الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 256066 / تحميل: 6165
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

المظلم وهدوئه يهيء الروح والجسد المتعبين للعمل والحركة من جديد.

نعم( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) أولئك الذين يسمعون ويدركون ، وبعد إدراك الحقيقة يتبعونها ويسيرون على نهجها.

* * *

ملاحظات

١ ـ إنّ الهدوء والسكون النفسي الذي هو الهدف من خلق الليل بات من المسلمات العلمية بعد أن أثبته العلم اليوم ، فإنّ حجب الظلام ليست وسيلة إجبارية لإيقاف النشاطات اليومية وحسب ، بل لها أثر مباشر على السلسلة العصبية وعضلات الإنسان وسائر الحيوانات فتجعلهم في حالة استراحة ونوم وسكون ، وما أجهل بعض الناس الذين يحيون الليل بالملذات والرغبات ، ويقضون النهار ـ وخاصّة الفجر المنشط ـ في النوم ، ولهذا السبب فإنّ أعصابهم متوترة وغير متزنة دائما.

٢ ـ إذا علمنا أنّ الإبصار بمعنى النظر ، فإنّ معنى جملة :( وَالنَّهارَ مُبْصِراً ) سيصبح : إنّ الله قد جعل النهار ناظرا ، في حين أنّ النهار مبصر لا مبصر! إن هذا تشبيه ومجاز من قبيل توصيف السبب بأوصاف المسبب ، كما يقولون في شأن الليل : ليل نائم ، في حين أنّ الليل لا ينام ، بل هو سبب لأنّ ينام الناس.

٣ ـ إنّ الآيات أعلاه تدين الظن والوهم مرّة أخرى وتردّه ، لكن لما كان الكلام عن أوهام عبدة الأوثان الخرافية التي لا أساس لها ، فإنّ الظّن هنا لا يعني الظّن العقلائي المدروس الذي يعتبر حجة في بعض الموارد ، مثل شهادة الشهود وظاهر الألفاظ والإقرارات والمكاتبات ، وبناء على هذه فإنّ الآيات أعلاه لا يمكن أن تكون دليلا على عدم حجية الظن.

* * *

٤٠١

الآيات

( قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) )

التّفسير

تستمر هذه الآيات ـ أيضا ـ في بحثها مع المشركين ، وتذكر واحدة من أكاذيب واتهامات هؤلاء لساحة الله المقدسة ، فتقول أوّلا :( قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ) .

إنّ هذا الكلام قاله المسيحيون في حق المسيحعليه‌السلام ، ثمّ عبدة الأوثان في عصر الجاهلية في حق الملائكة ، حيث كانوا يظنون أنّها بنات الله ، وقاله اليهود في شأن عزير. ويجيبهم القرآن بطريقين :

الأوّل : إنّ الله سبحانه منزّه عن كل عيب ونقص ، وهو مستغن عن كل شيء :( سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ ) وهذا إشارة إلى أنّ الحاجة إلى الولد ، إمّا للحاجة الجسمية إلى قوته ومساعدته ، أو للحاجة الروحية والعاطفية ، ولما كان الله سبحانه منزّه عن كل

٤٠٢

عيب ونقص وحاجة ، فلا يمكن أن يتخذ لنفسه ولدا.

( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) ومع هذا الحال فأي معنى لأن يتخذ لنفسه ولدا ليطمئنه ويهدئه ، أو يعينه ويساعده.

ممّا يلفت النظر أنّ الآية عبّرت هنا ب (اتخذ) وهذا يوحي أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لم يلد ذلك الولد ، بل يقولون : إنّ الله قد اختار بعض الموجودات كولد له ، تماما مثل أولئك الذين لا يولد لهم ولد ، ويتبنون طفلا من دور الحضانة وأمثالها.

على كل حال ، فإنّ هؤلاء الجاهلين وقصيري النظر وقعوا في اشتباه المقارنة بين الخالق والمخلوق ، وكانوا يقيسون ذات الله الصمدية على وجودهم المحدود المحتاج.

والجواب الثّاني الذي يذكره القرآن لهؤلاء هو : إنّ من يدعي شيئا يجب عليه أن يقيم دليلا على مدعاه :( إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) أي إنّكم على فرض عدم قبولكم للدليل الأوّل الواضح ، فإنّكم لا تستطيعون أن تنكروا هذه الحقيقة ، وهي أن ادعاءكم وقولكم تهمة وقول بغير علم.

وتعيد الآية التّالية عاقبة الافتراء على الله المشؤومة. فتوجه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول :( قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ) .

وعلى فرض أن هؤلاء يستطيعون بافتراءاتهم وأكاذيبهم أن ينالوا المال والمقام لعدّة أيّام، فإنّ ذلك( مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ) .

الواقع أنّ هذه الآية والتي قبلها ذكرتا نوعين من العقاب لهؤلاء الكذابين الذين نسبوا إلى الله تهمة اتّخاذ الولد :

الأوّل : إنّ هذا الكذب والافتراء لا يمكن أن يكون أساسا لفلاح ونجاح هؤلاء أبدا ، ولا يوصلهم إلى هدفهم مطلقا ، بل إنّهم يصبحون حيارى تائهين تحيط

٤٠٣

التعاسة والشقاء والهزيمة بأطرافهم.

الثّاني : على فرض أنّهم استطاعوا أن يستغفلوا الناس ويخدعوهم بهذه الكلمات لعدة أيّام ، ويصلوا عن طريق الديانة الوثنية إلى رفاه وعيش رغيد ، إلّا أنّ هذا التمتع لا دوام ولا بقاء له ، والعذاب الإلهي الخالد في انتظارهم.

* * *

ملاحظات

١ ـ إنّ كلمة «سلطان» تعني هنا الدليل ، وهذه الكلمة أعمق وأبلغ من كلمة الدليل ، لأنّ الدليل بمعنى الدلالة والإرشاد أمّا السلطان فهو الشيء الذي يسلط الإنسان على الطرف المقابل ، ويناسب موارد البحث والجدال والنقاش ، وهو إشارة إلى الدليل القاطع القوي.

٢ ـ «المتاع» يعني الشيء الذي يستفيد منه الإنسان ويتمتع به ، ومفهومه واسع جدا يشمل كل لوازم ووسائل الحياة والمواهب المادية. يقول الراغب في المفردات : كلما ينتفع به على وجه ما ، فهو متاع ومتعة.

٣ ـ إنّ التعبير ب (نذيقهم) الذي ورد في شأن العذاب الإلهي يشير إلى أنّ هذا العذاب الذي سينال هؤلاء بدرجة من الشدّة بحيث كأنّهم يذوقونه بألسنتهم وأفواههم ، وهذا التعبير أبلغ جدا من المشاهدة ، بل وحتى من لمس العذاب.

* * *

٤٠٤

الآيات

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) )

التّفسير

جانب من جهاد نوح :

الآيات أعلاه بداية لبيان قسم من تأريخ الأنبياء وقصص وحوادث الأمم الماضية لتوعية وإيقاظ المشركين والفئات المخالفة ، فيأمر الله نبيّه أن يتابع حديثه السابق مع المشركين بشرح تأريخ الماضين ليكون عبرة لهم.

في البداية تطرقت إلى قصّة نوح ، فقالت :( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا

٤٠٥

قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ ) ولهذا فإنّي لا أخاف غيره. ثمّ تضيف :( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ) أي ادعوا أصنامكم أيضا لتعينكم في المشورة ، حتى لا يبقى شيء خافيا على أحد ولا يتعرض منكم الى الهم والغم أحد( ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ) بل اتّخذوا قراركم في شأني بكل وضوح.

«غمّة» من مادة غم ، وهي تعني خفاء الشيء وتغطيته ، وإنّما يقولون للحزن : غمّ أيضا لأنّه يغطي قلب الإنسان.

ثمّ يقول :( ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ) (١) .

إنّ نوحا رسول الله الكبير صمد مقابل أعدائه الأقوياء المعاندين وواجههم بقاطعية وحزم وفي منتهى الشجاعة والشهامة مع أصحابه القليلين الذين كانوا معه ، وكان يستهزئ بقواهم ويريهم عدم اهتمامه بخططهم وأفكارهم وأصنامهم ، وبهذه الطريقة كان يوجه ضربة نفسية عنيفة إلى أفكارهم.

