الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 252666 / تحميل: 6018
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ألا ترى إلى قوله( الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ) وقوله( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ ) فهذه الوجوه كلها تقتضي تفضيلها وقوله تعالى( فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ) الآية يدل على أن كثرة المعاصي ومساكنتها وألفها تقسى القلب وتبعد من التوبة وهو نحو قوله( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) وقوله تعالى( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) روى البراء بن عازب عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن كل مؤمن شهيد لهذه الآية وجعل قوله( وَالشُّهَداءُ ) صفة لمن تقدم ذكره من المؤمنين وهو قول عبد الله ومجاهد وقال ابن عباس ومسروق وأبو الضحى والضحاك هو ابتداء كلام وخبره( لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) وقوله تعالى( وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ) الآية قال أبو بكر أخبر عما ابتدعوه من القرب والرهبانية ثم ذمهم على ترك رعايتها بقوله( فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها ) والابتداع قد يكون بالقول وهو ما ينذره ويوجبه على نفسه وقد يكون بالفعل بالدخول فيه وعمومه يتضمن الأمرين فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة قولا أو فعلا فعليه رعايتها وإتمامها فوجب على ذلك أن من دخل في صلاة أو صوم أو حج أو غيرها من القرب فعليه إتمامها إلا وهي واجبة عليه فيجب عليه القضاء إذا أفسدها وروى عن أبى أمامة الباهلي قال كان ناس من بنى إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فلم يرعوها حق رعايتها فعابهم الله بتركها فقال( وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ) الآية آخر سورة الحديد.

سورة المجادلة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله عز وجل( قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ـ إلى قوله ـوَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) روى سفيان عن خالد عن أبى قلابة قال كان طلاقهم في الجاهلية الإيلاء والظهار فلما جاء الإسلام جعل الله في الظهار ما جعل فيه وجعل في الإيلاء ما جعل فيه وقال عكرمة كانت النساء تحرم بالظهار حتى أنزل الله( قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ) الآية وأما المجادلة التي كانت في المرأة فإن عبد الله بن محمد حدثنا قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أبى إسحاق في قوله( قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ) في امرأة تقال لها خويلة وقال عكرمة بنت ثعلبة زوجها أوس بن

٣٠١

الصامت قالت إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أراك إلا قد حرمت عليه وهو يومئذ يغسل رأسه فقالت انظر جعلني الله فداك يا نبي الله قال ما أراك إلا قد حرمت عليه فأعادت ذلك مرارا فأنزل الله( قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ـ إلى قوله ـثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) قال قتادة حرمها ثم يريد أن يعود لها فيطأها فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا قال أبو بكر قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أراك إلا قد حرمت عليه يحتمل أن يريد به تحريم الطلاق على ما كان عليه حكم الظهار ويحتمل أن يريد به تحريم الظهار والأولى أن يكون المراد بجميع الطلاق لأن حكم الظهار مأخوذ من الآية والآية نزلت بعد هذا القول فثبت أن مراده تحريم الطلاق ورفع النكاح وهذا يوجب أن يكون هذا الحكم قد كان ثابتا في الشريعة قبل نزول آية الظهار وإن كان قبل ذلك من حكم أهل الجاهلية فإن قيل إن كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حكم فيها بالطلاق بقوله ما أراك إلا قد حرمت فكيف حكم فيها بعينها بالظهار بعد حكمه بالطلاق بذلك القول بعينه في شخص بعينه وإنما النسخ يوجب الحكم في المستقبل بخلاف الأول في الماضي قيل له لم يحكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالطلاق وإنما علق القول فيه فقال ما أراك إلا قد حرمت فلم يقطع بالتحريم وجائز أن يكون الله تعالى قد أعلمه قبل ذلك أنه سينسخ هذا الحكم وينقله من الطلاق إلى تحريم الظهار الآن فجوز النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزل الله الآية فلم يثبت الحكم فيه فلما نزلت الآية حكم فيها بموجبها وقوله تعالى( وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً ) يعنى والله أعلم في تشبيهها بظهر الأم لأن الاستمتاع بالأم محرم تحريما مؤبدا وهي لا تحرم عليه بهذا القول تحريما مؤبدا فكان ذلك منكرا من القول وزورا وقوله تعالى( الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ) وذلك خطاب للمؤمنين يدل على أن الظهار مخصوص به المؤمنون دون أهل الذمة فإن قيل فقد قال الله تعالى( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) ولم يخصص المذكورين في الثانية قيل له المذكورون في الآية الثانية هم المذكورون في الآية الأولى فوجب أن يكون خاصا في المسلمين دون غيرهم وأما قوله( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) فقد اختلف الناس فيه فروى معمر عن طاوس عن أبيه( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) قال الوطء فإذا حنث فعليه الكفارة وهذا تأويل مخالف للآية لأنه قال( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) وقد روى سفيان عن ابن أبى نجيح عن طاوس قال إذا تكلم بالظهار لزمه وروى عن ابن عباس

٣٠٢

أنه إذا قال أنت على كظهر أمى لم تحل له حتى يكفر وروى عن ابن شهاب وقتادة إذا أراد جماعها لم يقربها حتى يكفر وقد اختلف فقهاء الأمصار في معنى العود فقال أصحابنا والليث ابن سعد الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة ومعنى العود عندهم استباحة وطئها فلا يفعله إلا بكفارة يقدمها وذكر بشر بن الوليد عن أبى يوسف لو وطئها ثم ماتت لم يكن عليه كفارة وقال الثوري إذا ظاهره بها لم تحل له إلا بعد الكفارة وإن طلقها ثم تزوجها لم يطأها حتى يكفر وهذا موافق لقول أصحابنا وقال ابن وهب عن مالك إذا أجمع بعد الظهار على إمساكها وإصابتها فقد وجبت عليه الكفارة فإن طلقها بعد الظهار ولم يجمع على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة الظهار وذكر ابن القاسم عنه أنه إذا ظاهر منه ثم وطئها ثم ماتت فلا بد من الكفارة لأنه وطئ بعد الظهار وقال أشهب عن مالك إذا أجمع بعد الظهار على إمساكها وإصابتها وطلب الكفارة فماتت امرأته فعليه الكفارة وقال الحسن إذا أجمع رأى المظاهر على أن يجامع امرأته فقد لزمته الكفارة وإن أراد تركها بعد ذلك لأن العود هو الإجماع على مجامعتها وقال عثمان البتى فيمن ظاهر من امرأته ثم طلقها قبل أن يطأها قال أرى عليه الكفارة راجعها أو لم يراجعها وإن ماتت لم يصل إلى ميراثها حتى يكفر وقال الشافعى إن أمكنه أن يطلقها بعد الظهار فلم يطلق فقد وجبت الكفارة ماتت أو عاشت وحكى عن بعض من لا يعد خلافا أن العود أن يعيد القول مرتين قال أبو بكر روت عائشة وأبو العالية أن آية الظهار نزلت في شأن خولة حين ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت فأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعتق رقبة فقال لا أجد فقال صم شهرين متتابعين قال لو لم آكل في اليوم ثلاث مرات كاد أن يغشى على بصرى فأمره بالإطعام وهذا يدل على بطلان قول من اعتبر العزم على إمساكها ووطئها لأنه لم يسئله عن ذلك وبطلان قول من اعتبر إرادة الجماع لأنه لم يسئله وبطلان قول من اعتبر الطلاق لأنه لم يقل هل طلقتها وبطلان قول من اعتبر إعادة القول لأنه لم يسئله هل أعدت القول مرتين فثبت قول أصحابنا وهو أن لفظ الظهار يوجب تحريما ترفعه الكفارة ومعنى قوله تعالى( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) يحتمل وجهين أحدهما ذكر الحال الذي خرج عليه الخطاب وهو أنه قد كان من عادتهم في الجاهلية الظهار فقال( الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ) قبل هذه الحال( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) والمعنى ويعودون

٣٠٣

بعد الإسلام إلى ذلك كما قال تعالى( فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ ) ومعناه والله شهيد فيكون نفس القول عود إلى العادة التي كانت لهم في ذلك كما قال( حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) والمعنى حتى صار كذلك وكما قال أمية بن أبى الصلت :

هذى المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

معناه صارا كذلك لأنهما في الثدي لم يكونا كذلك وكما قال لبيد :

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

ويحور يرجع وإنما معناه هاهنا يصير رمادا كذلك( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) إنهم يصيرون إلى حال الظهار الذي كان يكون مثله منهم في الجاهلية والوجه الآخر أنه معلوم أن حكم الله في الظهار إيجاب تحريم الوطء موقتا بالكفارة فإذا كان الظهار مخصوصا بتحريم الوطء دون غيره ولا تأثير له في رفع النكاح وجب أن يكون العود هو العود إلى استباحة ما حرمه بالظهار فيكون معناه يعودون للمقول فيه كقولهعليه‌السلام العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه وإنما هو عائد في الموهوب وكقولنا اللهم أنت رجاؤنا أى من رجونا وقال تعالى( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) يعنى الموقن به وقال الشاعر :

أخبر من لاقيت إن قد وفيتم

ولو شئت قال المنبئون أساؤا

وإنى لراجيكم على بطء سعيكم

كما في بطون الحاملات رجاء

يعنى مرجوا وكذلك قوله( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) معناه لما حرموا فيستبيحونه فعليهم الكفارة قبل الاستباحة ويبطل قول من اعتبر البقاء على النكاح من وجهين أحدهما أن الظهار لا يوجب تحريم العقد والإمساك فيكون العود إمساكها على النكاح لأن العود لا محالة قد اقتضى عودا إلى حكم معنى قد تقدم إيجابه فلا يجوز أن يكون للإمساك على النكاح فيه تأثير والثاني إنه قال( ثُمَّ يَعُودُونَ ) وثم يقتضى التراخي ومن جعل العود البقاء على النكاح فقد جعله عائدا عقيب القول بلا تراخ وذلك خلاف مقتضى الآية وأما من جعل العود العزيمة على الوطء فلا معنى لقوله أيضا لأن موجب القول هو تحريم الوطء لا تحريم العزيمة والعزيمة على المحظور وإن كانت محظورة فإنما تعلق حكمها بالوطء فالعزيمة على الانفراد لا حكم لها وأيضا لا حظ للعزيمة في سائر الأصول ولا

