الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 608
المشاهدات: 237604
تحميل: 5089


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237604 / تحميل: 5089
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 6

مؤلف:
العربية

وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ ) .

«بنيان» مصدر بمعنى اسم مفعول ، ويعني المبنى ، و (شفا) بمعنى حافة الشيء وطرفه ، و (جرف) بمعنى حافة النهر أو حافة البئر التي جرف الماء ما تحتها. و (هار) بمعنى الشخص أو البناء المتصدع المشرف على السقوط ، أو هو في حال السقوط.

إن التشبيه الوارد أعلاه يعطي صورة في منتهى الوضوح عن عدم ثبات أعمال المنافقين وتزلزلها ، وفي المقابل استحكام ودوام أعمال المؤمنين ونشاطاتهم وبرامجهم ، فهو يشبه المؤمنين بمن أراد أن يبني بناء ، فإنّه ينتخب الأرض الجيدة القوية التي تتحمل البناء ، ومختار من مواد البناء الأولية ما كان جيدا.

أمّا المنافقون فإنّه يشبّههم بمن يبني بيته على حافة النهر ـ ومثل هذه الأرض جوفاء ـ لأن جريان الماء قد نخرها ، وبالتالي فهي عرضة للسقوط في أي لحظة ، وكذلك النفاق ، فإنّ ظاهره حسن لكنّه عديم المحتوى كالبناية الجميلة ذات الأساس النخر.

إنّ هذه البناية يمكن أن تنهار في آية لحظة ، ومذهب أهل النفاق أيضا يمكن أن يظهر واقع أتباعه وباطنهم ، وبالتالي فضيحتهم وخزيهم.

إنّ التقوى والسعي في مرضاة الله تبارك وتعالى يعني التعامل مع الواقع ، والسير وفقا لقوانين الخلقة وهي بدون شك عامل البقاء والثبات.

أمّا النفاق فإنّه يعني الانفصال عن الواقع والابتعاد عن قوانين الوجود ، وهذا بلا شك هو عامل الزوال والفناء.

ومن هنا ، فإنّ المنافقين يظلمون أنفسهم ويظلمون المجتمع أيضا ولذلك فإنّ الآية اختتمت بقوله :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) . وكما قلنا مرارا ، فإنّ الهداية الإلهية تعني تهيئة المقدمات للوصول إلى الغاية ، وهي تشمل ـ فقط ـ أولئك الذين لديهم الاستعداد لتقبل هذه الهداية ويستحقونها ، أمّا الظالمون الفاقدون لمثل هذا الاستعداد فسوف لا يشملهم هذا اللطف مطلقا ، لأنّ الله حكيم ، ومشيئته وإرادته

٢٢١

وفق حساب دقيق.

وفي آخر آية إشارة إصرار المنافقين وعنادهم ، فهي تعبّر عن تعصبهم وإصرارهم في أعمالهم ، وعنادهم في نفاقهم ، وحيرتهم في ظلمة كفرهم ، فهم في شك من بنيانهم الذي بنوه ، أو في النتيجة المرجوة منه ، وسيبقون في هذه الحال حتى موتهم :( لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ) .

إنّ هؤلاء يعيشون حالة دائمة من الحيرة والاضطراب ، وإن مقر النفاق الذي أقاموه ، والمسجد الضرار الذي بنوه ، سيبقى عامل تردد ولجاجة في أرواح هؤلاء ، فبالرغم من أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أحرق هذا البناء وهدمه ، إلّا أن أثره وأهدافه قد لا تزول من القلوب.

وتقول الآية أخيرا :( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) فإنّه تعالى إنّما أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهدم هذا البناء الذي يحمل صفة الحق ظاهرا ، حتى تتبيّن نيّات السوء التي انطوى عليها هؤلاء ، وتنكشف حقائقهم وبواطنهم وهذا الحكم الإلهي هو عين الحكمة ، وحسب صلاح المجتمع الإسلامي ، وقد صدر على هذا الأساس ، لا أنّه حكم عجول صدر نتيجة انفعال أو في لحظة غضب.

* * *

بحوث

1 ـ درس كبير

إنّ قصّة مسجد الضرار درس لكل المسلمين من جميع الجهات ، فإنّ قول الله سبحانه وعمل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوضحان تماما بأنّ المسلمين يجب أن لا يكونوا سطحيين في الرؤية مطلقا ، وأن لا يكتفوا بالنظر إلى الجوانب التي تصطبغ بصبغة الحق ، ويغفلون عن الأهداف الأصلية المراد تحقيقها ، والمستترة بهذا الظاهر البراق.

