الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 252262 / تحميل: 6013
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

مِنْكُمْ ) (١) .

ثمّ تشير الآية إلى سبب ذلك فتقول :( إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ ) .

فنيّاتكم غير خالصة ، وأعمالكم غير طاهرة ، وقلوبكم مظلمة ، وإنّما يتقبل الله العمل الطاهر من الورع التقي.

وواضح أنّ المراد من الفسق هنا ليس هو الذنب البسيط والمألوف ، لأنّه قد يرتكب الإنسان ذنبا وهو في الوقت ذاته قد يكون مخلصا في أعماله ، بل المراد منه الكفر والنفاق ، أو تلوّث الإنفاق بالرياء والتظاهر.

كما لا يمنع أن يكون الفسق ـ في التعبير آنفا ـ في مفهومه الواسع شاملا للمعنيين، كما ستوضح الآية التالية ذلك.

وفي الآية التالية يوضح القرآن مرّة أخرى السبب في عدم قبول نفقاتهم فيقول :( وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ ) .

والقرآن يعوّل كثيرا على أنّ قبول الأعمال الصالحة مشروط بالإيمان ، حتى أنّه لو قام الإنسان بعمل صالح وهو مؤمن ، ثمّ كفر بعد ذلك فإنّ الكفر يحبط عمله ولا يكون له أي أثر «بحثنا في هذا المجال في المجلد الثّاني من التّفسير الأمثل».

وبعد أن أشار القرآن إلى عدم قبول نفقاتهم ، يشير إلى حالهم في العبادات فيقول:وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى ) كما أنّهم( وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ ) .

وفي الحقيقة أنّ نفقاتهم لا تقبل لسببين :

الأوّل : هو أنّهم( كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ ) .

والثّاني : أنّهم إنما ينفقون عن كره وإجبار.

كما أن صلواتهم لا تقبل لسببين أيضا :

الأوّل : لأنّهم( كَفَرُوا بِاللهِ ) .

__________________

(١) جملة «أنفقوا» وإن كانت في صورة الأمر ، إلّا أن فيها مفهوم الشرط ، أي لو أنفقتم طوعا أو كرها لن يتقبل منكم.

٨١

والثّاني : أنّهم( لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى ) ! العبارات المتقدمة في الوقت الذي تبيّن حال المنافقين في عدم النفع من أعمالهم ، فهي في الحقيقة تبيّن علامة أخرى من علائمهم في الوقت ذاته ، وهي أن المؤمنين الواقعيين يمكن معرفتهم من نشاطهم عند أداء العبادة ، ورغبتهم في الأعمال الصالحة التي تتجلى فيهم بإخلاصهم.

كما يمكن معرفة حال المنافقين عن طريق كيفية أعمالهم ، لأنّهم يؤدّون أعمالهم عادة دون رغبة ومكرهين ، فكأنّما يساقون إلى عمل الخير سوقا.

وبديهي أنّ أعمال الطائفة الأولى (المؤمنين) لما كانت تصدر عن قلوب تعشق الله مقرونة بالتحرق واللهفة ، فإنّ جميع الآداب ومقرراتها مرعية فيها. إلّا أنّ الطائفة الثّانية لما كانت أعمالها تصدر عن إكراه وعدم رغبة ، فهي ناقصّة لا روح فيها ، وهكذا تكون البواعث المختلفة في أعمال الطائفتين تظفي على الأعمال شكلين مختلفين.

وفي آخر الآية ـ من الآيات محل البحث ـ يتوجه الخطاب نحو النّبي قائلا :( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ) .

فهي وإن كانت نعمة بحسب الظاهر ، إلّا أنّه( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) .

وفي الواقع فإنّهم يعذبون عن طريقين بسبب هذه الأموال والأولاد ، أي القوة الاقتصادية والإنسانية :

فالأوّل : إنّ مثل هؤلاء الأبناء لا يكونون صالحين عادة ، ومثل هذه الأموال لا بركة فيها ، فيكونان مدعاة قلقهم وألمهم في الحياة الدنيا ، إذ عليهم أن يسعوا ليل نهار من أجل أبنائهم الذين هم مدعاة أذاهم وقلقهم ، وأن يجهدوا أنفسهم لحفظ أموالهم التي اكتسبوها عن طريق الإثمّ والحرام.

٨٢

والثّاني : لما كانوا بهذه الأموال والأولاد متعلقين ، ولا يؤمنون بالحياة بعد الموت ولا بالدار الآخرة الواسعة ولا بنعيمها الخالد فليس من الهيّن أن يغمضوا عن هذه الأموال والذّرية، ويخرجون من هذه الدنيا ـ بحال مزرية وفي حال الكفر.

فالمال والبنون قد يكونان موهبة وسعادة ومدعاة للرفاه والهدوء والاطمئنان والدعة إذا كانا طاهرين طيبين وإلّا فهما مدعاة العذاب والشقاء والألم.

* * *

ملاحظتان

١ ـ يسأل بعضهم : إنّ الآية الأولى ـ من الآيات محل البحث ـ تقول :( أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ) مع أن الآية الأخرى تقول بصراحة :( وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ ) .

ترى ألا توجد منافاة بين هذين التعبيرين؟!

لكن مع قليل من الدقة يتّضح الجواب على هذا السؤال ، وهو أن بداية الآية الأولى في صورة القضية الشرطية ، أي لو أنفقتم طوعا أو كرها فعلى آية حال لن تتقبل منكم. ونعرف أن القضية الشرطية لا تدل على وجود الشرط ، أي على فرض أن ينفقوا طوعا واختيارا فإنفاقهم لا فائدة فيه ، لأنّهم غير مؤمنين.

إلّا أنّ ذيل الآية الأخرى بيان قضية خارجيّة ، وهي أنّهم ينفقون عن إكراه دائما.

٢ ـ والدرس الذي نستفيده من الآيات الآنفة ، هو أنّه لا ينبغي الانخداع بصلاة الناس وصيامهم ، لأنّ المنافقين يؤدون ذلك أيضا ، كما أنّهم ينفقون بحسب الظاهر في سبيل الله. بل ينبغي تمييز الصلاة والإنفاق بدافع النفاق من غيرهما عن أعمال

٨٣

المؤمنين البنّاءة والهادفة ، ويمكن معرفة ذلك بالتدقيق والإمعان في النظر ، ونقرأ في الحديث : «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده ، فإنّ ذلك شيء اعتاده ، ولو تركه استوحش ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته».

* * *

٨٤

الآيتان

( وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) )

التّفسير

علامة أخرى للمنافقين :

ترسم الآيتان أعلاه حالة أخرى من أعمال المنافقين بجلاء ، إذ تقول الآية الأولى :( وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ) ومن شدّة خوفهم وفرقهم يخفون كفرهم ويظهرون الإيمان.

و «يفرقون» من مادة «الفرق» على زنة «الشفق» ومعناه شدّة الخوف.

يقول «الراغب» في «المفردات» إن الفرق في الأصل معناه التفرّق والتشتت ، فكأنّهم لشدّة خوفهم تكاد قلوبهم أن تتفرق وتتلاشى.

وفي الواقع أنّ مثل هؤلاء لما فقدوا ما يركنون إليه في أعماقهم ، فهم في هلع واضطراب عظيم دائم ، ولا يمكنهم أن يكشفوا عمّا في باطنهم لما هم عليه من الهلع والفزع ، وحيث أنّهم لا يخافون الله «لعدم إيمانهم به» ، فهم يخافون من كل شيء غيره ، ويعيشون في استيحاش دائم ، غير أنّ المؤمنين الصادقين ينعمون في

٨٥

ظل الإيمان بالهدوء والاطمئنان.

والآية التالية تصوّر شدّة عداوة المنافقين للمؤمنين ونفورهم منهم ، في عبارة موجزة إلّا أنّها في غاية المتانة والبلاغة ، إذ تقول :( لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ) .

«الملجأ» معناه معروف ، وهو ما يأوي إليه الخائف عادة ، كالقلاع والكهوف وأضرابهما.

و «المغارات» جمع مغارة.

و «المدّخل» هو الطريق الخفي تحت الأرض ، كالنقب مثلا.

و «يجمحون» مأخوذ من الجماح ، ومعناه الحركة السريعة والشديدة التي لا يتأتى لأيّ شيء أن يصدها ، كحركة الخيول المسرعة الجامحة التي لا تطاوع أصحابها ، ولذلك سمّي الجواد الذي لا يطاوع صاحبه جموحا أو جامحا.

وعلى كل حال ، فهذه الآية واحدة من أبلغ الآيات والتعابير التي يسوقها القرآن في وصف المنافقين ، وبيان هلعهم وخوفهم وبغضهم إخوانهم المؤمنين ، بحيث لو كان لهم سبيل للفرار من المؤمنين ، ولو على قمم الجبال أو تحت الأرض ، لولّوا إليه وهم يجمحون ، ولكن ما عسى أن يفعلوا مع الروابط التي تربطهم معكم من القبيلة والأموال والثروة ، كل ذلك يضطرهم إلى البقاء على رغم أنوفهم.

* * *

٨٦

الآيتان

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩) )

سبب النّزول

جاء في تفسير «الدر المنثور» عن «صحيح البخاري» و «النسائي» وجماعة آخرين ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشغولا بتقسيم الأموال (من الغنائم أو ما شاكلها) ، وإذا برجل من بني تميم يدعى ذو الخويصرة ـ وهو حرقوص بن زهير ـ يأتي فيقول له : يا رسول الله ، اعدل. فقال رسول الله : «ويلك من يعدل إذا لم أعدل!» فصاح عمر : يا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه. فقال رسول الله : «دعه فإنّ له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلواتهم وصومهم مع صومه ، يمرقون من دين كما يمرق السهم من الرميّة ...».(١)

فنزلت الآيتان عندئذ ونصحت مثل هؤلاء الناس ووعظتهم.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٢٧.

٨٧

التّفسير

الأنانيون السفهاء :

في الآية الأولى أعلاه إشارة إلى حالة أخرى من حالات المنافقين ، وهي أنّهم لا يرضون أبدا بنصيبهم ، ويرجون أن ينالوا من بيت المال أو المنافع العامّة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، سواء كانوا مستحقين أم غير مستحقين ، فصداقتهم وعداوتهم تدوران حول محور المنافع سلبا وإيجابا.

فمتى ملئت جيوبهم رضوا (عن صاحبهم) ومتى ما أعطوا حقّهم وروعي العدل في إيتاء الآخرين حقوقهم سخطوا عليه ، فهم لا يعرفون للحق والعدالة مفهوما «في قاموسهم» وإذا كان في قاموسهم مفهوم للحق أو العدل ، فهو على أساس أن من يعطيهم أكثر فهو عادل ، ومن يأخذ حق الآخرين منهم فهو ظالم!!

