الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 252228 / تحميل: 6013
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وعدّها واهية لا أساس لها ، وأنّها عارية من الصحة ، إذ قال : لا مهديّ إلّا عيسى ، إلّا أنّ علماء الإسلام ورجاله ردّوا على مقالته ، وخاصّة أبو العباس بن عبد المؤمن في كتابه «الوهم المكنون في الردّ على ابن خلدون» الذي خصّص في كتابه بحثا مسهبا في هذا الشأن ، وقد نشر الكتاب منذ أكثر من ثلاثين سنة.

ويقول حفاظ الأحاديث والعلماء الكبار بصراحة ، إن الأحاديث في المهدي تشتمل على الصحيح والحسن ، ومجموعها متواتر ، فبناء على ذلك فالاعتقاد بظهور المهدي واجب على كل مسلم ، ويعدّ هذا من عقائد أهل السنة والجماعة ولا ينكرها إلّا الجهلة أو المبتدعون إلخ.

مدير إدارة مجمع الفقه الإسلامي

محمّد المنتصر الكنائي

* * *

الانتظار وآثاره البنّاءة :

كان الكلام في البحث السابق أن هذا الإعتقاد لم يكن ممّا طرا على التعاليم الإسلامية ، بل هو من أكثر المباحث القطعية المأخوذة عن مؤسس دعائم الإسلام صلوات الله عليه ، ويتفق على ذلك عموم الفرق الإسلامية ، والأحاديث في هذا الشأن متواترة أيضا.

والآن لنقف على آثار الانتظار في المجتمعات الإسلامية وما هي عليه من أحوال ، لنرى هل أن الإيمان بظهور الإمام المهديعليه‌السلام يجعل الإنسان عارفا في الوهم والخيال ثمّ ليستسلم لجميع الظروف ، أو هو نوع من الدّعوة إلى النهوض وبناء الإنسان والمجتمع؟!

هل يدعو إلى التحرك ، أم إلى الركود؟

هل يبعث في الإنسان روح المسؤولية ، أم هو مدعاة للفرار منها؟

٢١

وأخيرا : أهو مخدّر ، أم موقظ؟

إلّا أنّه قبل أن نوضح الإجابة على هذه الأسئلة ـ لا بدّ من الالتفات إلى هذه الملاحظة وهي أن أسمى المفاهيم وأكرم الدساتير متى ما وقعت في أيدي أناس جهلة أو غير جديرين بها ، فمن الممكن أن تمسخ بسوء استفادتهم فتكون النتيجة خلافا للهدف الأصلي تماما وتتعاكس في المسار ، ومثل هذا واقع بكثرة ، وسنرى أن مسألة انتظار المهديعليه‌السلام من هذه المسائل أيضا.

ومن أجل تحاشي والأخطاء والاشتباهات في مثل هذه المباحث ، ينبغي ـ كما قيل ـ أن ننهل الماء من معينه العذب ، لئلا نجد فيه كدر الأنهار أو السواقي المشوبة. أي علينا أن نراجع النصوص الإسلامية الأصيلة مباشرة وأن نفهم الانتظار من لسان رواياتها المختلفة، حتى نطّلع على الهدف الأصليّ منها!

الرّوايات الشّريفة :

١ ـ سأل بعضهم الإمام الصّادقعليه‌السلام : ما تقول في رجل موال للأئمّةعليهم‌السلام وينتظر ظهور حكومة الحق ، ثمّ يموت وهو على هذه الحال؟!

فقال الإمام الصادقعليه‌السلام : هو بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه. ثمّ سكت هنيئة ، ثمّ قال : هو كمن كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وهذا المضمون نفسه ورد في روايات متعددة بتعابير مختلفة :

٢ ـ إذ جاء في بعضها : بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل الله.

٣ ـ وفي بعضها : كمن قارع مع رسول الله بسيفه.

٤ ـ وفي بعضها : بمنزلة من كان قاعدا تحت لواء القائم.

٥ ـ وفي بعضها : بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله.

٦ ـ وفي بعضها : بمنزلة من استشهد مع رسول الله.

__________________

(١) محاسن البرقي ، طبقا لما ورد في البحار ، الطبعة القديمة ، ج ١٣ ، ص ١٣٦.

٢٢

فهذه التشبيهات السبعة في الرّوايات الست المذكورة ، آنفا في شأن المهديعليه‌السلام ، تبيّن هذه الواقعية وهي أنّ هناك علاقة وارتباط بين مسألة الانتظار من جانب ، وجهاد العدوّ في أشدّ أشكاله من جانب آخر «فتأملوا بدقّة».

٧ ـ كما ورد في روايات متعددة أن انتظار مثل هذه الحكومة الحقة من أفضل العبادات ، وهذا المضمون ورد في بعض أحاديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلام الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام .

فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من اللهعزوجل ».(١)

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث آخر : «أفضل العبادة انتظار الفرج».(٢)

وهذان الحديثان يشيران إلى انتظار الفرج ، سواء الفرج بمفهومه الواسع العام أو بمفهومه الخاص أي انتظار ظهور المصلح ويبيّنان أهمية الانتظار بجلاء أيضا.

ومثل هذه التعابير تعني أنّ الانتظار معناه الثورية المقرونة بالتهيؤ للجهاد ، فلا بدّ أن نتصوّر هذا المعنى لنفهم المراد من الانتظار ، ثمّ نحصل على النتيجة المتوخاة.

مفهوم الانتظار!

الانتظار : يطلق عادة على من يكون في حالة غير مريحة وهو يسعى لإيجاد وضع أحسن.

فمثلا المريض ينتظر الشفاء من سقمه ، أو الأب ينتظر عودة ولده من السفر ، فهما أي المريض والأب مشفقان ، هذا من مرضه وذاك من غياب ولده ، فينتظران الحال الأحسن ويسعيان من أجل ذلك بما في وسعهما.

وكذلك ـ مثلا ـ حال التّاجر الذي يعاني الأزمة السوقية وينتظر النشاط

__________________

(١) الكافي ، حسب ما جاء في البحار ، ص ١٣٦ و ١٣٧.

(٢) المصدر السّابق.

٢٣

الاقتصادي. فهاتان الحالتان أي : الاحساس بالأزمة ، والسعي نحو الأحسن هما من الانتظار.

فبناء على ذلك ، فإنّ مسألة انتظار حكومة الحق والعدل ، أي حكومة «المهديعليه‌السلام » وظهور المصلح العالمي ، مركبة في الواقع من عنصرين : عنصر نفي ، وعنصر إثبات، فعنصر النفي هو الإحساس بغرابة الوضع الذي يعانيه المنتظر ، وعنصر الإثبات هو طلب الحال الأحسن!

وإذا قدّر لهذين العنصرين أن يحلّا في روح الإنسان فإنّهما يكونان مدعاة لنوعين من الأعمال وهذان النوعان هما :

١ ـ ترك كل شكل من أشكال التعاون مع أسباب الظلم والفساد ، بل عليه أن يقاومها ، هذا من جهة.

٢ ـ وبناء الشخصية والتحرك الذاتي وتهيئة الاستعدادات الجسمية والروحية والمادية والمعنوية لظهور تلك الحكومة العالمية الإنسانية ، من جهة أخرى.

ولو أمعنّا النظر لوجدنا أنّ هذين النوعين من الأعمال هما سبب في اليقظة والوعي والبناء الذاتي.

ومع الالتفات إلى مفهوم الانتظار الأصيل ، ندرك بصورة جيدة معنى الرّوايات الواردة في ثواب المنتظرين وعاقبة أمرهم ، وعندها نعرف لم سمّت الرّوايات المنتظرين بحقّ بأنّهم بمنزلة من كان مع القائم تحت فسطاطه «عجل الله فرجه» أو أنّهم تحت لوائه ، أو أنّهم كمن يقاتل في سبيل الله بين يديه كالمستشهد بين يديه ، أو كالمتشحط بدمه! إلخ

ترى أليست هذه التعابير تشير إلى المراحل المختلفة ودرجات الجهاد في سبيل الحق والعدل ، التي تتناسب ومقدار الاستعداد ودرجة انتظار الناس؟

كما أنّ ميزان التضحية ومعيارها ليسن في درجة واحدة ، إذا أردنا أن نزن تضحية المجاهدين ، في سبيل الله ودرجاتهم وآثار تضحياتهم ، فكذلك الانتظار

٢٤

وبناء الشخصيّة والاستعداد ، كل ذلك ليس في درجة واحدة ، وإن كان كلّ من هذه «العناوين» من حيث المقدمات والنتائج يشبه العناوين آنفة الذكر. فكلّ منهما جهاد وكل منهما استعداد وتهيؤ لبناء الذات ، فمن هو تحت خيمة القائد وفي فسطاطه يعني أنّه مستقر في مركز القيادة ، وعند آمرية الحكومة الاسلامية! فلا يمكن أن يكون إنسانا غافلا جاهلا ، فذلك المكان ليس مكانا لكل أحد وإنّما هو مكان من يستحقه بجدارة!

فكذلك الأمر عند ما يقاتل المقاتل بين يدي هدا القائد أعداء حكومة العدل والصلاح ، فعليه أن يكون مستعدا بشكل كامل روحيا وفكريا وقتاليا.

ولمزيد التعرف على الآثار الواقعية لانتظار ظهور المهديعليه‌السلام لاحظوا التوضيح التّالي:

الانتظار يعنى الاستعداد الكامل :

إذا كنت ظالما مجرما ، فكيف يتسنى لي أن أنتظر من سيفه متعطش لدماء الظالمين؟! وإذا كنت ملوّثا غير نقي فكيف أنتظر ثورة يحرق لهبها الملوّثين؟! والجيش الذي ينتظر الجهاد الكبير يقوم برفع معنويات جنوده ويلهمهم روح الثورة ، ويصلح نقاط الضعف فيهم إن وجدت ، لأنّ كيفية الانتظار تتناسب دائما والهدف الذي نحن في انتظاره.

١ ـ انتظار قدوم أحد المسافرين من سفره.

٢ ـ انتظار عودة حبيب عزيز جدا.

٣ ـ انتظار حلول فصل اقتطاف الثمار وجني المحاصيل.

كل من هذه الأنواع من الانتظار مقرون بنوع من الاستعداد ، ففي أحدها ينبغي تهيئة البيت ووسائل التكريم ، وفي الآخر ما ينبغي أن يقتطف به من الأدوات

٢٥

والسلال وهكذا والآن سنتصوّر كيف يكون انتظار ظهور مصلح عالمي كبير وكيف نكون في انتظار ثورة وتغيير وتحول واسع لم يشهد تأريخ الإنسانية مثيلا له؟

الثورة التي ليست كسائر الثورات السابقة ، إذ هي غير محدودة بمنطقة ما ، بل هي عامّة وللجميع ، وتشمل جميع شؤون الحياة والناس ، فهي ثورة سياسية ، ثقافية ، اقتصادية، أخلاقية.