٢٢٢

المسلم هو الذي يعرف المنافق وأساليب النفاق في كل زمان ، وفي كل مكان ، وبأي لباس تلبس ، وبأي صورة يظهر بها ، حتى ولو كانت صورة الدين والمذهب ، أو لباس مناصرة الحق والقرآن والمساجد.

إنّ الاستفادة من مذهب ضد مذهب آخر ليس شيئا جديدا ، بل هو طريق الاستعمار وأسلوبه على الدوام ، فإنّ وسيلة الجبارين والمنافقين وأسلوبهم في العمل هو الوقوف على رغبة الناس في مسألة ما ، واستغلال تلك الرغبة في سبيل إغفالهم وبالتالي استعمارهم ، ويستعينون بقدرات مذهب ما في ضرب وهدم مذهب آخر إن استدعى الأمر ذلك.

وأساسا فإنّ جعل الأنبياء المزورين والمذاهب الباطلة ، هو تحوير الميول المذهبية للناس عن هذا الطريق وصبّها في القنوات التي يريدونها ويديرونها.

ومن البديهي أنّ محاربة الإسلام بصورة علنية في محيط كمحيط المدينة ، وذلك في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع ذلك النفوذ الخارق للإسلام والقرآن ، أمر غير ممكن ، بل يجب إلباس الكفر لباس الدين ، وتغليف الباطل بغلاف الحق لجذب البسطاء والسذج من الناس.

إلّا أنّ المسلم الحقيقي ليس سطحيا إلى تلك الدرجة بحيث يخدع بهذه الظواهر ، بل إنّه يدقق في العوامل والأيادي التي وضعت هذه البرامج ، ويحقق القرائن الأخرى التي لها علاقة البرامج وماهيتها ، وبذلك سيرى الصورة الباطنية للأفراد المختبئة خلف الصورة الظاهرية.

المسلم ليس بذلك الفرد الذي يقبل كل دعوة تصدر من أي فم بمجرّد موافقتها الظاهرية للحق ، ويلبي تلك الدعوة.

المسلم ليس ذلك الشخص الذي يصافح كل يد تمد إليه ، ويؤيد ويدعم كل حركة يشاهدها بمجرّد رفعها شعارا دينيا ، أو يتعهد بالانضمام تحت أي لواء يرفع باسم المذاهب والدين ، أو ينجذب إلى كل بناء يشيد باسم الدين.

٢٢٣

المسلم يجب أن يكون حذرا ، واعيا ، واقعيا ، بعيد النظر ، ومن أهل التحليل والتحقيق في كل المسائل الاجتماعية.

المسلم يعرف المتمردين العصاة في لباس الملائكة والوداعة ، ويميز الذئاب المتلبسة بلباس الحراس والرعاة ، ويعد نفسه لمحاربة الأعداء الظاهرين بصورة الأصدقاء.

هناك قاعدة أساسية في الإسلام ، وهي أنّه يجب معرفة النيات قبل كل شيء ، وأنّ قيمة كل عمل ترتبط بنيّته ، لا بظاهره ، فبالرغم من أنّ النية أمر باطني ، إلّا أن أحدا لا يمكنه إضمار نيّته دون أن يظهر أثرها على جوانب عمله وفلتاته ، حتى ولو كان ماهرا ومقتدرا في اخفائها.

ومن هذا سيتّضح الجواب عن هذا السؤال ، وهو : لماذا أصدر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا بحرق المسجد الذي هو بيت الله ، ويأمر بهدم المسجد الذي لا يجوز شرعا إخراج حصاة واحدة من حصاة ، ويجعل المكان الذي يجب تطهيره فورا إذا ما تنجس محلا لجمع الفضلات والقاذورات!!

وجواب كل هذه الأسئلة موضوع واحد ، وهو أنّ مسجد الضرار لم يكن مسجدا بل معبدا للأصنام لم يكن مكانا مقدسا ، بل مقرا للفرقة والنفاق لم يكن بيت الله ، بل بيت الشيطان ولا يمكن أن تبدل الأسماء والعناوين والأقنعة من واقع الأشياء شيئا مطلقا.

كان هذا هو الدرس الكبير الذي أعطته قصّة مسجد الضرار لكل المسلمين ، وفي كل الأزمنة والأعصار.

وتتّضح من هذا البحث ـ أيضا ـ أهمية الوحدة بين صفوف المسلمين من وجهة نظر الإسلام ، والتي تبلغ حدا بحيث إذا كان بناء مسجد جنب مسجد يؤدي إلى التفرقة والاختلاف بين صفوف المسلمين فلا قدسية لذلك المسجد إطلاقا.

٢٢٤

2 ـ النفي لا يكفي لوحده!

الدرس الثّاني الذي يمكن أخذه من هذه الآيات ، هو أنّ الله سبحانه وتعالى أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآيات أن لا يصلي في مسجد الضرار ، بل يصلي في المسجد التي وضعت قواعده وأسسه على أساس التقوى.