٣٠٤

تتعلق بها الأحكام ألا ترى أن سائر العقود والتحريم لا يتعلق بالعزيمة فلا اعتبار بها وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله عفا لأمتى عما حدثت أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا به فإن قيل هلا كان العود إعادة القول مرتين لأن اللفظ يصلح أن يكون عبارة عنه كما قال الله تعالى( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) ومعناه لفعلوا مثل ما نهوا عنه قيل له هذا خطأ من وجهين أحدهما أن إجماع السلف والخلف جميعا قد انعقد بأن هذا ليس بمراد فقائله خارج عن نطاق الإجماع والثاني أنه يجعل قوله( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) تكرارا للقول واللفظ ولا يجوز أن يكون عبارة عنه وإن حملته على أنه عائد لمثل القول ففيه إضمار لمثل ذلك القول وذلك لا يجوز إلا بدلالة فالقائل بذلك خارج عن الإجماع ومخالف لحكم الآية ومقتضاها فإن قيل وأنت إذا حملته على تحريم الوطء وأن تقديم الكفارة لاستباحة الوطء فقد زلت عن الظاهر قيل له إذا كان الظهار قد أوجب تحريم الوطء فالذي يستبيحه منه هو الذي حرمه بالقول فجاز أن يكون ذلك عودا لما قال إذ هو مستبيح لذلك الوطء الذي حرمه بعينه وكان عودا لما قال من إيجاب التحريم ومن جهة أخرى أن الوطء إذا كان مستحقا بعقد النكاح وحكم الوطء الثاني كالأول في أنه مستحق بسبب واحد ثم حرمه بالظهار جاز أن يكون الإقدام على استباحته عودا لما حرم فكان هذا المعنى مطابقا للفظ فإن قيل إن كانت الاستباحة هي الموجبة للكفارة فليس يخلو ذلك من أن يكون العزيمة على الاستباحة وعلى الإقدام على الوطء أو إيقاع الوطء فإن كان المراد الأول فهذا يلزمك إيجاب الكفارة بنفس العزيمة قبل الوطء كما قال مالك والحسن ابن صالح وإن كان المراد إيقاع الوطء فواجب أن لا تلزمه الكفارة إلا بعد الوطء وهذا خلاف الآية وليس هو قولك أيضا قيل له المعنى في ذلك هو ما قد بينا من الإقدام على استباحة الوطء فقيل له إذا أردت الوطء وعدت لاستباحة ما حرمته فلا تطأ حتى تكفر لا أن الكفارة واجبة ولكنها شرط في رفع التحريم كقوله تعالى( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) يعنى فقدم الاستعاذة قبل القراءة وقوله( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) والمعنى إذا أردتم القيام وأنتم محدثون فقدموا الغسل وكقوله( إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) وكقوله( إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ )

«20 ـ أحكام مس»

٣٠٥

والمعنى إذا أردتم ذلك قال أبو بكر قد ثبت بما قدمنا أن الظهار لا يوجب كفارة وإنما يوجب تحريم الوطء ولا يرتفع إلا بالكفارة فإذا لم يرد وطأها فلا كفارة عليه وإن ماتت أو عاشت فلا شيء عليه إذ كان حكم الظهار إيجاب التحريم فقط موقتا بأداء الكفارة وأنه متى لم يكفر فالوطء محظور عليه فإن وطئ سقط الظهار والكفارة وذلك لأنه علق حكم الظهار وما أوجب به من الكفارة بأدائها قبل الوطء لقوله( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) فمتى وقع المسيس فقد فات الشرط فلا تجب الكفارة بالآية لأن كل فرض محصور بوقت أو معلق على شرط فإنه متى فات الوقت وعدم الشرط لم يجب باللفظ الأول واحتيج إلى دلالة أخرى في إيجاب مثله في الوقت الثاني فهذا حكم الظهار إذا وقع المسيس قبل التكفير إلا أنه قد ثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا ظاهر من امرأته فوطئها قبل التكفير ثم سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له استغفر الله ولا تعد حتى تكفر فصار التحريم الذي بعد الوطء واجبا بالسنة وقد اختلف السلف فيمن وطأ ما الذي يجب عليه من الكفارة بعده فقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وابن المسيب ليس عليه إلا كفارة واحدة وكذلك قول مجاهد وطاوس وابن سيرين في آخرين وقد روى عن عمرو بن العاص وقبيصة بن ذؤيب والزهري وقتادة عليه كفارتان قال وروى عن ابن عباس أن رجلا قال يا رسول الله ظاهرت من امرأتى فجامعتها قبل أن أكفر فقال استغفر الله ولا تعد حتى تكفر فلم يوجب عليه كفارتين بعد الوطء واختلف الفقهاء في توقيت الظهار فقال أصحابنا والثوري والشافعى إذا قال أنت على كظهر أمى اليوم بطل الظهار بمضى اليوم وقال ابن أبى ليلى ومالك والحسن بن صالح هو مظاهر أبدا قال أبو بكر تحريم الظهار لا يقع إلا موقتا بأداء الكفارة فإذا وقته المظاهر وجب توقيته لأنه لو كان مما لا يتوقت لما انحل ذلك التحريم بالتكفير كالطلاق فأشبه الظهار اليمين التي يحلها الحنث فوجب توقيته كما يتوقت اليمين وليس كالطلاق لأنه لا يحله شيء فإن قيل تحريم الطلاق الثلاث يقع مؤقتا بالزوج الثاني ولا يتوقت بتوقيت الزوج إذا قال أنت طالق اليوم قيل له إن الطلاق لا يتوقت بالزوج الثاني وإنما يستفيد الزوج الأول بالزوج الثاني إذا تزوجها بعد ثلاث تطليقات مستقبلات والثلاث الأول واقعة على ما كانت وإنما استفاد طلاقا غيرها فليس في الطلاق توقيت بحال والظهار موقت لا محالة بالتكفير فجاز توقيته بالشرط واختلفوا في الظهار هل يدخل

٣٠٦

عليه إيلاء فقال أصحابنا والحسن بن صالح والثوري في إحدى الروايتين والأوزاعى لا يدخل الإيلاء على المظاهر وإن طال تركه إياها وروى ابن وهب عن مالك لا يدخل على حر إيلاء في ظهار إلا أن يكون مضارا لا يريد أن يفيء من ظهاره وأما العبد فلا يدخل على ظهاره إيلاء وقال ابن القاسم عنه يدخل الإيلاء على الظهار إذا كان مضارا ومما يعلم به ضراره أن يقدر على الكفارة فلا يكفر فإنه إذا علم ذلك وقف مثل المولى فإما كفر وإما طلقت عليه امرأته وروى عن الثوري أن الإيلاء يدخل على الظهار قال أبو بكر ليس الظهار كناية عن الطلاق ولا صريحا فلا يجوز إثبات الطلاق به إلا بتوقيف وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أدخل على أمرنا ما ليس منه فهو رد ومن أدخل الإيلاء على المظاهر فقد أدخل عليه ما ليس منه وأيضا نص الله على حكم المولى بالفيء أو عزيمة الطلاق ونص على حكم المظاهر بإيجاب كفارة قبل المسيس فحكم كل واحد منهما منصوص عليه فغير جائز حمل أحدهما على الآخر إذ من حكم المنصوصات أن لا يقاس بعضها على بعض وإن كل واحد منها مجرى على بابه ومحمول على معناه دون غيره وأيضا فإن معنى الإيلاء وقوع الحنث ووجوب الكفارة بالوطء في المدة ولا تتعلق كفارة الظهار بالوطء فليس هو إذا في معنى الإيلاء ولا في حكمه وأيضا فإن المولى سواء قصد الضرار أو لم يقصد لا يختلف حكمه وقد اتفقنا أنه متى لم يقصد الضرار بالظهار لم يلزمه حكم الإيلاء بمضى المدة فوجب أن لا يلزمه وإن قصد الضرار فإن قيل لم يعتبر ذلك في الإيلاء لأن نفس الإيلاء ينبئ عن قصد الضرار إذ هو حلف على الامتناع من الوطء في المدة قيل له الظهار قصد إلى الضرار من حيث حرم وطؤها إلا بكفارة يقدمها عليه فلا فرق بينهما فيما يقتضيانه من المضارة واختلف السلف ومن بعدهم فقهاء الأمصار في الظهار من الأمة فروى عبد الكريم عن مجاهد عن ابن عباس قال من شاء باهلته أنه ليس من أمة ظهار وهذا قول إبراهيم والشعبي وابن المسيب وهو قول أصحابنا والشافعى وروى عن ابن جبير والنخعي وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار قالوا هو ظهار وهو قول مالك والثوري والأوزاعى والليث والحسن بن صالح وقالوا يكون مظاهرا من أمته كما هو من زوجته وقال الحسن إن كان يطأها فهو مظاهر وإن كان لا يطأها فليس بظهار قال أبو بكر قال الله تعالى( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) وهذا اللفظ ينصرف من الظهار إلى الحرائر دون الإماء والدليل

٣٠٧

عليه قوله تعالى( أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ ) فكان المفهوم من قوله( أَوْ نِسائِهِنَ ) الحرائر لولا ذلك لما صح عطف قوله( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ ) عليه لأن الشيء لا يعطف على نفسه وقال تعالى( وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ) فكان على الزوجات دون ملك اليمين فلما كان حكم الظهار مأخوذا من الآية وكان مقتضاها مقصورا على الزوجات دون ملك اليمين لم يجز إيجابه في ملك اليمين إذ لا مدخل للقياس في إثبات ظهار في غير ما ورد فيه ووجه آخر ما بينا فيما سلف أنهم قد كانوا يطلقون بلفظ الظهار فأبدل الله تعالى به تحريما ترفعه الكفارة فلما لم يصح طلاق الأمة لم يصح الظهار منها ووجه آخر وهو أن الظهار يوجب تحريما من جهة القول يوجب الكفارة والأمة لا يصح تحريمها من جهة القول فأشبه سائر المملوكات من الطعام والشراب متى حرمها بالقول لم تحرم ألا ترى أنه لو حرم على نفسه طعاما أو شرابا لم يحرم ذلك عليه وإنما يلزمه إذا أكل أو شرب كفارة يمين فكذلك ملك اليمين وجب أن لا يصح الظهار منها إذ لا يصح تحريمها من جهة القول.

