الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 608
المشاهدات: 237578
تحميل: 5089


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237578 / تحميل: 5089
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 6

مؤلف:
العربية

ومن أجل أن نفهم الآية فهما دقيقا ينبغي أن تتضح لنا كلمة «يثنون» بجلاء فهي من مادة «ثني» وهي في الأصل تعني ضم أقسام الشيء بعضها إلى بعض ، فمثلا في طي قطعة القماش والثوب يقال «ثنى ثوبه» وإنّما يقال للشخصين على سبيل المثال : اثنان ، فلأجل أن انضمّ واحد إلى جانب الآخر ، ويقال للمادحين «مثنون» كذلك ، لأنّهم يعدون الصفات البارزة واحدة بعد الأخرى.

وتعني الانحناء أيضا ، لأنّ الإنسان بعمله هذا وهو الانحناء يقرّب أجزاء من جسمه بعضها إلى بعض.

وتأتي هذه المادة بمعنى أن تجد العداوة والبغضاء والحقد طريقها إلى القلب أيضا لأنّ الإنسان بهذا العمل يقرب عداء الشخص ـ أو أيّ شيء آخر ـ إلى القلب ، ومثل هذا التعبير موجود في الأدب العربي إذ يقال : «اثنونى صدره على البغضاء»(1) .

ومع الأخذ بنظر الإعتبار بما ورد آنفا من معان لمادة «ثني» فلا يبعد أن تكون كلمة «يثنون» مشيرة إلى كل عمل خفي ـ ظاهري وباطنيّ ـ قام به أعداء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن جهة يضمرون العداوة والبغضاء في القلوب ويبدون المحبّة في لسان ذلق جميل! ومن جهة أخرى يقربون رؤوسهم بعضها إلى بعض عند التحدث ، ويثنون الصدور ويستغشون الثياب ، لئلا تنكشف مؤامراتهم وأقوالهم السيئة ويطّلع أحد على نياتهم.

لذلك فإنّ القرآن يعقّب مباشرة : أن أحذروهم ، فإنّهم حين يستخفون تحت ثيابهم فإنّ الله يعلم ما يخفون وما يعلنون( أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

* * *

__________________

(1) يراجع «تاج العروس» و «مجمع البيان» و «المنار» و «مفردات الراغب» في هذا الشأن.

٤٦١

الآية

( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) )

التّفسير

جميع الاحياء ضيوف مأدبته :

الآية السابقة أشارت إلى سعة علم الله وإحاطته بالسر وما يخفون وما يعلنون ، والآية محل البحث تعدّ دليلا على تلك الآية المتقدمة ، فإنّها تتحدث عن الرازق لجميع الموجودات ولا يمكن يتمّ ذلك إلّا بالإحاطة الكاملة بجميع العالم وما فيه

تقول الآية( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها ) ويعلم تقلّبها وتنقلها من مكان لآخر ، وحيثما كانت فإنّ الرزق يصل إليها منه.

وهذه الحقائق مع جميع حدودها ثابتة في كتاب مبين ولوح محفوظ في علم الله( كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) .

* * *

٤٦٢

ملاحظات

1 ـ بالرغم من أنّ كلمة «دابّة» مشتقة من مادة «دبيب» التي تعني السير ببطء وبخطى قصيرة ، ولكنّها من الناحية اللغوية تشمل كل حيوان يتحرك في سيرة ببطء أو بسرعة ، فنرى كلمة الدابة تطلق على الفرس وعلى كل حيوان يركب عليه ، وواضح أنّ الكلمة في هذه الآية ـ محل البحث ـ تشمل جميع الحيوانات الموجودة على سطح الأرض بما فيها الحيوانات التي تدبّ في سيرها

2 ـ «الرزق» : هو العطاء المستمر ، ومن هنا كان عطاء الله المستمر للموجودات رزقا. وينبغي الالتفات إلى أن مفهوم الرزق غير منحصر في الحاجات المادية ، بل يشمل كل عطاء ماديّ أو معنوي. ولذلك نقول مثلا : «اللهم ارزقني علما كاملا» أو نقول : «اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك».

والظاهر أنّ المراد من الرزق في هذه الآية الرزق المادي ، ولكن إرادة المفهوم العام الذي يندرج تحته الرزق المعنوي غير بعيد

3 ـ «المستقر» ـ في الأصل ـ تعني المقّر ، لأن جذر هذه الكلمة في اللغة مأخوذ من «قرّ» على وزن «حرّ» وتعني كلمة القرّ البرد الشديد الذي يجعل الإنسان والموجودات الأخرى يركنون إلى بيوتهم ، ومن هنا جاءت بمعنى التوقف والسكون أيضا.

