الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 608
المشاهدات: 237511
تحميل: 5089


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237511 / تحميل: 5089
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 6

مؤلف:
العربية

وفي الآية (41) من سورة النساء نقرأ قوله تعالى :( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) .

وفي شأن السّيد المسيحعليه‌السلام نقرأ في الآية (117) من سورة المائدة :( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ ) .

بعد هذا من القائل :( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ؟ أهو الله سبحانه ، أم الأشهاد على الأعمال؟! هناك أقوال بين المفسّرين ، لكن الظاهر أنّ هذا الكلام تتمة لقول الأشهاد

والآية التي بعدها تبيّن صفات الظالمين في ثلاث جمل :

الأولى تقول : إنّهم يمنعون الناس بمختلف الأساليب عن سبيل الله( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) فمرّة عن طريق إلقاء الشبهة ، ومرّة بالتهديد ، وأحيانا عن طريق الإغراء والطمع ، وجميع هذه الأساليب ترجع إلى أمر واحد ، وهو الصدّ عن سبيل الله.

الثّانية تقول : إنّهم يسعون في أن يظهروا سبيل الله وطريقه المستقيم عوجا( وَيَبْغُونَها عِوَجاً ) (1) .

أي بأنواع التحريف من قبيل الزيادة أو النقصان أو التّفسير بالرأي وإخفاء الحقائق حتى لا تتجلى الصورة الحقيقية للصراط المستقيم. ولا يستطيع الناس وطلاب الحق السير في هذا الطريق.

والثّالثة تقول : إنّهم لا يؤمنون بيوم النشور والقيامة( وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) .

وعدم إيمانهم بالمعاد هو أساس الانحرافات ، لأنّ الإيمان بتلك المحكمة

__________________

(1) المقصود بـ «العوج» أي الملتوي ، وقد بيّنا شرح ذلك في ذيل الآية (45) من سورة الأعراف وينبغي الالتفات إلى أنّ الضمير في «يبغونها» يعود على سبيل الله فهي مؤنث مجازي ، أو بمعنى الجادة والطريقة ، فهي مؤنث لفظي ، ونقرأ في سورة يوسفعليه‌السلام الآية (108)( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ ) .

٥٠١

الكبرى والعالم الوسيع بعد الموت يفعل الطاقات الايجابية الكامنة في النفس والروح.

ومن الطّريف أنّ جميع هذه المسائل تجتمع في مفهوم «الظلم» لأنّ المفهوم الواسع لهذه الكلمة يشمل كل انحراف وتغيير للموضع الواقعي للأشياء والأعمال والصفات والعقائد.

في الآية التالية يبيّن أنّ هؤلاء لا يستطيعون الهرب من عقاب الله في الأرض ولا أن يخرجوا من سلطانه( أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ) كما أنّهم لا يجدون وليّا وحاميا لهم غير الله( وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ) .

وأخيرا يشير سبحانه إلى عقوبتهم الشديدة حيث تكون مضاعفة( يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ) .

لماذا؟! لأنّهم كانوا ضالين ومخطئين ومنحرفين ، وفي الوقت ذاته كانوا يجرّون الآخرين إلى هذا السبيل ، فلذلك سيحملون أوزارهم وأوزار الآخرين ، دون التخفيف عن الآخرين من أوزارهم( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ) (1) .

وهناك أخبار كثيرة في أن «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ، ومن سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها».

وفي ختام الآية يبيّن الله سبحانه أساس شقاء هؤلاء بقوله :( ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ) .

فهم في الحقيقة بإهمالهم هاتين الوسيلتين المؤثرتين [وسيلتي السمع والبصر] لدرك الحقائق ، ضلّوا السبيل وأضلّوا سواهم أيضا لأنّ الحق والحقيقة لا يدركان إلّا بالسمع والبصر النافذ.

ومن الطريف هنا أنّنا نقرأ في الآية أنّهم ما كانوا يستطيعون السمع ، أي استماع الحق، فهذا التعبير يشير إلى الحالة الواقعية التي هم فيها ، وهي أنّ استماع الحق

__________________

(1) العنكبوت ، 23.

٥٠٢

كان عليهم صعبا وثقيلا إلى درجة يتصور فيها أنّهم فقدوا حاسة السمع ، فلا قدرة لهم على السمع ، وهذا التعبير ينسجم تماما مع قولنا مثلا : إنّ الشخص العاشق لا يستطيع أن يسمع كلاما عن عيوب معشوقه!