في الظهار بغير الأم

واختلفوا فيمن قال لامرأته أنت على كظهر أختى أو ذات محرم منه فقال أصحابنا هو مظاهر وإن قال كظهر فلانة وليست بمحرم منه لم يكن مظاهرا وهو قول الثوري والحسن بن صالح والأوزاعى وقال مالك وعثمان البتى يصح الظهار بالمحرم والأجنبية وللشافعي قولان أحدهما أن الظهار لا يصح إلا بالأم والآخر أنه يصح بذوات المحارم قال أبو بكر لما صح الظهار بالأم وكانت ذوات المحارم كالأم في التحريم وجب أن يصح الظهار بهن إذ لا فرق بينهن في جهة التحريم ألا ترى أن الظهار بالأم من الرضاعة صحيح مع عدم النسب لوجود التحريم فكذلك سائر ذوات المحارم وروى نحو قول أصحابنا عن جابر بن زيد والحسن وإبراهيم وعطاء وقال الشعبي إن الله تعالى لم ينس أن يذكر البنات والأخوات والعمات إنما الظهار من الأم وأيضا لما قال تعالى( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) اقتضى ظاهره الظهار بكل ذات محرم إذ لم يخصص الأم دون غيرها ومن قصرها على الأم فقد خص بلا دليل فإن قيل لما قال تعالى( ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ) دل على أنه أراد الظهار بالأم قيل له إنما ذكر الأمهات لأنهن مما اشتمل عليهن حده الآية وذلك لا ينفى أن يكون قوله( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ )

٣٠٨

عموما في سائر من أوقع التشبيه بظهرها من سائر ذوات المحارم وأيضا فإن ذلك يدل على صحة الظهار من سائر ذوات المحارم لأنه قد نبه على المعنى الذي من أجله ألزمه حكم الظهار وهو قوله( ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً ) فأخبر أنه ألزمهم هذا الحكم لأنهن لسن بأمهاتهم وإن قولهم هذا منكر من القول وزور فاقتضى ذلك إيجاب هذا الحكم في الظهار بسائر ذوات المحارم لأنه إذا ظاهر بأجنبية فليست هي أخته ولا ذات محرم منه وهذا القول منكر من القول وزورا لأنه يملك بضع امرأته وهي مباحة له وذوات المحارم محرمات عليه تحريما مؤبدا فإن قيل يلزمك على هذا إيجاب الظهار بالأجنبية لعموم الآية ولدلالة فحواها على جواز الظهار بسائر ذوات المحارم إذ لم تفرق الآية بين شيء منهن ولأن تشبيهها بالأجنبية منكر من القول وزور قيل له لا يجب ذلك لأن الأجنبية لما كانت قد تحل له بحال لم يكن قوله أنت على كظهر الأجنبية مفيدا للتحريم في سائر الأوقات لجواز أن يملك بضع الأجنبية فتكون مثلها وفي حكمها وأيضا لا خلاف أن التحريم بالأمتعة وسائر الأموال لا يصح بأن يقول أنت على كمتاع فلان أو ولا كمال فلان لأن ذلك قد يملكه بحال فيستبيحه واختلفوا في الظهار بغير الظهر فقال أصحابنا إذا قال أنت على كيد أمى أو كرأسها أو ذكر شيئا يحل له النظر إليه منها لم يكن مظاهرا وإن قال كبطنها أو كفخذها ونحو ذلك كان مظاهرا لأنه لا يحل له النظر إليه كالظهر وقال ابن القاسم قياس قول مالك أن يكون مظاهرا بكل شيء من الأم وقال الثوري والشافعى إذا قال أنت على كرأس أمى أو كيدها فهو مظاهر لأن التلذذ بذلك منها محرم قال أبو بكر نص الله تعالى على حكم الظهار وهو أن يقول أنت على كظهر أمى والظهر مما لا يستبيح النظر إليه فوجب أن يكون سائر ما لا يستبيح النظر إليه في حكمه وما يجوز له أن يستبيح النظر إليه فليس فيه دلالة على تحريم الزوجة بتشبيهها به إذ ليس تحريمها من الأم مطلقا فوجب أن لا يصح الظهار به إذ كان الظهار يوجب تحريما وأيضا لما جاز له استباحة النظر إلى هذه الأعضاء أشبه سائر الأشياء التي يجوز أن يستبيح النظر إليها مثل الأموال والأملاك واختلفوا فيما يحرمه الظهار فقال الحسن للمظاهر أن يجامع فيما دون الفرج وقال عطاء يجوز أن يقبل أو يباشر لأنه قال( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) وقال الزهري وقتادة

٣٠٩

( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) الوقاع نفسه وقال أصحابنا لا يقرب المظاهر ولا يلمس ولا يقبل ولا ينظر إلى فرجها لشهوة حتى يكفر وقال مالك مثل ذلك وقال لا ينظر إلى شعرها ولا صدرها حتى يكفر لأن ذلك لا يدعوه إلى خير وقال الثوري يأتيها فيما دون الفرج وإنما نهى عن الجماع وقال الأوزاعى يحل له فوق الإزار كالحائض وقال الشافعى يمنع القبلة والتلذذ احتياطا قال أبو بكر لما قال تعالى( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) كان ذلك عموما في حظر جميع ضروب المسيس من لمس بيد أو غيرها وأيضا لما قال( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) فألزمه حكم التحريم لتشبيهه بظهرها وجب أن يكون ذلك التحريم عاما في المباشرة والجماع كما أن مباشرة ظهر الأم ومسه محرم عليه وأيضا حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زياد بن أيوب قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة أن رجلا ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره قال فاعتزلها حتى تكفر ورواه معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النّبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه وقال لا تقربها حتى تكفر وذلك يمنع المسيس والقبلة

. في ظهار المرأة من زوجها

قال أصحابنا لا يصح ظهار المرأة من زوجها وهو قول مالك والثوري والليث والشافعى وذكر الطحاوي عن ابن أبى عمران عن على بن صالح عن الحسن بن زياد أنها إذا قالت لزوجها أنت على كظهر أمى أو كظهر أخى كانت مظاهرة من زوجها قال على فسئلت محمد ابن الحسن فقال ليس عليها شيء فأتيت أبا يوسف فذكرت له قوليهما فقال هذان شيخا الفقه أخطأ هو تحريم عليها كفارة يمين كقولها أنت على حرام وقال الأوزاعى هي يمين تكفرها وقال الحسن بن صالح تعتق رقبة وتكفر بكفارة الظهار فإن لم تفعل وكفرت يمينا رجونا أن يجزيها وروى مغيرة عن إبراهيم قال خطب مصعب بن الزبير عائشة بنت طلحة فقالت هو عليها كظهر أبيها إن تزوجته فلما ولى الإمارة أرسل إليها فأرسلت تسئل والفقهاء يومئذ بالمدينة كثير فأفتوها أن تعتق رقبة وتتزوجه وقال إبراهيم لو كانت عنده يعنى عند زوجها يوم قالت ذلك ما كان عليها عتق رقبة ولكنها كانت تملك نفسها حين قالت ما قالت وروى عن الأوزاعى أنها إذا قالت إن تزوجته فهو على كظهر أبى كانت مظاهرة ولو قالت وهي تحت زوج كان عليها كفارة يمين قال أبو بكر لا يجوز أن

٣١٠

تكون عليها كفارة يمين لأن الرجل لا تلزمه بذلك كفارة يمين وهو الأصل فكيف يلزمها ذلك كما أن قول الرجل أنت طالق لا يكون غير طالق كذلك ظهارها لا يلزمها به شيء ولا يصح منها ظهار بهذا القول لأن الظهار يوجب تحريما بالقول وهي لا تملك ذلك كما لا تملك الطلاق إذ كان موضوعا لتحريم يقع بالقول واختلفوا فيمن قال أنت على كظهر أبى فقال أصحابنا والأوزاعى والشافعى ليس بشيء وقال مالك هو مظاهر قال أبو بكر إنما حكم الله تعالى بالظهار فيمن شبهها بظهر الأم ومن جرى مجراها من ذوات المحارم التي لا يجوز له أن يستبيح النظر إلى ظهرها بحال وهو يجوز له النظر إلى ظهر أبيه والأب والأجنبى في ذلك سواء ولو قال أنت على كظهر الأجنبى لم يكن شيئا فكذلك ظهر الأب واختلفوا فيمن ظاهر مرارا فقال أصحابنا والشافعى عليه لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار فتكون عليه كفارة واحدة وقال مالك من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفارة واحدة وإن ظاهر ثم كفر ثم ظاهر فعليه الكفارة أيضا وقال الأوزاعى عليه كفارة واحدة وإن كان في مقاعد شتى قال أبو بكر الأصل أن الظهار لما كان سببا لتحريم ترفعه الكفارة إن تجب بكل ظهار كفارة إلا أنهم قالوا إذا أراد التكرار في مجلس واحد فعليه كفارة واحدة لاحتمال اللفظ لما أراد من التكرار فإن قيل قوله( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) يقتضى إيجاب كفارة واحدة وإن ظاهر مرارا لأن اللفظ لا يختص بالمرة الواحدة دون المرار الكثير قيل له لما كانت الكفارة في رفع التحريم متعلقة بحرمة اللفظ أشبه اليمين فمتى حلف مرارا لزمته لكل يمين كفارة إذا حنث ولم يكن قوله( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ) موجبا للاقتصار بالأيمان الكثيرة على كفارة واحدة واختلفوا في المظاهر هل يجبر على التكفير فقال أصحابنا لا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفر وذكر الطحاوي عن عباد بن العوام عن سفيان بن حسين قال سألت الحسن وابن سيرين عن رجل ظاهر من امرأته فلم يكفر تهاونا قال تستعدي عليه قال وسألت أبا حنيفة فقال تستعدي عليه وقال مالك عليها أن تمنعه نفسها ويحول الإمام بينه وبينها وقول الشافعى يدل على أنه يحكم عليه بالتكفير قال أبو بكر قال أصحابنا يجبر على جماع المرأة فإن أبى ضربته رواه هشام وهذا يدل على أنه يجبر على التكفير ليوفيها حقها من الجماع واختلفوا في الرقبة الكافرة عن الظهار فقال