وإذا علمنا أنّ هذه الآيات نزلت في مكّة في الوقت الذي كان يعيش فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظروفا تشبه ظروف نوح ، وكان المؤمنون قلّة ، سيتّضح أنّ القرآن يريد أن يعطي للنّبي ـ أيضا ـ نفس هذا الدرس بأنّ لا يهتم بقدرة العدو ، بل يسير ويتقدم بكل حزم وجرأة وشجاعة ، لأنّ الله يسنده وينصره ، ولا تستطيع أية قوّة أن تقف في مقابل قدرته.

__________________

(١) هناك بحث بين المفسّرين في أنّه ما هو جزاء شرط جملة( إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ ) ؟ ومن بين الاحتمالات التي طرحوها يبدو للنظر أن اثنين منها هما الأقرب : الأوّل : إنّ جملة( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ) هي جزاء الشرط ، وإن جملة :( فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ ) جملة معترضة فصلت بين الشرط والجزاء.

الثّاني : إنّ الجزاء محذوف والجمل التالية تدل على ذلك ، والتقدير هكذا : فافعلوا ما تريدون فإنّي متوكل على الله. في الواقع ، إنّ جملة : ( فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ ) من قبيل العلة حلت محل المعلول ، و (شركاءكم) في الجملة التالية إشارة إلى الأصنام ، والواو قبلها بمعنى مع. (فتدبر جيدا).

٤٠٦

ومع أنّ بعض المفسّرين اعتبر تعبير نوح هذا أو أمثاله في تاريخ سائر الأنبياء نوعا من الإعجاز ، لأنّهم مع عدم امتلاكهم الإمكانيات الظاهرية فإنّهم كانوا يهدّدون العدو بالهزيمة ، وأعلنوا خبر انتصارهم النهائي ، وهذا لا يمكن قبوله إلّا عن طريق الإعجاز ، إلّا أنّ هذا على كل حال درس كبير لكل القادة الإسلاميين بأن لا يخافوا ولا ينهاروا أمام عظمة الأعداء وكثرتهم ، بل إنّهم باتكالهم على الله كانوا يدعون هؤلاء إلى الميدان بكل حزم واقتدار ويستصغرون قوتهم ، فكان هذا عاملا مهمّا في تقوية معنويات الأتباع والمؤيدين ، وتدمير معنويات العدو وانهيارها.

وذكرت الآية التّالية بيانا آخر عن نوح من أجل إثبات أحقيته ، هناك حيث تقول :( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ (١) إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ) ، فإنّي أعمل له ، ولا أريد الأجر إلّا منه( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .

إنّ مقولة نوح هذه درس آخر للقادة الإلهيين بأن لا يتوقعوا أي جزاء مادي ومعنوي من الناس لقاء دعوتهم وتبليغهم ، لأنّ هذا التوقع يوجد نوعا من التعلق النفسي الذي يؤدي الى عرقلة أساليب الدعوة الصريحة والنشاطات الحرة ، ومن الطبيعي عن ذلك أن يقلّ تأثير دعوتهم وإبلاغهم ، ولهذا السبب فإنّ الطريق الصحيح في الدعوة إلى الإسلام أن يعتمد المبلّغون والداعون في إدارة أمورهم المعاشية على بيت المال فقط ، لا بالاحتجاج إلى الناس!

وتبيّن الآية الأخيرة عاقبة ومصير أعداء نوح ، وصدق توقعه وقوله السابق بهذه الصورة :( فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ) (٢) ولم ننقذهم وحسب ، بل

__________________

(١) جواب هذا الشرط محذوف أيضا ، وتقديره : فإن توليتم فلا تضروني ، أو : فإن توليتم فأنتم وشأنكم.

(٢) «الفلك» بمعنى السفينة ، والفرق بينها وبين السفينة أن سفينة مفرد وجمعها سفائن أم الفلك فإنّها تطلق على المفرد والجمع.

٤٠٧

وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ) .

وفي النهاية توجه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) .

* * *

٤٠٨

الآية

( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) )

التّفسير

الرّسل بعد نوح :

بعد انتهاء البحث الإجمالي حول قصّة نوح ، أشارت هذه الآية إلى الأنبياء الآخرين الذين جاؤوا بعد نوح وقبل موسىعليهما‌السلام لهداية الناس كإبراهيم وهود وصالح ولوط ويوسفعليهم‌السلام ، فقالت :( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) فقد كانوا مسلّحين كنوح بسلاح المنطق والإعجاز والبرامج البناءة ، إلّا أنّ الذين سلكوا طريق العناد وكذّبوا الأنبياء السابقين ، كذّبوا هؤلاء الأنبياء أيضا ولم يؤمنوا بهم( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) وكان ذلك نتيجة للعصيان والتمرد وعداء الحق الذي أوصد تلك القلوب( كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ) .

* * *

٤٠٩

ملاحظتان

١ ـ جملة :( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) تشير إلى أنّ فئة من بين الأمم كانوا لا يسلمون أمام دعوة أي نبي ومصلح ، واستمروا في الثبات على موقفهم ، ولم تكن تؤثر فيهم دعوة الأنبياء المتكررة أدنى أثر ، وبناء على هذا فإن الجملة المذكورة تشير إلى طائفة وقفت في وجه دعوة أنبياء متعددين في زمانين (وهذا هو ظاهر الجملة حيث أن مرجع كل الضمائر واحد).

وقد احتمل أيضا في معنى هذه الآية أنّها تشير إلى جماعتين مختلفتين ، إحداهما كانت في زمن نوح وكذّبت دعوته ، والأخرى هم الذين جاؤوا بعد أولئك وسلكوا طريقهم في إنكار وتكذيب الأنبياء ، وبناء على هذا ، فإنّ معنى الجملة يصبح : إنّ المعتدين أقوام آخرين امتنعوا عن الإيمان بالشيء الذي امتنع الماضون عن الإيمان به.

طبعا ، بملاحظة أنّ مخالفي دعوة نوح قد هلكوا أثناء الطوفان ، سيقوى هذا الاحتمال في تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ ذلك يستلزم على كل حال أن نفرق بين مرجع الضمائر في الجملة ، وهي واو الجمع في كانوا ، وليؤمنوا ، وكذبوا.

٢ ـ من الواضح أنّ جملة :( كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ) لا تدل على الجبر ، وقد أخفي تفسير ذلك فيها ، لأنّها تقول : إنّنا نطبع على قلوب المعتدين حتى لا يدركوا شيئا ، وبناء على هذا فإنّ الاعتداءات المتكررة المتلاحقة على حدود الأحكام الإلهية والحق والحقيقة كانت تصدر من هؤلاء ، وكانت تترك أثرها على قلوبهم تدريجيا حتى سلبت منهم قدرة تشخيص وتعيين الحق ، ووصل الأمر بهم إلى أن يصبح التمرد والعصيان والمعصية طبيعة ثانية لديهم ، بحيث لا يذعنون ولا يسلّمون أمام أية حقيقة(١) .

* * *

__________________

(١) ذكرنا تفصيل هذا المطلب في المجلد الأوّل ذيل الآية (٧) من سورة البقرة.

٤١٠

الآيات

( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) )

التّفسير

جانب من جهاد موسى وهارون :

لقد جرى ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة كنماذج حيّة ، وبدأ الحديث أوّلا عن نوحعليه‌السلام ، ثمّ عن الأنبياء بعد نوح ، ووصل الدور في هذه الآيات إلى موسى وهارونعليهما‌السلام ومواجهاتهم المستمرة مع فرعون وأتباعه ، فتقول الآية الأولى :( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا ) (١) .

__________________

(١) المراد من الآيات هي تلك الآيات المتعددة المشهورة التي كانت لموسى في بداية أمره.

٤١١

«الملأ» كما أشرنا إلى ذلك سابقا تطلق على الأشرف الأثرياء اللامعين الذين يملأ ظاهرهم العيون ويلاحظ حضورهم في كل مكان من المجتمع. وتأتي عادة في مثل هذه الآيات محل البحث بمعنى المناصرين والمشاورين والملتفين حول شخص ما.

ونرى الكلام في هذه الآيات يدور حول بعثة موسى إلى فرعون وملئه فقط ، في حين أنّ موسى مبعوث لكل الفراعنة وبني إسرائيل ، وعلّة ذلك أنّ مقدرات المجتمع في يد الهيئة الحاكمة ، وبناء على هذا فإنّ أي برنامج إصلاحي وثوري يجب أن يستهدف هؤلاء أوّلا ، كما تقول ذلك الآية (١٢) من سورة التوبة :( فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) .

