الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 608
المشاهدات: 237546
تحميل: 5089


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237546 / تحميل: 5089
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 6

مؤلف:
العربية

هذه الصفة؟

وقد قلنا في جواب هذا السؤال : إنّ كل هذه العناوين ترجع إلى عنوان واحد ، وهو مسألة الشرك والكفر والعناد والافتراء والتكذيب بالآيات الإلهية ، وفي الآيات التي نبحثها ، تنحدر من هذا الأصل أيضا. (لمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (21) من سورة الأنعام).

* * *

٣٢١

الآية

( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) )

التّفسير

آلهة بدون خاصية!

واصلت الآية الحديث عن التوحيد أيضا ، وذلك عن طريق نفي ألوهية الأصنام ، وذكرت عدم أهلية الأصنام للعبادة وانتفاء قيمتها وأهميتها :( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ) .

من البديهي أن الأصنام ـ حتى لو فرضنا أنّها منشأ الضر والنفع والربح والخسارة ـ ليست لها لياقة أن تكون معبودة ، إلّا أنّ القرآن الكريم يريد بهذا التعبير أن يوضح هذه النقطة ، وهي أنّ عبدة الأصنام لا يمتلكون أدنى دليل على صحة هذا العمل ، ويعبدون موجودات لا خاصية لها مطلقا ، وهذه أقبح وأسوأ عبادة.

ثمّ تتطرق إلى ادعاءات عبدة الأوثان الواهية ،( وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ

٣٢٢

اللهِ ) أي إنّ هذه الأصنام والآلهة تستطيع بشفاعتها أن تكون سببا للضر والنفع رغم عجزها عن أي عمل بصورة مستقلة.

لقد كان الإعتقاد بشفاعة الأصنام أحد أسباب عبادتها ، وكما جاء في التواريخ ، فإنّ عمرو بن لحي كبير العرب عند ما ذهب إلى المياه المعدنية في الشام لمعالجة نفسه بها ، جلب انتباهه وضع عبدة الأصنام ، ولما سأل منهم عن الباعث على هذا العمل والعبادة ، قالوا له: إنّ هذه الأصنام هي سبب نزول الأمطار ، وحل المشاكل ، ولها الشفاعة بين يدي الله ، ولما كان رجلا خرافيا وقع تحت تأثير هذه الأجوبة ، وطلب منهم بعض الأصنام ليأخذها إلى الحجاز ، وعن هذا الطريق راجت عبادة الأصنام بين أهل الحجاز.

إنّ القرآن يقول في دفع هذا الوهم :( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) وهو كناية عن أن الله سبحانه لو كان له مثل هؤلاء الشفعاء. فإنّه يعلم بوجودهم في أي نقطة كانوا من السماء والأرض ، لأنّ سعة علم الله لا تدع أصغر ذرة في السماء والأرض إلّا وتحيط بها علما.

وبتعبير آخر ، إن ذلك يشبه تماما ما لو قيل لشخص : أعندك مثل هذا الوكيل؟ وهو في الجواب يقول : لا علم لي بوجود هذا الوكيل ، وهذا أفضل دليل على نفيه حيث لا يمكن أن لا يعلم الإنسان بوكيله.

وفي آخر الآية تأكيد لهذا الموضوع حيث تقول :( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

لقد بحث موضوع الشفاعة بصورة مفصلة في المجلد الأوّل ذيل الآية (46) من سورة البقرة.

* * *

٣٢٣

الآية

( وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) )

التّفسير

إنّ هذه الآية ـ تتمّة للبحث الذي مرّ في الآية السابقة حول نفي الشرك وعبادة الأصنام ـ تشير إلى فطرة التوحيد لكل البشر ، وتقول :( وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً ) .

