الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 286107 / تحميل: 5174
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

١

٢

٣
٤

الآيات

( وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) )

التّفسير

جانب من حياة محطم الأصنام :

والآن جاء الدور للحديث عن جانب من حياة «ابراهيمعليه‌السلام » هذا البطل العظيم الذي حطم الأصنام ، وما جرى له مع قومه. طبعا كل ذلك مذكور بتفصيل اكثر في سور اخرى من القرآن غير هذه السورة ، كسورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والانعام ، والأنبياء ، وغيرها.

وهنا تذكر الآيات قسما من حياته المرتبطة بقصّة «قوم لوط» وعقاب هؤلاء الجماعة الملوّثين بالآثام والعصيان ، فتقول في البداية :( وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا

٥

إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ) .

وهؤلاء الرسل ـ كما سيتبيّن من خلال الآيات التالية ـ هم الملائكة الذين أمروا بتدمير مدن قوم لوط ، ولكنّهم قبل ذلك جاؤوا الى ابراهيم ليسلموه بلاغا يتضمّن بشرى سارة.

امّا عن ماهية هذه البشرى فهناك احتمالان ، ولا مانع من الجمع بينهما.

الاحتمال الاوّل : البشرى بتولّد إسماعيل وإسحاق ، لانّ ابراهيمعليه‌السلام لم يرزق ولدا بعد عمر طويل ، في حين كان يتمنى ان يرزق ولدا او أولادا يحملون لواء النبوّة ، فإبلاغهم له بتولد إسماعيل وإسحاق بعد بشارة عظمى.

والاحتمال الثّاني : انّ ابراهيم كان مستاء ممّا وجده في قوم لوط من الفساد والعصيان ، فحين اخبروه بأنّهم أمروا بهلاكهم سرّ ، وكان هذا الخبر بشرى له.

فحين جاءوا ابراهيم( قالُوا سَلاماً ) فأجابهم ايضا و( قالَ سَلامٌ ) ورحّب بهم( فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ) .

«العجل» في اللغة ولد البقر و «الحنيذ» معناه المشوي ، واحتمل بعضهم انّ ليس كل لحم مشوي يطلق عليه انّه حنيذ ، بل هو اللحم المشويّ على الصخور الى جنب النّار دون ان تصيبه النّار ، وهكذا ينضج شيئا فشيئا.

ويستفاد من هذه الجملة انّ من آداب الضيافة ان يعجل للضيف بالطعام ، خاصّة إذا كان الضيف مسافرا ، فإنّه غالبا ما يكون متعبا وجائعا وبحاجة الى طعام ، فينبغي ان يقدم له الطعام عاجلا ليخلد الى الراحة.

وربّما يقول بعض المنتقدين : أليس هذا العجل كثيرا على نفر معدود من الأضياف ، ولكن مع ملاحظة انّ القرآن لم يذكر عدد هؤلاء الأضياف اوّلا ، وهناك اقوال في عددهم ، فبعض يقول : كانوا ثلاثة ، وبعض يقول : اربعة ، وبعض يقول : كانوا تسعة ، وبعض قال : احد عشر ، ويحتمل ان يكونوا اكثر من ذلك.

وثانيا : فإنّ ابراهيم كان له اتباع وعمال وجيران ، وهذا الأمر متعارف ان

٦

يصنع مثل هذا عند الضيافة ويكون فوق حاجة الأضياف ليأكل منه الجميع ولكن حدث لإبراهيم حادث عجيب مع أضيافه عند تقديم العجل الحنيذ لهم ، فقد رآهم لا يمدّون أيديهم الى الطعام ، وهذا العمل كان مريبا له وجديدا عليه ، فأحسّ بالاستيحاش واستغرب ذلك منهم( فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ) .

ومن السنن والعادات القديمة الّتي لا تزال قائمة بين كثير من الناس الذين لهم التزام بالتقاليد الطيبة للاسلاف. هي انّ الضيف إذا تناول من طعام صاحبه (وبما اصطلح عليه : تناول من ملحه وخبزه) فهو لا يكنّ له قصد سوء ، وعلى هذا فإنّ من له قصد سوء مع احد ـ واقعا ـ يحاول الّا يأكل من طعامه «وخبزه وملحه» ومن هذا المنطلق شك ابراهيم في نيّاتهم ، وأساء الظن بهم ، واحتمل انّهم يريدون به سوءا.

امّا الرسل فإنّهم لمّا اطلعوا على ما في نفس ابراهيم ، بادروا لرفع ما وقع في نفسه و( قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ) .

وفي هذه الحال كانت امرأته «سارة» واقفة هناك فضحكت كما تقول الآية( وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ ) .

هذا الضحك من سارة يحتمل ان يكون لانّها كانت مستاءة من قوم لوط وفجائعهم ، واطلاعها على قرب نزول العذاب عليهم كان سببا لسرورها وضحكها.

وهناك احتمال آخر وهو انّ الضحك كان نتيجة لتعجبها او حتى لاستيحاشها ايضا ، لانّ الضحك لا يختص بالحوادث السارّة بل يضحك الإنسان ـ أحيانا ـ من الاستياء وشدة الاستيحاش ، ومن أمثال العرب في هذا الصدد «شر الشدائد ما يضحك».

او انّ الضحك كان لانّ الأضياف لم يتناولوا الطعام ولم تصل أيديهم اليه

٧

بالرغم من اعداده وتهيأته لهم.

ويحتمل ايضا انّ ضحكها لسرورها بالبشارة بالولد. وان كان ظاهر الآية ينفي هذا التّفسير ، لانّ البشرى بإسحاق كانت بعد ضحكها ، الّا ان يقال : انّهم بشروا ابراهيم اوّلا بالولد ، واحتملت سارة ان سيكون الولد منها فتعجبت ، وانّه هل يمكن لامراة عجوز وفي هذه السن ان يكون لها ولد من زوجها؟ لذلك سألتهم بتعجب فأجابوها بالقول : نعم ، وهذا الولد سيكون منك. والتأمل في سورة الذاريات بهذا الشأن يؤكّد ذلك.