وبديهي أنّ عدم استطاعة دركهم الحقائق كانت نتيجة لجاجتهم الشديدة وعدائهم للحق والحقيقة ، وهذا لا يسلب عنهم المسؤولية ، لأنّهم هم السبب في ذلك ، وهم الذي مهّدوا له ، وكان بإمكانهم أن يبعدوا عنهم هذه الحالة ، لأنّ القدرة على السبب قدرة على المسبّب.

والآية التي بعدها تبيّن في جملة واحدة حصيلة سعيهم وجدهم في طريق الباطل ، فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) وهذه أعظم خسارة يمكن أن تصيب الإنسان ، إذ يخسر وجوده الإنساني ثمّ تضيف الآية : أنّهم اتخذوا آلهة ومعبودين مصطنعين «مزيفين» ولكن تلاشت هذه الآلهة المصنوعة والمزيفة أخيرا( وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

وفي نهاية الآية بيان الحكم النهائي لمآلهم وعاقبتهم بهذا التعبير( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ) .

والسبب واضح ؛ لأنّهم حرموا من نعمة السمع الحاد والبصر النافذ ، وخسروا كلّ إنسانيتهم ووجودهم ، ومع هذه الحال فقد حملوا أثقال مسئوليتهم وأثقال الآخرين مع أثقالهم.

والمعنى الأصلي لكلمة «لا جرم» مأخوذ من «جرم» على وزن «حرم» وهو قطف الثمار من الأشجار ، كما نقل ذلك الراغب في مفرداته ، ثمّ توسع هذا المعنى فشمل كلّ نوع من الكسب والتحصيل ، ولكثرة استعمال الكلمة في الكسب غير المرغوب فيه شاعت في هذا المعنى ، ولذلك يطلق على الذنب أنّه جرم.

ولكن حين تبدأ هذه الكلمة جملة وهي مسبوقة بـ «لا» فيكون معناها حينئذ:أنّه لا شيء يمكنه أن يمنع أو يقطع هذا الموضوع ، فهي قريبة من معنى «لا بدّ» أو «من المسلّم به» والله العالم «فتدبر».

* * *

٥٠٣

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) )

التّفسير

تعقيبا على الآيات المتقدمة التي أوضحت حال منكري الوحي ، تأتي الآيتان هنا لتوضحا من في قبالهم ، وهم المؤمنون حقّا.

فالآية الأولى تقول :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ ) أي:استسلموا وانقادوا خاضعين لأمر الله ووعده الحق ،( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

* * *

ملاحظتان

1 ـ بيان هذه الأوصاف الثلاثة وهي «الإيمان» و «العمل الصالح» و «التسليم

٥٠٤

والخضوع والإخبات إلى دعوة الحق» إنّما هو بيان أمور واقعية ترتبط بعضها ببعض ، لأنّ العمل الصالح ثمرة من شجرة الإيمان ، فالإيمان الذي ليس فيه مثل هذه الثمرة إيمان ضعيف ولا قيمة له ولا يحسب له حساب ، وكذلك التسليم والانقياد والخضوع والاطمئنان لما وعد الله سبحانه ، كل ذلك من آثار الإيمان والعمل الصالح لأنّ الإعتقاد الصحيح والعمل النقي أساس وجود هذه الصفات والملكات العالية في المحتوى الداخلي للإنسان.

2 ـ كلمة «أخبتوا» مشتقة من «الإخبات» وجذرها اللغوي «خبت» على وزن «ثبت» ومعناها الأصلي الأرض المنبسطة الواسعة التي يمكن للإنسان أن يخطو عليها باطمئنان وارتياح ، فلذلك استعملت هذه المادة «الخبت والإخبات» في الاطمئنان أيضا كما استعملت في الخضوع والتسليم ، لأنّ الأرض التي تبعث على الاطمئنان في السير هي خاضعة ومستسلمة للسائرين ، فعلى هذا يمكن أن يكون معنى الإخبات واحدا من المعاني الثلاثة الآتية ، كما ويحتمل شموله لجميع هذه المعاني ، إذ لا منافاة بينها :

1 ـ إنّ المؤمنين حقا خاضعون لله.

2 ـ إنّهم مسلّمون لأمر الله.

3 ـ إنّهم مطمئنون بوعود الله.

وفي كل صورة إشارة إلى واحدة من أعلى الصفات الإنسانية في المؤمنين التي ينعكس أثرها على كامل حياتهم!

الطريف هنا أنّنا نقرأ في حديث عن أبي أسامة قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ عندنا رجلا يسمّى «كليبا» لا يجيء عنكم شيء إلّا قال : أنا أسلّم ، فسمّيناه : كليب تسليم ، قال : فترحم عليه ثمّ قال «أتدرون ما التسليم»؟ فسكتنا فقال : هو والله الإخبات ، قول الله :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ ) (1) .

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، الصفحة 216.

