الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 252261 / تحميل: 6013
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

إنّ كلمة (الرحمة) التي ذكرت هنا لها مفهوم واسع ، ويدخل ضمنه كل خير وبركة وسعادة ، سواء في هذه الحياة أو في العالم الآخر ، وهذه الجملة في الواقع جاءت مقابلة لحال المنافقين الذين لعنهم الله وأبعدهم عن رحمته.

ولا شك أنّ وعد الله للمؤمنين قطعي ويقيني لأنّ الله قادر وحكيم ، ولا يمكن للحكيم أن يعد بدون سبب ، وليس الله القادر بعاجز عن الوفاء بوعده حين وعد( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

الآية الثّانية شرحت جانبا من هذه الرحمة الإلهية الواسعة التي تعم المؤمنين في بعديها المادي والمعنوي. فهي أوّلا تقول :( وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) ، ومن خصائص هذه النعمة الكبيرة أنّها لا زوال لها ولا فناء ، بل الخلود الأبدي ، لذا فإن المؤمنين والمؤمنات سيكونون( خالِدِينَ فِيها ) .

ومن المواهب الإلهية الأخرى التي سوف ينعمون بها هي المساكن الجميلة ، والمنازل المرفهة التي أعدها الله لهم وسط الجنان( وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ) .

(عدن) في اللغة تعني الإقامة والبقاء في مكان ما ، ولهذا يطلق على المكان الذي توجد فيه مواد خاصّة اصطلاح (معدن) ، وعلى هذا المعنى فإنّ هناك شبها بين الخلود وعدن ، لكن لما أشارت الجملة السابقة إلى مسألة الخلود ، يفهم من هذه الجملة أن جنات عدن محل خاص في الجنّة يمتاز على سائر حدائق الجنّة.

لقد وردت هذه الموهبة الإلهية بأشكال وتفسيرات مختلفة في الرّوايات وكلمات المفسّرين ، فنطالع في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عدن دار الله التي لم ترها عين ، ولم يخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النّبيين ، والصدّيقين ، والشّهداء»(١) .

وفي كتاب الخصال نقل عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنتي التي واعدني الله ربّي ، جنات عدن فليوال علي بن أبي

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٢١

طالبعليه‌السلام وذريتهعليهم‌السلام من بعده».(١) ويتّضح من هذا الحديث أن جنات عدن حدائق خاصّة في الجنّة سيستقر فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعة من خلّص أصحابه وأتباعه. وهذا المضمون قد ورد في حديث آخر عن عليعليه‌السلام ، ويدل على أن جنات عدن مقر إقامة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بعد ذلك تشير الآية إلى الجزاء المعنوي المعد لهؤلاء ، وهو رضى الله تعالى عنهم المختص بالمؤمنين الحقيقيين ، وهو أهم وأعظم جزاء ، ويفوق كل النعم والعطايا الأخرى( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) .

إنّ اللذة المعنوية والإحساس الروحي الذي يحس ويلتذ به الإنسان عند شعوره برضى الله سبحانه وتعالى عنه لا يمكن أن يصفه أي بشر ، وعلى قول بعض المفسّرين فإنّ نسمة ولحظة من هذه اللذة الروحية تفوق نعم الجنّة كلها ومواهبها المختلفة والمتنوعة واللامتناهية.

من الطبيعي أنّنا لا نستطيع أن نجسم ونرسم صورة في أفكارنا عن أي نعمة من نعم الحياة الأخرى ونحن في قفص الحياة الدنيا وحياتها المحدودة ، فكيف سنصل إلى إدراك هذه النعمة المعنوية والروحية الكبرى؟!

نعم ، يمكن إيجاد تصور ضعيف عن الاختلافات المادية والمعنوية التي نعيشها في هذه الدنيا ، فمثلا يمكن إدراك الاختلاف في اللذة بين اللقاء بصديق عزيز جدا بعد فراق طويل ولذّة الإحساس الروحي الخاص الذي يعتري الإنسان عند إدراكه أو حلّه لمسألة علمية معقدة صرف في تحصيلها والوصول إلى دقائقها الشهور ، بل السنين ، أو الانشداد الروحي الذي يبعث على النشاط والجد في لحظات خلوص العبادة ، أو النشوة عند توجه القلب وحضوره في مناجاة تمتزج بهذا الحضور ، وبين اللذة التي نحس بها من تناول طعام لذيذ وأمثالها من اللذائذ ، ومن الطبيعي أن هذه اللذائذ المادية لا يمكن مقارنتها باللذائذ المعنوية ، ولا يمكن

__________________

(١) كتاب الخصال ، على ما نقل في نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٤١.

١٢٢

أن تصل إلى مصافها.

من هنا يتّضح التصور الخاطئ لمن يقول بأن القرآن الكريم عند ما يتحدث عن الجزاء والعطاء الإلهي الذي سيناله المؤمنون الصالحون يؤكّد على النعم المادية ، ولا يتطرق إلى النواحي المعنوية ، لأن الجملة أعلاه ـ أي : رضوان من الله أكبر ـ ذكرت أن رضوان الله أكبر من كل النعم ، خاصّة وأنّها وردت بصيغة النكرة ، وهي تدل على أن قسما من رضوان الله أفضل من كل النعم المادية الموجودة في الجنّة ، وهذا يبيّن القيمة السامية لهذا العطاء المعنوي.

إن الدليل على أفضلية الجزاء المعنوي واضح أيضا ، لأنّ الروح في الواقع بمثابة (الجوهر) والجسم بمكان (الصدف) ، فالروح كالآمر والقائد ، والجسم كالجندي المطيع والمنفذ ، فالتكامل الروحي هو الهدف ، والجسم وسيلة ولهذا السبب فإن إشعاعات الروح وآفاقها أوسع من الجسم واللذائذ الروحية لا يمكن قياسها ومقارنتها باللذائذ المادية والجسمية ، كما أن الآلام الروحية أشدّ ألما من الآلام الجسمية.

وفي نهاية أشارت الآية إلى جميع هذه النّعم المادية والمعنوية ، وعبرت عنها بأنّ( ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

* * *

١٢٣

الآية

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) )

التّفسير

جهاد الكفار والمنافقين :

وأخيرا ، صدر القرار الإلهي للنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجوب جهاد الكفار والمنافقين بكل قوّة وحزم( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ) ولا تأخذك بهم رأفة ورحمة ، بل شدد( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) . وهذا العقاب هو العقاب الدنيوي ، أمّا في الآخرة فإن محلهم( وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

إن طريقة جهاد الكفار واضحة ومعلومة ، فإنّ جهادهم يعني التوسل بكل الطرق والوسائل في سبيل القضاء عليهم ، وبالذات الجهاد المسلح والعمل العسكري ، لكن البحث في أسلوب جهاد المنافقين ، فمن المسلم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجاهدهم عسكريا ولم يقابلهم بحد السيف ، لأنّ المنافق هو الذي أظهر الإسلام ، فهو يتمتع بكل حقوق المسلمين وحماية القانون الإسلامي بالرغم من أنّه يسعى لهدم الإسلام في الباطن فكم من الأفراد لا حظّ لهم من الإيمان ، ولا يؤمنون حقيقة بالإسلام ، غير أنّنا لا نستطيع أن نعاملهم معاملة غير المسلمين.

اذن ، فالمستفاد من الرّوايات وأقوال المفسّرين هو أنّ المقصود من جهاد

١٢٤

المنافقين هو الاشكال والطرق الأخرى للجهاد غير الجهاد الحربي والعسكري ، كالذم والتوبيخ والتهديد والفضيحة ، وربّما تشير جملة( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) إلى هذا المعنى.

ويحتمل في تفسير هذه الآية : أنّ المنافقين يتمتعون بأحكام الإسلام وحقوقه وحمايته ما دامت أسرارهم مجهولة ، ولم يتّضح وضعهم على حقيقته ، أمّا إذا تبيّن وضعهم وانكشفت خبيئة أسرارهم فسوف يحكمون بأنّهم كفار حربيون ، وفي هذه الحالة يمكن جهادهم حتى بالسيف.

لكن الذي يضعف هذا الاحتمال أنّ إطلاق كلمة المنافقين على هؤلاء لا يصح في مثل هذه الحالة ، بل إنّهم يعتبرون من جملة الكفار الحربيين ، لأنّ المنافق ـ كما قلنا سابقا ـ هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر.

* * *

١٢٥

الآية

( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤) )

سبب النّزول

ذكرت في سبب نزول هذه الآيات أقوال وآراء مختلفة ، وكلّها تتفق على أن بعض المنافقين قد تحدثوا بأحاديث سيئة وغير مقبولة حول الإسلام والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعد أن فشا أمرهم وانتشرت أسرارهم أقسموا كذبا بأنّهم لم يتفوهوا بشيء ، وكذلك فإنّهم قد دبروا مؤامرة ضد النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير أنّها قد أحبطت.

ومن جملتها : أنّ أحد المنافقين ـ واسمه جلاس ـ سمع بعضا من خطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام غزوة تبوك ، وأنكرها بشدّة وكذبها ، وبعد رجوع المسلمين إلى المدينة حضر رجل يقال له : عامر بن قيس ـ كان قد سمع جلاس ـ عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبلغه كلام جلاس ، فلما حضر جلاس وسأله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك أنكر ، فأمرهما

١٢٦

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقسما بالله ـ في المسجد عند المنبر ـ أنّهما لا يكذبان ، فاقتربا من المنبر في المسجد وأقسما ، إلّا أن عامرا دعا بعد القسم وقال : اللهم أنزل على نبيّك آية تعرّف الصادق ، فأمّن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون على دعائه. فنزل جبرئيل بهذه الآية ، فلمّا بلغ قوله تعالى :( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ) قال جلاس : يا رسول الله ، إنّ الله اقترح عليّ التوبة ، وإنّي قد ندمت على ما كان منّي ، وأتوب منه ، فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته.

وكما أشرنا سابقا فقد ذكر أن جماعة من المنافقين صمموا على قتل النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طريق عودته من غزوة تبوك ، فلمّا وصل إلى العقبة نفروا بعيره ليسقط في الوادي، إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أطلع بنور الوحي على هذه النّية الخبيثة ، فرد كيدهم في نحورهم وأبطل مكرهم. وكان زمام الناقة بيد عمار يقودها ، وكان حذيفة يسوقها لتكون الناقة في مأمن تام ، وأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين أن يسلكوا طريقا آخر حتى لا يخفي المنافقون أنفسهم بين المسلمين وينفّذوا خطتهم.

ولما وصل إلى سمع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقع أقدام هؤلاء أو حوافر خيولهم أمر بعض أصحابه أن يدفعوهم ويبعدوهم ، وكان عدد هؤلاء المنافقين اثني عشر أو خمسة عشر رجلا ، وكان بعضهم قد أخفى وجهه ، فلمّا رأوا أن الوضع لا يساعدهم على تنفيذ ما اتفقوا تواروا عن الأنظار ، إلّا أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفهم وذكر أسماءهم واحدا واحدا لبعض أصحابه(١) .