إنّ النفي والإثبات يتجلى في الإسلام من شعاره الأصلي (لا إله إلّا الله) إلى أموره الصغيرة والكبيرة الأخرى ، يبيّن هذه الحقيقة ، وهي ضرورة وجود الإثبات إلى جانب النفي دائما على أرض الواقع العملي ، فإنّا إذا نهينا الناس عن الذهاب إلى مراكز الفساد ، فيجب أن نبني ونوفر لهم المقابل المراكز النقية الصالحة لإشباع روح الحياة الجماعية في الفرد وإرضائها إذا منعنا وسائل اللهو المنحرفة ، فيجب توفير وسائل لهو سالمة وهادفة إذا حاربنا الثقافة الاستعمارية ، فيجب أن تهيئ الثقافة الصحيحة والمراكز السليمة والمدارس الصالحة للتربية والتعليم إذا شجبنا الانحلال الخلقي والسقوط الاجتماعي ، فيجب أن نوفر وسائل الزواج البسيطة ونضعها تحت تصرف الشباب.

الأشخاص الذين صبّوا كل اهتماماتهم في جانب النفي ، دون الاهتمام بالجانب الإيجابي والإثباتي ، عليهم أن يتيقنوا بأن نفيهم لوحده لا يثمر شيئا ، لأنّ سنّة الحياة أن تشبع كل الغرائز والأحاسيس عن الطريق الصحيح ، ولأنّ قانون الإسلام المسلّم به أن كل (لا) يجب أن تصحبها (إلا) ليتولد منها التوحيد الذي يهب الحياة.

وهذا هو الدرس الذي نساه الكثير من المسلمين مع الأسف رغم تقصيرهم هذا يشكون من عدم تقدم وتطور البرامج الإسلامية! هذا في الوقت الذي لا ينحصر برنامج الإسلام بالنفي كما يتخيل هؤلاء ، فإنهم إذا قرنوا النفي بالإثبات فإنّ تقدمهم سيكون حتميا.

٢٢٥

3 ـ شرطان أساسيان

الدرس القيم الثّالث الذي يمكن استنباطه من الآيات محل البحث هو أن المقر والمركز النشط والإيجابي دينيا واجتماعيا ، هو الذي يتشكل من عنصرين.

الأوّل : أن يكون الأساس الذي يستند إليه ، والهدف الذي يطمح إلى تحقيقه ، طاهرين من البداية :( أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ) .

الثّاني : أن يكون رواد هذا المركز وحماته أناسا طاهرين ومخلصين ومؤمنين :( فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ) .

إنّ فقدان أحد هذين الركنين الأساسيين يعني انهيار البناء وعدم وصوله إلى الهدف المنشود.

* * *

٢٢٦

الآيتان

( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) )

التّفسير

تجارة لا نظير لها :

لما كان الكلام في الآيات السابقة عن المتخلفين عن الجهاد ، فإنّ هاتين الآيتين قد بيّنتا المقام الرفيع للمجاهدين المؤمنين مع ذكر مثال رائع.

لقد عرّف الله سبحانه وتعالى نفسه في هذا المثال بأنّه مشتر ، والمؤمنين بأنّهم بائعون ، وقال :( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) .

٢٢٧

ولما كانت كل معاملة تتكون في الحقيقة من خمسة أركان أساسية ، وهي عبارة عن : المشتري ، والبائع ، والمتاع ، والثمن ، وسند المعاملة أو وثيقتها ، فقد أشار الله سبحانه إلى كل هذه الأركان ، فجعل نفسه مشتريا ، والمؤمنين بائعين ، وأموالهم وأنفسهم متاعا وبضاعة ، والجنّة ثمنا لهذه المعاملة. غاية ما في الأمر أنّه بيّن طريقة تسليم البضاعة بتعبير لطيف ، فقال :( يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) وفي الواقع فإنّ يد الله سبحانه حاضرة في ميدان الجهاد لتقبل هذه البضاعة ، سواء كانت روحا أم مالا يبذل في أمر الجهاد.

ثمّ يشير بعد ذلك إلى سند المعاملة الثابت ، والذي يشكل الركن الخامس فيها ، فقال:( وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ) .

إذا أمعنا النظر في قوله :( فِي سَبِيلِ اللهِ ) يتّضح جليا أنّ الله تعالى يشتري الأرواح والجهود والمساعي التي تبذل وتصرف في سبيله ، أي سبيل إحقاق الحق والعدالة ، والحريّة والخلاص لجميع البشر من قبضة الكفر والظلم والفساد.