وينبغي الالتفات هنا الى انّ بعض المفسّرين يصرون على انّ «ضحكت» مشتقة من «ضحك» بمعنى العادة النسائية وهي «الحيض» وقالوا : انّ سارة بعد ان بلغت سنّ اليأس أتتها العادة في هذه اللحظة وحاضت ، والعادة الشهرية تدل على إمكان انجاب الولد ، ولذلك فحين بشرت بإسحاق أمكنها ان تصدّق ذلك تماما وهؤلاء المفسّرون استندوا في قولهم الى لغة العرب ، حيث قالوا في هذا الصدد : ضحكت الأرنب ، اي حاضت.

ولكن هذا الاحتمال مستبعد من جهات مختلفة :

اوّلا : لانّه لم يسمع انّ هذه «المادة» استعملت في الإنسان بمعنى الحيض في اللغة العربية ، ولهذا فإنّ الراغب حين يذكر هذا المعنى في مفرداته يقول بصراحة : انّ هذا ليس تفسير جملة فضحكت كما تصوّره بعض المفسّرين ، بل معناها هو الضحك المألوف ، ولكنّها حاضت وهي في حال الضحك ايضا ، ولذلك وقع الخلط بينهما.

ثانيا : إذا كانت هذه الجملة بمعنى حصول العادة النسائية فلا ينبغي لسارة ان تتعجب من البشرى بالولد «إسحاق» لانّه ـ والحال هذه ـ لا غرابة في الانجاب ، في حين نستفيد من الجمل الاخرى انّها لم تتعجب من الانجاب فحسب ، بل صرخت وقالت :( يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ) .

٨

وعلى كل حال فإنّ هذا الاحتمال في الآية يبدو بعيدا جدّا.

ثمّ تضيف الآية انّ إسحاق سيعقبه ولد من صلبه اسمه يعقوب :( فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ) .

الواقع انّ الملائكة بشّروها بالولد وبالحفيد ، فالاوّل إسحاق والثّاني يعقوب ، وكلاهما من أنبياء الله.

ومع التفات «سارة» امراة ابراهيم الى كبر سنّها وسن زوجها فإنّها كانت آيسة من الولد بشدّة ، فاستنكرت بصوت عال متعجبة من هذا الأمر و( قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ) .

وكان الحق معها ، لانّه طبقا للآية (٢٩) من سورة الذاريات ، فإنّها كانت في شبابها عاقرا ، وحين بشرت بالولد كان عمرها ـ كما يقول المفسّرون وتذكره التوراة في سفر التكوين ـ تسعين عاما او اكثر ، امّا زوجها ابراهيمعليه‌السلام فكان عمره مائة عام او اكثر.

وهنا ينقدح سؤال وهو : لم استدلت سارة على عدم الانجاب بكبر سنّها وكبر سنّ زوجها ، في حين اننا نعلم انّ النساء عادة يصبحن آيسات بعد الخمسين لانقطاع «الحيض» او «العادة» واحتمال الانجاب في هذه المرحلة بالنسبة لهنّ ضعيف ، امّا الرجال فقد أثبتت التجارب الطبيعية انّهم قادرون على الانجاب لسنين أطول ...؟

والجواب على هذا السؤال واضح : فإنّ الرجال وان كانوا قادرين على الانجاب ، ولكن يضعف احتماله كلما طعنوا في السنّ ولذا فطبقا للآية (٥٤) من سورة الحجر نجد ابراهيم نفسه متعجبا من هذه البشرى لكبر سنّه ، أضف الى ذلك فإنّ سارة من الناحية النفسية لعلها لم تكن في الانفراد بهذه المشكلة (العقم) وأرادت اقحام زوجها معها.

وعلى كل حال فإنّ رسل الله أزالوا التعجب عنها فورا وذكّروها بنعم الله «الخارقة للعادة» عليها وعلى أسرتها ونجاتهم من الحوادث الجمة ، فالتفتوا إليها

٩

و( قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .(١)

ذلك الربّ الذي نجّى ابراهيم من مخالب نمرود الظالم ، ولم يصبه سوء وهم في قلب النار ، هو ذلك الرّب الذي نصر ابراهيم محطم الأصنام ـ وهو وحيد ـ على جميع الطواغيت ، وألهمه القدرة والاستقامة البصيرة.

وهذه الرحمة الالهية لم تكن خاصّة بذلك اليوم فحسب ، بل هي مستمرة في اهل هذا البيت ، واي بركة أعظم من وجود رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمّة الطاهرينعليهم‌السلام في هذه الاسرة وفي هذا البيت بالذات.

واستدل بعض المفسّرين بهذه الآية على انّ الزوجة تعدّ من «أَهْلَ الْبَيْتِ » ايضا ، ولا يختص هذا العنوان بالولد والأب والام. وهذا الاستدلال صحيح طبعا ، وحتى مع غضّ النظر عن الآية هذه ، فإنّ كلمة «اهل» من حيث المحتوى تصحّ بهذا المعنى ، ولكن لا مانع ابدا ان يخرج جماعة من اهل بيت النّبوة من الناحية المعنوية بسبب انحرافهم من اهل البيت «وسيأتي فريد من الإيضاح والشرح في هذا الصدد ان شاء الله ذيل الآية ٣٣ من سورة الأحزاب».

وقال ملائكة الله لمزيد التأكيد على بشارتهم وكلامهم في شأن الله( إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) .

الواقع انّ ذكر هاتين الصفتين لله تعالى على الجملة السابقة ، لانّ كلمة «حميد» تعني من له اعمال ممدوحة وتستوجب الثناء والحمد ، وقد جاء صفة لله ليشير الى نعمه الكثيرة على عباده ليحمد عليها ، وامّا كلمة «مجيد» فتطلق على من يهب النعم حتى قبل استحقاقها.

ترى هل من العجيب على ربّ له هذه الصفات ان يعطي مثل هذه النعمة العظيمة اي الأبناء الصالحين لنبيّه الكريم؟!

* * *

__________________

(١) انّ جملة «رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ » يمكن ان تكون خبرية ، وهي حال ، كما يمكن ان تكون بمعنى الدعاء ايضا ، ولكن الاحتمال الاوّل اقرب.

١٠

الآيات

( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) )

التّفسير

رأينا في الآيات السابقة انّ ابراهيم عرف فورا انّ أضيافه الجدد لم يكونوا افرادا خطرين او يخشى منهم ، بل كانوا رسل الله على حد تعبيرهم ، ليؤدوا وظيفتهم التي أمروا بها في قوم لوط.