وبتعبير آخر : إنّهم يفقدون الشخصية الاجتماعية ، ويتمسكون بالشخصية الفردية والمنافع الخاصّة ، وينظرون للأشياء جميعا من هذه الزّاوية (المشار إليها آنفا).

لذا فإنّ الآية تقول :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ) لكنّهم في الحقيقة ينظرون إلى منافعهم الخاصّة( فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ ) .

فهؤلاء يرون أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير منصف ولا عادل!! ويتهمونه في تقسيمه المال!.

( وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ ) .

ترى ألا يوجد أمثال هؤلاء في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة؟! وهل الناس جميعا قانعون بحقّهم المشروع! فمن أعطاهم حقهم حسبوه عادلا؟!

ممّا لا ريب فيه أنّ الجواب على السؤال الآنف بالنفي ، ومع كل الأسف فما

٨٨

يزال الكثيرون يقيسون العدل ويزنون الحق بمعيار المنافع الشخصيّة ولا يقنعون بحقوقهم!! ولو قدّر لأحد أن يوصل إلى جميع الناس حقوقهم المشروعة ولا سيما المحرومين منهم ـ لتعالى صراخهم وعويلهم!!

فبناء على ذلك ، لا داعي لأن نقلب ونتصفح سجل التاريخ لمعرفة المنافقين.

فبنظرة واحدة إلى من حولنا ، بل بنظرة إلى أنفسنا ، نستطيع أن نميز حالنا من حال الآخرين!

اللهم ، أحي فينا روح الإيمان ، وأمت في أنفسنا النفاق وأفكار الشيطان.

* * *

٨٩

الآية

( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠) )

التّفسير

موارد صرف الزكاة ودقائقها :

في تاريخ صدر الإسلام مرحلتان يمكن ملاحظتهما بوضوح ، إحداهما في مكّة ، حيث كان هدف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين فيها تعليم الأفراد وتربيتهم ونشر التعاليم الإسلامية. والثّانية في المدينة ، حيث أقدم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تشكيل حكومة إسلاميّة أجرى من خلالها الأحكام والتعاليم الإسلامية.

وممّا لا شك فيه أنّ أوّل وأهم مسألة واجهت تشكيل الحكومة هي إيجاد بيت المال ، إذ عن طريقه تؤمّن حاجات الدولة الاقتصادية ، وهي حاجات طبيعية توجد في كل دولة بدون استثناء ، ومن هنا كان إيجاد بيت المال من أوائل أعمال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، وتشكل الزكاة أحد موارده ، وعلى المشهور فإنّ هذا الحكم شرّع في السنة الثّانية للهجرة النبوية.

٩٠

وكما سنشير ـ بعد حين ـ إلى إرادة الله وحكمه ، فإنّ حكم الزكاة قد نزل من قبل في مكّة ، لكن لا على نحو وجوب جمعها في بيت المال ، بل كان الناس يؤدونها ذاتيا ، أمّا في المدينة فإنّ قانون جباية الزكاة وجمعها في بيت المال قد صدر من الله تعالى في الآية (١٠٣) من سورة التوبة.

إنّ الآية التي نبحثها ، والتي نزلت يقينا بعد آية وجوب الزكاة ـ وإن لم يسبق لها ذكر في القرآن الكريم ـ تبيّن الموارد المختلفة التي تصرف فيها الزكاة. وممّا يلفت النظر أن الآية بدأت بكلمة (إنّما) الدالّة على الحصر ، وهي توحي بأنّ بعض الأفراد الأنانيين أو المغفلين كانوا يطمعون في أن يحصلوا على نصيب من الزكاة بدون أي وجه لاستحقاقهم لها ، لكن كلمة (إنّما) ردّت أيديهم في أفواهم. وهذا المعنى تبيّنه الآيتان اللتان سبقت هذه الآية ، حيث ذكرت أنّ هؤلاء كانوا يعترضون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدم إعطائهم شيئا من الزكاة ، ويرضون عنه إذا أعطاهم شيئا منها.

وعلى أي حال ، فإنّ الآية قد بيّنت ـ بوضوح ـ الموارد الحقيقة التي تصرف فيها الزّكاة ، وأنهت التوقعات غير المنطقية وحددت موارد صرف الزّكاة في ثمانية أصناف :

١ ـ الفقراء.

٢ ـ المساكين : وسيأتي البحث في نهاية تفسير الآية عن الفرق بين الفقير والمسكين.

٣ ـ العاملين عليها : وهم الذين يسعون في جباية الزكاة ، وإدارة بيت المال ، وما يعطى لهم هو في الواقع بمنزلة أجرة عملهم ، ولهذا لا يشترط فيهم الفقر على أي حال.

٤ ـ المؤلفة قلوبهم : وهم الذين لا يوجد لديهم الحافز والدافع المعنوي القوي من أجل النهوض بالأهداف الإسلامية وتحقيقها ، ولكن ويمكن استمالتهم بواسطة بذل المال لهم ، والاستفادة منهم في الدفاع عن الإسلام وتحكيم دولته ، وإعلاء

٩١

كلمته. وسيأتي توضيح أوسع حول هذا القسم.

٥ ـ في الرقاب : وهذا يعني أن قسما من الزكاة يخصّص لمحاربة العبودية والرق وإنهاء هذه الحالة غير الإنسانية ، وكما قلنا في محله فإنّ برنامج الإسلام في معالجة مسألة الرقيق هو اتباع نظام (التحرير التدريجي) الذي ينتهي إلى تحرير جميع العبيد بدون مواجهة ردود فعل اجتماعية غير متوقعة ، ويشكّل تخصيص قسم من الزكاة لهذا الموضوع جانبا من هذا البرنامج المتكامل.

٦ ـ الغارمون : وهم الذين عجزوا عن أداء ديونهم ، ولم يكن هذا العجز نتيجة لتقصيرهم.

٧ ـ في سبيل الله : والمراد منه ـ كما سنشير إليه في آخر تفسير الآية ـ جميع السبل التي تؤدي إلى تقوية ونشر الدين الإلهي ، وهي أعم من مسألة الجهاد والتبليغ وأمثالها.

٨ ـ ابن السبيل : وهم الذين تخلفوا في الطريق لعلة ما ، وليس معهم من الزاد والراحلة ما يوصلهم إلى بلدانهم أو إلى الجهة التي يقصدونها ، حتى ولو لم يكونوا فقراء في واقعهم ، لكنّهم افتقروا الآن نتيجة سرقة أموالهم أو مرضهم أو قلّة أموالهم أو لأسباب أخر ، ومثل هؤلاء يجب أن يعطوا من الزكاة ما يوصلهم إلى مقصدهم أو بلدهم.

وفي خاتمة الآية نلاحظ التأكيد على صرفها في الجهات السابقة ، ولذلك قال سبحانه :( فَرِيضَةً مِنَ اللهِ ) ولا شك أنّ هذه الفريضة قد حسبت بصورة دقيقة جدّا ، وبصورة تحفظ مصالح الفرد والمجتمع ، لأنّ( اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

* * *

٩٢

بحوث

وهنا أمور ينبغي ملاحظتها :

١ ـ الفرق بين الفقير والمسكين

هناك بحث بين المفسّرين في مفهومي الفقير والمسكين ، هل أنّ مفهومهما واحد ، وتكرار اللفظين معا في الآية من باب التأكيد فتصبح موارد صرف الزكاة سبعة لا ثمانية ، أم أنّهما لهما معنيان مختلفان؟

أغلب المفسّرين والفقهاء قالوا بالثّاني ، لكن وقع البحث حتى بين أنصار هذا القول في تفسير وتحديد مفهوم كل من الكلمتين ، والذي يبدو أقرب للنظر ، أنّ( الْفَقِيرَ ) هو الشخص الذي يعاني من حاجة مالية في حياته ومعاشه مع أنّه يعمل ويكتسب ، لكنّه لا يسأل أحدا مطلقا رغم حاجته لعفته وعزّة نفسه ، أمّا المسكين فهو أشد حاجة من الفقير ، وهو العاجز عن العمل ، فهو مضطر لأنّ يستعطي الناس ويسألهم. والدليل على ذلك أنّ الأصل اللغوي لكلمة مسكين مأخوذ من مادة السكون ، لأنّ المسكين لشدة فقره كأنّه سكن وأخلد إلى الأرض.

ثمّ إنّ ملاحظة استعمال الكلمتين في مواضع متعددة من القرآن يؤيد هذا الرأي ، فمثلا : نقرأ في الآية (١٦) من سورة البلد :( أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) وفي الآية (٨) من سورة النساء :( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ ) ويفهم من هذا التعبير أنّ المراد بالمساكين هم الذين يسألون ويستعطون إذا حضروا مثل هذه المواضع.

وفي الآية (٢٤) من سورة القلم نقرأ :( أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ) وهي إشارة إلى السائلين.

وكذلك التعبير ب (إطعام مسكين) أو (طعام مسكين) ، فإنّه يوحي بأنّ المساكين هم الجياع الذين يحتاجون إلى الطعام ، في حين أنّنا نستطيع أن نفهم بوضوح ـ من خلال بعض الآيات القرآنية التي وردت فيها كلمة الفقير ـ أنّ المراد من الفقراء هم

٩٣

أفراد محتاجون للمال لكنّهم لحفظ ماء الوجه ولعزة أنفسهم لا يسألون الناس مطلقا ، كما تبين ذلك الآية (٢٧٣) من سورة البقرة :( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ) .

وبعد كل هذا ففي رواية رواها محمّد بن مسلم عن الإمام الصادق أو الإمام الباقرعليهما‌السلام ، أنّه سأله عن الفقير والمسكين فقال : «الفقير الذي لا يسأل ، والمسكين الذي هو أجهد منه الذي يسأل»(١) . وبهذا المضمون وردت رواية عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام ، وكلتاهما صريحتان في المعنى السابق.

ونذكّر هنا بأنّ قسما من القرائن قد يظهر منه أحيانا خلاف ما قلناه ، إلّا أنّنا إذا نظرنا إلى مجموع القرائن اتّضح أن الحق ما قلناه.

٢ ـ هل يجب تقسيم الزّكاة إلى ثمانية أجزاء متساوية؟

يعتقد بعض المفسّرين والفقهاء أنّ ظاهر الآية يدلّ على وجوب تقسيم الزكاة إلى ثمانية أجزاء متساوية ، وصرف كل جزء في مورده الخاص إلّا أن يكون مقدار الزكاة من القلّة بحيث لا يمكن تقسيمه إلى ثمانية أقسام.