الحكمة الأولى ، بناء الشّخصية الفرديّة :

إنّ بناء الشّخصية ـ قبل كل شيء ـ بحاجة إلى عناصر معدّة ذات قيم إنسانية ، ليمكن للفرد أن يتحمل العبء الثقيل الإصلاحي للعالم ، وهذا الأمر بحاجة ـ أوّلا ـ إلى الارتقاء الفكري والعلمي والاستعداد الروحي ، لتطبيق ذلك المنهج العظيم.

فالتحجر ، وضيق النظر والحسد ، والاختلافات الصبيانية ، وكل نفاق بشكل عام أو تفرقة لا تنسجم ومكانة المنتظرين الواقعيين.

والمسألة المهمّة ـ هنا ـ أنّ المنتظر الواقعي لا يمكنه أن يقف موقف المتفرج ممّا أشرنا إليه آنفا ، بل لا بدّ أن يقف في الصف الآخر ، أي صف الثائرين المصلحين ، فالإيمان بالنتائج وما يؤول إليه هذا التحول ، لا يسمح له أبدا أن يكون في صف «المثبطين» المتقاعسين ، بل يكون في صف المخلصين المصلحين ، ويكون عمله خالصا وروحه أكثر نقاء ، وأن يكون شهما عارفا معرفة كافية بالأمور.

فإذا كنت فاسدا معوجّا فكيف يمكنني أن أنتظر نظاما لا مكان فيه للفاسدين؟أليس مثل هذا الانتظار كافيا لأن أطهّر نفسي وفكري ، وأغسل جسمي وروحي من التلوّث؟!

والجيش الذي ينتظر جهادا تحرريا لا بدّ له أن يكون في حالة من الاستعداد الكامل ، وأن يهيئ السلاح الجدير بالمعركة ، وأن يصنع الملاجئ والمواضع

٢٦

العسكرية اللازمة وأن يرفع المعنويات القتالية في صفوف أفراده ، ويقوي روحيّاتهم ، يسرج في قلوبهم شعلة العشق للمواجهة فإنّ جيشا ليس فيه مثل هذه الاستعدادات لا يكون جيشا (منتظرا) وإذا ادعى الانتظار فهو «كاذب»!

إنّ انتظار المصلح ، «العالمي» معناه الاستعداد الكامل فكريا ، وأخلاقيا ، ماديا ومعنويا ، الاستعداد لإصلاح العالم كلّه. فتصوّروا أنّ مثل هذا الاستعدادكم يكون بنّاء؟!

فإصلاح المعمورة كلّها ، وإنهاء الظلم والفساد والنواقص ليس عملا بسيطا ، ولا هو بالمزاح أو الهزل ، بل الاستعداد لمثل هذا الهدف الكبير ينبغي أن يتناسب معه ، وأن يكون بسعته وعمقه!

فلا بدّ من وجود رجال كبار مصممين ذوي إرادة أقوياء لا ينكصون ولا ينهزمون أبدا ، ذوي نظرة واسعة واستعداد تام وتفكير عميق ، حتى تتحقق مثل هذه الثورة الإصلاحية العالمية.

وبناء الشخصية لمثل هذا الهدف يستلزم الارتباط بأشد المناهج الأخلاقية ، والفكرية والاجتماعية أصالة وعمقا ، فهذا هو معنى الانتظار الواقعي! ترى هل يستطيع أن ينكر أحد فيقول : إن مثل هذا الانتظار لا يكون فاعلا.

الحكمة الثّانية ، التعاون الاجتماعي :

إنّ المنتظرين بحق في الوقت الذي ينبغي عليهم أن يهتمّوا ببناء «شخصيتهم» عليهم، أن يراقبوا أحوال الآخرين ، وأن يجدّوا في إصلاحهم جدّهم في إصلاح ذاتهم لأنّ المنهج العظيم الذي ينتظرونه ليس منهجا فرديّا ، بل هو منهج ينبغي أن تشترك فيه جميع العناصر الثورية ، وأن يكون العمل جماعيا عاما ، وأن تتسق المساعي والجهود بشكل يتناسب وتلك الثورة العالمية هم في انتظارها.

ففي ساحة معركة واسعة يقاتل فيها مجموعة جنبا إلى جنب ، لا يمكن لأحد

٢٧

منهم أن يغفل عن الآخرين بل عليه أن يشدّ أزرهم وأن يسدّ الثغرة ويصلح نقطة الضعف إن وجدت ويرمم المواضع المتداعية ويدعم ما ضعف منها ، لأنّه لا يمكن تطبيق مثل هذا المنهج دون مساهمة جماعية نشيطة فعّالة متسقة متناسقة! فبناء على ذلك فالمنتظرون بحقّ عليهم أن يصلحوا حال الآخرين بالإضافة إلى إصلاح حالهم.

فهذا هو الأثر الآخر البنّاء ، الذي يورثه الانتظار لقيام مصلح عالمي ، وهذه حكمة الفضائل التي ينالها ، المنتظرون بحق.

الحكمة الثّالثة ، المنتظرون بحق لا يذوبون في المحيط الفاسد :

إنّ الأثر المهم الآخر للانتظار هو عدم ذوبان المنتظرين في المحيط الفاسد ، وعدم الانقياد وراء المغريات والتلوّث بها أبدا.

وتوضيح ذلك : أنّه حين يعم الفساد المجتمع ، أو تكون الأغلبية الساحقة منه فاسدة، فقد يقع الإنسان النقي الطاهر في مأزق نفسي ، أو بتعبير آخر : في طريق مسدود «لليأس من الإصلاحات التي يتوخّاها».

وربّما يتصور «المنتظرون» أنّه لا مجال للإصلاح ، وأن السعي والجدّ من أجل البقاء على «النقاء» والطهارة وعدم التلوّث ، كل ذلك لا طائل تحته ، أو لا جدوى منه ، فهذا اليأس أو الفشل قد يجرّ الإنسان نحو الفساد والاصطباغ بصبغة المجتمع الفساد ، فلا يستطيع المنتظرون عندئذ أن يحافظوا على أنفسهم باعتبارهم أقليّة صالحة بين أكثرية طالحة ، وأنّهم سيفتضحون إن أصروا على مواصلة طريقهم وينكشفون لأنّهم ليسوا على شاكلة الجماعة.

والشيء الوحيد الذي ينعش فيهم الأمل ويدعوهم الى المقاومة والتجلد وعدم الذّوبان والانحلال في المحيط الفاسد ، هو رجاؤهم بالإصلاح النهائي ، فهم في هذه الحال ـ فحسب ـ لا يسأمون عن الجد والمثابرة ، بل يواصلون طريقهم في

٢٨

سبيل المحافظة على الذات وحفظ الآخرين وإصلاحهم أيضا.

وحين نجد ـ في التعاليم الإسلامية ـ أن اليأس من رحمة الله وثوابه من أعظم الذنوب والكبائر ، فقد يتعجب بعض الجهّال : كيف يكون اليأس من رحمة الله من الكبائر والى هذه الدرجة من الأهمية ، حتى أنّه أشدّ من سائر الذنوب الأخرى ، فإنّ حكمته و «فلسفته» في الحقيقة هو ما أشرنا إليه آنفا ، لأنّ العاصي الآيس من رحمة الله لا يرى شيئا ينقذه ويخلصه من عذاب الله ، فلا يفكر بإصلاح الخلل ، أو ـ يكفّ عن الذنب على الأقل لأنّه يقول في نفسه : أنا الغريق فهل أحشى من البلل؟ والنهاية الحتمية جهنّم ، وقد اشتريتها ، فما عسى أن أفعل؟ وما الى ذلك.

إلّا أنّه حين تنفتح له نافذة الأمل ، فإنّه سيرجو عفو ربّه ، ويتجه نحو تغيير نفسه وحاله ، ويحصل له منعطف جديد في حياته يدعوه الى التوقف عن مواصلة الذنوب والعودة نحو الطهارة والنقاء والإصلاح.

ومن هنا يمكننا أن نعتبر أنّ الأمل عامل تربوي مهم ومؤثر في المنحرفين أو الفاسدين، كما أنّ الصالحين لا يستطيعون أن يواصلوا مسيرهم في المحيط الفاسد إذا لم يكن لهم أمل بالانتصار على المفاسد.

والنتيجة أنّ معنى انتظار ظهور المصلح ، هو أنّ الدنيا مهما مالت نحو الفساد أكثر كان الأمل بالظهور أكثر ، والانتظار يكون له أثر نفسي كبير ، فيضمن للنفوس القوّة في مواجهة الأمواج والتيارات الشديدة كيلا يجرفها الفساد ، فهم ليسوا أربط جأشا فحسب ، بل بمقتضى قول الشاعر :

عند ما يأزف ميعاد الوصال

فلظى العشّاق في أيّ اشتعال

إذن فهم يسعون أكثر للوصول الى الهدف المنشود ، وتنشد همتهم لمواجهة الفساد ومكافحته بشوق لا مزيد عليه.

وممّا ذكرناه ـ آنفا ـ نستنتج أن الأثر السلبي للانتظار إنّما يكون في صوره ما لو مسخ مفهومه أو حرّف عن واقعه ، كما حرفه المخالفون والأعداء ، ومسخه

٢٩

الموافقون ، غير أنّه لو أخذ بمفهومه الواقعي لكان عاملا تربويّا مهمّا بنّاء محرّكا باعثا على الأمل والرجاء.

وممّا يؤيد هذا الكلام ما ورد عن الأئمّة الطّاهرينعليهم‌السلام في تفسير هذه الآية :( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ) إذ جاء أنّ المراد من الآية هو «القائم وأصحابه».(١)

كما جاء في حديث آخر أنّها ، أي هذه الآية نزلت في المهديعليه‌السلام .

وقد عبّرت هذه الآية عن الإمام المهدي وأصحابه ب( الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) .

فبناء على ذلك فإنّ تحقّق هذه الثورة الإصلاحية بدون إيمان مستحكم يقضي على كل أنواع الضعف والتحلّل وبدون عمل صالح يفتح الطريق لإصلاح العالم ، فإن هذا التحقّق مستبعد جدّا.

والطالبون لهذا التحقّق عليهم أن يزدادوا إيمانا ومعرفة ، وأن يجدّوا في العمل الصالح وإصلاح ذاتهم.

وهؤلاء هم طليعة تلك الحكومة العالمية وأملها المشرق ، لا من ركن الى الظلم والجور

وليس المنتظر لتلك الحكومة الأشخاص الضعاف الهمة والجبناء الذين يخافون حتى من ظلّهم.

