الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 608
المشاهدات: 237489
تحميل: 5089


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237489 / تحميل: 5089
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 6

مؤلف:
العربية

فالبعض ، كصاحب كتاب «القاموس» ، اعتبرها مفردا ، إلّا أن البعض الآخر كالزجّاج اعتبر الضياء جمعا للضوء ، وقد قبل هذا المعنى صاحبا تفسير «المنار» وتفسير «القرطبي»، وخاصّة صاحب المنار ، حيث استفاد على أساس هذا المعنى استفادة خاصّة من الآية ، فهو يقول : إن ذكر الضياء بصيغة الجمع في شأن نور الشمس إشارة إلى الشيء الذي أثبته العلم اليوم بعد قرون ، وهو أنّ نور الشمس مكون من سبعة أنوار ، وبتعبير آخر سبعة ألوان ، هي الألوان التي تظهر في قوس قزح ، وتلاحظ عند مرور النور عبر المناشير البلورية.

ولكن يبقى هنا سؤال ، وهو : هل أن نور القمر ، رغم أنّه أضعف ، غير متكون من الألوان المختلفة؟

3 ـ هناك بحث ونقاش بين المفسّرين في أنّ ضمير( قَدَّرَهُ مَنازِلَ ) يعود إلى القمر فقط ، أم يرجع إلى الشمس والقمر؟ فالبعض يعتقد أن الضمير وإن كان مفردا ، إلّا أنّه يعود إلى الإثنين معا ، ونظير ذلك في الأدب العربي غير قليل.

اختيار هذا الرأي من أجل أن القمر ليس الوحيد الذي له منازل ، بل إنّ للشمس أيضا منازل ، ففي كل وقت تكون في برج خاص ، والاختلاف في الأبراج هذا هو مبدأ التاريخ والأشهر الشمسية.

والحق أنّ ظاهر الآية يوحي بأنّ هذا الضمير المفرد يعود للقمر فقط ، لقربه منه ، وهذا بنفسه يحتوي على نكتة ، ذلك :

أوّلا : إنّ الأشهر التي عرفت في الإسلام والقرآن رسميا هي الأشهر القمرية.

ثانيا : إنّ القمر كرة متحركة ولها منازل ، أمّا الشمس فإنّها تقع في وسط المنظومة الشمسية ، وليس لها حركة ضمن مجموع هذه المنظومة ، وإنّ اختلاف الأبراج ومسير الشمس في المدار الفلكي ذي الإثني عشر برجا ، والذي يبدأ من الحمل وينتهي بالحوت ، ليس بسبب حركة الشمس ، بل بسبب حركة الأرض حول الشمس ، ودوران الأرض هذا هو السبب في أن نرى الشمس تقابل كل شهر

٣٠١

واحدا من البروج الفلكية الإثني عشر ، وعلى هذا فليس للشمس منازل مختلفة خلافا للقمر. (دققوا جيدا).

إنّ هذه الآية في الحقيقة تشير إلى إحدى المسائل العلمية المرتبطة بالأجرام السماوية كانت خافية على البشر في ذلك الزمان حيث ما يدركوا هذا الفرق بين حركة الشمس والقمر.

4 ـ لقد عدت الآيات أعلاه اختلاف الليل والنهار من آيات الله سبحانه ، وذلك لأنّ نور الشمس إذا استمر في إشعاعه على الأرض ، فإنّ من المسلّم أن درجة الحرارة سترتفع إلى الحد الذي تستحيل معه الحياة على وجه الأرض.

وكذلك الليل إذا استمر فإنّ كل شيء سينجمد لشدّة البرودة.

إلّا أنّ الله سبحانه قد جعل هذين الكوكبين يتبع أحدهما الآخر لتهيئة أسباب الحياة والمعيشة على وجه الكرة الأرضية(1) .

إنّ أثر العدد والحساب والتاريخ والسنة والشهر في نظام حياة البشر والروابط الاجتماعية والمكاسب والأعمال لا يخفى على أحد.

5 ـ إنّ مسألة العدد والحساب التي أشير إليها في الآيات أعلاه ، هي في الواقع واحدة من أهم مسائل حياة البشر في جميع النواحي والمجالات.