ولمّا ذهب الهلع والخوف عن ابراهيم من أولئك الأضياف ، ومن ناحية اخرى فقد بشروه بالوليد السعيد ، شرع فورا بالتفكير في قوم لوط الذين أرسل إليهم هؤلاء الرسل «الملائكة» فأخذ يجادلهم ويتحدث معهم في أمرهم( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) (١) .

__________________

(١) كلمة «روع» على وزن «نوع» معناها «الخوف والوحشة» وكلمة «روع» على وزن «نوح» معناها «الروح» او قسم منها الذي هو محل الخوف ومركزه ، لمزيد الإيضاح تراجع المعاجم اللغوية.

١١

وهنا يمكن ان ينقدح هذا السؤال ، وهو : لم تباحث ابراهيمعليه‌السلام مع رسل الله وجادلهم في قوم آثمين ظالمين ـ كقوم لوط ـ وقد أمروا بتدميرهم ، في حين انّ هذا العمل لا يتناسب مع نبيّ ـ خاصّة إذا كان ابراهيمعليه‌السلام في عظمته وشأنه؟

لهذا فإنّ القرآن يعقّب مباشرة في الآية عن شفقة ابراهيم وتوكله على الله فيقول( إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ) (١) .

في الواقع هذه الكلمات الثلاث المجملة جواب على السؤال المشار اليه آنفا. وتوضيح ذلك : انّ هذه الصفات المذكورة لإبراهيم تشير الى انّ مجادلته كانت ممدوحة ، وذلك لانّ ابراهيم لم يتّضح له انّ امر العذاب صادر من قبل الله بصورة قطعية ، بل كان يحتمل انّه لا يزال لهم حظ في النجاة ، ويحتمل انّهم سيرتدون عن غيهم ويتّعظون ، ومن هنا فما زال هناك مجال للشفاعة لهم فكان راغبا في تأخير العذاب والعقاب عنهم ، لانّه كان حليما ، ومشفقا واوّاها ومنيبا الى الله.

فما ذكره البعض من انّ مجادلة ابراهيم إذا كانت مع الله فلا معنى لها ، وإذا كانت مع رسله فهم ايضا لا يستطيعون ان يفعلوا شيئا من أنفسهم ، فعلى كل حال فالمجادلة هذه غير صحيحة ـ مجانب للصواب.

والجواب : انّه لا كلام في الحكم القطعي ، امّا لو كان الحكم غير قطعي فمع تغيير الظروف وتبدل الأوضاع يمكن تغييره ، لانّ طريق الرجوع لا زال مفتوحا ، وبتعبير آخر : فإنّ الأوامر في هذه الحالة مشروطة لا مطلقة.

وامّا من احتمل انّ المجادلة كانت مع الرسل في شأن نجاة المؤمنين ، واستشهدوا على هذا القول بالآيتين (٣١) و (٣٢) من سورة العنكبوت( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا

__________________

(١) «الحليم» مشتق من «الحلم» وهو : الاناة والصبر في سبيل الوصول الى هدف مقدس ، والأواه في الأصل : كثير التحسر والآه سواء من الخوف من المسؤلية التي يحملها او من المصائب ، والمنيب من الانابة اي الرجوع.

١٢

ظالِمِينَ ، قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) .

فهذا الاحتمال غير صحيح ايضا ، ولا ينسجم مع الآية التي تأتي بعدها وهي محل وتقول الآية التالية : انّ الرسل قالوا لإبراهيم ـ مباشرة ـ ان اعرض عن اقتراحك لانّ امر ربّك قد تحقق والعذاب نازل لا محالة.

( يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) .

والتعبير «ربّك» لا يدل على انّ هذا العذاب خلو من الطابع الانتقامي فحسب ، بل يدل ايضا على انّه علامة لتربية العباد وإصلاح المجتمع الانساني.

وما نقرؤه في بعض الرّوايات انّ ابراهيمعليه‌السلام قال لرسل الله : إذا كان بين هؤلاء القوم مائة مؤمن فهل يعذب المؤمنون؟ قالوا : لا. فقال : إذا كان بينهم خمسون مؤمنا؟ فقالوا : لا ايضا. قال : فإذا كان بينهم ثلاثون مؤمنا؟ قالوا : لا. قال : فإذا كان بينهم عشرة؟ قالوا : لا. قال : فإذا كان بينهم خمسة؟ قالوا : لا. قال : فإذا كان بينهم مؤمن واحد؟ قالوا : لا. قال : فإنّ فيها لوطا. قالوا :( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ ) (١) ...إلخ.

فمثل هذه الرّواية لا تدل بوجه مطلق على انّ المجادلة اقتصرت على هذا الكلام ، بل كان ذلك منه بالنسبة الى المؤمنين ، وهو شيء آخر غير مجادلته عن الكفار. ومن هنا يتّضح انّ الآيات التي وردت في سورة العنكبوت لا تنافي هذا التّفسير ايضا «فتدبّر».

* * *

__________________

(١) راجع تفسير البرهان ، ص ٢٢٦ ، ج ٢.

١٣

الآيات

( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) )

التّفسير

قوم لوط وحياة الخزي :

مرّت في آيات من سورة الأعراف اشارة الى شيء من مصير قوم لوط ، وفسّرنا ذلك في محلّه ، وهنا يتناول القرآن الكريم ـ وبمناسبة ما ذكره من قصص الأنبياء واقوامهم وبما ورد في الآيات المتقدمة عن قصّة لوط وقومه ـ قسما آخر من حياة هؤلاء القوم المنحرفين الضالين ليتابع بيان الهدف الاصلي الا وهو سعادة المجتمع الانساني ونجاته بأسره.

١٤

يبيّن القرآن الكريم في هذا الصدد اوّلا انّه لما جاءت رسلنا لوطا طار هلعا وضاق بهم ذرعا وأحاط به الهمّ من كل جانب( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ) .