و «المستودع» و «الوديعة» من مادة واحدة ، وهاتان الكلمتان في الأصل تعنيان «اطلاق الشيء وتركه» ولذلك تطلق عليه الأمور غير الثابتة التي ترجع إلى حالتها الطبيعية، فيطلق على كل أمر غير ثابت «مستودع» وبسبب رجوع الشيء إلى صاحبه الأصلي وتركه محله الذي هو فيه يسمى ذلك الشيء «وديعة» أيضا.

فالآية أنفة الذكر تقول : لا ينبغي التصور أن الله سبحانه يرزق الدواب التي تستقر في أماكنها فحسب ، بل هي حيث ما كانت وفي أي ظرف من الظروف تكون فإنّه تعالى يوصل إليها أرزاقها ، لأنّه يعلم أماكن استقرارها ، وكذلك يعلم جميع

٤٦٣

المناطق التي تنتقل إليها وترحل عنها من حيوانات بحرية مهولة الحجم ، الى أصغر الكائنات المجهرية ، فإنّه تعالى يرزق كلا منها بحسب حاجته وحاله.

وهذا الرزق ملحوظ بحيث يناسب حال الموجودات من حيث الكمية والكيفية ، وهو مطابق تماما لمقدار الحاجة والرغبة ، حتى غذاء الجنين الذي في رحم أمّه يتفاوت كل شهر عن الشهر السابق في النوعية والكمية ، بل كل يوم عن اليوم السابق بالرغم ممّا يبدو من أن الدم نوع واحد لا أكثر. وكذلك الطفل في مرحلة الرضاعة حيث يبدو أن غذاءه من نوع واحد ، لكن تركيب هذا الغذاء أو اللبن يختلف من يوم لآخر.

4 ـ «الكتاب المبين» معناه المكتوب الواضح البيّن ، ويشير إلى علم الله الواسع ، وقد يعبر عنه أحيانا باللوح المحفوظ أيضا.

ويحتمل أن يكون هذا التعبير اشارة إلى أنّه لا ينبغي لأحد أن يهتم لرزقه أقلّ اهتمام ، أو يحتمل سقطوا اسمه وسهمه من القلم ، لأنّ أسماء الجميع مثبتة في( كِتابٍ مُبِينٍ ) كتاب أحصى الجميع بجلاء ووضوح!

تقسيم الأرزاق والسعي من أجل الحياة!

هناك أبحاث مهمّة في مسألة «الرزق» ، ونأخذ بنظر الإعتبار ـ هنا ـ قسما منها:

1 ـ «الرزق» ـ كما قلنا آنفا ـ يعني في اللغة العطاء المستمر والدائم ، وهو أعم من أن يكون رزقا ماديّا أو معنويا فعلى هذا كل ما يكون فيه نصيب للعباد من قبل الله وينتفعون منه ـ من مواد غذائية ومسكن وملبس أو علم وعقل وفهم وإيمان وإخلاص ـ يسمى رزقا ، ومن ظنّ أن مفهوم الرزق خاص بالجوانب المادّية لم يلتفت إلى موارد استعماله في القرآن الكريم بدقة فالقرآن يتحدث عن الشهداء في سبيل الله بأنّهم( أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (1) .

__________________

(1) سورة آل عمران ، 169.

٤٦٤

وواضح أن رزق الشهداء ـ في عالم البرزخ ـ ليس نعمّا مادية ، بل هو عبارة عن المواهب المعنوية التي يصعب علينا تصوّرها في هذه الحياة المادية.

2 ـ مسأله تأمين الحاجات بالنسبة للموجودات الحية ـ وبتعبير آخر تأمين رزقها ـ من المسائل المثيرة التي تنكشف أسرارها بمرور الزمان وتقدّم العلم وتظهر كل يوم ميادين جديدة تدعو للتعجب والدهشة.

كان العلماء في الماضي يتساءلون فيما لو كان في أعماق البحار موجودات حيّة ، فمن أين يتم تأمين غذائها؟! إذ أنّ أصل الغذاء يعود إلى النباتات والحشائش ، وهي تحتاج إلى نور الشمس ، ولكن على عمق 700 متر فصاعدا لا وجود لنور الشمس أبدا ، بل ليل أبدي مظلم يلقي ظلاله ويبسط أسداله هناك.

ولكن اتّضح بتقدم العلم أن نور الشمس يغذّي النباتات المجهرية في سطح الماء وبين الأمواج ، وحين تبلغ مرحلة النضج تهبط إلى أعماق البحر كالفاكهة الناضجة ، وتنظم إلى الأرزاق الإلهية للأحياء في تلك الاعماق ، مائدة نعمة الله للموجودات الحية تحت الماء!