٥٠٥

وفي الآية الأخرى بيان لحالة هذين الفريقين في مثال حيّ وواضح حال الأعمى والأصم ، وحال السميع والبصير ، فتقول الآية :( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً ) ثمّ تعقب الآية( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ؟! وكما هو معلوم في علم (المعاني والبيان) ، فإنّه من أجل تجسيم الحقائق العقلية وتوضيحها وتبييّنها لعامّة الناس تشبه المعقولات بالمحسوسات دائما.

والقرآن الكريم اتبع هذه الطريقة بكثرة ، وبيّن كثيرا من المسائل الدقيقة وذات الأهمية البالغة بأمثلة جليّة وأخّاذة ، وبيّن حقائقها في أحسن صورة!

البيان السابق من هذا القبيل ، لأنّ أحسن الوسائل التي لها أثرها في معرفة الحقائق الحسية في عالم الطبيعة هي «العين والأذن» ولذلك لا يمكن أن يتصور أن أفرادا يولدون صمّا وعميانا يستطيعون أدراك مواضيع هذا العالم بصورة صحيحة ، فهم يعيشون في عالم غامض ومجهول.

كذلك حال منكري الوحي ، فبسبب لجاجتهم وعدائهم للحق ووقوعهم أسرى بمخالب التعصب والأنانية وعبادة الذات ، فقدوا بصرهم وسمعهم للحقيقة البيّنة ، فلا يستطيعون ادراك الحقائق المرتبطة بعالم الغيب ، وتأثير الإيمان ، والتلذذ بعبادة الله ، وعظمة التسليم لأمره.

هؤلاء الأفراد يعيشون أبدا عميانا صمّا في ظلام مطبق وسكوت مميت في حين أنّ المؤمنين الصادقين يرون كل حركة بأعين بصيرة ، ويسمعون كل صوت بآذان سميعة ، وبالتوجه إلى طريقهم يكون مصيرهم «السعادة».

* * *

٥٠٦

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) )

التّفسير

قصّة نوح المثيرة مع قومه :

تقدم أنّ هذه السورة تحمل بين ثناياها قصص الأنبياء السابقين وتأريخهم ، وذلك لإيقاظ أفكار المنحرفين والالتفات إلى الحقائق وبيان العواقب الوخيمة للمفسدين الفجار. وأخيرا بيان طريق النصر والموفقية.

في البداية تذكر قصّة نوحعليه‌السلام ، وهو أحد الأنبياء أولي العزم ، وضمن (26) آية

٥٠٧

ترسم النقاط الأساسية لتأريخه المثير

ولا شك أنّ قصّة جهاد نوحعليه‌السلام المتواصل للمستكبرين في عصره ، وعاقبتهم الوخيمة ، واحدة من العبر العظيمة في تاريخ البشرية ، والتي تتضمن دروسا هامّة في كل واقعة منها

والآيات المتقدمة تبيّن بداية هذه الدعوة العظيمة فتقول :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

التأكيد على مسألة الإنذار ، مع أنّ الأنبياء كانوا منذرين ومبشرين في الوقت ذاته لأنّ الثورة ينبغي أن تبدا ضرباتها بالإنذار وإعلام الخطر ، لأنّه أشدّ تأثيرا في إيقاظ النائمين والغافلين من البشارة.

والإنسان عادة إذا لم يشعر بالخطر المحدق به فإنّه يفضل السكون على الحركة وتغيير المواقع. ولذلك فقد كان إنذار الأنبياء وتحذيرهم بمثابة السياط على أفكار الضاليّن ونفوسهم، فتؤثر فيمن له القابلية والاستعداد للهداية على التحرك والاتجاه الى الحق.

ولهذا السبب ورد الاعتماد على الإنذار في آيات كثيرة من القرآن ، كما في الآية (49) من سورة الحج ، والآية (115) من سورة الشعراء ، والآية (50) من سورة العنكبوت، والآية (42) من سورة فاطر ، والآية (70) من سورة ص ، والآية (9) من سورة الأحقاف ، والآية (50) من سورة الذاريات ، وآيات أخرى كلها تعتمد على كلمة «نذير» في بيان دعوة الأنبياء لأممهم.

وفي الآية الأخرى يلخّص محتوى رسالته في جملة واحدة ويقول : رسالتي هي( أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) ثمّ يعقب دون فاصلة بالإنذار والتحذير مرّة أخرى( إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) (1) .

__________________

(1) مع أنّ الأليم صفة للعذاب عادة ، ولكن في الآية السابقة وقع صفة ل «يوم» ، وهذا نوع من الإسناد المجازي اللطيف الذي نجده في مختلف اللغات في أدبياتها.