أمّا الأكثرية الساحقة من الفقهاء فقد ذهبوا إلى أن ذكر الأصناف الثمانية في الآية يبيّن جواز صرف الزكاة في هذه الموارد ، لا أنّه يجب تقسيم الزكاة إلى ثمانية أجزاء. والسيرة الثابتة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تؤيّد هذا المعنى ، إضافة إلى أنّ الزكاة إحدى الضرائب الإسلامية ، والحكومة الإسلامية هي المسؤولة عن جبايتها من الناس ، والهدف من تشريعها هو تأمين الحاجات المختلفة للمجتمع الإسلامي.

أمّا كيفية صرف الزكاة في هذه الموارد الثمانية ، فإنّه يرتبط بالضرورات الاجتماعية من وجه ، وبرأي ووجهة نظر الحكومة الإسلامية من جهة أخرى.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ١٤٤ ، باب ١ من أبواب مستحقي الزكاة ، حديث ٢.

٩٤

٣ ـ متى شرعت الزّكاة؟

يستفاد من الآيات القرآنية المختلفة ـ ومن جملتها الآية (١٥٦) من سورة الأعراف ، والآية (٣) من سورة النمل ، والآية (٤) من سورة لقمان ، والآية (٧) من سورة فصلت ، وكلها سور مكّية ـ أن حكم وجوب الزكاة نزل في مكّة ، وكان المسلمون ملزمين بأدائها كواجب شرعي ، لكن لما قدم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة وأسس الدولة الإسلامية ، وكان لا بدّ من إيجاد بيت المال ، أمره الله سبحانه بأن يأخذ الزكاة من الناس بنفسه ـ لا أنهم يصرفون الزكاة بأنفسهم حسب ما يرونه ـ فنزلت الآية (١٠٣) من سورة التوبة :( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) .

والمشهور أنّ ذلك انّ في السنة الثّانية للهجرة ، ثمّ بيّنت الآية التي نبحثها ـ الآية (٦٠) من سورة التوبة ـ موارد صرف الزكاة بصورة دقيقة. ولا ينبغي التعجب من أن تشريع أخذ الزكاة في الآية (١٠٣) ، وبيان موارد صرفها ـ والذي يقال أنّه نزل في السنة التاسعة للهجرة ـ في الآية (٦٠) ، لأنا نعلم أن آيات القرآن لم تجمع وترتب حسب تأريخ نزولها ، بل بأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أمر بوضع كل آية في مكانها المناسب.

٤ ـ من هم المقصودون ب( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) ؟

الذي يفهم من تعبير( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) أن أحد موارد صرف الزكاة هم الأفراد الذين يراد استمالتهم وجلب محبّتهم بالزكاة ، لكن هل المراد منهم الكفار الذين يمكن الاستعانة بهم في أمر الجهاد ببذل الزكاة لهم ، أم يدخل معهم المسلمون ضعيفو الإيمان؟

وكما قلنا في المباحث الفقهية ، فإنّ لهذه الآية ، وكذلك للروايات الواردة في هذا الموضوع مفهوما واسعا ، ولهذا فإنّها تشمل كل من يمكن استمالته من أجل نفع وتحكيم الإسلام ، ولا دليل على تخصيصها بالكفار.

٩٥

٥ ـ دور الزّكاة في الإسلام

إذا علمنا أنّ الإسلام يظهر على أنّه مذهب أخلاقي أو فلسفي أو عقائدي بحت ، بل ظهر إلى الوجود كدين وقانون كامل وشامل عولجت فيه كل الحاجات المادية والمعنوية في الحياة ، وكذلك إذا علمنا أن تشكيل وتأسيس الدولة الإسلامية قد لازم ظهور الإسلام منذ عصر النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا علمنا أن الإسلام يهتم اهتماما خاصّا بنصرة المحرومين ومكافحة الطبقية في المجتمع اتضح لنا أنّ دور بيت المال والزكاة التي تشكل أحد موارده ، من أهم الأدوار.

لا شك أن في كل مجتمع أفرادا عاجزين عن العمل ، مرضى ، يتامى ، معوقين ، وأمثالهم ، وهؤلاء يحتاجون حتما إلى من يحميهم ويرعاهم ويقوم بشؤونهم.

وكذلك يحتاج هذا المجتمع إلى جنود مضحين من أجل حفظ وجوده وكيانه ، أمّا مصاريف هؤلاء الجنود ونفقاتهم فإنّ الدولة هي التي تلتزم بتأمينها ودفعها إليهم. وكذلك العاملون في الدولة الإسلامية ، الحكام والقضاة ، وسائل الإعلام والمراكز الدينية وغيرها ، فكل قسم من هذه الأقسام يحتاج إلى ميزانية خاصّة ومبالغ طائلة لا يمكن تهيئتها دون أن يكون هناك نظام مالي محكم منظم.

وعلى هذا الأساس أولى الإسلام الزكاة ـ التي تعتبر في الحقيقة نوعا من الضرائب على الإنتاج والأرباح ، وعلى الأموال الراكدة ـ اهتماما خاصا ، حتى أنّه اعتبرها من أهم العبادات ، وقد ذكرت ـ جنبا إلى جنب ـ مع الصلاة في كثير من الموارد ، بل إنّه اعتبرها شرطا لقبول الصلاة.

وأكثر من هذا أننا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الدولة الإسلامية إذا طلبت الزكاة من شخص أو أشخاص وامتنع هؤلاء من ذلك فسوف يحكم بارتدادهم ، وإذا لم تنفع النصيحة معهم ولم يؤثر الموعظة فيهم ، فإنّ الاستعانة بالقوّة العسكرية لمقابلتهم أمر جائز.

٩٦

وفي رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من منع قيراطا من الزكاة فليس هو بمؤمن ، ولا مسلم ، ولا كرامة».(١)

وممّا يلفت النظر أنّ الرّوايات قد أظهرت أن تعين الزكاة بهذا المقدار يبيّن دقة حسابات الإسلام ، فإنّ المسلمين جميعا لو أدّوا زكاة أموالهم بصورة دقيقة وكاملة فسوف لن يبقى فقير أو محروم في كافة أنحاء البلاد الإسلامية. ففي رواية عن الصادقعليه‌السلام : «ولو أنّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيرا محتاجا وإن الناس ما افتقروا ، ولا احتاجوا ، ولا جاعوا ، ولا عروا إلّا بذنوب الأغنياء»(٢) .

وكذلك يفهم من الرّوايات أنّ أداء الزكاة سبب لحفظ أصل الملك والأموال وتحكيم أسسها ، بحيث أنّ الناس إذا أهملوا تطبيق هذا الأصل الإسلامي المهم فإنّ الفاصلة والتفاوت بين الطبقات سيصل إلى حد يعرض أموال الأغنياء إلى الخطر.

في حديث عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : «حصّنوا أموالكم بالزكاة»(٣) . وبهذا المضمون نقلت روايات أخرى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنينعليه‌السلام .

ولمزيد الاطلاع على هذه الأحاديث راجع الأبواب : الأوّل والثّالث والرّابع والخامس من أبواب الزكاة من المجلد السّادس من وسائل الشيعة.

٦ ـ ما الفرق بين العطف بـ «اللام أو في»؟

النقطة الأخيرة التي ينبغي الالتفات إليها ، هي أنّ في الآية التي نبحثها أربعة أقسام ذكرت معطوفة على حرف اللام :( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٢٠ ، باب ٤ ، حديث ٩.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٤ ، باب ١ من أبواب الزكاة حديث ٦.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٦ ، باب ١ ، من أبواب الزكاة ، حديث ١١.

٩٧

وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) ، وهذا التعبير عادة يفيد الملكية. أمّا الأقسام الأربعة الأخرى فقد سبقها حرف (في) :( وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ، وهذا التعبير عادة يستعمل لبيان مورد الصرف(١) .

هناك بحث ونقاش بين المفسّرين في سبب اختلاف التعبير ، فالبعض يعتقد أن الأصناف الأربعة الأولى يملكون الزكاة ، أمّا الأصناف الأربعة الأخرى فإنّهم لا يملكونها ، بل إن الزكاة يجوز أن تصرف فيهم.

والبعض الآخر يعتقد أن الاختلاف في التعبير يشير إلى مسألة أخرى ، وهي أنّ الطائفة الثّانية أكثر استحقاقا للزكاة ، لأن كلمة (في) لبيان الظرفية ، لهذا فإن هذه المجموعة الرباعية تمثل محتوى ومصرف الزكاة ، والزكاة ووعاء لها ، في حين أن المجموعة الأولى ليست كذلك.

لكننا نحتمل ونرجح احتمالا آخر ، وهو أن الستة أقسام ـ وهم : الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون وابن السبيل ـ التي لم تذكر قبلها (في) متساوون وقد عطفت على بعضها البعض ، أمّا القسمان الآخران ـ وهما في الرقاب وفي سبيل الله ـ اللذان بيّنتهما (في) فإنّ لهما وضعا خاصا ، وربّما كان السبب في اختلاف التعبير من جهة إمكان تملك الزكاة من قبل الأصناف الستة ، ويمكن أداء الزكاة إليهم (حتى المدينين والعاجزين عن أداء ديونهم ، لكن بشرط الاطمئنان إلى أنّ هؤلاء يصرفونها في سداد ديونهم).

أمّا الصنفان الآخران فلا يملكون الزكاة ، ولا يمكن دفع الزكاة إليهم ، بل تصرف في جهتهم ، فمثلا يجب الشراء العبيد وتحريرهم عن طريق الزكاة ، ومن الواضح أنّهم لا يملكون الزكاة في هذه الحالة ، بل صرفت الزكاة في جهة

__________________

(١) ينبغي الانتباه إلى أن (في) قد ذكرت صريحا في موردين ، وعطف على مجرور (في) في موردين ، كما أن اللام قد ذكرت في مورد واحد ، وعطف الباقي عليها.

٩٨

تحريرهم. وكذلك الحال بالنسبة إلى الموارد التي تندرج تحت عنوان (في سبيل الله) كنفقات الجهاد ، وإعداد الأسلحة ، أو بناء المساجد والمراكز الدينية ، وأمثال هذه المفردات لا تملك الزكاة بل أنّها مورد لصرف الزكاة.

وعلى أي حال ، فإنّ التفاوت الاختلاف في التعبير يوضح الدقة المتناهية في التعبيرات القرآنية.

* * *

٩٩

الآية

( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) )

سبب النّزول

هذا حسن لا قبيح!

ذكرت عدّة أسباب متباينة لنزول الآية المذكورة ومنها أنّ الآية نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يذكرون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسوء ، فنهاهم أحدهم وقال : لا تتحدثوا بهذا الحديث لئلا يصل إلى سمع محمّد فيذكرنا بسوء ويؤلب الناس علينا.