ومن جهة أخرى فهناك طيور كثيرة تتغذى من أسماك البحر ، منها طيور تطير في الليل وتهبط الى البحر كالغواص الماهر وعن طريق أمواج رادارية خاصّة تخرج من آنافها تعرف صيدها وتصطاده بمنقارها.

ورزق بعض أنواع الطيور يكون مدّخرا بين ثنايا أسنان حيوانات بحرية كبيرة هذا النوع من الحيوانات بعد أن يتغذى من حيوانات البحر ، تحتاج أسنانه إلى «منظف طبيعي» فيأتي إلى ساحل البحر ويفتح فمه الواسع فتدخل هذه الطيور التي أدّخر رزقها في فم هذا الحيوان الضخم ـ دون وحشة ولا اضطراب ـ وتبحث عن رزقها بين ثنايا أسنان هذا الحيوان الكبير ، فتملأ بطونها من جهة ، وتريح الحيوان الذي تزدحم بين أسنانه «هذه الفضلات» من جهة أخرى وحين تخرج الطيور وتطير في الفضاء يطبق هذا الحيوان البحري فمه بكل هدوء ويعود إلى

٤٦٥

أعماق البحر.

طريقة إيصال الرزق من الله تعالى إلى الموجودات المختلفة مذهلة ومحيرة حقّا. من الجنين الذي يعيش في بطن أمّه ولا يعلم أحد أسراره شيئا ، إلى الحشرات المختلفة التي تعيش في طيّات الأرض ، وفي الأشجار وعلى قمم الجبال أو في أعماق البحر ، وفي الأصداف جميع هذه الموجودات يتكفل الله برزقها ولا تخفي على علمه ، وكما يقول القرآن( ... عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها ) .

الطريف في الآيات آنفة الذكر أنّها تعّبر عن الموجودات التي تطلب الرزق بـ «الدّابّة» وفيها إشارة لطيفة إلى العلاقة بين موضوع «الطاقة» و «الحركة». ونعلم أنّه حيثما تكن حركة فلا بدّ لها من طاقة ، أي ما يكون منشأ للحركة ، والقرآن الكريم يبيّن ـ في الآيات محل البحث ـ أنّ الله يرزق جميع الموجودات المتحركة ، وإذا ما توسعنا في معنى الحركة فإنّ النباتات تندرج في هذا الأمر أيضا ، لأنّ للنباتات حركة دقيقة وظريفة في نموها ، ولهذا عدّوا في الفلسفة الاسلامية موضوع «النمو» واحدا من أقسام الحركة

3 ـ هل أنّ رزق كلّ أحد مقدر ومعين من أوّل عمره إلى آخره ، وهل أنّه يصل إليه شاء أم أبى؟! أم أنّ عليه يسعى في طلبه؟

يظنّ بعض الأفراد السذّج استنادا إلى الآية آنفة الذكر ، وإلى بعض الرّوايات التي تذكر أنّ الرزق مقدر ومعين ، أنّه لا داعي للسعي من أجل الرزق والمعاش ، فإنّه لا بدّ من وصول الرزق ، ويقول بكل بساطة : إنّ من خلق الأشداق قدّر لها الأرزاق.

إنّ سلوك مثل هؤلاء الأفراد الذين لا حظّ لهم من المعرفة الدينية يعطي ذريعة الى الأعداء حيث يدّعون أن الدين أحد عوامل الركود الاقتصادي وتقبل الحرمان وإماتة النشاطات الإيجابيّة في الحياة ، فيقول مثلا : إذا لم تكن الموهبة

٤٦٦

الفلانية من نصيبي فإنّها لم تكن من رزقي قطعا فلو كانت من نصيبي لوصلتني حتما من دون تكلف عناء الكسب. وبهذا يستغل المستعمرون هذه الفرصة ليحرموا الكثير من الخلق التمتع بأسباب الحياة في حين أن أقل معرفة بالقرآن والأحاديث الإسلامية تكفي في بيان أنّ الإسلام يعدّ أساس أي استفادة مادية ومعنوية للإنسان هو السعي والجد والمثابرة ، حتى أنّنا نجد في القرآن جملة بمثابة الشعار لهذا الموضوع ، وهي الآية الكريمة( لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) .

وكان أئمّة المسلمين ـ ومن أجل أن يسنّوا للآخرين نهجا يسيرون عليه ـ يعملون في كثير من المواقع أعمالا صعبة ومجهدة.

والأنبياء السابقون ـ أيضا ـ لم يستثنوا من هذا القانون ، فكانوا يعملون على الاكتساب ، من رعي الأغنام إلى الخياطة إلى نسج الدروع إلى الزراعة. فإذا كان مفهوم الرزق من الله أن نجلس في البيت وننتظر الرزق ، فما كان ينبغي للأنبياء والأئمّة ـ الذين هم أعرف بالمفاهيم الدينية ـ أن يسعوا هذا السعي إلى الرزق!