إنّ فطرة التوحيد هذه ، والتي كانت سالمة في البداية ، إلّا أنّها قد اختلفت وتلوّثت بمرور الزمن نتيجة الأفكار الضيقة ، والميول الشيطانية والضعف ، فانحرف جماعة عن جادة التوحيد وتوجهوا إلى الشرك ، وقد انقسم المجتمع الإنساني إلى قسمين مختلفين : قسم موحّد، وقسم مشرك :( فَاخْتَلَفُوا ) . بناء على هذا فإنّ الشرك في الواقع نوع من البدعة والانحراف عن الفطرة ، الانحراف المترشح من الأوهام والخرافات التي لا أساس لها.

وقد يطرح هنا هذا السؤال ، وهو : لماذا لا يرفع الله هذا الاختلاف بواسطة عقاب المشركين السريع ، ليرجع المجتمع الإنساني جميعه موحّدا؟

ويجيب القرآن الكريم مباشرة عن هذا السؤال بأنّ الحكمة الإلهية تقتضي

٣٢٤

حرية البشر في مسير الهداية ، فهي رمز التكامل والرقي ، ولو لم يكن أمره كذلك فإنّ الله سبحانه كان سيقضي بينهم في اختلافاتهم :( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .

بناء على هذا فإنّ( كَلِمَةٌ ) في الآية إشارة إلى السنّة وقانون الخلقة الذي يقتضي حرية البشر ، لأنّ المنحرفين والمشركين لو كانوا يعاقبون سريعا ومباشرة ، فإنّ إيمان الموحّدين سيكون اجباريا ونتيجة للخوف والرهبة ، ومثل هذا الإيمان لا يعدّ فخرا. ولا دليلا على التكامل ، والله سبحانه قد أجّل العقاب والجزاء لعالم الآخرة لينتخب الصالحون والطاهرون طريقهم بحرية تامّة.

* * *

٣٢٥

الآية

( وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) )

التّفسير

المعجزات المقترحة!

مرّة أخرى يتطرق القرآن الكريم إلى اختلاق المشركين للحجج عند امتناعهم عن الإيمان والإسلام( وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

من الطبيعي ، وبدليل القرائن التي سنشير إليها بعد حين ، أنّ هؤلاء لم يقصدوا أي معجزة ، لأنّ من المسلّم أنّه كان للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إضافة إلى القرآن معاجر أخرى ، وتاريخ الإسلام وبعض الآيات القرآنية شاهدة على هذه الحقيقة.

إنّ هؤلاء كانوا يظنون أنّ الإعجاز أمر بيد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يستطيع أن يقوم به في أي وقت وبأية كيفية يريد ، مضافا الى أنّه مأمور أن يستفيد من هذه القوّة مقابل كل مدّع لجوج معاند والعمل حسب ميله لإقناعه وإقامة الحجة عليه ، ولهذا فإنّ القرآن الكريم يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة :( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ) وبناء على هذا ، فإنّ المعجزة ليست بيدي لآتيكم كل يوم بمعجزة جديدة إرضاء لأهوائكم وحسب ميولكم ورغباتكم ، ثمّ لا تؤمنون بعد ذلك بأعذار واهية وحجج ضعيفة.

٣٢٦

وفي النهاية تقول الآية بلهجة التهديد :( فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) فانتظروا العقاب الإلهي ، وأنا أنتظر النصر!

أو كونوا بانتظار ظهور مثل هذه المعجزات ، وأكون بانتظار عقابكم أيّها المعاندون!.

* * *

ملاحظتان

وهنا ملاحظتان ينبغي الالتفات إليهما :

1 ـ كما أشرنا أعلاه فإنّ كلمة (آية) أي المعجزة ـ وإن كانت مطلقة وتشمل كل أنواع المعاجز ـ إلّا أنّ القرائن تبيّن أنّ هؤلاء لم يطلبوا المعجزة لمعرفة صدق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كانوا طلاب معاجز اقتراحية ، أي إنّهم كانوا كل يوم يقترحون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزة جديدة ويأملون أن يطيعهم في ذلك ، فكأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنسان لا عمل له سوى صنع المعجزات ، وهو منتظر لكل من هبّ ودبّ ليقترح عليه شيئا فيحقق له اقتراحه ، غافلين عن أن المعجزة هي من فعل الله سبحانه أوّلا ، ولا تتم إلّا بأمره وإرادته ، وهي ـ ثانيا ـ معجزة لمعرفة أحقّية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاهتداء به ، ووقوعها مرّة واحدة كاف لهذا الغرض ، وعلاوة على ذلك فإنّ نبيّ الإسلام قد أظهر من المعجزات القدر الكافي ، فطلب المزيد لا يكون إلّا بدافع الاقتراحات الأهوائية والشهوانية.

