الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 252078 / تحميل: 6012
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

المأساة الخالدة

ولم تبقَ كارثة من كوارث الدنيا ولا رزية من رزايا الدنيا إلاّ جرت على حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعقيلة بني هاشم في كربلاء؛ فقد أحاطت بها المصائب يتبع بعضها بعضاً؛ فقد شاهدت أعداء الله وجيوش آل أبي سفيان قد اجتمعت على إبادة أهلها، وقد احتلّوا ماء الفرات ومنعوا ذرّية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الانتهال منه، وقد عجّت أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) ونساؤهم بالصراخ والعويل من شدّة الظمأ، وقد أحاطوا بالعقيلة يطلبون منها الماء وهي حائرة مذهولة تأمرهم بالصبر، كيف الصبر والعطش قد مزّق قلوبهم؟!

وقد زحفت جيوش الاُمويِّين نحو الإمام الحسين (عليه السّلام) في ليلة التاسع من المحرّم، كان سيّد الشهداء جالساً أمام بيته محتبياً بسيفه، إذ خفق برأسه، فسمعت اُخته العقيلة أصوات الجيش قد تدانت نحو أخيها، فانبرت إليه وهي مذهولة مرعوبة فأيقظته، وقالت له: إنّ العدو قد دنا منّا.

فقال لها:«إنّي رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المنام فقال: إنّك تروح إلينا» .

وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس العقيلة، فقد خرقت قلبها الرقيق المعذّب، فلطمت وجهها وقالت: يا وليتاه(١) !

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٨٤.

٢٤١

وكان أبو الفضل العباس (عليه السّلام) إلى جانب أخيه لا يفارقه، فقال له: يا أخي، أتاك القوم.

وطلب منه الإمام (عليه السّلام) أن يتعرّف على خبرهم، فقال له:«اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم، فتقول لهم: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟» .

وبادر قمر بني هاشم ومعه عشرون فارساً نحو القوم، وفيهم حبيب بن مظاهر، وزهير بن القين، فسألهم العباس عن زحفهم، فقالوا له: جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه أو نناجزكم(١) .

وقفل أبو الفضل (عليه السّلام) إلى أخيه فعرّفه ما عرضوه عليهم، فقال (عليه السّلام) له:«ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره؛ فهو يعلم أنّي اُحبّ الصلاة، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار» . وكان ذكر الله والدعاء والصلاة من أهمّ ما يصبوا إليه الإمام (عليه السّلام) في هذه الحياة(٢) .

وقفل قمر بني هاشم راجعاً إلى تلك الوحوش الكاسرة، فعرض عليهم مقالة أخيه، وتردّد القوم في إجابته، فأنكر عليهم عمرو بن الحجّاج الزبيدي إحجامهم، وقال: سبحان الله! والله لو كان من الديلم ثمّ سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه.

ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك، ولم يقل: إنّه ابن رسول الله؛ خوفاً أن يُنقل كلامه إلى ابن مرجانة فينال العقاب والحرمان. وأيّد ابن الأشعث مقالة ابن الحجّاج، فقال له ابن سعد:

____________________

(١) أنساب الأشراف / ١٨٤.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٥.

٢٤٢

أجبهم إلى ما سألوا، فلعمري ليصبحنك بالقتال غداً.

واستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب بعد أن رضيت به الأكثرية من قادة جيشه، وأوعز ابن سعد إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك أمام معسكر الحسين (عليه السّلام)، فدنا منه وقال رافعاً صوته: يا أصحاب الحسين بن عليّ، قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد، فإن استسلمتم ونزلتم على حكم الأمير وجّهنا بكم إليه، وإن أبيتم ناجزناكم.

واُرجئ القتال إلى اليوم الثاني المصادف يوم العاشر من المحرّم.

الإمام (عليه السّلام) يأذن لأصحابه بالتفرّق

وجمع سيّد الشهداء أصحابه وأهل بيته في غلس الليل، وطلب منهم أن يتفرّقوا في سواده ليلقى مصيره المحتوم وحده، فقال لهم:«اُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء. اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفهّمتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً، ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنت لكم جميعاً، فانطلقوا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله؛ فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو أصابوني للهوا عن طلب غيري» (١) .

لقد جعل الإمام أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع، وهي الشهادة التي لا بدّ

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٥.

٢٤٣

منها في مصاحبته، وليس شيء آخر غيرها، قد سمح لهم بالتفرّق عنه في سواد الليل فيتخذونه ستاراً لهم دون كلّ عين، كما عرّفهم أنّه هو المطلوب للحكم الاُموي دون غيره، فإذا قتلوه فلا إرب لهم في غيره.

وعلى أيّ حال، فإنّ الإمام (عليه السّلام) لم يكد ينتهي من خطابه حتّى هبّت الصفوة الطاهرة من أهل بيته وأصحابه وهي تعلن ولاءها الكامل له، وأنّهم جميعاً يلاقون المصير الذي يلقاه، وقد بدأهم بالكلام قمر بني هاشم وفخر عدنان أبو الفضل العباس (عليه السّلام) قائلاً: لِمَ تفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً(١) .

وتتابعت أصوات أصحابه والفتية من بني هاشم وهم يرحّبون بالموت والشهادة في سبيله، حقّاً لقد كانوا من خيرة بني آدم صدقاً ووفاءً وشهامةً ونبلاً.

لوعة السيدة زينب (عليها السّلام)

وفزعت عقيلة بني هاشم كأشدّ ما يكون الفزع وأقساه حينما سمعت أخاها وبقية أهلها يُعالج سيفه ويصلحه، وهو ينشد هذه الأبيات التي ينعى فيها نفسه:

يا دهرُ أُفّ لكَ من خليلِ = كم لكَ بالإشراقِ والأصيلِ

من طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ = والدهرُ لا يقنعُ بالبديلِ

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ = ما أقربُ الوعد إلى الرحيلِ

وإنّما الأمرُ إلى الجليلِ

وكان مع الإمام (عليه السّلام) في خيمته الإمام زين العابدين (عليه السّلام) والعقيلة؛ أمّا الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فإنّه لمّا سمع هذه الأبيات خنقته العبرة ولزم السكوت، وعلم أنّ البلاء قد نزل، وأمّا العقيلة (عليها السّلام) فقد أيقنت أنّ أخاها عازم على الموت، فأمسكت قلبها الرقيق

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ١٦٧.

٢٤٤

المعذّب ووثبت وهي تجرّ ذيلها وقد غامت عيناها بالدموع، فقالت لأخيها: وا ثكلاه! وا حزناه! ليت الموت أعدمني الحياة. يا حسيناه! يا سيّداه! يا بقيّة أهل بيتاه! استسلمتَ للموت ويئستَ من الحياة؟! اليوم مات جدّي رسول الله، اليوم ماتت أُمّي فاطمة الزهراء، وأبي عليّ المرتضى، وأخي الحسن الزكيّ، يا بقيّة الماضين وثمال الباقين(١) !

وذاب قلب الإمام (عليه السّلام) أسىً وحزناً، والتفت إلى شقيقته فقال لها الإمام بحنان:«يا اُخيّة، لا يذهبنّ بحلمك الشيطان» .

وسرت الرعدة والفزع بقلب الصدّيقة وطافت بها آلام مبرحة فخاطبت أخاها بأسى والتياع قائلة: أتغتصب نفسك اغتصاباً؟! فذاك أطول لحزني وأشجى لقلبي.

ولم تملك صبرها بعدما أيقنت أن أخاها وبقيّة أهلها سيستشهدون لا محالة، فعمدت إلى جيبها فشقّته، ولطمت وجهها، وخرّت إلى الأرض فاقدة لوعيها(٢) .

وأثّر منظرها الرهيب في نفس الإمام (عليه السّلام) فالتاع كأشدّ ما تكون اللوعة، ورفع يديه بالدعاء أن يلهم شقيقته الصبر والسلوان، وأن يعينها على تحمّل المحن الشاقّة التي أحاطت بها.

إحياء الليل بالعبادة

وأقبل الإمام (عليه السّلام) مع أهل بيته وأصحابه على العبادة؛ فقد علموا أنّ تلك الليلة هي آخر ليالي حياتهم، ولم يذق أيّ واحد منهم طعم الرقاد؛ فقد اتّجهوا بقلوبهم وعواطفهم نحو الله وهم يمجّدونه، ويتلون كتابه، ويقيمون الصلاة، ويسألونه العفو والغفران.

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين / ١١٣.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ١٧٣.

٢٤٥

وكانوا يترقّبون بشوق لا حدّ له طلوع الفجر؛ ليكونوا قرابينَ للإسلام، وفداءً لابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وكان حبيب بن مظاهر، وهو من ألمع أصحاب الحسين (عليه السّلام)، وقد خرج إلى أصحابه وهو يضحك، فأنكر عليه بعض أصحابه وقال له: يا حبيب، ما هذه ساعة ضحك! فأجابه حبيب عن إيمانه العميق قائلاً: أيّ موضع أحقّ من هذا بالسرور؟ والله ما هو إلاّ أن تميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين(١) .