ولا البطّالون الساكتون عن الحق التّاركون للآمر بالمعروف والنهي عن المنكر في محيطهم الفاسد. أجل هذا هو الأثر الإيجابي البناء لانتظار قيام المهديعليه‌السلام في المجتمع الإسلامي.

* * *

__________________

(١) راجع البحار الطبعة القديمة ج ١٣ ، ص ١٤.

٣٠

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥) )

التّفسير

كنز الأموال :

كان الكلام في الآيات المتقدمة عن أعمال اليهود والنصارى المشوبة بالشرك ، إذ كانوا يعبدون الأحبار والرهبان من دون الله.

الآية الأولى محل البحث تقول : إنّ أولئك مضافا إلى كونهم غير جديرين بالألوهية فهم غير جديرين بقيادة الناس أيضا ، وخير دليل على ذلك أعمالهم المتناقضة المضطربة.

٣١

فالآية هنا تلتفت نحو المسلمين فتخاطبهم بالقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) .

الطريف هنا أنّنا نواجه الأسلوب نفسه في القرآن على ما عهدناه في أمكنة أخرى من آياته ، فالآية هنا لم تقل : إنّ الأحبار والرهبان جميعهم ليأكلون ، بل قالت :( إِنَّ كَثِيراً ) فهي تستثني الأقلية الصالحة منهم ، وهذا النوع من الدقة ملحوظ في سائر آيات القرآن ، وقد أشرنا الى ذلك سابقا.

لكن كيف يأكلون أموال الناس دون مسوّغ أو مجوّز ، أو كما عبّر القرآن «بالباطل» فقد أشرنا سابقا الى ذلك في آيات أخرى كما ورد في التأريخ شيء منه أيضا ، وذلك :

أوّلا : إنّهم كتموا حقائق التعاليم التي جاء بها موسىعليه‌السلام في توراته وعيسىعليه‌السلام في إنجيله ، لئلا يميل الناس الى الدين الجديد ، «الدين الإسلامي» فتنقطع هداياهم وتغدو منافعهم في خطر ، كما أشارت الى ذلك الآيات (٤١) و (٧٩) و (١٧٤) من سورة البقرة.

والثّاني : إنّهم بأخذهم «الرّشوة» كانوا يقلبون الحق باطلا والباطل حقّا ، وكانوا يحكمون لصالح الأقوياء ، كما أشارت الى ذلك الآية (٤١) من سورة المائدة.

ومن أساليبهم غير المشروعة في أخذ المال هو ما يسمّى بـ «صكوك الغفران وبيع الجنّة» فكانوا يتسلمون أموالا باهظة من الناس ، ويبيعون الجنّة بـ «صكوك الغفران» والغفران ودخول الجنّة منحصران بإرادة الله وأمره ، وهذا الموضوع ـ أي صكوك الغفران ـ يضجّ به تأريخ المسيحيّة! كما أثار نقاشات وجدالا عندهم.

وأمّا صدّهم عن سبيل الله فهو واضح ، لأنّهم كانوا يحرفون آيات الله ، أو أنّهم كانوا يكتمونها رعاية لمنافعهم الخاصّة ، بل كانوا يتهمون كل من يرونه مخالفا لمقامهم ومنافعهم ، ويحاكمونه ـ في محاكم تدعى بمحاكم التفتيش الديني بأسوأ

٣٢

وجه ، ويصدرون عليه أحكاما جائرة قاسية جدّا.

ولو لم يقوموا بمثل هذه الأعمال ولم يقدموا على صدّ أتباعهم عن سبيل الله ، لكان آلاف الآلاف من أتباعهم ملتفين اليوم حول راية الإسلام ودين الحق من صميم أرواحهم وقلوبهم ، فبناء على ذلك يمكن أن يقال ـ بكل جرأة ودون تحفظ ـ أن آثام الآلاف من الجماعات في رقاب أولئك «الرهبان والأحبار» لأنّهم كانوا سببا في بقائهم في الظلمات ، ظلمات الكفر والضلال

وما زالت الكنيسة لحدّ الآن تبذل قصارى وسعها ـ ولا يقصر في ذلك اليهود أيضا ـ لتغيير أفكار عامّة الناس ، وإلفاتهم عن الإسلام ، كما وجه اليهود تهما كثيرة عجيبة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهذا الموضوع من الوضوح والشمول أنّ جماعة من علماء المسيحية المثقفين اعترفوا بأنّ أسلوب الكنيسة في مواجهة الإسلام ومحاربته أحد أسباب جهل الغربيين بالإسلام وعدم اطلاعهم على هذا الدين الطاهر.

وتعقيبا على موضوع حب اليهود والنصارى لدنياهم وأكل المال بالباطل ، فإنّ القرآن يتحدث عن قانون كلّي في شأن أصحاب المال وذوي الثراء ، الذين يكنزون أموالهم ، فيقول:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) .

والفعل «يكنزون» مأخوذ من مادة «الكنز» وهو المال المدفون في الأرض ، وهو في الأصل جمع أجزاء الشيء ، ومن هنا فقد سمّي البعير ذو اللحم الكثير بأنّه «كناز اللحم» ثمّ استعمل الكنز في جمع المال وادخاره ودفنه ، أو في الأشياء القيمة غالية الثمن.

فبناء على ذلك فإنّ الكنز ملحوظ فيه الجمع والإخفاء والمحافظة.

«الذهب والفضة» معدنان مشهوران ، وكان النقد أو العملة سابقا بالدينار الذهبي والدرهم الفضيّ.

٣٣

ولبعض العلماء تعريف طريف في شأن هذين المعدنين ولغتيهما «كما ذكر ذلك العلّامة الطبرسي في مجمع البيان» فقال : إنّما سمّي الذهب ذهبا لذهابه عن اليد عاجلا ، وإنّما سمّيت الفضة لانفضاضها أي لتفرّقها ، ولمعرفة مآل وحقيقة هذه الثروة فإنّ هذه التسمّية كافية (لكلّ من المالين ـ الذهب والفضة).

ومنذ كانت المجتمعات البشرية كانت مسألة المبادلة ـ سلعة بسلعة ـ رائجة بين الناس ، فكان كلّ يبيع ما يجده زائدا على حاجته من المحاصيل الزراعية أو الدواجن بجنس آخر ، أو بضاعة أخرى ، لأنّ النقد «الدينار أو الدرهم» لم يكن آنئذ ، لكن لما كانت المبادلة ـ أعني مبادلة الأجناس أو البضائع ـ تحدث بعض المشاكل أو المصاعب ، لعدم وجود ما يحتاجه البائع ، دائما فقد يكون هناك شيء آخر ـ مثلا ـ يراد تبديله ، فقد دعت الحاجة الى اختراع النقد.

وقد كان وجود الفضة ، بل الأهم منه وجود الذهب ، مدعاة الى تحقق هذه الفكرة ، وهي أن تمثل الفضة القيمة الدانية ، وأن يمثل الذهب القيمة الغالية ، وبهما اتّخذت المعاملات رونقا جديدا بارزا.

فبناء على ذلك فإنّ الحكمة الأصيلة من النقد ـ الذهب والفضة ـ هي سرعة تحرك عجلة المبادلات الاقتصادية.

أمّا الذين يكنزون الذهب والفضة ، فهم لا يكونون سببا لركود الوضع الاقتصادي والضرر بالمجتمع فحسب ، بل إنّ عملهم هذا مخالف لفلسفة ابتداع النقد واختراعه.

فالآية محل البحث تحرم الكنز وجمع المال ، والثروة بصراحة ، وتأمر المسلمين أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله وما فيه نفع عباد الله ، وأن يتجنبوا كنزها ودفنها وإبعادها عن تحرك السوق ، وإلّا فلينتظروا «العذاب الأليم».

وهذا العذاب الأليم ليس جزاءهم في يوم القيامة فحسب ، بل يشملهم في الدنيا ـ لإرباكهم الحالة الاقتصادية ولإيجاد الطبقية بين الناس «الفقير والغني» أيضا.

٣٤

وإذا لم يكن أهل الدنيا يعرفون أهمية هذا الدّستور الإسلامي بالأمس ، فنحن نستطيع أن ندركه جيدا ، لأنّ الأزمات الاقتصادية التي أبتلي بها البشر نتيجة احتكار الثروة من قبل جماعة «أنانية» ، وظهورها على صورة حروب وثورات وسفك دماء ، غير خاف على أحد أبدا.

حتى يعدّ جمع الثروة كنزا؟

هناك كلام بين المفسّرين في شأن الآية ـ محل البحث ـ فهل كلّ جمع للمال أو ادخار له يعدّ كنزا ، لأنّه زائد على حاجة الإنسان ، فهو حرام وفق مفهوم الآية ...أو أنّ الحكم خاصّ ببداية الإسلام وقبل نزول حكم الزّكاة ثمّ ارتفع حكم الكنز بنزول حكم الزّكاة ...أو أنّه يجب على الإنسان دفع زكاته سنويا لا غير ، فإذا دفع الإنسان زكاة سنته فلا يكون مشمولا بحكم الكنز وإن جمع المال؟ في كثير من الرّوايات الصادرة عن أهل البيتعليهم‌السلام وروايات أهل السّنة ، يلوح لنا التّفسير الثّالث ، ففي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «أي مال أدّيت زكاته فليس بكنز».(١)

كما نقرأ في بعض الرّوايات أنّه لمّا نزلت آية الكنز ثقل على المسلمين الأمر ، فقالوا : ليس لنا أن ندخر شيئا لأبنائنا إذا ، ثمّ سألوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «إن الله لم يفرض الزكاة إلّا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنّما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم».(٢)

أي أن جمع المال لو كان ـ بشكل عام ممنوعا ـ لما وجدنا لقانون الإرث موضوعا.

__________________

(١) المنار ، ج ١٠ ، ص ٤٠٤.

(٢) المصدر السّابق.