وعلى هذا نقول : إنّ رزق كل أحد مقدّر وثابت ، إلّا أنّه مشروط بالسعي والجد ، وإذا لم يتوفر الشرط لم يحصل المشروط. وهذا كما نقول : إن لكلّ فرد أجلا ومدة من العمر. ولكن من المسلم والطبيعيّ أن مفهوم هذا الكلام لا يعني أنّ الإنسان حتى لو أقدم على الانتحار أو أضرب عن الطعام فإنّه سيبقى حيّا إلى أجل معيّن!! إنّما مفهوم هذا الكلام أن للبدن استعدادا للبقاء إلى مدّة معينة ولكن بشرط أن يراعي الظروف الصحيّة وأن يبتعد عن الأخطار ، وأن يجنّب نفسه عمّا يكون سببا في تعجيل الموت.

المسألة المهمّة في هذا المجال أنّ الآيات والرّوايات المتعلقة بتقدير الرزق ـ في الواقع ـ بمثابة الكابح للاشخاص الحريصين وعبّاد الدنيا الذين يلجون كل باب ، ويرتكبون أنواع الظلم والجنايات ، ويتصورون أنّهم إذا لم يفعلوا ذلك لم يؤمنوا حياتهم!

٤٦٧

إنّ آيات القرآن والأحاديث الإسلامية تحذر هذا النمط من الناس ألّا يمدّوا أيديهم وأرجلهم عبثا ، وألّا يطلبوا الرزق من طرق غير مشروعة ولا معقولة ، بل يكفي أن يسعوا لتحصيل الرزق عن طريق مشروع ، والله سبحانه يضمن لهم الرزق فالله الذي لم ينسهم في ظلمة الرحم.

الله الذي تكفّل رزقهم أيّام الطفولة حيث هيأ لهم أثداء الأمّهات الله الذي جعل الأب يسعى من الصباح إلى الليل ليهيّئ لهم الغذاء بكل عطف وشفقة ـ بعد أن أنهوا مرحلة الرضاعة ـ وهو مسرور بالتعب من أجلهم أجل ، هذا الرّب الرحيم كيف يمكن أن ينسى الإنسان إذا ما كبر ووجد القدرة على العمل والكسب.

ترى هل يجيز الإيمان والعقل أن يلجأ الإنسان إلى الظلم والإثم والتجاوز على حقوق الآخرين ويحرص على غصب حقوق المستضعفين بمجرّد أنّه يظن عدم توفر رزقه؟

وبالطبع لا يمكن أن ننكر أن بعض الأرزاق تصل إلى الإنسان سعى لها أم لم يسع. فهل يمكن أن ننكر أن نور الشمس يضيء في بيتنا من دون سعينا ، وأن المطر والهواء يصلان إلينا دون سعي منّا؟

وهل يمكن أن ننكر أنّ العقل والفكر والاستعداد المذخور فينا من أوّل يوم وجودنا لم يكن بسعينا؟!

ولكن هذه المواهب التي تنقلها إلينا الريح ـ كما يقال ـ أو بتعبير أصحّ هذه المواهب التي وصلتنا بلطف الله ومن دون سعينا ، إذا لم نحافظ عليها بالجد والسعي بطريقة صحيحة فستضيع من أيدينا ، أو أنّها ستبقى بلا أثر!

هناك كلام معروف منقول عن الإمام عليعليه‌السلام في شأن الرزق فيقول «واعلم يا بني أن الرزق رزقان ، رزق تطلبه ورزق يطلبك»(1) وفي هذا الكلام إشارة إلى هذه

__________________

(1) نهج البلاغة ، من وصية الإمام عليعليه‌السلام لولده الحسنعليه‌السلام .

٤٦٨

الحقيقة.

كما لا ينكر أن بعض موارد الرزق لا يأتي تبعا لشيء ظاهر وملموس ، بل يصلنا على أثر سلسلة من الاتفاقات والمصادفات ، هذه الحوادث وإن كانت في نظرنا مصادفات ، إلّا أنّها في الواقع وفي نظام الخلق قائمة على حساب دقيق. ولا شك أن حساب هذا النوع من الرزق منفصل عن الأرزاق التي تأتي تبعا للجد والسعي ، والكلام آنف الذكر يمكن أن يشير إلى هذا المطلب أيضا.

ولكن على كل حال ـ فإن النقطة الأساسية هنا أنّ جميع التعاليم الإسلامية تأمرنا أن نسعى أكثر فأكثر لتأمين نواحي الحياة المادية والمعنوية ، وأن الفرار من العمل ـ بزعم أن الرزق مقسوم وأنّه آت لا محالة ـ غير صحيح!