لكن الآية ـ كما سنرى ـ تشير إلى خطتين وبرنامجين للمنافقين : إحداهما : أقوال هؤلاء السيئة. والأخرى : المؤامرة والخطة التي أحبطت ، وعلى هذا الأساس فإنا نعتقد أن كلا سببي النزول صحيحان معا.

__________________

(١) ما ذكرناه اقتباس من تفسير مجمع البيان والمنار وروح المعاني وتفاسير أخر.

١٢٧

التّفسير

مؤامرة خطرة :

إنّ ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة واضح جدّا ، لأنّ الكلام كان يدور حول المنافقين ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الآية تزيح الستار عن عمل آخر من أعمال المنافقين ، وهو أن هؤلاء عند ما رأوا أن أمرهم قد انكشف ، أنكروا ما نسب إليهم بل أقسموا باليمين الكاذبة على مدّعاهم.

في البداية تذكر الآية أن هؤلاء المنافقين لا يرتدعون عن اليمين الكاذبة في تأييد إنكارهم ، ولدفع التهمة فإنّهم( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ) في الوقت الذي يعلمون أنّهم ارتكبوا ما نسب إليهم من الكفر( وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ) وعلى هذا فإنّهم قد اختاروا طريق الكفر بعد إعلانهم الإسلام( وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) ومن البديهي أن هؤلاء لم يكونوا مسلمين منذ البداية ، بل إنّهم أظهروا الإسلام فقط ، وعلى هذا فإنّهم بإظهارهم الكفر قد هتكوا ومزّقوا حتى هذا الحجاب المزيف الذي كانوا يتسترون به.

وفوق كل ذلك فقد صمّموا على أمر خطير لم يوفقوا لتحقيقه( وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ) ويمكن أن يكون هذا إشارة إلى تلك المؤامرة لقتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة العقبة ، والتي مرّ ذكرها آنفا ، أو أنّه إشارة إلى كل أعمال المنافقين التي يسعون من خلالها إلى تحطيم المجتمع الإسلامي وبثّ بذور الفرقة والفساد والنفاق بين أوساطه ، لكنّهم لن يصلوا إلى أهدافهم مطلقا.

ممّا يستحق الانتباه أن يقظة المسلمين تجاه الحوادث المختلفة كانت سببا في معرفة المنافقين وكشفهم ، فقد كان المسلمون ـ دائما ـ يرصدون هؤلاء ، فإذا سمعوا منهم كلاما منافيا فإنّهم يخبرون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من أجل منعهم وتلقي الأوامر فيما يجب عمله تجاه هؤلاء. إنّ هذا الوعي والعمل المضاد المؤيّد بنزول الآيات أدى إلى فضح المنافقين وإحباط مؤامراتهم وخططهم الخبيثة.

١٢٨

الجملة الأخرى تبيّن واقع المنافقين القبيح ونكرانهم للجميل فتقول الآية : إنّ هؤلاء لم يروا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي خلاف أو أذى ، ولم يتضرروا بأي شيء نتيجة للتشريع الإسلامي، بل على العكس ، فإنّهم قد تمتعوا في ظل حكم الإسلام بمختلف النعم المادية والمعنوية( وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (١) وهذه قمة اللؤم.

ولا شك أنّ إغناءهم وتأمين حاجاتهم في ظل رحمة الله وفضله وكذلك بجهود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستحق أن ينقم من جرائه هؤلاء المنافقون ، بل إنّ حقّه الشكر والثناء ، إلّا أنّ هؤلاء اللؤماء المنكرين للجميل والمنحرفي السيرة والسلوك قابلوا الإحسان بالإساءة.

ومثل هذا التعبير الجميل يستعمل كثيرا في المحادثات والمقالات ، فمثلا نقول للذي أنعمنا عليه سنين طويلة وقابل إحساننا بالخيانة : إنّ ذنبنا وتقصيرنا الوحيد أنّنا آويناك ودافعنا عنك وقدّمنا لك منتهى المحبّة على طبق الإخلاص.

غير أنّ القرآن ـ كعادته ـ رغم هذه الأعمال لم يغلق الأبواب بوجه هؤلاء ، بل فتح باب التوبة والرجوع إلى الحق على مصراعيه إن أرادوا ذلك ، فقال :( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ) . وهذه علامة واقعية الإسلام واهتمامه بمسألة التربية ، ومعارضته لاستخدام الشدّة في غير محلّها وهكذا فتح باب التوبة حتى بوجه المنافقين الذين طالما كادوا للإسلام وتآمروا على نبيّه وحاكوا الدسائس والتهم ضده ، بل إنّه دعاهم إلى التوبة أيضا.

هذه في الحقيقة هي الصورة الواقعية للإسلام ، فما أظلم هؤلاء الذين يرمون

__________________

(١) ممّا يستحق الانتباه أن الجملة أعلاه بالرغم من أنّها تتحدث عن فضل الله ورسوله ، إلّا أن الضمير في( مِنْ فَضْلِهِ ) جاء مفردا لا مثنى ، والسبب في ذلك هو ما ذكرناه قبل عدة آيات من أن أمثال هذه التعبيرات لأجل إثبات حقيقة التوحيد ، وأن كل الأعمال بيد الله سبحانه ، وأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ما عمل عملا فهو بأمر الله سبحانه ، ولا ينعزل عن إرادته سبحانه.

١٢٩

الإلام بأنّه دين القوة والإرهاب والخشونة

هل توجد في عالمنا المعاصر دولة مستعدة لمعاملة من يسعى لإسقاطها وتحطيمها كما رأينا في تعامل الإسلام السامي مع مناوئيه ، مهما ادّعت أنّها من أنصار المحبة والسلام؟! وكما مرّ علينا في سبب نزول الآية ، فإنّ أحد رؤوس النفاق والمخططين له لما سمع هذا الكلام تاب ممّا عمل ، وقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته.

وفي نفس الوقت ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء أن هذا التسامح الإسلامي صادر من منطق الضعف ، حذّرهم بأنّهم إن استمروا في غيهم وتنكّروا لتوبتهم ، فإنّ العذاب الشديد سينالهم في الدّارين( وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) وإذا كانوا يظنون أنّ أحدا يستطيع أن يمدّ لهم يد العون مقابل العذاب ا لإلهي فإنّهم في خطأ كبير ، فإنّ العذاب إذا نزل بهم فساء صباح المنذرين :( وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

من الواضح بديهة أنّ عذاب هؤلاء في الآخرة معلوم ، وهو نار جهنم ، أمّا عذابهم في الدنيا فهو فضيحتهم ومهانتهم وتعاستهم وأمثال ذلك.

* * *

١٣٠

الآيات

( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨) )

سبب النّزول

المعروف بين المفسّرين أنّ هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار يدي ثعلبة بن حاطب ، وكان رجلا فقيرا يختلف إلى المسجد دائما ، وكان يصر على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو له بأن يرزقه الله مالا وفيرا ، فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» أو ليس الأولى لك أن تتأسى بنبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحيا حياة بسيطة وتقنع بها؟ لكن ثعلبة لم يكف ولم يصرف النظر عن أمله ، وأخيرا قال للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والّذي بعثك بالحق نبيّا ، لئن رزقني الله لأعطين كل الحقوق وأؤدي كل الواجبات ، فدعا له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلم يمض زمان ـ وعلى رواية ـ حتى توفي ابن عم له ، وكان غنيّا جدّا ،

١٣١

فوصلت إليه ثروة عظيمة ، وعلى رواية أخرى أنّه اشترى غنما ، فلم تزل تتوالد حتى أصبح حفظها ورعايتها في المدينة أمرا غير ممكن ، فاضطر أن يخرج إلى أطراف المدينة ، فألهته أمواله عن حضور الجماعة ، بل وحتى الجمعة.

وبعد مدّة أرسل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاملا إلى ثعلبة ليأخذ الزكاة منه ، غير أن هذا الرجل البخيل الذي عاش لتوّه حياة الرفاه امتنع من أداء حقوق الله تعالى ، ولم يكتف بذلك ، بل اعترض على حكم الزّكاة وقال : إنّ حكم الزكاة كالجزية ، أي أنّنا أسلمنا حتى لا نؤدي الجزية ، فإذا وجبت علينا الزكاة فأي فرق بيننا وبين غير المسلمين؟

قال هذا في الوقت الذي لم يفهم معنى الجزية ولا معنى الزكاة ، أو أنّه فهمه ، إلّا أن حبّ الدنيا وتعلقه بها لم يسمح له ببيان الحقيقة وإظهار الحق ، فلمّا بلغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قاله قال : «يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة» ، فنزلت هذه الآيات.

وقد ذكرت أسباب أخر لنزول هذه الآيات تشابه قصّة ثعلبة مع اختلاف يسير.

ويفهم من أسباب النزول المذكورة ومن مضمون الآيات أنّ هذا الشخص ـ أو الأشخاص المذكورين ـ لم يكونوا من المنافقين في بداية الأمر ، لكنّهم لهذه الأعمال ساروا في ركابهم.

التّفسير

المنافقون وقلّة الاستيعاب :

هذه الآيات في الحقيقة تضع إصبعها على صفة أخرى من صفات المنافقين السيّئة ، وهي أنّ هؤلاء إذا مسّهم البؤس والفقر والمسكنة عزفوا على وتر الإسلام بشكل لا يصدق معه أحد أنّ هؤلاء يمكن أن يكونوا يوما من جملة المنافقين ، بل ربّما ذمّوا ولاموا الذين يمتلكون الثروات والقدرات الواسعة على عدم استثمارها في خدمة المحرومين ومساعدة المحتاجين!

١٣٢

إلّا أنّ هؤلاء أنفسهم ، إذا تحسّن وضعهم المادي فإنّهم سينسون كل عهودهم ومواثيقهم مع الله والناس ، ويغرقون في حبّ الدنيا ، وربّما تغيّرت كل معالم شخصياتهم ، ويبدؤون بالتفكير بصورة أخرى وبمنظار مختلف تماما ، وهكذا يؤدي ضعف النفس هذا إلى حبّ الدنيا والبخل وعدم الإنفاق وبالتالي يكرّس روح النفاق فيهم بشكل يوصد أمامهم أبواب الرجوع إلى الحق.

فالآية الأولى تتحدث عن بعض المنافقين الذين عاهدون الله على البذل والعطاء لخدمة عباده إذا ما أعطاهم الله المال الوفير( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

إلّا أنّهم يؤكّدون هذه الكلمات والوعود ما دامت أيديهم خالية من الأموال( فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) غير أن عملهم هذا ومخالفتهم للعهود التي قطعوها على أنفسهم بذرت روح النفاق في قلوبهم وسيبقى إلى يوم القيامة متمكنا منهم( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) وإنّما استحقوا هذه العاقبة السيئة غير المحمودة( بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

وفي النهاية وبّخت الآية هؤلاء النفر ولامتهم على النوايا السيئة التي يضمرونها ، وعلى انحرافهم عن الصراط المستقيم ، واستفهمت بأنّهم( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) .