وقد ورد في الرّوايات الاسلامية انّ لوطا كان في مزرعته حيث فوجئ بعدد من الشباب الوسيمين الصباح الوجوه قادمون نحوه وراغبون في النّزول عنده ولرغبته باستضافتهم من جهة ، ولعلمه بالواقع المرير الذي سيشهده في مدينته الملوّثة بالانحراف الجنسي من جهة أخرى ، كل ذلك أوجب له الهم ومرّت هذه المسائل على شكل أفكار وصور مرهقة في فكره ، وتحدث مع نفسه( وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) .

لاحتمال الفضيحة والتورط في مشاكل عويصة كلمة (سيئ) مشتقّة من ساء ، ومعناها عدم الارتياح وسوء الحال ، و «الذرع» تعني «القلب» على قول ، وقال آخرون : معناها «الخلق» فعلى هذا يكون معنى( ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ) انّ قلبه أصيب بتأثر شديد لهؤلاء الأضياف غير المدعوين في مثل هذه الظروف الصعبة.

ولكن بحسب ما ينقله «الفخر الرازي» في تفسيره عن «الازهري» انّ الذرع في هذه الموارد يعنى «الطاقة» وفي الأصل معناه الفاصلة بين اذرع البعير أثناء سيره.

وطبيعي حين يحمل البعير اكثر من طاقته فإنّه يضطر الى تقريب خطواته وتقليل الفاصلة بين خطواته ، وبهذه المناسبة وبالتدريج استعمل هذا المعنى في عدم الارتياح والاستثقال من الحوادث.

ويستفاد من بعض كتب اللغة ككتاب (القاموس» انّ هذا التعبير انّما يستعمل في شدة الحادثة بحيث يجد الإنسان جميع الطرق بوجهه موصدة.

وكلمة «عصيب» مشتقّة من «العصب» على زنة «الكلب» ومعناه ربط الشيء بالآخر وشده شدّا محكما ، وحيث انّ الحوادث الصعبة تشدّ الإنسان

١٥

وكأنّها تسلبه راحته فيظل مبلبل الأفكار سمّيت «عصيبة» وتطلق العرب على الايّام شديدة الحر انّها عصيبة ايضا.

وعلى كل حال ، فإنّ لوطا لم يجد بدا من ان يأتي بضيوفه الى البيت ويقوم بواجب الضيافة ولكنّه حدّثهم في الطريق ـ عدة مرّات ـ انّ اهل هذه المدينة منحرفون واشرار ليكونوا على حذر منهم.

ونقرا في احدى الرّوايات انّ الله سبحانه امر ملائكته ان لا يعذبوا قوم لوط حتى يعترف لوط عليهم ثلاث مرّات ، ومعنى ذلك انّه حتى في تنفيذ حكم الله بالنسبة لقوم ظالمين لا بدّ من تحقق موازين عادلة في المحاكمة ، وقد سمع رسل الله شهادة لوط في قومه ثلاث مرّات أثناء الطريق(١) .

وورد في بعض الرّوايات انّ لوطا اخّر ضيوفه كثيرا حتى حلول الليل ، فلعله يستطيع ان يحفظ ماء وجهه من شرور قومه ، ويقوم بواجب الضيافة دون ان يساء الى أضيافه. ولكن ما عسى ان يفعل الإنسان إذا كان عدوه داخل بيته ، وكانت امراة لوط امراة كافرة وتساعد قومه الظالمين ، وقد اطلعت على ورود هؤلاء الأضياف الى بيتها ، فصعدت الى أعلى السطح وصفقت بيديها اوّلا ، ثمّ بإشعال النّار وتصاعد الدخان أعلمت جماعة من هؤلاء القوم بأنّ طعمة دسمة قد وقعت في «الشباك»(٢) .

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد( وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ) (٣) وكانت حياة هؤلاء القوم مسودّة وملطخة بالعار( وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) فكان من حق لوط ان يضيق ذرعا يصرخ ممّا يرى من شدّة استيائه و( قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) فأنا مستعد ان أزوجهن ايّاكم( فَاتَّقُوا اللهَ وَلا

__________________

(١) مجمع البيان ، في شرح الآية آنفة الذكر.

(٢) الميزان ، ج ١٠ ، ص ٣٦٢.

(٣) «يهرعون» مشتقة من الاهراع ومعناها السياقة الشديدة ، فكأنما تسوق غريزة هؤلاء إياهم بشدة الى أضيافه.

١٦

تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ) يصدكم عن هذه الأعمال المخزية وينصحكم بالإقلاع عنها.

ولكن هؤلاء القوم المفسدين أجابوا لوطا بكل وقاحة وعدم حياء و( قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ ) .

وهنا وجد لوط هذا النّبي العظيم نفسه محاصرا في هذه الحادثة المريرة فنادي و( قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ) او سند من العشيرة والاتباع والمعاهدين الأقوياء حتى أتغلّب عليكم( أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ العبارة التي قالها لوط عند هجوم القوم على داره وأضيافه ـ( هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) فتزوجوهنّ انّ شئتم فهنّ حلال لكم ولا ترتكبوا الإثم والذنب وقد ـ أثارت هذه العبارة بين المفسّرين عدّة اسئلة :

اوّلا : هل المراد من( هؤُلاءِ بَناتِي ) بنات لوط على وجه الحقيقة والنسب؟! في حين انّ عددهن ـ وطبقا لما ينقل التاريخ ـ ثلاث او اثنتان فحسب ، فكيف يعرض تزويجهن على هذه الجماعة الكثيرة؟!

ام انّ المراد من قوله( هؤُلاءِ بَناتِي ) بنات «القبيلة» والمدينة ، وعادة ينسب كبير القوم ورئيسهم بنات القبيلة اليه ويطلق عليهنّ «بناتي».

الاحتمال الثّاني يبدو ضعيفا لانّه خلاف الظاهر.

والصحيح هو الاحتمال الاوّل ، لانّ الذين هجموا على داره وأضيافه كانوا ثلّة من اهل القرية لا جميعهم فاقترح عليهم لوط ذلك الاقتراح ، أضف الى ذلك انّ لوطا كان يريد ان يبدي منتهى إيثاره وتضحيته لحفظ ماء وجهه وليقول لهم : انّي مستعد لتزويجكم من بناتي لتقلعوا عن آثامكم وتتركوا اضيافي فلعل هذا

١٧

الإيثار المنقطع النظير يردعهم ويوقظ ضمائرهم الذي غطته السيئات.