٥٠٨

في الحقيقة أن مسألة التوحيد والعبودية لله الواحد الأحد هي أساس دعوة الأنبياء جميعا. فنحن نقرا في الآية الثّانية من هذه السورة ، والآية (40) من سورة يوسفعليه‌السلام ، الآية (23) من سورة الإسراء نقرأ في هذه الآيات وأمثالها في الحديث عن الأنبياء أن دعوتهم جميعا تتلخص في توحيد الله سبحانه.

فإذا كان جميع أفراد المجتمع موحدّون ولا يعبدون إلّا الله ، ولا ينقادون للأوثان الوهمية الخارجية منها والداخلية من قبيل الأنانية والهوى والشهوات والمقام والجاه والنساء والبنين فلا يبقى أثر للسلبيات والخبائث في المجتمع البشري.

فإذا لم يصنع الشخص الضعيف من ضعفه هذا صنما ليسجد له ويتبع أمره ، فلا استكبار حينئذ ولا استعمار ، ولا آثارهما الوخيمة من قبيل الذل والأسر والتبعية والميول المنحرفة وأنواع الشقاء بين أفراد المجتمع ، لأنّ كل هذه الأمور وليدة الانحراف عن عبادة الله والتوجه نحو الأصنام والطواغيت فلننظر الآن أوّل ردّ فعل من قبل الطواغيت واتباع الهوى والمترفين وأمثالهم إزاء إنذار الأنبياء ، كيف كان وماذا كان؟!

لا شك أنّه لم يكن سوى حفنة من الأعذار الواهية والحجج الباطلة والأدلة الزائفة التي تعتبر ديدن جميع الجبابرة في كل عصر وزمان ، فقد أجاب أولئك دعوة نوح بثلاثة إشكالات :

الأوّل : إنّ الإشراف والمترفين من قوم نوحعليه‌السلام قالوا له أنت مثلنا ولا فرق بيننا وبينك :( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا ) زعما منهم أن الرسالة الإلهية ينبغي أن تحملها الملائكة إلى البشر لا أن البشر يحملها إلى البشر! وظنّا منهم أنّ مقام الإنسان أدنى من مقام الملائكة ، أو أنّ الملائكة تعرف حاجات الإنسان أكثر منه.

نلاحظ هنا كلمة «الملأ» التي تشير إلى أصحاب الثروة والقوة الذين يملأ العين

٥٠٩

ظاهرهم ، في حين أن الواقع أجوف. ويشكلون أصل الفساد والانحراف في كل مجتمع ، ويرفعون راية العناد والمواجهة أمام دعوة الأنبياءعليهم‌السلام .

والإشكال الثّاني : إنّهم قالوا : يا نوح ؛ لا نرى متبعيك ومن حولك إلّا حفنة من الأراذل وغير الناضجين الذين لم يسبروا مسائل الحياة( وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ) .

و «الأراذل» جمع ل «أرذل» وتأتي أيضا جمع ل «رذل» التي تعني الموجود الحقير ، سواء كان إنسانا أم شيئا آخر غيره.

وبالطبع فإنّ الملتفين حول نوحعليه‌السلام والمؤمنين به لم يكونوا أراذل ولا حقراء ، ولكن بما أنّ الأنبياء ينهضون للدفاع عن المستضعفين قبل كل شيء ، فأوّل جماعة يستجيبون لهم ويلبّون دعوتهم هم الجماعة المحرومة والفقيرة ، ولكن هؤلاء في نظر المستكبرين الذين يعدّون معيار الشخصيّة القوة والثروة فحسب يحسبونهم أراذل وحقراء

وإنّما سمّوهم بـ «بادي الرأي» أي الذين يعتمدون على الظواهر من دون مطالعة ويعشقون الشيء بنظرة واحدة ، ففي الحقيقة كان ذلك بسبب أنّ اللجاجة والتعصب لم يكن لها طريق الى قلوب هؤلاء الذين التفوا حول نوحعليه‌السلام لأنّ معظمهم من الشباب المطهرة قلوبهم الذين يحسون بضياء الحقيقة في قلوبهم ، ويدركون بعقولهم الباحثة عن الحق دلائل الصدق في أقوال الأنبياءعليهم‌السلام وأعمالهم.

الإشكال الثّالث : الذي أوردوه على نوحعليه‌السلام أنهم قالوا : بالاضافة الى أنّك إنسان ولست ملكا ، وأن الذين آمنوا بك والتفوا حولك هم من الأراذل ، فإنّنا لا نرى لكم علينا فضلا( وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ ) .

والآيات التي تعقبها تبيّن رد نوحعليه‌السلام وإجاباته المنطقية على هؤلاء حيث تقول:( قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ) .