والشاهد على أنّ المقصود من (الآية) هنا المعجزات الاقتراحية ، هو :

أوّلا : إنّ نهاية الآية تهدد هؤلاء ، ولو كانوا يطلبون المعجزة لاكتشاف الحقيقة ، فلا وجه لهذا التهديد.

ثانيا : رأينا قبل عدّة آيات أن هؤلاء كانوا عنودين ولجوجين إلى الحد الذي اقترحوا فيه على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبدل كتابه السماوي ، أو يغير على الأقل الآيات

٣٢٧

التي تشير إلى نفي عبادة الأصنام.

ثالثا : حسب القاعدة المسلمة لدينا بأنّ «القرآن يفسر بعضه بعضا» فإنّا نستطيع أن نفهم جيدا من خلال بعض الآيات ـ كالآيات (90) و (94) من سورة الإسراء ـ أن عبدة الأصنام اللجوجين هؤلاء ، لم يكونوا طلاب معجزة لأجل الهداية ، ولهذا نراهم كانوا يقولون أحيانا : نحن لن نؤمن لك حتى تفجر العيون من هذه الأرض اليابسة ، ويقول الآخر : إنّ هذا ليس بكاف ، بل يجب أن يكون لك بيت من ذهب ، وثالث يقول : وهذا أيضا لا يقنعنا حتى ترقى في السماء أمام أعيننا ، ويضيف رابع أنّ هذا الرقي في السماء ليس كافيا أيضا إلّا إذا أتيتنا بكتاب من الله لنا!! وأمثال ذلك من السفاسف والخزعبلات.

إذن ، فقد اتّضح ممّا قلنا أعلاه أنّ الاستدلال بهذه الآية على نفي أية معجزة ، أو كل المعجزات غير القرآن الكريم زيف يجانب الحقيقة ، (وستطالعون ـ إن شاء الله مزيدا من التوضيح حول هذا الموضوع في ذيل الاية (59) من سورة الإسراء).

2 ـ يمكن أن تكون كلمة «الغيب» في جملة :( إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ) إشارة إلى أنّ المعجزة أمر مربوط بعالم الغيب ، وليست من اختيارات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هي مختصة بالله تعالى.

أو أن تكون إشارة إلى أن مصالح الأمور والوقت المناسب لنزول المعجزة هي جزء من أسرار الغيب ومختصات الله سبحانه ، فمتى رأى أن الوقت مناسب لنزول المعجزة ، وأنّ طالب المعجزة باحث عن الحقيقة ، أنزل المعجزة ، لأنّ الغيب والأسرار الخفية من مختصات ذاته المقدسة.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب للصواب.

* * *

٣٢٨

الآيات

( وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) )

التّفسير

يدور الكلام في هذه الآيات ـ أيضا ـ حول عقائد وأعمال المشركين ، ثمّ دعوتهم إلى التوحيد ونفي كل أنواع الشرك.

فالآية الأولى تشير إلى بعض سلوكيات المشركين الحمقاء ، وتقول : أنّنا عند ما

٣٢٩

نبتلي الناس بالمشاكل والنكبات من أجل إيقاظهم وتنبيههم ، ثمّ نرفع هذا البلاء عنهم ونذيقهم طعم الراحة والهدوء بعد تلك الضرّاء ، فإنّهم بدلا من أن ينتبهوا لهذه الآيات ويرجعوا إلى الصواب ، يسخرون بها ، أو يفسرونها بتفسيرات غير صحيحة ، فمثلا يفسرون الابتلاءات والمشاكل بأنّها نتيجة غضب الأصنام ، والنعم والطمأنينة بأنّها دليل على شفقتها، أو أنّهم يعدون كل هذه الأمور صدفة محضة :( وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا ) .