ثانيا : هل يجوز تزويج البنات المؤمنات أمثال بنات لوط من الكفار حتى يقترح عليهم لوط ذلك؟!

وقد أجيب على هذا السؤال من طريقين.

الاوّل : انّ مثل هذا الزواج في مذهب لوط ـ كما كان في بداية الإسلام ـ لم يكن محرما ، ولذلك فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوّج ابنته زينب من أبي العاص قبل ان يسلم ، ولكن هذا الحكم نسخ بعدئذ(١) .

الثّاني : انّ المراد من قول لوطعليه‌السلام كان زواجا مشروطا بالايمان ، اي هؤلاء بناتي فتعالوا وآمنوا لازوجهن ايّاكم.

ويتّضح انّ الاشكال على النّبي لوط ـ من انّه كيف يزوج بناته المطهرات من جماعة أوباش ـ غير صحيح ، لانّ عرضه عليهم ذلك الزواج كان مشروطا بالايمان وليثبت منتهى علاقته بهدايتهم.

٢ ـ ينبغي الالتفات الى انّ كلمة «اطهر» لا تعني بمفهومها انّ عملهم المخزي والسيء كان «طاهرا» ولكن الزواج من البنات «اطهر» ، بل هو تعبير شائع في لسان العرب ـ ولغات اخرى ـ في المفاضلة والمقايسة بين أمرين ، مثلا يقال لمن يسوق بسرعة رعناء «الوصول المتأخّر خير من عدم الوصول ابدا» او «الاعراض من الطعام المشكوك أفضل من إلقاء الإنسان بيده الى التهلكة» ونقرا في بعض الرّوايات مثلا انّ الامام الصادقعليه‌السلام حين يشعر بالخطر الشديد و «التقيّة» من خلفاء بني العباس يقول «والله لئن أفطر يوما من شهر رمضان احبّ اليّ من أن تضرب عنقي»(٢) .

مع انّه لا القتل محبوب ولا هو امر حسن بنفسه ، ولا عدم الوصول ابدا ، ولا

__________________

(١) انظر الفخر الرازي في تفسيره الكبير ، وتفسير مجمع البيان في هذا الصدد.

(٢) وسائل الشيعة ، الجزء ٧ ، ص ٩٥ ، كتاب الصوم باب ٥٧.

١٨

أمثالهما.

٣ ـ تعبير لوط( أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ) في آخر كلامه مع قومه المنحرفين يكشف عن هذه الحقيقة ، وهي انّ وجود رجل ـ ولو رجل واحد رشيد ـ بين قوم ما وقبيلة ما يكفي لردعهم من اعمالهم المخزية ، اي لو كان فيكم رجل عاقل ذو لبّ ورشد لمّا قصدتم بيتي ابتغاء الاعتداء على ضيفي!

هذا التعبير يوضح بجلاء اثر «الرّجل الرّشيد» في قيادة المجتمعات الانسانية ، وهو الواقع الذي وجدنا نماذج كثيرة منه على امتداد التاريخ.

٤ ـ من العجيب انّ هؤلاء القوم المنحرفين الضالين قالوا للوط :( ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ ) وهذا التعبير كاشف عن غاية الانحراف في هذه الجماعة ، اي انّ مجتمعا منحرفا ملوثا بلغ حدّا من العمى بحيث يرى الباطل حقّا والحقّ باطلا!! فالزواج من البنات المؤمنات الطاهرات لا يعدّ حقا عندهم ، وعلى العكس من ذلك يعدّ الانحراف الجنسي عندهم حقّا.

انّ الاعتياد والتطبع على الإثم والذنب يكون في مراحله النهائية والخطرة عند ما يتصور انّ اسوا الأعمال وأخزاها هي «حق عند صاحبها» وانّ أنقى الاستمتاع الجنسي واطهره امر غير مشروع.

٥ ـ ونقرا في حديث للإمام الصّادقعليه‌السلام في تفسير الآيات المتقدمة انّ المقصود بالقوّة هو القائم من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانّ «الركن الشديد» هم أصحابه الذين عددهم (٣١٣) شخصا(١) .

وقد تبدو هذه الرّواية عجيبة وغريبة إذ كيف يمكن الاعتقاد انّ لوطا كان يتمنّى ظهور مثل هذا الشخص مع أصحابه المشار إليهم آنفا.

ولكن التعرف على الرّوايات الواردة في تفسير آيات القرآن حتى الآن يعطينا مثل هذا الدرس ، وهو انّ قانونا كليا يتجلى غالبا في مصداقه البارز ، ففي

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٢٢٨.

١٩

الواقع انّ لوطا كان يتمنّى ان يجد قوما ورجالا لديهم تلك القدرة والقوّة الروحيّة والجسمية الكافية لإقامة حكومة العدل الالهية كما هي موجودة في اصحاب المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف» الذين يشكلون حكومة عالمية حال ظهور الامام المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف» وقيامه ، لينهض بهم ويواجه الانحراف والفساد فيزيله عن بكرة أبيه ويبير هؤلاء القوم الذين لا حياء لهم.

* * *

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٢

السلطة التنفيذيّة

المراد بالسلطة التنفيذيّة في مصطلح اليوم هو هيئة الوزراء، وما يتبعها من دوائر ومديريّات منتشرة في أنحاء البلاد، ويكون مهمّتها تنفيذ ما يقرّره مجلس الشورى من تصميمات، وقرارات، ومخطّطات في شتّى حقول الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وبالتالي يقع على عاتقها مهمّة إدارة البلاد بصورة مباشرة، وهذه السطة لا تتحدّد ـ في عصرنا ـ بتشكيلات محدّدة كمّاً أو كيفاً بحيث لا تتعدّاها بل تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى زمن فهي تزيد أو تنقص، وتضاف مديريّة أو تحذف، أو يدمج بعض في بعض تبعاً للحاجة.

وهيئة الوزراء التي تتصدّر هذه السلطة إمّا أن :

أ ـ ينتخبها الحاكم الأعلى المنتخب للبلاد رأساً.

ب ـ أو ينتخبها مجلس الشورى.

ج ـ أو تنتخبها الاُمّة مباشرةً، وإن كان هذا نادراً.