* * *

ملاحظات

وهنا يجب الانتباه إلى عدّة ملاحظات :

١ ـ يمكن أن نرى بوضوح تام من خلال جملة( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ) أنّ النسبة والعلاقة بين الكثير من الذنوب والصفات السيئة ، بل وحتى بين الكفر

١٣٣

والنفاق ، هي نسبة وعلاقة العلة والمعلول ، لأنّ الجملة الآنفة الذكر تبيّن وتقول بصراحة : إنّ سبب النفاق الذي نبت في قلوبهم وحرفهم عن الجادة هو بخلهم ونقضهم لعهودهم ، وكذلك الذنوب والمخالفات الأخرى التي ارتكبوها ، ولهذا فإنّنا نقرأ في بعض العبارات أن الكبائر في بعض الأحيان تكون سببا في أن يموت الإنسان وهو غير مؤمن ، إذ ينسلخ منه روح الإيمان بسببها.

٢ ـ إنّ المقصود من( يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) والذي يعود ضميره إلى الله سبحانه وتعالى هو يوم القيامة ، لأن تعبير( لِقاءَ رَبِّهِ ) وأمثاله في القرآن يستعمل عادة في موضوع القيامة. صحيح أن فترة العمل ـ التي هي الحياة الدنيا ـ تنتهي بموت الإنسان ، وبموته يغلق ملف أعماله الصالحة والطالحة ، إلّا أن آثار تلك الأعمال تبقى تؤثر في روح الإنسان إلى يوم القيامة.

وقد احتمل جماعة أنّ ضمير (يلقونه) يعود إلى البخل ، فيكون المعنى : حتى يلاقوا جزاء بخلهم وعقابه. ويحتمل كذلك أن يكون المراد من لقاء الله : لحظة الموت. إلّا أن جميع هذه خلاف ظاهر الآية ، والظاهر ما قلناه.

ولنا بحث في أنّه ما هو المقصود من لقاء الله في ذيل الآية (٦٤) من سورة البقرة.

٣ ـ ويستفاد أيضا ـ من الآيات أعلاه ـ أنّ نقض العهود والكذب من صفات المنافقين ، فهؤلاء سحقوا جميع العهود المؤكدة مع ربّهم ولم يعيروها أية أهمية ، فإنّهم يكذبون حتى على ربّهم ، والحديث المعروف المنقول عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد هذه الحقيقة ، حيث

يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للمنافق ثلاث علامات : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان»(١) .

ومن الملفت للنظر وجود هذه العلامات الثلاث مجتمعة في القصّة المذكورة ـ قصّة ثعلبة ـ فإنّه كذب ، وأخلف وعده ، وخان أمانة الله ، وهي الأموال التي رزقه الله

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٣٤

إيّاها ، وهي في الحقيقة أمانة الله عنده.

وقد ورد الحديث المذكور في الكافي بصورة أشد تأكيدا عن الإمام الصادقعليه‌السلام عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «ثلاث من كن فيه كان منافقا ، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم : من إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف»(١) .

نذكر هنا أن من الممكن أن تصدر الذنوب المذكورة من المؤمنين ، إلّا أنّها نادرة ، أمّا استمرار صدورها فهو علامة روح النفاق في ذلك الشخص.

٤ ـ وهنا ملاحظة أخرى ينبغي أن ننبه عليها ، وهي أن ما قرأناه في هذه الآيات ليس بحثا تاريخيا مختصا بحقبة مضت من الزمان ، بل هو بيان واقع أخلاقي واجتماعي يوجد في كل عصر وزمان ، وفي كل مجتمع ـ بدون استثناء ـ توجد نماذج كثيرة تمثل هذا الواقع.

إذا لا حظنا واقعنا الذي نعيشه ودققنا فيه ـ وربّما إذا نظرنا إلى أنفسنا ـ فسنكتشف نماذج من أعمال ثعلبة بن حاطب ، وطريقة تفكيره في صور متعددة وأشخاص مختلفين ، فإنّ الكثيرين في الأوضاع العادية أو عند إعسارهم وفقرهم يكونون من المؤمنين المتحرقين على دينهم والثابتين على عهدهم حيث يحضرون في الحلقات الدينية ، وينضوون تحت كل لواء يدعو إلى الإصلاح وإنقاذ المجتمع ، ويضمون أصواتهم إلى كل مناد الحق والعدالة ، ولا يألون جهدا في سبيل أعمال الخير ، ويصرخون ويقفون بوجه كل فساد.

أمّا إذا فتحت أمامهم أبواب الدنيا ونالوا بعض العناوين والمراكز القيادية أو تسلطوا على رقاب الناس ، فستتغير صورهم وسلوكهم ، والأدهى من كل ذلك أن تتبدل ماهيتهم ، وعندئذ سيخمد لهيب عشقهم لله ، ويهدأ ذلك الهيجان والتحرق على دين الله ، وتفتقدهم تلك الحلقات والجلسات الدينية ، فلا يساهمون في أية خطة إصلاحية ولا يسعون من أجل ذلك الحق ، ولا تثبت لهم قدم في مواجهة

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٦٠٧.

١٣٥

الباطل.

هؤلاء وقبل أن يصلوا الى مآربهم لم يكن لهم محل من الإعراب ، أو أثر في المجتمع ، لذا سيعاهدون الله وعباده بألف عهد وميثاق بأنّهم إن تمكنوا من الأمر ، أو امتلأت أياديهم من القدرات والأموال فسيفعلون كذا وكذا ، ويتوسلون للوصول الى أهدافهم بطرح آلاف الإشكالات والانتقادات فى حق المتصدين ويتهمونهم بعدم معرفتهم بإدارة الأمور ، وعدم إحاطتهم بوظائفهم وواجباتهم ، أمّا إذا وصلوا الى ما يرومونه وتمكنوا من الأمر ، فسينسون كل تلك الوعود والعهود ويتنكرون لها ، وستتبخر كل تلك الإيرادات والانتقادات وتذوب كما يذوب الجليد في حرارة الصيف.

نعم ، إنّ ضعف النفس هذا واحدة من العلامات البارزة والواضحة للمنافقين ، وهل النفاق إلّا كون صاحبه ذا وجهين ، وبتعبير آخر : هل هو إلّا ازدواج الشخصية؟ إن سيرة هكذا أفراد وتأريخهم نموذج للشخصية المزدوجة ، لأن الإنسان الأصيل ذو الشخصية المتينة لا يكون مزدوج الشخصية.

ولا شك أنّ للنفاق درجات مختلفة ، كالإيمان ، تماما ، فالبعض قد ترسخت فيهم هذه الخصلة الخبيثة الى درجة اقتلعت كل زهور الإيمان بالله من قلوبهم ، ولم تبق لها أثرا ، بالرغم من أنّهم ألصقوا أنفسهم بالمؤمنين وادعوا أنّهم منهم.

لكن البعض الآخر مع أنّهم يملكون إيمانا ضعيفا ، وهم مسلمون بالفعل ، إلّا أنّهم يرتكبون أعمالا تتفق مع سلوك المنافقين ، وتفوح منها رائحة الازدواجية ، فهؤلاء ديدنهم الكذب ، إلّا أن ظاهرهم الصدق والصلاح ، ومثل هؤلاء يصدق عليهم أيضا أنّهم منافقون وذوو وجهين.

أليس الذي عرف بالأمانة لظاهره الصالح ، واستطاع بذلك أن يكسب ثقة واطمئنان الناس فأودعوه أماناتهم ، إلّا أنّه يخونهم في أماناتهم ، هو في واقع الحال مزدوج الشخصية؟

١٣٦

وكذلك الذين يقطعون العهود والمواثيق ، لكنّهم لا يفون بها مطلقا ، ألا يعتبر عملهم عمل المنافقين؟

إن من أكبر الأمراض الاجتماعية ، ومن أهم عوامل تخلف المجتمع وجود أمثال هؤلاء المنافقين في المجتمعات البشرية ونحن نستطيع أن نحصي الكثير منهم في مجتمعاتنا الاسلامية إذا كنّا واقعيين ولم نكذب على أنفسنا. والعجب أنّنا رغم كل هذه العيوب والمخازي والبعد عن روح التعليمات والقوانين الإسلامية ، فإننا نحمّل الإسلام تبعة تخلفنا عن الركب الحضاري الأصيل!

* * *

١٣٧

الآيتان

( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠) )

سبب النّزول

وردت عدّة روايات في سبب نزول هذه الآيات في كتب التّفسير والحديث ، يستفاد من مجموعها أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد صمّم على إعداد جيش المسلمين لمقابلة العدو ـ وربّما كان ذلك في غزوة تبوك ـ وكان محتاجا لمعونة الناس في هذا الأمر ، فلما أخبرهم بذلك سارع الأغنياء إلى بذل الكثير من أموالهم ، سواء كان هذا البذل من باب الزكاة أو الإنفاق ، ووضعوا هذه الأموال تحت تصرف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أمّا الفقراء ، كأبي عقيل الأنصاري أو سالم بن عمير الأنصاري ، لما لم يجدوا ما ينفقونه لمساعدة جنود الإسلام ، فقد عمدوا إلى مضاعفة عملهم ، واستقاء الماء

١٣٨

ليلا ، فحصلوا على صاعين من التمر ، فادخروا منه صاعا لمعيشتهم ومعيشة أهليهم ، وأتوا بالآخر إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدموه ، وشاركوا بهذا الشيء اليسير ـ الذي لا قيمة له ظاهرا ـ في هذا المشروع الإسلامي الكبير.

غير أنّ المنافقين الذين لا همّ لهم إلّا تتبع ما يمكن التشهير به بدلا من التفكير بالمساهمة الجدية فإنّهم عابوا كلا الفريقين ، أمّا الأغنياء فاتهموهم بأنّهم إنّما ينفقون رياء وسمعة، وأمّا الفقراء الذين لا يستطيعون إلّا جهدهم ، والذين قدموا اليسير وهو عند الله كثير ، فإنهم سخروا منهم بأن جيش الإسلام هل يحتاج إلى هذا المقدار اليسير؟ فنزلت هذه الآيات ، وهددتهم تهديدا شديدا وحذرتهم من عذاب الله.

التّفسير

خبث المنافقين :

في هذه الآيات إشارة إلى صفة أخرى من الصفات العامّة للمنافقين ، وهي أنّهم أشخاص لجوجون معاندون وهمهم التماس نقاط ضعف في أعمال الآخرين واحتقار كل عمل مفيد يخدم المجتمع ومحاولة إجهاضه بأساليب شيطانية خبيثة من أجل صرف الناس عن عمل الخير وبذلك يزرعون بذور النفاق وسوء ظن في أذهان المجتمع ، وبالتالي إيقاف عجلة الإبداع وتطور المجتمع وخمول الناس وموت الفكر الخلّاق.

لكن القرآن المجيد ذم هذه الطريقة غير الإنسانية التي يتبعها هؤلاء ، وعرّفها للمسلمين لكي لا يقعوا في حبائل مكر المنافقين ومن ناحية أخرى أراد أن يفهم المنافقون أن سهمهم لا يصيب الهدف في المجتمع الإسلامي.