إنّ كلمة «مكر» في الآية أعلاه ، والتي تعني بشكل عام إعمال الفكر ، تشير إلى التوجيهات الخاطئة وطرق التهرّب التي يفكر بها المشركون عند مواجهة الآيات الإلهية ، وظهور أنواع البلايا والنعم.

إلّا أنّ الله سبحانه حذر هؤلاء بواسطة نبيّه ، وأمره أن( قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً ) . وكما أشرنا مرارا ، الى أنّ المكر في الأصل هو كل نوع من التخطيط المقترن بالعمل المخفي ، لا المعنى الذي يفهم من هذه الكلمة اليوم ، وهو الاقتران بنوع من الشيطنة ، وعلى هذا فإنّه يصدق على الله سبحانه كما يصدق على العباد(1) . لكن ما هو مصداق المكر الإلهي في هذه الآية؟

الظاهر أنّها إشارة إلى نفس تلك العقوبات الإلهية التي يحلّ بعضها في نهاية الخفاء وبدون أية مقدمة وبأسرع ما يكون ، بل إنّه يعاقب ويعذب بعض المجرمين بأيديهم أحيانا. ومن البديهي أن من هو أقدر من الكل وأقوى من الجميع على دفع الموانع وتهيئة الأسباب ، ستكون خططه ـ أيضا ـ هي الأسرع. وبتعبير آخر فإنّ الله سبحانه في أي وقت يريد أنزال العقاب بأحد العباد أو تنبيهه ، فإنّ هذا العقاب سيتحقق مباشرة ، في حين أن الآخرين ليسوا كذلك.

ثمّ يهدد هؤلاء بأن لا تظنوا أنّ هذه المؤامرات والخطط ستنسى ، بل إنّ رسلنا ـ أي الملائكة ـ يكتبون كل هذه المخططات التي تهدف إلى إطفاء نور الحق :( إِنَّ

__________________

(1) لمزيد التوضيح راجع المجلد الثاني من تفسيرنا هذا ، ذيل الآية (54) من سورة آل عمران.

٣٣٠

رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ ) ولذلك يجب أن تهيئوا أنفسكم للجواب والعقاب في الحياة الأخرى.

وسنبحث كتابة الأعمال والملائكة المأمورين بها في الآيات المناسبة.

وتغوص الآية التالية في أعماق فطرة البشر ، وتوضح لهؤلاء حقيقة التوحيد الفطري ، وكيف أن الإنسان عند ما تلّم به المشاكل الكبيرة وفي أوقات الخطر ، ينسى كل شيء إلّا الله تبارك وتعالى ويتعلق به ، لكنّه بمجرّد أن يرتفع البلاء وتزول الشدّة وتحل المشكلة ، فإنّه سيسلك طريق الظلم ويبتعد عن الله سبحانه.

تقول الآية :( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ) في هذا الحال بالضبط تذكروا الله ودعوه بكل إخلاص وبدون أية شائبة من الشرك ، و( دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) فيرفعون أيديهم في هذا الوقت للدعاء :( لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) . فلا نظلم أحدا ولا نشرك بعبادتك غيرك.

ولكن ما أن أنجاهم الله وأوصلهم إلى شاطئ النجاة بدؤوا بالظلّم والجور :( فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) لكن يجب أن تعلموا ـ أيّها الناس ـ إنّ نتيجة ظلمكم ستصيبكم أنتم( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) وآخر عمل تستطيعون عمله هو أن تتمتعوا قليلا في هذه الدنيا :( مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (1) ( ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

* * *

__________________

(1) إنّ كلمة (متاع) منصوبة بفعل مقدر ، وفي الأصل كانت : تتمتعون متاع الحياة الدنيا.