وعلى أي تقدير فإنّ الذي لا بدّ منه هو أن تكون السلطة التنفيذيّة ـ وفي مقدمتها الوزراء موضع رضا الاُمّة، وذلك يحصل بإحدى الطرق المذكورة، وإن كان الدارج الآن

٢٨١

هو انتخابها عن طريق الحاكم الأعلى، مع موافقة مجلس الشورى.

وإنّما يجب أن تكون هذه السلطة موضع رضا الاُمّة لأنّها تتسلّم زمام السلطة المباشرة على نفوس الناس وأموالهم وأرواحهم، وهذا التسلّط والتصرّف يؤول إلى الاستبداد إذا لم يكن منوطاً برضا الناس، وموافقتهم وإرادتهم.

وهذا هو ما أكّد عليه الدين الإسلاميّ في نظامه السياسيّ، فقد أشار الإمام عليّ ابن أبي طالبعليه‌السلام إلى ذلك ـ في عهده المعروف للأشتر النخعيّ لـمّا ولاّه على مصر حيث وصّاه بأن يتحرّى رضا الرعيّة إذ قال: « وليكن أحبّ الاُمور أليك أوسطها في الحقِّ، وأعمَّها في العدل، وأجمعها لرضا الرَّعيَّة، فإنَّ سخط الخاصَّة ـ يُجحفُ برضا العامّة، وإنَّ سخط الخاصَّة يُغتفرُ مع رضا العامّة »(١) .

هذا والحديث عن السلطة التنفيذيّة يستدعي البحث في ثلاثة اُمور :

أوّلاً: إثبات ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الاجتماعيّة جنباً إلى جنب مع السلطة التشريعيّة، والحاكم الأعلى للبلاد.

ثانياً: استعراض ما كانت عليه هذه السلطة في ( العهد النبوي ) خاصّةً وما آلت إليه فيما بعد.

ثالثاً: بيان الكيفيّة التي يجب أن تكون عليه الآن.

وإليك بيان هذه الاُمور تدريجياً.

ضرورة السلطة التنفيذيّة :

لا ريب أنّ القوانين الإسلاميّة التي شرّعها الله سبحانه للبشريّة وأنزلها عليهم، وكذا ما يستنبطه الفقهاء والمجتهدون أو تقرّره السلطة التشريعيّة من برامج على ضوء التعاليم الإسلاميّة لم تكن إلّا لإدارة المجتمع. فلم يكن تشريع كلّ تلك الشرائع، ولا

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

٢٨٢

وضع جميع تلك البرامج عملاً اعتباطيّاً، بل كانت لأجل التنفيذ والتطبيق، وتنظيم الحياة الاجتماعيّة وفقها، فالقانون مهما كان راقياً وصالحاً ليس بكاف وحده في إصلاح المجتمع وإصلاح شؤونه، بل لا بدّ من إجرائه، وتنفيذه في الصعيد العمليّ.

إنّ الكتاب والسنّة زاخران بأحكام حقوقيّة ومدنيّة وجزائيّة وسياسيّة كثيرة وواسعة الأطراف والأبعاد وهي غير خافية على كلّ من له أدنى إلمام بهذين المصدرين الإسلاميّين العظيمين.

ففيهما الأمر الصريح والأكيد بقطع يد السارق:( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ) وجلد الزاني والزانية:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ( النور: ٢ ).

إلى غير ذلك من القوانين والحدود. ولقد حثّ الشارع الكريم على إجراء هذه الحدود وتنفيذ هذه القوانين، والتعاليم حثّاً أكيداً لا يترك لمتعلّل عذراً فقد ورد عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: لن تقدس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقَّه من القوي غير متعتع »(١) .

وروى ابن أبي الحديد المعتزليّ أنَّه خرج رجل من أهل الشام في وقعة صفين فنادى بين الصفّين: يا عليّ ابرز أليّ، فخرج إليه عليّعليه‌السلام فقال: إنّ لك يا عليّ لقدماً في الإسلام والهجرة، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن دماء المسلمين وتأخّر هذه الحروب حتّى ترى رأيك ؟ فقالعليه‌السلام : « وما هو ؟ » قال: ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك وبين العراق، ونرجع نحن إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين الشام ؟ فقال عليّعليه‌السلام : « قد عرفت ما عرضت إنّ هذه لنصيحة وشفقة، ولقد أهمَّني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينه، فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة في الأغلال في جهنَّم »(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٢٨٣

ولـمـّا سرقت المرأة المخزوميّة ما سرقت ـ في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأراد اُسامة بن زيد الشفاعة في حقّها، فكلّم النبيّ في أمرها، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتشفع في حدّ من حدود الله » ؟!

ثمّ قام فخطب وقال: « أيّها الناسُ إنَّما هلك الَّذين من قبلكُم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ »(١) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة وحدّ يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً »(٢) .

وفي حديث مفصّل وقضية مطوّلة قال الإمام عليّعليه‌السلام : « أللّهم إنّك قلت لنبيّك فيما أخبرته من دينك: يا محمّد من عطَّل حدَّاً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادَّتي »(٣) .

وقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أيضاً: « لابدَّ للنَّاس من إمام يقوم بأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدوَّ، ويقسّم الغنائم ويفرض الفرائض أبواب ما فيه صلاحهم ويحذّرهم ما فيه مضارّهم، إذا كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع ويفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد فتمام أمر البقاء والحياة في الطَّعام والشَّراب والمساكن والنكاح من النّساء والحلال الأمر والنَّهي »(٤) .

وعن الإمام الباقر محمد بن عليّعليه‌السلام : « إنّ الله تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّةُ ـ إلى يوم القيامة ـ إلّا أنزله في كتابه، وبيَّنه لرسوله. وجعل لمن تعدَّى الحدَّ حدَّاً »(٥) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال: « حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين

__________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١١٤.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، والخراج: ١٦٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨.

(٤) رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى نقلاً عن تفسير النعمانيّ: ٥٠.

(٥) وسائل الشيعة ١٨: ٣١١.

٢٨٤

ليلة وأيّامها »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنه قال: « لا تبطل حدود الله في خلقه ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم »(٢) .

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً »(٣) .

وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفرعليه‌السلام في تفسير قول الله عز وجل:( يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ( الروم: ١٩ ): « ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالاً فيحيون العدل فتحيا الأرض لأحياء العدل، لإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً »(٤) .