إلّا أنّ فرعون وأتباعه امتنعوا عن قبول دعوة موسى ، وعن التسليم في مقابل الحق :( فَاسْتَكْبَرُوا ) ونظرا للتكبر والاستعلاء وعدم امتلاكهم لروح التواضع فإنّهم لم يلتفتوا إلى الحقائق الواضحة في دعوة موسى ، وأصرّوا واستمروا في إجرامهم :( وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ ) .

وتتحدث الآية التّالية عن مراحل مواجهة الفراعنة لموسى وأخيه هارون ، وأوّل تلك المراحل هي مرحلة الإنكار والتكذيب والافتراء واتهامهما بسوء النية ، وابطال سنن الأجداد، والإخلال بالنظام الاجتماعي ، كما يقول القرآن :( فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ جاذبية دعوة موسى الخارقة من جهة ، ومعجزاته الباهرة من جهة أخرى ، وتزايد نفوذه بصورة محيرة من جهة ثالثة ، دفعت الفراعنة إلى التفكير في حل لهذه المسألة ، فلم يجدوا وسيلة أفضل من رميه بالسحر ، فأعلنوا أنّه ساحر وأنّ عمله سحر ليس إلّا ، وهذه التهمة سائدة في جميع مراحل الأنبياء وعلى طول تاريخهم ، خاصّة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلّا أنّ موسىعليه‌السلام نهض للدفاع عن نفسه ، فأزاح الستار وأوضح كذب هؤلاء

٤١٢

وأبطل تهمتهم ، ففي البداية :( قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا ) (١) .

صحيح أنّ لكلّ من السحر والمعجزة نفوذا وتأثيرا ، وأن من الممكن أن يؤثر الحق والباطل على إدراكات الناس ونفسياتهم ، إلّا أن السحر الذي هو أمر باطل يتميز تماما عن المعجزة التي هي حق ، إذا لا يمكن المقارنة بين نفوذ الأنبياء ونفوذ السحرة ، فإنّ أعمال السحرة تفتقد الى الهدفية ومحدودة ولا قيمة لها ، ومعجزات الأنبياء لها أهداف إصلاحية وتغييرية وتربوية واضحة ، وتعرض بشكل واسع وغير محدود.

إضافة إلى أنّه :( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ) وهذا التعبير دليل آخر على امتياز عمل الأنبياء عن السحر. ففي الدليل السابق أثبت اختلاف السحر والمعجزة ووجه وهدف الإثنين وافتراق أحدهما عن الآخر ، أمّا هنا فإنّ الدليل يستعين لإثبات المطلب باختلاف حالات السحرة وأصحاب المعاجز.

إنّ السحرة ، وبحكم عملهم وفنهم الذي له صفة الانحراف والإغفال ، أفراد انتهازيون يفكرون في الربح ، يستغفلون الناس ويخادعونهم ، ويمكن معرفتهم من خلال أعمالهم. أمّا الأنبياء فهم رجال يطلبون الحق ، حريصون على هداية الناس ، مطهرون ، لهم هدف وغاية، ولا يهتمون بالأمور المادية.

إن السحرة لا يرون وجه الفلاح مطلقا ، ولا يعملون إلّا من أجل المال والثروة والمنصب والمنافع الشخصية ، في حين أن هدف الأنبياء هداية خلق الله وإصلاح المجتمع الإنساني من جميع جوانبه المادية والمعنوية.

ثمّ يستمر فرعون وملؤه في رمي موسىعليه‌السلام بسيل الاتهامات الصريحة ، حيث( قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ) . الواقع ، أنهم قدموا صنم «سنة الآباء» وعظمتهم الخيالية والأسطورية حتى يوجهوا الرأي العام ضد موسى وهارون ،

__________________

(١) الواقع ، أنّ للجملة أعلاه محذوف مقدر يفهم من مجموع الكلام ، وكانت في الأصل هكذا : أتقولون للحق لما جاءكم سحر ، أسحر هذا.

٤١٣

بأنّهما يريدان أن يعبثا بمقدسات مجتمعكم وبلادكم.

ثمّ استمروا في هذا التشويه ، وقالوا بأن دعوتكم إلى دين الله ما هي إلّا كذب محض ، وكل هذه مصائد وخطط خيانية بهدف التسلط على الناس :( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ ) .

في الحقيقة ، إنّ هؤلاء لما كانوا يسعون دائما من أجل الحكم الظالم على الناس كانوا يظنون أنّ الآخرين مثلهم ، وهكذا كانوا يفسرون مساعي المصلحين والأنبياء.

( وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ ) لأنا على علم بنواياكم وخططكم الهدامة.

وكانت هذه هي المرحلة الأولى من المواجهة السلبية مع موسى.

* * *

٤١٤

الآيات

( وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) )

التّفسير

المرحلة الثّانية :

تفصل هذه الآيات مرحلة أخرى من المجابهة ، وتتحدث عن إجراءات فرعون العملية ضد موسى وأخيه هارون.

فعند ما لا حظ فرعون قسما من معجزات موسى ، كاليد البيضاء والحية العظيمة ، ورأى أنّ ادعاء موسى ليس واهيا بدون دليل وبرهان ، وأنّ هذا الدليل سيؤثر في جميع أنصاره أو الآخرين قليلا أو كثيرا ، فكّر بجواب عملي كما يقول القرآن :( وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ) فقد كان يعلم أنّ كل عمل يجب أن يؤتى من طريقة ويجب أن يستعين بالخبراء بذلك الفن.

هل إنّ فرعون كان حقيقة في شك من أحقّية دعوة موسى ، وكان يريد أن

٤١٥

يحاربه ويواجهه عن هذا الطريق؟ أم أنّه كان يعلم أنّه مرسل من الله ، إلّا أنّه كان يظن أنّه يستطيع بواسطة ضجّة السحرة وغوغائهم أن يهدئ الناس ، ويمنع مؤقتا خطر نفوذ موسى في الأفكار العامّة ، ويقول للناس بأنّه إن جاء بعمل خارق للعادة فإنّنا غير عاجزين عن القيام بمثله ، وإذا شاءت إرادتنا الملوكية ذلك ، فإنّ مثل هذا الشيء سهل يسير بالنسبة لنا!

ويبدو أنّ الاحتمال الثّاني أقرب ، ويؤيد ذلك سائر الآيات المرتبطة بقصّة موسى التي وردت في سورة طه وأمثالها ، وأنّه هبّ لمجابهة موسى عن وعي ودراية.

على كل حال :( فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ) .

جملة( أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ) تعني في الأصل : ألقوا كل ما تستطيعون إلقاءه ، وهذا إشارة إلى الحبال والعصي الخاصّة التي كان جوفها خاليا ، وصبت فيه مواد كيماوية خاصّة بحيث أنّها تتحرك وتتقلب إذا ما قابلت نور الشمس. والشاهد على هذا الكلام الآيات التي وردت في سورة الأعراف والشعراء ، ففي الآية (٤٣) ـ (٤٤) من سورة الشعراء نقرأ :( قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ ) . ولكن من الطبيعي أنّها تتضمن هذا المعنى أيضا بأنّ أظهروا كل ما تملكون من القدرة في الميدان.

على كل حال ، فإنّ هؤلاء قد عبؤوا كل ما يملكون من قدرة ، وألقوا كل ما أتوا به ـ معهم في وسط الحلبة :( فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ ) فأنتم أفراد فاسدون ومفسدون لأنّكم تخدمون حكومة جبارة وظالمة وتعملون على تقوية دعائم هذه الحكومة الغاشمة الدكتاتورية وهذا بنفسه أقوى دليل على كونكم مفسدين ، و( إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) .

في الواقع ، إنّ كل إنسان ذي عقل وعلم يستطيع أن يدرك هذه الحقيقة حتى قبل انتصار موسى على السحرة ، وهي أنّ عمل السحرة لا يقوم على أساس من

٤١٦

الحق. لأنّه يصب في طريق تقوية دعائم الظلم والجور ، فأي شخص لم يكن يعلم أنّ فرعون غاصب وظالم ومفسد؟ ومعه ألا تعتبر خدمة مثل هذا الجهاز الحاكم مشاركة في ظلمه وفساده؟ وهل يمكن أن يكون عمل هؤلاء صحيحا وإلهيا؟ كلّا مطلقا ، وبناء على هذا كان من الواضح أنّ الله سيبطل هذه المساعي المفسدة.