نعلم إنّ أهمية أية نعمة تتّضح أكثر عند ما نلاحظ الحياة بدون تلك النعمة ، وعلى هذا فلو أن حساب التاريخ وامتياز الأيّام والأشهر والسنين رفع من حياة البشر ، مثلا لا توجد أيام واضحة ومحددة للأسبوع ، ولا أيّام الشهر ، ولا عدد الشهور والسنين ، ففي هذه الحالة ستتعرض كل المسائل التجارية والاقتصادية والسياسية وكل الاتفاقيات والبرامج الزمنية المعدة للخلل وعندها سوف لا يثبت حجر على حجر وستنفرط عقده النظم في الأعمال ، وحتى وضع الزراعة وتربية الحيوانات والصناعات الإنتاجية ستعمها الفوضى والاضطراب.

__________________

(1) لقد أوردنا توضيحات أخرى حول هذا الموضوع في المجلد الأوّل (راجع تفسير الآية 164 من البقرة).

٣٠٢

لكن لما كان الله سبحانه قد خلق الإنسان ليحيا حياة سعيدة مقرونة بالنظام ، فإنّه قد وضع وسائلها تحت تصرفه.

صحيح أن الإنسان يمكنه تنظيم أعماله إلى حدّ ما بالأمور الاعتبارية ، إلّا أنّه إذا لم يستند إلى الميزان الطبيعي فإنّ مقياسه الجعلي لا يكون عاما وشاملا ، وليس قابلا للاعتماد.

إنّ دوران الشمس والقمر ـ وبتعبير أصح دوران الأرض حول الشمس ـ والمنازل التي لهما ، يشكل تقويما طبيعيا واضح الأساس ويستفيد منه الجميع في كل مكان ، ويعتمدون عليه ، فكما أن مقدار اليوم والليلة يعتبر مقياسا تاريخيا صغيرا ينشأ نتيجة عالم طبيعي ، أي حركة الأرض حول نفسها ، فإنّ الشهر والسنة يجب أن تستند إلى دوران طبيعي ، وعلى هذا المنوال فإنّ حركة القمر حول الأرض يشكل مقياسا أكبر ، فإنّ الشهر يساوي ثلاثين يوما تقريبا ، وحركة الأرض حول الشمس ينتج منها مقياس أعظم ، وهو السنة.

قلنا : إنّ التقويم الإسلامي يستند إلى التقويم القمري ودوران القمر ، ورغم أنّ دوران الشمس في الأبراج الإثني عشر طريقة جيدة لتعيين الأشهر الشمسية ، أنّ هذا التقويم مع أنّه طبيعي ، إلّا أنّه لا ينفع الجميع ، وإنّما يستطيع علماء النجوم فقط عبر رصد النجوم من تحديد كون الشمس في البرج الفلاني ، ولهذا السبب فإنّ الآخرين مجبورون على مراجعة التقاويم التي نظمت من قبل هؤلاء المنجمين. أن دوران القمر المنتظم حول الأرض يعطي تقويما واضحا يستطيع قراءة خطوطه وخرائطه حتى الأميون وسكّان البوادي.

وتوضيح ذلك إن هيئة القمر تختلف في كل ليلة في السماء عن الليلة السابقة واللاحقة ، بحيث لا توجد ليلتان في طول الشهر تتحد فيها هيئة القمر في السماء ، وإذا دققنا قليلا في وضع القمر كل ليلة فإنّنا سنعتاد رويدا رويدا على تعيين تلك الليلة من ليالي الشهر.

٣٠٣

وقد يتصور البعض أن نصف الشهر الثّاني تتكرر في صور النصف الأوّل بعينها ، وأنّ صورة القمر في ليلة الإحدى والعشرين مثلا هي بعينها صورته في الليلة السابقة ، إلّا أن هذا اشتباه كبير ، لأنّ جانب النقص في القمر في النصف الأوّل هو الطرف الأعلى ، في حين أنّ جانب نقصه في النصف الثّاني من الطرف الأسفل ، وبتعبير آخر فإنّ أطراف الهلال الدقيقة تكون إلى الشرق في البداية ، بينما هي في الجانب الغربي عند أواخر الشهر ، إضافة إلى أنّ القمر يرى في الغرب أوائل الشهر ، أمّا في أواخره فإنّه يرى في الشرق ، ويتأخر كثيرا في طلوعه. وعلى هذا فإنّه يمكن الاستفادة من شكل القمر مع تغييراته التدريجية كعداد يومي، ولتحديد أيّام الشهر بدقة من خلال شكل القمر.