ففي البداية يقول : إنّ هؤلاء( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ

١٣٩

أَلِيمٌ ) .

«يلمزون» مأخوذة من مادة (لمز) بمعنى تتبع العيوب والعثرات ، و «المطوّعين» مأخوذة من مادة (طوع) على وزن (موج) بمعنى الطاعة ، لكن هذه الكلمة تطلق عادة على الأفراد الذين دأبهم عمل الخيرات ، وهم يعملون بالمستحبات علاوة على الواجبات.

ويستفاد من الآية أعلاه أنّ المنافقين كانوا يعيبون جماعة ، ويسخرون من الأخرى ، ومن المعلوم أن السخرية كانت تنال الذين يقدمون الشيء القليل ، والذين لا يجدون غيره ليبذلوه في سبيل الإسلام ، وعلى هذا لا بدّ أن يكون لمزهم وطعنهم مرتبطا بأولئك الذين قدموا الأموال الطائلة في سبيل خدمة الإسلام العزيز ، فكانوا يرمون الأغنياء بالرياء ، ويسخرون من الفقراء لقلّة ما يقدمونه.

ونلاحظ في الآية التي تليها تأكيدا أشد على مجازاة هؤلاء المنافقين ، وتذكر آخر تهديد بتوجيه الكلام وتحويله من الغيبة إلى الخطاب ، والمخاطب هذه المرّة هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت :( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) .

وإنّما لن يغفر الله لهم لأنّهم قد أنكروا الله ورسالة رسوله ، واختاروا طريق الكفر ، وهذا الإختيار هو الذي أرداهم في هاوية النفاق وعواقبه المشؤومة( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) . ومن الواضح أن هداية الله تشمل السائرون في طريق الحق وطلب الحقيقة ، أمّا الفساق والمجرمون والمنافقون فإنّ الآية تقول :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) .

* * *

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

تظنّني بها رغبة بي عنها. وإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدِّد إليها إلّا الله تعالى، وأمّا ما ذكرت انّه رقى إليك عنّي فإنّما رقاه الملّاقون المشّاؤون بالنميمة المفرِّقون بين الجمع، وكذب الغاوون المارقون، ما أردت حرباً ولا خلافاً، وإنِّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلّين، حزب الظالم، وأعوان الشيطان الرجيم. إلى آخر الكتاب(١) .

كتاب معاوية إلى عبد الله بن جعفر:

كتب إلى عبد الله: أما بعد: فقد عرفت أثرتي إيّاك على مَن سواك، وحُسن رأيي فيك وفي أهل بيتك، وقد أتاني عنك ما أكره، فإن بايعت تُشكر، وإن تأب تُجبر، والسَّلام.

فكتب إليه عبد الله بن جعفر:

أمّا بعد: فقد جاءني كتابك، وفهمت ما ذكرتَ فيه من أثرتك إيّاي على مَن سواي، فإن تفعل فبحظّك أصبتَ، وإن تأبَ فبنفسك قصَّرتَ، وأمّا ما ذكرت من جبرك إيّاي على البيعة ليزيد فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد أجبرناك وأباك على الإسلام حتى أدخلناكما كارهَين غير طائعين؟ والسَّلام. الإمامة والسياسة ١: ١٤٧، ١٤٨.

وكتب معاوية إلى عبد الله بن الزبير:

رأيت كرام الناس إن كفّ عنهمُ

بحلم رأوا فضلاً لمن قد تحلّما

ولا سيّما إن كان عفواً بقدرة

فذلك أحرى أن يجلّ ويعظما

ولست بذي لؤم فتعذر بالذي

أتيته من أخلاق مَن كان ألوما

ولكنَّ غشّاً لست تعرف غيره

وقد غشَّ قبل اليوم إبليس آدما

فما غشَّ إلّا نفسه في فعا له

فأصبح ملعوناً وقد كان مكرما

وانِّي لأخشى أن أنا لك بالذي

أردت فيجزي الله مَن كان أظلما

فكتب عبد الله بن الزبير إلى معاوية:

ألا سمع الله الذي أنا عبده

فأخزى إله الناس من كان أظلما

وأجرى على الله العظيم بحلمه

وأسرعهم في الموبقات تقحّما

____________________

١ - مرّ بتمامه فى هذا الجزء صفحة ١٦٠.

٢٤١

أغرَّك أن قالوا: حليم بعزَّة

وليس بذي حلم ولكن تحلّما

ولو رمت ما أن قد عزمت وجدتني

هزبر عرين يترك القرنِ أكتما

وأقسم لولا بيعة لك لم أكن

لأنقضها لم تنج منِّي مسلما

الامامة والسياسة ١: ١٤٧، ١٤٨.

بيعة يزيد

في المدينة المشرّفة

حجّ معاوية في سنة ٥٠، واعتمر في رجب سنة ٥٦ وكان في كلا السّفرين يسعى وراء بيعة يزيد، وله في ذلك خطوات واسعة ومواقف ومفاوضات مع بقيّة الصّحابة ووجوه الاُمّة، غير أنّ المؤرِّخين خلطوا أخبار الرِّحلتين بعضها ببعض وما فصّلوها تفصيلاً.

الرحلة الاولى

قال ابن قتيبة: قالوا: إستخار الله معاوية وأعرض عن ذكر البيعة حتّى قدم المدينة سنة خمسين فتلقّاه الناس فلمّا استقرّ في منزله أرسل إلى عبد الله بن عبّاس، وعبد الله ابن جعفر بن أبي طالب، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس حتّى يخرج هؤلاء النفر فلمّا جلسوا تكلّم معاوية فقال: ألحمد لِلّه الذي أمرنا بحمده، ووعدنا عليه ثوابه، نحمده كثيراً كما أنعم علينا كثيراً، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وانّ محمّداً عبده ورسوله. أمّا بعد: فإنِّي قد كبر سنيّ ووهن عظمي، وقرب أجلي، وأوشكت أن اُدعى فاُجيب، وقد رأيت أن استخلف عليكم بعدي يزيد ورأيته لكم رضا وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها، ولم يمنعني أن اُحضر حسناً وحسيناً إلّا أنّهما أولاد أبيهما، على حسن رأيي فيهما وشديد محبّتي لهما، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً يرحمكم الله.

فتكلّم عبد الله بن العبّاس فقال:

ألحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه، و أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وانّ محمّداً عبده ورسوله، وصلّى الله على محمّد وآل محمّد.

أمّا بعد: فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا، وقلت فسمعنا، وإنَّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست

٢٤٢

أسماؤه اختار محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرسالته، واختاره لوحيه، وشرّفه على خلقه، فأشرف الناس من تشرّف به، وأولاهم بالأمر أخصّهم به، وإنَّما على الاُمّة التسليم لنبيِّها إذ إختاره الله لها فإنّه إنّما اختار محمّداً بعلمه، وهو العليم الخبير، واستغفر الله لي ولكم.

فقام عبد الله بن جعفر فقال:

ألحمد لِلَّه أهل الحمد ومُنتهاه، نحمده على إلها منا حمده، ونرغب إليه في تأدية حقِّه، وأشهد أن لا إله إلّا الله واحداً صمداً لم يتّخذ صاحبةً ولا ولدا، وانَّ محمّداً عبده ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أمّا بعدُ: فإنَّ هذه الخلافة إن اُخذ فيها بالقرآن؟ فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله. وإن اُخذ فيها بسنَّة رسول الله؟ فأولوا رسول الله، وإن اُخذ بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر فأيُّ الناس أفضل وأكمل وأحقُّ بهذا الأمر من آل الرَّسول؟ و أيم الله لو ولوه بعد نبيّهم لوضعوا الامر موضعه، لحقِّه وصدقه، ولاُطيع الله، وعُصي الشيطان، وما اختلف في الأمّة سيفان، فاتَّق الله يا معاوية! فانَّك قد صرت راعياً ونحن الرعيَّة، فانظر لرعيّتك، فانَّك مسئولٌ عنها غداً، وأمّا ما ذكرت من ابني عمّي. وتركك أن تحضرهما، فوالله ما أصبت الحقَّ، ولا يجوز لك ذلك إلّا بهما، وإنَّك لتعلم أنَّهما معدن العلم والكرم، فقُلْ أو دع، وأستغفر الله لي ولكم.

فتكلّم عبد الله بن الزبير فقال:

ألحمد لله الذي عرّفنا دينه، وأكرمنا برسوله، أحمده على ما أبلى وأولى، وأشهد أن لا إله إلّا الله. وأنَّ محمّداً عبده ورسوله. أمّا بعد: فإنَّ هذه الخلافة لقريش خاصَّة، تتناولها بمآثرها السنيَّة، وأفعالها المرضيَّة، مع شرف الآباء، وكرم الأبناء، فاتّقِ الله يا معاوية! وأنصف من نفسك، فانَّ هذا عبد الله بن عبّاس ابن عمِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، ابن عمِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليٌّ خلّف حسناً وحسيناً، وأنت تعلم مَن هما، وما هما، فاتَّق الله يا معاوية! وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

فتكلّم عبد الله بن عمر فقال:

ألحمد لِلَّه الذي أكرمنا بدينه وشرّفنا بنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا بعد: فإنَّ هذه الخلافة ليست بهرقليَّة، ولا قيصريَّة، ولا كسرويَّة، يتوارثها الأبناء عن الآباء، ولو كان كذلك

٢٤٣

كنتُ القائم بها بعد أبي، فوالله ما أدخلني مع الستَّة من أصحاب الشورى، إلّا أنَّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً، وإنَّما هي في قريش خاصَّة، لمن كان لها أهلاً، ممَّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم، مَن كان أتقى وأرضى، فإن كنتَ تريد الفتيان من قريش، فلعمري إنَّ يزيد من فتيانها، واعلم أنَّه لا يُغني عنك من الله شيئاً.

فتكلم معاوية فقال:

قد قلتُ وقلتم، وإنَّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء، فإبني أحبُّ إليَّ من أبنائهم، مع أنَّ ابني إن قاولتموه وجد مقالاً، وإنَّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف، لأنَّهم أهل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولَّى الناسُ أبا بكر وعمر، من غير معدن الملك والخلافة، غير أنّهما سارا بسيرة جميلة، ثمَّ رجع الملك إلى بني عبد مناف، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة، وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله.

ثمَّ أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد، ولم يقطع عنهم شيئاً من صلاتهم وأعطياتهم، ثمَّ انصرف راجعاً إلى الشام، وسكت عن البيعة، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين.

الإمامة والسياسة ١: ١٤٢ - ١٤٤، جمهرة الخطب ٢: ٢٣٣ - ٢٣٦.