وداعب برير عبد الرحمن الأنصاري، فاستغرب من مداعبته قائلاً: ما هذه ساعة باطل!

انظروا إلى جواب برير فقد قال: لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، وددت أنّهم مالوا علينا الساعة(٢) .

أيّ إيمان هذا الذي تسلّح به أصحاب الحسين (عليه السّلام)؛ فقد فاقوا جميع شهداء الحقّ والفضيلة في جميع الأعصار والآباد.

رؤيا الإمام الحسين (عليه السّلام)

وخفق الإمام الحسين (عليه السّلام) خفقة ثمّ انتبه، والتفت إلى أصحابه وأهل بيته فقال لهم:«أتعلمون ما رأيت في منامي؟» .

- ما رأيت يابن رسول الله؟

«رأيت كأنّ كلاباً قد شدّت عليَّ تنهشني، وفيها كلب أبقع أشدّها عليَّ، وأظنّ

____________________

(١) رجال الكشي / ٥٣.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١.

٢٤٦

الذي يتولّى قتلي رجل أبرص من هؤلاء القوم. ثمّ إنّي رأيت جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول لي: أنت شهيد آل محمّد، وقد استبشرت بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى، فليكن إفطارك عندي الليلة، عجّل ولا تؤخّر. هذا ما رأيت، وقد أزف الأمر واقترب الرحيل من هذه الدنيا» (١) .

وخيّم على أهل البيت (عليهم السّلام) حزن عميق، وأيقنوا بنزول الرزء القاصم والاقتراب من دار الآخرة.

فزع عقائل الوحي

وفزعت عقائل الوحي، وخيّم عليهنَّ الذعر والخوف، ولم يهدأن في تلك الليلة؛ فقد طافت بهنَّ موجات من الهواجس وتمثّل أمامهنَّ المستقبل المليء بالخطوب والكوارث، وقد خلدنَ إلى الدعاء والبكاء، وكان من أشدّهنَّ عقيلة النبوّة السيّدة زينب؛ فقد كانت تراقب الأحداث وهي على علم لا يخامره شكّ أنّ المسؤولية الكبرى سوف تنتقل عن كاهل الحسين (عليه السّلام) إليها لو قُتل، كما علمت أنّه لا يبقى من أهلها أحد، لقد فزعت وذهلت من الأحداث الجسام التي أحاطت بها.

العقيلة (عليها السّلام) مع الهاشميّين والأصحاب

ولم تهدأ عقيلة الرسالة؛ فقد هامت في تيارات مذهلة من الأسى والشجون، فكانت على علم أنّ ليلة العاشر من المحرّم هي آخر ليلة لأهلها وهم على قيد الحياة، وقد وجلت على أخيها، فمضت تراقب خيم الهاشميّين والأصحاب لتسمع ما يدور عندهم من حديث.

فانبرت إلى خيمة أخيها قمر بني هاشم وقد اجتمع بها فتيان بني هاشم، وقد أحاطوا بسيّدهم أبي الفضل، فسمعته يخاطب

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ١٧٧.

٢٤٧

الهاشميّين قائلاً: إخوتي وبني إخوتي وأبناء عمومتي، إذا كان الصباح فما تصنعون؟

فهبّوا جميعاً قائلين: الأمر إليك.

- إنّ أصحابنا وأنصارنا قوم غرباء، والحمل ثقيل لا يقوم إلاّ بأهله، فإذا كان الصباح كنتم أوّل مَنْ يبرز للقتال، فنسبق أنصارنا إلى الموت؛ لئلاّ يقول الناس: قدّموا أصحابهم.

ولم ينتهِ من مقالته حتّى هبّوا قائلين: نحن على ما أنت عليه.

ثمّ مضت العقيلة إلى خيمة حبيب بن مظاهر عميد أصحاب الإمام وقد أحاط به الأصحاب، فسمعت يحدّثهم قائلاً: يا أصحابي، إذا كان الصباح ماذا تفعلون؟

- الأمر إليك.

إذا صار الصباح كنّا أوّل مَنْ يبرز إلى القتال، نسبق بني هاشم إلى الموت، فلا نرى هاشمياً مضرّجاً بدمه؛ لئلاّ يقول الناس: قد بدؤوهم إلى القتال، وبخلنا عليهم بأنفسنا.

واستجابت الصفوة الطاهرة لمقالة زعيمهم حبيب، وراحوا يقولون: نحن على ما أنت عليه.

وسُرّت زينب بوفاء الأنصار وتصميمهم على نصرة أخيها والذبّ عنه حتّى النفس الأخير من حياته، وانطلقت العقيلة إلى أخيها فأخبرته بما سمعت من الهاشميّين والأنصار من الذود عنه، وحمايته من كلّ سوء ومكروه.

وأخبرها الإمام (عليه السّلام) أنّهم من أنبل الناس، ومن أكثرهم شهامة وإيماناً، وأنّ الله تعالى قد اختارهم من بين عباده لنصرته، والوقوف معه لمناجزة القوى المنحرفة والمعادية للإسلام.

٢٤٨

يوم عاشوراء

ويوم عاشوراء من أفجع الأيام وأقساها وأشدّها محنة على العقيلة زينب (عليها السّلام) وعلى أهل البيت (عليهم السّلام)، فلم تبقَ رزيّة من رزايا الدهر إلاّ جرت عليهم، ونتحدّث - بإيجاز - عن فصول هذه المأساة الخالدة في دنيا الأحزان.

خطاب الإمام الحسين (عليه السّلام)

ولمّا تهيّأت عساكر ابن سعد لحرب الإمام، فرأى (عليه السّلام) من الواجب أن يعظهم ويرشدهم حتّى يكونوا على بصيرة من أمرهم، فخطب فيهم خطاباً مؤثّراً، وقد نشر كتاب الله العظيم، واعتمّ بعمامة جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولبس لامته، فقال لهم:«تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً! حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين (١) ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم (٢) علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً (٣) لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم.

مهلاً - لكم الويلات! - تركتمونا والسيف مشيم(٤) ، والجأش طامن، والرأي لمّا يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدّبا(٥) ، وتداعيتم إليها كتهافت الفراش.

____________________

(١) موجفين: أي مسرعين في السير إليكم.

(٢) حششتم النار التي توقد.

(٣) إلباً: أي مجتمعين.

(٤) مشيم السيف: غمده.

(٥) الدّبا: الجراد قبل أن يطير.

٢٤٩

فسحقاً لكم يا عبيد الاُمّة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرّفي الكلم، وعصبة الأثام، ونفثة الشيطان، ومطفئ السنن!

أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟! أجل والله غدر فيكم قديم، وشجت إليه اُصولكم، وتأزّرت(١) عليه فروعكم، فكنتم أخبث شجر شجى للناظر، وأكلة للغاصب.

ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة(٢) والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، واُنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.

ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة مع قلّة العدد وخذلان الناصر» . ثمّ أنشد أبيات فروة بن مسيك المرادي:

فإن نُهزم فهزّامون قدماً = وإن نُُغلَب فغيرُ مغَلّبينا

وما إن طِبُّنا جبنٌ ولكن = منايانا ودولةُ آخرينا

إذا ما الموتُ رفّع عن أُناس = كلاكله أناخَ بآخرينا

فأفنى ذلكم سروات قومي = كما أفنى القرونَ الأوّلينا

فلو خلدَ الملوكُ إذاً خلدنا = ولو بقي الكرامُ إذاًً بقينا

فقل للشامتينَ بنا أفيقوا = سيلقى الشامتونَ كما لقينا

«أما والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريث ما يُركب الفرس حتّى يدور

____________________

(١) تأزّرت: أي نبتت عليه فروعكم.

(٢) السلّة: استلال السيوف.

٢٥٠

بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور؛ عهد عهده إليّ أبي عن جدّي، ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ ) ، ( إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ».

ورفع يديه بالدعاء على اُولئك السفكة المجرمين قائلاً:«اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسِنيِّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسومهم كاساً مصبرةً؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير» (١) .

لقد انفجر أبو الأحرار في خطابه كالبركان، وأبدى من صلابة العزم وعزّة النفس ما لم يشاهد مثله؛ فقد استهان بالموت، ولا يخضع لاُولئك الأقزام الذين سوّدوا وجه التأريخ، وكانوا سوءة عار لمجتمعهم.

استجابة الحرّ

واستيقظ ضمير الحرّ حينما سمع خطاب الإمام (عليه السّلام)، وجعل يتأمّل ويفكّر في مصيره، وأنّه لا محالة يصير إلى النار خالداً فيها، واختار الدار الآخرة والالتحاق بآل النبي (صلّى الله عليه وآله).

وقبل أن يتوجّه إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) أسرع نحو ابن سعد فقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟

فأجابه بلا تردد ليظهر أمام قادة الفرق إخلاصه لسيّده ابن مرجانة قائلاً: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي.