على كل حال ، فإنّنا في هذه الموهبة التي نسميها «النظام التأريخي» ، مدينون لهذا الخلق الإلهي ، ولو لا حركات القمر والشمس (والأرض) لكان لنا وضع مضطرب وفوضوي في الحياة لم يكن في الحسبان تصوره.

إنّ السجناء في الزنزانات الانفرادية المظلمة ، والذين أضاعوا الزمان والأوقات ولم يهتدوا إليها ، قد أحسوا بهذه الحيرة وعدم الهدفية والتكليف.

يقول أحد السجناء في عصرنا الحاضر الذي قضى شهرا في زنزانة انفرادية مظلمة لعملاء الظالمين : لم تكن لي أيّة وسيلة أو طريقة لتحديد أوقات الصلاة ، إلّا أنّهم عند ما كانوا يأتونني بالغداء كنت أصلي الظهر والعصر ، وإذا ما أتوا بالعشاء أصلي المغرب والعشاء، وصلاة الصبح عادة مع الفطور! ولكي أحسب الأيّام فإنّي كنت آخذ وجبات الطعام بنظر الإعتبار ، فكل ثلاث وجبات أعدها يوما ، غير أني لا أعلم ماذا حدث عند ما خرجت من السجن ، فقد رأيت اختلافا بين حسابي وحساب الناس!.

* * *

٣٠٤

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) )

التّفسير

أهل الجنّة والنّار :

كما مرت الإشارة ، فإنّ القرآن قد عرض في بداية هذه السورة بحثا إجماليا عن موضوع المبدأ والمعاد ، ثمّ بدأ بشرح هذه المسألة ، ففي الآيات السابقة كان هناك شرح وبحث حول مسألة المعاد ، ويلاحظ في هذه الآيات تفصيل حول المعاد ومصير الناس في العالم الآخر.

ففي البداية يقول :( إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا

٣٠٥

بِها ) فهم لا يعتقدون بالمعاد وتجاهلوا الآيات البينات فلم يتدبروا فيها كيما تستيقظ قلوبهم ويتحرك فيهم روح الاحساس بالمسؤولية( وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ ) فكلا هاتين الطائفتين مصيرهم الى النّار :( أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

إنّ النتيجة الطبيعية والحتمية لعدم الإيمان بالمعاد هي الارتباط بهذه الحياة المحدودة والعلائق المادية ، والاطمئنان بها والاعتماد عليها ، ونتيجة ذلك ـ أيضا ـ هو تلوّث الأعمال وفساد السلوك في أنماط الحياة المختلفة ، ولا تكون عاقبة ذلك إلّا النّار.

وكذلك فإنّ الغفلة عن الآيات الإلهية هي أساس البعد عن الله سبحانه ، والابتعاد عن الله هو العلّة لعدم الإحساس بالمسؤولية والتلوّث بالظلم والفساد والمعصية ، وعاقبة ذلك لا تكون إلّا النّار.

بناء على هذا ، فإنّ كلا الفريقين أعلاه ـ أي الذين لا يؤمنون بالمبدأ ، أو لا يؤمنون بالمعاد ـ سيكونان ملوّثين حتما بالأعمال الذميمة ، ومستقبل كلا الفريقين مظلم.

إنّ هاتين الآيتين تؤكّدان مرّة أخرى هذه الحقيقة ، وهي أنّ إصلاح مجتمع ما وإنقاذه من نار الظلم والفساد ، يتطلب تقوية ركني الإيمان بالله والمعاد اللذين هما شرطان ضروريان وأساسيان ، فإنّ عدم الإيمان بالله سبحانه سيقتلع الإحساس بالمسؤولية من وجود الإنسان ، والغفلة عن المعاد يذهب بالخوف من العقاب ، وعلى هذا فإنّ هذين الأساسين العقائديين هما أساس كل الإصلاحات الاجتماعية.