هل أنّ التعبير بـ «سيبطله» دليل على أنّ السحر حقيقة واقعية ، إلّا أنّ الله يبطله؟ أم أنّ المقصود من الجملة هو أنّ الله يكشف كون السحر باطلا؟

إنّ الآية (١١٦) من سورة الأعراف تقول : إنّ سحر السحرة قد أثر في أعين الناس فخوفوهم به :( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) وهذا التعبير لا ينافي أن يكون هؤلاء قد أوجدوا نوعا من الحركات الواقعية في تلك الحبال والعصي بواسطة سلسلة من الوسائل المرموزة كما وقع ذلك في المفهوم والمعنى اللغوي للسحر ، وخاصّة بالاستفادة من الخواص الفيزيائية والكيميائية للأجسام المختلفة ، إلّا أنّ من المسلّم به أنّ هذه الحبال والعصي لم تكن موجودات حيّة كما ظهرت أمام أعين الناس ، كما قال القرآن في سورة طه الآية (٦٦) :( فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ) . بناء على هذا ، فإنّ بعض تأثير السحر واقعي ، والبعض الآخر وهم وخيال.

وفي الآية الأخيرة ، إنّ موسى قال لهؤلاء : إنّ النصر والغلب لنا في هذه المبارزة حتما. لأنّ الله سبحانه قد وعد أن يظهر الحق بواسطة المنطق القاطع ، ومعجزات أنبيائه القاهرة ، ويفضح ويخزي المفسدين وأهل الباطل وإن كره المجرمون ذلك :( وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) .

والمراد من «كلماته» إمّا وعد الله بنصرة الرسل وإحقاق الحق ، أو معجزاته القاهرة القوية(١) .

* * *

__________________

(١) لقد بحثنا مفصلا جزئيات مواجهة موسى لفرعون والفراعنة ، ومسائلها الرائعة في ذيل الآيات (١١٣) وما بعدها من سورة الأعراف من المجلد الخامس ، وبحثنا السحر وحقيقته في المجلد الأوّل ذيل الآية (١٠٢) سورة البقرة ، فراجع.

٤١٧

الآيات

( فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) )

التّفسير

المرحلة الثّالثة :

عكست هذه الآيات مرحلة أخرى من المواجهة الثورية بين موسى وفرعون ، ففي البداية تبيّن وضع المؤمنين فتقول :( فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ) .

إنّ هذه المجموعة الصغيرة القليلة ، والتي كان الشباب والأشبال يشكلون أكثريتها بمقتضى ظاهر كلمة ذرية ، كانت تواجه ضغوطا شديدة من فرعون وأتباعه الى درجة أنّهم خافوا أن يصل بهم الأمر الى ترك دين موسى نتيجة هذه الضغوط الشديدة :( عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي

٤١٨

الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ) .

وهناك بحث بين المفسّرين في أنّه من كانت هذه الذريّة التي آمنت بموسى؟ وإلى من يعود ضمير( مِنْ قَوْمِهِ ) إلى موسى أم فرعون؟

فذهب البعض الى أنّ هؤلاء كانوا نفرا قليلا من قوم فرعون والأقباط كمؤمن آل فرعون ، وزوجة فرعون وماشطتها ووصيفتها ، والظاهر أنّ الدليل على اختيار هذا الرأي أن أغلب بني إسرائيل قد آمنوا. وهذا لا يناسب التعبير ب( ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ) لأنّه يدل على صغر هذه المجموعة.

إلّا أنّ البعض الآخر يرى أنّهم جماعة من بني إسرائيل ، والضمير يعود إلى موسى ، لأنّ اسم موسى قد ذكر قبله ، وحسب قواعد اللغة والنحو فإنّ الضمير يجب أن يرجع إليه.

ولا شك أنّ المعنى الثّاني أوفق لظاهر الآية ، والدليل الآخر الذي يؤيد ذلك هو الآية التالية التي تقول :( وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ ) أي إنّه خاطب المؤمنين بـ «قومي».

الإشكال الوحيد الذي يبقى على هذا التّفسير ، هو أنّ جميع بني إسرائيل قد آمنوا بموسى ، لا جماعة منهم.

إلّا أنّ هذا الإيراد يمكن دفعه بملاحظة هذه النقطة ، وهي أنّنا نعلم أنّ الشباب في كل ثورة هم أوّل مجموعة تنجذب إليها ، فإضافة إلى قلوبهم الطاهرة وأفكارهم السليمة ، فإنّ الحماس والهيجان الثوري لديهم أكبر وأقوى ، علاوة على أنّهم غير متعلقين بالأمور المادية التي تدعو الكبار إلى المحافظة عليها وغيرها الملاحظات المختلفة الأخرى ، فليس لهم مال وثروة يخافون ضياعها ، ولا منصب ولا مقام يخشون فقدانه.

بناء على هذا ، فمن الطبيعي أن تنجذب هذه الفئة إلى موسى ، وتعبير «الذريّة» يناسب هذا المعنى جدّا.

٤١٩

هذا إضافة إلى أنّ كبار السن الذين التحقوا فيما بعد بهذه الفئة لم يكن لهم دور مهم في المجتمع آنذاك ، وكانوا ضعفاء وعاجزين ، وهذا التعبير ـ كما نقل عن ابن عباس ـ في حقهم ليس ببعيد كما أنّنا حينما ندعو بعض أصدقائنا نقول : اذهب وادع الأولاد ، بالرغم من أنهم قد يكونون كبارا ، وإذا لم نتفق وهذا المعنى للآية ، فإنّ الاحتمال الأوّل يبقى على قوته.

إضافة إلى أن الذرية وإن كانت تطلق عادة على الأولاد ، إلّا أنّها من ناحية الأصل اللغوي ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ تشمل الصغير والكبير.

والملاحظة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هنا ، هي أنّ المراد من الفتنة التي تستفاد من جملة( أَنْ يَفْتِنَهُمْ ) هو صرف هؤلاء عن دين موسى بالتهديد والإرعاب والتعذيب ، أو بمعنى آخر إيجاد مختلف المصاعب والعراقيل امامهم سواء كانت دينية أو غير دينية.

على كل حال ، فقد حدّث موسى هؤلاء بلسان المحبّة والمودة من أجل تهدئة خواطرهم وتسكين قلوبهم :( وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ) .

إنّ حقيقة التوكل هي إلقاء العمل والتصرف في الأمور على كاهل الوكيل ، وليس معنى التوكل أن يترك الإنسان الجد والسعي وينزوي في زاوية ويقول : إنّ الله معتمدي وكفى ، بل معناه أن يبذل قصارى جهده ، فإذا لم يستطع أن يحل المشكلة ويرفع الموانع من طريقه ، فلا يدع للخوف طريقا إلى نفسه ، بل يصمد أمامها بالتوكل والاعتماد على لطف الله والاستعانة بذاته المقدسة وقدرته اللامتناهية ، ويستمر في جهاده المتواصل ، وحتى في حالات القدرة والاستطاعة فإنّه لا يرى نفسه مستغنيا عن الله ، لأنّ كل قدرة يتمتع بها هي من الله في النهاية.

هذا هو مفهوم التوكل الذي لا ينفك عن الإيمان والإسلام ، لأنّ الفرد المؤمن والمذعن لأوامر الله يعتقد أنّه قادر على كل شيء ، وكل عسير مقابل إرادته سهل

٤٢٠

يسير. ويعتقد بوعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر.

إنّ هؤلاء المؤمنين المخلصين أجابوا دعوة موسى بالتوكل :( فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا ) . ثمّ رجوا من الله سبحانه أن ينجيهم من شر الأعداء ووساوسهم وضغوطهم ويؤمّنهم :( رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

( وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) والجميل في الأمر أنّ فرعون قد وصف في الآية الأولى بأنّه من( الْمُسْرِفِينَ ) وفي الآية الثّالثة سمّي هو وأعوانه باسم( الظَّالِمِينَ ) ، وفي آخر آية بأنّهم من( الْكافِرِينَ ) .

إنّ هذا التفاوت في التعبيرات ربّما لأنّ الإنسان يشرع في مسير الذنب والخطأ من الإسراف أوّلا ، أي التعدي على الحدود ، ثمّ الظلم ، وينتهي عمله أخيرا إلى الكفر والإلحاد!