فقال له الحرّ برنّة المستريب:

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٤ - ٧٥.

٢٥١

أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضاً؟

فأجابه ابن سعد: لو كان الأمر لي لفعلت، ولكن أميرك أبى ذلك.

وأيقن الحرّ أنّ القوم مصمّمون على حرب ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فمضى يشقّ الصفوف وقد سرت الرعدة بأوصاله، فأنكر عليه ذلك المهاجر بن أوس، وهو من شرطة ابن زياد، فقال له: والله إنّ أمرك لمريب! والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن، ولو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك.

وكشف له الحرّ عن عزمه فقال له: إنّي والله اُخيّر نفسي بين الجنّة والنار، ولا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعت واُحرقت. ولوى بعنان فرسه صوب الإمام (عليه السّلام)(١) ، وهو مُطرق برأسه إلى الأرض حياءً وندماً على ما فرّط في حقّ الإمام، ولمّا دنا منه رفع صوته قائلاً: اللّهمّ إليك اُنيب؛ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك. يا أبا عبد الله، إنّي تائب فهل لي من توبة؟

ونزل عن فرسه ووقف قبال الإمام (عليه السّلام) ودموعه تتبلور على سحنات وجهه قائلاً: جعلني الله فداك يابن رسول الله!أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وجعجعت بك في هذا المكان، ووالله الذي لا إله إلاّ هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً، فقلت في نفسي: لا اُبالي أن اُطيع القوم في بعض أمرهم، ولا يرون أنّي خرجت من طاعتهم،

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٤.

٢٥٢

وأمّا هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك. وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي، مواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك، أفترى لي توبة؟

واستبشر به الإمام (عليه السّلام)، ومنحه الرضا والعفو، وقال له:«نعم، يتوب الله عليك ويغفر» (١) .

وانطلق الحرّ بعد أن منحه الإمام (عليه السّلام) العفو وقبل توبته، فخطب في أهل الكوفة ودعاهم إلى التوبة، ونُغَب عليهم حصارهم للإمام، ومنعه مع أهل بيته وأصحابه عن ماء الفرات الذي هو حقّ مشاع للجميع، ولم يستجيبوا له، ورموه بالنبال.

الحرب

وارتبك ابن سعد من التحاق الحرّ بالإمام (عليه السّلام)، وخاف أن يحصل التمرّد في جيشه، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الحسين (عليه السّلام)، وأخذ سهماً فأطلقه صوب الإمام، وقد رفع صوته قائلاً: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَنْ رمى الحسين.

وفتح ابن سعد من السهم الذي أطلقه باب الحرب، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة بأنّه أوّل مَنْ رمى معسكر ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وتتابعت السهام كأنّها المطر على معسكر الإمام الحسين (عليه السّلام)، فلم يبقَ أحد منهم إلاّ أصابه سهم، فالتفت الإمام إلى أصحابه قائلاً:«قوموا يا كرام، فهذه رسل القوم إليكم» .

وتقدّمت طلائع الحقّ من أصحاب أبي الأحرار إلى ساحة الشرف والمجد وهي تعلن ولاءها للإسلام، وتفانيها في الذبّ عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ / ٢٨٩.

٢٥٣

الجنّة، وبذلك بدأت المعركة واحتدم القتال كأشدّه وأعنفه.

ومن المقطوع به أنّه لم تكن مثل المعركة في جميع الحروب التي جرت في الأرض؛ فقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً مع عشرات الاُلوف، وقد أبدى أصحاب الإمام من الشجاعة والبسالة ما يبهر العقول ويحيّر الألباب.

مصارع أصحاب الإمام (عليه السّلام)

وشنّت قوات ابن سعد هجوماً عاماً وعنيفاً على أصحاب الإمام (عليه السّلام)، وخاضوا معهم معركة رهيبة، وقد ثبت لهم أصحاب الإمام (عليه السّلام)، فهزموا جموعهم بقلوب أقوى من الحديد، وأنزلوا بهم أفدح الخسائر، وقد استشهد في هذه الحملة نصف أصحاب الإمام (عليه السّلام).

ثمّ بدأت بعد ذلك المبارزة بين العسكرين، فكان الرجل من أصحاب الإمام يبرز ويُقاتل ثمّ يُقتل، وهكذا حتّى فنوا عن آخرهم، وقد أبلوا في المعركة بلاءً يقصر عنه كلّ وصف وإطراء؛ فقد خاضوا تلك المعركة الرهيبة ولم تضعف لأيّ رجل منهم عزيمة ولم تلن لهم قناة، وقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله تعالى وطاعته.

وإنّ أعطر ما نقدّمه لهم من تحية كلمات الإمام الصادق (عليه السّلام) عملاق الفكر الإسلامي في حقّهم، قال مخاطباً لهم:«بأبي أنتم واُمّي! طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم، وفزتم فوزاً عظيماً» .

مصارع أهل البيت (عليهم السّلام)

وبعدما نالت الشهادة الصفوة الطاهرة من أصحاب الإمام (عليه السّلام) هبّ أبناء الاُسرة النبويّة شباباً وأطفالاً إلى التضحية والفداء، فكانوا كالليوث وكالصاعقة على جيوش الكفر والضلال، وأخذ بعضهم يودّع البعض الآخر وهم يذرفون الدموع على وحدة سيّدهم أبي الأحرار؛ حيث يرونه وحيداً قد أحاطت به من كلّ جانب جيوش الاُمويِّين

٢٥٤

ليتقرّبوا بقتله إلى ابن مرجانة، وفي طليعة الذين استشهدوا من آل البيت (عليهم السّلام):

عليّ الأكبر (عليه السّلام)

وكان عليّ الأكبر شبيه جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في ملامحه وفي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيّين، وكانت الاُسرة النبويّة والصحابة إذا اشتاقوا إلى رؤية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نظروا إلى وجه عليّ الأكبر، وكان دنيا من الفضائل والمواهب والعبقريات؛ فقد تسلّح بكلّ فضيلة وأدب، وكان أعزّ أبناء الإمام الحسين (عليه السّلام) لعمّته العقيلة وسائر بني عمومته وأعمامه.

وهو أوّل هاشمي اندفع بحماس بالغ إلى الحرب، وكان عمره الشريف ثماني عشر سنة(١) ، وقد وقف أمام أبيه طالباً منه الرخصة لمناجزة أعداء الله، فلمّا رآه الإمام (عليه السّلام) ذابت نفسه أسى وحسرات، وأشرف على الاحتضار؛ فقد رأى فلذة كبده قد ساق نفسه إلى الموت، فرفع الإمام شيبته الكريمة نحو السماء، وهو يقول بنبرات قد لفظ فيها شظايا قلبه:«اللّهمّ اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمّد (صلّى الله عليه وآله) خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً، وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه. اللّهمّ امنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا» .

والتفت الإمام (عليه السّلام) إلى المجرم الأثيم عمر بن سعد عبد ابن مرجانة، فصاح به:«ما لك؟! قطع الله رحمك، ولا بارك لك في أمرك، وسلّط عليك مَنْ يذبحك بعدي على فراشك كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)». وتلا قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٤٤.

٢٥٥

وشيّع الإمام (عليه السّلام) ولده بدموع مشفوعة بالأسى والحزن، وخلفه عمّته العقيلة وسائر عقائل الوحي، وقد علا منهم الصراخ والعويل على شبيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وانطلق فخر هاشم إلى ساحة الحرب وقد امتلأ قلبه حزماً وعزماً، ووجهه الشريف يتألق نوراً؛ فقد حكى بهيبته هيبة جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وبشجاعته شجاعة جدّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وتوسّط حراب الأعداء وسيوفهم وهو يرتجز قائلاً:

أنا عليُّ بنُ الحسين بنِ علي = نحن وربُّ البيت أولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابنُ الدعي

أنت يا شرف هذه الاُمّة أولى بالنبي وأحق بمقامه من هؤلاء الأدعياء الذين سلّطتهم عليكم الطغمة الحاكمة من قريش التي أبت أن تجتمع الخلافة والنبوّة فيكم.

والتحم عليّ الأكبر (عليه السّلام) مع أعداء الله، وقد ملأ قلوبهم خوفاً ورعباً، وأبدى من البسالة والشجاعة ما يقصر عنه كلّ وصف؛ فقد ذكّرهم ببطولات جدّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ومحطّم أوثان القرشيّين، وقد قتل مئة وعشرين فارساً(١) سوى المجروحين، وألحّ عليه العطش وأضرّ به، فقفل راجعاً إلى أبيه يشكو ظمأه القاتل قائلاً: يا أبتِ، العطش قد قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إليّ شربة ماء من سبيل أتقوى بها على الأعداء؟

والتاع الإمام (عليه السّلام)، فقال له بصوت خافت، وعيناه تفيضان دموعاً:«واغوثاه! ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبداً» .