٣٥

وفي كتاب الأمالي للشيخ الطوسي قدس سرّه ورد هذا المضمون ذاته عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أدى زكاة مال فما تبقّى منه ليس بكنز».(١)

إلّا أنّنا نقرأ روايات أخرى في المصادر الإسلامية لا ينسجم ظاهرا ـ ولأوّل وهلة ـ والتّفسير الآنف الذكر ، ومنها ما ورد عن الإمام عليعليه‌السلام في مجمع البيان أنّه قال : «ما زاد على أربعة آلاف(٢) فهو كنز أدّى زكاته أو لم يؤدّها ، وما دونها فهي نفقة ، فبشرهم بعذاب أليم».(٣)

وقد ورد في الكافي عن معاذ بن كثير ، أنّه سمع عن الصادقعليه‌السلام يقول : «لشيعتنا أن ينفقوا ممّا في أيديهم في الخيرات ، وما بقي فهو حلال لهم ، إلّا أنّه إذا ظهر القائم حرم جميع الكنوز والأموال المدخرة حتى يؤتى بها إليه ويستعين بها على عدوه ، وذلك معنى قوله تعالى :( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ) .(٤)

ونقرأ في سيرة أبي ذر رضوان الله عليه في كثير من الكتب أنّه لما كان في الشام ، كان يقرأ الآية ـ محل البحث ـ في شأن معاوية ، ويقول بصوت عال صباح مساء :«بشر أهل الكنوز بكيّ في الجباه وكيّ بالجنوب وكيّ بالظهور أبدا حتى يتردّد الحرّ في أجوافهم».(٥)

كما يظهر من استدلال أبي ذر رضى الله عنه بالآية في وجه عثمان ، أنّه كان يعتقد أنّ الآية لا تختص بمانعي الزّكاة ، بل تشمل غيرهم أيضا.

ويمكن الاستنتاج من مجموع الأحاديث ـ آنفة الذكر ـ منضمة إليها الآية محل البحث ، أنّه في الظروف الاعتيادية المألوفة ، حيث يرى الناس آمنين ، أو غير محدق بهم الخطر ، والمجتمع في حال مستقر ، فيكفي عندئذ دفع الزكاة وما تبقى لا

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢١٣.

(٢) المقصود بها أربعة آلاف درهم لأنّها مخارج السنة.

(٣) مجمع البيان ، ذيل الآية محل البحث ، ونور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢١٣.

(٤) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢١٣.

(٥) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢١٤ وتفسير البرهان ، ج ١ ، ص ١٢٢.

٣٦

يعد كنزا. وينبغي الالتفات بطبيعة الحال الى أنّه مع رعاية الموازين الإسلامية ، وما هو مقرر في شأن رؤوس الأموال والأرباح ، فإنّ الأموال لا تتراكم بشكل غير مألوف فوق العادة ، لأنّ الإسلام وضع قيودا وشروطا للمال لا يتسنى للإنسان معها جمع الأموال وادّخارها.

وأمّا في الحالات غير الطبيعية وغير الاعتيادية ، وعند ما يقتضي حفظ مصالح المجتمع الإسلامي ذلك ، فإنّ الحكومة الإسلامية ، تحدّد لجمع المال مقدارا ، كما مرّ في حديث الإمام عليعليه‌السلام أو تطالب الناس بالكنوز وما جمعوه من المال كليّا ، كما هو الحال في قيام المهدي ، إذ مرّت رواية الإمام الصادقعليه‌السلام مع ذكر العلّة «فيستعين به (أي المال) على عدوّه».

إلّا أنّنا نكرر القول بأنّ هذا الموضوع يختص بالحكومة الإسلامية ، وهي التي لها حق البتّ والتصميم في مواطن الضرورة والاقتضاء «فلاحظوا بدقّة».

وأمّا قصّة أبي ذر رضى الله عنه فلعلّها ناظرة الى هذا الموضوع ذاته ، إذا كان المجتمع الإسلامي في حاجة ماسة وشديدة للمال ، وكان جمع المال وكنزه مخالفا لمنافع المجتمع وحفظ وجوده.

ومع أن أبا ذر رضى الله عنه كان ناظرا الى أموال «بيت المال» التي كانت عند عثمان ومعاوية ، ونحن نعرف أنّه مع وجود المستحقين لا يجوز تأخير دفع المال عنهم لحظة واحدة ، بل يجب دفعه الى أصحابه فورا ، ولا علاقة لمسألة الزكاة بهذا الموضوع أبدا.

على أنّ التواريخ الإسلامية ـ سنّية وشيعية ـ مجمعة وشاهدة على أنّ عثمان وزّع أموال بيت المال الضخمة الطائلة على أقاربه ، وأن معاوية بنى من بيت مال المسلمين قصرا ضحما أحيا به أساطير قصور الساسانيين ، وكان لأبي ذر رضوان الله عليه الحق في أن يحتج بالآية محل البحث أمامها.

٣٧

أبو ذر والاشتراكية!!

من المؤاخذات على الخليفة الثّالث مسألة إبعاد أبي ذر رضى الله عنه المصحوب بالقسوة والخشونة الى الرّبذه ، تلك المنطقة التي كان يبغضها أبو ذر والتي كانت غير صالحة من حيث الماء والهواء ، حتى انتهى الأمر الى موت هذا الصحابي الجليل والمجاهد المضحي في سبيل الإسلام ، وهو الذي قال فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ».

ونعرف أنّ الاختلاف بين أبي ذر وعثمان لم يكن لأنّ أبا ذر كان يتمنى المال أو المقام، بل على العكس فقد كان أبو ذر زاهدا عابدا ورعا من جميع الوجوه ، بل منشأ الخلاف وأساسه ، هو أن عثمان فرّق مال بيت مال المسلمين على ذوي قرباه وأصحابه وأنفقه بلا حساب.

وكان أبو ذر رضى الله عنه متشددا في الأمور المالية ، ولا سيّما ما كان منها متعلقا ببيت مال المسلمين ، وكان يرغب في أن يسير جميع المسلمين على سنة النّبي في هذا المجال ، والتصرف بالمال ، لكننا نعرف أنّ الأمور أخذت طابعا آخر في عصر الخليفة الثّالث عثمان.

وعلى كل حال ، فإنّ أبا ذرّ رضى الله عنه لما واجه الخليفة الثّالث بشدّة ، وعنّفه في إنفاق المال ، أرسله عثمان الى الشام بادئ الأمر ، فواجه أبو ذر معاوية هناك بصورة أشدّ نقدا وأكثر صراحة ، حتى أنّ ابن عباس قال : لقد برم معاوية من كلام أبي ذر وكتب الى عثمان : إنّه إن كانت لك حاجة في الشام فخذ أبا ذر ، فإنّه إن بقي فيها فسوف يصرف أهلها عنك.

فكتب عثمان كتابا وأحضر أبا ذرّ الى المدينة ، وكما يقول بعض المؤرّخين :كتب عثمان الى معاوية ، أن ابعث أبا ذرّ في جماعة من شرطتك ولا ترفّه عليه ، وليجدّوا به السير ليل نهار ، ولا يدعوه يستريح لحظة ، حتى أن أبا ذر لما وصل المدينة مرض هناك ولما لم يكن وجوده في المدينة هيّنا على عثمان وأتباعه ، فقد

٣٨

نفوه الى «الرّبذة» حتى ماترحمه‌الله فيها.

وهناك من يحاول الدفاع عن الخليفة الثّالث ويتّهم أبا ذر أحيانا بأنّه اشتراكي ، إذ كان يرى أنّ جميع الأموال عائدة الى الله ، وكان ينكر الملكية الفردية!!

وهذا الاتهام في منتهى الغرابة ، فمع أنّ القرآن يحترم الملكية الفردية بصراحة ـ وفق شروط معينة ـ وكان أبو ذر رضى الله عنه من المقرّبين الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتربّى في حضن الإسلام والقرآن ، وما أظلت الخضراء أصدق منه ، فكيف يتهم أبو ذر بمثل هذا الاتهام؟!

إنّ قاطني الصحراء البعيدين يعرفون هذا الحكم الإسلامي ، وكانوا قد سمعوا الآيات التي تتعلق بالتجارة والإرث ، فكيف يمكن أن يصدق بأن أقرب تلامذة رسول الله كان جاهلا بهذا الحكم؟

أليس ذلك لأنّ المتعصبين الألداء من أجل تبرئة الخليفة الثّالث والأعجب من ذلك تبرئة معاوية وحكومته ـ اتهموا أبا ذرّ بمثل هذا الاتهام ، وما يزال بعض من عمي العيون صمّ الآذان يقلدون أسلافهم؟!

أجل إن أبا ذر رضى الله عنه ـ بوحي واستلهام من آيات القرآن وخاصّة آية الكنز ـ كان يعتقد ويصرّح بعقيدته أن بيت المال لا ينبغي أن يتحول الى ملكية فردية بيد الأشخاص ، ويجب ألّا يحرم المستضعفون والمحتاجون منه ، وينبغي أن ينفق في سبيل تقوية الإسلام ومصالح المسلمين ، فلا يجوز تبذير الأموال ، وأن بيت المال ليس ملكا لمعاوية وأضرابه كي يشيد بهذه الأموال القصور على شاكلة قصور الأكاسرة والقياصرة!

ثمّ إنّ أبا ذرّ كان يعتقد يومئذ أنّه بإمكان الأغنياء أن يقنعوا بما دون الإسراف ، ليواسوا إخوانهم الفقراء ، وينفقوا أموالهم في سبيل الله.

فإذا كان أبو ذررحمه‌الله ذا وزر فوزره ما ذكرناه إلّا أن المؤرّخين المتملقين ، أو الذين يؤرخون للارتزاق ويبيعون دينهم بدنياهم ، غيرّوا صورة هذا الصحابي المجاهد

٣٩

الناصع فجعلوه اشتراكيا!!

وما يؤخذ على أبي ذر من وزر أيضا هو حبّه الشديد للإمام عليعليه‌السلام ، فقد كان هذا كافيا لأن يقوم بنو أمية بأساليبهم وأراجيفهم الخبيثة الجهنمية بإسقاط حيثية أبي ذر ، إلّا أن نقاءه وطهارته ومعرفته بالأحكام الإسلامية كانت ناصعة الى درجة أنّهم افتضحوا ولم يفلحوا في مرامهم.

ومن جملة الأكاذيب العجيبة التي ألصقوها بأبي ذر لتبرئة الخليفة الثّالث ، ما ذكره ابن سعد في «الطبقات» : إنّ جماعة من أهل الكوفة جاؤوا أبا ذرّ عند ما نفاه عثمان الى الرّبذه فقالوا : إن هذا الرجل (أي عثمان) فعل ما فعل بك ، فهل مستعد أن ترفع راية تقاتل بها عثمان ، ونحن نقاتله تحت رايتك؟ فقال أبو ذر : كلّا ، لو أرسلني عثمان من المشرق الى المغرب لكنت مطيعا لأمره.(١)

ولم يلتفت هؤلاء الوضّاعون الى أنّه لو كان مطيعا لأمره ، لما كان عثمان يضيق ذرعا به فيكون عليه ـ في المدينة ـ عبئا ثقيلا لا يستطيع حمله أبدا.