٣٣١

ملاحظات

وهنا يجب الالتفات إلى عدّة ملاحظات :

1 ـ إنّ ما قرأناه في الآيات أعلاه غير مختص بعبدة الأوثان ، بل هو قانون كلي ينطبق على كل الأفراد الملوّثين من عبيد الدنيا المشغوفين بها فعند ما تحيط بهم أمواج البلايا والمحن وتقصر أياديهم عن كل شيء ، ولا يرون لهم ناصرا ولا معينا ، فإنّهم سيمدون أيديهم بالدعاء بين يدي الله سبحانه ويعاهدونه بألف عهد وميثاق ، وينذرون ويقطعون العهود بأنّهم إن تخلصوا من هذه البلايا والأخطار سيفعلون كذا وكذا.

إلّا أنّ هذه اليقظة والوعي التي هي انعكاس لروح التوحيد الفطري ، لا تستمر طويلا عند أمثال هؤلاء ، فبمجرّد أن يهدأ الطوفان وتنقشع سحب البلاء ، فإنّ حجب الغفلة ستغشي قلوبهم ، تلك الحجب الكثيفة التي لا تنقشع عن تلك القلوب إلّا بالطوفان.

ورغم أنّ هذه اليقظة مؤقتة ، وليس لها أثر تربوي في الأفراد الملوّثين جدّا ، أنّها تقيم الحجّة عليهم ، وستكون دليلا على محكوميتهم.

أمّا الذين تلوثوا بالمعاصي قليلا ، فإنّهم سيتنبهون في هذه الحوادث ويصلحون مسارهم. وأمّا عباد الله الصالحون فأمرهم واضح ، فإنّ توجههم إلى الله سبحانه في السراء بنفس قدر توجههم إليه في الضراء ، لأنّهم يعلمون أن كل خير وبركة تصل إليهم ، وتبدو ظاهرا أنّها نتيجة للعوامل الطبيعية ، فإنّها في الواقع من الله تعالى.

وعلى كل حال ، فإنّ هذا التذكير والتذكر قد جاء كثيرا في آيات القرآن المجيد.

2 ـ لقد ذكرت «الرحمة» في الآيات أعلاه مقابل «الضراء» ، ولم تذكر السراء ، وهي إشارة إلى أنّ أي حسن ونعمة تصل إلى الإنسان فهي من الله سبحانه ورحمته اللامتناهية. في حين أنّ السوء والنقمات إذا لم تكن للعبرة ، فإنّها من آثار أعمال

٣٣٢

الإنسان نفسه.

3 ـ إنّ الضمائر في بداية الآية الثّانية من الآيات التي نبحثها وردت بصيغة المخاطب ، إلّا أنّها في الأثناء بصيغة الغائب ، ومن المسلم أن لذلك نكتة ما : قال بعض المفسّرين : إنّ تغيير أسلوب الآية من أجل أنّها تبيّن حال المشركين وتعرضهم في الحال ابتلائهم بالطوفان والبلاء درسا وعبرة للآخرين ، ولهذا فإنّها فرضتهم غائبين وفرضت الباقين حضورا.

وقال البعض الآخر : إنّ النكتة هي عدم الاعتناء بهؤلاء وتحقيرهم ، حيث أن الله سبحانه قد قبل حضور هؤلاء وخاطبهم. ثمّ أبعدهم عنه وتركهم.

ويحتمل أيضا أن تكون الآية بمثابة تجسيم طبيعي عن وضع الناس ، فما داموا جالسين في السفينة ولم يبتعدوا عن الساحل فإنّهم في إطار المجتمع ، وعلى هذا يمكن أن يكونوا مخاطبين ، أمّا عند ما تبعدهم السفينة عن الساحل ، ويختفون عن الأنظار تدريجيا ، فإنّهم يعتبرون كالغائبين ، وهذا في الواقع تجسيم حي لحالتين مختلفتين عند هؤلاء.

4 ـ إنّ جملة( أُحِيطَ بِهِمْ ) تعني أنّ هؤلاء قد أحاطت بهم الأمواج المتلاطمة من كل جانب ، إلّا أنّها هنا كناية عن الهلاك والفناء الحتمي لهؤلاء.