* * *

٤٢١

الآيات

( وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) )

التّفسير

المرحلة الرّابعة : مرحلة البناء من أجل الثّورة :

شرحت هذه الآيات مرحلة أخرى من نهضة وثورة بني إسرائيل ضد الفراعنة.

فتقول أولا :( وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) فالأمر الالهي يقرر اختيار البيوت لبني إسرائيل بمصر وان تكون هذه البيوت متقاربة ومتقابلة.

٤٢٢

ثمّ تطرقت إلى مسألة تربية النفس معنويا وروحيا ، فقالت :( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) ومن أجل أن تطرد آثار الخوف والرعب من قلوب هؤلاء وتعيد وتزيد من قدرتهم المعنوية والثّورية قالت :( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

يستفاد من مجموع هذه الآية أنّ بني إسرائيل كانوا في تلك الفترة بصورة جماعة متشتتة مهزومة ومتطفلة وملوّثة وخائفة ، فلا مأوى لهم ولا اجتماع مركزي ، ولا برنامجا معنويا بنّاء ، ولا يمتلكون الشجاعة والجرأة اللازمة للقيام بثورة حقيقية.

لذلك فإنّ موسى وأخاه هارون قد تلقوا مهمّة وضع برنامج في عدّة نقاط من أجل تطهير مجتمع بني إسرائيل ، وخاصّة في الجانب الروحي :

1 ـ الاهتمام أوّلا بمسألة بناء المساكن ، وعزل مساكنهم عن الفراعنة ، وكان لهذا العمل عدّة فوائد :

إحداها : أنّهم بتملّكهم المساكن في بلاد مصر سيشعرون برابطة أقوى تدفعهم للدفاع عن أنفسهم وعن ذلك الماء والتراب.

والأخرى : أنّهم سينتقلون من الحياة الطفيلية في بيوت الأقباط إلى حياة مستقلة.

والثّالثة : أنّ أسرار أعمالهم وخططهم سوف لا تقع في أيدي الأعداء.

2 ـ أن يبنوا بيوتهم متقاربة ويقابل بعضها الآخر. لأنّ القبلة في الأصل بمعنى حالة التقابل ، وإطلاق كلمة القبلة على ما هو معروف اليوم إنّما هو معنى ثانوي لهذه الكلمة(1) .

وأدّى هذا العمل الى تجمع وتمركز بني إسرائيل بشكل فاعل ، واستطاعوا بذلك

__________________

(1) بعض المفسّرين لم يأخذوا القبلة في الآية أعلاه بمعنى المقابل ، بل فسروها بنفس معناها ، اي قبلة الصلاة ، ويعتبرون جملة : (وأقيموا الصلاة) شاهدا على ذلك ، إلّا أن المعنى الأوّل أنسب لمفهوم الكلمة اللغوي الأصلي ، إضافة إلى أن إرادة كلا المعنيين من هذه الكلمة لا إشكال فيه أيضا ، كما مر علينا نظير هذا مرارا.

٤٢٣

وضع المسائل الاجتماعية بعامّة قيد البحث والتحقيق ، وأن يجتمعوا مع بعضهم لأداء المراسم الدينية والشعائر المذهبية ، وأن يرسموا الخطط اللازمة من أجل حريتهم.

3 ـ التوجه إلى العبادة ، وخاصّة الصلاة التي تحرر الإنسان من عبودية العباد ، وتربطه بخالق كل القوى والقدرات ، وتغسل قلبه وروحه من لوث الذنوب ، وتحيي فيه الشعور بالاعتماد على النفس وعلى قدرة الله حيث ستدب وتنبعث روح جديدة في الإنسان.

4 ـ إنّ هذه المهمّة وجهت الأمر لموسى ـ باعتباره قائدا ـ بأن يطهّر روح بني إسرائيل من اشكال الخوف والرعب التي كانت من افرازات سنين العبودية والذلة الطويلة. وأن يربي وينمي فيهم الإرادة والشهامة والشجاعة وذلك عن طريق بشارة المؤمنين بالفتح والنصر النهائي ، ولطف الله ورحمته.

الملفت للنظر أنّ بني إسرائيل من أولاد يعقوب ، وجماعة منهم من أولاد يوسف طبعا، وقد حكم هو واخوته مصر سنين طويلة ، وسعوا في عمران هذا الوطن ، إلّا أنّه نتيجة لتركهم طاعة الله والغفلة والخلافات الداخلية وصلوا إلى مثل هذا الوضع المأساوي. إنّ هذا المجتمع المسحوق المصاب يجب أن يبنى من جديد ، ويمحو نقاط ضعفه ويستبدلها بالخصال الروحية البناءة ليعيد عظمة الماضي.

ثمّ أشارت إلى إحدى علل طغيان فرعون وأزلامه ، فتقول على لسان موسى :( وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ) .

إنّ اللام في «ليضلوا» لام العاقبة ، أي إنّ جماعة الأشراف الأثرياء المترفين سيسعون من أجل إضلال الناس شاؤوا أم أبوا ، وسوف لا تكون عاقبة أمرهم شيئا غير هذا ، لأنّ دعوة الأنبياء والأطروحات الإلهية توقظ الناس وتوحدهم وبذلك

٤٢٤

لا يبقى مجال لتسلط الظالمين وكيد المعتدين وستضيق الدنيا عليهم ، فلا يجدوا بدّا من معارضة الأنبياء.

ثمّ يطلب موسىعليه‌السلام من الله طلبا فيقول :( رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ) .

«الطمس» في اللغة بمعنى المحو وسلب خواص الشيء ، واللطيف في الأمر أن ما ورد في بعض الرّوايات من أنّ أموال الفراعنة قد أصبحت خزفا وحجرا بعد هذه اللعنة ، ربّما كان كناية عن أنّ التدهور الاقتصادي قد بلغ بهم أن سقطت فيه قيمة ثرواتهم تماما وأصبحت كالخزف لا قيمة لها!

ثمّ أضافت( وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ) اي : اسلبهم قدرة التفكير والتدبّر أيضا لأنّهم بفقدانهم هاتين الدعامتين (المال والفكر) سيكونون على حافة الزوال والفناء ، وسينفتح أمامنا طريق الثورة ، وتوجيه الضربة النهائية لهؤلاء.

اللهم إن كنت قد طلبت ذلك منك في حق الفراعنة فليس ذلك نابعا من روح الانتقام والحقد ، بل لأنّ هؤلاء قد فقدوا أرضية الإيمان أبدا :( فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) ومن الطبيعي أنّ الإيمان بعد مشاهدة العذاب ـ كما سيأتي قريبا ـ لا ينفع هؤلاء أيضا.

ثمّ خاطب الله سبحانه وتعالى موسى وأخاه بأنّه : الآن وقد أصبحتما مستعدين لتربية وبناء قوم بني إسرائيل( قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما ) في سبيل الله ولا تخافا سيل المشاكل ، وكونا حازمين في أعمالكما ولا تستسلما أمام اقتراحات الجاهلين ، بل استمرا في برنامجكما الثوري( وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

* * *

٤٢٥

الآيات

( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) )

التّفسير

الفصل الأخير من المجابهة مع الظّالمين :

هذه الآيات جسّدت آخر مرحلة من المواجهة بين بني إسرائيل والفراعنة وبيّنت مصير هؤلاء في عبارات قصيرة ، لكنّها دقيقة وواضحة ـ كما هو دأب القرآن ـ وتركت المطالب الأخرى تفهم من الجمل السابقة واللاحقة.

٤٢٦

فتقول أوّلا : إنّنا جاوزنا ببني إسرائيل البحر ـ وهو نهر النيل العظيم أطلق عليه اسم البحر لعظمته ـ أثناء مواجهتهم للفراعنة ، وعند ما كانوا تحت ضغط ومطاردة هؤلاء :( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ) إلّا أنّ فرعون وجنوده طاردوا هؤلاء من أجل القضاء على بني إسرائيل :( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً ) .

«البغي» يعني الظلم ، «والعدو» بمعنى التعدي ، أي إنّ هؤلاء إنّما طاردوهم وتعقبوهم لغرض الظلم والتعدي عليهم ، أي على بني إسرائيل.

