو قد دنا منّا.

فقال لها:«إنّي رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المنام فقال: إنّك تروح إلينا» .

وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس العقيلة، فقد خرقت قلبها الرقيق المعذّب، فلطمت وجهها وقالت: يا وليتاه(١) !

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٨٤.

٢٤١

وكان أبو الفضل العباس (عليه السّلام) إلى جانب أخيه لا يفارقه، فقال له: يا أخي، أتاك القوم.

وطلب منه الإمام (عليه السّلام) أن يتعرّف على خبرهم، فقال له:«اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم، فتقول لهم: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟» .

وبادر قمر بني هاشم ومعه عشرون فارساً نحو القوم، وفيهم حبيب بن مظاهر، وزهير بن القين، فسألهم العباس عن زحفهم، فقالوا له: جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه أو نناجزكم(١) .

وقفل أبو الفضل (عليه السّلام) إلى أخيه فعرّفه ما عرضوه عليهم، فقال (عليه السّلام) له:«ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره؛ فهو يعلم أنّي اُحبّ الصلاة، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار» . وكان ذكر الله والدعاء والصلاة من أهمّ ما يصبوا إليه الإمام (عليه السّلام) في هذه الحياة(٢) .

وقفل قمر بني هاشم راجعاً إلى تلك الوحوش الكاسرة، فعرض عليهم مقالة أخيه، وتردّد القوم في إجابته، فأنكر عليهم عمرو بن الحجّاج الزبيدي إحجامهم، وقال: سبحان الله! والله لو كان من الديلم ثمّ سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه.

ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك، ولم يقل: إنّه ابن رسول الله؛ خوفاً أن يُنقل كلامه إلى ابن مرجانة فينال العقاب والحرمان. وأيّد ابن الأشعث مقالة ابن الحجّاج، فقال له ابن سعد:

____________________

(١) أنساب الأشراف / ١٨٤.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٥.

٢٤٢

أجبهم إلى ما سألوا، فلعمري ليصبحنك بالقتال غداً.

واستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب بعد أن رضيت به الأكثرية من قادة جيشه، وأوعز ابن سعد إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك أمام معسكر الحسين (عليه السّلام)، فدنا منه وقال رافعاً صوته: يا أصحاب الحسين بن عليّ، قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد، فإن استسلمتم ونزلتم على حكم الأمير وجّهنا بكم إليه، وإن أبيتم ناجزناكم.

واُرجئ القتال إلى اليوم الثاني المصادف يوم العاشر من المحرّم.

الإمام (عليه السّلام) يأذن لأصحابه بالتفرّق

وجمع سيّد الشهداء أصحابه وأهل بيته في غلس الليل، وطلب منهم أن يتفرّقوا في سواده ليلقى مصيره المحتوم وحده، فقال لهم:«اُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء. اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفهّمتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً، ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنت لكم جميعاً، فانطلقوا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله؛ فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو أصابوني للهوا عن طلب غيري» (١) .

لقد جعل الإمام أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع، وهي الشهادة التي لا بدّ

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٥.

٢٤٣

منها في مصاحبته، وليس شيء آخر غيرها، قد سمح لهم بالتفرّق عنه في سواد الليل فيتخذونه ستاراً لهم دون كلّ عين، كما عرّفهم أنّه هو المطلوب للحكم الاُموي دون غيره، فإذا قتلوه فلا إرب لهم في غيره.

وعلى أيّ حال، فإنّ الإمام (عليه السّلام) لم يكد ينتهي من خطابه حتّى هبّت الصفوة الطاهرة من أهل بيته وأصحابه وهي تعلن ولاءها الكامل له، وأنّهم جميعاً يلاقون المصير الذي يلقاه، وقد بدأهم بالكلام قمر بني هاشم وفخر عدنان أبو الفضل العباس (عليه السّلام) قائلاً: لِمَ تفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً(١) .

وتتابعت أصوات أصحابه والفتية من بني هاشم وهم يرحّبون بالموت والشهادة في سبيله، حقّاً لقد كانوا من خيرة بني آدم صدقاً ووفاءً وشهامةً ونبلاً.