ثم ، ومن أجل التأكيد على هذه المعاملة ، تضيف الآية :( وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ) أي أنّ ثمن هذه المعاملة وإن كان مؤجلا ، إلّا أنّه مضمون ، ولا وجود لأخطار النسيئة ، لأنّ الله تعالى لقدرته واستغنائه عن الجميع أوفى من الكل بعهده ، فلا هو ينسى ، ولا يعجز عن الأداء ، ولا يفعل ما يخالف الحكمة ليندم عليه ويرجع عنه ، ولا يخلف وعده والعياذ بالله ، وعلى هذا فلا يبقى أي مجال للشك في وفائه بعهده ، وأدائه الثمن في رأس الموعد المقرر.

والأروع من كل شيء أنّه تعالى قد بارك للطرف المقابل صفقته ، ويتمنى لهم أن تكون صفقة وفيرة الربح ، تماما كما هو المتعارف بين التجار ، فيقولعزوجل :( فَاسْتَبْشِرُوا (1) بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

__________________

(1) فاستبشروا مأخوذة من مادة البشارة ، والتي أخذت في الأصل من البشرة ، أي وجه الإنسان ، وهي إشارة إلى آثار الفرحة والسرور التي تبدو بوضوح على وجه الإنسان.

٢٢٨

وقد جاء نظير هذا المبحث بعبارات أخرى ، ففي الآيتين (10) و (11) من سورة الصف يقول اللهعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

إنّ الإنسان ليقع في حيرة هنا من كل هذا اللطف والرحمة الإلهية ، فإنّ الله المالك لكل عالم الوجود ، والحاكم المطلق على جميع عالم الخلقة ، وكل ما يملكه أيّ موجود فانما هو من فيضه ومنحته ، يبدو في مقام المشتري لنفس هذه المواهب التي وهبها لعباده ، ويشتري ما أعطاه بمئات الأضعاف.

والأعجب من ذلك ، أنّ الجهاد الذي هو السبب في عزّة الإنسان وافتخار الامّة ، وثمراته تعود في النهاية عليها ، قد اعتبر دفعا وتسلميا لهذه البضاعة.

ومع أنّ المتعارف أنّ الثمن يجب أن يعادل المثمن أو البضاعة ، إلّا أن هذا التعادل لم يلاحظ في هذه المعاملة ، وجعلت السعادة الأبدية في مقابل بضاعة متزلزلة يمكن أن تفنى في أية لحظة ، (سواء كان على فراش المرض أو ساحة القتال).

والأهم من هذا أنّ الله سبحانه وتعالى مع أنّه أصدق الصادقين ، ولا يحتاج إلى سند وضمان ، فإنّه تعهد بأهم الوثائق والضمانات أمام عبيده.

وفي نهاية هذه المعاملة العظيمة ، والصفقة الكبيرة ، فإنّه قد بارك لهم وبشّرهم ، فهل تتصور رحمة ومحبّة أعلى من هذه؟!

وهل يوجد معاملة أكثر ربحا من هذه؟!

ولهذا ورد في حديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه لما نزلت هذه الآية كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد ، فتلا هذه الآية بصوت عال ، فكبر الناس ، فتقدم رجل من الأنصار وسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله ، أنزلت هذه الآية؟ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٢٢٩

«نعم». فقال الأنصاري : بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل(1) .

كما هي طريقة القرآن المجيد ، حيث أنّه يجمل الكلام في آية ، ثمّ يعمد إلى التفصيل في الآية التي تليها ، فقد بيّن سبحانه في الآية الثّانية حال البائعين للروح والمال لربّهمعزوجل ، فذكر تسع صفات مميزة لهم :

1 ـ فهم يغسلون قلوبهم وأرواحهم من رين الذنوب بماء التوبة :( التَّائِبُونَ ) .

2 ـ وهم يطهرون أنفسهم في نفحات الدعاء والمناجاة مع ربّهم :( الْعابِدُونَ ) .

3 ـ وهم يحمدون ويشكرون كل نعم الله المادية والمعنوية :( الْحامِدُونَ ) .

4 ـ وهم يتنقلون من مكان عبادة إلى آخر :( السَّائِحُونَ ) .

وبهذا الترتيب فإنّ برامج تربية النفس عند هؤلاء لا تنحصر في العبادة ، أو في إطار محدود ، بل إن كان مكان هو محل عبدة لله وجهاد للنفس وتربية لها بالنسبة لهؤلاء ، وكل مكان يوجد فيه درس وعبرة لهؤلاء فإنّهم سيقصدونه.

(سائح) في الأصل مأخوذ من (سيح) ، و (سياحة) والتي تعني الجريان والاستمرار.