ثمّ يشير القرآن إلى وضع فئة أخرى في مقابل هذه الفئة ، فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ ) فإنّ نور الهداية الإلهية الذي ينبعث

٣٠٦

من نور إيمانهم يضيء كل آفاق حياتهم ، وقد اتّضحت لهم الحقائق باشراقات هذا النور بحيث لم تعد شراك المذاهب المادية وزبارجها ، ولا الوساوس الشيطانية وبريق المطامع الدنيوية قادرة على التعتيم على افكارهم ودفعهم في طريق الانحراف عن الصواب والحق.

إنّ وضع هؤلاء في الحياة الأخرى أنّهم( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) .

إنّ هؤلاء يرفلون في محيط مملوء بالصلح والصفاء وعشق الله وأنواع النعم ، ففي كل وقت تنير وجودهم نفحة ورشحة من ذات الله وصفاته ، فإنّ( دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ ) وكلما التقى بعضهم بالآخر فإنّهم يتحدثون عن الصفاء والسّلام( وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ) وأخيرا فإنّهم كلّما التذوا بنعم الله المختلفة شكروا ذلك( وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

* * *

ملاحظات

1 ـ المقصود من لقاء الله الذي جاء في الآية الأولى ليس هو اللقاء الحسي قطعا ، بل المقصود أنّ الإنسان إضافة إلى الحصول على الثواب وعطايا الله ، فإنّه يشعر يوم القيامة بنوع من الحضور القلبي بالنسبة للذات المقدسة ، لأنّه حينئذ سيرى آيات الله وعلاماته بصورة أوضح في كل مكان ، وسيحصل على رؤية وإدراك جديد لمعرفته(1) .

2 ـ إنّ الحديث في قوله تعالى :( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ ) عن هداية الإنسان في

__________________

(1) لمزيد التوضيح راجع المجلد الأوّل من تفسيرنا هذا ذيل الآية (46) من سورة البقرة.

٣٠٧

ظل الإيمان ، وهذه الهداية لا تختص بعالم الآخرة ، بل إنّ الإنسان ينجو بنور إيمانه في هذه الدنيا من كثير من الاشتباهات والخدع والأخطاء والمعاصي المتولّدة من الطمع والأنانية والأهواء ، وسوف يحدد طريقه إلى الجنّة في الآخرة في ظلّ إشعاع هذا الإيمان كما يقول القرآن :( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ) (1) .

وفي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة فيقول له : أنا عملك ، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنّة»(2) .

3 ـ ورد في هذه الآيات :( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ) في الوقت الذي عبرت آيات أخرى من القرآن ب( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ) ، وبتعبير آخر ، فإنّنا نقرأ في مواضع أخرى أنّ الأنهار تجري من تحت أشجار الجنّة ، أمّا هنا فإنّ الأنهار تجري من تحت أهل الجنّة!.

إنّ هذا التعبير يمكن أن يشير إلى أنّ قصور أهل الجنّة قد تكون مبنيّة على الأنهار ، وهذا يضفي عليها جمالا خارقا.

وقد يشير إلى أنّ أنهار الجنّة مسخرّة لأوامرهم وفي قبضتهم ، كما نقرأ في قصّة فرعون أنّه كان يقول :( أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) (3) .

وقد احتمل كذلك أن تكون «تحت» بمعنى «بين أيدي» أي أن أنهار الماء تجري مقابلهم.

4 ـ ممّا يلفت النظر أن آخر آية من الآيات قيد البحث تشير إلى ثلاث حالات ، أو ثلاث نعم كبيرة لأهل الجنّة :

__________________

(1) الحديد ، 12.

(2) تفسير الفخر الرازي ، الجزء 17 ، ص 40.

(3) الزخرف ، 52.

٣٠٨

الحالة الأولى : هي حالة التوجه إلى ذات الله المقدسة ، والبهجة التي تحصل لهم نتيجة هذا التوجه لا يمكن مقارنتها بأية لذّة أخرى.

الحالة الثّانية : اللّذة التي تحصل نتيجة الارتباط بالمؤمنين الآخرين في ذلك المحيط المفعم بالودّ والتفاهم ، وهذه اللّذة هي أحلى لذّة بعد لذة التوجه إلى الله سبحانه.