٥١٠

وقد اختلف المفسّرون في جواب نوحعليه‌السلام هذا لأي من الإشكالات الثّلاثة هو؟ولهم في ذلك أقوال ولكن مع التدبر في الآية يتّضح أنّ هذا الجواب يمكن أن يكون جوابا للإشكالات الثلاثة بأسرها.

لأنّ أوّل إشكال أوردوه على نوح هو : لم كنت إنسانا مثلنا ولم تكن ملكا؟ فكان جوابه لهم : صحيح أنني بشر مثلكم ، ولكن الله آتاني رحمة وبيّنة ودليلا واضحا من عنده ، فلا تمنع بشريتي هذه من أداء هذه الرسالة العظيمة ، ولا ضرورة لأن أكون ملكا.

والإشكال الثّاني هو : إنّ أتباع نوح مخدوعون بالظواهر. فيردّهم بالقول : إنّكم أحق بهذا الاتهام ، لأنّكم أنكرتم هذه الحقيقة المشرقة ، وعندي أدلّة كافية ومقنعة لكلّ من يطلب الحقيقة ، إلّا أنّها خفيت عليكم لغروركم وتكبركم وأنانيتكم!

وإشكال الثّالث : أنّهم قالوا :( وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ ) فكان جواب نوحعليه‌السلام : أي فضل أعظم من أن يشملني الله برحمته ، وأن يجعل الدلائل الواضحة بين يدي، فعلى هذا لا دليل لكم على اتهامي بالكذب ، فدلائل الصدق عندي واضحة وجليّة!

وفي ختام الآية يقول النّبي نوحعليه‌السلام لهم : هل أستطيع أن ألزمكم الاستجابة لدعوتي وأنتم غير مستعدّين لها وكارهون لها( أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ ) .

* * *

٥١١

الآيات

( وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) )

التّفسير

ما أنا بطارد الذين آمنوا :

في الآيات المتقدمة رأينا أنّ قوم نوح «الأنانيين» كانوا يحتالون بالحجج الواهية والإشكالات غير المنطقية على نوح وأجابهم ببيان جليّ واضح والآيات محل البحث تتابع ما ردّ به نوحعليه‌السلام على قومه المنكرين. فالآية الأولى التي تحمل واحدا من دلائل نبوة نوح ، ومن أجل أن تنير القلوب المظلمة من قومه

٥١٢

تقول على لسان نوح :( وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً ) فأنا لا أطلب لقاء دعوتي مالا أو ثروة منكم ، وإنّما جزائي وثوابي على الله سبحانه الذي بعثني بالنّبوة وأمرني بدعوة خلقه إليه( إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ) .

وهذا يوضح بصورة جيدة وبجلاء أنّني لا أبتغي هدفا ماديا من منهجي هذا ، ولا أفكر بغير الأجر المعنوي من الله سبحانه ، ولا يستطيع مدّع كاذب أن يتحمل الآلام والمخاطر دون أن يفكر بالربح والنفع.

وهذا معيار وميزان لمعرفة القادة الصادقين من غيرهم الذين يتحينون الفرص ويهدفون الى تأمين المنافع المادية في كل خطوة يخطونها سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر.

ويعقب نوحعليه‌السلام بعد ذلك في ردّه على مقولة طرد المؤمنين به من الفقراء والشباب فيقول بصورة قاطعة :( وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ) لأنّهم سيلاقون ربّهم ويخاصمونني في الدار الآخرة( إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ) (1) .

ثمّ تختتم الآية ببيان نوح لقومه بأنّكم جاهلون( وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ) وأي جهل وعدم معرفة أعظم من أن تضيعوا مقياس الفضيلة وتبحثون عنها في الثروة والمال الكثير والجاه والمقام الظاهري ، وتزعمون أنّ هؤلاء المؤمنين العفاة الحفاة بعيدون عن الله وساحة قدسه!

هذا خطؤكم الكبير وعدم معرفتكم ودليل جهلكم.

ثمّ أنتم تتصورون ـ بجهلكم ـ أن يكون النّبي من الملائكة ، في حين ينبغي أن يكون قائد الناس من جنسهم ليحسّ بحاجاتهم ويعرف مشاكلهم وآلامهم.

وفي الآية التي بعدها يقول لهم موضحا : إنّني لو طردت من حولي فمن ينصرني من عدل الله يوم القيامة وحتى في هذه الدنيا( وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ

__________________

(1) وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الجملة ، وهو أن مراد نوحعليه‌السلام : إن الذين آمنوا بي إذا كانوا كاذبين في الباطن فإنهم سيلاقون ربهم يوم القيامة وهو يحاسبهم ، ولكن الاحتمال المذكور أقرب للصحة.