وهناك بحث بين المفسّرين فيما هو المقصود من السائح في الآية ، وأي نوع من الجريان والاستمرار والسياحة هو؟ فالبعض يرى ـ كما قلنا أعلاه ـ إن السير في تربية النفس وجهادها إنّما يكون في أماكن العبادة ، ففي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سياحة أمّتي في المساجد»(2) .

والبعض الآخر يقول : إنّ السائح يعني الصائم ، لأنّ الصوم عمل مستمر طوال اليوم، وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن السّائحين هم الصّائمون»(3) .

والبعض الآخر من المفسّرين يرى أن السياحة تعني التنقل والتجوال في

__________________

(1) الدّر المنثور ، كما ورد في تفسير الميزان.

(2) تفسير الميزان ، ذيل الآية.

(3) تفسير نور الثقلين ، وكثير من التفاسير الأخرى.

٢٣٠

الأرض لمشاهدة آثار عظمة الله ، ومعرفة المجتمعات البشرية ، والتعرف على عادات وتقاليد وعلوم الأقوام التي تحيي فكر الإنسان وتنميه وتطوره.

وفريق آخر من المفسّرين يرى أن السياحة تعني التوجه إلى ميدان الجهاد ومحاربة الأعداء ، ويستشهدون بالحديث النبوي : «إنّ سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله».(1)

وأخيرا فإنّ البعض يرى أنّها سير العقل والفكر في المسائل العلمية المختلفة المرتبطة بعالم الوجود والتفكر فيها ، ومعرفة عوامل السعادة والإنتصار ، وأسباب الهزيمة والفشل.

إلّا أنّ أخذ الأوصاف ـ التي ذكرت قبل السياحة وبعدها ـ بنظر الإعتبار يرجح المعنى الأوّل ، ويجعله الأنسب من بين المعاني الأخرى ، وإن كانت كل هذه المعاني ممكنة في هذه الكلمة ، لأنّها جمعت في مفهوم السير والسياحة.

5 ـ وهم يركعون مقابل عظمة الله :( الرَّاكِعُونَ ) .

6 ـ ويضعون جباههم على التراب أمام خالقهم ويسجدون له :( السَّاجِدُونَ ) .

7 ـ وهم يدعون الناس لعمل الخير :( الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) .

8 ـ ولم يقتنعوا بهذه الدّعوة للخير ، بل حاربوا كل منكر وفساد :( وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) .

9 ـ وبعد أدائهم وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يقومون بأداء آخر وأهم واجب اجتماعي ، أي حفظ الحدود الإلهية وإجراء قوانين الله ، وإقامة الحق والعدالة :( وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ ) .

وبعد ذكر هذه الصفات التسع فإنّ الله يرغّب ـ مرّة أخرى ـ أمثال هؤلاء المؤمنين المخلصين الذين هم ثمرة منهج الإيمان والعمل ، ويقول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

__________________

(1) تفسير الميزان ، وتفسير المنار في ذيل الآية.

٢٣١

ولما لم يذكر متعلق البشارة ، وبتعبير آخر : إنّ البشارة لما جاءت مطلقة فإنّها تعطي مفهوما أوسع يدخل ضمنه كل خير وسعادة ، أي بشر هؤلاء بكل خير سعادة وفخر.

وينبغي الالتفات إلى أن الصفات الست الأولى ترتبط بجانب جهاد النفس وتربيتها ، والصفة السّابعة والثّامنة ترتبطان بالواجبات الاجتماعية الحساسة ، وتشيران إلى تطهير محيط المجتمع من السلبيات ، والصفة الأخيرة تتحدث عن المسؤوليات المختلفة المتعددة المرتبطة بتشكيل الحكومة الصالحة ، والمشاركة الجدية في المسائل السياسية الإيجابية.

* * *

٢٣٢

الآيتان

( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) )

سبب النّزول

جاء في مجمع البيان في سبب نزول الآيات أعلاه ، أنّ جماعة من المسلمين كانوا يقولون للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية؟ فنزلت هذه الآيات تنذرهم بأنّ لا حقّ لأحد أن يستغفر للمشركين.

وقد ذكرت في سبب نزول هذه الآيات أمور أخرى ، سنوردها في نهاية تفسير هذه الآية.

التّفسير

ضرورة قطع العلاقات مع الأعداء :

نهت الآية الأولى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين عن الاستغفار للمشركين بلهجة قاطعة

٢٣٣

وحادة ، فهي تقول :( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) ولكي توكّد ذلك قالت :( وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ) .

ثمّ أنّ القرآن الكريم بيّن سبب ودليل هذا الحكم فقال :( مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) فإنّ هذا العمل ـ أي الاستغفار للمشركين ـ عمل لا معنى له وفي غير محله ، لأنّ المشرك لا يمكن العفو عنه بأي وجه ، ولا سبيل لنجاة من سار في طريق الشرك ، إضافة إلى أن طلب المغفرة نوع من إظهار المحبة والارتباط بالمشركين ، وهذا هو الأمر الذي نهى عنه القرآن مرارا وتكرارا.