والأعجب من ذلك ما ذكره صاحب المنار ـ ذيل الآية محل البحث ـ مشيرا الى قصّة أبي ذر وما جرى بينه وبين عثمان ، فيقول : إنّ قصّة أبي ذر تدل على أن عصر الصحابة ـ ولا سيما عصر عثمان ـ كان إظهار العقيدة فيه مألوفا ، وكان العلماء محترمين، والخلفاء ذوي ولاء ، حتى أن معاوية لم يجرأ أن يقول شيئا لأبي ذر ، بل كتب كتابا الى من هو فوقه مرتبة ـ أي عثمان ـ وطلب منه أن يرى فيه رأيه!!

والحق أنّ التعصّب قد يصنع الأعاجيب ، فهل كان ـ التبعيد والنفي الى الأرض اليابسة الحارة المحرقة «الرّبذة» أرض الموت والنّار تعبير عن احترام حرية الفكر ومحبّة العلماء!!

هل أنّ تسليم هذا الصحابي الجليل «بيد الموت» يعدّ دليلا على حرية العقيدة!!

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٤٠٦.

٤٠

وعبيد الله بن العباس ، ولمّا مثلا عندها ذكّراها بما أمرها الله أنْ تقرّ في بيتها ، وأنْ لا تسفك دماء المسلمين ، وبالغا في نصيحتها ، ولو أنّها وعت نصيحتهما لعادت على الناس بالخير العميم ، وجنّبتهم كثيراً مِن المشاكل والفتن ، إلاّ أنّها جعلت كلامهما دبر أذنيها ، وراحت تقول لهم : إنّي لا أردّ على ابن أبي طالب بالكلام ؛ لأنّي لا أبلغه في الحِجاح(1) .

وبذل الإمام (عليه السّلام) قصارى جهوده في الدعوة إلى السّلم وعدم إراقة الدماء ، إلاّ أنّ هناك بعض العناصر لمْ ترق لها هذه الدعوى ، وراحت تسعى لإشعال نار الحرب وتقويض دعائم السّلم.

الدعوة إلى القرآن :

ولمّا باءت بالفشل جميع الجهود التي بذلها الإمام (عليه السّلام) مِن أجل حقن الدماء ، ندب الإمام (عليه السّلام) أصحابه لرفع كتاب الله العظيم ودعوة القوم إلى العمل بما فيه ، وأخبرهم أنّ مَنْ يقوم بهذه المهمة فهو مقتول ، فلمْ يستجب له أحد سوى فتى نبيل مِن أهل الكوفة ، فانبرى إلى الإمام (عليه السّلام) وقال : أنا له يا أمير المؤمنين.

فأشاح الإمام (عليه السّلام) بوجهه عنه ، وطاف في أصحابه ينتدبهم لهذه المهمة فلمْ يستجب له أحد سوى ذلك الفتى ، فناوله الإمام (عليه السّلام) المصحف ، فانطلق الفتى مزهوّاً لمْ يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وهو يلوح بالكتاب أمام عسكر عائشة قد رفع صوته بالدعوة إلى العمل بما فيه ، ولكنّ القوم قد دفعتهم الأنانية إلى الفتك به فقطعوا يمينه ، فأخذ المصحف بيساره وهو يناديهم بالدعوة إلى العمل بما فيه ، فاعتدوا عليه وقطعوا يساره ، فأخذ المصحف

__________________

(1) الفتوح 2 / 306.

٤١

بأسنانه وقد نزف دمه ، وراح يدعوهم إلى السّلم وحقن الدماء قائلاً : الله في دمائنا ودمائكم.

وانثالوا عليه يرشقونه بنبالهم فوقع على الأرض جثة هامدة ، فانطلقت إليه اُمّه تبكيه وترثيه بذوب روحها قائلة :

يا ربِّ إنّ مسلماً أتاهُمْ

يتلو كتاب الله لا يخشاهُمْ

فخضّبوا مِن دمه لحاهُمْ

واُمّهم قائمةٌ تراهُمْ

ورأى الإمام (عليه السّلام) بعد هذا الإعذار أنْ لا وسيلة له سوى الحرب ، فقال لأصحابه : «الآن حلّ قتالهم ، وطاب لكم الضراب»(1) . ودعا الإمام (عليه السّلام) حضين بن المنذر وكان شاباً ، فقال له : «يا حضين ، دونك هذه الراية ، فو الله ما خفقت قط فيما مضى ، ولا تخفق فيما بقي راية أهدى منها إلاّ راية خفقت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)».

وفي ذلك يقول الشاعر :

لمَنْ رايةٌ سوداء يخفُقُ ظلُّها

إذا قيل قدِّمها حُضينٌ تقدّما

يُقدّمها للموت حتّى يزيرها

حِياض المنايا تَقطرُ الموتَ والدما(2)

الحربُ العامة :

ولمّا استيأس الإمام (عليه السّلام) مِن السّلم عبّأ جيشه تعبئة عامّة ، وكذلك فعل أصحاب عائشة وقد حملوها على جملها (عسكر) ، واُدخلت هودجها المصفّح بالدروع ، والتحم الجيشان التحاماً رهيباً. يقول بعض المؤرّخين : إنّ

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 246.

(2) أنساب الأشراف 1 ق 1 / 180.

٤٢

الإمام الحُسين (عليه السّلام) قد تولّى قيادة فرقة مِنْ فرق الجيش ، وإنّه كان على الميسرة ، وخاض المعركة ببسالة وصمود(1) . وكان جمل عائشة فيما يقول بعض مَنْ شهد المعركة هو راية أهل البصرة ، يلوذون به كما يلوذ المقاتلون براياتهم ، وقد حمل الإمام (عليه السّلام) عليهم وقد رفع العلم بيسراه ، وشهر في يمينه ذا الفقار الذي طالما ذبّ به عن دين الله ، وحارب به المشركين على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله). واقتتل الفريقان كأشدّ ما يكون القتال ضراوة ، يريد أصحاب عائشة أنْ يحرزوا النصر ويحموا أُمّهم ، ويريد أصحاب علي (عليه السّلام) أنْ يحموا إمامهم ويموتوا دونه.

مصرعُ الزبير :

وكان الزبير رقيق القلب ، شديد الحرص على مكانته مِن النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، إلاّ أنّ حبّ المُلْك هو الذي أغراه ودفعه إلى الخروج على الإمام (عليه السّلام) ؛ يضاف إلى ذلك ولده عبد الله فهو الذي زجّ به في هذه المهالك ، وباعد ما بينه وبين دينه ، وقد عرف الإمام (عليه السّلام) رقّة طبع الزبير ، فخرج إلى ميدان القتال ورفع صوته :

«أين الزبير؟».

فخرج الزبير وهو شاك في سلاحه ، فلمّا رآه الإمام (عليه السّلام) بادر إليه واعتنقه ، وقال له بناعم القول : «يا أبا عبد الله ، ما جاء بك ها هنا؟».

ـ جئت أطلب دم عثمّان.

فرمقه الإمام (عليه السّلام) بطرفه وقال له :

__________________

(1) سير أعلام النبلاء 3 / 193.

٤٣

«تطلب دم عثمّان!».

ـ نعم.

ـ «قتل الله مَنْ قتل عثمّان».

وأقبل عليه يحدّثه برفق ، قائلاً : «أنشدك الله يا زبير ، هل تعلم أنّك مررت بي وأنت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو متكئ على يدك ، فسلّم عليّ رسول الله وضحك إليّ ، ثمّ التفت إليك فقال لك : يا زبير ، إنّك تقاتل عليّاً وأنت له ظالم».

وتذكّر الزبير ذلك ، وقد ذهبت نفسه أسىً وحسرات ، وندم أشدّ ما يكون النّدم على موقفه هذا ، والتفت إلى الإمام (عليه السّلام) وهو يصدّق مقالته : اللّهم نعم.

ـ «فعلامَ تقاتلني؟».

ـ نسيتها والله ، ولو ذكرتها ما خرجت إليك ولا قاتلتك(1) .

ـ «ارجع».

ـ كيف ارجع وقد التقت حلقتا البطان؟! هذا والله العار الذي لا يُغسل.

ـ «ارجع قبل أنْ تجمع العار والنار».

وألوى عنان فرسه ، وقد ملكت الحيرة والقلق أهابه ، وراح يقول :

فاخترتُ عاراً على نارٍ مؤجّجةٍ

ما إنْ يقوم لها خلقٌ من الطينِ

نادى عليٌّ بأمرٍ لستُ أجهلُهُ

عارٍ لَعمرُك في الدنيا وفي الدينِ

فقلتُ حسبُك مِن عذلٍ أبا حسنٍ

فبعض هذا الذي قد قلت يكفيني(2)

وقفل الإمام (عليه السّلام) راجعاً إلى أصحابه ، فقالوا له : تبرز إلى زبير حاسراً

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 73.

(2) مروج الذهب 2 / 247. على أنّ الأبيات وردت على غير هذا النسق ، وما أثبتناه فهو من بعض المصادر الاُخرى. (موقع معهد الإمامين الحَسنَين)

٤٤

وهو شاك السّلاح ، وأنت تعرف شجاعته! فقال (عليه السّلام) :

«إنّه ليس بقاتلي ، إنّما يقتلني رجل خامل الذكر ، ضئيل النسب ، غيلة في غير ماقط(1) حرب ولا معركة رجال. ويل أُمّه أشقى البشر! ليودّ أنّ أُمّه هبلت به. أما أنّه وأحمر ثمّود لمقرونان في قرن ...»(2) .

واستجاب الزبير لنداء الإمام (عليه السّلام) فاتّجه صوب عائشة ، فقال لها : يا أُمّ المؤمنين ، إنّي والله ما وقفت موقفاً قط إلاّ عرفت أين أضع قدمي فيه إلاّ هذا الموقف ؛ فإنّي لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر؟!

وعرفت عائشة تغيير فكرته وعزمه على الانسحاب مِنْ حومة الحرب ، فقالت له باستهزاء وسخرية مثيرة عواطفه : يا أبا عبد الله ، خفت سيوف بني عبد المطلب؟! وعاثت هذه السخرية في نفسه ، فالتفت إليه ولده عبد الله فعيّره بالجبن قائلاً : إنّك خرجت على بصيرة ، ولكنّك رأيت رايات ابن أبي طالب وعرفت أنّ تحتها الموت فجبنت.

إنّه لمْ يخرج على بصيرة ولا بيّنة مِنْ أمره ، وإنّما خرج مِنْ أجل المُلْك والسلطان.

والتاع الزبير مِنْ حديث ولده ، فقال له : ويحك! إنّي قد حلفت له أنْ لا اُقاتله. [فقال له ابنه :] كفّر عن يمينك بعتق غلامك سرجس. فأعتق غلامه وراح يجول في ميدان الحرب ليُري ولده شجاعته ، ويوضّح له أنّه إنّما فرّ بدينه لا جبناً ولا خوراً ، ومضى منصرفاً على وجهه حتّى أتى وادي السّباع. وكان الأحنف بن قيس مع قومه مقيمين هناك ،

__________________

(1) الماقط : ساحة القتال.