جملة «فأتبعهم» توحي بأنّ فرعون وجنوده قد تتبعوا بني إسرائيل طوعا ، وتؤيد بعض الرّوايات هذا المعنى ، والبعض الآخر تخالف هذا المعنى ، إلّا أن ما يفهم ويستفاد من ظاهر الآية هو الحجة على كل حال.

أمّا كيفية عبور بني إسرائيل للبحر ، وأي إعجاز وقع في ذلك الحين ، فإنّ شرح ذلك سيأتي في ذيل الآية (63) من سورة الشعراء ، إن شاء الله تعالى.

على كل حال ، فإنّ هذه الأحداث قد استمرت حتى أوشك فرعون على الغرق ، وأصبح كالقشة تتقاذفه الأمواج وتلهو به ، فعنذاك زالت حجب الغرور والجهل من أمام عينه، وسطع نور التوحيد الفطري وصدع بالإيمان :( حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ) فلست مؤمنا بقلبي فقط ، بل إنّي من المسلمين عمليا:( وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .

ولما تحققت تنبؤات موسىعليه‌السلام الواحدة تلو الأخرى وأدرك فرعون صدق هذا النّبي الكبير أكثر فأكثر وشاهد قدرته وقوته ، اضطر إلى إظهار الإيمان على أمل أن ينقذه ربّ بني إسرائيل كما أنجاهم من هذه الأمواج المتلاطمة ولذلك يقول : آمنت أنّه لا إله إلّا الذي آمنت به بنو إسرائيل!

إلّا أنّ من البديهي أنّ مثل هذا الإيمان الذي يتجلّى عند نزول البلاء ونشوب أظفار الموت ، إيمان اضطراري يتشبث به كل جان ومجرم ومذنب وليست له أية قيمة ، أو يكون دليلا على حسن نيته أو صدق قوله ، ولهذا فإنّ الله سبحانه خاطبه

٤٢٧

فقال :( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) .

وقد قرأنا سابقا في الآية (18) من سورة النساء :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) ولهذا فإنّ كثير من الناس ما أن تستقر بهم الحال وينجون من الموت يعودون إلى أوضاعهم وأعمالهم السابقة. ونظير هذا التعبير الذي ورد أعلاه جاء أيضا في اشعار وكلمات الأدباء العرب والعجم ، مثل :

أتت وحياض الموت بيني وبينها

وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل

لكن( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) آية للحكام المستكبرين ولكل الظالمين والمفسدين ، وآية للفئات المستضعفة.

هناك بحث بين المفسّرين المراد من البدن هنا ، فأكثرهم يرى بأنّ المراد هو جسد فرعون الذي فارقته الروح ، لأنّ عظمة فرعون في أفكار الناس في ذلك المحيط بلغت حدّا بحيث أنّ الكثير لو لا ذلك لم يكن يصدق أن فرعون يمكن أن يغرق ، وكان من الممكن أن تنسج الأساطير والخرافات الكاذبة حول نجاة وحياة فرعون بعد هذه الحادثة ، لذلك ألقى الله سبحانه جسده خارج الماء.

اللطيف هنا ، أنّ البدن في اللغة ـ كما قال الراغب في مفرداته ـ يعني الجسد العظيم ـ وهذا يدلنا على أن فرعون كان عظيم الهيكل ممتلئ الجسم كما هو الحال في الكثير من أهل الترف والرفاه الدنيوي!

إلّا أنّ البعض الآخر قالوا : إنّ أحد معاني البدن هو الدرع ، وهذا إشارة إلى أن الله سبحانه قد أخرج فرعون من الماء بدرعه الذهبي الذي كان على بدنه ليعرف عن طريقه ، ولا يبقى أي مجال للشك في أنّه فرعون.

هذه النقطة أيضا تستحق الانتباه ، وهي أنهم استفادوا من جملة «ننجيك» أنّ الله سبحانه قد أمر الأمواج أن تلقي بدنه على مكان مرتفع عن الساحل لأنّ مادة «النجوة» تعني المكان المرتفع والأرض العالية.

٤٢٨

والنقطة الأخرى التي تلاحظ في الآية أنّ جملة :( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ) قد بدأت بفاء التفريع ، ومن الممكن أن يكون ذلك إشارة إلى أن إيمان فرعون الباهت في هذه اللحظة اليائسة وفي ساعة الاحتضار كان كالجسد بدون روح ولذلك أثر بالمقدار الذي أنجى الله جسد فرعون من الماء بعد أن فارقته الروح ، حتى لا يكون طعمة للأسماك وليكون عبره للأجيال القادمة!

ويوجد الآن في متاحف مصر وبريطانيا جثة أو جثتين من جثث الفراعنة التي بقيت محنّطة بالمومياء ، فهل أنّ بدن فرعون المعاصر لموسى من بينها حيث حفظوه فيما بعد بالمومياء ، أم لا؟

لا يمكننا اثبات ذلك ، إلّا أنّ تعبير( لِمَنْ خَلْفَكَ ) يقوي هذا الاحتمال في أن بدن ذلك الفرعون من بين هذه الأبدان ، ليكون عبرة لكل الأجيال القادمة ، لأنّ تعبير الآية مطلق ويشمل كل الأجيال في المستقبل (فتدبر جيدا).

ويقول في نهاية الآية : إنّه وبالرغم من كل هذه الآيات والدلالات على قدرة الله ، ومع كل الدروس والعبر التي ملأت تاريخ البشر فإنّ الكثير معرضون عنها( وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ ) .

وتبيّن آخر آية من هذه الآيات النصر النهائي لبني إسرائيل ، والرجوع إلى الأرض المقدسة بعد الخلاص من قبضة الفراعنة ، فتقول :( وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ) .

إنّ التعبير ب( مُبَوَّأَ صِدْقٍ ) يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الله سبحانه قد وفى بما وعد به بني إسرائيل وأرجعهم إلى الوطن الموعود ، أو أنّ( مُبَوَّأَ صِدْقٍ ) إشارة إلى طهارة وقدسية هذه الأرض ، وبذلك تناسب أرض الشام وفلسطين التي كانت محط الأنبياء والرسل.

وقد احتمل جماعة أن يكون المراد أرض مصر ، كما يقول القرآن في سورة الدخان / الآية (25) ـ (28) :( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ ) .

٤٢٩

وقد جاء هذا المضمون في الآية (57) ـ (59) من سورة الشعراء ، ونقرأ في آخرها :( وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ ) .

من هذه الآيات نخرج بأنّ بني إسرائيل قد بقوا فترة في مصر قبل الهجرة إلى الشام ، وتنعّموا ببركات تلك الأرض المعطاء.

ثمّ يضيف القرآن الكريم :( وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) ولا مانع بالطبع من أن تكون أرض مصر هي المقصودة ، وكذلك أراضي الشام وفلسطين. إلّا أنّ هؤلاء لم يعرفوا قدر هذه النعمة( فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ ) وبعد مشاهدة كل تلك المعجزات التي جاء بها موسى ، وأدلة صدق دعوته ، إلّا( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) وإذا لم يتذوقوا طعم عقاب الاختلاف اليوم ، فسيذوقونه غدا.

وقد احتمل ـ أيضا ـ في تفسير هذه الآية ، أن يكن المراد من الاختلاف هو الاختلاف بين بني إسرائيل واليهود المعاصرين للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبول دعوته ، أي إنّ هؤلاء رغم معرفتهم صدق دعوته حسب بشارات وعلامات كتبهم السماوية ، فإنّهم اختلفوا ، فآمن بعضهم ، وامتنع القسم الأكبر عن قبول دعوته ، وإنّ الله سبحانه سيقضي بين هؤلاء يوم القيامة.

إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أنسب لظاهر الآية.

كان هذا الحديث عن قسم من ماضي بني إسرائيل المليء بالعبر ، والذي بيّن ضمن آيات في هذه السورة ، وما أشبه حال أولئك بمسلمي اليوم ، فإنّ الله قد نصر المسلمين بفضله مرّات كثيرة. وقهر أعداءهم الأقوياء بصورة إعجازية ، ونصر بفضله ورحمته هذه الأمة المستضعفة على أولئك المتجبرين ، إلّا أنّهم وللأسف الشديد ، بدل أن يجعلوا هذا النصر وسيلة لنشر دين الإسلام في جميع أرجاء العالم ، فإنّهم قد اتّخذوه ذريعة للتفرقة وإيجاد النفاق والاختلاف بحيث عرّضوا كل انتصاراتهم للخطر! اللهم نجّنا من كفران النعمة هذا.