* * *

٣٣٣

الآيتان

( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) )

التّفسير

لوحة الحياة الدّنيا :

مرّت الإشارة في الآيات السابقة إلى عدم استقرار ودوام الحياة الدنيا ، ففي الآية الأولى من الآيات التي نبحثها تفصيل لهذه الحقيقة ضمن مثال لطيف وجميل لرفع حجب الغرور والغفلة من أمام نواظر الغافلين والطغاة( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) .

إنّ قطرات المطر هذه تسقط على الأراضي التي لها قابلية الحياة. وبهذه القطرات ستنمو مختلف النباتات التي يستفيد من بعضها الإنسان ، ومن بعضها

٣٣٤

الآخر الحيوانات( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ) .

إنّ هذه النباتات علاوة على أنّها تحتوي على الخواص الغذائية المهمّة للكائنات الحيّة الأخرى ، فإنّها تغطي سطح الأرض وتضفي عليها طابعا من الجمال( حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ ) في هذه الأثناء حيث تتفتح الجنابذ وتورق أعالي الأشجار وتعطي ذلك المنظر الزاهي وتبتسم الأزهار وتتلألأ الأعشاب تحت أشعة الشمس ، وتتمايل الأغصان طربا مع النسيم ، وتظهر حبات الغذاء والأثمار أنفسها شيئا فشيئا وتجسم جانبا دائب الحركة من الحياة بكل معنى الكلمة ، وتملأ القلوب بالأمل ، والعيون بالسرور والفرح ، بحيث( وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها ) في هذه الحال وبصورة غير مرتقبة يصدر أمرنا بتدميرها ، سواء ببرد قارص ، أو ثلوج كثيرة ، أو إعصار مدمّر ، ونجعلها كأنّ لم تكن شيئا مذكورا( أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) .

( لَمْ تَغْنَ ) مأخوذة من مادة (غنا) بمعنى الإقامة في مكان معين ، وعلى هذا فإنّ جملة( لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) تعني أنّها لم تكن بالأمس هنا ، وهذا كناية عن فناء الشيء بالكلية بصورة كأنّه لم يكن له وجود مطلقا!.

وللتأكيد تقول الآية في النهاية :( كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .

إنّ ما ذكر أعلاه تجسيم واضح وصريح عن الحياة الدنيوية السريعة الانقضاء والخداعة، والمليئة بالتزاويق والزخارف ، فلا دوام لثرواتها ونعيمها ، ولا هي مكان أمن وسلامة. ولهذا فإنّ الآية التالية أشارت بجملة قصيرة إلى الحياة المقابلة لهذه الحياة ، وقالت :( وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ) .

فلا وجود ولا خبر هناك عن مطاحنات واعتداءات المتكالبين على الحياة المادية ، ولا حرب ولا إراقة دماء ولا استعمار ولا استثمار ، وكل هذه المفاهيم قد جمعت في كلمة دار السّلام.

وإذا تلبّست الحياة في هذه الدنيا بعقيدة التوحيد والايمان بالمبدأ والمعاد ،

٣٣٥

فإنّها ستتبدل أيضا إلى دار السّلام ، ولا تكون حينئذ كالمزرعة التي أتلفها البلاء والوباء.

ثمّ تضيف الآية : إنّ الله سبحانه يهدي من يشاء ـ إذا كان لائقا لهذه الهداية ـ إلى صراطه المستقيم ، ذلك الصراط التي ينتهي إلى دار السّلام ومركز الأمن والأمان( وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

* * *

ملاحظات

1 ـ لما كان القرآن كتاب تربية وتكامل للإنسان ، فإنّه يستعين بالأمثلة لتوضيح الحقائق العقلية في كثير من الموارد ، وقد يجسّد المواضيع التي لها امتداد زمني طويل في مسرحية وتمثيلية قصيرة وقابلة للمطالعة أمام أعين الناس.