فقال له أحدهم ـ واسمه جلاس ـ : لا يهمنا ذلك ، فنحن نقول ما نريد ، وإذا بلغه ما نقول سنحضر عنده وننكر ما قلناه ، وسيقبل ذلك منا فإنّه سريع التصديق لما يقال له ، ويقبل كل ما يقال من كل أحد ، فهو أذن ، فنزلت الآية وأجابتهم.

التّفسير

تتحدّث الآية ـ كما يفهم من مضمونها ـ عن فرد أو أفراد كانوا يؤذون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلامهم ويقولون أنّه أذن ويصدّق كل ما يقال له سريعا( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

تظنّني بها رغبة بي عنها. وإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدِّد إليها إلّا الله تعالى، وأمّا ما ذكرت انّه رقى إليك عنّي فإنّما رقاه الملّاقون المشّاؤون بالنميمة المفرِّقون بين الجمع، وكذب الغاوون المارقون، ما أردت حرباً ولا خلافاً، وإنِّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلّين، حزب الظالم، وأعوان الشيطان الرجيم. إلى آخر الكتاب(١) .

كتاب معاوية إلى عبد الله بن جعفر:

كتب إلى عبد الله: أما بعد: فقد عرفت أثرتي إيّاك على مَن سواك، وحُسن رأيي فيك وفي أهل بيتك، وقد أتاني عنك ما أكره، فإن بايعت تُشكر، وإن تأب تُجبر، والسَّلام.

فكتب إليه عبد الله بن جعفر:

أمّا بعد: فقد جاءني كتابك، وفهمت ما ذكرتَ فيه من أثرتك إيّاي على مَن سواي، فإن تفعل فبحظّك أصبتَ، وإن تأبَ فبنفسك قصَّرتَ، وأمّا ما ذكرت من جبرك إيّاي على البيعة ليزيد فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد أجبرناك وأباك على الإسلام حتى أدخلناكما كارهَين غير طائعين؟ والسَّلام. الإمامة والسياسة ١: ١٤٧، ١٤٨.

وكتب معاوية إلى عبد الله بن الزبير:

رأيت كرام الناس إن كفّ عنهمُ

بحلم رأوا فضلاً لمن قد تحلّما

ولا سيّما إن كان عفواً بقدرة

فذلك أحرى أن يجلّ ويعظما

ولست بذي لؤم فتعذر بالذي

أتيته من أخلاق مَن كان ألوما

ولكنَّ غشّاً لست تعرف غيره

وقد غشَّ قبل اليوم إبليس آدما

فما غشَّ إلّا نفسه في فعا له

فأصبح ملعوناً وقد كان مكرما

وانِّي لأخشى أن أنا لك بالذي

أردت فيجزي الله مَن كان أظلما

فكتب عبد الله بن الزبير إلى معاوية:

ألا سمع الله الذي أنا عبده

فأخزى إله الناس من كان أظلما

وأجرى على الله العظيم بحلمه

وأسرعهم في الموبقات تقحّما

____________________

١ - مرّ بتمامه فى هذا الجزء صفحة ١٦٠.

٢٤١

أغرَّك أن قالوا: حليم بعزَّة

وليس بذي حلم ولكن تحلّما

ولو رمت ما أن قد عزمت وجدتني

هزبر عرين يترك القرنِ أكتما

وأقسم لولا بيعة لك لم أكن

لأنقضها لم تنج منِّي مسلما

الامامة والسياسة ١: ١٤٧، ١٤٨.

بيعة يزيد

في المدينة المشرّفة

حجّ معاوية في سنة ٥٠، واعتمر في رجب سنة ٥٦ وكان في كلا السّفرين يسعى وراء بيعة يزيد، وله في ذلك خطوات واسعة ومواقف ومفاوضات مع بقيّة الصّحابة ووجوه الاُمّة، غير أنّ المؤرِّخين خلطوا أخبار الرِّحلتين بعضها ببعض وما فصّلوها تفصيلاً.

الرحلة الاولى

قال ابن قتيبة: قالوا: إستخار الله معاوية وأعرض عن ذكر البيعة حتّى قدم المدينة سنة خمسين فتلقّاه الناس فلمّا استقرّ في منزله أرسل إلى عبد الله بن عبّاس، وعبد الله ابن جعفر بن أبي طالب، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس حتّى يخرج هؤلاء النفر فلمّا جلسوا تكلّم معاوية فقال: ألحمد لِلّه الذي أمرنا بحمده، ووعدنا عليه ثوابه، نحمده كثيراً كما أنعم علينا كثيراً، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وانّ محمّداً عبده ورسوله. أمّا بعد: فإنِّي قد كبر سنيّ ووهن عظمي، وقرب أجلي، وأوشكت أن اُدعى فاُجيب، وقد رأيت أن استخلف عليكم بعدي يزيد ورأيته لكم رضا وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها، ولم يمنعني أن اُحضر حسناً وحسيناً إلّا أنّهما أولاد أبيهما، على حسن رأيي فيهما وشديد محبّتي لهما، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً يرحمكم الله.

فتكلّم عبد الله بن العبّاس فقال:

ألحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه، و أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وانّ محمّداً عبده ورسوله، وصلّى الله على محمّد وآل محمّد.

أمّا بعد: فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا، وقلت فسمعنا، وإنَّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست

٢٤٢

أسماؤه اختار محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرسالته، واختاره لوحيه، وشرّفه على خلقه، فأشرف الناس من تشرّف به، وأولاهم بالأمر أخصّهم به، وإنَّما على الاُمّة التسليم لنبيِّها إذ إختاره الله لها فإنّه إنّما اختار محمّداً بعلمه، وهو العليم الخبير، واستغفر الله لي ولكم.

فقام عبد الله بن جعفر فقال:

ألحمد لِلَّه أهل الحمد ومُنتهاه، نحمده على إلها منا حمده، ونرغب إليه في تأدية حقِّه، وأشهد أن لا إله إلّا الله واحداً صمداً لم يتّخذ صاحبةً ولا ولدا، وانَّ محمّداً عبده ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أمّا بعدُ: فإنَّ هذه الخلافة إن اُخذ فيها بالقرآن؟ فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله. وإن اُخذ فيها بسنَّة رسول الله؟ فأولوا رسول الله، وإن اُخذ بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر فأيُّ الناس أفضل وأكمل وأحقُّ بهذا الأمر من آل الرَّسول؟ و أيم الله لو ولوه بعد نبيّهم لوضعوا الامر موضعه، لحقِّه وصدقه، ولاُطيع الله، وعُصي الشيطان، وما اختلف في الأمّة سيفان، فاتَّق الله يا معاوية! فانَّك قد صرت راعياً ونحن الرعيَّة، فانظر لرعيّتك، فانَّك مسئولٌ عنها غداً، وأمّا ما ذكرت من ابني عمّي. وتركك أن تحضرهما، فوالله ما أصبت الحقَّ، ولا يجوز لك ذلك إلّا بهما، وإنَّك لتعلم أنَّهما معدن العلم والكرم، فقُلْ أو دع، وأستغفر الله لي ولكم.

فتكلّم عبد الله بن الزبير فقال:

ألحمد لله الذي عرّفنا دينه، وأكرمنا برسوله، أحمده على ما أبلى وأولى، وأشهد أن لا إله إلّا الله. وأنَّ محمّداً عبده ورسوله. أمّا بعد: فإنَّ هذه الخلافة لقريش خاصَّة، تتناولها بمآثرها السنيَّة، وأفعالها المرضيَّة، مع شرف الآباء، وكرم الأبناء، فاتّقِ الله يا معاوية! وأنصف من نفسك، فانَّ هذا عبد الله بن عبّاس ابن عمِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، ابن عمِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليٌّ خلّف حسناً وحسيناً، وأنت تعلم مَن هما، وما هما، فاتَّق الله يا معاوية! وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

فتكلّم عبد الله بن عمر فقال:

ألحمد لِلَّه الذي أكرمنا بدينه وشرّفنا بنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا بعد: فإنَّ هذه الخلافة ليست بهرقليَّة، ولا قيصريَّة، ولا كسرويَّة، يتوارثها الأبناء عن الآباء، ولو كان كذلك

٢٤٣

كنتُ القائم بها بعد أبي، فوالله ما أدخلني مع الستَّة من أصحاب الشورى، إلّا أنَّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً، وإنَّما هي في قريش خاصَّة، لمن كان لها أهلاً، ممَّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم، مَن كان أتقى وأرضى، فإن كنتَ تريد الفتيان من قريش، فلعمري إنَّ يزيد من فتيانها، واعلم أنَّه لا يُغني عنك من الله شيئاً.

فتكلم معاوية فقال:

قد قلتُ وقلتم، وإنَّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء، فإبني أحبُّ إليَّ من أبنائهم، مع أنَّ ابني إن قاولتموه وجد مقالاً، وإنَّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف، لأنَّهم أهل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولَّى الناسُ أبا بكر وعمر، من غير معدن الملك والخلافة، غير أنّهما سارا بسيرة جميلة، ثمَّ رجع الملك إلى بني عبد مناف، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة، وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله.

ثمَّ أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد، ولم يقطع عنهم شيئاً من صلاتهم وأعطياتهم، ثمَّ انصرف راجعاً إلى الشام، وسكت عن البيعة، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين.

الإمامة والسياسة ١: ١٤٢ - ١٤٤، جمهرة الخطب ٢: ٢٣٣ - ٢٣٦.

قال الأميني: لم يذكر في هذا اللفظ ما تكلّم به عبد الرَّحمن، ذكره ابن حجر في الإصابة ٢: ٤٠٨ قال: خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد، فكلّمه الحسين ابن علي، وابن الزبير، وعبد الرَّحمن بن أبي بكر، فقال له عبد الرَّحمن: أهرقليّة؟ كلّما مات قيصر كان قيصر مكانه، لا نفعل والله أبداً.

صورة اخرى

من محاورة الرحلة الاُولى

قدم معاوية المدينة حاجّاً(١) فلمّا أن دنى من المدينة خرج إليه الناس يتلقّونه ما بين راكبٍ وماشٍ، وخرج النساء والصبيان، فلقيه الناس على حال طاقتهم وما تسارعوا به في القوت والقرب، فلان لمن كافحه، وفاوض العامَّة بمحادثته، وتألَّفهم جهده مقاربة

____________________

١ - من المتسالم عليه انّ معاوية حجّ فى سنة خمسين.