لوعة السيدة زينب (عليها السّلام)

وفزعت عقيلة بني هاشم كأشدّ ما يكون الفزع وأقساه حينما سمعت أخاها وبقية أهلها يُعالج سيفه ويصلحه، وهو ينشد هذه الأبيات التي ينعى فيها نفسه:

يا دهرُ أُفّ لكَ من خليلِ = كم لكَ بالإشراقِ والأصيلِ

من طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ = والدهرُ لا يقنعُ بالبديلِ

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ = ما أقربُ الوعد إلى الرحيلِ

وإنّما الأمرُ إلى الجليلِ

وكان مع الإمام (عليه السّلام) في خيمته الإمام زين العابدين (عليه السّلام) والعقيلة؛ أمّا الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فإنّه لمّا سمع هذه الأبيات خنقته العبرة ولزم السكوت، وعلم أنّ البلاء قد نزل، وأمّا العقيلة (عليها السّلام) فقد أيقنت أنّ أخاها عازم على الموت، فأمسكت قلبها الرقيق

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ١٦٧.

٢٤٤

المعذّب ووثبت وهي تجرّ ذيلها وقد غامت عيناها بالدموع، فقالت لأخيها: وا ثكلاه! وا حزناه! ليت الموت أعدمني الحياة. يا حسيناه! يا سيّداه! يا بقيّة أهل بيتاه! استسلمتَ للموت ويئستَ من الحياة؟! اليوم مات جدّي رسول الله، اليوم ماتت أُمّي فاطمة الزهراء، وأبي عليّ المرتضى، وأخي الحسن الزكيّ، يا بقيّة الماضين وثمال الباقين(١) !

وذاب قلب الإمام (عليه السّلام) أسىً وحزناً، والتفت إلى شقيقته فقال لها الإمام بحنان:«يا اُخيّة، لا يذهبنّ بحلمك الشيطان» .

وسرت الرعدة والفزع بقلب الصدّيقة وطافت بها آلام مبرحة فخاطبت أخاها بأسى والتياع قائلة: أتغتصب نفسك اغتصاباً؟! فذاك أطول لحزني وأشجى لقلبي.

ولم تملك صبرها بعدما أيقنت أن أخاها وبقيّة أهلها سيستشهدون لا محالة، فعمدت إلى جيبها فشقّته، ولطمت وجهها، وخرّت إلى الأرض فاقدة لوعيها(٢) .

وأثّر منظرها الرهيب في نفس الإمام (عليه السّلام) فالتاع كأشدّ ما تكون اللوعة، ورفع يديه بالدعاء أن يلهم شقيقته الصبر والسلوان، وأن يعينها على تحمّل المحن الشاقّة التي أحاطت بها.

إحياء الليل بالعبادة

وأقبل الإمام (عليه السّلام) مع أهل بيته وأصحابه على العبادة؛ فقد علموا أنّ تلك الليلة هي آخر ليالي حياتهم، ولم يذق أيّ واحد منهم طعم الرقاد؛ فقد اتّجهوا بقلوبهم وعواطفهم نحو الله وهم يمجّدونه، ويتلون كتابه، ويقيمون الصلاة، ويسألونه العفو والغفران.

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين / ١١٣.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ١٧٣.

٢٤٥

وكانوا يترقّبون بشوق لا حدّ له طلوع الفجر؛ ليكونوا قرابينَ للإسلام، وفداءً لابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وكان حبيب بن مظاهر، وهو من ألمع أصحاب الحسين (عليه السّلام)، وقد خرج إلى أصحابه وهو يضحك، فأنكر عليه بعض أصحابه وقال له: يا حبيب، ما هذه ساعة ضحك! فأجابه حبيب عن إيمانه العميق قائلاً: أيّ موضع أحقّ من هذا بالسرور؟ والله ما هو إلاّ أن تميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين(١) .

وداعب برير عبد الرحمن الأنصاري، فاستغرب من مداعبته قائلاً: ما هذه ساعة باطل!

انظروا إلى جواب برير فقد قال: لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، وددت أنّهم مالوا علينا الساعة(٢) .

أيّ إيمان هذا الذي تسلّح به أصحاب الحسين (عليه السّلام)؛ فقد فاقوا جميع شهداء الحقّ والفضيلة في جميع الأعصار والآباد.