إنّ متابعة تأريخ مليء بالحوادث يتعلق بإنسان ما ، أو جيل ما ، والذي قد يطول لمائة سنة أحيانا ليس بالأمر الهين بالنسبة للأفراد العاديين ، أمّا عند ما تتلخص هذه الساحة والحياة في عدّة أشهر ، كما هو الحال في حياة كثير من النباتات ، من الولادة إلى الرشد والنمو والجمال ، ثمّ الهلاك والموت ، وتظهر أمام الإنسان ، فإنّه يستطيع أن يرى ببساطة مراحل حياته وكيفيتها في هذه المرآة الشفافة.

جسموا هذه اللقطات أمام أعينكم تماما : حديقة مليئة بالأشجار والخضرة والنباتات الدائمة الثمر ، وصخب الحياة يعم كل أرجائها وفجأة في ليلة مظلمة ، أو يوم صحو تغطي السحب السوداء وجه السماء ، وترعد وتبرق ثمّ تهب الأعاصير العاتية وتنهمر الأمطار الشديدة من كل جانب وتدمرها.

غدا نأتي لرؤية تلك الحديقة الأشجار متكسرة النباتات والأعشاب مبعثرة وميتة ، وكل شيء أمامنا ملقى على الأرض بصورة لا نصدق معها أنّ هذه هي تلك الحديقة الغنّاء الجميلة التي كانت تبتسم في وجوهنا بالأمس!.

٣٣٦

نعم ، هكذا هي الحوادث في حياة البشر ، خصوصا في عصرنا الحاضر حيث تدمّر زلزلة أو حرب لا تطور إلّا ساعات قليلة مدينة عامرة وجميلة ، ولا تبقي منها إلّا الأنقاض. وأجساد متنائرة هنا وهناك.

آه ما أشد غفلة الذين يفرحون بمثل هذه الحياة الزائلة الفانية؟!

2 ـ في جملة( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ) ينبغي الالتفات إلى أنّ الاختلاط في الأصل ـ كما قال الراغب في المفردات ـ هو الجمع بين شيئين أو أكثر ، سواء كانت سائلة أو جامدة. والاختلاط أعم من الامتزاج ، لأن الامتزاج يطلق عادة على السوائل ، وعلى هذا يكون معنى الجملة أنّ النباتات يختلط بعضها بالبعض الآخر بواسطة ماء المطر ، سواء النباتات التي تنفع الإنسان ، أو الحيوان(1) .

وتشير الجملة أعلاه ـ أيضا ـ إشارة ضمنية إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الله سبحانه ينبت من ماء المطر ، الذي هو نوع واحد وليس له إلّا حقيقة واحدة ، أنواع النباتات المختلفة التي تؤمن مختلف حاجات الإنسان والحيوان من المواد الغذائية.

* * *

__________________

(1) يتّضح ممّا قيل أعلاه أنّ الباء في (به) سببية ، ولكن قد احتمل البعض أنّها بمعنى (مع) ، أي إنّ ماء ينزل من السماء ويختلط بالنباتات ، وينميها وينضجها. إلّا أنّ هذا الاحتمال الثّاني لا يناسب آخر الآية الذي يقول:( مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ) لأنّ ظاهر هذه الجملة أنّ المقصود هو الاختلاط بين أنواع الأعشاب ، لا اختلاط الماء والنبات. دققوا ذلك.

٣٣٧

الآيتان

( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) )

التّفسير

بيض الوجوه وسود الوجوه :

مرّت الإشارة في الآيات السابقة إلى عالم الآخرة ويوم القيامة ، ولهذه المناسبة فإنّ هذه الآيات تبيّن مصير الصالحين وعاقبة المذنبين فتقول في البداية :( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ) (1) .

ومع أن هناك بحث بين المفسّرين في المقصود من الزيادة في هذه الجملة ، إلّا أنّنا إذا علمنا أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا ، رأينا أنّ المراد هو الإشارة إلى الثواب

__________________

(1) ينبغي التنبه إلى أن (الحسنى) في هذه الجملة مبتدأ مؤخر ، ومعنى الآية هكذا. الحسنى للذين أحسنوا ، ولذلك فإنّ (زيادة) المعطوفة عليها مرفوعة ، والحسنى صفة للمثوبة المقدّرة ، وقد حلّت محلّ الموصوف.