ولما كان المسلمون العارفون بالقرآن قد قرءوا من قبل أن إبراهيم استغفر لعمه آزر ، ولذا فمن الممكن جدّا أن يتبادر الى أذهانهم هذا السؤال : ألم يكن آزر مشركا؟ وإذا كان هذا العمل منهيا عنه فكيف يفعله هذا النّبي الكبير؟

لهذا نرى أن الآية الثّانية تتطرق لهذا السؤال وتجيب عليه مباشرة لتطمئن القلوب ، فقالت :( وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) .

وفي آخر الآية توضيح بأنّ إبراهيم كان إنسانا خاضعا بين يدي اللهعزوجل ، وخائفا من غضبه ، وحليما واسع الصدر ، فقالت :( إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) .

إنّ هذه الجملة قد تكون بيانا لسبب الوعد الذي قطعه إبراهيم لآزر بالاستغفار له ، لأنّ حلمه وصبره من جهة ، وكونه أوّاها ـ والذي يعني كونه رحيما طبقا لبعض التفاسير ـ من جهة أخرى ، كانا يوجبان أن يبذل قصارى جهده في سبيل هداية آزر ، حتى وإن كان بوعده بالاستغفار له ، وطلب المغفرة عن أعماله السابقة.

ويحتمل أيضا أن تكون هذه الجملة دليلا على أنّ إبراهيم لخضوعه وخشوعه وخوفه من مخالفة أوامر الله سبحانه لم يكن مستعدا لأن يستغفر للمشركين أبدا ، بل إنّ هذا العمل كان مختصا بزمان كان أمل هداية آزر يعيش في قلبه ، ولهذا فإنّه بمجرّد أن اتّضح أمر عداوته ترك هذا العمل.

٢٣٤

فإن قيل : من أين علم المسلمون أنّ إبراهيم قد استغفر لآزر؟

قلنا : إن آيات سورة التوبة هذه ـ كما أشرنا في البداية ـ قد نزلت في أواخر حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قرأ المسلمون من قبل في سورة مريم ، الآية (47) أن إبراهيم بقوله :( سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ) كان قد وعد آزر بالاستغفار ، ومن المسلّم أن نبي الله إبراهيمعليه‌السلام لا يعد كذبا ، وكلما وعد وفى بوعده.

وكذلك كانوا قد قرءوا في الآية (4) من سورة الممتحنة أنّ إبراهيم قد قال له:( لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ) وكذلك في الآية (86) من سورة الشعراء ، وهي من السور المكية ، حيث ورد الاستغفار صريحا بقوله :( وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) .

* * *

ملاحظات

1 ـ رواية موضوعة!

إنّ الكثير من مفسّري العامّة نقلوا حديثا موضوعا عن صحيح البخاري ومسلم وكتب أخرى عن سعيد بن المسيب عن أبيه ، أنّه لما حضرت أبا طالب الوفاة أتى إليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان عنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عم ، قل لا إله إلّا الله أحاج لك بها عند الله» ، فالتفت أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية إلى أبي طالب وقالوا : أتريد أن تصبو عن دين أبيك عبد المطلب؟! وكرر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله ، إلّا أنّ أبا جهل وعبد الله منعاه من ذلك. وكان آخر ما قاله أبو طالب : على دين عبد المطلب، وامتنع عن قول : لا إله إلّا الله ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندئذ : «سأستغفر لك حتى أنهى عنه» فنزلت الآية :( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) (1) .

إلّا أنّ الأدلة والقرائن على كذب ووضع هذا الحديث واضحة ، لما يلي :

__________________

(1) تفسير المنار ، وتفاسير أخرى لأهل السنة.

٢٣٥

أوّلا : المعروف والمشهور بين المفسّرين والمحدثين أنّ سورة براءة نزلت في السنة التاسعة للهجرة ، بل يعتقد البعض أنّها آخر سورة نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في حين أن المؤرخين ذكروا أن وفاة أبي طالب كانت في مكّة ، وقبل هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولهذا نرى التخبط والتناقض الصريح الذي وقع فيه بعض المتعصبين كصاحب تفسير المنار ، فإنّهم قالوا تارة : إنّ هذه الآية نزلت مرّتين! مرّة في مكّة ، ومرّة في المدينة في السنة التاسعة للهجرة وظنوا أنّهم لما ادّعوا هذا الدليل رفعوا التناقض الذي سقطوا فيه.