قال الأميني: لم يذكر في هذا اللفظ ما تكلّم به عبد الرَّحمن، ذكره ابن حجر في الإصابة ٢: ٤٠٨ قال: خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد، فكلّمه الحسين ابن علي، وابن الزبير، وعبد الرَّحمن بن أبي بكر، فقال له عبد الرَّحمن: أهرقليّة؟ كلّما مات قيصر كان قيصر مكانه، لا نفعل والله أبداً.

صورة اخرى

من محاورة الرحلة الاُولى

قدم معاوية المدينة حاجّاً(١) فلمّا أن دنى من المدينة خرج إليه الناس يتلقّونه ما بين راكبٍ وماشٍ، وخرج النساء والصبيان، فلقيه الناس على حال طاقتهم وما تسارعوا به في القوت والقرب، فلان لمن كافحه، وفاوض العامَّة بمحادثته، وتألَّفهم جهده مقاربة

____________________

١ - من المتسالم عليه انّ معاوية حجّ فى سنة خمسين.

٢٤٤

ومصانعة ليستميلهم إلى ما دخل فيه الناس، حتى قال في بعض ما يجتلبهم به أهل المدينة: ما زلت أطوي الحزن من وعثاء السفر بالحبِّ لمطالعتكم حتى انطوى البعيد، ولان الخشن، وحقّ لجار رسول الله أن يُتاق إليه. فردَّ عليه القوم: بنفسك ودارك ومهاجرك أما انَّ لك منهم كأشفاق الحميم البرّ والحفيِّ. حتى إذا كان بالجرف لقيه الحسين بن علي وعبد الله بن عبّاس فقال معاوية: مرحباً بابن بنت رسول الله، وابن صنو أبيه. ثمّ انحرف إلى الناس فقال: هذان شيخا بني عبد مناف. وأقبل عليهما بوجهه وحديثه فرحَّب وقرَّب وجعل يواجه هذا مرَّة، ويضاحك هذا اُخرى. حتى ورد المدينة، فلمّا خالطها لقيته المشاة والنساء والصبيان يسلّمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل، فانصرفا عنه، فمال الحسين إلى منزله، ومضى عبد الله بن عبّاس إلى المسجد، فدخله، وأقبل معاوية ومعه خلقٌ كثيرٌ من أهل الشام حتى أتى عائشة امّ المؤمنين فاستأذن عليها فأذنت له وحده لم يدخل عليها معه أحدٌ وعندها مولاها ذكوان فقالت عائشة: يا معاوية! أكنت تأمن أن اقعد لك رجلاً فأقتلك كما قتلت أخي محمّد بن أبي بكر؟ فقال معاوية: ما كنت لتفعلين ذلك. قالت: لِمَ؟ قال: لأنِّي في بيت أمن، بيت رسول الله. ثمَّ أنَّ عائشة حمدت الله وأثنت عليه وذكرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكرت أبا بكر وعمر، وحضّته على الإقتداء بهما والاتّباع لأثرهما، ثمَّ صمتت، قال: فلم يخطب معاوية وخاف أن يبلغ ما بلغت فارتجل الحديث ارتجالاً ثمَّ قال:

أنت والله يا امّ المؤمنين! العالمة بالله وبرسوله دللتنا على الحقِّ، وحضضتنا على حظِّ أنفسنا، وأنت أهلٌ لأن يُطاع أمرك، ويُسمع قولك، وإنَّ أمر يزيد قضاءٌ من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم؟ وقد أكّد النّاس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم، أفترى أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم؟!

فلمّا سمعت ذلك عائشة علمت أنّه سيمضي على أمره فقالت: أمّا ما ذكرت من عهود ومواثيق فاتّق الله في هؤلاء الرهط، ولا تعجل فيهم، فعلّهم لا يصنعون إلّا ما أحببت.

ثمَّ قام معاوية فلمّا قام قالت عائشة: يا معاوية! قتلت حُجراً وأصحابه العابدين المجتهدين. فقال معاوية: دعي هذا، كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟ قالت: صالح. قال: فدعينا وإيّاهم حتى نلقى ربّنا.

٢٤٥

ثمَّ خرج ومعه ذكوان فاتَّكأ على يد ذكوان وهو يمشي ويقول: تالله إن رأيت كاليوم قطّ خطيباً أبلغ من عائشة بعد رسول الله، ثمَّ مضى حتى أتى منزله، فأرسل إلى الحسين بن علي فخلا به فقال له: يا بن أخي قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي! فما أربك إلى الخلاف، قال الحسين: أرسل إليهم فإن بايعوك كنتُ رجلاً منهم، وألا تكن عجلت عليَّ بأمر. قال: نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً، فخرج وقد أقعد له ابن الزبير رجلاً بالطريق فقال: يقول لك أخوك ابن الزبير: ما كان؟ فلم يزل به حتى استخرج منه شيئاً.

ثمَّ أرسل معاوية إلى ابن الزبير فخلا به فقال له: قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم يا بن أخي فما أربك إلى الخلاف، قال: فارسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلاً منهم، وأن لا تكن عجلت عليَّ بأمر. قال: وتفعل؟ قال: نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً.

فأرسل بعده إلى ابن عمر فأتاه وخلا به فكلّمه بكلام هو ألين من صاحبيه، وقال: إنّي كرهت أن أدع امّة محمّد بعدي كالضان لا راعى لها(١) وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم فما أربك إلى الخلاف، قال ابن عمر: هل لك في أمر تحقن به الدماء، وتدرك به حاجتك؟! فقال معاوية: وددت ذلك. فقال ابن عمر: تبرز سريرك ثمّ أجيء فابايعك على أنّي أدخل فيما اجتمعت عليه الاُمة، فوالله لو أنّ الاُمّة اجتمعت على عبد حبشيّ لدخلت فيما تدخل فيه الاُمَّة. قال: وتفعل؟ قال: نعم ثمَّ خرج.

وأرسل إلى عبد الرَّحمن بن أبي بكر فخلا به قال: بأيِّ يد أو رجل تقدم على معصيتي؟ فقال عبد الرّحمن: أرجو أن يكون ذلك خيراً لي. فقال معاوية: والله لقد هممت أن أقتلك. فقال: لو فعلت لأتبعك الله في الدنيا، ولأدخلك في الآخرة النار. ثمّ خرج.

بقي معاوية يومه ذلك يُعطي الخواصَّ. ويُدني بذمّة الناس، فلمّا كان صبيحة اليوم

____________________

١ - أتصدّق انّ محمداً صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ ترك امّته كالضان لا راعى لها ولم يرض بذلك معاوية؟! حاشا نبىّ الرحمة عن أن يدع الامّة كما يحسبون، غير أنهم نبذوا وصيته وراء ظهورهم، وجروا الويلات على الامة حتى اليوم.

٢٤٦

الثاني أمر بفراش فوضع له وسوّيت مقاعد الخاصّة حوله وتلقاءه من أهله، ثمّ خرج وعليه حلّةٌ يمانيَّةٌ وعمامةٌ دكناء وقد أسبل طرفها بين كتفيه وقد تغلّف وتعطّر فقعد على سريره وأجلس كتّابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من النّاس وإن قرب، ثمّ أرسل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن عبّاس فسبق ابن عبّاس فلمّا دخل وسلّم عليه أقعده في الفراش على يساره فحادثه مليّاً ثمَّ قال: يا بن عبّاس لقد وفَّر الله حظّكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرَّسولعليه‌السلام . فقال ابن عبّاس: نعم أصلح الله أمير المؤمنين، وحظّنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلِّ أوفر. فجعل معاوية يحدِّثه ويحيد به عن طريق المجاوبة، ويعدل إلى ذكر الأعمار على اختلاف الغرائز والطبائع، حتَّى أقبل الحسين بن علي فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة كانت عن يمينه فدخل الحسين وسلّم فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم فأخبره ثمَّ سكت، ثمَّ ابتدأ معاوية فقال:

أمّا بعد: فالحمد لِلَّه وليِّ النعم، ومنزل النقم، وأشهد أن لا إله إلّا الله المتعالي عمّا يقول الملحدون علوّاً كبيرا، وانَّ محمّداً عبده المختصّ المبعوث إلى الجنِّ والإنس كافَّة لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فأدّى عن الله وصدع بأمره، وصبر عن الأذى في جنبه، حتى أوضح دين الله، وأعزَّ أولياءه، و قمع المشركين، وظهر أمر الله وهم كارهون، فمضى صلوات الله عليه وقد ترك من الدنيا ما بذل له، واختار منها الترك لما سخر له زهادةً واختياراً لِلَّه، وأنفة واقتداراً على الصبر، بغياً لما يدوم ويبقى، فهذه صفة الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكّوك، وبين ذلك خوض طول ما عالجناه مشاهدةً ومكافحةً ومعاينةً وسماعاً، وما أعلم منه فوق ما تعلمان، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد علم الله ما اُحاول به من أمر الرعيَّة من سدّ الخلل، ولمِّ الصَّدع بولاية يزيد، بما أيقظ العين، وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما، مع علمه بالسنَّة وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجح بالصمّ الصلاب، وقد علمتما انّ الرَّسول المحفوظ بعصمة الرِّسالة قدَّم على الصدّيق والفاروق ودونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين

٢٤٧

يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنَّة مذكورة، فقادهم الرجل بإمرة، وجمع بهم صلاتهم، وحفظ عليهم فيئهم، وقال ولم يقل معه، وفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوةٌ حسنة، فمهلاً بني عبد المطلب فأنا وأنتم شعبا نفع وجدّ، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما، فما يقول القائل إلّا بفضل قولكما، فردّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما، واستغفر الله لي ولكما.

كلمة الامام السبط:

فتيسَّر ابن عبّاس للكلام ونصب يده للمخاطبة فأشار إليه الحسين وقال: على رسلك، فأنا المراد: ونصيبي في التُّهمة أوفر. فأمسك ابن عبّاس فقام الحسين فحمد الله و صلّى على الرَّسول ثمّ قال:

أمّا بعد: يا معاوية! فلن يؤدّي القائل وإن أطنب في صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جميع جزءاً، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله من ايجاز الصفة والتنكّب عن استبلاغ البيعة، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى، وظهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضَّلت حتّى أفرطت، وأستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتّى بخلت، وجرت حتّى جاوزت، ما بذلت لذي حقّ من أتمِّ حقِّه بنصيب حتّى أخذ الشيطان حظَّه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لامّة محمّد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ، وقد دلَّ يزيد من نفسه على مواقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبَّق لأترابهنّ، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدّر باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتّى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلّا غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا، و لقد لعمر الله أورثنا الرسولعليه‌السلام ولادة، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرَّسول فأذعن للحجّة بذلك، وردَّه الايمان إلى النصف، فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم: كان ويكون، حتّى أتاك الأمر يا معاوية! من طريق كان قصدها

٢٤٨

لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار، وذكرت قيادة الرَّجل القوم بعهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأميره له، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرَّسول، وبيعته له، وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدوَا عليه أفعاله فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري، فكيف يحتجّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصّواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابع وحولك من لا يؤمن في صحبته، ولا يعتمد في دينه وقرابته، و تتخطّاهم إلى مسرف مفتون، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه، و تشقى بها في آخرتك، إنَّ هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم.