٢٤٤

ومصانعة ليستميلهم إلى ما دخل فيه الناس، حتى قال في بعض ما يجتلبهم به أهل المدينة: ما زلت أطوي الحزن من وعثاء السفر بالحبِّ لمطالعتكم حتى انطوى البعيد، ولان الخشن، وحقّ لجار رسول الله أن يُتاق إليه. فردَّ عليه القوم: بنفسك ودارك ومهاجرك أما انَّ لك منهم كأشفاق الحميم البرّ والحفيِّ. حتى إذا كان بالجرف لقيه الحسين بن علي وعبد الله بن عبّاس فقال معاوية: مرحباً بابن بنت رسول الله، وابن صنو أبيه. ثمّ انحرف إلى الناس فقال: هذان شيخا بني عبد مناف. وأقبل عليهما بوجهه وحديثه فرحَّب وقرَّب وجعل يواجه هذا مرَّة، ويضاحك هذا اُخرى. حتى ورد المدينة، فلمّا خالطها لقيته المشاة والنساء والصبيان يسلّمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل، فانصرفا عنه، فمال الحسين إلى منزله، ومضى عبد الله بن عبّاس إلى المسجد، فدخله، وأقبل معاوية ومعه خلقٌ كثيرٌ من أهل الشام حتى أتى عائشة امّ المؤمنين فاستأذن عليها فأذنت له وحده لم يدخل عليها معه أحدٌ وعندها مولاها ذكوان فقالت عائشة: يا معاوية! أكنت تأمن أن اقعد لك رجلاً فأقتلك كما قتلت أخي محمّد بن أبي بكر؟ فقال معاوية: ما كنت لتفعلين ذلك. قالت: لِمَ؟ قال: لأنِّي في بيت أمن، بيت رسول الله. ثمَّ أنَّ عائشة حمدت الله وأثنت عليه وذكرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكرت أبا بكر وعمر، وحضّته على الإقتداء بهما والاتّباع لأثرهما، ثمَّ صمتت، قال: فلم يخطب معاوية وخاف أن يبلغ ما بلغت فارتجل الحديث ارتجالاً ثمَّ قال:

أنت والله يا امّ المؤمنين! العالمة بالله وبرسوله دللتنا على الحقِّ، وحضضتنا على حظِّ أنفسنا، وأنت أهلٌ لأن يُطاع أمرك، ويُسمع قولك، وإنَّ أمر يزيد قضاءٌ من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم؟ وقد أكّد النّاس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم، أفترى أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم؟!

فلمّا سمعت ذلك عائشة علمت أنّه سيمضي على أمره فقالت: أمّا ما ذكرت من عهود ومواثيق فاتّق الله في هؤلاء الرهط، ولا تعجل فيهم، فعلّهم لا يصنعون إلّا ما أحببت.

ثمَّ قام معاوية فلمّا قام قالت عائشة: يا معاوية! قتلت حُجراً وأصحابه العابدين المجتهدين. فقال معاوية: دعي هذا، كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟ قالت: صالح. قال: فدعينا وإيّاهم حتى نلقى ربّنا.

٢٤٥

ثمَّ خرج ومعه ذكوان فاتَّكأ على يد ذكوان وهو يمشي ويقول: تالله إن رأيت كاليوم قطّ خطيباً أبلغ من عائشة بعد رسول الله، ثمَّ مضى حتى أتى منزله، فأرسل إلى الحسين بن علي فخلا به فقال له: يا بن أخي قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي! فما أربك إلى الخلاف، قال الحسين: أرسل إليهم فإن بايعوك كنتُ رجلاً منهم، وألا تكن عجلت عليَّ بأمر. قال: نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً، فخرج وقد أقعد له ابن الزبير رجلاً بالطريق فقال: يقول لك أخوك ابن الزبير: ما كان؟ فلم يزل به حتى استخرج منه شيئاً.

ثمَّ أرسل معاوية إلى ابن الزبير فخلا به فقال له: قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم يا بن أخي فما أربك إلى الخلاف، قال: فارسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلاً منهم، وأن لا تكن عجلت عليَّ بأمر. قال: وتفعل؟ قال: نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً.

فأرسل بعده إلى ابن عمر فأتاه وخلا به فكلّمه بكلام هو ألين من صاحبيه، وقال: إنّي كرهت أن أدع امّة محمّد بعدي كالضان لا راعى لها(١) وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم فما أربك إلى الخلاف، قال ابن عمر: هل لك في أمر تحقن به الدماء، وتدرك به حاجتك؟! فقال معاوية: وددت ذلك. فقال ابن عمر: تبرز سريرك ثمّ أجيء فابايعك على أنّي أدخل فيما اجتمعت عليه الاُمة، فوالله لو أنّ الاُمّة اجتمعت على عبد حبشيّ لدخلت فيما تدخل فيه الاُمَّة. قال: وتفعل؟ قال: نعم ثمَّ خرج.

وأرسل إلى عبد الرَّحمن بن أبي بكر فخلا به قال: بأيِّ يد أو رجل تقدم على معصيتي؟ فقال عبد الرّحمن: أرجو أن يكون ذلك خيراً لي. فقال معاوية: والله لقد هممت أن أقتلك. فقال: لو فعلت لأتبعك الله في الدنيا، ولأدخلك في الآخرة النار. ثمّ خرج.

بقي معاوية يومه ذلك يُعطي الخواصَّ. ويُدني بذمّة الناس، فلمّا كان صبيحة اليوم

____________________

١ - أتصدّق انّ محمداً صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ ترك امّته كالضان لا راعى لها ولم يرض بذلك معاوية؟! حاشا نبىّ الرحمة عن أن يدع الامّة كما يحسبون، غير أنهم نبذوا وصيته وراء ظهورهم، وجروا الويلات على الامة حتى اليوم.

٢٤٦

الثاني أمر بفراش فوضع له وسوّيت مقاعد الخاصّة حوله وتلقاءه من أهله، ثمّ خرج وعليه حلّةٌ يمانيَّةٌ وعمامةٌ دكناء وقد أسبل طرفها بين كتفيه وقد تغلّف وتعطّر فقعد على سريره وأجلس كتّابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من النّاس وإن قرب، ثمّ أرسل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن عبّاس فسبق ابن عبّاس فلمّا دخل وسلّم عليه أقعده في الفراش على يساره فحادثه مليّاً ثمَّ قال: يا بن عبّاس لقد وفَّر الله حظّكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرَّسولعليه‌السلام . فقال ابن عبّاس: نعم أصلح الله أمير المؤمنين، وحظّنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلِّ أوفر. فجعل معاوية يحدِّثه ويحيد به عن طريق المجاوبة، ويعدل إلى ذكر الأعمار على اختلاف الغرائز والطبائع، حتَّى أقبل الحسين بن علي فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة كانت عن يمينه فدخل الحسين وسلّم فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم فأخبره ثمَّ سكت، ثمَّ ابتدأ معاوية فقال:

أمّا بعد: فالحمد لِلَّه وليِّ النعم، ومنزل النقم، وأشهد أن لا إله إلّا الله المتعالي عمّا يقول الملحدون علوّاً كبيرا، وانَّ محمّداً عبده المختصّ المبعوث إلى الجنِّ والإنس كافَّة لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فأدّى عن الله وصدع بأمره، وصبر عن الأذى في جنبه، حتى أوضح دين الله، وأعزَّ أولياءه، و قمع المشركين، وظهر أمر الله وهم كارهون، فمضى صلوات الله عليه وقد ترك من الدنيا ما بذل له، واختار منها الترك لما سخر له زهادةً واختياراً لِلَّه، وأنفة واقتداراً على الصبر، بغياً لما يدوم ويبقى، فهذه صفة الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكّوك، وبين ذلك خوض طول ما عالجناه مشاهدةً ومكافحةً ومعاينةً وسماعاً، وما أعلم منه فوق ما تعلمان، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد علم الله ما اُحاول به من أمر الرعيَّة من سدّ الخلل، ولمِّ الصَّدع بولاية يزيد، بما أيقظ العين، وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما، مع علمه بالسنَّة وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجح بالصمّ الصلاب، وقد علمتما انّ الرَّسول المحفوظ بعصمة الرِّسالة قدَّم على الصدّيق والفاروق ودونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين

٢٤٧

يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنَّة مذكورة، فقادهم الرجل بإمرة، وجمع بهم صلاتهم، وحفظ عليهم فيئهم، وقال ولم يقل معه، وفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوةٌ حسنة، فمهلاً بني عبد المطلب فأنا وأنتم شعبا نفع وجدّ، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما، فما يقول القائل إلّا بفضل قولكما، فردّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما، واستغفر الله لي ولكما.

كلمة الامام السبط:

فتيسَّر ابن عبّاس للكلام ونصب يده للمخاطبة فأشار إليه الحسين وقال: على رسلك، فأنا المراد: ونصيبي في التُّهمة أوفر. فأمسك ابن عبّاس فقام الحسين فحمد الله و صلّى على الرَّسول ثمّ قال:

أمّا بعد: يا معاوية! فلن يؤدّي القائل وإن أطنب في صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جميع جزءاً، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله من ايجاز الصفة والتنكّب عن استبلاغ البيعة، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى، وظهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضَّلت حتّى أفرطت، وأستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتّى بخلت، وجرت حتّى جاوزت، ما بذلت لذي حقّ من أتمِّ حقِّه بنصيب حتّى أخذ الشيطان حظَّه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لامّة محمّد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ، وقد دلَّ يزيد من نفسه على مواقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبَّق لأترابهنّ، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدّر باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتّى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلّا غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا، و لقد لعمر الله أورثنا الرسولعليه‌السلام ولادة، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرَّسول فأذعن للحجّة بذلك، وردَّه الايمان إلى النصف، فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم: كان ويكون، حتّى أتاك الأمر يا معاوية! من طريق كان قصدها

٢٤٨

لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار، وذكرت قيادة الرَّجل القوم بعهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأميره له، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرَّسول، وبيعته له، وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدوَا عليه أفعاله فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري، فكيف يحتجّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصّواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابع وحولك من لا يؤمن في صحبته، ولا يعتمد في دينه وقرابته، و تتخطّاهم إلى مسرف مفتون، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه، و تشقى بها في آخرتك، إنَّ هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم.

فنظر معاوية إلى ابن عبّاس فقال: ما هذا يا بن عبّاس؟ ولما عندك أدهى وأمّر. فقال ابن عبّاس: لعمر الله إنّها لذريّة الرَّسول، وأحد أصحاب الكساء، ومن البيت المطهّر، فاله عمّا تريد، فانَّ لك في الناس مقنعاً حتّى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.

فقال معاوية: أعود الحلم التحلّم، وخيره التحلّم عن الأهل، انصرفا في حفظ الله. ثمَّ أرسل معاوية إلى عبد الرَّحمن بن أبي بكر، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير فجلسوا، فحمد الله وأثني عليه معاوية ثمَّ قال:

يا عبد الله بن عمر! قد كنت تحدِّثنا انّك لا تحبّ أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة، وإنَّ لك الدنيا وما فيها، وإنّي أحذِّرك أن تشقّ عصا المسلمين، وتسعى في تفريق ملأهم، وأن تسفك دماءهم، وإنَّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم، وقد وكّد الناس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم. ثمَّ سكت.