(2) شرح نهج البلاغة 1 / 135.

٤٥

فتبعه ابن جرموز فأجهز عليه وقتله غيلة ، وحمل مقتله إلى الإمام (عليه السّلام) فحزن عليه كأشدّ ما يكون الحزن ، ويقول الرواة : إنّه أخذ سيفه وهو يقول : «سيف طالما جلا الكروب عن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)». وعلى أي حالٍ ، لقد كانت النهاية الأخيرة للزبير تدعو إلى الأسف والأسى ؛ فقد تمرّد على الحقّ ، وأعلن الحرب على وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه.

مصرعُ طلحة :

وخاض طلحة المعركة وهو يحرّض جيشه على الحرب ، فبصر به مروان بن الحكم فرماه بسهم ؛ طلباً بثار عثمّان ، فوقع على الأرض يتخبّط بدمه. وكان مروان يقول لبعض ولد عثمّان : لقد كفيتك ثأر أبيك من طلحة. وأمر طلحة مولاه أنْ يأوي به إلى مكان ينزل فيه ، فأوى به بعد مشقّة إلى دار خربة مِنْ دور البصرة فهلك فيها بعد ساعة.

قيادةُ عائشة للجيش :

وتولّت عائشة قيادة الجيش بعد هلاك الزبير وطلحة ، وقد تفانت بنو ضبّة والأزد وبنو ناجية في حمايتها. ويقول المؤرّخون : إنّهم هاموا بحبّها ، فكانوا يأخذون بعر جملها ويشمّونه ، ويقولون : بعر جمل أُمّنا ريحه ريح المسك. وكانوا محدقين به لا يريدون فوزاً ولا انتصاراً سوى حمايتها ، وإنّ راجزهم يرتجز :

يا معشرَ الأزد عليكُمْ أُمّكمْ

فإنّها صلاتُكُم وصومكُمْ

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 97.

٤٦

والحرمةُ العظمى التي تعمّكُمْ

فأحضروها جدكُمْ وحزمكُمْ

لا يغلبنْ سمّ العدو سمّكُمْ

إنّ العدوَّ إنْ علاكُمْ زمّكُمْ

وخصّكُم بجورهِ وعمّكُمْ

لا تفضحوا اليوم فداكُم قومكُمْ(1)

وكانت تحرّض على الحرب كلّ مَنْ كان على يمينها ، ومَنْ كان على شمالها ، ومَنْ كان أمامها قائلة : إنّما يصبر الأحرار. وكان أصحاب الإمام (عليه السّلام) يلحّون على أصحاب عائشة بالتخلّي عنها ، وراجزهم يرتجز :

يا أُمَّنا أعقّ اُمٍّ نعلمُ

والأُمُّ تغذو وُلدها وترحمُ

أما ترينَ كم شُجاعٍ يُكلمُ

وتختلي منه يدٌ ومِعصمُ

وكان أصحاب عائشة يردّون عليهم ويقولون :

نحن بني ضبّة أصحابَ الجملْ

ننازلُ القرن إذا القرن نزلْ

والقتلُ أشهى عندنا مِن العسلْ

نبغي ابن عفّان بأطراف الأسلْ

ردّوا علينا شيخَنا ثمّ بجلْ

واشتدّ القتال كأشد وأعنف ما يكون القتال ، وكثرت الجرحى ، وملئت أشلاء القتلى وجه الأرض.

عقرُ الجمل :

ورأى الإمام (عليه السّلام) أنّ الحرب لا تنتهي ما دام الجمل موجوداً ، فصاح (عليه السّلام) بأصحابه : «اعقروا الجمل ؛ فإنّ في بقائه فناء العرب». وانعطف عليه الحسن (عليه السّلام) فقطع يده اليمنى ، وشدّ عليه الحُسين (عليه السّلام) فقطع يده اليسرى(2) ، فهوى إلى جنبه وله عجيج منكر لمْ يسمع مثله ، وفرّ حماة الجمل في البيداء ؛ فقد تحطّم صنمهم

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 2 / 81.

(2) وقعة الجمل ـ مُحمّد بن زكريا / 44.

٤٧

الذي قدّموا له هذه القرابين ، وأمر الإمام (عليه السّلام) بحرقه وتذرية رماده في الهواء ؛ لئلاّ تبقى منه بقية يُفتتن بها السذّج والبسطاء.

وبعد الفراغ مِنْ ذلك ، قال : «لعنه الله مِنْ دابة فما أشبهه بعجل بني إسرائيل!». ومدّ بصره نحو الرماد الذي تناهبه الهواء ، فتلا قوله تعالى :( وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) . وبذلك فقد وضعت الحرب أوزارها ، وكتب النصر للإمام (عليه السّلام) وأصحابه ، وباءت القوى الغادرة بالخزي والخسران.

وأوفد الإمام (عليه السّلام) للقيا عائشة الحسن والحُسين (عليهما السّلام) ومُحمّد بن أبي بكر(1) ، فانطلقوا إليها ، فمدّ مُحمّد يده في هودجها فجفلت منه ، وصاحت به : مَنْ أنت؟

ـ أبغض أهلك إليك.

ـ ابن الخثعميّة؟

ـ نعم أخوك البرّ.

ـ عقوق.

ـ هل أصابك مكروه؟

ـ سهم لمْ يضرّني.

فانتزعه منها ، وأخذ بخطام هودجها وأدخلها في الهزيع الأخير مِن الليل إلى دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية بنت الحارث ، فأقامت فيه أياماً.

العفو العام :

وسار علي (عليه السّلام) في أهل البصرة سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أهل مكة

__________________

(1) وقعة الجمل / 45.

٤٨

كما قال (عليه السّلام) ، فأمِنَ الأسود والأحمر ـ على حدّ تعبير اليعقوبي(1) ـ ولمْ ينكّل بأيّ أحد مِنْ خصومه ، وجلس للناس فبايعه الصحيح منهم والجريح ، ثمّ عمد إلى بيت المال فقسّم ما وجد فيه على الناس بالسواء.

وسار (عليه السّلام) إلى عائشة فبلغ دار عبد الله بن خلف الخزاعي الذي أقامت فيه عائشة ، فاستقبلته صفية بنت الحارث شرّ لقاء ، فقالت له : يا علي ، يا قاتل الأحبّة ، أيتم الله بنيك كما أيتمت بني عبد الله! وكانوا قد قتلوا في المعركة مع عائشة ، فلمْ يجبها الإمام (عليه السّلام) ومضى حتّى دخل على عائشة ، فأمرها أنْ تغادر البصرة وتمضي إلى يثرب لتقرّ في بيتها كما أمرها الله.

ولمّا انصرف أعادت عليه صفية القول الذي استقبلته به ، فقال لها : «لو كنت قاتل الأحبّة لقتلت مَنْ في هذا البيت». وهو يشير إلى أبواب الحجرات المقفلة ، وكان فيها كثير مِن الجرحى وغيرهم مِنْ أعضاء المؤامرة [الذين] آوتهم عائشة ، فسكتت صفية ، وأراد مَنْ كان مع الإمام (عليه السّلام) أنْ يبطشوا بهم ، فزجرهم زجراً عنيفاً ؛ وبذلك فقد منح العفو لأعدائه وخصومه.

وسرّح الإمام (عليه السّلام) عائشة تسريحاً جميلاً ، وأرسل معها جماعة مِنْ النساء بزي الرجال لتقرّ في بيتها حسب ما أمرها الله ، وقد رحلت عائشة مِن البصرة ، وأشاعت في بيوتها الثكل والحزن والحداد.

يقول عمير بن الأهلب الضبي ، وهو مِن أنصارها :

لقد أورثتنا حومةَ الموت اُمُّنا

فلمْ تنصرف إلاّ ونحن رواءُ

أطعنا بني تيمٍ لشقوةِ جدِّنا

وما تيمُ إلاّ أعبدٌ وإماءُ(2)

لقد أوردت أُمّ المؤمنين أبناءها حومة الموت ، فقد كان عدد الضحايا مِن المسلمين فيما يقول بعض المؤرخين عشرة آلاف ، نصفهم مِن أصحابها ،

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 159.

(2) مروج الذهب 2 / 256.

٤٩

والنصف الآخر مِنْ أصحاب الإمام (عليه السّلام)(1) . وكان مِنْ أعظم الناس حسرة الإمام (عليه السّلام) ؛ لعلمه بما تجرّ هذه الحرب مِنْ المصاعب والمشاكل.

متاركُ الحرب :

وأعقبت حرب الجمل أفدح الخسائر وأعظم الكوارث التي اُبتلي بها المسلمون ، ومِن بينها ما يلي :

1 ـ إنّها مهّدت السبيل لمعاوية لمناجزة الإمام (عليه السّلام) ، والتصميم على قتاله ، فقد تبنى شعار معركة الجمل وهو المطالبة بدم عثمان ، ولولا حرب الجمل لما استطاع معاوية أنْ يعلن العصيان والتمرّد على حكم الإمام (عليه السّلام).

2 ـ إنّها أشاعت الفرقة والاختلاف بين المسلمين ، فقد كانت روح المودّة والأُلفة سائدة فيهم قبل حرب الجمل ، وبعدها انتشرت البغضاء بين أفراد الأُسر العربية ؛ فقبائل ربيعة واليمن في البصرة أصبحت تكن أعمق البغض والكراهية لإخوانهم من ربيعة وقبائل اليمن في الكوفة ، وتطالبها بما أُريق من دماء أبنائها ، بل أصبحت الفرقة ظاهرة شائعة حتّى في البيت الواحد ؛ فبعض أبنائه كانوا شيعة لعلي والبعض الآخر كانوا شيعة لعائشة.

ويقول المؤرّخون : إنّ البصرة بقيت محتفظة بولائها لعثمان حفنة من السنين ، وإنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) إنّما لمْ ينزح إليها لما عُرِفت به من الولاء لعثمان.

3 ـ إنّها أسقطت هيبة الحكم وجرّأت على الخروج عليه ؛ فقد تشكّلت الأحزاب النفعية التي لا همّ لها إلاّ الاستيلاء على السلطة والظفر بخيرات البلاد ، حتّى كان التطاحن على الحكم من أبرز سمات ذلك العصر.

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 / 224 ، وفي رواية أبي العلاء في أنساب الأشراف 1 ق 1 / 180 أنّ عدد الضحايا عشرون ألفاً.