فنظر معاوية إلى ابن عبّاس فقال: ما هذا يا بن عبّاس؟ ولما عندك أدهى وأمّر. فقال ابن عبّاس: لعمر الله إنّها لذريّة الرَّسول، وأحد أصحاب الكساء، ومن البيت المطهّر، فاله عمّا تريد، فانَّ لك في الناس مقنعاً حتّى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.

فقال معاوية: أعود الحلم التحلّم، وخيره التحلّم عن الأهل، انصرفا في حفظ الله. ثمَّ أرسل معاوية إلى عبد الرَّحمن بن أبي بكر، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير فجلسوا، فحمد الله وأثني عليه معاوية ثمَّ قال:

يا عبد الله بن عمر! قد كنت تحدِّثنا انّك لا تحبّ أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة، وإنَّ لك الدنيا وما فيها، وإنّي أحذِّرك أن تشقّ عصا المسلمين، وتسعى في تفريق ملأهم، وأن تسفك دماءهم، وإنَّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم، وقد وكّد الناس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم. ثمَّ سكت.

فتكلّم عبد الله بن عمر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:

أمّا بعد: يا معاوية! قد كان قبلك خلفاء، وكان لهم بنون، ليس ابنك بخير من أبنائهم فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، فلم يحابوا في هذا الأمر أحدا ً ، ولكن اختاروا لهذه الاُمّة حيث علموهم، وإن تحذّرني أن أشقّ عصا المسلمين، واُفزِّق ملأهم، واسفك دماءهم، ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله، ولكن إن استقام الناس فسأدخل في صالح ما تدخل فيه اُمّة محمّد.

٢٤٩

فقال معاوية: يرحمك الله، ليس عندك خلافٌ، ثمَّ قال معاوية لعبد الرَّحمن بن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر فقال له عبد الرَّحمن:

إنّك والله لوددنا أن نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد، والذي نفسي بيده لتجعلنّها شورى أو لاُعيدها جذعة، ثمَّ قام ليخرج فتعلّق معاوية بطرف ردائه ثمَّ قال: على رسلك، أللهمّ اكفنيه بما شئت، لا تظهرنَّ لأهل الشام. فإنّي أخشى عليك منهم. ثمَّ قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر، ثمَّ قال له. أنت ثعلب روّاغ كلّما خرجت من جُحر انجحرت في آخر، أنت ألّبت هذين الرجلين، وأخرجتهما إلى ما خرجا إليه. فقال ابن الزبير: أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيّكما نطيع؟ أنطيعك؟! أم نطعيه؟! إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها، وبايع ليزيد، فنحن نبايعه. فكثر كلامه وكلام ابن الزبير حتّى قال له معاوية في بعض كلامه: والله ما أراك إلّا قاتلاً نفسك، ولكأنّي بك قد تخبّطت في الحبالة. ثمّ أمرهم بالإنصراف واحتجب عن النّاس ثلاثة أيّام لا يخرج ثمَّ خرج فأمر المنادي أن ينادي في النّاس: أن يجتمعوا لأمر جامع فاجتمع الناس في المسجد وقعّد هؤلاء(١) حول المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ ذكر يزيد فضله وقراءته القرآن ثمَّ قال: يا أهل المدينة! لقد هممت بيعة يزيد وما تركت قرية ولا مدرة إلّا بعثت إليها بيعته فبايع الناس جميعاً وسلّموا وأخَّرت المدينة بيعته وقلت بيضته وأصله ومن لا أخافهم عليه، وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله، والله لو علمت مكان أحد هو خيرٌ للمسلمين من يزيد لبايعت له.

فقام الحسين فقال: والله لقد تركت من هو خير منه أباً واُمّاً ونفساً فقال معاوية كأنّك تريد نفسك؟ فقال الحسين: نعم أصلحك الله. فقال معاوية: إذا اخبرك، أمّا قولك خيرٌ منه امّاً فلعمري امّك خيرٌ من امّه، ولو لم يكن إلّا انّها امرأة من قريش لكان لنساء قريش أفضلهنَّ، فكيف وهي ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ فاطمة في دينها و سابقتها، فاُمّك لعمر الله خيرٌ من امّه. وأمّا أبوك فقد حاكم أباه إلي الله فقضى لأبيه على أبيك. فقال الحسين: حسبك جهلك آثرت العاجل على الآجل. فقال معاوية: و أمّا ما ذكرت من انّك خيرٌ من يزيد نفساً فيزيد والله خيرٌ لاُمّة محمّد منك. فقال الحسين:

____________________

١ - يعنى المتخلفين عن بيعة يزيد.

٢٥٠

هذا هو الافك والزور، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو خيرٌ منّي؟ فقال معاوية: مهلاً عن شتم ابن عمّك فانّك لو ذُكرت عنده بسوء لم يشتمك.

ثمَّ التفت معاوية إلى النّاس وقال: أيّها الناس قد علمتم أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قُبض ولم يستخلف أحداً، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، وكانت بيعته بيعة هدى فعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه، فلمّا حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستَّة نفر اختارهم من المسلمين، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر، كلُّ ذلك يصنعون نظراً للمسلمين، فلذلك رأيت أن اُبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الإختلاف ونظراً لهم بعين الإنصاف(١) .

رحلة معاوية الثانية

وبيعة يزيد فيها

قال ابن الأثير: فلمّا بايعه أهل العراق والشام سار معاوية إلى الحجاز في ألف فارس فلمّا دناه من المدينة لقيه الحسين بن عليّ أوَّل الناس فلمّا نظر إليه قال: لا مرحباً ولا أهلاً، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه، قال: مهلاً فإنَّي والله لست بأهل لهذه المقالة. قال: بلى ولشرّ منها، ولقيه ابن الزبير فقال: لا مرحباً ولا أهلاً، خبّ ضب تلعة، يدخل رأسه، ويضرب بذنبه، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه، ويدّق ظهره، نحيّاه عنّي. فضرب وجه راحلته. ثمَّ لقيه عبد الرّحمن بن أبي بكر فقال له معاوية: لا أهلاً ولا مرحباً شيخٌ قد خرف وذهب عقله، ثمّ أمر فضرب وجه راحلته، ثمَّ فعل بابن عمر نحو ذلك فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتّى دخل المدينة فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم ولم يروا منه ما يحبّون فخرجوا إلى مكّة فأقاموا بها، وخطب معاوية بالمدينة فذكر يزيد فمدحه وقال: مَن أحقُّ منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه؟! وما أظنّ قوماً بمنتهين حتى تصيبهم بوائق تجتثُّ اصولهم، وقد أنذرت إن أغنت النذر. ثم أنشد متمثّلاً:

قد كنت حذَّرتك آل المصطلقْ

وقلت: يا عمرو أطعني وانطلقْ

إنَّك إن كلَّفتني ما لم أطقْ

ساءك ما سرّك منّي من خلقْ

دونك ما استسقيته فاحس وذقْ

____________________

١ - الامامة والسياسة ١: ١٤٩ - ١٥٥، تاريخ الطبرى ٦: ١٧٠ واللفظ لابن قتيبة.

٢٥١

ثمّ دخل على عائشة وقد بلغها انَّه ذكر الحسين وأصحابه فقال: لأقتلنَّهم إن لم يبايعوا. فشكاهم إليها فوعظته وقالت له: بلغني إنّك تتهدّدهم بالقتل؟ فقال: يا امَّ المؤمنين! هم أعزّ من ذلك، ولكنّي بايعت ليزيد وبايعه غيرهم، أفترين أن أنقض بيعة قد تمّت؟ قالت: فارفق بهم فإنَّهم يصيرون إلى ما تحبّ إن شاء الله. قال: أفعل. وكان في قولها له: ما يؤمنك أن أقعد لك رجلاً يقتلك وقد فعلت بأخي ما فعلت - تعني أخاها محمّداً - فقال لها: كلّا يا امَّ المؤمنين! إنَّي في بيت أمن. قالت: أجل. ومكث بالمدينة ما شاء الله.

ثمّ خرج إلى مكّة فلقيه الناس فقال أولئك النفر: نتلقّاه فلعلّه قد ندم على ما كان منه. فلقوه ببطن مرّ فكان أوَّل من لقيه الحسين فقال له معاوية: مرحباً وأهلاً يا ابن رسول الله! وسيِّد شباب المسلمين. فأمر له بدابّة فركب وسايره، ثمَّ فعل بالباقين مثل ذلك وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتّى دخل مكّة فكانوا أوَّل داخل وآخر خارج، ولا يمضي يوم إلّا ولهم صلة ولا يذكر لهم شيئاً حتى قضى نسكه وحمل أثقاله وقرب مسيره فقال بعض أولئك النفر لبعض: لا تخدعوا فما صنع بكم هذا لحبّكم وما صنعه إلّا لما يُريد فأعدّوا له جواباً. فاتّفقوا على أن يكون المخاطب له ابن الزبير فأحضرهم معاوية وقال: قد علمتم سيرتي فيكم، وصلتي لأرحامكم، وحملي ما كان منكم، ويزيد أخوكم وابن عمّكم و أردت أن تقدّموه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون وتجبون المال وتقسّمونه لا يعارضكم في شيء من ذلك. فسكتوا، فقال: ألا تجيبون؟ مرَّتين، ثمَّ أقبل على ابن الزبير فقال: هات لعمري انَّك خطيبهم، فقال: نعم نخيّرك بين ثلاث خصال قال: أعرضهنّ. قال: تصنع كما صنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو كما صنع أبو بكر، أو كما صنع عمر، قال معاوية: ما صنعوا؟ قال: قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يستخلف أحداً فارتضى الناس أبا بكر قال: ليس فيكم مثل أبي بكر وأخاف الإختلاف. قالوا: صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر فانَّه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه، وإن شئت فاصنع كما صنع عمر جعل الأمر شورى في ستَّة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه. قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال: لا. ثمَّ قال: فأنتم؟ قالوا: قولنا قوله. قال: فإنِّي قد أحببت أن أتقدّم إليكم انَّه قد أعذر من أنذر، انّي كنت أخطب منكم فيقوم إليَّ القائم منكم فيكذِّبني على رؤوس الناس فأحمل ذلك وأصفح، وإنّي قائمٌ بمقالة فاُقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي

٢٥٢

هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقين رجلٌ إلّا على نفسه. ثمّ دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كلِّ رجل من هؤلاء رجلين ومع كلِّ واحد سيفٌ، فإن ذهب رجلٌ منهم يردُّ عليَّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما. ثمَّ خرج وخرجوا معه حتّى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: إنَّ هؤلاء الرَّهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبتزُّ أمر دونهم ولا يفضى إلّا عن مشورتهم وانّهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله. فبايع الناس وكانوا يتربّصون بيعة هؤلاء النفر، ثمَّ ركب رواحله وانصرف إلى المدينة، فلقي الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم انَّكم لا تبايعون فلِمَ رضيتم وأعطيتم وبايعتم؟ قالوا: والله ما فعلنا. فقالوا: ما منعكم أن تردّوا على الرَّجل؟ قالوا: كادنا وخفنا القتل. وبايعه أهل المدينة ثمَّ انصرف إلى الشام وجفا بني هاشم فأتاه ابن عبّاس فقال له: ما بالك جفوتنا؟ قال: إنّ صاحبكم - يعني الحسينعليه‌السلام - لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه. فقال: يا معاوية! انّي لخليقٌ أن أنحاز إلى بعض السواحل فأقيم به ثمَّ أنطق بما تعلم حتى أدع الناس كلّهم خوارج عليك. قال: يا أبا العبّاس تعطون وترضون وترادون(١) .