4 ـ في الآيات المتقدمة ـ التي هي محل البحث ـ إشارة إلى «الرزق» فحسب ، وبعدها ببضعة آيات يأتي التعبير عن التائبين والمؤمنين ويشار فيها إلى «المتاع الحسن».

وبالموازنة والمقارنة بين هذين الأمرين يدلنا هذا الموضوع على أن الرزق معدّ لكل دابة من إنس وحشرات وحيوانات مفترسة إلخ. وللمحسنين والمسيئين جميعا! إلّا أن «المتاع الحسن» والمواهب الجديرة والثمينة خاصّة بالمؤمنين الذين يطهرون أنفسهم من كل ذنب وتلوّث بماء التوبة ، ويتمتعون بنعم الله في مسير طاعته ، لا في طريق الهوى والهوس!

* * *

٤٦٩

الآية

( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) )

التّفسير

الهدف من الخلق :

في هذه الآية بحثت ثلاث نقاط أساسية :

المطلب الأوّل : يبحث عن خلق عالم الوجود ـ وخصوصا بداية الخلق ـ الذي يدل على قدرة الله وعظمته سبحانه( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) .

ولا حاجة لبيان أنّ المقصود من كلمة «اليوم» في هذه الآية ليس هو اليوم العادي الذي هو مجموع أربع وعشرين ساعة ، لأنّ الأرض والسماء لم تكونا موجودتين حينئذ فلا الكرة الأرضية كانت موجودة ، ولا حركتها حول نفسها التي تنتج أربعا وعشرين ساعة بل المقصود منه ـ كما بينا سابقا ـ هو الزمان ،

٤٧٠

سواء كان قصيرا أو مديدا جدا بحيث يبلغ مليارات السنوات مثلا ، وقد نبهنا على هذا المعنى ـ في ذيل الآية (54) من سورة الأعراف ـ بشرح واف في هذا المجال ، فلا حاجة للتكرار والإعادة.

وذكرنا هناك أن خلق العالم كان في ستة أزمنة متوالية ومتتابعة ، مع أنّ الله قادر على أن يخلق العالم كلّه في لحظة واحدة ، وذلك لأنّ الخلق التدريجي يعطي صورة جديدة ولونا جديدا وشكلا بديعا وتتبيّن قدرة الله وعظمته أكثر وأحسن.

فهو يريد أن يبيّن قدرته في آلاف الصور لا بصورة واحدة ، وحكمته في آلاف الثياب لا بثوب واحد ، لتتيسر معرفته وكذلك معرفة حكمته وقدرته للناس ، ولنجد الدلائل ـ من خلال عدد الأيّام والسنوات والقرون والأعصار التي مرّت على العالم ـ على معرفة الله! ثمّ يضيف سبحانه أن عرشه كان على الماء( وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ) .

ومن أجل أن نفهم تفسير هذه الجملة ينبغي أن نفهم المراد من كلمتي «العرش» و «الماء».

«فالعرش» في الأصل يعني السقف أو ما يكون له سقف ، كما يطلق على الأسرّة العالية كأسرّة الملوك والسلاطين الماضين ، ويطلق أيضا على خشب بعض الأشجار ، وغير ذلك.

ولكن هذه الكلمة استعملت بمعنى القدرة أيضا ويقال «استوى فلان على عرشه» كناية عن بلوغه القدرة كما يقال «ثلّ عرش فلان» كناية عن ذهاب قدرته(1) .

كما ينبغي الالتفات إلى هذه الدقيقة ، وهي أن العرش يطلق أحيانا على عالم الوجود، لأنّ عرش قدرة الله يستوعب جميع هذا العالم.

وأمّا «الماء» فمعناه معروف ، وهو السائل المستعمل للشرب والتطهير ، إلّا أنّه قد يطلق على كل سائل مائع كالفلزّات المائعة وما أشبه ذلك ، وبضميمة ما قلناه في

__________________

(1) قد يطلق «العرش» ويراد به «الكرسي» وله مفهوم آخر وقد بيّناه في ذيل الآية (225) من سورة البقرة.

٤٧١

تفسير هاتين الكلمتين يستفاد أنّه في بداية الخلق كان الكون بصورة مواد ذائبة «مع غازات مضغوطة للغاية ، بحيث كانت على صورة مواد ذائبة أو مائعة».

وبعدئذ حدثت اهتزازات شديدة وانفجارات عظيمة في هذه المواد المتراكمة الذائبة ، وأخذت تتقاذف أجزاء من سطحها إلى الخارج ، وأخذ هذا الوجود المترابط بالانفصال. ثمّ تشكلت بعد ذلك الكواكب السيّارة والمنظومات الشمسية والأجرام السماوية.