فتكلّم عبد الله بن عمر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:

أمّا بعد: يا معاوية! قد كان قبلك خلفاء، وكان لهم بنون، ليس ابنك بخير من أبنائهم فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، فلم يحابوا في هذا الأمر أحدا ً ، ولكن اختاروا لهذه الاُمّة حيث علموهم، وإن تحذّرني أن أشقّ عصا المسلمين، واُفزِّق ملأهم، واسفك دماءهم، ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله، ولكن إن استقام الناس فسأدخل في صالح ما تدخل فيه اُمّة محمّد.

٢٤٩

فقال معاوية: يرحمك الله، ليس عندك خلافٌ، ثمَّ قال معاوية لعبد الرَّحمن بن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر فقال له عبد الرَّحمن:

إنّك والله لوددنا أن نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد، والذي نفسي بيده لتجعلنّها شورى أو لاُعيدها جذعة، ثمَّ قام ليخرج فتعلّق معاوية بطرف ردائه ثمَّ قال: على رسلك، أللهمّ اكفنيه بما شئت، لا تظهرنَّ لأهل الشام. فإنّي أخشى عليك منهم. ثمَّ قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر، ثمَّ قال له. أنت ثعلب روّاغ كلّما خرجت من جُحر انجحرت في آخر، أنت ألّبت هذين الرجلين، وأخرجتهما إلى ما خرجا إليه. فقال ابن الزبير: أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيّكما نطيع؟ أنطيعك؟! أم نطعيه؟! إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها، وبايع ليزيد، فنحن نبايعه. فكثر كلامه وكلام ابن الزبير حتّى قال له معاوية في بعض كلامه: والله ما أراك إلّا قاتلاً نفسك، ولكأنّي بك قد تخبّطت في الحبالة. ثمّ أمرهم بالإنصراف واحتجب عن النّاس ثلاثة أيّام لا يخرج ثمَّ خرج فأمر المنادي أن ينادي في النّاس: أن يجتمعوا لأمر جامع فاجتمع الناس في المسجد وقعّد هؤلاء(١) حول المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ ذكر يزيد فضله وقراءته القرآن ثمَّ قال: يا أهل المدينة! لقد هممت بيعة يزيد وما تركت قرية ولا مدرة إلّا بعثت إليها بيعته فبايع الناس جميعاً وسلّموا وأخَّرت المدينة بيعته وقلت بيضته وأصله ومن لا أخافهم عليه، وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله، والله لو علمت مكان أحد هو خيرٌ للمسلمين من يزيد لبايعت له.

فقام الحسين فقال: والله لقد تركت من هو خير منه أباً واُمّاً ونفساً فقال معاوية كأنّك تريد نفسك؟ فقال الحسين: نعم أصلحك الله. فقال معاوية: إذا اخبرك، أمّا قولك خيرٌ منه امّاً فلعمري امّك خيرٌ من امّه، ولو لم يكن إلّا انّها امرأة من قريش لكان لنساء قريش أفضلهنَّ، فكيف وهي ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ فاطمة في دينها و سابقتها، فاُمّك لعمر الله خيرٌ من امّه. وأمّا أبوك فقد حاكم أباه إلي الله فقضى لأبيه على أبيك. فقال الحسين: حسبك جهلك آثرت العاجل على الآجل. فقال معاوية: و أمّا ما ذكرت من انّك خيرٌ من يزيد نفساً فيزيد والله خيرٌ لاُمّة محمّد منك. فقال الحسين:

____________________

١ - يعنى المتخلفين عن بيعة يزيد.

٢٥٠

هذا هو الافك والزور، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو خيرٌ منّي؟ فقال معاوية: مهلاً عن شتم ابن عمّك فانّك لو ذُكرت عنده بسوء لم يشتمك.

ثمَّ التفت معاوية إلى النّاس وقال: أيّها الناس قد علمتم أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قُبض ولم يستخلف أحداً، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، وكانت بيعته بيعة هدى فعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه، فلمّا حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستَّة نفر اختارهم من المسلمين، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر، كلُّ ذلك يصنعون نظراً للمسلمين، فلذلك رأيت أن اُبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الإختلاف ونظراً لهم بعين الإنصاف(١) .

رحلة معاوية الثانية

وبيعة يزيد فيها

قال ابن الأثير: فلمّا بايعه أهل العراق والشام سار معاوية إلى الحجاز في ألف فارس فلمّا دناه من المدينة لقيه الحسين بن عليّ أوَّل الناس فلمّا نظر إليه قال: لا مرحباً ولا أهلاً، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه، قال: مهلاً فإنَّي والله لست بأهل لهذه المقالة. قال: بلى ولشرّ منها، ولقيه ابن الزبير فقال: لا مرحباً ولا أهلاً، خبّ ضب تلعة، يدخل رأسه، ويضرب بذنبه، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه، ويدّق ظهره، نحيّاه عنّي. فضرب وجه راحلته. ثمَّ لقيه عبد الرّحمن بن أبي بكر فقال له معاوية: لا أهلاً ولا مرحباً شيخٌ قد خرف وذهب عقله، ثمّ أمر فضرب وجه راحلته، ثمَّ فعل بابن عمر نحو ذلك فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتّى دخل المدينة فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم ولم يروا منه ما يحبّون فخرجوا إلى مكّة فأقاموا بها، وخطب معاوية بالمدينة فذكر يزيد فمدحه وقال: مَن أحقُّ منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه؟! وما أظنّ قوماً بمنتهين حتى تصيبهم بوائق تجتثُّ اصولهم، وقد أنذرت إن أغنت النذر. ثم أنشد متمثّلاً:

قد كنت حذَّرتك آل المصطلقْ

وقلت: يا عمرو أطعني وانطلقْ

إنَّك إن كلَّفتني ما لم أطقْ

ساءك ما سرّك منّي من خلقْ

دونك ما استسقيته فاحس وذقْ

____________________

١ - الامامة والسياسة ١: ١٤٩ - ١٥٥، تاريخ الطبرى ٦: ١٧٠ واللفظ لابن قتيبة.

٢٥١

ثمّ دخل على عائشة وقد بلغها انَّه ذكر الحسين وأصحابه فقال: لأقتلنَّهم إن لم يبايعوا. فشكاهم إليها فوعظته وقالت له: بلغني إنّك تتهدّدهم بالقتل؟ فقال: يا امَّ المؤمنين! هم أعزّ من ذلك، ولكنّي بايعت ليزيد وبايعه غيرهم، أفترين أن أنقض بيعة قد تمّت؟ قالت: فارفق بهم فإنَّهم يصيرون إلى ما تحبّ إن شاء الله. قال: أفعل. وكان في قولها له: ما يؤمنك أن أقعد لك رجلاً يقتلك وقد فعلت بأخي ما فعلت - تعني أخاها محمّداً - فقال لها: كلّا يا امَّ المؤمنين! إنَّي في بيت أمن. قالت: أجل. ومكث بالمدينة ما شاء الله.

ثمّ خرج إلى مكّة فلقيه الناس فقال أولئك النفر: نتلقّاه فلعلّه قد ندم على ما كان منه. فلقوه ببطن مرّ فكان أوَّل من لقيه الحسين فقال له معاوية: مرحباً وأهلاً يا ابن رسول الله! وسيِّد شباب المسلمين. فأمر له بدابّة فركب وسايره، ثمَّ فعل بالباقين مثل ذلك وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتّى دخل مكّة فكانوا أوَّل داخل وآخر خارج، ولا يمضي يوم إلّا ولهم صلة ولا يذكر لهم شيئاً حتى قضى نسكه وحمل أثقاله وقرب مسيره فقال بعض أولئك النفر لبعض: لا تخدعوا فما صنع بكم هذا لحبّكم وما صنعه إلّا لما يُريد فأعدّوا له جواباً. فاتّفقوا على أن يكون المخاطب له ابن الزبير فأحضرهم معاوية وقال: قد علمتم سيرتي فيكم، وصلتي لأرحامكم، وحملي ما كان منكم، ويزيد أخوكم وابن عمّكم و أردت أن تقدّموه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون وتجبون المال وتقسّمونه لا يعارضكم في شيء من ذلك. فسكتوا، فقال: ألا تجيبون؟ مرَّتين، ثمَّ أقبل على ابن الزبير فقال: هات لعمري انَّك خطيبهم، فقال: نعم نخيّرك بين ثلاث خصال قال: أعرضهنّ. قال: تصنع كما صنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو كما صنع أبو بكر، أو كما صنع عمر، قال معاوية: ما صنعوا؟ قال: قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يستخلف أحداً فارتضى الناس أبا بكر قال: ليس فيكم مثل أبي بكر وأخاف الإختلاف. قالوا: صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر فانَّه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه، وإن شئت فاصنع كما صنع عمر جعل الأمر شورى في ستَّة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه. قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال: لا. ثمَّ قال: فأنتم؟ قالوا: قولنا قوله. قال: فإنِّي قد أحببت أن أتقدّم إليكم انَّه قد أعذر من أنذر، انّي كنت أخطب منكم فيقوم إليَّ القائم منكم فيكذِّبني على رؤوس الناس فأحمل ذلك وأصفح، وإنّي قائمٌ بمقالة فاُقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي

٢٥٢

هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقين رجلٌ إلّا على نفسه. ثمّ دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كلِّ رجل من هؤلاء رجلين ومع كلِّ واحد سيفٌ، فإن ذهب رجلٌ منهم يردُّ عليَّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما. ثمَّ خرج وخرجوا معه حتّى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: إنَّ هؤلاء الرَّهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبتزُّ أمر دونهم ولا يفضى إلّا عن مشورتهم وانّهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله. فبايع الناس وكانوا يتربّصون بيعة هؤلاء النفر، ثمَّ ركب رواحله وانصرف إلى المدينة، فلقي الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم انَّكم لا تبايعون فلِمَ رضيتم وأعطيتم وبايعتم؟ قالوا: والله ما فعلنا. فقالوا: ما منعكم أن تردّوا على الرَّجل؟ قالوا: كادنا وخفنا القتل. وبايعه أهل المدينة ثمَّ انصرف إلى الشام وجفا بني هاشم فأتاه ابن عبّاس فقال له: ما بالك جفوتنا؟ قال: إنّ صاحبكم - يعني الحسينعليه‌السلام - لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه. فقال: يا معاوية! انّي لخليقٌ أن أنحاز إلى بعض السواحل فأقيم به ثمَّ أنطق بما تعلم حتى أدع الناس كلّهم خوارج عليك. قال: يا أبا العبّاس تعطون وترضون وترادون(١) .