وجاء في لفظ ابن قتيبة: إنَّ معاوية نزل عن المنبر وانصرف ذاهباً إلى منزله وأمر من حرسه وشرطته قوماً أن يحضروا هؤلاء النفر الذين أبوا البيعة وهم: الحسين بن علي! وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عبّاس، وعبد الرَّحمن بن أبي بكر وأوصاهم معاوية قال: إنّي خارجٌ العشيّة إلى أهل الشام فاُخبرهم: أنّ هؤلاء النّفر قد بايعوا وسلّموا، فإن تكلّم أحدٌ منهم بكلام يصدِّقني أو يكذّبني فيه فلا ينقضي كلامه حتّى يطير رأسه. فحذَّر القوم ذلك، فلّما كان العشيُّ خرج معاوية وخرج معه هؤلاء النفر وهو يضاحكهم ويحدِّثهم وقد ألبسهم الحلل، فألبس ابن عمر حلّة حمراء، وألبس الحسين حلّة صفراء، وألبس عبد الله بن عبّاس حلّة خضراء، وألبس ابن الزبير حلّة يمانيّة، ثمّ خرج بينهم وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم - أي القوم - وانَّهم بايعوا، فقال: يا أهل الشام! إنَّ هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين فوجدهم واصلين مطيعين، وقد

____________________

١ - العقد الفريد ٢: ٣٠٢ - ٣٠٤، الكامل لابن الاثير ٣: ٢١ - ٢١٨، ذيل الامالى ص ١٧٧، جمهرة الرسائل ٢: ٦٩ واللفظ لابن الاثير.

٢٥٣

بايعوا وسلّموا ذلك، والقوم سكوتٌ لم يتكلّموا شيئاً حذر القتل، فوثب اُناسٌ من أهل الشام فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن كان رابك منهم ريبٌ فحل بيننا وبينهم حتى نضرب أعناقهم. فقال معاوية: سبحان الله ما أحلّ دماء قريش عندكم يا أهل الشام؟ لا أسمع لهم ذكراً بسوء فانّهم بايعوا وسلّموا، وارتضوني فرضيت عنهم رضي الله عنهم، ثمَّ ارتحل معاوية راجعاً إلى مكّة وقد أعطى الناس أعطياتهم، وأجزل العطاء، وأخرج إلى كلِّ قبيلة جوائزها وأعطياتها، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء، فخرج عبد الله ابن عبّاس في أثره حتّى لحقه بالروحاء فجلس ببابه فجعل معاوية يقول: مَن بالباب؟

فيقال: عبد الله بن عبّاس فلم يأذن لأحد، فلمّا استيقظ قال: مَن بالباب؟ فقيل: عبد الله بن عبّاس فدعا بدابَّته فأدخلت إليه ثمّ خرج راكباً فوثب إليه عبد الله بن عبّاس فأخذ بلجام البغلة ثمَّ قال: أين تذهب؟ قال: إلى مكّة. قال: فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا؟ فأوما إليه معاوية فقال: والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتّى يبايع صاحبكم. قال ابن عبّاس: فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد، وأبى عبد الله بن عمر فأخرجت جائزة بني عدي، فما لنا إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا. فقال معاوية: لستم كغيركم، لا والله لا اُعطيكم درهماً حتّى يبايع صاحبكم، فقال ابن عبّاس: أما والله لئن لم تفعل لألحقنّ بساحل من سواحل الشام ثمّ لأقولنّ ما تعلم، والله لأتركنّهم عليك خوارج. فقال معاوية: لا بل اعطيكم جوائزكم، فبعث بها من الروحاء ومضى راجعاً إلى الشام. الإمامة والسياسة ١: ١٥٦.

قال الأميني: إنَّ المستشف لحقيقة الحال من أمر هذه البيعة الغاشمة جِدّ عليم أنّها تمّت برواعد الإرهاب، وبوارق التطميع، وعوامل البهت والإفتراء، فيرى معاوية يتوعّد هذا، ويقتل ذاك، ويولّي آخر على المدن والأمصار ويجعلها طعمة له، ويدرُّ من رضائخه على النفوس الواطئة ذوات الملكات الرذيلة، وفي القوم مَن لا يؤثّر فيه شيىءٌ من ذلك كلّه، غير انّه لا رأي لمن لا يُطاع، لكنّ إمام الهدى، وسبط النبوَّة، ورمز الشهادة والإباء لم يفتأ بعد ذلك كلّه مُصحراً بالحقيقة، ومصارحاً بالحقِّ، وداحضاً للباطل مع كلِّ تلكم الحنادس المدلهمّة، أصغت إليه اُذنٌ أم لا، وصغى إلى قيله أحدٌ أو أعرض، فقام بواجب الموقف رافعاً عقيرته بما تستدعيه الحالة، ويوجبه النظر في صالح المسلمين

٢٥٤

ولم يثنه اختلاق معاوية عليه وعلى مَن وافقه في شيىء من الأمر، ولا ما أعدَّه لهم من - التوعيد والإرجاف بهم، ولم تك تأخذه في الله لومة لائم، حتّى لفظ معاوية نفسه الأخير رمزاً للخزاية وشية العار، ولقي الحسينعليه‌السلام ربّه وقد أدّى ما عليه، رمزاً للخلود ومزيد الحبور في رضوان الله الأكبر، نعم: لقي الحسينعليه‌السلام ربّه وهو ضحيّة تلك البيعة، - بيعة يزيد - كما لقي أخوه الحسن ربّه مسموماً من جرّاء تلكم البيعة الملعونة التي جرَّت الويلات على امّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستتبعت هدم الكعبة، والإغارة على دار الهجرة يوم الحرّة وأبرزت بنات المهاجرين والأنصار للنكال والسوءة، وأعظمها رزايا مشهد الطفّ التي استأصلت شأفة أهل بيت الرَّحمة صلوات الله عليهم، وتركت بيوت الرسالة تنعق فيها النواعب، وتندب النوادب، وقرَّحت الجفون، وأسكبت المدامع، إنّا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

نعم: تمّت تلك البيعة المشومة مع فقدان أيِّ جدارة وحنكة في يزيد، تأهّله لتسنّم عرش الخلافة على ما تردّى به من ملابس الخزي وشية العار من معاقرة الخمور، ومباشرة الفجور، ومنادمة القيان ذوات المعازف، ومحارشة الكلاب، إلى ما لا يتناهى من مظاهر الخزاية، وقد عرفته الناس بذلك كلّه منذ أولياته وعرَّفه به اُناسٌ آخرون، وحسبك شهادة وفدٌ بعثه أهل المدينة إلى يزيد وفيهم: عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، وعبد الله بن أبي عمرو المخزومي، والمنذر بن الزبير، وآخرون كثيرون من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد فأكرمهم، وأحسن إليهم، وأعظمهم جوائزهم، وشاهدوا أفعاله، ثمّ انصرفوا من عنده وقدموا المدينة كلهم إلّا المنذر، فلمّا قدم الوفد المدينة قاموا فيهم، فأظهروا شتم يزيد وعتبه وقالوا: إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب - الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويُسامر الحُرّاب، وهم اللصوص والفتيان، وإنّا نشهدكم انّا قد خلعناه فتابعهم الناس.(١)

وقال عبد الله بن حنظلة ذلك الصحابيّ العظيم المنعوت بالراهب قتيل يوم الحرّة يومئذ: يا قوم! اتَّقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نرمى

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٧: ٤، الكامل لابن الاثير ٤: ٤٥، تاريخ ابن كثير ٨: ٢١٦، فتح البارى ١٣: ٥٩.

٢٥٥

بالحجارة من السَّماء، إنَّ رجلاً ينكح الامّهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصّلاة، والله لو لم يكن معي أحدٌ من الناس لأبليت لِلّه فيه بلاء حسناً(١) .

ولمـّا قدم المدينة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟ قال: أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلّا بنيَّ هؤلاء لجاهدته بهم(٢) .

وقال المنذر بن الزبير لمـّا قدم المدينة: إنَّ يزيد قد أجازني بمائة ألف، ولا يمنعني ما صنع بي أن اُخبركم خبره، والله انّه ليشرب الخمر، والله انّه ليسكر حتّى يدع الصّلاة(٣) .

وقال عتبة بن مسعود لابن عبّاس: أتبايع يزيد وهو يشرب الخمر، ويلهو بالقيان، ويستهتر بالفواحش؟ قال: مَه فأين ما قلت لكم؟ وكم بعده من آت ممّن يشرب الخمر أو هو شرٌّ من شاربها أنتم إلى بيعته سراع، أما والله! إنِّي لأنهاكم وأنا أعلم أنّكم فاعلون حتى يصلب مصلوب قريش بمكّة - يعني عبد الله بن الزبير -(٤) .

نعم: لم يك على مخازي يزيد من أوَّل يومه حجابٌ مسدول يُخفيها على الأباعد والأقارب، غير انَّ أقرب الناس إليه وهو أبوه معاوية غضَّ الطرف عنها جمعاء، وحسب انّها تخفى على الملأ الدينيِّ بالتمويه، وطفق يذكر له فضلاً وعلماً بالسياسة، فجابهه لسان الحقِّ وإنسان الفضيلة حسين العظمة بكلماته المذكورة في صفحة ٢٤٨ و ٢٥٠ ومعاوية هو نفسه يندّد بابنه في كتاب كتبه إليه ومنه قوله: اعلم يا يزيد! أنَّ اوَّل ما سلبكه السُكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة، وآلائه المتواترة، وهي الجَرحة العظمى، والفجعة الكبرى: ترك الصَّلوات المفروضات في أوقاتها، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها، ثمَّ استحسان العيوب، وركوب الذنوب، وإظهار العورة، وإباحة السرِّ، فلا تأمن نفسك على سرِّك، ولا تعتقد على فعلك، الكتاب(٥) .

فنظراً إلى ما عرفته الاُمَّة من يزيد من مخازيه وملكاته الرذيلة عدَّ الحسن البصري استخلاف معاوية إيّاه من موبقاته الأربع كما مرّ حديثه في صفحة ٢٢٥.

____________________

١ - تاريخ ابن عساكر ٧: ٣٧٢.

٢ - تاريخ ابن عساكر ٧: ٣٧٢، الكامل لابن الاثير ٤: ٤٥، الاصابة ٢: ٢٩٩.