الحالة الثّالثة : اللّذة التي تحصل من التمتع بأنواع نعم الجنّة ، وهي تدفعهم إلى التوجه إلى الله أيضا ، وبالتالي حمده وشكره. (فتأمل بدقة)

* * *

٣٠٩

الآيتان

( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) )

التّفسير

الهمج الرّعاع :

الكلام في هذه الآيات يدور كذلك حول عقاب المسيئين ، فتقول الآية الأولى بأنّ الله سبحانه إذا جازى المسيئين على أعمالهم بنفس العجلة التي يجب بها هؤلاء تحصيل النعم والخير ، فستنتهي أعمار الجميع ولا يبقى لهم أثر :( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) . إلّا أنّ لطف الله سبحانه لما كان شاملا لجميع العباد ، حتى المسيئين والكافرين والمشركين ، فلا يمكن أن يعجل بعذابهم وجزائهم لعلهم يعون ويتوبون ، ويرجعون عن الضلال إلى الحق والهدى.

٣١٠

هذا إضافة إلى أنّ الجزاء إذا ما تمّ بهذه السرعة فإنّه يعني زوال حالة الاختبار التي هي أساس التكليف تقريبا ، وستتصف طاعة المطيعين بالجبر والاضطرار ، لأنّهم بمجرّد أن يعصوا فسيلاقون جزاءهم الأليم فورا.

واحتمل أيضا في تفسير هذه الآية أنّ جماعة من الكفار العنودين ، الذين تحدث القرآن عنهم مرارا ، كانوا يقولون للأنبياء : إذا كان ما تقولونه حقّا ، فادعوا الله أن ينزل علينا البلاء ، فإذا استجاب الله تعالى دعوة هؤلاء ما كان ليبقى من هؤلاء أحد.

لكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل هو الأقرب.

وفي الختام تقول الآية : يكفي عقابا لهؤلاء أن نتركهم وشأنهم ليبقوا في حيرتهم ، فلا هم يميزون الحق من الباطل ، ولا هم يجدون سبيل النجاة من متاهاتهم :( فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .

عند ذلك تشير الآية إلى وجود نور التوحيد في فطرة الإنسان وأعماق روحه وتقول :( وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ) .

نعم إنّ خاصية المشاكل والشدائد الخطيرة ، أنّها تزيل الحجب عن فطرة الإنسان الطاهرة ، وتحرق في فرن الحوادث كل الطبقات السوداء التي غطت هذه الفطرة ، ويسطع عندها ـ ولو لمدّة قصيرة ـ نور التوحيد.

ثمّ تقول الآية : إنّ هؤلاء الأفراد الى درجة من الجهل وضيق الأفق بحيث أنّهم يعرضون بمجرّد كشف الضرّ عنهم ، حتى كأنّهم لم يدعونا ولم نساعدهم :( فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

أمّا من الذي يزين لهم أعمالهم؟ فقد بحثنا ذلك في ذيل الآية (122) من سورة الأنعام ، ومجمل الكلام هو : إنّ الله سبحانه هو الذي يزين الأعمال ، وذلك بجعل هذه الخاصية في الأعمال

٣١١

القبيحة والمحرّمة ، بحيث أن الإنسان كلما تلوّث بها أكثر ، فإنّه سيتطبع عليها ، وبمرور الزمن يزول قبحها تدريجيا ، بل وتصل الحال إلى أن يراها حسنة وجميلة.

وأمّا لماذا سمّت الآية أمثال هؤلاء «مسرفين» فلأنّه لا إسراف أكثر من أن يهدر الإنسان أهم رأس مال في وجوده ، إلّا وهو العمر والسلامة والشباب والقوى ، ويصرفه في طريق الفساد والمعصية ، أو في طريق تحصيل متاع الدنيا التافه الفاني ، ولا يربح من ذلك شيئا.

ألا يعد هذا العمل إسرافا ، وأمثال هؤلاء مسرفين؟

* * *

وهنا يجب الالتفات إلى نقطة مهمّة :

الإنسان في القرآن الكريم :

لقد وردت حول الإنسان تعبيرات مختلفة في القرآن الكريم :

فعبّرت عنه آيات كثيرة أنّه «بشر» وعبّرت عنه آيات متعددة بالإنسان ، وفي آيات أخرى «بنى آدم» ، والعجيب أنّ في كثير من الآيات التي عبّرت عنه بالإنسان ، ذكرت صفاته المذمومة وغير الحميدة.