وقالوا تارة أخرى : إنّ من الممكن أن تكون هذه الآية نزلت حين وفاة أبي طالب ، ثمّ أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوضعها في سورة التوبة. إلّا أنّ هذا الادعاء كسابقه السابق عار من الدليل.

ألم يكن من الأجدر بهم بدل أن يتخطبوا في هذه التوجيهات التي لا أساس لها ، أن يترددوا ويشككوا في صحة الرّواية السابقة؟!

ثانيا : لا شك في أنّ الله سبحانه وتعالى قد نهى المسلمين في آيات من القرآن عن محبّة المشركين قبل موت أبي طالب ، ونحن نعلم أن الاستغفار من أظهر مصاديق إبراز المحبّة والصداقة ، فكيف يمكن والحال هذه أن يرحل أبو طالب من الدنيا ويقسم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه سيستغفر له حتى ينهاه الله؟!

العجيب أنّ الفخر الرازي ، الذي عرف بتعصبه في أمثال هذه المسائل ، لما لم يستطع إنكار أنّ هذه الآية قد نزلت ـ كبقية سورة التوبة ـ في أواخر عمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمد إلى توجيه محير وعجيب ، وهو أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استمر بعد وفاة أبي طالب في الاستغفار له حتى نزلت هذه الآية ونهته عن الاستغفار! ثمّ يقول : ما المانع من أن يكون هذا الأمر ـ أي الاستغفار ـ مجازا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين إلى ذلك الوقت؟!

٢٣٦

إنّ الفخر الرازي إذا حرر نفسه من قيود التعصب ، سيلتفت إلى عدم إمكان أن يستغفر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفرد مشرك طوال هذه المدّة ، في الوقت الذي كانت آيات كثيرة من القرآن الكريم قد نزلت إلى ذلك الزمان تدين وتشجب أي نوع من مودة المشركين ومحبتهم(1) .

ثالثا : إنّ الشخص الوحيد الذي روى هذه الرّواية هو «سعيد بن المسيب» ، وبعضه وعداؤه لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام أشهر من نار على علم ، وعلى هذا لا يمكن الاعتماد على روايته في شأن عليعليه‌السلام أو أبيه أو أبنائه مطلقا.

لقد نقل «العلّامة الأميني قدس سرّه» ـ بعد أن أشار إلى الموضوع أعلاه ـ كلاما عن «الواقدي» يستحق التوقف عنده ، حيث يقول : إن سعيد بن المسيب مر بجنازة الإمام السجاد علي بن الحسينعليه‌السلام ولم يصل عليها ، واعتذر بعذر واه ، إلّا أنّه على قول ابن حزم ـ لما سئل : أتصلي خلف الحجاج أم لا؟ قال : نحن نصلّي خلف من هو أسوأ من الحجاج!

رابعا : كما قلنا في الجزء الخامس من هذا التّفسير ، فإنّ ممّا لا شك فيه أنّ أبا طالب قد آمن بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبيّنا الأدلة الواضحة على ذلك ، وأثبتنا بأنّ ما قيل في عدم إيمان أبي طالب هو تهمة كبيرة. وقد صرّح بذلك كل علماء الشيعة ، وجماعة من علماء السنة كابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) والقسطلاني في (إرشاد الساري) وزيني دحلان في (حاشية السيرة الحلبية).

وقلنا أن المحقق المدقق إذا لا حظ المد السياسي المغرض الذي تزعمه حكام بني أمية ضد عليعليه‌السلام ، استطاع أن يقدر بأن كل من ارتبط بأمير المؤمنين عليه

__________________

(1) لقد ورد النهي عن محبّة وموالاة الكافرين صريحا في الآية (139) من سورة النساء ، والتي نزلت قبل سورة التوبة مسلما ، وكذلك في الآية (38) من سورة آل عمران ، وهي كذلك نزلت قبل سورة براءة ، وفي هذه السورة قال الله سبحانه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآيات التي سبقت هذه الآية :( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) .

٢٣٧

السّلام لم يبق بمنأى عن التعرض المغرض.

في الحقيقة ، أنّ أبا طالب لم يكن له ذنب سوى أنّه أبو علي بن أبي طالبعليه‌السلام إمام المسلمين ، وقائدهم العظيم! ألم يتهموا أبا ذرّ ، ذلك المجاهد الإسلامي الكبير لحبّه وعشقه لعليعليه‌السلام ، وجهاده ضد مذهب عثمان؟!