إلى غير ذلك من الأحاديث الصريحة التي تحث على إجراء الحدود، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة الكريمة التي تحثّ بدورها على العمل بأحكام الله سبحانه، دون فرق بين ما تعلّق منها بالفرد أو المجتمع وتندّد بالذين يعلمون الكتاب، ويعرفون ما فيه من التعاليم والأحكام ولا يعملون بها.

بيد أنّ تنفيذ الأحكام والقوانين المتعلّقة بالمجتمع، وإجراء الحدود لا يمكن أن يفوّض إلى عامّة الناس وسوادهم فلا يعني ذلك إلّا شيوع الفوضى، وضياع الحقوق، واضطراب الحدود بين الافراط والتفريط، ولهذا لابدّ من جهاز تنفيذيّ خاصّ يتولّى هذه المهمّة الاجتماعيّة الحساسّة ويقوم بهذا الدور الخطير.

ومن العجيب أنّ موضوع الهيئة التنفيذيّة رغم كونه من أبرز ما أشار إليه الإسلام بل وصرّح به في نظام الحكومة الإسلاميّة ؛ قد تعرّض لتجاهل بعض الباحثين حول الإسلام بل وإنكارهم ؛ فقد أخذ بعض المستشرقين ـ فيما أخذ ـ على الإسلام فقدانه لجهاز تنفيذيّ ونظام حكوميّ يضمن تنفيذ القوانين، ويضفي على الإسلام طابع المنهج

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، ٣١٥.

(٣ و ٤) نفس المصدر: ٣٠٨.

٢٨٥

الصالح لقيادة البشريّة حتّى في الصعيد السياسيّ فقال ما ملخّصه: « إنّ الإسلام مشتمل على قوانين وسنن رفيعة تتكفّل سعادة المجتمع فرديّاً واجتماعيّاً بيد أنّ ما جاء به الإسلام لا يتجاوز حدود التوصية الاخلاقيّة والإرشاد المعنويّ دون أن يكون لديه ما يضمن تنفيذها من سلطات وأجهزة، فإنّنا لم نلمس في التعاليم الإسلاميّة الموجودة أي إشارة إلى هيئة تنفيذيّة تقوم بإجراء الأحكام، وتنفيذ القوانيين ولذلك تعتبر الشريعة الإسلاميّة غير كافية من هذه الناحية، وعاجزةً عن التطبيق ».

هذا هو خلاصة ماقاله بعض المستشرقين، ولكن لو رجع صاحب هذه المقالة إلى الكتاب والسنّة، ولاحظ ما طفحت به الكتب الفقهيّة الإسلاميّة من سياسات اجتماعيّة، وحقوق مدنيّة، وتدابير جزائيّة عهد إجراؤها إلى الحاكم الإسلامي ؛ للمس وجود الهيئة التنفيذيّة في النظام الإسلاميّ بجوهره وحقيقته وإن لم يكن بتفصيله المتعارف الآن.

فأيّ تصريح بوجود الجهاز التنفيذيّ أكثر صراحةً من إيكال قسم كبير من القضايا الاجتماعيّة، والاُمور الجزائيّة إلى ( الحاكم الشرعي ) حيث نجد الكتب الفقهيّة زاخرةً بعبارات: عزّره الحاكم، أدّبه الحاكم، نفاه الحاكم، طلّق عنه الحاكم، حبسه الحاكم، خيّره الحاكم(١) . وما شابه من الاُمور المخوّلة إلى الحاكم الإسلاميّ، وهو يوحي بوجود جهاز تنفيذيّ في النظام الإسلاميّ، لأنّ أكثر تلك المهام هي من صلاحيات السلطة التنفيذيّة المتعارفة الآن.

هذا مضافاً إلى أنّ موضوع ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يؤكّد عليهما الدين الإسلاميّ أشدّ تأكيد يعتبر من أوضح الأدلّة على لزوم مثل هذا الجهاز التنفيذيّ حتّى يمكن القول ـ بدون مبالغة ـ أنّ المقصود بالقائمين بهذه الفريضة الكبرى، والوظيفة العظمى هو ( الهيئة التنفيذيّة ).

__________________

(١) راجع هذا الجزء: ٢٣ ـ ٣٠.

٢٨٦

الآمرون بالمعروف هم السلطة التنفيذيّة :

إنّ النظر العميق في فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وأحكامهما ومسائلهما، وشروطهما يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم ( السلطة التنفيذيّة ) التي تقع على عاتقها مهمّة إجراء الأحكام، وتنفيذها وصيانتها في المجتمع الإسلاميّ. ولابدّ ـ قبل إثبات هذا الأمر ـ من تقديم مقدّمة حول هذه الفريضة الإسلاميّة العظمى فنقول: تعتبر وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) أصلاً مبتكراً، وفريضةً بديعةً جاء بها الإسلام وهي ممّا لم يعهد لها نظير في الأنظمة الوضعيّة البشريّة فقد فرض الدين الإسلاميّ ـ بموجب هذه الفريضة ـ على أتباعه أن ينشروا الخير والمعروف بين الناس، ويزجروا عن الشرّ والمنكر، ولا يكونوا متفرّجين أو ساكتين اتّجاه ما يجري في المجتمع ويقع من إظهار المنكر أو تضييع للمعروف.

ولقد انطلق الإسلام ـ في إيجابه لهذه الفريضة العظيمة ـ من حقيقة اجتماعيّة مسلّمة وهي: أنّ أعضاء المجتمع الواحد الذين يعيشون في بيئة واحدة، مشتركون في المصير فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله، ولو كان هناك شرّ لشمل الجميع أيضاً ولم يختصّ بمرتكبه. ومن هناك يجب أن تتحدّد تصرّفات الأفراد في هذا المجتمع، وتتحدّد حريّاتهم بمصالح الاُمّة، ولا تتخطّاها.

ولقد شبّه الرسول الأكرم وحدة المصير للمجتمع الواحد بأحسن تشبيه حيث مثّل أفراد المجتمع بركاب سفينة في عرض البحر، إذا تهددها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه بحجّة أنّه مكان يختصّ به. ولا يرتبط بالآخرين، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ولا يعود إليه خاصّةً. وهذا هو أفضل تشبيه لاشتراك المجتمع الواحد في المصير، والمسير(١) .