وأخذ لسانه فمصّه ليريه شدّة عطشه، فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٤٦.

٢٥٦

يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق في رائعته:

يشكو لخيرِ أبٍ ظمأه وما اشتكى = ظمأ الحشا إلاّ إلى الظامي الصدي

كلٌّ حشاشته كصاليةِ الغضا = ولسانُه ظمأ كشقةِ مبردِ

فانصاعَ يؤثرهُ عليهِ بريقهِ = لو كانَ ثمةَ ريقه لم يجمدِ

لقد كان هذا المنظر الرهيب لعليّ الأكبر من أفجع وأقسى ما رُزئ به أبو الأحرار؛ فقد رأى ولده الذي هو من أنبل وأشرف ما خلق الله، وهو في غضارة العمر وريعان الشباب قد أشرف على الهلاك من شدّة العطش، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء ليروي عطشه.

وقفل فخر الإسلام عليّ الأكبر (عليه السّلام) راجعاً إلى حومة الحرب، قد فتكت الجراح بجسمه، وفتّت العطش فؤاده، وجعل يُقاتل كأشدّ ما يكون القتال وأعنفه حتّى ضجّ العسكر من كثرة مَنْ قتل منهم.

ولمّا رأى ذلك الوضر الخبيث مرّة بن منقذ العبدي قال: عليَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه. وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فطعنه بالرمح في ظهره، وضربه ضربة منكرة على رأسه ففلق هامته، واعتنق فرسه يظنّ أنّه يرجعه إلى أبيه، إلاّ أنّ الفرس حمله إلى معسكر الأعداء فأحاطوا به من كلّ جانب، ومزّقوا جسده الشريف بالسيوف، ونادى فخر هاشم ومجد عدنان رافعاً صوته: عليك منّي السّلام أبا عبد الله، هذا جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها أبداً، وهو يقول:«إنّ لك كأساً مذخورة» .

وحمل الأثير هذه الكلمات إلى أبيه الثاكل الحزين فقطّعت قلبه، ومزّقت أحشاءه، ففزع إليه وهو خائر القوى، منهدّ الركن، فانكب عليه فوضع خدّه على خدّه وهو جثة هامدة، قد قطّعت شلوه السيف إرباً إرباً، وأخذ الإمام (عليه السّلام) يذرف أحرّ الدموع على ولده الذي لا يشابهه أحد في كمال فضله، وجعل يلفظ شظايا قلبه

٢٥٧

بهذه الكلمات:«قتل الله قوماً قتلوك يا بُني، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفا» (١) .

وما كاد الخبر يبلغ الخيام حتّى هرعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) زينب من خدرها، وكان ذلك أوّل ما خرجت إلى المعركة فأكبت بنفسها على ابن أخيها الذي كان أعزّ ما عندها من أبنائها، وجعلت تضمّخه بدموعها وقد انهارت قواها، وانبرى إليها الإمام (عليه السّلام) وجعل يعزّيها بمصابها الأليم، وهو يردّد هذه الكلمات:«على الدنيا بعدك العفا» .

وأخذ الإمام (عليه السّلام) بيد اُخته وردّها إلى الفسطاط، وأمر فتيانه بحمل ولده إلى الفسطاط.

لقد كان علي بن الحسين (عليه السّلام) الرائد والزعيم لكلّ حرّ شريف مات أبيّاً على الضيم في دنيا الإباء، فسلام الله عليه غادية ورائحة، ونودعه بالأسى والحزن، ونردّد كلمات أبيه:«على الدنيا بعدك العفا» .

مصارع آل البيت (عليهم السّلام)

وبرزت الفتية من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهي تذرف الدموع على وحدة سيّدهم أبي الأحرار، وكان من بينهم القاسم بن الحسن، وكان كالقمر في بهائه وجماله، وقد ربّاه عمّه وغذّاه بمواهبه وآدابه، وأفرغ عليه أشعة من روحه حتّى صار صورة عنه، وكان أحبّ إليه من أبناء إخوته وأعمامه.

وكان القاسم يتطلّع إلى محنة عمّه، وينظر إلى جيوش الكفر قد أحاطت به وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات، وجعل يردد:

____________________

(١) العفا: التراب.

٢٥٨

لا يُقتل عمّي وأنا أنظر إليه(١) .

واندفع بلهفة نحو عمّه يطلب منه الإذن ليكون فداءً له، فاعتنقه عمّه وعيناه تفيضان دموعاً، وجعل القاسم يُقبّل يديه طالباً منه الإذن، فسمح له بعد إلحاحه وترجّيه، وبرز القاسم إلى حومة الحرب وهو بشوق عارم إلى الشهادة، ولم يضف على جسده لامة الحرب، وإنّما صحب معه سيفه.

والتحم مع اُولئك القرود، فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه، وبينما هو يُقاتل إذ انقطع شسع نعله، فأنف سليل النبوّة أن تكون أحد رجليه بلا نعل، فوقف يشدّه متحدّياً الوحوش الكاسرة التي لا تساوي نعله، واغتنم هذه الفرصة الوغد الخبيث عمرو بن سعد الأزدي، فقال: والله لأشدنَّ عليه.

فأنكر عليه حميد بن مسلم وقال له: سبحان الله! وما تريد بذلك؟! يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم. فلم يعن به، وشدّ الخبيث عليه فعلاه بالسيف على رأسه الشريف، فهوى الفتى إلى الأرض صريعاً كما تهوي النجوم، ونادى رافعاً صوته: يا عمّاه!

وذاب قلب الإمام (عليه السّلام) وأسرع إليه، فعمد إلى القاتل الأثيم فضربه بالسيف فاتّقاها بساعده فقطعها من المرفق وطرحه أرضاً، فحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه، إلاّ أنّه هلك تحت حوافرها.

وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يقبّله والفتى يفحص بيديه ورجليه، وهو يعاني آلام الاحتضار، فخاطبه الإمام (عليه السّلام):«بُعداً لقوم قتلوك، ومَنْ خصمهم يوم القيامة فيك جدّك! عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك صوته. والله هذا يوم كثر واتره، وقلّ ناصره» .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٥٥.

٢٥٩

وحمله الإمام والفتى يفحص برجليه كالطير المذبوح(١) ، وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر وسائر الشهداء من أهل البيت (عليهم السّلام)، وأخذ يطيل النظر إليهم، وجعل يدعو على السفكة المجرمين قائلاً:«اللّهمّ أحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً. صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً» .

وكلّ هذه المناظر المفجعة التي تميد بالصبر وتعصف كانت بمرأى من عقيلة بني هاشم (عليها السّلام)، فكانت تستقبل في كلّ لحظة فتى من الاُسرة النبويّة وهو مضرّج بدمائه، لها الله ولأخيها على هذه الرزايا التي تميد من هولها الجبال.

مصرع عون (عليه السّلام)

وبرز إلى حومة الحرب عون بن عبد الله بن جعفر، واُمه الصدّيقة الطاهرة زينب بنت أمير المؤمنين (عليها السّلام)، فجعل يُقاتل على صغر سنه قتال الأبطال وهو يرتجز:

إن تنكروني فأنا ابنُ جعفرْ = شهيدِ صدقٍ في الجنانِ أزهرْ

يطيرُ فيها بجناحٍ أخضرْ = كفى بهذا شرفاً من معشرْ

أنت أيّها الشهم حفيد الشهيد الخالد جعفر الطيار الذي قُطعت يداه في سبيل الدعوة الإسلاميّة، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الفردوس الأعلى.

وجعل الفتى يُقاتل قتال الأبطال، فحمل عليه الوغد الأثيم عبد الله بن قطبة الطائي فقتله، وحُمل إلى المخيّم فاستقبلته اُمّه الصدّيقة الطاهرة، ونظرت إليه وهو جثة هامدة فاحتسبته عند الله.

وحلّ بعده أبناء الاُسرة الهاشمية فاستشهدوا جميعاً قرابين للإسلام، وفداءً لريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٥٦.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

وفي الآية (٤١) من سورة النساء نقرأ قوله تعالى :( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) .

وفي شأن السّيد المسيحعليه‌السلام نقرأ في الآية (١١٧) من سورة المائدة :( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ ) .

بعد هذا من القائل :( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ؟ أهو الله سبحانه ، أم الأشهاد على الأعمال؟! هناك أقوال بين المفسّرين ، لكن الظاهر أنّ هذا الكلام تتمة لقول الأشهاد

والآية التي بعدها تبيّن صفات الظالمين في ثلاث جمل :

الأولى تقول : إنّهم يمنعون الناس بمختلف الأساليب عن سبيل الله( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) فمرّة عن طريق إلقاء الشبهة ، ومرّة بالتهديد ، وأحيانا عن طريق الإغراء والطمع ، وجميع هذه الأساليب ترجع إلى أمر واحد ، وهو الصدّ عن سبيل الله.