٣١١

عطاء ومجاهد وإبراهيم وإحدى الروايتين عن الحسن يجزى الكافر وهو قول أصحابنا والثوري والحسن بن صالح وروى عن الحسن أنه لا يجزى في شيء من الكفارات إلا الرقبة المؤمنة وهو قول مالك والشافعى قال أبو بكر ظاهر قوله( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) يقتضى جواز الكافرة وكذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم للمظاهر أعتق رقبة ولم يشترط الإيمان ولا يجوز قياسها على كفارة القتل لامتناع جواز قياس المنصوص بعضه على بعض ولأن فيه إيجاب زيادة في النص وذلك عندنا يوجب النسخ واختلفوا في جواز الصوم مع وجود رقبة للخدمة فقال أصحابنا إذا كانت عنده رقبة للخدمة ولا شيء له غيرها أو كان عنده دراهم ثمن رقبة ليس له غيرها لم يجزه الصوم وهو قول مالك والثوري والأوزاعى وقال الليث والشافعى من له خادم لا يملك غيره فله أن يصوم قال الله( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ ) فأوجب الرقبة بديا على واجدها ونقله إلى الصوم عند عدمها فلما كان هذا واجدا لها لم يجزه غيره فإن قيل هو بمنزلة من معه ماء يخاف على نفسه العطش فيجوز له التيمم قيل له لأنه مأمور في هذه الحال باستبقاء الماء وهو محظور عليه استعماله وليس بمحظور عليه عند الجميع عتق هذه الرقبة فعلمنا أنه واجد واختلفوا في عتق أم الولد والمدبر والمكاتب ونحوهم في الكفارة فقال أصحابنا لا يجوز عتق أم الولد والمدبر والمكاتب إذا كان قد أدى شيئا عن الكتابة ولا المدبر فإن لم يكن أدى شيئا أجزأه وإن اشترى أباه ينوى به عن كفارته جاز وكذلك كل ذي رحم محرم ولو قال كل عبد أشتريه فهو حر ثم اشترى عبدا ينويه عن كفارته لم يجزه وقال زفر لا يجزى المكاتب وإن لم يكن أدى شيئا وقال مالك لا يجزى المكاتب ولا المدبر ولا أم الولد ولا معتق إلى سنين عن الكفارة ولا الولد والوالد وقال الأوزاعى لا يجزى المكاتب ولا المدبر ولا أم الولد وقال عثمان البتى يجزى المدبر وأم الولد في كفارة الظهار واليمين وقال الليث يجزى أن يشترى أباه فيعتقه بالكفارة التي عليه وقال الشافعى لا يجزى من إذا اشتراه عتق عليه ويجزى المدبر ولا يجزى المكاتب وإن لم يؤدى شيئا ويجزى المعتق إلى سنين ولا تجزى أم الولد قال أبو بكر أما أم الولد والمدبر فإنهما لا يجزيان من قبل أنهما قد استحقا العتق من غير جهة الكفارة ألا ترى أن ما ثبت لهما من حق العتاق يمنع بيعهما ولا يصح فسخ ذلك عنهما فمتى أعتقهما فإنما عجل عتقا مستحقا وليس كذلك من قال له المولى أنت حر

٣١٢

بعد شهر أو سنة لأنه لم يثبت له حق بهذا القول يمنع بيعه ألا ترى أنه يجوز له أن يبيعه وأما المكاتب فإنه وإن لم يجز بيعه فإن الكتابة يلحقها الفسخ وإنما لا يجوز بيعه كما لا يجوز بيع الآبق والعبد المرهون والمستأجر فلا يمنع ذلك جواز عتقه عن الكفار فإذا أعتق المكاتب قبل أن يؤدى شيئا فقد أسقط المال فصار كمن أعتق عبدا غير مكاتب وإن كان قد أدى شيئا لم يجز من قبل أن الأداء لا ينفسخ بعتقه فقد حصل له عن عتقه بدل فلا يجزى عن الكفارة وأما إذا اشترى أباه فإنه يجزى إذا نوى لأن قبوله للشرى بمنزلة قوله أنت حر والدليل عليه قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ومعلوم أن معناه يعتقه بشرائه إياه فجعل شراه بمنزلة قوله أنت حر فأجزأ بمنزلة من قال لعبده أنت حر واختلفوا في مقدار الطعام فقال أصحابنا والثوري لكل مسكين نصف صاع بر أو صاع تمر أو شعير وقال مالك مد بمد هشام وهو مدان إلا ثلثا بمد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك من الحنطة وأما الشعير فإن كان طعام أهل بلده فهو مثل الحنطة وكذلك التمر وإن لم يكونا طعام أهل البلد أطعمهم من كل واحد منهما وسطا من شبع الشعير والتمر وقال الشافعى لكل مسكين مد من طعام بلده الذي يقتات حنطة أو شعير أو أرز أو تمر أو أقط وذلك بمد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يعتبر مد أحدث بعده حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان ابن أبى شيبة ومحمد بن سليمان الأنبارى قالا حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد ابن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر قال كنت امرأ أصيب من النساء وذكر قصة ظهاره من امرأته وإنه جامع امرأته وسأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال حرر رقبة فقلت والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي قال فصم شهرين متتابعين قال وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام قال فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا قلت والذي بعثك بالحق نبيا لقد بتنا وحشين وما لنا طعام قال فانطلق إلى صاحب صدقة بنى زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فإن قيل روى إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبى حرملة عن عطاء بن يسار أن خولة بنت مالك بن ثعلبة ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مريه فليذهب إلى فلان فإن عنده شطر وسق فليأخذه صدقة عليه ثم يتصدق به على ستين مسكينا وروى عبد الله ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن

٣١٣

سلام عن خولة أن زوجها ظاهر منها فذكرت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره أن يتصدق بخمسة عشر صاعا على ستين مسكينا قيل له قد روينا حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء وأنه أمره بأن يطعم وسقا من تمر ستين مسكينا وهذا أولى لأنه زائد على خبرك وأيضا فجائز أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أعانه بهذا القدر ولا دلالة فيه على أن ذلك جميع الكفارة وقد بين ذلك في حديث إسرائيل عن أبى إسحاق عن يزيد بن زيدان زوج خولة ظاهر منها وذكر الحديث فأعانه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمسة عشر صاعا وهذا يدل على أنه أعانه ببعض الكفارة وقد روى ذلك أيضا في حديث يوسف بن عبد الله بن سلام رواه يحيى بن زكريا عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبد الله عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال حدثتني خولة بنت مالك بن ثعلبة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أعان زوجها حين ظاهر منها بعذق من تمر وأعانته هي بعذق آخر وذلك ستون صاعا فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تصدق به واختلفوا في المظاهر هل يجامع قبل أن يطعم فقال أصحابنا ومالك والشافعى لا يجامع حتى يطعم إذا كان فرضه الطعام روى زيد بن أبى الزرقاء عن الثوري أنه إذا أراد أن يطأها قبل أن يطعم لم يكن آثما وروى المعافى والأشجعى عن الثوري أنه لا يقربها حتى يطعم قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم للمظاهر بعد ما ذكر عجزه عن الصيام ثم لا يقربها حتى يكفر وأيضا لما اتفق الجميع على أن الجماع محظور عليه قبل عتق الرقبة وجب بقاء حظره إذا عجز إذ جائز أن يجد الرقبة قبل الإطعام فيكون الوطء واقعا قبل العتق.

باب كيف يحيى أهل الكتاب

قال الله تعالى( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) روى سعيد عن قتادة عن أنس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي فسلم عليهم فردوا عليه قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هل تدرون ما قال قالوا سلم يا نبي الله قال قال اسم عليكم أى تسامون دينكم وقال نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليكم أى عليك ما قلت وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسحاق بن الحسين قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا سفيان عن سهيل عن أبيه عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لقيتم المشركين في الطريق فلا تبدؤهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقه قال أبو بكر قد روى في حديث أنس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم يريدون بقولهم السام إنكم تسامون دينكم وروى أنهم

٣١٤

يريدون به الموت لأن السام اسم من أسماء الموت قال أبو بكر ذكر هشام عن محمد عن أبى حنيفة قال نرى أن نرد على المشرك السلام ولا نرى أن نبدأه وقال محمد وهو قول العامة من فقهائنا وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا عمرو بن مرزوق قال حدثنا شعبة عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال صحبنا عبد الله في سفر ومعنا أناس من الدهاقين قال فأخذوا طريقا غير طريقنا فسلم عليهم فقلت لعبد الله أليس هذا تكره قال إنه حق الصحبة قال أبو بكر ظاهره يدل على أن عبد الله بدأهم بالسلام لأن الرد لا يكره عند أحد وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم قال أبو بكر وإنما كره الابتداء لأن السلام من تحية أهل الجنة فكره أن يبدأ به الكافر إذ ليس من أهلها ولا يكره الرد على وجه المكافأة قال الله تعالى( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ) وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا الحسن بن المثنى قال حدثنا عثمان قال حدثنا عبد الواحد قال حدثنا سليمان الأعمش قال قلت لإبراهيم اختلف إلى طبيب نصراني أسلم عليه قال نعم إذا كانت لك إليه حاجة فسلم عليه وقوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ) قال قتادة كانوا يتنافسون في مجلس النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل لهم تفسحوا وقال ابن عباس هو مجلس القتال قال قتادة وإذا قيل انشزوا قال إذا دعيتم إلى خير وقيل انشزوا أى ارتفعوا في المجلس ولهذا ذكر أهل العلم لأنهم أحق بالرفعة وهذا يدل على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان يرفع مجلس أهل العلم على غيرهم ليبين للناس فضلهم ومنزلتهم عنده وكذلك يجب أن يفعل بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال تعالى( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) وكذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلينى منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فرتب أولى الأحلام والنهى في أعلى المراتب إذ جعلهم في المرتبة التي تلى النبوة وقوله تعالى( إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) روى ليث عن مجاهد قال قال على إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان عندي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تصدقت بدرهم وروى على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال إن المسلمين أكثروا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المسائل حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف عن نبيه فلما نزلت( إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) كف كثير من المسلمين عن المسألة فأنزل الله( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ )

٣١٥

الآية فوسع لهم قال أبو بكر قد دلت الآية على أحكام ثلاثة أحدها تقديم الصدقة أمام مناجاتهم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن يجد والثاني الرخصة في المناجاة لمن لا يجد الصدقة بقوله( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فهذا يدل على أن المسألة كانت مباحة لمن لم يجد الصدقة والثالث وجوب الصدقة أمام المسألة بقوله( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ ) حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن مجاهد في قوله( إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) الآية قال على رضى الله عنه ما عمل بها أحد غيرى حتى نسخت وما كانت إلا ساعة وقوله تعالى( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) قال أبو بكر المحادة أن يكون كل واحد منهما في حد وحيز غير حد صاحبه وحيزه فظاهره يقتضى أن يكون المراد أهل الحرب لأنهم في حد غير حدنا فهو يدل على كراهة مناكحة أهل الحرب وإن كانوا من أهل الكتاب لأن المناكحة توجب المودة قال الله تعالى( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) آخر سورة المجادلة.