رؤيا الإمام الحسين (عليه السّلام)

وخفق الإمام الحسين (عليه السّلام) خفقة ثمّ انتبه، والتفت إلى أصحابه وأهل بيته فقال لهم:«أتعلمون ما رأيت في منامي؟» .

- ما رأيت يابن رسول الله؟

«رأيت كأنّ كلاباً قد شدّت عليَّ تنهشني، وفيها كلب أبقع أشدّها عليَّ، وأظنّ

____________________

(١) رجال الكشي / ٥٣.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١.

٢٤٦

الذي يتولّى قتلي رجل أبرص من هؤلاء القوم. ثمّ إنّي رأيت جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول لي: أنت شهيد آل محمّد، وقد استبشرت بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى، فليكن إفطارك عندي الليلة، عجّل ولا تؤخّر. هذا ما رأيت، وقد أزف الأمر واقترب الرحيل من هذه الدنيا» (١) .

وخيّم على أهل البيت (عليهم السّلام) حزن عميق، وأيقنوا بنزول الرزء القاصم والاقتراب من دار الآخرة.

فزع عقائل الوحي

وفزعت عقائل الوحي، وخيّم عليهنَّ الذعر والخوف، ولم يهدأن في تلك الليلة؛ فقد طافت بهنَّ موجات من الهواجس وتمثّل أمامهنَّ المستقبل المليء بالخطوب والكوارث، وقد خلدنَ إلى الدعاء والبكاء، وكان من أشدّهنَّ عقيلة النبوّة السيّدة زينب؛ فقد كانت تراقب الأحداث وهي على علم لا يخامره شكّ أنّ المسؤولية الكبرى سوف تنتقل عن كاهل الحسين (عليه السّلام) إليها لو قُتل، كما علمت أنّه لا يبقى من أهلها أحد، لقد فزعت وذهلت من الأحداث الجسام التي أحاطت بها.

العقيلة (عليها السّلام) مع الهاشميّين والأصحاب

ولم تهدأ عقيلة الرسالة؛ فقد هامت في تيارات مذهلة من الأسى والشجون، فكانت على علم أنّ ليلة العاشر من المحرّم هي آخر ليلة لأهلها وهم على قيد الحياة، وقد وجلت على أخيها، فمضت تراقب خيم الهاشميّين والأصحاب لتسمع ما يدور عندهم من حديث.

فانبرت إلى خيمة أخيها قمر بني هاشم وقد اجتمع بها فتيان بني هاشم، وقد أحاطوا بسيّدهم أبي الفضل، فسمعته يخاطب

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ١٧٧.

٢٤٧

الهاشميّين قائلاً: إخوتي وبني إخوتي وأبناء عمومتي، إذا كان الصباح فما تصنعون؟

فهبّوا جميعاً قائلين: الأمر إليك.

- إنّ أصحابنا وأنصارنا قوم غرباء، والحمل ثقيل لا يقوم إلاّ بأهله، فإذا كان الصباح كنتم أوّل مَنْ يبرز للقتال، فنسبق أنصارنا إلى الموت؛ لئلاّ يقول الناس: قدّموا أصحابهم.

ولم ينتهِ من مقالته حتّى هبّوا قائلين: نحن على ما أنت عليه.

ثمّ مضت العقيلة إلى خيمة حبيب بن مظاهر عميد أصحاب الإمام وقد أحاط به الأصحاب، فسمعت يحدّثهم قائلاً: يا أصحابي، إذا كان الصباح ماذا تفعلون؟

- الأمر إليك.

إذا صار الصباح كنّا أوّل مَنْ يبرز إلى القتال، نسبق بني هاشم إلى الموت، فلا نرى هاشمياً مضرّجاً بدمه؛ لئلاّ يقول الناس: قد بدؤوهم إلى القتال، وبخلنا عليهم بأنفسنا.

واستجابت الصفوة الطاهرة لمقالة زعيمهم حبيب، وراحوا يقولون: نحن على ما أنت عليه.

وسُرّت زينب بوفاء الأنصار وتصميمهم على نصرة أخيها والذبّ عنه حتّى النفس الأخير من حياته، وانطلقت العقيلة إلى أخيها فأخبرته بما سمعت من الهاشميّين والأنصار من الذود عنه، وحمايته من كلّ سوء ومكروه.