٥٠

4 ـ إنّها فتحت باب الحرب بين المسلمين ، وقبلها كان المسلمون يتحرجون أشدّ ما يكون التحرّج في سفك دماء بعضهم بعضاً.

5 ـ إنّها عملت على تأخير الإسلام وشلّ حركته وإيقاف نموّه ، فقد انصرف الإمام (عليه السّلام) بعد حرب الجمل إلى مقاومة التمرّد والعصيان الذي أعلنه معاوية وغيره من الطامعين في الحكم ، ممّا أدّى إلى أفدح الخسائر التي مُنِيَ بها الإسلام.

يقول الفيلسوف (ولز) : إنّ الإسلام كاد أنْ يفتح العالم أجمع لو بقي سائراً سيرته الاُولى لو لمْ تنشب في وسطه مِنْ أوّل الأمر الحرب الداخلية ؛ فقد كان همّ عائشة أنْ تقهر علياً قبل كلّ شيء(1) .

6 ـ واستباحت هذه الحرب حرمة العترة الطاهرة التي قرنها النّبي (صلّى الله عليه وآله) بمحكم التنزيل ، وجعلها سفن النجاة وأمن العباد ، فمنذ ذلك اليوم شُهِرَت السيوف في وجه عترة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، واستحلّ الأوغاد إراقة دمائهم وسبي ذراريهم ، فلمْ يرعَ بنو اُميّة في وقعة كربلاء أي حرمة للنّبي (صلّى الله عليه وآله) في أبنائه ، وانتهكوا معهم جميع الحرمات.

هذه بعض متارك حرب الجمل التي جرّت للمسلمين أفدح الخسائر في جميع فترات التاريخ.

القاسطون :

ولمْ يكد يفرغ الإمام (عليه السّلام) من حرب الناكثين ـ كما اسماهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ حتّى جعل يتأهّب لحرب القاسطين الذين أسماهم النّبي (صلّى الله عليه وآله) بذلك ، ورأى الإمام (عليه السّلام) أنْ يغادر البصرة إلى الكوفة ؛ ليستعدّ لحرب عدوّ عنيف هو معاوية بن أبي سفيان الذي حارب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبلى في حربه أشدّ

__________________

(1) شيخ المضيرة / 173.

٥١

البلاء وأقواه ، ولمْ يكن معاوية بأقلّ تنكّراً للإسلام وبغضاً لأهله مِنْ أبيه ، وكان المسلمون الأوّلون ينظرون إليهما نظرة ريبة وشك في إسلامهما ، وقد استطاع بمكره ودهائه أنْ يغزو قلب الخليفة الثاني ، ويحتل المكانة المرموقة في نفسه فجعله والياً على الشام ، وظلّ يبالغ في تسديده وتأييده ، وبعد وفاته أقرّه عثمان وزاد في رقعة سلطانه.

وظلّ معاوية في الشام يعمل عمل مَنْ يريد المُلْك والسلطان ، فأحاط نفسه بالقوّة واشترى الضمائر ، وسخّر اقتصاد بلاده في تدعيم سلطانه ، وبعد الأحداث التي ارتكبها عثمان علم معاوية أنّه مقتول لا محالة ، فاستغاث به عثمان حينما حوصر فأبطأ في نصره ، وظلّ متربصاً حتّى قُتِلَ ليتّخذ مِنْ قميصه ودمه وسيلة للتشبث بالمُلْك ، وقد دفعه إلى ذلك حرب الجمل التي كان شعارها المطالبة بدم عثمان ، فاتّخذه خير وسيلة للتذرّع لنيل المُلْك.

ويقول المؤرّخون : إنّه استعظم قتل عثمان وهول أمره ، وراح يبني مُلْكه على المطالبة بدمه.

وكان الإمام (عليه السّلام) محتاطاً في دينه كأشدّ ما يكون الاحتياط فلمْ يصانع ولمْ يحاب ، وإنّما سار على الطريق الواضح ، فامتنع أنْ يستعمل معاوية على الشام لحظة واحدة ؛ لأنّ في إقراره على منصبه تدعيماً للظلم وتركيزاً للجور.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الإمام (عليه السّلام) بعد حرب الجمل قد غادر البصرة مع قواته المسلحة ، واتّجه إلى الكوفة ليتّخذها عاصمة ومقرّاً له. واتّجه فور قدومه إليها يعمل على تهيئة وسائل الحرب لمناهضة عدوّه العنيف الذي يتمتّع بقوى عسكرية هائلة أجمعت على حبّه ونصرته ، وكان الشنّي يحرّض الإمام (عليه السّلام) ويحفزّه على حرب أهل الشام بعد ما أحرزه مِن النصر في وقعة الجمل ، وقد قال له :

قل لهذا الإمام قد خبت الحر

بُ وتمّت بذلك النعماءُ

وفرغنا من حرب مَنْ نكث العهْـ

ـد وبالشام حيّةٌ صمّاءُ

٥٢

تنفث السمّ ما لمَنْ نهشته

فارمِها قبل أنْ تعض شفاءُ(1)

إيفادُ جرير :

وقبل أنْ يعلن الإمام (عليه السّلام) الحرب على غول الشام أوفد للقياه جرير بن عبد الله البجلي يدعوه إلى الطاعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون من مبايعته ، وقد زوّده برسالة(2) دعاه فيها إلى الحقّ مِنْ أقصر سبيله ، وبأوضح أساليبه ، وفيها الحكمة الهادية لمَنْ أراد الهداية ، وشرح الله صدره ، وفجّر في فؤاده ينبوع النور. وانتهى جرير إلى معاوية فسلّمه رسالة الإمام (عليه السّلام) ، وألحّ عليه في الوعظ والنصيحة ، وكان معاوية يسمع منه ولا يقول له شيئاً ، وإنّما أخذ يطاوله ويسرف في مطاولته ، لا يجد لنفسه مهرباً سوى الإمهال والتسويف.

معاوية مع ابن العاص :

ورأى معاوية أنّه لن يستطيع التغلّب على الأحداث إلاّ إذا انضمّ إليه داهية العرب عمرو بن العاص فيستعين به على تدبير الحيل ، ووضع المخططات التي تؤدي إلى نجاحه في سياسته ، فراسله طالباً منه الحضور إلى دمشق. وكان ابن العاص فيما يقول المؤرّخون : قد وجد على عثمان حينما عزله عن مصر ، فكان يؤلّب الناس عليه ويحرّضهم على الوقيعة به ، وهو ممّن مهّد للفتنة والثورة عليه ، ولمّا أيقن بحدوث الانقلاب عليه خرج إلى أرض

__________________

(1) الأخبار الطوال / 145.

(2) الرسالة في وقعة صفّين / 34.

٥٣

كان يملكها بفلسطين فأقام فيها ، وجعل يتطلّع الأخبار عن قتله.

ولمّا انتهت رسالة معاوية إلى ابن العاص تحيّر في أمره ، فاستشار ولديه عبد الله ومُحمّداً ؛ أمّا عبد الله فكان رجل صدق وصلاح فأشار عليه أنْ يعتزل الناس ، ولا يجيب معاوية إلى شيء حتّى تجتمع الكلمة ويدخل فيما دخل فيه المسلمون ؛ وأمّا ابنه مُحمّد فقد طمع فيما يطمع فيه فتيان قريش مِن السعة والتقدّم وذيوع الاسم ، فقد أشار عليه بأنْ يلحق بمعاوية لينال من دنياه.

فقال عمرو لولده عبد الله : أمّا أنت فأمرتني بما هو خير لي في ديني. وقال لولده مُحمّد : أمّا أنت فأمرتني بما هو خير لي في دنياي. وأنفق ليله ساهراً يفكّر في الأمر هل يلتحق بعلي فيكون رجلاً كسائر المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم مِنْ دون أنْ ينال شيئاً مِنْ دنياه ، ولكنّه يضمن أمر آخرته ، أو يكون مع معاوية فيظفر بتحقيق ما يصبو إليه في الدنيا مِن الثراء العريض ، وهو لمْ ينسَ ولاية مصر فكان يحنّ إليها حنيناً متّصلاً ، وقد اُثر عنه تلك الليلة مِن الشعر ما يدلّ على الصراع النفسي الذي خامره تلك الليلة.

ولمْ يسفر الصبح حتّى آثر الدنيا على الآخرة ، فاستقرّ رأيه على الالتحاق بمعاوية ، فارتحل إلى دمشق ومعه ابناه ، فلمّا بلغها جعل يبكي أمام أهل الشام كما تبكي المرأة ، وهو يقول : وا عثماناه! أنعى الحياء والدين(1) .

قاتلك الله يابن العاص! أنت تبكي على عثمان وأنت الذي أوغرت عليه الصدور ، وأثرت عليه الأحقاد ، وكنت تلفي الراعي فتحرّضه عليه حتّى سُفك دمه! لقد بلغ التهالك على السلطة في ذلك العصر مبلغاً أنسى الناس دينهم ، فاقترفوا في سبيل ذلك كلّ ما حرّمه الله.

ولمّا التقى ابن العاص بمعاوية فتح معه الحديث في حربه مع الإمام (عليه السّلام) ، فقال ابن العاص :

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 129.

٥٤

ـ أمّا علي فوالله لا تساوي العرب بينك وبينه في شيء مِن الأشياء ، وإنّ له في الحرب لحظاً ما هو لأحد مِنْ قريش إلاّ أنْ تظلمه.

واندفع معاوية يبيّن دوافعه في حربه للإمام قائلاً : صدقت ، ولكنّا نقاتله على ما في أيدينا ، ونلزمه قتلة عثمان.

واندفع ابن العاص ساخراً منه قائلاً : وا سوأتاه! إنّ أحق الناس أنْ لا يذكر عثمان أنت!

ـ ولِمَ ويحك؟!

ـ أمّا أنت فخذلته ومعك أهل الشام حتّى استغاث بيزيد بن أسد البجلي فسار إليه ، وأمّا أنا فتركته عياناً وهربت إلى فلسطين(1) .

واستيقن معاوية أنّ ابن العاص لا يخلص له ، ورأى أنّ مِن الحكمة أنْ يستخلصه ويعطيه جزاءه مِن الدنيا ، فصارحه قائلاً : أتحبّني يا عمرو؟

ـ لماذا؟ للآخرة فوالله ما معك آخرة ، أم للدنيا؟ فوالله لا كان حتّى أكون شريكك فيها.

ـ أنت شريكي فيها؟

ـ اكتب لي مصر وكورها.

ـ لك ما تريد.

فسجّل له ولاية مصر ، وجعلها ثمناً لانضمامه إليه(2) في مناهضته لوصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد ظفر بداهية مِنْ دواهي العرب ، وبشيخ مِنْ شيوخ قريش قد درس أحوال الناس ، وعرف كيف يتغلّب على الأحداث.