الثّانية تقول : إنّهم يسعون في أن يظهروا سبيل الله وطريقه المستقيم عوجا( وَيَبْغُونَها عِوَجاً ) (١) .

أي بأنواع التحريف من قبيل الزيادة أو النقصان أو التّفسير بالرأي وإخفاء الحقائق حتى لا تتجلى الصورة الحقيقية للصراط المستقيم. ولا يستطيع الناس وطلاب الحق السير في هذا الطريق.

والثّالثة تقول : إنّهم لا يؤمنون بيوم النشور والقيامة( وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) .

وعدم إيمانهم بالمعاد هو أساس الانحرافات ، لأنّ الإيمان بتلك المحكمة

__________________

(١) المقصود بـ «العوج» أي الملتوي ، وقد بيّنا شرح ذلك في ذيل الآية (٤٥) من سورة الأعراف وينبغي الالتفات إلى أنّ الضمير في «يبغونها» يعود على سبيل الله فهي مؤنث مجازي ، أو بمعنى الجادة والطريقة ، فهي مؤنث لفظي ، ونقرأ في سورة يوسفعليه‌السلام الآية (١٠٨)( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ ) .

٥٠١

الكبرى والعالم الوسيع بعد الموت يفعل الطاقات الايجابية الكامنة في النفس والروح.

ومن الطّريف أنّ جميع هذه المسائل تجتمع في مفهوم «الظلم» لأنّ المفهوم الواسع لهذه الكلمة يشمل كل انحراف وتغيير للموضع الواقعي للأشياء والأعمال والصفات والعقائد.

في الآية التالية يبيّن أنّ هؤلاء لا يستطيعون الهرب من عقاب الله في الأرض ولا أن يخرجوا من سلطانه( أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ) كما أنّهم لا يجدون وليّا وحاميا لهم غير الله( وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ) .

وأخيرا يشير سبحانه إلى عقوبتهم الشديدة حيث تكون مضاعفة( يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ) .

لماذا؟! لأنّهم كانوا ضالين ومخطئين ومنحرفين ، وفي الوقت ذاته كانوا يجرّون الآخرين إلى هذا السبيل ، فلذلك سيحملون أوزارهم وأوزار الآخرين ، دون التخفيف عن الآخرين من أوزارهم( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ) (١) .

وهناك أخبار كثيرة في أن «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ، ومن سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها».

وفي ختام الآية يبيّن الله سبحانه أساس شقاء هؤلاء بقوله :( ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ) .

فهم في الحقيقة بإهمالهم هاتين الوسيلتين المؤثرتين [وسيلتي السمع والبصر] لدرك الحقائق ، ضلّوا السبيل وأضلّوا سواهم أيضا لأنّ الحق والحقيقة لا يدركان إلّا بالسمع والبصر النافذ.

ومن الطريف هنا أنّنا نقرأ في الآية أنّهم ما كانوا يستطيعون السمع ، أي استماع الحق، فهذا التعبير يشير إلى الحالة الواقعية التي هم فيها ، وهي أنّ استماع الحق

__________________

(١) العنكبوت ، ٢٣.

٥٠٢

كان عليهم صعبا وثقيلا إلى درجة يتصور فيها أنّهم فقدوا حاسة السمع ، فلا قدرة لهم على السمع ، وهذا التعبير ينسجم تماما مع قولنا مثلا : إنّ الشخص العاشق لا يستطيع أن يسمع كلاما عن عيوب معشوقه!

وبديهي أنّ عدم استطاعة دركهم الحقائق كانت نتيجة لجاجتهم الشديدة وعدائهم للحق والحقيقة ، وهذا لا يسلب عنهم المسؤولية ، لأنّهم هم السبب في ذلك ، وهم الذي مهّدوا له ، وكان بإمكانهم أن يبعدوا عنهم هذه الحالة ، لأنّ القدرة على السبب قدرة على المسبّب.

والآية التي بعدها تبيّن في جملة واحدة حصيلة سعيهم وجدهم في طريق الباطل ، فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) وهذه أعظم خسارة يمكن أن تصيب الإنسان ، إذ يخسر وجوده الإنساني ثمّ تضيف الآية : أنّهم اتخذوا آلهة ومعبودين مصطنعين «مزيفين» ولكن تلاشت هذه الآلهة المصنوعة والمزيفة أخيرا( وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

وفي نهاية الآية بيان الحكم النهائي لمآلهم وعاقبتهم بهذا التعبير( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ) .

والسبب واضح ؛ لأنّهم حرموا من نعمة السمع الحاد والبصر النافذ ، وخسروا كلّ إنسانيتهم ووجودهم ، ومع هذه الحال فقد حملوا أثقال مسئوليتهم وأثقال الآخرين مع أثقالهم.

والمعنى الأصلي لكلمة «لا جرم» مأخوذ من «جرم» على وزن «حرم» وهو قطف الثمار من الأشجار ، كما نقل ذلك الراغب في مفرداته ، ثمّ توسع هذا المعنى فشمل كلّ نوع من الكسب والتحصيل ، ولكثرة استعمال الكلمة في الكسب غير المرغوب فيه شاعت في هذا المعنى ، ولذلك يطلق على الذنب أنّه جرم.

ولكن حين تبدأ هذه الكلمة جملة وهي مسبوقة بـ «لا» فيكون معناها حينئذ:أنّه لا شيء يمكنه أن يمنع أو يقطع هذا الموضوع ، فهي قريبة من معنى «لا بدّ» أو «من المسلّم به» والله العالم «فتدبر».

* * *

٥٠٣

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤) )

التّفسير

تعقيبا على الآيات المتقدمة التي أوضحت حال منكري الوحي ، تأتي الآيتان هنا لتوضحا من في قبالهم ، وهم المؤمنون حقّا.

فالآية الأولى تقول :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ ) أي:استسلموا وانقادوا خاضعين لأمر الله ووعده الحق ،( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

* * *

ملاحظتان

١ ـ بيان هذه الأوصاف الثلاثة وهي «الإيمان» و «العمل الصالح» و «التسليم

٥٠٤

والخضوع والإخبات إلى دعوة الحق» إنّما هو بيان أمور واقعية ترتبط بعضها ببعض ، لأنّ العمل الصالح ثمرة من شجرة الإيمان ، فالإيمان الذي ليس فيه مثل هذه الثمرة إيمان ضعيف ولا قيمة له ولا يحسب له حساب ، وكذلك التسليم والانقياد والخضوع والاطمئنان لما وعد الله سبحانه ، كل ذلك من آثار الإيمان والعمل الصالح لأنّ الإعتقاد الصحيح والعمل النقي أساس وجود هذه الصفات والملكات العالية في المحتوى الداخلي للإنسان.

٢ ـ كلمة «أخبتوا» مشتقة من «الإخبات» وجذرها اللغوي «خبت» على وزن «ثبت» ومعناها الأصلي الأرض المنبسطة الواسعة التي يمكن للإنسان أن يخطو عليها باطمئنان وارتياح ، فلذلك استعملت هذه المادة «الخبت والإخبات» في الاطمئنان أيضا كما استعملت في الخضوع والتسليم ، لأنّ الأرض التي تبعث على الاطمئنان في السير هي خاضعة ومستسلمة للسائرين ، فعلى هذا يمكن أن يكون معنى الإخبات واحدا من المعاني الثلاثة الآتية ، كما ويحتمل شموله لجميع هذه المعاني ، إذ لا منافاة بينها :

١ ـ إنّ المؤمنين حقا خاضعون لله.

٢ ـ إنّهم مسلّمون لأمر الله.

٣ ـ إنّهم مطمئنون بوعود الله.

وفي كل صورة إشارة إلى واحدة من أعلى الصفات الإنسانية في المؤمنين التي ينعكس أثرها على كامل حياتهم!

الطريف هنا أنّنا نقرأ في حديث عن أبي أسامة قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ عندنا رجلا يسمّى «كليبا» لا يجيء عنكم شيء إلّا قال : أنا أسلّم ، فسمّيناه : كليب تسليم ، قال : فترحم عليه ثمّ قال «أتدرون ما التسليم»؟ فسكتنا فقال : هو والله الإخبات ، قول الله :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ ) (١) .

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، الصفحة ٢١٦.

٥٠٥

وفي الآية الأخرى بيان لحالة هذين الفريقين في مثال حيّ وواضح حال الأعمى والأصم ، وحال السميع والبصير ، فتقول الآية :( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً ) ثمّ تعقب الآية( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ؟! وكما هو معلوم في علم (المعاني والبيان) ، فإنّه من أجل تجسيم الحقائق العقلية وتوضيحها وتبييّنها لعامّة الناس تشبه المعقولات بالمحسوسات دائما.

والقرآن الكريم اتبع هذه الطريقة بكثرة ، وبيّن كثيرا من المسائل الدقيقة وذات الأهمية البالغة بأمثلة جليّة وأخّاذة ، وبيّن حقائقها في أحسن صورة!