٣٣٨

المضاعف الكثير ، الذي يتضاعف أحيانا عشر مرات ، وأخرى آلاف المرات حسب نسبة الإخلاص والطهارة والتقوى وقيمة العمل ، فنقرأ في الآية (160) من سورة الأنعام.( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .

وفي الآية (127) من سورة النساء :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) .

وفي الآيات المرتبطة بالإنفاق في سورة البقرة آية (261) يدور الحديث أيضا عن مكافأة الصالحين ومضاعفة عملهم إلى سبعمائة ضعف ، أو مضاعفته أضعافا كثيرة من قبل الله سبحانه.

والنقطة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هنا ، هي أن من الممكن أن تستمر هذه الزيادة والإضافة حتى في عالم الآخرة ، أي أنّه في كل يوم سيمنحهم الله سبحانه موهبة ولطفا جديدا ، وهذا يبيّن أن حياة العالم الآخر ليست على وتيرة واحدة ، بل تستمر في حركتها نحو التكامل الى ما لا نهاية.

والرّوايات التي وردت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير هذه الآية ، والتي تبيّن أن المراد من «الزيادة» هو التوجه إلى نور الذات الإلهية المقدسة والاستفادة من هذه الموهبة المعنوية الكبيرة قد تكون إشارة إلى هذه النكتة.

وفي بعض الرّوايات المنقولة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، فسّرت «الزيادة» بزيادة النعم الدّنيوية التي يتفضل بها الله على الصالحين علاوة على ثواب الآخرة ، ولكن لا مانع من أن تكون الزيادة في الآية أعلاه إشارة إلى كل هذه المواهب.

ثمّ تضيف الآية :( وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ) . «يرهق» مأخوذة من مادة «رهق» ، وهي بمعني التغطية القهرية والجبرية ، «والقتر» بمعنى «الغبار» والدخان.

وفي النهاية تقول :( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) التعبير بالأصحاب إشارة إلى التناسب الموجود بين روحية هذه المجموعة ومحيط الجنّة.

ثمّ يأتي الحديث في الآية التالية عن أصحاب النّار الذين يشكلون الطرف

٣٣٩

المقابل للمجموعة الأولى ، فتقول :( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ) وهنا لا يوجد كلام عن الزيادة ، لأنّ الزيادة في الثواب فضل ورحمة ، أمّا في العقاب فإنّ العدالة توجب أن يكون بقدر الذنب ولا يزيد ذرة واحدة. إلّا أن هؤلاء عكس الفريق الأوّل مسودة وجوههم( وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) (1) .

ويمكن أن يقول قائل : إنّ هؤلاء يجب أن لا يروا من العقاب إلّا بقدر ذنوبهم ، وأنّ اسوداد الوجه هذا ، وغبار الذل الذي يغطيهم شيء إضافي. لكن ينبغي الانتباه إلى أن هذه هي خاصية وأثر العمل الذي ينعكس من داخل روح الإنسان إلى الخارج ، تماما كما نقول : إنّ الأفراد المعتادين على شرب الخمر يجب أن يجلدوا. وفي الوقت نفسه فإنّ الخمر تولد مختلف أمراض المعدة والقلب والكبد والأعصاب.

وعلى كل حال ، فقد يظن المسيئون أنّهم سوف يكون لهم طريق للهرب أو النجاة ، أو أنّ الأصنام وأمثالها تستطيع أن تشفع لهم ، إلّا أن الجملة التالية تقول بصراحة :( ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ) .

إنّ وجوه هؤلاء مظلمة ومسودة إلى الحد الذي( كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

* * *

__________________

(1) من الممكن ، بقرينة الآية السابقة ، أن تكون جملة (ترهقهم ذلة) بتقدير : يرهقهم قتر وذلة) ، وبقرينة المقابلة حذفت (قتر) لأجل الاختصار.

٣٤٠