* * *

٤٣٠

الآيات

( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) )

التّفسير

لا تدع للشك طريقا إلى نفسك!

لمّا كانت الآيات السابقة قد ذكرت جوانب من ماضي الأنبياء والأمم السابقة ، وكان من الممكن أن يشكك بعض المشركين ومنكري دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحة ذلك ، فقد طلب القرآن من هؤلاء أن يراجعوا أهل الكتاب للتأكد والعلم بصحة هذه الأقوال ، وليسألوهم عن ذلك ، لأنّ كثيرا من هذه المسائل قد ورد في كتب هؤلاء.

إلّا أنّه بدل أن يوجه الخطاب لهؤلاء ، خاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ) ( فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ) ليثبت عن هذا الطريق بأنّه( لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ) .

٤٣١

ويحتمل أيضا أنّ الآية أعلاه تطرح بحثا جديدا ومستقلا في صدق دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتعلم المخالفين أنّهم إن كانوا في شك من أحقيته فليسألوا أهل الكتاب عن علاماته التي نزلت في الكتب السابقة كالتّوراة والإنجيل.

ونقل سبب آخر للنزول في بعض التفاسير(1) يؤيد هذا المعنى ، وهو أن جمعا من كفار قريش كانوا يقولون : إنّ هذا القرآن لم ينزل من الله ، بل إنّ الشيطان يلقيه على محمّد!! وقد سبب هذا الكلام أن يقع عدّة أشخاص في وادي الشك والتردد ، فأجابهم بهذه الآية.

هل كان النّبي شاكّا؟!

يمكن أن يتراءى للنظر في البداية أنّ هذه الآيات تحكي عن أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان شاكّا في صدق الآيات التي كانت تنزل عليه ، وأنّ الله سبحانه قد أزال شكّه عن الطريق أعلاه.

ولكن واقع الأمر أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتلقى مسألة الوحي مع الشهود والمشاهدة ـ كما تحكي آيات القرآن هذا المعنى ـ ومعه لا يبقي أي معنى للشك في هذا المورد. إضافة إلى أنّ هذا الأسلوب من خطاب القريب من أجل تنبيه البعيد رائج في العرف ، وهذا هو المراد من المثل المعروف : إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، وتأثير مثل هذا الكلام أكبر من الخطاب الصريح في كثير من الموارد.

إضافة إلى أن ذكر الجملة الشرطية لا يدل دائما على احتمال وجود الشرط ، بل هو للتأكيد على مسأله ما أحيانا ، أو لبيان قانون كلي عام ، فنقرأ مثلا في الآية (23) من سورة الإسراء :( وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) وينبغي الانتباه إلى أنّ المخاطب في الآية هو النّبي ظاهرا ، إلّا أنّه لما كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد أباه قبل ولادته وأمّه في

__________________

(1) تفسير أبي الفتوح الرازي ، الجزء 6 ، ص 227 ذيل الآية.

٤٣٢

طفولته ، فإنّ من الواضح أنّ احترام الوالدين طرح هنا كقانون عام بالرغم من أن المخاطب ظاهرا هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وكذلك نقرأ في سورة الطلاق :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) وهذا التعبير لا يدل على أن النّبي قد طلق امرأة في حياته ، بل هو بيان قانون عام ، والبديع في هذا التعبير أنّ المخاطب في بداية الجملة هو النّبي ، وفي نهايتها كل الناس.

ومن جملة القرائن التي تؤيد أنّ المقصود الأساس في الآية هم المشركون والكافرون ، الآيات التي تتلو هذه الآية والتي تتحدث عن كفر وجحود هؤلاء.

ويلاحظ نظير هذا الموضوع في الآيات المرتبطة بالمسيح ، عند ما يسأله الله يوم القيامة :( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) ؟ فإنّه ينكر هذه المسألة بصراحة ، ويضيف :( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ) سورة المائدة من الآية (116).

ثمّ تضيف الآية التّالية :( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ ) من بعد ما اتّضحت لك آيات الله وصدق هذه الدعوة.

إنّ الآية السابقة تقول بأنّك إن كنت في شك فاسأل أولئك المطلعين العالمين ، وتقول هذه الآية بأنّك يجب أن تسلم مقابل هذه الآيات بعد أن ارتفعت عوامل الشك ، وإلّا فإنّ مخالفة الحق لا عاقبة لها إلّا الخسران.

إنّ هذه الآية قرينة واضحة على أنّ المقصود من الآية السابقة هم عموم الناس بالرغم من أن الخطاب موجه إلى شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ من البديهي أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يكذب الآيات الإلهية مطلقا ، بل كان المدافع المستميت الصلب عن دينه.

ثمّ أنّها تخبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ من بين مخالفيك جماعة متعصبين عنودين لا فائدة من انتظار إيمانهم ، فإنّهم قد مسخوا من الناحية الفكرية ، وتوغلوا في طريق الباطل إلى الحد الذي فقدوا معه الضمير الإنساني الحي تماما ، وتحولوا إلى

٤٣٣

موجودات لا يمكن اختراقها ، غاية ما في الأمر أنّ القرآن الكريم يبيّن هذا الموضوع بهذا التعبير :( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وحتى إذا جاءتهم كل الآيات والدلالات فإنّهم لا يؤمنون :( وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) ولا أثر لإيمانهم في ذلك الوقت.

إنّ الآيات الأولى من الآيات مورد البحث تدعو عامّة الناس إلى المطالعة والتحقيق والسؤال من أهل العلم ، ثمّ طلبت منهم أن ينصروا الحق ويدافعوا عنه بعد أن اتّضح لهم. إلّا أنّ الآيات الأخيرة تقول : لا تتوقّع أن يؤمن كل هؤلاء ، لأنّ البعض قد فسد قلبه بحيث لا يمكن إصلاحه ، فلا يثبطك عدم ايمانهم عن مواصلة الطريق. ولا تتعب نفسك في سبيل هدايتهم ، بل توجه إلى الأكثرية من الناس ممّن لهم أهلية الهداية.

وكما كررنا مرارا ، فإنّ التعبيرات التي تشابه هذه الآية السابقة ليست دليلا على الجبر أبدا ، بل هي من قبيل ذكر آثار عمل الإنسان ، لكن لما كان أثر كل شيء بأمر الله ، فإنّ هذه الأمور تنسب إلى الله أحيانا.

ويبدو أنّ ذكر هذه النقطة مهم أيضا ، وهي أنّنا قرأنا في بعض الآيات السابقة في شأن فرعون أنّه قد أظهر الإيمان بعد نزول العذاب والوقوع في قبضة الطوفان ، إلّا أن مثل هذا الإيمان لما كان يتصف بالاضطرار لم ينفعه. إلّا أنّ هذه الآيات تقول إنّ هذا لم يكن أسلوب وطريق فرعون وحده ، بل هو طريق كل العنودين الأنانيين المستكبرين المسودّه قلوبهم الذين وصلوا إلى قمة الطغيان ولديهم نفس هذه الحالة ، فإنّ هؤلاء أيضا لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، ذلك الإيمان العديم الأثر بالنسبة لهؤلاء.

* * *

٤٣٤

الآية

( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) )

التّفسير

الامّة التي آمنت في الوقت المناسب!

تحدثت الآيات السابقة عن فرعون خاصّة ، والأقوام السابقة بصورة عامّة ، وهي أنّ هؤلاء امتنعوا من الإيمان بالله في وقت الإختيار والسلامة ، إلّا أنّهم لما أشرفوا على الموت والعذاب الإلهي أظهروا الإيمان الذي لم يكن نافعا لهم آنذاك.

وتطرح الآية التي نبحثها هذه المسألة كقانون عام ، فتقول :( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها ) . ثمّ استثنت قوم يونس فقالت :( إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) أي إلى آخر عمرهم.

إنّ كلمة «لو لا» تعني هنا النفي على رأي بعض المفسّرين ، ولذلك تمّ الاستثناء منها بواسطة «إلّا» وعلى هذا الأساس يصبح معنى الجملة : لم يؤمن أي من الأقوام والأمم التي عاشت في الماضي في المدن والأماكن المعمورة أمام أنبياء الله

٤٣٥

بصورة جماعية إلّا قوم يونس.