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 162.

(2) العقد الفريد 3 / 113.

٥٥

ردُّ جرير :

ولمّا اجتمع لمعاوية أمره وأحكم وضعه ردّ جرير ، وأرسل معه إلى الإمام (عليه السّلام) رسالة حمّله فيها المسؤولية في إراقة دم عثمان ، وعرّفه بإجماع أهل الشام على حربه إنْ لمْ يدفع له قتلة عثمان ، ويجعل الأمر شورى بين المسلمين.

وارتحل جرير إلى الكوفة فأنبأ علياً (عليه السّلام) بامتناع معاوية عليه ، وعظم له أمر أهل الشام ، ورأى الإمام أنْ يقيم عليه الحجّة مرّة أخرى ، فبعث له سفراء آخرين يدعونه إلى الطاعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون ، إلاّ أنّ ذلك لمْ يجدِ شيئاً ، فقد أصرّ معاوية على غيّه وعناده حينما أيقن أنّ له القدرة على مناجزة الإمام (عليه السّلام) ومناهضته.

قميصُ عثمان :

وألهب معاوية بمكره وخداعه قلوب السذّج والبسطاء مِنْ أهل الشام حزناً وأسىً على عثمان ، فكان ينشر قيمصه الملطخ بدمائه على المنبر فيضجون بالبكاء والعويل ، واستخدم الوعّاظ فجعلوا يهوّلون أمره ، ويدعون الناس إلى الأخذ بثأره ، وكان كلّما فتر حزنهم عليه يقول له ابن العاص بسخرية واستهزاء : حرّك لها حوارها تحنّ.

فيخرج إليهم قميص عثمان فيعود لهم حزنهم ، وقد أقسموا أنْ لا يمسّهم الماء إلاّ مِن الاحتلام ، ولا يأتون النساء ، ولا ينامون على الفراش

٥٦

حتى يقتلوا قتلة عثمان(1) ، وكانت قلوبهم تتحرّق شوقاً إلى الحرب للأخذ بثأره. وقد شحن معاوية أذهانهم بأنّ علياً هو المسؤول عن إراقة دمه ، وأنّه قد آوى قتلته ، وكانوا يستنهضون معاوية للحرب ويستعجلونه أكثر منه.

زحفُ معاوية لصفّين :

وعلم معاوية أنّه لا بدّ من الحرب ؛ لأنّ الإمام (عليه السّلام) لا يحاب ولا يداهن في دينه ، فلا يقرّه على ولاية الشام ، ولا يسند له أي منصب من مناصب الدولة ، وإنّما يقصيه عن جميع أجهزة الحكم ؛ لما يعرفه عنه من الالتواء في دينه.

وسار معاوية في جموع أهل الشام ، وقدّم بين يديه الطلائع ، وقد أنزل أصحابه أحسن منزل وأقربه إلى شريعة الفرات ، وقد احتل الفرات ، وعُدّ هذا أوّل الفتح ؛ لأنّه حبس الماء على عدوّه ، وبقيت جيوشه رابضة هناك تصلح أمرها وتنضّم قواها استعداداً للحرب.

زحفُ الإمام (عليه السّلام) للحرب :

وتهيّأ الإمام (عليه السّلام) للحرب ، وقام الخطباء في الكوفة يحفّزون الناس للجهاد ، ويحثونهم على مناجزة معاوية بعدما أحرزوه من النصر الكبير في معركة الجمل ، وقد خطب فيهم الإمام الحسين (عليه السّلام) خطاباً رائعاً ومثيراً ، قال فيه بعد حمد الله والثناء عليه : «يا أهل الكوفة ، أنتم الأحبّة الكرماء ، والشعار دون الدثار ، جدّوا في

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 141.

٥٧

إطفاء ما دثر بينكم ، وتسهيل ما توعّر عليكم ؛ ألا إنّ الحرب شرّها ذريع ، وطعمها فظيع ، فمَنْ أخذ لها أهبتها ، واستعدّ لها عدّتها ، ولم يألم كلومها قبل حلولها فذاك صاحبها ، ومَنْ عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها فذاك قمن ألاّ ينفع قومه ، وأن يهلك نفسه. نسأل الله بقوته أن يدعمكم بالفيئة»(1) .

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى استعجال الحرب ، واستعداد الشام لها ، والإمعان في وسائلها ؛ فإنّ ذلك من موجبات النصر ، ومن وسائل التغلب على الأعداء ، وإنّ إهمال ذلك ، وعدم الاعتناء به ممّا يوجب الهزيمة والاندحار. ودلّ هذا الخطاب على خبرة الإمام (عليه السّلام) الواسعة في الشؤون العسكرية والحربية.

وتهيّأ الناس بعد خطاب سبط النّبي (صلّى الله عليه وآله) إلى الحرب ، وأخذوا يجدّون في تنظيم قواهم ، ولمّا تمّت عدّتهم زحف بهم الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) لحرب ابن أبي سفيان ، وقد قدم طلائعه ، وأمرهم أنْ لا يبدؤوا أهل الشام بقتال حتّى يدركهم.

وزحفت كتائب الجيش العراقي كأنّها السيل ، وهي على يقين أنّها إنّما تحارب القوى الباغية على الإسلام ، والمعادية لأهدافه. وقد جرت في أثناء مسيرة الإمام (عليه السّلام) أحداث كثيرة لا حاجة إلى إطالة الكلام بذكرها ، فإنّا لا نقصد بهذه البحوث أن نلمّ بها ، وإنّما نشير إليها بإيجاز.

احتلالُ الفرات :

ولمْ يجد أصحاب الإمام (عليه السّلام) شريعة على الفرات يستقون منها الماء إلاّ وهي

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 3 / 186.

٥٨

محاطة بالقوى المكثفة من جيش معاوية ؛ يمنعونهم أشدّ المنع من الاستسقاء من الماء ، ولمّا رأى الإمام (عليه السّلام) ذلك أوفد رسله إلى معاوية يطلبون منه أنْ يخلّي بينهم وبين الماء ليشربوا منه ، فلمْ تسفر مباحثهم معه أي شيء ، وإنّما وجدوا منه إصراراً على المنع يريد أنْ يحرمهم منه ، كما حرموا عثمان مِن الماء.

وأضرّ الظمأ بأصحاب الإمام (عليه السّلام) ، وانبرى الأشعث بن قيس يطلب الإذن من الإمام (عليه السّلام) أنْ يفتح باب الحرب ليقهر القوى المعادية على التخلّي عن الفرات ، فلمْ يجد الإمام (عليه السّلام) بداً من ذلك فأذن له ، فاقتتل الفريقان كأشدّ ما يكون القتال ، وكُتِبَ النصر لقوات الإمام (عليه السّلام) فاحتلّت الفرات ، وأراد أصحاب الإمام (عليه السّلام) أنْ يقابلوهم بالمثل فيحرمونهم منه ، كما صنعوا ذلك معهم ، ولكنّ الإمام (عليه السّلام) لمْ يسمح لهم بذلك ، وعمل معهم عمل المحسن الكريم فخلّى بينهم وبين الماء.

لقد كان اللؤم والخبث من عناصر الاُمويِّين وذاتياتهم ، فقد أعادوا على صعيد كربلاء ما اقترفوه من الجريمة في صفّين ، فحالوا بين الإمام الحسين (عليه السّلام) وبين الماء ، وتركوا عقائل الوحي ومخدرات الرسالة ، وصبية أهل البيت (عليهم السّلام) قد صرعهم العطش ، ومزّق الظمأ قلوبهم ، فلمْ يستجيبوا لأيّة نزعة إنسانية ، ولمْ ترقّ قلوبهم فيعطفوا عليهم بقليل من الماء.

رسلُ السلام :

وكان الإمام (عليه السّلام) متحرّجاً كأشدّ ما يكون التحرّج في سفك دماء المسلمين ، فقد جهد على نشر السلام والوئام ، فأوفد إلى معاوية عدي بن حائم ، وشبث بن ربعي ، ويزيد بن قيس ، وزياد بن حفصة يدعونه إلى حقن دماء المسلمين ، ويذكّرونه الدار الآخرة ، ويحذّرونه أنْ ينزل به ما نزل بأصحاب الجمل ، ولكنّ ابن هند لمْ يستجب لذلك ، وأصرّ على الغي والتمرد ، وقد

٥٩

حمّل الإمام (عليه السّلام) المسؤولية في قتل عثمان بن عفان ، وقد دفعه إلى العصيان ما يتمتّع به من القوى العسكرية واتفاق كلمتها ، وإصرارها على الطلب بدم عثمان.

ورجعت رسل السّلام وقد أخفقت في سفارتها ، واستبان لها أنّ معاوية مصمّم على الحرب ، ولا رغبة له في الصلح ، وأحاطوا الإمام (عليه السّلام) علماً بذلك ، فجعل يتهيّأ للحرب ، ويدعو الناس إلى القتال.

الحربُ :

وعبّأ الإمام (عليه السّلام) أصحابه على راياتهم واستعد للقتال ، وقد أمر أصحابه أنْ لا يبدؤوهم بقتال ، كما عهد لهم في حرب الجمل ، وأنْ لا يقتلوا مدبراً ، ولا يجهزوا على جريح ، ولا يمثّلوا بقتيل ، ولا يهيجوا امرأة إلى غير ذلك من الوصايا التي تمثّل شرف القيادة العسكرية في الإسلام.

وجعلت فرق من جيش الإمام (عليه السّلام) تخرج إلى فرق من جيش معاوية فيقتتل الفريقان نهاراً كاملاً أو طرفاً منه ، ثمّ يتحاجزان من دون أنْ تقع حرب عامة بينهما ، وقد رجا الإمام (عليه السّلام) بذلك أنْ يثوب معاوية إلى الصلح وحقن الدماء. ودام الأمر على هذا حفنة من الأيام من شهر ذي الحجّة ، فلمّا أطلّ شهر الحرام ، وهو من الأشهر التي يحرم فيها القتال في الجاهلية والإسلام توادعوا شهرهم كلّه ، واُتيح للفريقين أنْ يقتلوا آمنين ، وقد آمن بعضهم بعضاً ولمْ تقع بينهم أي حرب ، وقد سعت بينهم سفراء السلم إلاّ أنّها أخفقت في سعيها.

وقد احتدم الجدال بين الفريقين ؛ فأهل العراق يدعون أهل الشام إلى جمع الكلمة وحقن الدماء ، ومبايعة وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، والدخول فيما دخل فيه المسلمون ، وأهل الشام يدعون العراقيّين إلى الطلب بدم عثمان ورفض بيعة الإمام (عليه السّلام) ، وإعادة الأمر شورى بين المسلمين.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608