وأخبرها الإمام (عليه السّلام) أنّهم من أنبل الناس، ومن أكثرهم شهامة وإيماناً، وأنّ الله تعالى قد اختارهم من بين عباده لنصرته، والوقوف معه لمناجزة القوى المنحرفة والمعادية للإسلام.

٢٤٨

يوم عاشوراء

ويوم عاشوراء من أفجع الأيام وأقساها وأشدّها محنة على العقيلة زينب (عليها السّلام) وعلى أهل البيت (عليهم السّلام)، فلم تبقَ رزيّة من رزايا الدهر إلاّ جرت عليهم، ونتحدّث - بإيجاز - عن فصول هذه المأساة الخالدة في دنيا الأحزان.

خطاب الإمام الحسين (عليه السّلام)

ولمّا تهيّأت عساكر ابن سعد لحرب الإمام، فرأى (عليه السّلام) من الواجب أن يعظهم ويرشدهم حتّى يكونوا على بصيرة من أمرهم، فخطب فيهم خطاباً مؤثّراً، وقد نشر كتاب الله العظيم، واعتمّ بعمامة جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولبس لامته، فقال لهم:«تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً! حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين (١) ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم (٢) علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً (٣) لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم.

مهلاً - لكم الويلات! - تركتمونا والسيف مشيم(٤) ، والجأش طامن، والرأي لمّا يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدّبا(٥) ، وتداعيتم إليها كتهافت الفراش.

____________________

(١) موجفين: أي مسرعين في السير إليكم.

(٢) حششتم النار التي توقد.

(٣) إلباً: أي مجتمعين.

(٤) مشيم السيف: غمده.

(٥) الدّبا: الجراد قبل أن يطير.

٢٤٩

فسحقاً لكم يا عبيد الاُمّة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرّفي الكلم، وعصبة الأثام، ونفثة الشيطان، ومطفئ السنن!

أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟! أجل والله غدر فيكم قديم، وشجت إليه اُصولكم، وتأزّرت(١) عليه فروعكم، فكنتم أخبث شجر شجى للناظر، وأكلة للغاصب.

ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة(٢) والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، واُنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.

ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة مع قلّة العدد وخذلان الناصر» . ثمّ أنشد أبيات فروة بن مسيك المرادي:

فإن نُهزم فهزّامون قدماً = وإن نُُغلَب فغيرُ مغَلّبينا

وما إن طِبُّنا جبنٌ ولكن = منايانا ودولةُ آخرينا

إذا ما الموتُ رفّع عن أُناس = كلاكله أناخَ بآخرينا

فأفنى ذلكم سروات قومي = كما أفنى القرونَ الأوّلينا

فلو خلدَ الملوكُ إذاً خلدنا = ولو بقي الكرامُ إذاًً بقينا

فقل للشامتينَ بنا أفيقوا = سيلقى الشامتونَ كما لقينا

«أما والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريث ما يُركب الفرس حتّى يدور

____________________

(١) تأزّرت: أي نبتت عليه فروعكم.

(٢) السلّة: استلال السيوف.

٢٥٠

بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور؛ عهد عهده إليّ أبي عن جدّي، ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ ) ، ( إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ».

ورفع يديه بالدعاء على اُولئك السفكة المجرمين قائلاً:«اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسِنيِّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسومهم كاساً مصبرةً؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير» (١) .

لقد انفجر أبو الأحرار في خطابه كالبركان، وأبدى من صلابة العزم وعزّة النفس ما لم يشاهد مثله؛ فقد استهان بالموت، ولا يخضع لاُولئك الأقزام الذين سوّدوا وجه التأريخ، وكانوا سوءة عار لمجتمعهم.

استجابة الحرّ

واستيقظ ضمير الحرّ حينما سمع خطاب الإمام (عليه السّلام)، وجعل يتأمّل ويفكّر في مصيره، وأنّه لا محالة يصير إلى النار خالداً فيها، واختار الدار الآخرة والالتحاق بآل النبي (صلّى الله عليه وآله).

وقبل أن يتوجّه إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) أسرع نحو ابن سعد فقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟

فأجابه بلا تردد ليظهر أمام قادة الفرق إخلاصه لسيّده ابن مرجانة قائلاً: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي.

فقال له الحرّ برنّة المستريب:

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٤ - ٧٥.