فعلى هذا نقول : إنّ عالم الوجود ومرتكزات قدرة الله كانت مستقرة بادئ الأمر على المواد المتراكمة الذائبة ، وهذا الأمر هو نفسه الذي أشير إليه في الآية (30) من سورة الأنبياء.

( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) .

وفي الخطبة الأولى من نهج البلاغة إشارات واضحة إلى هذا المعنى والمطلب الثّاني : الذي تشير إليه الآية ـ آنفة الذكر ـ هو الهدف من خلق الكون ، والقسم الأساس من ذلك الهدف يعود للإنسان نفسه الذي يمثل ذروة الخلائق هذا الإنسان الذي كتب عليه أن يسير في طريق التعليم والتربية ويشقّ طريق التكامل نحو الله تعالى يقول الله سبحانه :( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) أي ليختبركم ويمتحنكم أيّكم الأفضل والأحسن عملا بهذه الدار الدنيا.

«ليبلوكم» كلمة مشتقّة من مادة «البلاء» و «الابتلاء» ومعناها ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ الاختبار والامتحان والامتحانات الإلهية ليست من قبيل معرفة النفس وكشف الحالة التي عليها الإنسان في محتواه الداخلي وفي فكره وروحه ، بل بمعنى التربية (تقدم شرح هذا الموضوع في ذيل الآية 155 من سورة البقرة) والطريف في هذه الآية أنّها تجعل

٤٧٢

قيمة كل إنسان بحسن عمله لا بكثرة عمله ، وهذا يعني أن الإسلام يستند دائما إلى الكيفية في العمل لا إلى الكثرة والكمية فيه.

وفي هذا المجال ينقل عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال «ليس يعني أكثركم عملا ولكن أصوبكم عملا ، وإنّما الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة. ثمّ قال : الإبقاء على العمل حتى يخلص أشدّ من العمل ، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا اللهعزوجل »(1) .

والمطلب الثّالث : الذي تشير إليه الآية آنفة الذكر ـ هو مسألة المعاد الذي لا ينفصل ولا يتجزأ عن مسألة خلق العالم ، وفيها بيان الهدف من الخلق وهو تكامل الإنسان وتكامل الإنسان يعني التهّيؤ إلى الحياة في عالم أوسع وأكمل ، ولذلك يقول سبحانه :( وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

وكلمة «هذا» التي وردت ـ في الآية آنفة الذكر ـ على لسان الكفار ، إشارة إلى كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن المعاد أي إنّ ما تدّعيه أيّها النّبي في شأن المعاد سحر مكشوف وواضح ، فعلى هذا تكون كلمة السحر هنا بمعنى الكلام العاري عن الحقيقة ، والقول الذي لا أساس له ، وبتعبير بسيط : الخدعة والسخرية!! لأنّ السحرة يظهرون للناظرين بأعمالهم أمورا لا واقع لها ، ولهذا قد تطلق كلمة السحر على كل أمر عار عن الحقيقة

أمّا من يرى بأنّ «هذا» إشارة إلى القرآن المجيد ، لأنّ القرآن أخّاذ وفيه جاذبية السحر فإنّه يجانب الصواب ، لأنّ الآية تتكلم عن المعاد ولا تتكلم عن القرآن ، وإن كنّا لا ننكر أنّ القرآن فيه جاذبية وأنّه أخّاذ للغاية.

* * *

__________________

(1) تفسير البرهان ، الجزء الثّاني ، ص 207.

٤٧٣

الآيات

( وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) )

التّفسير

استيعاب المؤمنين وعدم استيعاب غيرهم :

في هذه الآيات ـ وبمناسبة البحث السابق عن غير المؤمنين ـ بيان لزوايا الحالات النفسية ونقاط الضعف في أخلاق هؤلاء الأفراد والتي تجبر الإنسان إلى هاوية الظلام والفساد.

وأوّل صفة تذكر لهؤلاء هي السخرية من الحقائق وعدم الاكتراث بها

٤٧٤

وبالمسائل المصيرية ، فهؤلاء بسبب جهلهم وعدم معرفتهم وغرورهم ـ حين يسمعون تهديد الأنبياء في مؤاخذة المسيئين ومعاقبتهم ، ثمّ تمرّ عليهم عدّة أيّام يؤخر الله تعالى بلطفه فيها العذاب عنهم ، نراهم يقولون باستهزاء مبطن : ما السبب في تأخرّ العذاب الالهي ، وأين عقاب الله :( وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ ) .

و «الأمّة» مشتقّة من مادة «أمّ» وهي بمعنى الوالدة ، ومعناها في الأصل انضمام الأشياء بعضها إلى بعض ، ولذلك يقال لكل مجموعة على هدف معين ، أو زمان أو مكان واحد «أمة».