البيان السابق من هذا القبيل ، لأنّ أحسن الوسائل التي لها أثرها في معرفة الحقائق الحسية في عالم الطبيعة هي «العين والأذن» ولذلك لا يمكن أن يتصور أن أفرادا يولدون صمّا وعميانا يستطيعون أدراك مواضيع هذا العالم بصورة صحيحة ، فهم يعيشون في عالم غامض ومجهول.

كذلك حال منكري الوحي ، فبسبب لجاجتهم وعدائهم للحق ووقوعهم أسرى بمخالب التعصب والأنانية وعبادة الذات ، فقدوا بصرهم وسمعهم للحقيقة البيّنة ، فلا يستطيعون ادراك الحقائق المرتبطة بعالم الغيب ، وتأثير الإيمان ، والتلذذ بعبادة الله ، وعظمة التسليم لأمره.

هؤلاء الأفراد يعيشون أبدا عميانا صمّا في ظلام مطبق وسكوت مميت في حين أنّ المؤمنين الصادقين يرون كل حركة بأعين بصيرة ، ويسمعون كل صوت بآذان سميعة ، وبالتوجه إلى طريقهم يكون مصيرهم «السعادة».

* * *

٥٠٦

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) )

التّفسير

قصّة نوح المثيرة مع قومه :

تقدم أنّ هذه السورة تحمل بين ثناياها قصص الأنبياء السابقين وتأريخهم ، وذلك لإيقاظ أفكار المنحرفين والالتفات إلى الحقائق وبيان العواقب الوخيمة للمفسدين الفجار. وأخيرا بيان طريق النصر والموفقية.

في البداية تذكر قصّة نوحعليه‌السلام ، وهو أحد الأنبياء أولي العزم ، وضمن (٢٦) آية

٥٠٧

ترسم النقاط الأساسية لتأريخه المثير

ولا شك أنّ قصّة جهاد نوحعليه‌السلام المتواصل للمستكبرين في عصره ، وعاقبتهم الوخيمة ، واحدة من العبر العظيمة في تاريخ البشرية ، والتي تتضمن دروسا هامّة في كل واقعة منها

والآيات المتقدمة تبيّن بداية هذه الدعوة العظيمة فتقول :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

التأكيد على مسألة الإنذار ، مع أنّ الأنبياء كانوا منذرين ومبشرين في الوقت ذاته لأنّ الثورة ينبغي أن تبدا ضرباتها بالإنذار وإعلام الخطر ، لأنّه أشدّ تأثيرا في إيقاظ النائمين والغافلين من البشارة.

والإنسان عادة إذا لم يشعر بالخطر المحدق به فإنّه يفضل السكون على الحركة وتغيير المواقع. ولذلك فقد كان إنذار الأنبياء وتحذيرهم بمثابة السياط على أفكار الضاليّن ونفوسهم، فتؤثر فيمن له القابلية والاستعداد للهداية على التحرك والاتجاه الى الحق.

ولهذا السبب ورد الاعتماد على الإنذار في آيات كثيرة من القرآن ، كما في الآية (٤٩) من سورة الحج ، والآية (١١٥) من سورة الشعراء ، والآية (٥٠) من سورة العنكبوت، والآية (٤٢) من سورة فاطر ، والآية (٧٠) من سورة ص ، والآية (٩) من سورة الأحقاف ، والآية (٥٠) من سورة الذاريات ، وآيات أخرى كلها تعتمد على كلمة «نذير» في بيان دعوة الأنبياء لأممهم.

وفي الآية الأخرى يلخّص محتوى رسالته في جملة واحدة ويقول : رسالتي هي( أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) ثمّ يعقب دون فاصلة بالإنذار والتحذير مرّة أخرى( إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) (١) .

__________________

(١) مع أنّ الأليم صفة للعذاب عادة ، ولكن في الآية السابقة وقع صفة ل «يوم» ، وهذا نوع من الإسناد المجازي اللطيف الذي نجده في مختلف اللغات في أدبياتها.

٥٠٨

في الحقيقة أن مسألة التوحيد والعبودية لله الواحد الأحد هي أساس دعوة الأنبياء جميعا. فنحن نقرا في الآية الثّانية من هذه السورة ، والآية (٤٠) من سورة يوسفعليه‌السلام ، الآية (٢٣) من سورة الإسراء نقرأ في هذه الآيات وأمثالها في الحديث عن الأنبياء أن دعوتهم جميعا تتلخص في توحيد الله سبحانه.

فإذا كان جميع أفراد المجتمع موحدّون ولا يعبدون إلّا الله ، ولا ينقادون للأوثان الوهمية الخارجية منها والداخلية من قبيل الأنانية والهوى والشهوات والمقام والجاه والنساء والبنين فلا يبقى أثر للسلبيات والخبائث في المجتمع البشري.

فإذا لم يصنع الشخص الضعيف من ضعفه هذا صنما ليسجد له ويتبع أمره ، فلا استكبار حينئذ ولا استعمار ، ولا آثارهما الوخيمة من قبيل الذل والأسر والتبعية والميول المنحرفة وأنواع الشقاء بين أفراد المجتمع ، لأنّ كل هذه الأمور وليدة الانحراف عن عبادة الله والتوجه نحو الأصنام والطواغيت فلننظر الآن أوّل ردّ فعل من قبل الطواغيت واتباع الهوى والمترفين وأمثالهم إزاء إنذار الأنبياء ، كيف كان وماذا كان؟!

لا شك أنّه لم يكن سوى حفنة من الأعذار الواهية والحجج الباطلة والأدلة الزائفة التي تعتبر ديدن جميع الجبابرة في كل عصر وزمان ، فقد أجاب أولئك دعوة نوح بثلاثة إشكالات :

الأوّل : إنّ الإشراف والمترفين من قوم نوحعليه‌السلام قالوا له أنت مثلنا ولا فرق بيننا وبينك :( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا ) زعما منهم أن الرسالة الإلهية ينبغي أن تحملها الملائكة إلى البشر لا أن البشر يحملها إلى البشر! وظنّا منهم أنّ مقام الإنسان أدنى من مقام الملائكة ، أو أنّ الملائكة تعرف حاجات الإنسان أكثر منه.

نلاحظ هنا كلمة «الملأ» التي تشير إلى أصحاب الثروة والقوة الذين يملأ العين

٥٠٩

ظاهرهم ، في حين أن الواقع أجوف. ويشكلون أصل الفساد والانحراف في كل مجتمع ، ويرفعون راية العناد والمواجهة أمام دعوة الأنبياءعليهم‌السلام .

والإشكال الثّاني : إنّهم قالوا : يا نوح ؛ لا نرى متبعيك ومن حولك إلّا حفنة من الأراذل وغير الناضجين الذين لم يسبروا مسائل الحياة( وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ) .

و «الأراذل» جمع ل «أرذل» وتأتي أيضا جمع ل «رذل» التي تعني الموجود الحقير ، سواء كان إنسانا أم شيئا آخر غيره.

وبالطبع فإنّ الملتفين حول نوحعليه‌السلام والمؤمنين به لم يكونوا أراذل ولا حقراء ، ولكن بما أنّ الأنبياء ينهضون للدفاع عن المستضعفين قبل كل شيء ، فأوّل جماعة يستجيبون لهم ويلبّون دعوتهم هم الجماعة المحرومة والفقيرة ، ولكن هؤلاء في نظر المستكبرين الذين يعدّون معيار الشخصيّة القوة والثروة فحسب يحسبونهم أراذل وحقراء

وإنّما سمّوهم بـ «بادي الرأي» أي الذين يعتمدون على الظواهر من دون مطالعة ويعشقون الشيء بنظرة واحدة ، ففي الحقيقة كان ذلك بسبب أنّ اللجاجة والتعصب لم يكن لها طريق الى قلوب هؤلاء الذين التفوا حول نوحعليه‌السلام لأنّ معظمهم من الشباب المطهرة قلوبهم الذين يحسون بضياء الحقيقة في قلوبهم ، ويدركون بعقولهم الباحثة عن الحق دلائل الصدق في أقوال الأنبياءعليهم‌السلام وأعمالهم.

الإشكال الثّالث : الذي أوردوه على نوحعليه‌السلام أنهم قالوا : بالاضافة الى أنّك إنسان ولست ملكا ، وأن الذين آمنوا بك والتفوا حولك هم من الأراذل ، فإنّنا لا نرى لكم علينا فضلا( وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ ) .

والآيات التي تعقبها تبيّن رد نوحعليه‌السلام وإجاباته المنطقية على هؤلاء حيث تقول:( قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ) .

٥١٠

وقد اختلف المفسّرون في جواب نوحعليه‌السلام هذا لأي من الإشكالات الثّلاثة هو؟ولهم في ذلك أقوال ولكن مع التدبر في الآية يتّضح أنّ هذا الجواب يمكن أن يكون جوابا للإشكالات الثلاثة بأسرها.