٢٥١

أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضاً؟

فأجابه ابن سعد: لو كان الأمر لي لفعلت، ولكن أميرك أبى ذلك.

وأيقن الحرّ أنّ القوم مصمّمون على حرب ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فمضى يشقّ الصفوف وقد سرت الرعدة بأوصاله، فأنكر عليه ذلك المهاجر بن أوس، وهو من شرطة ابن زياد، فقال له: والله إنّ أمرك لمريب! والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن، ولو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك.

وكشف له الحرّ عن عزمه فقال له: إنّي والله اُخيّر نفسي بين الجنّة والنار، ولا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعت واُحرقت. ولوى بعنان فرسه صوب الإمام (عليه السّلام)(١) ، وهو مُطرق برأسه إلى الأرض حياءً وندماً على ما فرّط في حقّ الإمام، ولمّا دنا منه رفع صوته قائلاً: اللّهمّ إليك اُنيب؛ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك. يا أبا عبد الله، إنّي تائب فهل لي من توبة؟

ونزل عن فرسه ووقف قبال الإمام (عليه السّلام) ودموعه تتبلور على سحنات وجهه قائلاً: جعلني الله فداك يابن رسول الله!أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وجعجعت بك في هذا المكان، ووالله الذي لا إله إلاّ هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً، فقلت في نفسي: لا اُبالي أن اُطيع القوم في بعض أمرهم، ولا يرون أنّي خرجت من طاعتهم،

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٤.

٢٥٢

وأمّا هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك. وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي، مواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك، أفترى لي توبة؟

واستبشر به الإمام (عليه السّلام)، ومنحه الرضا والعفو، وقال له:«نعم، يتوب الله عليك ويغفر» (١) .

وانطلق الحرّ بعد أن منحه الإمام (عليه السّلام) العفو وقبل توبته، فخطب في أهل الكوفة ودعاهم إلى التوبة، ونُغَب عليهم حصارهم للإمام، ومنعه مع أهل بيته وأصحابه عن ماء الفرات الذي هو حقّ مشاع للجميع، ولم يستجيبوا له، ورموه بالنبال.

الحرب

وارتبك ابن سعد من التحاق الحرّ بالإمام (عليه السّلام)، وخاف أن يحصل التمرّد في جيشه، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الحسين (عليه السّلام)، وأخذ سهماً فأطلقه صوب الإمام، وقد رفع صوته قائلاً: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَنْ رمى الحسين.

وفتح ابن سعد من السهم الذي أطلقه باب الحرب، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة بأنّه أوّل مَنْ رمى معسكر ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وتتابعت السهام كأنّها المطر على معسكر الإمام الحسين (عليه السّلام)، فلم يبقَ أحد منهم إلاّ أصابه سهم، فالتفت الإمام إلى أصحابه قائلاً:«قوموا يا كرام، فهذه رسل القوم إليكم» .

وتقدّمت طلائع الحقّ من أصحاب أبي الأحرار إلى ساحة الشرف والمجد وهي تعلن ولاءها للإسلام، وتفانيها في الذبّ عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ / ٢٨٩.

٢٥٣

الجنّة، وبذلك بدأت المعركة واحتدم القتال كأشدّه وأعنفه.

ومن المقطوع به أنّه لم تكن مثل المعركة في جميع الحروب التي جرت في الأرض؛ فقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً مع عشرات الاُلوف، وقد أبدى أصحاب الإمام من الشجاعة والبسالة ما يبهر العقول ويحيّر الألباب.

مصارع أصحاب الإمام (عليه السّلام)

وشنّت قوات ابن سعد هجوماً عاماً وعنيفاً على أصحاب الإمام (عليه السّلام)، وخاضوا معهم معركة رهيبة، وقد ثبت لهم أصحاب الإمام (عليه السّلام)، فهزموا جموعهم بقلوب أقوى من الحديد، وأنزلوا بهم أفدح الخسائر، وقد استشهد في هذه الحملة نصف أصحاب الإمام (عليه السّلام).