وقد جاءت هذه الكلمة بمعنى الوقت والزمان أيضا ، لأنّ أجزاء الزمان مرتبطة بعضها ببعض ، أو لأنّ المجموعة أو الجماعة تعيش في عصر وزمان معين ، فنحن نقرأ في سورة يوسفعليه‌السلام الآية (45) مثلا( وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ )

ففي الآية ـ محل البحث ـ كلمة «الأمّة» جاءت بهذا المعنى ، ولذلك وصفت بكلمة «معدودة» فمعنى الآية هو : إذا أخرنا عن هؤلاء العذاب والمجازاة لمدّة قصيرة قالوا : أي شيء يمنعه؟!

وعلى كل حال ، فهذه عادة الجاهلين والمغترين ، فكلّما وجدوا شيئا لا ينسجم مع ميولهم وطباعهم عدّوه سخرية ، لذلك يتخذون التهديدات والنذر التي توقظ أصحاب الحق وتهزهم يتخذونها هزوا ويسخرون منها شأنهم شأن من يلعب بالنّار.

لكن القرآن يحذرهم وينذرهم بصراحة في ردّه على كلامهم ، ويبين لهم أن لا دافع لعذاب الله إذا جاءهم( أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ) وأن الذين يسخرون منه واقع بهم ومدمّرهم( وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

أجل ، ستصعد صرخاتهم إلى السماء في ذلك الحين ، ويندمون على كلماتهم المخجلة، لكن لا صرخاتهم تغنيهم وتنقذهم ، ولا هذا الندم ينفعهم ، ولات حين

٤٧٥

مندم.

ومن نقاط الضعف عند هؤلاء قلّة الصبر بوجه المشاكل والصعاب وانحسار البركات الإلهية. حيث نجد في الآية التالية قوله تعالى عنهم :( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ ) .

وبالرغم من أنّ هذا التعبير يتناول الإنسان بشكل عام ، لكن ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ المراد من الإنسان في مثل هذه الآيات هو الافراد الذين لم يتلقوا تربية سليمة والمنحرفون عن جادة الحق ، لذلك يتطابق هذا البحث مع البحث السابق عن الأفراد غير المؤمنين.

ونقطة الضعف الثّالثة عند هؤلاء أنّهم حين يتنعمون بنعمة ويشعرون بالترف والرفاه يبلغ بهم الفرح والتكبر والغرور درجة ينسون معها كل شيء ، ولذلك يشير القرآن الكريم إلى هذه الظاهرة بقوله تعالى :( وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ) .

وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الجملة( لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي ) وهو أن مثل هؤلاء الأشخاص حين يصابون بالشدائد ثمّ يبدل الله بلطفه هذه الشدائد نعمّا من عنده يقول هؤلاء : إنّ الشدائد السابقة كانت كفارة عن ذنوبنا وقد غسلت جميع معاصينا ، لذلك أصبحنا من المقربين إلى الله ، فلا حاجة للتوبة والعودة إلى ساحة الله وحضرته.

ثمّ يستثني الله سبحانه المؤمنين الذين يواجهون الشدائد والمصاعب بصبر ، ولا يتركون الأعمال الصالحة على كل حال ، فهؤلاء بعيدون عن الغرور والتكبر وضيق الأفق ، حيث يقول سبحانه :( إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) .

هؤلاء لا يغترّون عند وفور النعمة فينسون الله ، ولا ييأسون عند الشدائد والمصائب فيكفرون بالله ، بل إن أرواحهم الكبيرة وافكارهم السليمة جعلتهم يهضمون النعم والبلايا في أنفسهم دون الغفلة عن ذكر الله وأداء مسئولياتهم

٤٧٦

ولذلك فإنّ لهؤلاء ثوابا ومغفرة من الله( أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) .

* * *

بحوث

1 ـ الأمّة المعدودة وأصحاب المهديعليه‌السلام :

في روايات عديدة وصلتنا عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الأمّة المعدودة تعني النفر القليل ، وفيها إشارة إلى أصحاب المهديعليه‌السلام وأنصاره ، وعلى هذا يكون معنى الآية : إذا ما أخرنا العذاب عن الظالمين والمسيئين إلى ظهور المهدي وأصحابه ، فإنّ أولئك الظالمين يقولون : أي شيء يقف أمام عذاب الله فيحبسه عنّا!