(لمزيد الاطلاع على إيمان أبي طالب الذي كان حاميا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع مراحل حياته ، ومدافعا عنه ، ومطيعا لأوامره ، راجع الآية (25) و (26) من سورة الانعام في المجلد الرّابع من تفسيرنا هذا)

2 ـ لماذا وعد إبراهيم آزر بالاستغفار؟

وهنا يطرح سؤال آخر ، وهو : كيف وعد إبراهيم عمّه آزر بالاستغفار ، وحسب ظاهر هذه الآية وآيات القرآن الأخرى ، فإنّه قد وفى بوعده ، مع العلم أنّه لم يؤمن أبدا ، وكان من المشركين وعبدة الأصنام الى آخر حياته ، والاستغفار لمثل هؤلاء ممنوع؟

وللإجابة على هذا السؤال ينبغي الانتباه أوّلا إلى أنّه يستفاد من الآية ـ بوضوح ـ أنّ إبراهيم كان يأمل أن يجذب آزر إلى الإيمان والتوحيد عن هذا الطريق ، وكان استغفاره في الحقيقة هو : اللهم اهده ، وتجاوز عن ذنوبه السابقة.

لكن لما ارتحل آزر من هذه الدنيا وهو مشرك ـ وأصبح من المحتم عند إبراهيم أنّه مات وهو معاد لله ، ولم يبق سبيل لهدايته ـ ترك استغفاره لآزر. وعلى هذا فإنّ المسلمين أيضا يستطيعون أن يستغفروا لأصدقائهم وأقربائهم المشركين ما داموا على قيد الحياة ، وكان هناك أمل في هدايتهم ، بمعنى طلب الهداية والمغفرة من الله سبحانه لهؤلاء ، إلّا أنّهم إذا ماتوا وهم كفار فلا مجال للاستغفار بعد ذلك.

أمّا ما ورد في بعض الرّوايات من أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام ذكر أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان

٢٣٨

قد وعد آزر بالاستغفار ان هو أسلم ـ لا أنّه يستغفر له قبل إسلامه ، فلمّا تبيّن له أنّه عدو لله تنفر منه وابتعد عنه ، وعلى هذا فإنّ وعد إبراهيم كان مشروطا ، فلمّا لم يتحقق الشرط لم يستغفر له أبدا ، فإنّ هذه الرّواية إضافة إلى أنّها مرسلة وضعيفة ، فإنّها تخالف ظاهر أو صريح الآيات القرآنية ، لأنّ ظاهر الآية التي نبحثها أن إبراهيم قد استغفر ، وصريح الآية (86) من سورة الشعراء أن إبراهيم قد طلب المغفرة له ، حيث يقول :( وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) .

والشاهد الآخر ما ورد عن ابن عباس أنّه قال : إن إبراهيم قد استغفر مرارا لآزر ما دام حيا ، فلمّا مات على كفره وتبيّن عداؤه لدين الحق ، امتنع عن هذا العمل.

ولما كان فريق من المسلمين راغبين في أن يستغفروا للمحسنين الذين ماتوا وهم مشركون ، فقد نهاهم القرآن بصراحة عن ذلك ، وصرّح بأن وضع إبراهيم يختلف تماما عن وضعهم ، فإنّه كان يستغفر لآزر في حياته رجاء هدايته وإيمانه ، لا بعد موته.

3 ـ ضرورة قطع كل رابطة بالأعداء

إنّ هذه الآية ليست الوحيدة التي تتحدث عن قطع كل رابطة بالمشركين ، بل يستخلص من عدّة آيات في القرآن الكريم أن كل ارتباط وتضامن وعلاقة ، العائلية منها وغيرها ، يجب أن تخضع لإطار العلاقات العقائدية ، ويجب أن يحكم الانتماء الى الله ومحاربة كل أشكال الشرك والوثنية كل اشكاليات الترابط بين المسلمين. لأنّ هذا الارتباط هو الأساس والحاكم على كل مقدراتهم الاجتماعية ، ولا تستطيع العلاقات والروابط السطحية والفوقية أن تنفيه.

إنّ هذا درس كبير للأمس واليوم ، وكل الأعصار والقرون.

* * *

٢٣٩

الآيتان

( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) )

سبب النّزول

قال بعض المفسّرين : إنّ فريقا من المسلمين ماتوا قبل نزول الفرائض والواجبات وتشريعها ، فجاء جماعة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأظهروا قلقهم على مصير هؤلاء ـ وكانوا يظنون أن هؤلاء ربّما سينالهم العقاب الإلهي لعدم أدائهم الفرائض ، فنزلت الآية ونفت هذا التصور(1) .

وقال بعض الآخر من المفسّرين : إنّ هذه الآية نزلت في مسألة استغفار المسلمين للمشركين ، وإظهارهم محبّتهم لهم قبل النهي الصريح الوارد في الآيات السابقة ، لأنّ هذه المسألة كانت باعثا لقلق المسلمين ، فنزلت الآية وطمأنتهم إلى أنّ استغفارهم قبل الني لا يوجب حسابهم ومعاقبتهم.

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية.

٢٤٠