ثمّ بدأت بعد ذلك المبارزة بين العسكرين، فكان الرجل من أصحاب الإمام يبرز ويُقاتل ثمّ يُقتل، وهكذا حتّى فنوا عن آخرهم، وقد أبلوا في المعركة بلاءً يقصر عنه كلّ وصف وإطراء؛ فقد خاضوا تلك المعركة الرهيبة ولم تضعف لأيّ رجل منهم عزيمة ولم تلن لهم قناة، وقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله تعالى وطاعته.

وإنّ أعطر ما نقدّمه لهم من تحية كلمات الإمام الصادق (عليه السّلام) عملاق الفكر الإسلامي في حقّهم، قال مخاطباً لهم:«بأبي أنتم واُمّي! طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم، وفزتم فوزاً عظيماً» .

مصارع أهل البيت (عليهم السّلام)

وبعدما نالت الشهادة الصفوة الطاهرة من أصحاب الإمام (عليه السّلام) هبّ أبناء الاُسرة النبويّة شباباً وأطفالاً إلى التضحية والفداء، فكانوا كالليوث وكالصاعقة على جيوش الكفر والضلال، وأخذ بعضهم يودّع البعض الآخر وهم يذرفون الدموع على وحدة سيّدهم أبي الأحرار؛ حيث يرونه وحيداً قد أحاطت به من كلّ جانب جيوش الاُمويِّين

٢٥٤

ليتقرّبوا بقتله إلى ابن مرجانة، وفي طليعة الذين استشهدوا من آل البيت (عليهم السّلام):

عليّ الأكبر (عليه السّلام)

وكان عليّ الأكبر شبيه جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في ملامحه وفي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيّين، وكانت الاُسرة النبويّة والصحابة إذا اشتاقوا إلى رؤية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نظروا إلى وجه عليّ الأكبر، وكان دنيا من الفضائل والمواهب والعبقريات؛ فقد تسلّح بكلّ فضيلة وأدب، وكان أعزّ أبناء الإمام الحسين (عليه السّلام) لعمّته العقيلة وسائر بني عمومته وأعمامه.

وهو أوّل هاشمي اندفع بحماس بالغ إلى الحرب، وكان عمره الشريف ثماني عشر سنة(١) ، وقد وقف أمام أبيه طالباً منه الرخصة لمناجزة أعداء الله، فلمّا رآه الإمام (عليه السّلام) ذابت نفسه أسى وحسرات، وأشرف على الاحتضار؛ فقد رأى فلذة كبده قد ساق نفسه إلى الموت، فرفع الإمام شيبته الكريمة نحو السماء، وهو يقول بنبرات قد لفظ فيها شظايا قلبه:«اللّهمّ اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمّد (صلّى الله عليه وآله) خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً، وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه. اللّهمّ امنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا» .

والتفت الإمام (عليه السّلام) إلى المجرم الأثيم عمر بن سعد عبد ابن مرجانة، فصاح به:«ما لك؟! قطع الله رحمك، ولا بارك لك في أمرك، وسلّط عليك مَنْ يذبحك بعدي على فراشك كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)». وتلا قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٤٤.

٢٥٥

وشيّع الإمام (عليه السّلام) ولده بدموع مشفوعة بالأسى والحزن، وخلفه عمّته العقيلة وسائر عقائل الوحي، وقد علا منهم الصراخ والعويل على شبيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وانطلق فخر هاشم إلى ساحة الحرب وقد امتلأ قلبه حزماً وعزماً، ووجهه الشريف يتألق نوراً؛ فقد حكى بهيبته هيبة جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وبشجاعته شجاعة جدّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وتوسّط حراب الأعداء وسيوفهم وهو يرتجز قائلاً:

أنا عليُّ بنُ الحسين بنِ علي = نحن وربُّ البيت أولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابنُ الدعي

أنت يا شرف هذه الاُمّة أولى بالنبي وأحق بمقامه من هؤلاء الأدعياء الذين سلّطتهم عليكم الطغمة الحاكمة من قريش التي أبت أن تجتمع الخلافة والنبوّة فيكم.