ولكن كما قلنا أن ظاهر الآية من الأمّة المعدودة هو الزمان المعدود والمعين ، وقد وردت رواية عن الإمام عليعليه‌السلام في تفسير الأمّة المعدودة تشير إلى ما بيّناه ، وهو الزمان المعين ، فيمكن أن تكون الرّوايات الآنفة تشير إلى المعنى الثّاني من الآية ، وهو ما اصطلح عليه بـ «بطن الآية» وطبيعي أنّه بمثابة البيان عن القانون الكلي في شأن الظالمين ، لا أنّه موضوع خاص بالمشركين الذين عاصروا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحن نعلم أنّ آيات القرآن تحمل معاني كثيرة مختلفة ، فالمعنى الأوّل والظاهر يمكن أن يكون في مسألة خاصّة أو جماعة معينة ، والمعنى الآخر يكون عاما مجرّدا عن الزمان وغير مخصوص بفئة معينة.

2 ـ أربع ظواهر لضيق الأفق الفكري

رسمت الآيات المتقدمة ثلاث حالات مختلفة من حالات المشركين والمسيئين ، وقد ورد في ضمنها أربعة أوصاف لهم :

الأوّل : إنّ المشرك يؤوس عند قطع النعمة عنه ، أي لا يبقى له أمل أبدا.

والآخر : إنّه كفور ، أي غير شاكر أبدا.

٤٧٧

والثّالث : إنّه إذا غرق بالنعمة أو نال أقلّ نعمة ، فهو ـ على العكس من الحالة السابقة ـ ينسى نفسه وينسى كل شيء ويغفل بما ناله من اللّذة والنشاط ، فيغدو ثملا مغرورا وينجر إلى الفساد والتجاوز على حدود الله.

والوصف الرّابع : إنّ حاله عند وفور النعمة حالة الفخر ، أي يبلغ درجة كبيرة من التكبر.

وعلى كل حال ، هذه الأوصاف الأربعة هي ظواهر من ضيق الأفق وقلّة الإستيعاب والرؤية وهي لا تختص بجماعة معينة من غير المؤمنين وملوّثي الفكر ، بل هي سلسلة من الأوصاف العامّة لجميع هؤلاء

أمّا المؤمنون الذين يمتعون بروح كبيرة وفكر عال وصدر رحب ورؤية بعيدة المدى ، فلا يهزّهم تبدل الدنيا والزمان ، ولا ييأسوا لسلب النعمة عنهم ، ولا يغرّهم إقبال النعمة فيكونوا من الغافلين ، لذا ينبغي الدقة والملاحظة في آخر الآية التي تستثني المؤمنين ، إذ ورد التعبير فيها عن الإيمان بالصبر والاستقامة( إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ) .

3 ـ معيار الضعف النفسي

والمسألة الدقيقة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها ، هي أنّه في الموردين (مورد سلب النعمة بعد إسباغها ومورد إسباغ النعمة بعد سلبها) أشير بكلمة «أذقنا» المشتقّة من «الإذاقة» ويراد بها أن نفوس هؤلاء المشركين ضعيفة إلى درجة أنّهم لو أعطوا نعمة قليلة ثمّ سلبت منهم يضجرون وييأسون ، كما أنّهم إذا ذاقوا نعمة بعد شدة يفرحون ويغترّون بها.

4 ـ النعم جميعها مواهب :

الطريف أنّه في الآية الأولى عبّر عن النعمة بالرحمة( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا

٤٧٨

رَحْمَةً ) وفي الآية الثّانية ورد كلمة «النعمة» نفسها ، ويمكن أن تكون إشارة إلى أنّ نعم الله جميعها تصل إلى الإنسان عن طريق التفضل والرحمة لا عن طريق الاستحقاق ، وإذا كان الأصل أن تكون النعمة على حسب الاستحقاق ، فإنّ جماعة قليلة ستنالها ، أو أن أية جماعة لن تنالها أبدا.

5 ـ أثران للأعمال الحسنة

في آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وعد بالمغفرة ـ للأفراد المؤمنين الذين يتمتعون بالاستقامة ـ ووعد بالأجر الكبير أيضا جزاء لأعمالهم الصالحة ، فهي إشارة إلى أنّ الأعمال الصالحة لها أثران :

الأوّل : غسل الذنوب.

والثّاني : كسب الثواب العظيم والأجر الكبير.

* * *

٤٧٩

الآيات

( فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) )

سبب النّزول

وردت في شأن نزول الآيات المتقدمة روايتان ، ويحتمل أن تكون كليهما صحيحتين جميعا.

الأولى : إنّ جماعة من رؤوساء مكّة جاؤوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقالوا : إذا كنت صادقا في دعواك بأنّك نبي فصير جبال مكّة ذهبا أو ائتنا بملائكة من السماء تصدّق نبوتك ، فنزلت هذه الآيات.

والثّانية : إنّه روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليعليه‌السلام :«يا علي إنّي سألت ربّي يوالي بيني وبينك ففعل ، وسألت ربّي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل،

٤٨٠