لأنّ أوّل إشكال أوردوه على نوح هو : لم كنت إنسانا مثلنا ولم تكن ملكا؟ فكان جوابه لهم : صحيح أنني بشر مثلكم ، ولكن الله آتاني رحمة وبيّنة ودليلا واضحا من عنده ، فلا تمنع بشريتي هذه من أداء هذه الرسالة العظيمة ، ولا ضرورة لأن أكون ملكا.

والإشكال الثّاني هو : إنّ أتباع نوح مخدوعون بالظواهر. فيردّهم بالقول : إنّكم أحق بهذا الاتهام ، لأنّكم أنكرتم هذه الحقيقة المشرقة ، وعندي أدلّة كافية ومقنعة لكلّ من يطلب الحقيقة ، إلّا أنّها خفيت عليكم لغروركم وتكبركم وأنانيتكم!

وإشكال الثّالث : أنّهم قالوا :( وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ ) فكان جواب نوحعليه‌السلام : أي فضل أعظم من أن يشملني الله برحمته ، وأن يجعل الدلائل الواضحة بين يدي، فعلى هذا لا دليل لكم على اتهامي بالكذب ، فدلائل الصدق عندي واضحة وجليّة!

وفي ختام الآية يقول النّبي نوحعليه‌السلام لهم : هل أستطيع أن ألزمكم الاستجابة لدعوتي وأنتم غير مستعدّين لها وكارهون لها( أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ ) .

* * *

٥١١

الآيات

( وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) )

التّفسير

ما أنا بطارد الذين آمنوا :

في الآيات المتقدمة رأينا أنّ قوم نوح «الأنانيين» كانوا يحتالون بالحجج الواهية والإشكالات غير المنطقية على نوح وأجابهم ببيان جليّ واضح والآيات محل البحث تتابع ما ردّ به نوحعليه‌السلام على قومه المنكرين. فالآية الأولى التي تحمل واحدا من دلائل نبوة نوح ، ومن أجل أن تنير القلوب المظلمة من قومه

٥١٢

تقول على لسان نوح :( وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً ) فأنا لا أطلب لقاء دعوتي مالا أو ثروة منكم ، وإنّما جزائي وثوابي على الله سبحانه الذي بعثني بالنّبوة وأمرني بدعوة خلقه إليه( إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ) .

وهذا يوضح بصورة جيدة وبجلاء أنّني لا أبتغي هدفا ماديا من منهجي هذا ، ولا أفكر بغير الأجر المعنوي من الله سبحانه ، ولا يستطيع مدّع كاذب أن يتحمل الآلام والمخاطر دون أن يفكر بالربح والنفع.

وهذا معيار وميزان لمعرفة القادة الصادقين من غيرهم الذين يتحينون الفرص ويهدفون الى تأمين المنافع المادية في كل خطوة يخطونها سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر.

ويعقب نوحعليه‌السلام بعد ذلك في ردّه على مقولة طرد المؤمنين به من الفقراء والشباب فيقول بصورة قاطعة :( وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ) لأنّهم سيلاقون ربّهم ويخاصمونني في الدار الآخرة( إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ) (١) .

ثمّ تختتم الآية ببيان نوح لقومه بأنّكم جاهلون( وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ) وأي جهل وعدم معرفة أعظم من أن تضيعوا مقياس الفضيلة وتبحثون عنها في الثروة والمال الكثير والجاه والمقام الظاهري ، وتزعمون أنّ هؤلاء المؤمنين العفاة الحفاة بعيدون عن الله وساحة قدسه!

هذا خطؤكم الكبير وعدم معرفتكم ودليل جهلكم.

ثمّ أنتم تتصورون ـ بجهلكم ـ أن يكون النّبي من الملائكة ، في حين ينبغي أن يكون قائد الناس من جنسهم ليحسّ بحاجاتهم ويعرف مشاكلهم وآلامهم.

وفي الآية التي بعدها يقول لهم موضحا : إنّني لو طردت من حولي فمن ينصرني من عدل الله يوم القيامة وحتى في هذه الدنيا( وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ

__________________

(١) وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الجملة ، وهو أن مراد نوحعليه‌السلام : إن الذين آمنوا بي إذا كانوا كاذبين في الباطن فإنهم سيلاقون ربهم يوم القيامة وهو يحاسبهم ، ولكن الاحتمال المذكور أقرب للصحة.

٥١٣

طَرَدْتُهُمْ ) .

فطرد المؤمنين الصالحين ليس بالأمر الهيّن ، إذ سيكونون خصومي يوم القيامة بطردي لهم ، ولا أحد هناك يستطيع أن يدافع عنّي ويخلصني من عدل الله ، ولربّما أصابتني عقوبة الله في هذه الدنيا ، أم أنّكم لا تفكرون في أن ما أقوله هو الحقيقة عينها( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .

والفرق بين «التفكر» و «التذكّر» هو أنّ التفكر في حقيقته إنّما يكون لمعرفة شيء لم تكن لنا فيه خبرة من قبل ، وأمّا التذكر فيقال في مورد يكون معروفا للإنسان قبل ذلك ، كما في المعارف الفطريّة.

والمسائل التي كانت بين نوحعليه‌السلام وقومه هي أيضا من هذا القبيل ، مسائل يعرفها الإنسان ويدركها بفطرته وتدبّره ، ولكن تعصب قومه وغرورهم وغفلتهم وأنانيتهم ألقت عليها حجابا وغشاء فكأنّهم عموا عنها.

وآخر ما يجيب به نوح قومه ويردّ على إشكالاتهم الواهية إنّكم إذا كنتم تتصورون أن لي امتيازا آخر غير الإعجاز الذي لديّ عن طريق الوحي فذلك خطأ ، وأقول لكم بصراحة :( لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ) ولا أستطيع أن أحقق كل شيء أريده وكل عمل أطلبه ، حيث تحكي الآية عن لسانه( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ) ولا أقول لكم إنّني مطلع على الغيب( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) ولا أدعي أنّني غيركم كأن أكون من الملائكة مثلا( وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ) فهذه الادّعاءات الفارغة والكاذبة يتذرع بها المدّعون الكذبة ، وهيهات أن يتذرع بها الأنبياء الصادقون ، لأنّ خزائن الله وعلم الغيب من خصوصيات ذات الله القدسيّة وحدها ، ولا ينسجم الملك مع هذه الأحاسيس البشرية أيضا

فكل من يدعي واحدا من هذه الأمور الثلاثة المتقدمة ـ أو جميعها ـ فهو كاذب.

ومثل هذا التعبير ورد في نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا كما نلاحظ ذلك في الآية

٥١٤

(٥٠) من سورة الأنعام حيث تقول الآية مخاطبة النّبي أن يبلغ قومه بذلك( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ ) فانحصار امتياز نبي الإسلام في مسألة «الوحي» ونفي الأمور الثلاثة الأخرى يدل على أنّ الآيات التي تحدثت عن نوح كانت تستبطن هذا المعنى أيضا وإن لم تصرّح بذلك بمثل هذا التصريح!.

وفي ذيل الآية يكرر التأكيد على المؤمنين المستضعفين بالقول :( وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً ) بل على العكس تماما ، فخير هذه الدنيا وخير الآخرة لهم وإن كانوا عفاة لخلّو أيديهم من المال والثروة فأنتم الذين تحسبون الخير منحصرا في المال والمقام والسن وتجهلون الحقيقة ومعناها تماما.

وعلى فرض صحة مدّعاكم أراذل و «أوباش» ف( اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ ) .أنا الذي لا أرى منهم شيئا سوى الصدق والإيمان يجب علىّ قبولهم ، لأنّي مأمور بالظاهر ، والعارف باسرار العباد هو الله سبحانه ، فإن عملت غير عملي هذا كنت آثما( إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) .

ويرد هذا الاحتمال أيضا في تفسير الجملة الأخيرة لأنّها مرتبطة بجميع محتوى الآية ، أي إذا كنت أدعي علم الغيب أو أنّي ملك أو أن عندي خزائن الله أو أن اطرد المؤمنين ، فسأكون عند الله وعند الوجدان في صفوف الظالمين.

* * *

ملاحظات

١ ـ أولياء الله ومعرفة الغيب

الاطلاع على الغيب مطلقا ـ كما أشرنا إليه مرارا ـ وبدون أي قيد وشرط هو من خصوصيّات الله سبحانه ، ولكنّه يطلع أنبياءه وأولياءه على الغيب بقدر ما يراه

٥١٥

مصلحة كما نرى الإشارة إليه في الآيتين (٢٦ و ٢٧) من سورة الجن( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) .

فعلى هذا لا منافاة ولا تضادّ بين هذه الآيات ـ محل البحث ـ التي تنفي أن يعلم الأنبياء الغيب ، وبين الآيات أو الرّوايات التي تنسب إلى الأنبياء أو الأئمّة العلم ببعض الغيب.

فمعرفة أسرار الغيب والاطلاع عليها من خصوصيّات الله بالذات ، وما عند الآخرين فبالعرض و «بالتعليم الإلهي» ، ولذلك فإنّ علم الغيب عند غير الله محدود بالحدود التي يريدها الله سبحانه(١) .