فقد عرفته هذه الآيات بأنّه موجود كثير النسيان وناكر للجميل ، وفي آية أخرى بأنّه موجود ضعيف :( وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ) (1) ، وفي آية أخرى بأنّه ظالم وكافر :( إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) (2) ، وفي موضع آخر أنّه بخيل :( وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً ) (3) ، وفي موضع آخر أنّه عجول :( وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً ) (4) وفي مكان

__________________

(1) النساء ، 38.

(2) إبراهيم ، 34.

(3) الإسراء ، 100.

(4) الإسراء ، 11.

٣١٢

آخر أنّه كفور :( وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً ) (5) ، وفي مورد آخر أنّه موجود كثير الجدل:( وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) (6) .

وفي موضع آخر أنّه ظلوم جهول :( إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (7) ، وفي مكان آخر أنّه كفور مبين :( إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ) (8) ، وفي مكان آخر أنّه موجود قليل التحمل والصبر ، يبخل عند النعمة ، ويجزع عند البلاء :( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ) (9) ، وفي مورد آخر مغرور :( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) (10) ، وفي موضع آخر أنّه موجود يطغى عند الغنى :( إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) (11) .

وبناء على هذا فإنّا نرى القرآن المجيد قد عرّف الإنسان بأنّه موجود يتضمّن جوانب وصفات سلبية كثيرة ، ونقاط ضعف متعددة.

فهل أنّ هذا هو نفس ذلك الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم وأفضل تكوين :( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (12) ؟

وهل أن هذا هو نفس الإنسان الذي علمه الله ما لم يعلم :( عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (13) ؟

__________________

(5) الإسراء ، 67.

(6) الكهف ، 54.

(7) الأحزاب ، 72.

(8) الزخرف ، 19.

(9) المعارج ، 19 ـ 21.

(10) الإنفطار ، 6.

(11) العلق ، 6.

(12) سورة التين ، 4.

(13) العلق ، 5.

٣١٣

وهل هو نفس الإنسان الذي علمه الله البيان :( خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) (1) .

وأخيرا ، فهل أنّ هذا هو الإنسان الذي حثّه الله على السعي والكدح في المسير إلى الله :( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً ) (2) .

يجب أن نرى من هم الذين تتكرّس فيهم كل نقاط الضعف هذه ، بالرغم من كل هذه الكرامة والمحبة الإلهية؟

الظاهر أنّ هذه المباحث تتعلق بمن لم ينشأ في حجر القادة الإلهيين ، بل نشأ ونما كما تنمو الأعشاب ، فلا معلم ولا دليل ، وقد اطلق العنان لشهواته وغاص وسط الأهواء والميول.

من الطبيعي أنّ مثل هذا الإنسان لا يستفيد من إمكاناته وثرواته العظيمة ، ويسخرها في طريق الانحرافات والأخطاء ، وعند ذلك سيظهر كموجود خطر ، وفي النهاية عاجز وبائس. وإلّا فالإنسان الذي يستفيد من وجود القادة الإلهيين ، ويستغل فكره في مسير الحركة التكاملية والحق والعدل ، فإنّه يخطو نحو مرتبة الآدمية ، ويستحق اسم «بني آدم» ويصل إلى درجة لا يرى فيها إلّا الله سبحانه ، كما يقول القرآن :( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً ) (3) .

* * *

__________________

(1) الرحمن ، 3.

(2) الإنشقاق ، 6.

(3) الإسراء ، 70.

٣١٤

الآيتان

( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) )

التّفسير

الإعتبار بالظّالمين السابقين :

تشير هذه الآيات أيضا إلى معاقبة الأفراد الظالمين والمجرمين في هذه الدنيا ، وقد نبّهت المسلمين ـ بعد أن أطلعتهم على تاريخ من قبلهم ـ إلى أنّهم إذا سلكوا نفس طريق هؤلاء ، فسينتظرهم نفس المصير.

فالآية الأولى تقول :( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ) ثمّ تضيف :( كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) .

ثمّ تبيّن الآية التالية هذا الأمر بصورة أكثر صراحة ، وتقول :( ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) .