٥١٣

طَرَدْتُهُمْ ) .

فطرد المؤمنين الصالحين ليس بالأمر الهيّن ، إذ سيكونون خصومي يوم القيامة بطردي لهم ، ولا أحد هناك يستطيع أن يدافع عنّي ويخلصني من عدل الله ، ولربّما أصابتني عقوبة الله في هذه الدنيا ، أم أنّكم لا تفكرون في أن ما أقوله هو الحقيقة عينها( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .

والفرق بين «التفكر» و «التذكّر» هو أنّ التفكر في حقيقته إنّما يكون لمعرفة شيء لم تكن لنا فيه خبرة من قبل ، وأمّا التذكر فيقال في مورد يكون معروفا للإنسان قبل ذلك ، كما في المعارف الفطريّة.

والمسائل التي كانت بين نوحعليه‌السلام وقومه هي أيضا من هذا القبيل ، مسائل يعرفها الإنسان ويدركها بفطرته وتدبّره ، ولكن تعصب قومه وغرورهم وغفلتهم وأنانيتهم ألقت عليها حجابا وغشاء فكأنّهم عموا عنها.

وآخر ما يجيب به نوح قومه ويردّ على إشكالاتهم الواهية إنّكم إذا كنتم تتصورون أن لي امتيازا آخر غير الإعجاز الذي لديّ عن طريق الوحي فذلك خطأ ، وأقول لكم بصراحة :( لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ) ولا أستطيع أن أحقق كل شيء أريده وكل عمل أطلبه ، حيث تحكي الآية عن لسانه( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ) ولا أقول لكم إنّني مطلع على الغيب( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) ولا أدعي أنّني غيركم كأن أكون من الملائكة مثلا( وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ) فهذه الادّعاءات الفارغة والكاذبة يتذرع بها المدّعون الكذبة ، وهيهات أن يتذرع بها الأنبياء الصادقون ، لأنّ خزائن الله وعلم الغيب من خصوصيات ذات الله القدسيّة وحدها ، ولا ينسجم الملك مع هذه الأحاسيس البشرية أيضا

فكل من يدعي واحدا من هذه الأمور الثلاثة المتقدمة ـ أو جميعها ـ فهو كاذب.

ومثل هذا التعبير ورد في نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا كما نلاحظ ذلك في الآية

٥١٤

(50) من سورة الأنعام حيث تقول الآية مخاطبة النّبي أن يبلغ قومه بذلك( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ ) فانحصار امتياز نبي الإسلام في مسألة «الوحي» ونفي الأمور الثلاثة الأخرى يدل على أنّ الآيات التي تحدثت عن نوح كانت تستبطن هذا المعنى أيضا وإن لم تصرّح بذلك بمثل هذا التصريح!.

وفي ذيل الآية يكرر التأكيد على المؤمنين المستضعفين بالقول :( وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً ) بل على العكس تماما ، فخير هذه الدنيا وخير الآخرة لهم وإن كانوا عفاة لخلّو أيديهم من المال والثروة فأنتم الذين تحسبون الخير منحصرا في المال والمقام والسن وتجهلون الحقيقة ومعناها تماما.

وعلى فرض صحة مدّعاكم أراذل و «أوباش» ف( اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ ) .أنا الذي لا أرى منهم شيئا سوى الصدق والإيمان يجب علىّ قبولهم ، لأنّي مأمور بالظاهر ، والعارف باسرار العباد هو الله سبحانه ، فإن عملت غير عملي هذا كنت آثما( إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) .

ويرد هذا الاحتمال أيضا في تفسير الجملة الأخيرة لأنّها مرتبطة بجميع محتوى الآية ، أي إذا كنت أدعي علم الغيب أو أنّي ملك أو أن عندي خزائن الله أو أن اطرد المؤمنين ، فسأكون عند الله وعند الوجدان في صفوف الظالمين.

* * *

ملاحظات

1 ـ أولياء الله ومعرفة الغيب

الاطلاع على الغيب مطلقا ـ كما أشرنا إليه مرارا ـ وبدون أي قيد وشرط هو من خصوصيّات الله سبحانه ، ولكنّه يطلع أنبياءه وأولياءه على الغيب بقدر ما يراه

٥١٥

مصلحة كما نرى الإشارة إليه في الآيتين (26 و 27) من سورة الجن( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) .

فعلى هذا لا منافاة ولا تضادّ بين هذه الآيات ـ محل البحث ـ التي تنفي أن يعلم الأنبياء الغيب ، وبين الآيات أو الرّوايات التي تنسب إلى الأنبياء أو الأئمّة العلم ببعض الغيب.