والتحم عليّ الأكبر (عليه السّلام) مع أعداء الله، وقد ملأ قلوبهم خوفاً ورعباً، وأبدى من البسالة والشجاعة ما يقصر عنه كلّ وصف؛ فقد ذكّرهم ببطولات جدّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ومحطّم أوثان القرشيّين، وقد قتل مئة وعشرين فارساً(١) سوى المجروحين، وألحّ عليه العطش وأضرّ به، فقفل راجعاً إلى أبيه يشكو ظمأه القاتل قائلاً: يا أبتِ، العطش قد قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إليّ شربة ماء من سبيل أتقوى بها على الأعداء؟

والتاع الإمام (عليه السّلام)، فقال له بصوت خافت، وعيناه تفيضان دموعاً:«واغوثاه! ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبداً» .

وأخذ لسانه فمصّه ليريه شدّة عطشه، فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٤٦.

٢٥٦

يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق في رائعته:

يشكو لخيرِ أبٍ ظمأه وما اشتكى = ظمأ الحشا إلاّ إلى الظامي الصدي

كلٌّ حشاشته كصاليةِ الغضا = ولسانُه ظمأ كشقةِ مبردِ

فانصاعَ يؤثرهُ عليهِ بريقهِ = لو كانَ ثمةَ ريقه لم يجمدِ

لقد كان هذا المنظر الرهيب لعليّ الأكبر من أفجع وأقسى ما رُزئ به أبو الأحرار؛ فقد رأى ولده الذي هو من أنبل وأشرف ما خلق الله، وهو في غضارة العمر وريعان الشباب قد أشرف على الهلاك من شدّة العطش، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء ليروي عطشه.

وقفل فخر الإسلام عليّ الأكبر (عليه السّلام) راجعاً إلى حومة الحرب، قد فتكت الجراح بجسمه، وفتّت العطش فؤاده، وجعل يُقاتل كأشدّ ما يكون القتال وأعنفه حتّى ضجّ العسكر من كثرة مَنْ قتل منهم.

ولمّا رأى ذلك الوضر الخبيث مرّة بن منقذ العبدي قال: عليَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه. وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فطعنه بالرمح في ظهره، وضربه ضربة منكرة على رأسه ففلق هامته، واعتنق فرسه يظنّ أنّه يرجعه إلى أبيه، إلاّ أنّ الفرس حمله إلى معسكر الأعداء فأحاطوا به من كلّ جانب، ومزّقوا جسده الشريف بالسيوف، ونادى فخر هاشم ومجد عدنان رافعاً صوته: عليك منّي السّلام أبا عبد الله، هذا جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها أبداً، وهو يقول:«إنّ لك كأساً مذخورة» .

وحمل الأثير هذه الكلمات إلى أبيه الثاكل الحزين فقطّعت قلبه، ومزّقت أحشاءه، ففزع إليه وهو خائر القوى، منهدّ الركن، فانكب عليه فوضع خدّه على خدّه وهو جثة هامدة، قد قطّعت شلوه السيف إرباً إرباً، وأخذ الإمام (عليه السّلام) يذرف أحرّ الدموع على ولده الذي لا يشابهه أحد في كمال فضله، وجعل يلفظ شظايا قلبه

٢٥٧

بهذه الكلمات:«قتل الله قوماً قتلوك يا بُني، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفا» (١) .

وما كاد الخبر يبلغ الخيام حتّى هرعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) زينب من خدرها، وكان ذلك أوّل ما خرجت إلى المعركة فأكبت بنفسها على ابن أخيها الذي كان أعزّ ما عندها من أبنائها، وجعلت تضمّخه بدموعها وقد انهارت قواها، وانبرى إليها الإمام (عليه السّلام) وجعل يعزّيها بمصابها الأليم، وهو يردّد هذه الكلمات:«على الدنيا بعدك العفا» .

وأخذ الإمام (عليه السّلام) بيد اُخته وردّها إلى الفسطاط، وأمر فتيانه بحمل ولده إلى الفسطاط.

لقد كان علي بن الحسين (عليه السّلام) الرائد والزعيم لكلّ حرّ شريف مات أبيّاً على الضيم في دنيا الإباء، فسلام الله عليه غادية ورائحة، ونودعه بالأسى والحزن، ونردّد كلمات أبيه:«على الدنيا بعدك العفا» .

مصارع آل البيت (عليهم السّلام)

وبرزت الفتية من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهي تذرف الدموع على وحدة سيّدهم أبي الأحرار، وكان من بينهم القاسم بن الحسن، وكان كالقمر في بهائه وجماله، وقد ربّاه عمّه وغذّاه بمواهبه وآدابه، وأفرغ عليه أشعة من روحه حتّى صار صورة عنه، وكان أحبّ إليه من أبناء إخوته وأعمامه.