* * *

٣١٥

ملاحظات

1 ـ إنّ كلمة «قرون» ـ جمع قرن ـ تستعمل عادة بمعنى الزمان الطويل ، ولكن حسب ما قاله علماء اللغة فإنّها جاءت أيضا بمعنى القوم والجماعة الذين يعيشون في عصر واحد ، لأنّ مادتها الأصلية بمعنى الاقتران والقرب ، والمراد هنا في هذه الآية هو المعنى الأخير ، أي : الجماعات والأقوام الذين يعيشون في عصر واحد.

2 ـ لقد ذكرت الآيات ـ أعلاه ـ أنّ سبب فناء وهلاك الأقوام السابقة هو الظلم ، وذلك لأنّ للفظ الظلم من المفهوم والمعنى الجامع ما يدخل ضمنه كل نوع من الذنب والفساد.

3 ـ يستفاد من جملة :( وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ) أنّ الله سبحانه يهلك فقط أولئك الذين لا أمل في إيمانهم حتى في المستقبل ، وعلى هذا فإنّ الأقوام التي يمكن أن تؤمن في المستقبل لا يشملها مثل هذا العقاب ، لأنّ الفرق كبير بين أن يقال : لم يؤمنوا ، وبين أن يقال : لم يكونوا يؤمنون (فتدبّر).

4 ـ إنّ جملة( لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) لا تعني النظر بالعين الباصرة قطعا ، ولا تعني التفكر والنظر القلبي ، لأنّ الله سبحانه منزّه عن كليهما ، بل المراد منها أنّها حالة شبيهة بالانتظار ، أي إنّنا سنترككم وأنفسكم ثمّ ننتظر ماذا تعملون؟

* * *

٣١٦

الآيات

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) )

سبب النّزول

قال بعض المفسّرين : إنّ هذه الآيات نزلت في عدّة نفر من عبدة الأوثان ، ذلك أنّهم أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : إنّ ما ورد في هذا القرآن من الأمر بترك عبادة أصنامنا الكبيرة ، اللات والعزّى ومناة وهبل ، وذم هذه الآلهة ، ممّا لا يمكن أن نتحمله ، فإذا أردت أن نتبعك فأت بقرآن آخر لا يوجد فيه هذا الذم والتوبيخ

٣١٧

لآلهتنا ، أو غيّر على الأقل هذه الأمور التي وردت في هذا القرآن! فنزلت هذه الآيات وأجابتهم.

التّفسير

كتعقيب للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن المبدأ والمعاد ، تبحث هذه الآيات نفس الموضوع والمسائل المتعلقة به.

في البداية تشير إلى واحد من الاشتباهات الكبيرة لعباد الأصنام ، وتقول :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ ) .

إنّ هؤلاء الجهلة العاجزين لم يرضوا بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائدا ومرشدا لهم ، بل كانوا يدعون لاتباع خرافاتهم وأباطيلهم ويطلبون منه قرآنا يوافق انحرافاتهم ويؤيدها ، لا أنّه يصلح مجتمعهم ، فبالاضافة الى أنّهم لم يؤمنوا بالقيامة ، ولم يشعروا بالاثمّ في مقابل أعمالهم كان قولهم هذا يدل على أنّهم لم يفهموا معنى النّبوة ، أو أنّهم كانوا يتخذونها هزوا.

إنّ القرآن الكريم يلفت نظر هؤلاء الى هذا الاشتباه الكبير ، ويأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهم :( قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي ) (1) ثمّ يضيف للتأكيد :( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ ) . ولست عاجزا عن تغيير أو تبديل هذا الوحي الإلهي ـ فحسب ـ بل :( إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) .

ثمّ تتطرق الآية التالية إلى دليل هذا الموضوع وتقول : قل لهم بأنّي لست مختارا في هذا الكتاب السماوي :( قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ ) والدليل على ذلك( فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ ) لكنّكم لم تسمعوا منّي مثل هذا

__________________

(1) كلمة (تلقاء) مصدر أو اسم مصدر وجاءت بمعنى المقابلة والمحاذاة ، وفي الآية وأمثالها بمعنى الناحية والعندية والجهة ، أي إنني لا أستطيع تغيير ذلك من ناحيتي ، أو من عندي.

٣١٨

الكلام مطلقا ، ولو كانت هذه الآيات من عندي لتحدثت بها لكم خلال هذه الأربعين سنة ، فهل لا تدركون أمرا بهذه الدرجة من الوضوح :( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

وكذلك ، ومن أجل التأكيد يضيف : بأنّي أعلم أنّ أقبح أنواع الظلم هو أن يفتري الإنسان على الله الكذب :( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ) وعلى هذا فكيف يمكن أن أرتكب مثل هذا الذنب الكبير؟!.