٢ ـ مقياس معرفة الفضيلة :

مرّة أخرى نواجه الواقعية في هذه الآيات ، وهي أن أصحاب الثروة والقوة وعبيد الدنيا الماديّين يرون جميع الأشياء من خلال نافذتهم المادية فهم يتصورون أنّ الاحترام والشخصيّة هما ثمرة وجود الثروة والمقام والحيثيات فحسب ، فلا ينبغي التعجب من أن يكون المؤمنون الصادقون الذين خلت أيديهم من المال والثروة في قاموسهم «أراذل» وينظرون إليهم بعين الاحتقار والازدراء.

ولم تكن هذه المسألة منحصرة في نوح وقومه ، إذ كانوا يصفون المؤمنين المستضعفين حوله ـ ولا سيما الشباب الوعي منهم ـ بأنّ عقولهم خالية وأفكارهم قاصرة ، وكأنّهم لا قيمة لهم. فالتاريخ يكشف أن هذا المنطق كان موجودا في عصر الأنبياء الآخرين وعلى الأخصّ في زمن نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين الأوائل.

كما نرى الآن مثل هذا المنطق في عصرنا وزماننا ، فالمستكبرون الذين يمثلون فراعنة العصر ـ اعتمادا على سلطانهم وقدراتهم وقواهم الشيطانية ـ يتهمون

__________________

(١) لمزيد من الإيضاح يراجع ذيل الآية (٥٠) من سورة الأنعام وذيل الآية (١٨٨) من سورة الأعراف.

٥١٦

«المؤمنين» بمثل هذا الاتهام فكأنّما يعيد التاريخ نفسه وصوره على أيدي هؤلاء ومخالفيهم

ولكن حين يتطهر المحيط الفاسد بثورة إلهية فهذه المعايير التي تقاس بها الشخصيّة والعناوين الموهومة الأخرى تلقى في مزابل التاريخ ، وتحل محلّها المعايير الإنسانية الأصيلة المعايير المتولدة من صميم حياة الإنسان والتي تكون لبنات تحتية للبناء الفوقاني للمجتمع السليم الحرّ ، حيث يستلهم منها قيمه ، كالإيمان والعلم الإيثار والمعرفة والعفو والتسامح والتقوى والشهامة والشجاعة والتجربة والذكاء والإدارة والنظم وما أشبهها

٣ ـ معنى علم الغيب في القرآن

هناك بعض المفسّرين كصاحب «المنار» حين يصل إلى هذه الآية يقول لمن يدعي أن علم الغيب لا يختصّ بالله ، أو يطلب حلّ المشاكل من سواه ، يقول في جملة قصيرة : إنّ هذين الأمرين ـ علم الغيب وخزائن الله ـ قد نفاهما القرآن عن الأنبياء ، لكن أصحاب البدع من المسلمين وأهل الكتاب يثبتونهما للأولياء والقديسين(١) .

إذا كان مقصوده نفي علم الغيب عنهم مطلقا ولو بتعليم الله ، فهذا مخالف لنصوص القرآن المجيد الصريحة ، وإذا كان مقصوده نفي التوسّل بأنبياء الله وأوليائه بالصورة التي نطلب من الله بشفاعتهم أن يحلّ مشاكلنا ، فهذا الكلام مخالف للقرآن والأحاديث القطعيّة المسلّم بها عن طرق الشيعة وأهل السنّة أيضا.

لمزيد من الإيضاح في هذا المجال يراجع ذيل الآية (٣٤) من سورة المائدة.

* * *

__________________

(١) المنار ، ج ١٢ ، ص ٦٧.

٥١٧

الآيات

( قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) )

التّفسير

كفانا الكلام فأين ما تعدنا به؟!

الآية الأولى من الآيات أعلاه تتحدث عن قوم نوحعليه‌السلام أنّهم :( قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا ) فأين ما تعدنا به من عذاب الله( فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) وهذا الأمر يشبه تماما عند ما ندخل في جدال مع شخص أو أشخاص ونسمع منهم تهديدا ضمنيا حين المجادلة فنقول : كفى هذا الكلام الكثير!! اذهبوا وافعلوا ما شئتم ولا تتأخروا ، فمثل هذا الكلام يشير إلى أنّنا لا نكترث بكلامهم ولا نخاف من تهديدهم ، ولسنا مستعدين أن نسمع منهم كلاما أكثر.

٥١٨

فاختيار هذه الطريقة إزاء كل ذلك اللطف وتلك المحبّة من قبل أنبياء الله ونصائحهم التي تجري كالماء الزلال على القلوب ، إنّما تحكي عن مدى اللجاجة والتعصب الأعمى لدى تلك الأقوام.

في الوقت ذاته يشعرنا كلام نوحعليه‌السلام بأنّه سعى مدّة طويلة لهداية قومه ، ولم يترك فرصة للوصول إلى الهدف إلّا انتهزها لإرشادهم ، ولكن قومه الضالين أظهروا جزعهم من أقواله وإرشاداته. وهذه المعادلة تتجلى جيدا في سائر الآيات التي تتحدث عن نوحعليه‌السلام وقومه في القرآن ، ففي سورة نوحعليه‌السلام بيان لهذه الظاهرة بشكل واف ـ أيضا ـ فلنلاحظ الآيات التي تبدا من الآية(٥) وتنتهي بالآية (١٣) من سورة نوح حيث نقرأ فيها :( قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ) .

في الآية ـ محل البحث ـ وردت جملة «جادلتنا» من مادة «المجادلة» وأصلها مشتق من «الجدل» التي تعني فتل الحبل وإبرامه ، ولذلك يطلق على البازي «أجدل» لأنّه أشد فتلا من جميع الطيور ، ثمّ توسعوا في اللغة فصارت تطلق على الالتواء في الكلام وما أشبه.

مع أنّ «الجدال» و «المراء» و «الحجاج» على وزن «اللجاج» متقاربة المعاني ومتشابهة فيما بينها ، لكن بعض المحققين يرى أنّ «المراء» فيه نوع من المذمّة ، لأنّه يستعمل أحيانا في الاستدلال في المسائل الباطلة ، ولكن ذلك المفهوم لا يدخل في كلمتي «الجدال والمجادلة» ، والفرق بين الجدال والحجاج ، أن الجدال يستعمل ليلفت الطرف المقابل ويبعده عن عقيدته ، أمّا الحجاج فعلى العكس من ذلك بأن يدعى الشخص إلى العقيدة الفلانية بالاستدلال والبرهان.

لقد أجاب نوحعليه‌السلام بجملة قصيرة على هذه اللجاجة والحماقة وعدم الاعتناء

٥١٩

بقوله :( إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ ) فذلك خارج من يدي على كل حال وليس باختياري، إنّما أنا رسوله ومطيع لأمره ، فلا تطلبوا منّي العذاب والعقاب! ولكن حين يحل عذابه فاعلموا أنّكم لا تقدرون أن تفرّوا من يد قدرته أو تلجأوا إلى مأمن آخر( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

و «المعجز» مشتق من مادة «الإعجاز» وهي بمعنى سلب القدرة من الغير ، وتستعمل هذه الكلمة أحيانا في موارد يكون الإنسان مانعا لعمل الآخر أو لصده عن سبيله فيعجزه عن القيام بأي عمل ، وأحيانا تستعمل في فرار الإنسان من يد الآخر وخروجه من هيمنته فلا يقدر عليه ، وأحيانا تستعمل في تكبيل الآخر بالوثاق ، أو بجعله مصونا إلخ.

فكل هذه المعاني من أوجه الإعجاز وسلب القدرة من الطرف الآخر.

الآية الآنفة الذكر تحتمل جميع هذه المعاني ، لأنّه لا منافاة بين جميع هذه المعاني ، فكلها تعني أنّ لا حيلة تخلصكم وتجعلكم في أمان من عذابه.

ثمّ يضيف : وإذا كان الله يريد أن يضلكم ويغويكم ـ لما أنتم عليه من الذنوب والتلوّث الفكري والجسدي ـ فلا فائدة من نصحي لكم إذا( وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ) فهو وليكم وأنتم في قبضته( هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

سؤال : مع مطالعة هذه الآية يثور هذا السؤال فورا ـ كما أن كثيرا من المفسّرين أشاروا إليه أيضا ـ وهو : هل يمكن أن يريد الله الغواية والضلال لعباده؟ ثمّ أليس هذا دليلا على الجبر؟ وهل يتوافق هذا المعنى مع أصل حرية الإرادة والإختيار للإنسان؟

والجواب : كما اتّضح من ثنايا البحث المتقدم ـ وما أشرنا إليه مرات عديدة ـ أنّه قد تصدر من الإنسان ـ أحيانا ـ سلسلة من الأعمال التي تكون نتيجتها الغواية والانحراف الدائمي وعدم العودة إلى الحق ، اللجاجة المستمرة والإصرار على

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608