٣ - كامل ابن الاثير ٤: ٤٥، تاريخ ابن كثير ٨: ٢١٦.

٤ - الامامة والسياسة ١: ١٦٧.

٥ - صبح الاعشى ٦: ٣٨٧.

٢٥٦

_ ١٥ _

جنايات معاوية

في صفحات تاريخه السوداء

إنَّما نجتزئ منها على شيىء يسير يكون كانموذج ممّا له من السيِّئات التي ينبو عنها العدد ويتقاعس عنها الحساب، ويستدعي التبسّط فيها مجلدات ضخمة فمنها: دؤبه على لعن مولانا عليّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وكان يقنت به صلواته كما مرّ حديثه في الجزء الثاني ص ١٣٢ ط ٢ واتّخذه سنَّةً جاريةً في خطب الجمعة والأعياد، وبدَّل سنّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة العيدين المتأخِّرة عن صلاتهما وقدَّمها عليها لإسماع الناس لعن الامام الطاهر كما مرّ تفصيله في الجزء الثامن ص ١٦٤ - ١٧١ وأوعزنا إليه في هذا الجزء ص ٢١٢ وكان يأمر عمّاله بتلك الاُحدوثة الموبقة، ويحثُّ الناس عليها، ويوبِّخ المتوقّفين عنها، ولا يصيخ إلى قول أيِّ ناصح وازع.

١ - أخرج مسلم والترمذي عن طريق عامر بن سعد بن أبي وقّاص قال: أمر معاوية سعداً فقال: ما منعك أن تسبَّ أبا تراب؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنَّ له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبَّه، لَأن تكون لي واحدةُ منهنَّ أحبُّ إليَّ من حمر النعم - فذكر حديث المنزلة: والراية. والمباهلة - وأخرجه الحاكم وزاد: فلا والله ما ذكره معاوية بحرف حتّى خرج من المدينة.(١)

وفي لفظ الطبري من طريق ابن أبي نجيح قال: لمـّا حجَّ معاوية طاف بالبيت ومعه سعد فلمّا فرغ إنصرف معاوية إلى دار الندوة فأجلسه معه على سريره ووقع معاوية في عليّ وشرع في سبِّه فزحف سعد ثمَّ قال: أجلستني معك على سريرك ثمَّ شرعت في سبّ عليّ والله لَأن يكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعليّ أحبّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس - إلى آخر الحديث وفيه من قول سعد: وأيم الله لا دخلت لك داراً ما بقيت. ونهض.

قال المسعودي بعد رواية حديث الطبري: ووجدت في وجه آخر من الروايات و ذلك في كتاب عليِّ بن محمّد بن سليمان النوفلي في الأخبار عن ابن عائشة وغيره: انَّ سعداً

____________________

١ - راجع صحيح مسلم ٧: ١٢٠، صحيح الترمذى ١٣: ١٧١، مستدرك الحاكم ٣: ١٠٩.

٢٥٧

لمـّا قال هذه المقالة لمعاوية ونهض ليقوم ضرط له معاوية وقال له: اقعد حتّى تسمع جواب ما قلت، ما كنت عندي قطّ ألأم منك الآن، فهلّا نصرته؟ ولِمَ قعدت عن بيعته؟ فانِّي لو سمعت من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعليّ ما عشت، فقال سعد: والله انّي لأحقّ بموضعك منك. فقال معاوية: يأبى عليك بنو عذرة. وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة(١) .

وفي رواية ذكرها ابن كثير في تاريخه ٨: ٧٧: دخل سعد بن أبي وقاص على معاوية فقال له: مالك لم تقاتل عليّاً؟ فقال: إنِّي مرَّت بي ريحٌ مظلمةٌ فقلت: اخ اخ، فأنختُ راحلتي حتّى انجلت عنّي، ثمّ عرفت الطريق فسرت. فقال معاوية: ليس في كتاب الله اخ اخ، ولكن قال الله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاُخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله. فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية، فقال سعد: ما كنت لاُقاتل رجلاً قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنَّه لا نبيّ بعدي. فقال معاوية: من سمع هذا معك؟ فقال: فلان وفلان وامّ سلمة.

فقال معاوية: أما انّي لو سمعته منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قاتلت عليّاً.

قال: وفي رواية من وجه آخر: انّ هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجَّة حجَّها معاوية وانّهما قاما إلى امّ سلمة فسألاه فحدَّثتهما بما حدَّث به سعد فقال معاوية: لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادماً لعليّ حتّى يموت أو أموت.

قال الأميني: لقد أفك معاوية في ادّعائه عدم إحاطة علمه بتلكم الأحاديث المطّردة الشايعة فانّها لم تكن من الأسرار التي لا يطّلع عليها إلّا البطانة والخاصَّة، وإنّما هتف بهنَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رؤس الأشهاد، أمّا حديث الراية فكان في واقعة خيبر وله موقعيّته الكبرى لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله. الحديث.

فاستطالت أعناق كلّ فريق

ليروا أيّ ماجد يعطاها؟

فلم تزل النفوس مشرئبَّة متتلّعة إلى من عناهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى جيىء بأمير المؤمنينعليه‌السلام ومُنح الفتح من ساحة النبوَّة العظمى، فانطبق القول، وصدقت الاُكرومة، وعلم الغزاة

____________________

١ - مروج الذهب ١: ٦١، وحكى شطراً منه سبط ابن الجوزى فى تذكرته ص ١٢.

٢٥٨

كلّهم انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يريد غيره.

هب أنَّ معاوية يوم واقعة خيبر كان عداده في المشركين، وموقفه مع مَن يُحادّ الله ورسوله، لكن هلّا بلغه ذلك بعد ما حداه الفَرَق إلى الاستسلام؟ والحديث مطّردٌ بين الغزاة وسائر المسلمين، وهم بين مشاهد له وعالم به.

وأمّا حديث المنزلة فقد نطق به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موارد عديدة منها غزاة تبوك على ما مرَّ تفصيله في الجزء الثالث ص ١٩٨ ط ٢ وقد حضرها وجوه الصحابة وأعيانهم، وكلّهم علموا بهاتيك الفضيلة الرابية، فالإعتذار عن معاوية بأنّه لم يحضرها لإشراكه يومئذ مدفوعٌ بما قلناه في واقعة خيبر.

ومن جملة موارده يوم غدير خمّ الذي حضره معاوية وسمعه هو ومائة ألف أو يزيدون، لكنّه لم يعه بدليل أنّه ما آمن به فحارب عليّاًعليه‌السلام بعده وعاداه وأمر بلعنه محادَّة منه لِلّه ولرسوله، وعقيرة رسول الله المرفوعة بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ: أللهمَّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. بعدُ ترنُّ في اُذن الدنيا.

ومن موارده يوم المؤاخاة كما أخرجه أحمد باسناده عن محدوج بن زيد الباهلي قال: آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين والأنصار فبكى عليّعليه‌السلام فقال رسول الله: ما يبكيك فقال: لم تواخ بيني وبين أحد. فقال: إنَّما ادَّخرتك لنفسي ثمَّ قال: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى(١) .

ومنها يوم كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دار امّ سلمة إذ أقبل عليٌّعليه‌السلام يريد الدخول على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا امّ سلمة هل تعرفين هذا؟ قالت: نعم هذا عليّ سيط لحمه بلحمي ودمه بدمي، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا انّه لا نبيَّ بعدي - راجع الجزء - الثالث ص ١١٦.

على أنّ حديث المنزلة قد جاء من طريق معاوية نفسه رواه في حياة عليّعليه‌السلام فيما أخرجه أحمد في مناقبه من طريق أبي حازم كما في الرياض النضرة ٢: ١٩٥.

وأمّا نبأ المباهلة فصحيحٌ أنّ معاوية لم يُدركه لأنّ الكفر كان يمنعه عند ذلك عن سماعه، غير أن القرآن الكريم قد أعرب عن ذلك النبأ العظيم إن لم يكن إبن حرب في

____________________

١ - راجع ما اسلفناه فى الجزء الثالث ص ١١٥.

٢٥٩

معزل عن الكتاب والسنّة، على أن قصّتها من القضايا العالميّة وليس من المستطاع لأيِّ أحد أن يدَّعي الجهل بها.

وهنا نماشي ابن صخر على عدم اطّلاعه على تلكم الفضائل إلى حدِّ إخبار سعد إيّاه، لكنّه بماذا يعتذر وهو يقرأ قوله تعالى:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) ؟ الآية؟!. وبماذا يعتذر بعد ما رواه قبل يوم صفّين من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار: تقتلك الفئة الباغية؟ وبماذا يعتذر بعد علمه بتلكم الأحاديث بأخبار صحابيّ معدود عند القوم في العشرة المبشّرة وبعد إقامة الشهود عليه؟! ومن هنا تعلم أنَّه أفك مرّة اُخرى بقوله أما انّي لو سمعتُ من رسول الله ما سمعتَ في عليّ لكنتُ له خادماً ما عشتُ. لأنّه عاش ولم يرتدع عن غيِّه وحارب أمير المؤمنينعليه‌السلام حيّاً وميّتاً، ودؤب على لعنه والأمر به حتّى أجهز عليه عمله وكبت وبه بطنته.

نعم: انّه استمرّ على بغيه وقابل سعداً في حديثه بالضرطة، وهل هي هزؤ منه بمصدر تلكم الأبناء القدسيّة؟ أو بخضوع سعد لها؟ أو لمحض أنّ سعداً لم يوافقه على ظلمه؟ أنا لا أدري غير أنَّ كفر معاوية الدفين لا يأبى شيئاً من ذلك، وهلّا منعه الخجل عن مثل هذا المجون وهو ملك؟ وبطبع الحال انّ مجلسه يحوي الأعاظم والأعيان.

من أين تخجل أوجهُ أمويَّةٌ

سكبت بلذّات الفجور حيائها؟

٢ – لمـّا مات الحسن بن عليّ « عليهما السلام » حجّ معاوية فدخل المدينة و أراد أن يلعن عليّاً على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل له: إنّ هيهنا سعد بن أبي وقّاص ولا نراه يرضى بهذا فابعث إليه وخذ رأيه، فأرسل إليه وذكر له ذلك فقال: إن فعلت لأخرجنّ من المسجد ثمّ لا أعود إليه، فأمسك معاوية عن لعنه حتّى مات سعد، فلمّا مات لعنه على المنبر وكتب إلى عمّاله أن يلعنوه على المنابر، ففعلوا فكتبت امّ سلمة زوج النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى معاوية: انّكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنّكم تلعنون عليَّ بن أبي طالب ومن أحبّه، وأنا أشهد أنّ الله أحبّه ورسوله. فلم يلتفت إلى كلامها. العقد الفريد ٢: ٣٠١.

٣ - قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: إنّ عليّاً قد قطعك وأنا وصلتك ولا يرضيني منك إلّا أن تلعنه على المنبر قال: أفعل. فصعد المنبر ثمّ قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608