وكذلك فإنّ التكذيب بآيات الله سبحانه من أشدّ الكبائر وأعظمها :( أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ) فإذا كنتم جاهلين بعظمته ما ترتكبونه من الإثم في تكذيب وإنكار آيات الحق ، فإنّي لست بجاهل بها ، وعلى كل حال فإنّ عملكم هذا جرم كبير ، و( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ) .

* * *

ملاحظات

1 ـ إنّ المشركين كانوا يطلبون من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمّا أن يستبدل القرآن بكتاب آخر ، أو يبدله ، والفرق واضح بين الاثنين ، ففي الطلب الأوّل كان هدفهم هو اقتلاع وجود هذا الكتاب تماما ليحل محله كتاب آخر من طرف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمّا في الطلب الثّاني فكانوا يريدون على الأقل أن تبدل الآيات التي تخالف أصنامهم حتى لا يشعروا بأي ضيق وانزعاج من هذه الناحية.

ونحن نرى كيف أنّ القرآن الكريم أجابهم بلهجة قاطعة بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس له أي اختيار وتصرف في التبديل ، ولا التغيير ، ولا تسريع نزول الوحي أو تأخره.

وندرك من ذلك حماقة وغباء هؤلاء فهم يقبلون بالنّبي الذي يتبع خرافاتهم وأهواءهم ، لا القدوة والمربي والقائد والدليل!.

2 ـ ممّا يستحق الانتباه ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإجابة عن الطلبين اكتفى بذكر عدم القدرة بتنفيذ الطلب الثّاني وقال : إنّي لا أستطيع أن أغيره من تلقاء نفسي ، وبهذا

٣١٩

البيان يكون قد نفى الطلب الأوّل بطريق أولى ، لأنّ تغيير بعض الآيات إذا كان خارجا عن حدود صلاحية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهل بامكانه تبديل كل هذا الكتاب السماوي؟

إنّ هذا نوع من الفصاحة في التعبير ، حيث أنّ القرآن الكريم يعيد ويكرر كل المسائل في غاية الضغط والاختصار في العبارة ، بدون جملة أو كلمة زائدة إضافية.

3 ـ يمكن أن يقال : إنّ الدليل المذكور في الآيات ـ أعلاه ـ على أنّ القرآن ليس من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه حتما من الله سبحانه ، ليس مقنعا. فما هو وجه الملازمة في أنّ هذا الكتاب إذا كان من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا بدّ أن يكون قد سمعت منه نماذج ومقاطع من قبل؟

إلّا أنّ جواب هذا السؤال واضح بأدنى دقة وتأمل ، لأنّ النبوغ الفكري وقدرة والاكتشاف والإبداع في الإنسان ـ حسب ما قاله علماء النفس ـ يبدأ من سن العشرين ويصل كحد أقصى إلى سن الخامسة والثلاثين أو الأربعين ، أي إن الإنسان إذا لم يقدم حتى ذلك الوقت على إبداع وابتكار عمل جديد ، فلا يمكنه بعد هذا السن غالبا.

إنّ هذا الموضوع الذي يعتبر اليوم كشفا نفسيا لم يكن في الماضي واضحا إلى هذا الحدّ ، إلّا أنّ أغلب الناس يعلمون هذا الموضوع بهداية الفطرة ، بأن من غير الممكن أن يكون للإنسان معتقد ويعيش بين قوم ، ولا يظهر ذلك مطلقا. والقرآن الكريم قد استند أيضا إلى هذا الأساس وهو : كيف يستطيع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذا العمر أن يمتلك مثل هذه الأفكار ويكتمها الى ذلك الوقت؟

4 ـ كما أشرنا في ذيل الآية (21) من سورة الأنعام ، فإنّ القرآن قد عرّف في موارد كثيرة جماعة من الناس بأنّهم «أظلم» وربّما يبدو لأوّل وهلة أن هناك تناقضا ، فإنّا إذا وصفنا جماعة بأنّهم أظلم ، فكيف يمكن أن تتقبل مجموعة أخرى

٣٢٠