وجاء في لفظ ابن قتيبة: إنَّ معاوية نزل عن المنبر وانصرف ذاهباً إلى منزله وأمر من حرسه وشرطته قوماً أن يحضروا هؤلاء النفر الذين أبوا البيعة وهم: الحسين بن علي! وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عبّاس، وعبد الرَّحمن بن أبي بكر وأوصاهم معاوية قال: إنّي خارجٌ العشيّة إلى أهل الشام فاُخبرهم: أنّ هؤلاء النّفر قد بايعوا وسلّموا، فإن تكلّم أحدٌ منهم بكلام يصدِّقني أو يكذّبني فيه فلا ينقضي كلامه حتّى يطير رأسه. فحذَّر القوم ذلك، فلّما كان العشيُّ خرج معاوية وخرج معه هؤلاء النفر وهو يضاحكهم ويحدِّثهم وقد ألبسهم الحلل، فألبس ابن عمر حلّة حمراء، وألبس الحسين حلّة صفراء، وألبس عبد الله بن عبّاس حلّة خضراء، وألبس ابن الزبير حلّة يمانيّة، ثمّ خرج بينهم وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم - أي القوم - وانَّهم بايعوا، فقال: يا أهل الشام! إنَّ هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين فوجدهم واصلين مطيعين، وقد

____________________

١ - العقد الفريد ٢: ٣٠٢ - ٣٠٤، الكامل لابن الاثير ٣: ٢١ - ٢١٨، ذيل الامالى ص ١٧٧، جمهرة الرسائل ٢: ٦٩ واللفظ لابن الاثير.

٢٥٣

بايعوا وسلّموا ذلك، والقوم سكوتٌ لم يتكلّموا شيئاً حذر القتل، فوثب اُناسٌ من أهل الشام فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن كان رابك منهم ريبٌ فحل بيننا وبينهم حتى نضرب أعناقهم. فقال معاوية: سبحان الله ما أحلّ دماء قريش عندكم يا أهل الشام؟ لا أسمع لهم ذكراً بسوء فانّهم بايعوا وسلّموا، وارتضوني فرضيت عنهم رضي الله عنهم، ثمَّ ارتحل معاوية راجعاً إلى مكّة وقد أعطى الناس أعطياتهم، وأجزل العطاء، وأخرج إلى كلِّ قبيلة جوائزها وأعطياتها، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء، فخرج عبد الله ابن عبّاس في أثره حتّى لحقه بالروحاء فجلس ببابه فجعل معاوية يقول: مَن بالباب؟

فيقال: عبد الله بن عبّاس فلم يأذن لأحد، فلمّا استيقظ قال: مَن بالباب؟ فقيل: عبد الله بن عبّاس فدعا بدابَّته فأدخلت إليه ثمّ خرج راكباً فوثب إليه عبد الله بن عبّاس فأخذ بلجام البغلة ثمَّ قال: أين تذهب؟ قال: إلى مكّة. قال: فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا؟ فأوما إليه معاوية فقال: والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتّى يبايع صاحبكم. قال ابن عبّاس: فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد، وأبى عبد الله بن عمر فأخرجت جائزة بني عدي، فما لنا إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا. فقال معاوية: لستم كغيركم، لا والله لا اُعطيكم درهماً حتّى يبايع صاحبكم، فقال ابن عبّاس: أما والله لئن لم تفعل لألحقنّ بساحل من سواحل الشام ثمّ لأقولنّ ما تعلم، والله لأتركنّهم عليك خوارج. فقال معاوية: لا بل اعطيكم جوائزكم، فبعث بها من الروحاء ومضى راجعاً إلى الشام. الإمامة والسياسة ١: ١٥٦.

قال الأميني: إنَّ المستشف لحقيقة الحال من أمر هذه البيعة الغاشمة جِدّ عليم أنّها تمّت برواعد الإرهاب، وبوارق التطميع، وعوامل البهت والإفتراء، فيرى معاوية يتوعّد هذا، ويقتل ذاك، ويولّي آخر على المدن والأمصار ويجعلها طعمة له، ويدرُّ من رضائخه على النفوس الواطئة ذوات الملكات الرذيلة، وفي القوم مَن لا يؤثّر فيه شيىءٌ من ذلك كلّه، غير انّه لا رأي لمن لا يُطاع، لكنّ إمام الهدى، وسبط النبوَّة، ورمز الشهادة والإباء لم يفتأ بعد ذلك كلّه مُصحراً بالحقيقة، ومصارحاً بالحقِّ، وداحضاً للباطل مع كلِّ تلكم الحنادس المدلهمّة، أصغت إليه اُذنٌ أم لا، وصغى إلى قيله أحدٌ أو أعرض، فقام بواجب الموقف رافعاً عقيرته بما تستدعيه الحالة، ويوجبه النظر في صالح المسلمين

٢٥٤

ولم يثنه اختلاق معاوية عليه وعلى مَن وافقه في شيىء من الأمر، ولا ما أعدَّه لهم من - التوعيد والإرجاف بهم، ولم تك تأخذه في الله لومة لائم، حتّى لفظ معاوية نفسه الأخير رمزاً للخزاية وشية العار، ولقي الحسينعليه‌السلام ربّه وقد أدّى ما عليه، رمزاً للخلود ومزيد الحبور في رضوان الله الأكبر، نعم: لقي الحسينعليه‌السلام ربّه وهو ضحيّة تلك البيعة، - بيعة يزيد - كما لقي أخوه الحسن ربّه مسموماً من جرّاء تلكم البيعة الملعونة التي جرَّت الويلات على امّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستتبعت هدم الكعبة، والإغارة على دار الهجرة يوم الحرّة وأبرزت بنات المهاجرين والأنصار للنكال والسوءة، وأعظمها رزايا مشهد الطفّ التي استأصلت شأفة أهل بيت الرَّحمة صلوات الله عليهم، وتركت بيوت الرسالة تنعق فيها النواعب، وتندب النوادب، وقرَّحت الجفون، وأسكبت المدامع، إنّا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

نعم: تمّت تلك البيعة المشومة مع فقدان أيِّ جدارة وحنكة في يزيد، تأهّله لتسنّم عرش الخلافة على ما تردّى به من ملابس الخزي وشية العار من معاقرة الخمور، ومباشرة الفجور، ومنادمة القيان ذوات المعازف، ومحارشة الكلاب، إلى ما لا يتناهى من مظاهر الخزاية، وقد عرفته الناس بذلك كلّه منذ أولياته وعرَّفه به اُناسٌ آخرون، وحسبك شهادة وفدٌ بعثه أهل المدينة إلى يزيد وفيهم: عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، وعبد الله بن أبي عمرو المخزومي، والمنذر بن الزبير، وآخرون كثيرون من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد فأكرمهم، وأحسن إليهم، وأعظمهم جوائزهم، وشاهدوا أفعاله، ثمّ انصرفوا من عنده وقدموا المدينة كلهم إلّا المنذر، فلمّا قدم الوفد المدينة قاموا فيهم، فأظهروا شتم يزيد وعتبه وقالوا: إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب - الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويُسامر الحُرّاب، وهم اللصوص والفتيان، وإنّا نشهدكم انّا قد خلعناه فتابعهم الناس.(١)

وقال عبد الله بن حنظلة ذلك الصحابيّ العظيم المنعوت بالراهب قتيل يوم الحرّة يومئذ: يا قوم! اتَّقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نرمى

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٧: ٤، الكامل لابن الاثير ٤: ٤٥، تاريخ ابن كثير ٨: ٢١٦، فتح البارى ١٣: ٥٩.

٢٥٥

بالحجارة من السَّماء، إنَّ رجلاً ينكح الامّهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصّلاة، والله لو لم يكن معي أحدٌ من الناس لأبليت لِلّه فيه بلاء حسناً(١) .

ولمـّا قدم المدينة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟ قال: أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلّا بنيَّ هؤلاء لجاهدته بهم(٢) .

وقال المنذر بن الزبير لمـّا قدم المدينة: إنَّ يزيد قد أجازني بمائة ألف، ولا يمنعني ما صنع بي أن اُخبركم خبره، والله انّه ليشرب الخمر، والله انّه ليسكر حتّى يدع الصّلاة(٣) .

وقال عتبة بن مسعود لابن عبّاس: أتبايع يزيد وهو يشرب الخمر، ويلهو بالقيان، ويستهتر بالفواحش؟ قال: مَه فأين ما قلت لكم؟ وكم بعده من آت ممّن يشرب الخمر أو هو شرٌّ من شاربها أنتم إلى بيعته سراع، أما والله! إنِّي لأنهاكم وأنا أعلم أنّكم فاعلون حتى يصلب مصلوب قريش بمكّة - يعني عبد الله بن الزبير -(٤) .

نعم: لم يك على مخازي يزيد من أوَّل يومه حجابٌ مسدول يُخفيها على الأباعد والأقارب، غير انَّ أقرب الناس إليه وهو أبوه معاوية غضَّ الطرف عنها جمعاء، وحسب انّها تخفى على الملأ الدينيِّ بالتمويه، وطفق يذكر له فضلاً وعلماً بالسياسة، فجابهه لسان الحقِّ وإنسان الفضيلة حسين العظمة بكلماته المذكورة في صفحة ٢٤٨ و ٢٥٠ ومعاوية هو نفسه يندّد بابنه في كتاب كتبه إليه ومنه قوله: اعلم يا يزيد! أنَّ اوَّل ما سلبكه السُكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة، وآلائه المتواترة، وهي الجَرحة العظمى، والفجعة الكبرى: ترك الصَّلوات المفروضات في أوقاتها، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها، ثمَّ استحسان العيوب، وركوب الذنوب، وإظهار العورة، وإباحة السرِّ، فلا تأمن نفسك على سرِّك، ولا تعتقد على فعلك، الكتاب(٥) .

فنظراً إلى ما عرفته الاُمَّة من يزيد من مخازيه وملكاته الرذيلة عدَّ الحسن البصري استخلاف معاوية إيّاه من موبقاته الأربع كما مرّ حديثه في صفحة ٢٢٥.

____________________

١ - تاريخ ابن عساكر ٧: ٣٧٢.

٢ - تاريخ ابن عساكر ٧: ٣٧٢، الكامل لابن الاثير ٤: ٤٥، الاصابة ٢: ٢٩٩.

٣ - كامل ابن الاثير ٤: ٤٥، تاريخ ابن كثير ٨: ٢١٦.

٤ - الامامة والسياسة ١: ١٦٧.

٥ - صبح الاعشى ٦: ٣٨٧.