فمعرفة أسرار الغيب والاطلاع عليها من خصوصيّات الله بالذات ، وما عند الآخرين فبالعرض و «بالتعليم الإلهي» ، ولذلك فإنّ علم الغيب عند غير الله محدود بالحدود التي يريدها الله سبحانه(1) .

2 ـ مقياس معرفة الفضيلة :

مرّة أخرى نواجه الواقعية في هذه الآيات ، وهي أن أصحاب الثروة والقوة وعبيد الدنيا الماديّين يرون جميع الأشياء من خلال نافذتهم المادية فهم يتصورون أنّ الاحترام والشخصيّة هما ثمرة وجود الثروة والمقام والحيثيات فحسب ، فلا ينبغي التعجب من أن يكون المؤمنون الصادقون الذين خلت أيديهم من المال والثروة في قاموسهم «أراذل» وينظرون إليهم بعين الاحتقار والازدراء.

ولم تكن هذه المسألة منحصرة في نوح وقومه ، إذ كانوا يصفون المؤمنين المستضعفين حوله ـ ولا سيما الشباب الوعي منهم ـ بأنّ عقولهم خالية وأفكارهم قاصرة ، وكأنّهم لا قيمة لهم. فالتاريخ يكشف أن هذا المنطق كان موجودا في عصر الأنبياء الآخرين وعلى الأخصّ في زمن نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين الأوائل.

كما نرى الآن مثل هذا المنطق في عصرنا وزماننا ، فالمستكبرون الذين يمثلون فراعنة العصر ـ اعتمادا على سلطانهم وقدراتهم وقواهم الشيطانية ـ يتهمون

__________________

(1) لمزيد من الإيضاح يراجع ذيل الآية (50) من سورة الأنعام وذيل الآية (188) من سورة الأعراف.

٥١٦

«المؤمنين» بمثل هذا الاتهام فكأنّما يعيد التاريخ نفسه وصوره على أيدي هؤلاء ومخالفيهم

ولكن حين يتطهر المحيط الفاسد بثورة إلهية فهذه المعايير التي تقاس بها الشخصيّة والعناوين الموهومة الأخرى تلقى في مزابل التاريخ ، وتحل محلّها المعايير الإنسانية الأصيلة المعايير المتولدة من صميم حياة الإنسان والتي تكون لبنات تحتية للبناء الفوقاني للمجتمع السليم الحرّ ، حيث يستلهم منها قيمه ، كالإيمان والعلم الإيثار والمعرفة والعفو والتسامح والتقوى والشهامة والشجاعة والتجربة والذكاء والإدارة والنظم وما أشبهها

3 ـ معنى علم الغيب في القرآن

هناك بعض المفسّرين كصاحب «المنار» حين يصل إلى هذه الآية يقول لمن يدعي أن علم الغيب لا يختصّ بالله ، أو يطلب حلّ المشاكل من سواه ، يقول في جملة قصيرة : إنّ هذين الأمرين ـ علم الغيب وخزائن الله ـ قد نفاهما القرآن عن الأنبياء ، لكن أصحاب البدع من المسلمين وأهل الكتاب يثبتونهما للأولياء والقديسين(1) .

إذا كان مقصوده نفي علم الغيب عنهم مطلقا ولو بتعليم الله ، فهذا مخالف لنصوص القرآن المجيد الصريحة ، وإذا كان مقصوده نفي التوسّل بأنبياء الله وأوليائه بالصورة التي نطلب من الله بشفاعتهم أن يحلّ مشاكلنا ، فهذا الكلام مخالف للقرآن والأحاديث القطعيّة المسلّم بها عن طرق الشيعة وأهل السنّة أيضا.

لمزيد من الإيضاح في هذا المجال يراجع ذيل الآية (34) من سورة المائدة.

* * *

__________________

(1) المنار ، ج 12 ، ص 67.

٥١٧

الآيات

( قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) )

التّفسير

كفانا الكلام فأين ما تعدنا به؟!

الآية الأولى من الآيات أعلاه تتحدث عن قوم نوحعليه‌السلام أنّهم :( قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا ) فأين ما تعدنا به من عذاب الله( فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) وهذا الأمر يشبه تماما عند ما ندخل في جدال مع شخص أو أشخاص ونسمع منهم تهديدا ضمنيا حين المجادلة فنقول : كفى هذا الكلام الكثير!! اذهبوا وافعلوا ما شئتم ولا تتأخروا ، فمثل هذا الكلام يشير إلى أنّنا لا نكترث بكلامهم ولا نخاف من تهديدهم ، ولسنا مستعدين أن نسمع منهم كلاما أكثر.