وكان القاسم يتطلّع إلى محنة عمّه، وينظر إلى جيوش الكفر قد أحاطت به وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات، وجعل يردد:

____________________

(١) العفا: التراب.

٢٥٨

لا يُقتل عمّي وأنا أنظر إليه(١) .

واندفع بلهفة نحو عمّه يطلب منه الإذن ليكون فداءً له، فاعتنقه عمّه وعيناه تفيضان دموعاً، وجعل القاسم يُقبّل يديه طالباً منه الإذن، فسمح له بعد إلحاحه وترجّيه، وبرز القاسم إلى حومة الحرب وهو بشوق عارم إلى الشهادة، ولم يضف على جسده لامة الحرب، وإنّما صحب معه سيفه.

والتحم مع اُولئك القرود، فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه، وبينما هو يُقاتل إذ انقطع شسع نعله، فأنف سليل النبوّة أن تكون أحد رجليه بلا نعل، فوقف يشدّه متحدّياً الوحوش الكاسرة التي لا تساوي نعله، واغتنم هذه الفرصة الوغد الخبيث عمرو بن سعد الأزدي، فقال: والله لأشدنَّ عليه.

فأنكر عليه حميد بن مسلم وقال له: سبحان الله! وما تريد بذلك؟! يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم. فلم يعن به، وشدّ الخبيث عليه فعلاه بالسيف على رأسه الشريف، فهوى الفتى إلى الأرض صريعاً كما تهوي النجوم، ونادى رافعاً صوته: يا عمّاه!

وذاب قلب الإمام (عليه السّلام) وأسرع إليه، فعمد إلى القاتل الأثيم فضربه بالسيف فاتّقاها بساعده فقطعها من المرفق وطرحه أرضاً، فحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه، إلاّ أنّه هلك تحت حوافرها.

وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يقبّله والفتى يفحص بيديه ورجليه، وهو يعاني آلام الاحتضار، فخاطبه الإمام (عليه السّلام):«بُعداً لقوم قتلوك، ومَنْ خصمهم يوم القيامة فيك جدّك! عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك صوته. والله هذا يوم كثر واتره، وقلّ ناصره» .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٥٥.

٢٥٩

وحمله الإمام والفتى يفحص برجليه كالطير المذبوح(١) ، وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر وسائر الشهداء من أهل البيت (عليهم السّلام)، وأخذ يطيل النظر إليهم، وجعل يدعو على السفكة المجرمين قائلاً:«اللّهمّ أحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً. صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً» .

وكلّ هذه المناظر المفجعة التي تميد بالصبر وتعصف كانت بمرأى من عقيلة بني هاشم (عليها السّلام)، فكانت تستقبل في كلّ لحظة فتى من الاُسرة النبويّة وهو مضرّج بدمائه، لها الله ولأخيها على هذه الرزايا التي تميد من هولها الجبال.

مصرع عون (عليه السّلام)

وبرز إلى حومة الحرب عون بن عبد الله بن جعفر، واُمه الصدّيقة الطاهرة زينب بنت أمير المؤمنين (عليها السّلام)، فجعل يُقاتل على صغر سنه قتال الأبطال وهو يرتجز:

إن تنكروني فأنا ابنُ جعفرْ = شهيدِ صدقٍ في الجنانِ أزهرْ

يطيرُ فيها بجناحٍ أخضرْ = كفى بهذا شرفاً من معشرْ

أنت أيّها الشهم حفيد الشهيد الخالد جعفر الطيار الذي قُطعت يداه في سبيل الدعوة الإسلاميّة، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الفردوس الأعلى.

وجعل الفتى يُقاتل قتال الأبطال، فحمل عليه الوغد الأثيم عبد الله بن قطبة الطائي فقتله، وحُمل إلى المخيّم فاستقبلته اُمّه الصدّيقة الطاهرة، ونظرت إليه وهو جثة هامدة فاحتسبته عند الله.

وحلّ بعده أبناء الاُسرة الهاشمية فاستشهدوا جميعاً قرابين للإسلام، وفداءً لريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٥٦.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608