٢٥٦

_ ١٥ _

جنايات معاوية

في صفحات تاريخه السوداء

إنَّما نجتزئ منها على شيىء يسير يكون كانموذج ممّا له من السيِّئات التي ينبو عنها العدد ويتقاعس عنها الحساب، ويستدعي التبسّط فيها مجلدات ضخمة فمنها: دؤبه على لعن مولانا عليّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وكان يقنت به صلواته كما مرّ حديثه في الجزء الثاني ص ١٣٢ ط ٢ واتّخذه سنَّةً جاريةً في خطب الجمعة والأعياد، وبدَّل سنّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة العيدين المتأخِّرة عن صلاتهما وقدَّمها عليها لإسماع الناس لعن الامام الطاهر كما مرّ تفصيله في الجزء الثامن ص ١٦٤ - ١٧١ وأوعزنا إليه في هذا الجزء ص ٢١٢ وكان يأمر عمّاله بتلك الاُحدوثة الموبقة، ويحثُّ الناس عليها، ويوبِّخ المتوقّفين عنها، ولا يصيخ إلى قول أيِّ ناصح وازع.

١ - أخرج مسلم والترمذي عن طريق عامر بن سعد بن أبي وقّاص قال: أمر معاوية سعداً فقال: ما منعك أن تسبَّ أبا تراب؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنَّ له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبَّه، لَأن تكون لي واحدةُ منهنَّ أحبُّ إليَّ من حمر النعم - فذكر حديث المنزلة: والراية. والمباهلة - وأخرجه الحاكم وزاد: فلا والله ما ذكره معاوية بحرف حتّى خرج من المدينة.(١)

وفي لفظ الطبري من طريق ابن أبي نجيح قال: لمـّا حجَّ معاوية طاف بالبيت ومعه سعد فلمّا فرغ إنصرف معاوية إلى دار الندوة فأجلسه معه على سريره ووقع معاوية في عليّ وشرع في سبِّه فزحف سعد ثمَّ قال: أجلستني معك على سريرك ثمَّ شرعت في سبّ عليّ والله لَأن يكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعليّ أحبّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس - إلى آخر الحديث وفيه من قول سعد: وأيم الله لا دخلت لك داراً ما بقيت. ونهض.

قال المسعودي بعد رواية حديث الطبري: ووجدت في وجه آخر من الروايات و ذلك في كتاب عليِّ بن محمّد بن سليمان النوفلي في الأخبار عن ابن عائشة وغيره: انَّ سعداً

____________________

١ - راجع صحيح مسلم ٧: ١٢٠، صحيح الترمذى ١٣: ١٧١، مستدرك الحاكم ٣: ١٠٩.

٢٥٧

لمـّا قال هذه المقالة لمعاوية ونهض ليقوم ضرط له معاوية وقال له: اقعد حتّى تسمع جواب ما قلت، ما كنت عندي قطّ ألأم منك الآن، فهلّا نصرته؟ ولِمَ قعدت عن بيعته؟ فانِّي لو سمعت من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعليّ ما عشت، فقال سعد: والله انّي لأحقّ بموضعك منك. فقال معاوية: يأبى عليك بنو عذرة. وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة(١) .

وفي رواية ذكرها ابن كثير في تاريخه ٨: ٧٧: دخل سعد بن أبي وقاص على معاوية فقال له: مالك لم تقاتل عليّاً؟ فقال: إنِّي مرَّت بي ريحٌ مظلمةٌ فقلت: اخ اخ، فأنختُ راحلتي حتّى انجلت عنّي، ثمّ عرفت الطريق فسرت. فقال معاوية: ليس في كتاب الله اخ اخ، ولكن قال الله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاُخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله. فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية، فقال سعد: ما كنت لاُقاتل رجلاً قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنَّه لا نبيّ بعدي. فقال معاوية: من سمع هذا معك؟ فقال: فلان وفلان وامّ سلمة.

فقال معاوية: أما انّي لو سمعته منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قاتلت عليّاً.

قال: وفي رواية من وجه آخر: انّ هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجَّة حجَّها معاوية وانّهما قاما إلى امّ سلمة فسألاه فحدَّثتهما بما حدَّث به سعد فقال معاوية: لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادماً لعليّ حتّى يموت أو أموت.

قال الأميني: لقد أفك معاوية في ادّعائه عدم إحاطة علمه بتلكم الأحاديث المطّردة الشايعة فانّها لم تكن من الأسرار التي لا يطّلع عليها إلّا البطانة والخاصَّة، وإنّما هتف بهنَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رؤس الأشهاد، أمّا حديث الراية فكان في واقعة خيبر وله موقعيّته الكبرى لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله. الحديث.

فاستطالت أعناق كلّ فريق

ليروا أيّ ماجد يعطاها؟

فلم تزل النفوس مشرئبَّة متتلّعة إلى من عناهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى جيىء بأمير المؤمنينعليه‌السلام ومُنح الفتح من ساحة النبوَّة العظمى، فانطبق القول، وصدقت الاُكرومة، وعلم الغزاة

____________________

١ - مروج الذهب ١: ٦١، وحكى شطراً منه سبط ابن الجوزى فى تذكرته ص ١٢.

٢٥٨

كلّهم انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يريد غيره.

هب أنَّ معاوية يوم واقعة خيبر كان عداده في المشركين، وموقفه مع مَن يُحادّ الله ورسوله، لكن هلّا بلغه ذلك بعد ما حداه الفَرَق إلى الاستسلام؟ والحديث مطّردٌ بين الغزاة وسائر المسلمين، وهم بين مشاهد له وعالم به.

وأمّا حديث المنزلة فقد نطق به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موارد عديدة منها غزاة تبوك على ما مرَّ تفصيله في الجزء الثالث ص ١٩٨ ط ٢ وقد حضرها وجوه الصحابة وأعيانهم، وكلّهم علموا بهاتيك الفضيلة الرابية، فالإعتذار عن معاوية بأنّه لم يحضرها لإشراكه يومئذ مدفوعٌ بما قلناه في واقعة خيبر.

ومن جملة موارده يوم غدير خمّ الذي حضره معاوية وسمعه هو ومائة ألف أو يزيدون، لكنّه لم يعه بدليل أنّه ما آمن به فحارب عليّاًعليه‌السلام بعده وعاداه وأمر بلعنه محادَّة منه لِلّه ولرسوله، وعقيرة رسول الله المرفوعة بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ: أللهمَّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. بعدُ ترنُّ في اُذن الدنيا.

ومن موارده يوم المؤاخاة كما أخرجه أحمد باسناده عن محدوج بن زيد الباهلي قال: آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين والأنصار فبكى عليّعليه‌السلام فقال رسول الله: ما يبكيك فقال: لم تواخ بيني وبين أحد. فقال: إنَّما ادَّخرتك لنفسي ثمَّ قال: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى(١) .

ومنها يوم كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دار امّ سلمة إذ أقبل عليٌّعليه‌السلام يريد الدخول على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا امّ سلمة هل تعرفين هذا؟ قالت: نعم هذا عليّ سيط لحمه بلحمي ودمه بدمي، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا انّه لا نبيَّ بعدي - راجع الجزء - الثالث ص ١١٦.

على أنّ حديث المنزلة قد جاء من طريق معاوية نفسه رواه في حياة عليّعليه‌السلام فيما أخرجه أحمد في مناقبه من طريق أبي حازم كما في الرياض النضرة ٢: ١٩٥.

وأمّا نبأ المباهلة فصحيحٌ أنّ معاوية لم يُدركه لأنّ الكفر كان يمنعه عند ذلك عن سماعه، غير أن القرآن الكريم قد أعرب عن ذلك النبأ العظيم إن لم يكن إبن حرب في

____________________

١ - راجع ما اسلفناه فى الجزء الثالث ص ١١٥.

٢٥٩

معزل عن الكتاب والسنّة، على أن قصّتها من القضايا العالميّة وليس من المستطاع لأيِّ أحد أن يدَّعي الجهل بها.

وهنا نماشي ابن صخر على عدم اطّلاعه على تلكم الفضائل إلى حدِّ إخبار سعد إيّاه، لكنّه بماذا يعتذر وهو يقرأ قوله تعالى:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) ؟ الآية؟!. وبماذا يعتذر بعد ما رواه قبل يوم صفّين من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار: تقتلك الفئة الباغية؟ وبماذا يعتذر بعد علمه بتلكم الأحاديث بأخبار صحابيّ معدود عند القوم في العشرة المبشّرة وبعد إقامة الشهود عليه؟! ومن هنا تعلم أنَّه أفك مرّة اُخرى بقوله أما انّي لو سمعتُ من رسول الله ما سمعتَ في عليّ لكنتُ له خادماً ما عشتُ. لأنّه عاش ولم يرتدع عن غيِّه وحارب أمير المؤمنينعليه‌السلام حيّاً وميّتاً، ودؤب على لعنه والأمر به حتّى أجهز عليه عمله وكبت وبه بطنته.

نعم: انّه استمرّ على بغيه وقابل سعداً في حديثه بالضرطة، وهل هي هزؤ منه بمصدر تلكم الأبناء القدسيّة؟ أو بخضوع سعد لها؟ أو لمحض أنّ سعداً لم يوافقه على ظلمه؟ أنا لا أدري غير أنَّ كفر معاوية الدفين لا يأبى شيئاً من ذلك، وهلّا منعه الخجل عن مثل هذا المجون وهو ملك؟ وبطبع الحال انّ مجلسه يحوي الأعاظم والأعيان.

من أين تخجل أوجهُ أمويَّةٌ

سكبت بلذّات الفجور حيائها؟

٢ – لمـّا مات الحسن بن عليّ « عليهما السلام » حجّ معاوية فدخل المدينة و أراد أن يلعن عليّاً على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل له: إنّ هيهنا سعد بن أبي وقّاص ولا نراه يرضى بهذا فابعث إليه وخذ رأيه، فأرسل إليه وذكر له ذلك فقال: إن فعلت لأخرجنّ من المسجد ثمّ لا أعود إليه، فأمسك معاوية عن لعنه حتّى مات سعد، فلمّا مات لعنه على المنبر وكتب إلى عمّاله أن يلعنوه على المنابر، ففعلوا فكتبت امّ سلمة زوج النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى معاوية: انّكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنّكم تلعنون عليَّ بن أبي طالب ومن أحبّه، وأنا أشهد أنّ الله أحبّه ورسوله. فلم يلتفت إلى كلامها. العقد الفريد ٢: ٣٠١.

٣ - قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: إنّ عليّاً قد قطعك وأنا وصلتك ولا يرضيني منك إلّا أن تلعنه على المنبر قال: أفعل. فصعد المنبر ثمّ قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608