سورة الحشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ) قال مجاهد وقتادة أول الحشر جلاء بنى النضير من اليهود فمنهم من خرج إلى خيبر ومنهم من خرج إلى الشام وقال الزهري قاتلهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى صالحهم على الجلاء فأجلاهم إلى الشام وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من شيء إلا الحلقة والحلقة السلاح قال أبو بكر قد انتظم ذلك معنيين أحدهما مصالحة أهل الحرب على الجلاء عن ديارهم من غير سبى ولا استرقاق ولا دخول في الذمة ولا أخذ جزية وهذا الحكم منسوخ عندنا إذا كان بالمسلمين قوة على قتالهم على الإسلام أو أداء الجزية وذلك لأن الله قد أمر بقتال الكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية قال الله تعالى( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ـ إلى قوله ـحَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ) وقال( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) فغير جائز إذا كان بالمسلمين قوة على قتالهم وإدخالهم في الذمة أو الإسلام أن يجلوهم ولكنه لو عجز

٣١٦

المسلمون عن مقاومتهم في إدخالهم في الإسلام أو الذمة جاز لهم مصالحتهم على الجلاء عن بلادهم والمعنى الثاني جواز مصالحة أهل الحرب على مجهول من المال لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صالحهم على أراضيهم وعلى الحلقة وترك لهم ما أقلت الإبل وذلك مجهول وقوله تعالى( فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ) فيه أمر بالاعتبار والقياس في أحكام الحوادث ضرب من الاعتبار فوجب استعماله بظاهر الآية وقوله تعالى( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ) قال ابن عباس وقتادة كل نخلة لينة سوى العجوة وقال مجاهد وعمرو بن ميمون كل نخلة لينة وقيل اللينة كرام النخل وروى ابن جريج عن مجاهد ما قطعتم من لينة النخلة نهى بعض المهاجرين عن قطع النخل وقال إنما هي مغانم المسلمين فنزل القرآن بتصديق من نهى وبتحليل من قطعها من الإثم قال أبو بكر صوب الله الذين قطعوا والذين أبوا وكانوا فعلوا ذلك من طريق الاجتهاد وهذا يدل على أن كل مجتهد مصيب وقد روى عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد قال أمرنى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أغر على ابني صباحا وحرق وروى قتادة عن أنس قال لما قاتل أبو بكر أهل الردة قتل وسبى وحرق وروى عبد الله بن أبى بكر بن عمرو بن حزم قال لما تحصن بنو النضير أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع نخلهم وتحريقه فقالوا يا أبا القاسم ما كنت ترضى بالفساد فأنزل الله( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ) الآية وروى عثمان بن عطاء عن أبيه قال لما وجه أبو بكر الجيش إلى الشام كان فيما أوصاهم به ولا تقطع شجرة مثمرة قال أبو بكر تأوله محمد بن الحسن على أنهم قد علموا أن الله سيغنمهم إياها وتصير للمسلمين بوعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم بفتح الشام فأراد عليهم أن تبقى للمسلمين وأما جيش المسلمين إذا غزوا أرض الحرب وأرادوا الخروج فإن الأولى أن يحرقوا شجرهم وزروعهم وديارهم وكذلك قال أصحابنا في مواشيهم إذا لم يمكنهم إخراجها ذبحت ثم أحرقت وأما ما رجوا أن يصير فيأ للمسلمين فإنهم إن تركوه ليصير للمسلمين جاز وإن أحرقوه غيظا للمشركين جاز استدلالا بالآية وبما فعله النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في أموال بنى النضير وقوله تعالى( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ ) الآية الفيء الرجوع ومنه الفيء في الإيلاء في قوله( فَإِنْ فاؤُ ) وأفاءه عليه إذا رده عليه والفيء في مثل هذا الموضع ما صار للمسلمين من أموال أهل الشرك فالغنيمة فيء والجزية فيء والخراج فيء لأن جميع ذلك مما ملكه الله المسلمين من أموال أهل الشرك والغنيمة وإن كانت فيأ فإنها تختص بمعنى لا يشاركها فيه

٣١٧

سائر وجوه الفيء لأنها ما أخذ من أموال أهل الحرب عنوة بالقتال فمنها ما يجرى فيه سهام الغانمين بعد إخراج الخمس لله عز وجل وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب قال كانت أموال بنى النضير فيئا مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله قال أبو بكر فهذا من الفيء الذي جعل الأمر فيه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن لأحد فيه حق إلا من جعله له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ينفق منها على أهله ويجعل الباقي في الكراع والسلاح وذلك لما بينه الله في كتابه وهو أن المسلمين لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب ولم يأخذوه عنوة وإنما أخذوه صلحا وكذلك كان حكم فدك وقرى عرينة فيما ذكره الزهري وقد كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغنيمة الصفي وهو ما كان يصطفيه من جملة الغنيمة قبل أن يقسم المال وكان له أيضا سهم من الخمس فكان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفيء هذه الحقوق يصرفها في نفقة عياله والباقي في نوائب المسلمين ولم يكن لأحد فيها حق إلا من يختار هوصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعطيه وفي هذه الآية دلالة على أن كل مال من أموال أهل الشرك لم يغلب عليه المسلمون عنوة وإنما أخذ صلحا أنه لا يوضع في بيت مال المسلمين ويصرف على الوجوه التي يصرف فيها الخراج والجزية لأنه بمنزلة ما صار للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أموال بنى النضير حين لم يوجف المسلمون عليه وقوله تعالى( ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) الآية قال أبو بكر بين الله حكم ما لم يوجف عليه المسلمون من الفيء فجعله للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما قدمنا من بيانه ثم ذكر حكم الفيء الذي أوجف المسلمون عليه فجعله لهؤلاء الأصناف وهم الأصناف الخمس المذكورون في غيرها وظاهره يقتضى أن لا يكون للغانمين شيء منه إلا من كان منهم من هذه الأصناف وقال قتادة كانت الغنائم في صدر الإسلام لهؤلاء الأصناف ثم نسخ بقوله( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ) قال أبو بكر لما فتح عمر رضى الله عنه العراق سأله قوم من الصحابة قسمته بين الغانمين منهم الزبير وبلال وغيرهما فقال إن قسمتها بينهم بقي آخر الناس لا شيء لهم واحتج عليهم بهذه الآية إلى قوله( وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) وشاور عليا وجماعة من الصحابة في ذلك فأشاروا عليه بترك القسمة وأن يقر أهلها عليها ويضع عليها الخراج ففعل ذلك ووافقته الجماعة عند احتجاجه بالآية وهذا

٣١٨

يدل على أن هذه الآية غير منسوخة وأنها مضمومة إلى آية الغنيمة في الأرضين المفتتحة فإن رأى قسمتها أصلح للمسلمين وأرد عليهم قسم وإن رأى إقرار أهلها عليها وأخذ الخراج منهم فيها فعل لأنه لو لم تكن هذه الآية ثابتة الحكم في جواز أخذ الخراج منها حتى يستوي الآخر والأول فيها لذكروه له وأخبروه بنسخها فلما لم يحاجوه بالنسخ دل على ثبوت حكمها عندهم وصحة دلالتها لديهم على ما استدل به عليه فيكون تقدير الآيتين بمجموعهما واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه في الأموال سوى الأرضين وفي الأرضين إذا اختار الإمام ذلك وما أفاء الله على رسوله من الأرضين فلله وللرسول إن اختار تركها على ملك أهلها ويكون ذكر الرسول هاهنا لتفويض الأمر عليه في صرفه إلى من رأى فاستدل عمر رضى الله عنه من الآية بقوله( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ) وقوله( وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) وقال لو قسمتها بينهم لصارت دولة بين الأغنياء منكم ولم يكن لمن جاء بعدهم من المسلمين شيء وقد جعل لهم فيها الحق بقوله( وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) فلما استقر عنده حكم دلالة الآية وموافقة كل الصحابة على إقرار أهلها عليها ووضع الخراج بعث عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان فمسحا الأرضين ووضعا الخراج على الأوضاع المعلومة ووضعا الجزية على الرقاب وجعلاهم ثلاث طبقات اثنى عشر وأربعة وعشرين وثمانية وأربعين ثم لم يتعقب فعله هذا أحد ممن جاء بعده من الأئمة بالفسخ فصار ذلك اتفاقا واختلف أهل العلم في أحكام الأرضين المفتتحة عنوة فقال أصحابنا والئورى إذا افتتحها الإمام عنوة فهو بالخيار إن شاء قسمها وأهلها وأموالهم بين الغانمين بعد إخراج الخمس وإن شاء أقر أهلها عليها وجعل عليها وعليهم الخراج ويكون ملكا لهم ويجوز بيعهم وشراؤهم لها وقال مالك ما باع أهل الصلح من أرضهم فهو جائز وما افتتح عنوة فإنه لا يشترى منهم أحد لأن أهل الصلح من أسلم منهم كان أحق بأرضه وماله وأما أهل العنوة الذين أخذوا عنوة فمن أسلم منهم أحرز له إسلامه نفسه وأرضه للمسلمين لأن بلادهم قد صارت فيأ للمسلمين وقال الشافعى ما كان عنوة فخمسها لأهله وأربعة أخماسها للغانمين فمن طاب نفسا عن حقه للإمام أن يجعلها وقفا عليهم ومن لم يطب نفسا فهو أحق بما له قال أبو بكر لا تخلوا الأرض المفتتحة عنوة من أن تكون للغانمين لا يجوز للإمام صرفها عنهم بحال إلا بطيبة من أنفسهم أو أن