٥١٨

فاختيار هذه الطريقة إزاء كل ذلك اللطف وتلك المحبّة من قبل أنبياء الله ونصائحهم التي تجري كالماء الزلال على القلوب ، إنّما تحكي عن مدى اللجاجة والتعصب الأعمى لدى تلك الأقوام.

في الوقت ذاته يشعرنا كلام نوحعليه‌السلام بأنّه سعى مدّة طويلة لهداية قومه ، ولم يترك فرصة للوصول إلى الهدف إلّا انتهزها لإرشادهم ، ولكن قومه الضالين أظهروا جزعهم من أقواله وإرشاداته. وهذه المعادلة تتجلى جيدا في سائر الآيات التي تتحدث عن نوحعليه‌السلام وقومه في القرآن ، ففي سورة نوحعليه‌السلام بيان لهذه الظاهرة بشكل واف ـ أيضا ـ فلنلاحظ الآيات التي تبدا من الآية(5) وتنتهي بالآية (13) من سورة نوح حيث نقرأ فيها :( قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ) .

في الآية ـ محل البحث ـ وردت جملة «جادلتنا» من مادة «المجادلة» وأصلها مشتق من «الجدل» التي تعني فتل الحبل وإبرامه ، ولذلك يطلق على البازي «أجدل» لأنّه أشد فتلا من جميع الطيور ، ثمّ توسعوا في اللغة فصارت تطلق على الالتواء في الكلام وما أشبه.

مع أنّ «الجدال» و «المراء» و «الحجاج» على وزن «اللجاج» متقاربة المعاني ومتشابهة فيما بينها ، لكن بعض المحققين يرى أنّ «المراء» فيه نوع من المذمّة ، لأنّه يستعمل أحيانا في الاستدلال في المسائل الباطلة ، ولكن ذلك المفهوم لا يدخل في كلمتي «الجدال والمجادلة» ، والفرق بين الجدال والحجاج ، أن الجدال يستعمل ليلفت الطرف المقابل ويبعده عن عقيدته ، أمّا الحجاج فعلى العكس من ذلك بأن يدعى الشخص إلى العقيدة الفلانية بالاستدلال والبرهان.

لقد أجاب نوحعليه‌السلام بجملة قصيرة على هذه اللجاجة والحماقة وعدم الاعتناء

٥١٩

بقوله :( إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ ) فذلك خارج من يدي على كل حال وليس باختياري، إنّما أنا رسوله ومطيع لأمره ، فلا تطلبوا منّي العذاب والعقاب! ولكن حين يحل عذابه فاعلموا أنّكم لا تقدرون أن تفرّوا من يد قدرته أو تلجأوا إلى مأمن آخر( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

و «المعجز» مشتق من مادة «الإعجاز» وهي بمعنى سلب القدرة من الغير ، وتستعمل هذه الكلمة أحيانا في موارد يكون الإنسان مانعا لعمل الآخر أو لصده عن سبيله فيعجزه عن القيام بأي عمل ، وأحيانا تستعمل في فرار الإنسان من يد الآخر وخروجه من هيمنته فلا يقدر عليه ، وأحيانا تستعمل في تكبيل الآخر بالوثاق ، أو بجعله مصونا إلخ.

فكل هذه المعاني من أوجه الإعجاز وسلب القدرة من الطرف الآخر.

الآية الآنفة الذكر تحتمل جميع هذه المعاني ، لأنّه لا منافاة بين جميع هذه المعاني ، فكلها تعني أنّ لا حيلة تخلصكم وتجعلكم في أمان من عذابه.

ثمّ يضيف : وإذا كان الله يريد أن يضلكم ويغويكم ـ لما أنتم عليه من الذنوب والتلوّث الفكري والجسدي ـ فلا فائدة من نصحي لكم إذا( وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ) فهو وليكم وأنتم في قبضته( هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

سؤال : مع مطالعة هذه الآية يثور هذا السؤال فورا ـ كما أن كثيرا من المفسّرين أشاروا إليه أيضا ـ وهو : هل يمكن أن يريد الله الغواية والضلال لعباده؟ ثمّ أليس هذا دليلا على الجبر؟ وهل يتوافق هذا المعنى مع أصل حرية الإرادة والإختيار للإنسان؟

والجواب : كما اتّضح من ثنايا البحث المتقدم ـ وما أشرنا إليه مرات عديدة ـ أنّه قد تصدر من الإنسان ـ أحيانا ـ سلسلة من الأعمال التي تكون نتيجتها الغواية والانحراف الدائمي وعدم العودة إلى الحق ، اللجاجة المستمرة والإصرار على

٥٢٠