إلّا أنّ البعض الآخر معتقد بأنّ كلمة «لو لا» لم تأت بمعنى النفي ، بل أتت دائما بمعنى التحضيض ـ ويقال للسؤال المقترن بالتوبيخ والتحريك تحضيض ـ إلّا أن لازم مفهومها في مثل هذه الموارد يكون نفيا ، ولهذا يمكن أن يستثنى منها بـ «إلّا».

وعلى كل حال ، فلا شك في أنّ جماعات كثيرة من الأقوام السالفة آمنوا أيضا ، إلّا أنّ الذي يميز قوم يونس هو أنّهم آمنوا بأجمعهم دفعة واحدة ، وكان ذلك قبل حلول العقاب الإلهي الحتمي ، في حين أنّ جماعة كبيرة من بين الأقوام الأخرى بقوا على مخالفتهم وعنادهم حتى صدر القرار الإلهي بالعذاب الحتمي ، فلمّا رأى هؤلاء العذاب الأليم أظهر أغلبهم الإيمان ، إلّا أنّ إيمانهم ـ وللسبب الذي قلناه سابقا ـ لم يكن له أثر ولا نفع.

قصّة إيمان قوم يونس :

كانت قصّة هؤلاء على ما جاء في التواريخ ، أنّه عند ما يئس يونس من إيمان قومه القاطنين أرض نينوى في العراق ، دعا على قومه باقتراح من عابد كان يعيش بينهم ، في حين أنّ عالما كان معهم أيضا اقترح على يونس أن يدعو لهؤلاء لا عليهم ، وأن يستمر في إرشاده أكثر من قبل ولا ييأس.

يونس اعتزل قومه بعد الدعاء عليهم ، فاجتمع قومه الذين كانوا قد جربوا صدق أقواله حول ذلك الرجل العالم ، ولم يكن أمر العذاب القطعي قد صدر بعد ، إلّا أنّ علاماته قد شرعت في الظهور ، فاغتنم هؤلاء الفرصة وعملوا بنصيحة العالم وخرجوا معه خارج المدينة. للتضرع والدعاء ، وأظهروا الإيمان والتوبة ، ومن أجل أن يزداد توجههم الروحي فرقوا بين الأمهات والأولاد ، ولبسوا اللباس الخشن البالي وهبوّا للبحث عن نبيّهم فلم يعثروا له على أثر.

إلّا أنّ هذه التوبة والإيمان والرجوع إلى الله ، الذي تمّ في الوقت المناسب وعن

٤٣٦

وعي مقترن بالإخلاص قد أثر أثره ، وارتفعت علامات العذاب وعادت المياه الى مجاريها. ولمّا رجع يونس إلى قومه بعد احداث ووقائع كثيرة وقعت له قبلوه بأرواحهم وقلوبهم.

وسنبيّن تفصيل حياة يونس نفسه في ذيل الآيات (134 ـ 148) من سورة الصافات ، إن شاء الله تعالى.

والجدير بالذكر ، إنّ قوم يونس لم يستحقوا العذاب الإلهي ، الحتمي ، وإلّا لم تقبل توبتهم ، بل كانت تأتيهم الإنذارات والتحذيرات التي تظهر عادة قبل العذاب النهائي ، وقد كان مقدارها كافيا للتوعية ، في حين أنّ الفراعنة مثلا كانوا قد رأوا هذه الإنذارات مرارا ـ كحادثة الطوفان والجراد واختلاف ماء النيل الشديد وأمثالها ـ إلّا أنّهم لم يعبئوا بها مطلقا ولم يأخذوها بمنظار جدي. واكتفوا بالطلب من موسى أن يدعوا الله ليرفع عنهم هذه الابتلاءات ليؤمنوا ، لكنّهم لم يؤمنوا مطلقا.

ثمّ إنّ القصّة أعلاه تبيّن بصورة ضمنية مدى تأثير القائد الواعي الرشيد الحريص في القوم أو الأمّة ، في حين أن العابد الذي لا يمتلك الوعي الكافي يعتمد على الخشونة أكثر ، وهكذا يفهم من هذه الرّواية منطق الإسلام في المقارنة بين العبادة الجاهلة. والعلم الممتزج بالإحساس بالمسؤولية.

* * *

٤٣٧

الآيتان

( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) )

التّفسير

لا خير في الإيمان الإجباري :

لقد طالعنا في الآيات السابقة أنّ الإيمان الاضطراري لا يجدي نفعا أبدا ، ولهذا فإنّ الآية الأولى من هذه الآيات تقول :( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) وبناء على هذا فلا يعتصر قلبك ألما لعدم إيمان جماعة من هؤلاء ، فإنّ من مستلزمات أصل حرية الإرادة والإختيار أن يؤمن جماعة ويكفر آخرون ، وإذا كان الأمر كذلك( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ؟

إنّ هذه الآية تنفي بصراحة مرّة أخرى التهمة الباطلة التي قالها ويقولها أعداء الإسلام بصورة مكررة ، حيث يقولون : إنّ الإسلام دين السيف ، وقد فرض بالقوّة والإجبار على شعوب العالم ، فتجيب الآية ـ ككثير من آيات القرآن الأخرى ـ بأنّ الإيمان الإجباري لا قيمة له ، والدين والإيمان شيء ينبع عادة من أعماق

٤٣٨

الروح ، لا من الخارج وبواسطة السيف ، خاصّة وأنّها حذرت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إكراه وإجبار الناس على الإيمان والإسلام.

الآية التّالية قد ذكرت هذه الحقيقة أيضا ، وهي أنّ البشر وإن كانوا أحرارا في اختيارهم ، إلّا أنّه( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) ولهذا فإنّ هؤلاء قد ساروا في طريق الجهل وعدم التعقل ، ولم يكونوا مستعدين للاستفادة من رأس مال فكرهم وعقلهم ، وسوف لا يوفقون للإيمان وهم على هذا الحال ، إذ( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) .

* * *

ملاحظتان

1 ـ من الممكن أن يتصور في البداية أنّ هناك تنافيا وتضادا بين الآية الأولى والثّانية، إذ أنّ الآية الأولى تقول : إنّ الله لا يجبر أحدا على الإيمان ، في حين أن الآية الثّانية تقول : إنّ أحدا لا يمكن أن يؤمن حتى يأذن الله!

إلّا أنّ التنبه إلى نكتة واحدة يرفع هذا التضاد الظاهري ، وهي أنّنا نعتقد بأنّ الجبر غير صحيح ، كما أنّ التفويض غير صحيح أيضا ، أي أن الناس ليسوا مجبورين تماما على أعمالهم ، ولا هم متروكون وأنفسهم يعملون ما يشاءون ، بل إنّهم في الوقت الذي يكونون فيه أحرارا في الإرادة ، فإنّهم في حاجة للمعونة الالهية ، لأنّ الله سبحانه هو الذي يعطيهم حرية الإرادة ، فالعقل والوجدان الطاهر هما من مواهبه وعطاياه ، وإرشاد الأنبياء وهداية الكتب السماوية من جانبه أيضا ، وبناء على هذا ففي عين حرية الإرادة والإختيار ، فإنّ منبع هذه الهبة وما ينتج عنها من جانب الله سبحانه. دققوا ذلك.

2 ـ إنّ آخر جملة من الآية الأخيرة ، أي( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) لا ينبغي أن تفسر بمعنى الجبر مطلقا ، لأنّ جملة( لا يَعْقِلُونَ ) دليل على

٤٣٩

اختيار هؤلاء ، أي أنّ هؤلاء الأفراد قد امتنعوا من التفكير والتدبر أوّلا. فاتلوا في النهاية بهذا العقاب ، الذي هو الرجس وقذارة الشك والتردد وظلمة القلب والخطأ في التفكير الذي سلط على هؤلاء حتى سلبت منهم القدرة على الإيمان ، إلّا أنّه ينبغي الانتباه إلى أنّ مقدمات العذاب قد هيأها هؤلاء بأنفسهم ، وفي مثل هذه الأحوال فإنّ الله تعالى لا يأذن في إيمان هؤلاء.

وبتعبير آخر ، فإنّ هذه الجملة تشير إلى أنّ إذن الله وأمره ليس أمرا اعتباطيا غير مدروس ومحسوب ، بل إنّه يشمل أولئك الذين لهم أهلية الإيمان ، أمّا غير اللائقين فإنّهم سيحرمون منه.

* * *

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608