٣١٩

يكون الإمام مخيرا بين إقرار أهلها على أملاكهم فيها ووضع الخراج عليها وعلى رقاب أهلها على ما فعله عمر رضى الله عنه في أرض السواد فلما اتفق الجميع من الصحابة على تصويب عمر فيما فعله في أرض السواد بعد خلاف من بعضهم عليه على إسقاط حق الغانمين عن رقابها دل ذلك على أن الغانمين لا يستحقون ملك الأرضين ولا رقاب أهلها إلا بأن يختار الإمام ذلك لهم لأن ذلك لو كان ملكا لهم لما عدل عنهم بها إلى غيرهم ولنازعوه في احتجاجه بالآية في قوله( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ) وقوله( وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) فلما سلم له الجميع رأيه عند احتجاجه بالآية دل على أن الغانمين لا يستحقون ملك الأرضين إلا باختيار الإمام ذلك لهم وأيضا لا يختلفون أن للإمام أن يقتل الأسرى من المشركين ولا يستبقيهم ولو كان ملك الغانمين قد ثبت فيهم لما كان له إتلافه عليهم كما لا يتلف عليهم سائر أموالهم فلما كان له أن يقتل الأسرى وله أن يستبقيهم فيقسمهم بينهم ثبت أن الملك لا يحصل للغانمين بإحراز الغنيمة في الرقاب والأرضين إلا أن يجعلها الإمام لهم ويدل على ذلك أيضا ما روى الثوري عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبى حثمة قال قسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر نصفين نصفا لنوائبه وحاجته ونصفا بين المسلمين قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما فلو كان الجميع ملكا للغانمين لما جعل نصفه لنوائبه وحاجته وقد فتحها عنوة ويدل عليه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فتح مكة عنوة ومن على أهلها فأقرهم على أملاكهم فقد حصل بدلالة الآية وإجماع السلف والسنة تخيير الإمام في قسمة الأرضين أو تركها ملكا لأهلها ووضع الخراج عليها ويدل عليه حديث سهل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم منعت العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مداها ودينارها ومنعت مصر أردبها ودينارها وعدتم كما بدأتم شهد على ذلك لحم أبى هريرة ودمه فأخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن منع الناس لهذه الحقوق الواجبة لله تعالى في الأرضين وإنهم يعودون إلى حال أهل الجاهلية في منعها وذلك يدل على صحة قول عمر رضى الله عنه في السواد وإن ما وضعه هو من حقوق الله تعالى التي يجب أداؤها فإن قيل ليس فيما ذكرت من فعل عمر في السواد إجماع لأن حبيب بن أبى ثابت وغيره قد رووا عن ثعلبة بن يزيد الحماني قال دخلنا على على رضى الله عنه بالرحبة فقال لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لقسمت السواد بينكم قيل له الصحيح عن على رضى الله عنه أنه أشار على عمر

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الآيات

( قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) )

التّفسير

الموعظة والنصيحة :

كان الكلام في الآيات السابقة عن أنّ الإيمان يجب أن يكون اختياريا لا بالجبر والإكراه ، ولهذا فإن الآية الأولى هنا ترشد الناس إلى الإيمان الاختياري ، وتخاطب النّبي فتقول :( قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ؟

إن كل هذه النجوم اللامعة والكواكب السماوية المختلفة التي يدور كل منها في مداره ، وهذه المنظومات الكبيرة والمجرات العملاقة ، وهذا النظام الدقيق الحاكم على كل تلك الكواكب ، وكذلك هذه الكرة الأرضية بكل عجائبها واسرارها ، وكل هذه الكائنات الحية المتنوعة المختلفة تدل بالتمعن في دقائق صنعها والتدبّر في

٤٤١

نظامها على المبدأ الأزلي للعالم. وستتعرفون أكثر على خالق هذه الكائنات.

إنّ هذه الجملة تنفي بوضوح مسألة الجبر وسلب حرية الإرادة ، فهي تقول : إنّ الإيمان هو نتيجة التدبر في عالم الخلقة ، أي إنّ هذا الأمر في اختياركم.

ثمّ تضيف أنّه رغم كل هذه الآيات والعلامات الدالّة على الحق ، فلا داعي للعجب من عدم إيمان البعض ، لأنّ الآيات والدلالات والإنذارات تنفع الذين لهم الاستعداد لتقبل الحق ، أمّا هؤلاء فإنّه( وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) (١) .

إنّ هذه الجملة إشارة إلى الحقيقة التي قرأناها مرارا في القرآن ، وهي أن الدلائل وكلمات الحق والمواعظ لا تكفي لوحدها ، بل إنّ الأرضية المستعدة شرط أيضا في حصول النتيجة.

ثمّ تقول ـ بنبرة التهديد المتلبسة بلباس السؤال والاستفهام ـ : هل ينتظر هؤلاء المعاندون الكافرون إلّا أن يروا مصيرا كمصير الأقوام الطغاة والمتمردين السابقين الذين عمهم العقاب الإلهي. مصير كمصير الفراعنة والنماردة وشدّاد وأعوانهم وأنصارهم؟!( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

وتحذرهم الآية أخيرا فتقول : يا أيّها النّبي( قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) فأنتم بانتظار هزيمة دعوة الحق ، ونحن بانتظار المصير المشؤوم الذي ستلاقونه ، مصير المتكبرين الماضين.

وينبغي الالتفات إلى أنّ الاستفهام في جملة( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ ) استفهام إنكاري ، أي إنّ هؤلاء بطبيعة سلوكهم هذا لا يمكن أن ينتظروا إلّا حلول مصير مشؤوم

__________________

(١) نذر جمع نذير ، أي المنذر ، وهو كناية عن الأنبياء والقادة الإلهيين ، أو هي جمع إنذار ، بمعنى تحذير وتهديد الغافلين والمجرمين الذي هو من برامج هؤلاء القادة الإلهيين.

وقد اعتبر البعض (ما) جملة ( ما تُغْنِي الْآياتُ ) نافية ، والبعض جعلها بمعنى الاستفهام الإنكاري ، وهي واحدة من حيث النتيجة ، إلّا أنّ الظاهر أن (ما) نافية.

٤٤٢

مظلم.

كلمة (أيّام) وإن كانت في اللغة جمع يوم ، إلّا أنّها هنا تعني الحوادث المهلكة التي وقعت للأقوام والأمم السالفة.

ومن أجل أن لا يتوهم متوهم أنّ الله سبحانه يصيب بعذابه الصالح والطالح ، تضيف الآية : إننا إذا ما تحققت مقدمات نزول العذاب على الأمم السابقة ، نقوم بانقاذ عبادنا الصالحين :( ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) .

ثمّ تقول في النهاية : إنّ هذا ليس مختصا بالأمم السالفة والرسل والمؤمنين الماضين ، بل( كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

* * *

__________________

(١) إنّ جملة( كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) كانت بهذا المعنى : كذلك ننج المؤمنين وكان ذلك حقّا علينا ، أي إنّ جملة (حقا علينا) جملة معترضة بين (كذلك) و (ننج المؤمنين). ويحتمل أيضا أن تكون (كذلك) متعلقة بالجملة السابقة ، أي جملة( نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) .

٤٤٣

الآيات

( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) )

التّفسير

الحزم في التّعامل مع المشركين :

هذه الآيات والآيات التي تليها ، هي آخر آيات هذه السورة ، وتتحدث جميعا حول مسألة التوحيد ومحاربة الشرك والدعوة إلى الحق ، وهي في الحقيقة فهرست أو خلاصة لبحوث التوحيد وتأكيد على محاربة ومجابهة عبادة الأصنام التي بيّنت

٤٤٤

مرارا في هذه السورة.

إنّ سياق الآية يوحي بأنّ المشركين كانوا يتوهمون أحيانا أن من الممكن أن يلين النّبي ويتسامح في عقيدته في شأن الأصنام ويعترف ويقرّ لهم عبادة الأصنام ولو جزئيا إلى جانب الإعتقاد بالله بنحو من الأنحاء.

إلّا أنّ القرآن ينسف هذا التوهم الواهي بصورة قاطعة وحاسمة ويقطع عليهم أحلامهم هذه إلى الأبد ، فلا معنى لأي نوع من المساومة واللين في مقابل الأصنام ، ولا معبود إلّا الله، لا تزيد كلمة ولا تنقص أخرى.

ففي البداية يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطب جميع الناس :( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) ولا تكتفي الآية بنفي آلهة أولئك ، بل تثبت كل العبادة لله سبحانه زيادة في التأكيد فتقول :( وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ) . ومن أجل تأكيد أكبر تضيف : أنّ هذه ليست إرادتي فقط ، بل( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

إنّ التأكيد هنا على مسألة قبض الروح فقط من بين صفات الله ، أمّا لأنّ الإنسان إذا كان يشك في كل شيء فإنّه لا يستطيع أن يشك في الموت ، أو لأنّ هذه الآية أرادت أن تنبه هؤلاء إلى مسألة العذاب والعقوبات المهلكة التي أشير إليها في الآيات السابقة ، ولوحت بالتهديد بالغضب الإلهي.

وبعد أن بيّنت الآية العقيدة الحقة في نفي الشرك وعبادة الأوثان بكل صراحة وقوة ، تطرقت إلى بيان دليل ذلك ، دليل من الفطرة. ودليل من العقل :( وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ) وهنا أيضا لم يكتف بجانب الإثبات ، بل نفي الطرف المقابل لتأكيد الأمر ، فقالت الآية :( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

«الحنيف» ـ كما قلنا سابقا ـ تعني : الشخص الذي يميل ويتحول عن طريق الانحراف إلى جادة الصواب والاستقامة ، وبتعبير آخر : يغض الطرف عن المذاهب والأفكار المنحرفة ، ويتوجه إلى دين الله المستقيم ، ذلك الدين الموافق

٤٤٥

للفطرة موافقة كاملة ومستقيمة. وبناء على هذا فإنّ هذا التعبير يستبطن الإشارة إلى كون التوحيد فطريا في الأعماق ، لأنّ الانحراف شيء خلاف الفطرة ، (فتدبّر).

وبعد الإشارة إلى بطلان الشريك بالدليل الفطري ، تشير إلى دليل عقلي واضح ، فتقول :( وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ) إذ تكون قد ظلمت نفسك ومجتمعك الذي تعيش فيه.

أي عقل يسمح أن يتوجه الإنسان لعبادة أشياء وموجودات لا تضر ولا تنفع أبدا ، ولا يمكن أن يكون لها أدنى أثر في مصير الإنسان؟

وهنا أيضا لم تكتف الآية بجانب النفي ، بل إنّها توكّد إضافة إلى النفي على جانب الإثبات فتقول :( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ) ، وكذلك( وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) لأنّ عفوه ورحمته وسعت كل شيء( وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

* * *

٤٤٦

الآيتان

( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩) )

التّفسير

الكلمة الأخيرة :

هاتين الآيتين تضمّنت إحداهما موعظة ونصيحة لعامّة الناس ، واختصت الثّانية بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كملتا الأوامر والتعليمات التي بيّنها الله سبحانه على مدى هذه السورة ومواضعها المختلفة. وبذلك تنتهي سورة يونس.

فتقول أوّلا ، وكقانون عام :( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ) هذه التعليمات ، وهذا الكتاب السماوي ، وهذا الدين ، وهذا النّبي كلها حق ، والأدلّة على كونها حقّا واضحة ، وبملاحظة هذه الحقيقة :( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) .

أي إنّي لست مأمورا بإجباركم على قبول الحق ، لأن الإجبار على قبول

٤٤٧

الإيمان لا معنى له ، ولا أستطيع إذا لم تقبلوا الحق ولم تؤمنوا أن أدفع عنكم العذاب الإلهي ، بل إنّ واجبي ومسئوليتي هي الدعوة والإبلاغ والإرشاد والهداية والقيادة ، أمّا الباقي فيتعلق بكم ، وعليكم انتخاب طريقكم.

إنّ هذه الآية إضافة إلى أنّها توكّد مرّة أخرى مسألة الإختيار وحرية الإرادة ، فإنّها دليل على أن قبول الحق سيعود بالنفع على الإنسان نفسه بالدرجة الأولى ، كما أن مخالفته ستكون في ضرره.

إنّ توجيهات القادة الإلهيين والكتب السماوية ما هي في الواقع إلّا دروس لتربية وتكامل البشر ، فلا يزيد الالتزام بها شيئا على عظمة الله ، ولا تنقص مخالفتها من جلاله شيئا.

ثمّ تبيّن وظيفة وواجب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جملتين : الأولى( وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ) فإنّ الله قد حدّد مسيرك من خلال الوحي ، ولا يجوز لك أن تنحرف عنه قيد أنملة.

والثّانية : إنّه ستعترضك في هذا الطريق مشاكل مضنية ومصاعب جمة ، فلا تدع للخوف من سيل المشاكل إلى نفسك طريقا ، بل( وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) فإنّ أمره حق ، وحكمه عدل ، ووعده متحقق لا محالة.

إلهنا ومولانا : إنّك وعدت عبادك الذين يجاهدون في سبيلك بإخلاص ، والذين يصبرون ويستقيمون في سبيلك بالنصر.

اللهم وقد أحاطت بالمسلمين مشاكل لا تحصى ، ونحن عبيدك الذين لا نتوقف عن الجهاد والاستقامة بمنك وتوفيقك ، فاكشف عنا سحب المشاكل المظلمة بلطفك ، وأنر أبصارنا بنور الحق والعدالة آمين يا رب العالمين.

نهاية سورة يونس

* * *

٤٤٨

سورة هود

مكيّة

وعدد آياتها مائة وثلاث وعشرون آيات

٤٤٩
٤٥٠

«سورة هودعليه‌السلام »

محتوى هذه السّورة وفضيلتها!

المشهور بين المفسّرين أنّ هذه السورة بأكملها نزلت بمكّة وطبقا لما ورد في «تاريخ القرآن» أنّها السورة التاسعة والأربعون في ترتيب السور النازلة على المرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وطبقا لما صرّح به بعض المفسّرين ـ أيضا ـ فإنّ هذه السورة نزلت في السنوات الأخيرة التي قضاها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة ، أي بعد وفاة عمّه «أبي طالبعليه‌السلام » وزوجته «خديجةعليها‌السلام » وبطبيعة الحال فإنّ هذه السورة جاءت في فترة من أشد الفترات صعوبة في حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان يعاني فيها من ضغوط الأعداء وأراجيفهم الإعلامية الحاقدة المسمومة أكثر ممّا عاناه في السنوات السابقة.

ولذلك يلاحظ في بداية السورة تعابير فيها جانب من التسلية للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللمؤمنين.

ويشكل القسم المهم والعمدة من آيات هذه السورة قصص الأنبياء الماضين وخاصّة قصّة نوح النّبيعليه‌السلام الذي انتصر بالفئة القليلة التي معه على الأعداء الكثيرين.

إنّ سرد هذه القصص فيه تسلية لخاطر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين معه وهم أمام الكم الهائل من الأعداء ، كما أنّ فيه درسا لمخالفيهم من الأعداء.

٤٥١

وعلى كل حال. فإنّ آيات هذه السورة ـ كسائر السور المكية ـ تتناول أصول «المعارف الإسلامية» ولا سيّما المواجهة مع الشرك وعبادة الأصنام ، ومسألة المعاد والعالم بعد الموت ، وصدق دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما يبدو فيها تهديدا ضمنيا للأعداء ، وأمرا بالاستقامة للمؤمنين.

في هذه السورة ـ إضافة إلى قصّة نوح النّبي وجهاده العنيف التي ذكرت بتفصيل ـ إشارة إلى قصص الأنبياء هود وصالح وإبراهيم ولوط وموسى ومواقفهم الشجاعة بوجه الشرك والكفر والانحراف والظلم

شيبتني سورة هود!

إنّ آيات هذه السورة تقرر أن على المسلمين أن لا يتركوا السوح والميادين ـ في الحرب والسلم ـ لكثرة الأعداء ومواجهاتهم الحادة بل عليهم أن يواصلوا مسيرتهم ويستقيموا أكثر فأكثر ويوما بعد يوم

وعلى هذا فإنّنا نقرا في حديث معروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «شيبتني سورة هود»(١)

وفي حديث آخر أنّه حين لاحظ أصحاب النّبي آثار الشيب قبل أوانه على محيّاهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : يا رسول الله ، تعجّل الشيب عليك. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «شيبتني سورة هود والواقعة»(٢) .

وفي روايات أخرى أضيف أيضا سورة المرسلات وسورة النبأ( عَمَّ يَتَساءَلُونَ ) وسورة التكوير وغيرها إلى هاتين السورتين.

ونقل عن ابن عباس في تفسير الحديث الشريف ـ آنف الذكر ـ أنّه ما نزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية كان أشدّ عليه ولا أشق من آية( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٣٣٤.

(٢) مجمع البيان ، ذيل الآية (١١٨) من تفسير سورة هود.

٤٥٢

مَعَكَ ) .

كما نقل عن بعض المفسّرين أنّ أحد العلماء رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام فسأله عن سبب ما نقل عنه من قوله : «شيبتني سورة هود» أهو ما سلف من الأمم السابقة وهلاكها؟ فبيّن لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن سببه آية( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) (١)

وعلى كل حال فإنّ هذه السورة ـ بالإضافة إلى هذه الآية ـ فيها آيات مؤثّرة أخرى تتعلق بيوم القيامة والمحاسبة في محكمة العدل الإلهي ، وآيات تتعلق بما ناله الأقوام السابقون من جزاء ، وما جاء مع بعضها من أوامر في الوقوف بوجه الفساد بحيث يحمل جميعها طابع المسؤولية فلا عجب إذا أن يشيب الإنسان عند ما يفكر في مثل هذه المسؤوليات مسألة دقيقة أخرى ينبغي الالتفات إليها في هذا المجال ، وهي أنّ كثيرا من هذه الآيات توكّد ما ورد في السورة السابقة ـ أي سورة يونس ـ وأوائلها بوجه خاص يشبه أوائل تلك السورة ومضامينها توكّد تلك المضامين.

التّأثير المعنوي لهذه السّورة :

أمّا بالنسبة لفضيلة هذه السورة ، فقد ورد في حديث شريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ هذه السورة أعطي من الأجر والثواب بعدد من صدّق هودا والأنبياءعليهم‌السلام ومن كذب بهم وكان يوم القيامة في درجة الشهداء وحوسب حسابا يسيرا»(٢) .

ومن الوضوح بمكان أنّ مجرّد التلاوة لا يعطي هذا الأثر ، وإنّما يكون هذا الأثر إذا كانت تلاوة هذه السورة مقرونة بالتفكر والعمل بعدها. وهذا هو الذي يقرّب الإنسان إلى المؤمنين السالفين ويبعده عن الذين أنكروا على الأنبياء وجحدوا دعواتهم ، وعلى هذا الأساس يثاب بعددهم ويعطي أجر كل واحد منهم ،

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢ ، ص ٢٠٦.

(٢) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٢٠٦.

٤٥٣

ويكون هدفه كهدف شهداء تلك الأمم السالفة فلا مجال للتعجب من أن ينال درجاتهم ويحاسب حسابا يسيرا وينقل عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من كتب هذه السورة على رق ظبي ويأخذها معه أعطاه الله قوّة ، ومن يحارب معه لنصر عليهم وغلبهم وكلّ من رآه يخاف منه»(١) .

ولعل بعضا ممن يطلب الراحة وينظر الى الأمور بسطحيّة يتصوّر في قراءته لمثل هذه الأحاديث أنّ الإنسان يمكن أن يصل إلى مثل هذه الأهداف بمجرّد وجود الكتابة أو الرسم القرآني معه ، ولكنّه جلي وواضح أنّ المقصود بذلك العمل على طبق ما في السورة ، وأن يتخذها منهجا لحياته وأن يقرأها دائما ويمضي على العمل بها بحذافيرها ولا شك أنّ مثل هذا العمل تتحقق فيه مثل هذه الآثار أيضا ، لأنّ هذه السورة تأمر بالاستقامة والوقوف بوجه الفساد والانسجام مع الأهداف ، وتحتوي على التجارب السابقة من تأريخ الأمم السالفة التي يوجد في كلّ واحد منها درس من الإنتصار على العدوّ.

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٢٠٦.

٤٥٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) )

التّفسير

الأصول الاربعة في دعوة الأنبياء :

تبدأ هذه السورة ـ كما في بداية السورة السابقة وسائر سور القرآن ـ ببيان أهمية الكتاب العزيز المنزل من السماء ، ليلتفت الناس إلى محتوياته أكثر ويتفكروا فيه بنظرة أدق.

وذكر الحروف المقطعة( الر ) ـ نفسه ـ دليل على أهمية هذا الكتاب السماوي العزيز الذي يتشكل من حروف بسيطة معروفة للجميع مثل الألف واللام والراء

٤٥٥

( الر ) (١) مع ما فيه من عظمة وإعجاز بالغين ، ثمّ يبيّن بعد هذه الحروف المقطعة واحدة من خصائص القرآن الكريم في جملتين.

أوّلا : إنّ جميع آياته متقنة ومحكمة( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ) .

وثانيا : إنّ تفصيل حاجات الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية ـ مادية كانت أو معنوية ـ مبيّن فيها أيضا( ثُمَّ فُصِّلَتْ ) .

هذا الكتاب العظيم مع هذه الخصيصة ، من أين أنزل ، وكيف؟! أنزل من عند ربّ حكيم وخبير( مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) .

فبمقتضى حكمته أحكمت آيات القرآن ، وبمقتضى أنّه خبير مطلع بيّن آيات القرآن في مجالات مختلفة طبقا لحاجات الإنسان ، لأنّ من لم يطلع على تمام جزئيات الحاجات الروحية والجسمية للإنسان لا يستطيع أن يصدر احكاما جديرة بالتكامل.

الواقع ، إنّ كل واحدة من صفات القرآن التي جاءت في هذه الآية تسترفد من واحدة من صفات الله فاستحكام القرآن من حكمته ، وشرحه وتفصيله من خبرته.

وفي بيان ما هو الفرق بين( أُحْكِمَتْ ) و( فُصِّلَتْ ) بحث المفسّرون كثيرا وأبدوا احتمالات عديدة وأقرب هذه الاحتمالات ـ بحسب مفهوم الآية آنفة الذكر ـ هو أنّ الجملة الأولى تعني أنّ القرآن مجموعة واحدة مترابطة كالبنيان المرصوص الثابت ، كما تدل على أنّه نازل من إله فرد ، ولهذا فلا يوجد أي تضادّ في آياته ، ولا يرى بينها أي اختلاف.

والجملة الثّانية إشارة إلى أنّ هذا الكتاب في عين وحدته فيه شعب وفروع متعددة تستوفي جميع حاجات الإنسان الرّوحيّة والمادية ، فهو في عين وحدته

__________________

(١) شرحنا هذا المعنى وسائر التفاسير التي ذكرت للحروف المقطعة في القرآن في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف.

٤٥٦

كثير ، وفي عين كثرته واحد!

وفي الآية التالية يبيّن أهم ما يحتويه القرآن وما هو أساسه وهو التوحيد والوقوف بوجه الشرك( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) (١) وهذا أوّل تفصيل لمحتوى هذا الكتاب العظيم.

والثّاني من محتويات الدعوة السماوية :( إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) نذير لكم من الظلم والفساد والشرك والكفر ، وأحذركم من عنادكم وعقاب الله لكم!

وثالث ما في منهج دعوتي إليكم هو أن تستغفروا من ذنوبكم وتطهروا أنفسكم من الأدران :( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) .

ورابعها هو أن تعودوا إلى الله بالتوبة ، وأن تتصفوا ـ بعد غسل الذنوب والتطهر في ظل الاستغفار ـ بصفات الله ، فإنّ العودة إليه تعالى لا تعني إلّا الاقتباس من صفاته( ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) .

في الواقع إنّ أربع مراحل من مراحل الدعوة المهمّة نحو الحق سبحانه بيّنت في أربع جمل وفي أربعة أقسام ، فقسمان يتضمنان الجانب «العقيدي» والأساسي. وقسمان يتضمنان الجانب «العملي» والفوقاني.

فقبول أصل التوحيد ومحاربة الشرك ، وقبول رسالة النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصلان اعتقاديان ، والتطهّر من الذنوب والتخلّق بالصفات الإلهية ـ اللذان يحملان معنى البناء بتمام معناه ـ أمران عمليان حضّ عليهما القرآن ، وإذا تأملنا بدقّة في الآيات الكريمة وجدنا أن جميع محتوى القرآن يتلخص في هذه الأصول الأربعة

هذا هو الفهرس لجميع محتوى القرآن ، ولجميع محتوى هذه السورة أيضا.

ثمّ تبيّن الآيات النتائج العملية لموافقة هذه الأصول الأربعة أو مخالفتها بالنحو

__________________

(١) في جملة( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) احتمالان : الأوّل : إنّه على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما أشرنا إليه ـ والتقدير : دعوتي وأمري إلّا تعبدوا إلّا الله. والثّاني : أنّه كلام الله ، والتقدير : آمركم ألّا تعبدوا إلّا الله ، ولكن جملة( إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) تنسجم مع المعنى الأوّل.

٤٥٧

التالي( يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً ) فإذا عملنا بهذه الأصول فإنّ الله سبحانه يهبنا حياة سعيدة إلى نهاية العمر ، وفوق كل ذلك فإنّ كلا يعطى بمقدار عمله ولا يهمل التفاوت والتفاضل بين الناس في كيفية العمل بهذه الأصول( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) وأمّا في صورة المخالفة والعناد فتقول الآية :( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) حين تمثلون للوقوف في محكمة العدل الإلهي.

واعلموا أنّ( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ ) كائنا من كنتم ، وفي أي محل ومقام أنتم ، وهذه الجملة تشير إلى الأصل الخامس من الأصول التفصيليّة للقرآن وهي مسألة «المعاد والبعث» ولكن لا تتصوروا ـ أبدا ـ أن قدرتكم تعدّ شيئا تجاه قدرة الله ، أو أنّكم تستطيعون الفرار من أمره ومحكمة عدله ولا تتصوروا ـ أيضا ـ أنّه لا يستطيع أن يجمع عظامكم النخرة بعد الموت ويكسوها ثوبا جديدا من الحياة( وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

علاقة الدين بالدنيا :

ما يزال الكثير يظنون أن التدين هو العمل لعمارة الآخرة والسعادة بعد الموت ، وأنّ الأعمال الصالحة هي الزاد والمتاع للدار الآخرة ولا يكترثون أبدا بأثر الدين الأصيل في الحياة الدنيا على حين أن الدين الصحيح في الوقت الذي يعمر الدار الآخرة يعمر «الدنيا» أيضا وطبيعي إذا لم يكن للدين أي تأثير على هذه الحياة الدنيا فلا تأثير له في الحياة الأخرى أيضا.

والقرآن الكريم يتعرض لهذا الموضوع بصراحة في آيات كثيرة ، وربّما يتناول أحيانا الجزئيات من هذه المسائل ، كما ورد في سورة نوحعليه‌السلام على لسان هذا النّبي العظيم مخاطبا قومه( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ) (١) .

__________________

(١) سورة نوح ، ٩ ـ ١١.

٤٥٨

ويفهم البعض أنّ صلة هذه المواهب المادية في الدنيا مع الاستغفار والتطهر من الذنوب معنوية وغير معروفة ، في حين أنّه لا دليل على ذلك ، بل الصلة بينهما ظاهرة معروفة.

فأي أحد لا يعلم أن الكذب والسرقة والفساد تهدم العلاقات الاجتماعية؟

وأي أحد لا يعلم أن الظلم والتبعيض والإجحاف تجعل من حياة الناس جحيما وتكدر صفوهم؟! وأيّ أحد يشك في حقيقة أن قبول أصل التوحيد وتكوين مجتمع توحيدي على أساس قيادة الأنبياء ، وتطهير المجتمع من الذنوب والآثام ، والتحلّي بالقيم الإنسانية ـ وهي الأصول الأربعة ذاتها التي أشير إليها في الآيات المتقدّمة ـ يسير بالمجتمع البشري نحو هدف تكاملي أفضل ، ويخلق محيطا آمنا عامرا بالصفاء والحرية والصلاح؟

وعلى هذا الأساس نقرأ بعد هذه الأصول الأربعة في الآيات المتقدمة قوله تعالى :( يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) .

* * *

٤٥٩

الآية

( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) )

التّفسير

اختلف بعض المفسّرين في شأن نزول الآية ، فقيل أنّها نزلت في أحد المنافقين واسمه «الأخنس بن شريق» الذي كان ذا لسان ذلق ومظهر جميل ، وكان يبدي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحب ظاهرا لكنّه كان يخفي العداوة والبغضاء في الباطن.

كما نقل عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن الإمام محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام أنّها نزلت في جماعة من المشركين ، حيث كانوا حين يمرون بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يطأطئون برؤوسهم ويستغشون ثيابهم لئلا يراهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن الآية تشير ـ على العموم ـ إلى أحد الأساليب الحمقاء التي كان يتبعها أعداء الإسلام والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بالاستفادة من طريقة النفاق والابتعاد عن الحق ، فكانوا يحاولون أن يخفوا حقيقتهم وماهيتهم عن الأنظار لئلا يسمعوا قول الحق.

لذلك فإنّ الآية تقول :( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ) .

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608