كما أنّه لو أصيب أحد أفراد المجتمع بالوباء لم يجز له أن يتجوّل في البلاد بحجّة

__________________

(١) راجع روض الجنان للشيخ أبي الفتوح الرازيّ.

٢٨٧

أنّه حرّ ؛ لأنّ ذلك يعرّض سلامة الآخرين للخطر، فلا بدّ أن يتحدّد تجوّله، تجنيباً للمجتمع من كوارث ذلك المرض.

إنّ هذه الأمثلة وأشباهها توضّح أهميّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ومكانتهما ومدى أثرهما في سلامة المجتمع واستقامته وصلاحه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظارة عموميّة، ورقابة صارمة تمنع من تفشّي المنكر وتساعد على نمو الخير، وازدهاره. وهما إلى جانب ذلك سبب قويّ في بقاء الدين، واستمرار الرسالة الإلهيّة.

ولقد وردت في التأكيد على هذه المهمّة الخطيرة آيات قرآنيّة كثيرة، وأحاديث، تأمر الجميع بالقيام بالدعوة إلى الخير، وإنكار المنكر، وهي معلومة وواضحة لكلّ من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلاميّة.

نعم، ربّما يُتوهّم من بعض الآيات خلاف ذلك، وهي تلك الآيات التي يتمسّك بها بعض طلاب الراحة والعافية واتّباع الهوس لسدّ باب التبليغ والدعوة، أو للتخلّص من تحمّل مشكلاتها، وصعوبتها، ومن تلك الآيات قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ١٠٥ ).

وقد رفع المفسّرون النقاب عن وجه هذه الآية وفسّرها الأمين الطبرسيّ في تفسيره مجمع البيان بقوله: « إنّ الآية لا تدل على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يؤخذ بذنوب العاصي »(١) .

بيد أنّ لنا توضيحاً آخر لمفاد هذه الآية وهو: أنّ الآية تشير إلى سيرة عقلائيّة وقضيّة عقليّة وهي أنّ على من يريد إصلاح المجتمع أن يبدأ بنفسه ثمّ يتعرّض لإصلاح الآخرين فما لم يصلح المرء نفسه ليس له أن يؤدّب غيره، وإلى ذلك يشير الإمام عليّعليه‌السلام قائلاً: « من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبهُ بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلمُ نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٣: ٢٥٤.

٢٨٨

ومؤدّبهم »(١) .

وبالجملة أنّ الآية ناظرة إلى الاجتماعات الفاسدة الغارقة في الفساد والانحراف فإنّ الطريق الوحيد لإصلاحها هو الابتداء بإصلاح الذات وعدم توقّع أي إصلاح للغير قبل ذلك ؛ وأن لا يترك إصلاح نفسه بحجّة أنّ المجتمع فاسد وإليه يشير قوله سبحانه:( لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ويؤيد ذلك قول النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ».

فقيل: يا رسول، من الغرباء ؟ فقال: « الَّذين يصلحون إذا أفسد الناس من سنَّتي »(٢) .

وهذا الحديث يرفع التوهّم حول الآية خصوصاً إذا قرئ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يصلحون » بصيغة اللازم، فإلى هذا المعنى تشير الآية المذكورة. وعلى أي تقدير فالآية لا ترتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تمتّ بهما بصلة.

ولقد كفى في أهميّة هذه الوظيفة أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد بلغا من الأهميّة والأثر حتّى صارا أفضل من الجهاد إذ قال الإمام عليّعليه‌السلام : « وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجّيّ »(٣) .

ووجه هذه الأفضليّة على الجهاد وسائر أعمال البرّ هو أنّ ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بكلا قسميه ( الفرديّ والاجتماعيّ ) كما سيوافيك بيانهما مكافحة داخليّة، والجهاد كفاح خارجيّ. والاُولى متقدّمة على الثانية، فلو لم يصلح الداخل لم يصلح الخارج، وما دام الداخل غير مستعدّ للإصلاح لا يمكن للمسلمين أن يخطوا أيّة خطوة لإصلاح الخارج.

كما ويؤكّد ضرورة إنكار المنكر وحرمة تركه قوله تعالى:( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ الحكم ـ الرقم (٧٣).

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٢١٢، أخرجه الترمذي.

(٣) نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم (٣٧٤).

٢٨٩

الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء: ١٤٠ ).

فهذه الآية تدلّ على أنّ السكوت على المنكر يوجب أن يكون الساكت على الذنب كالمرتكب له، ولأجل ذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنَّما يجمع الناسُ الرِّضى والسَّخطُ وإنَّما عقر ناقة ثمود رجُل واحد فعمَّهُم الله بالعذاب لـمّا عمّوهُ بالرِّضى »(١) .

ثمّ إنّ الغور في هذه الوظيفة الإسلاميّة ومعرفة شروطها وفروعها وآثارها الحيويّة يستدعي إفراد رسالة مفصّلة خاصّة بذلك.

غير أنّنا نقتصر هنا على ذكر ما يرتبط ببحثنا وهو إثبات وجود ( السلطة التنفيذيّة ) في نظام الحكم الإسلاميّ فنقول: إنّ النظر في مهمّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يتمثّلون ـ في الحكومة الإسلاميّة ـ في ( الهيئة التنفيذيّة ) فليست هذه السلطة في حقيقة الأمر إلّا القائمين بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على صعيدهما الاجتماعيّ العموميّ. والوقوف على هذا المطلب يحتاج إلى التنبيه على أنّ فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) تنقسم إلى وظيفتين :

١. وظيفة فرديّة.

٢. وظيفة اجتماعيّة عموميّة.

وهما يختلفان ماهيّةً وشروطاً حسبما نعرف ذلك من الكتاب والسنّة كما سيوافيك بيانه.

أمّا الكتاب فنجده يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارةً على المجتمع، أي على كلّ فرد فرد من أعضاء الاُمّة الإسلاميّة، وتارةً على جماعة خاصّة من المجتمع الإسلاميّ وإلى القسم الأوّل ( الفردي ) يشير قوله تعالى:( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (٢٠١).

٢٩٠

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة: ٧١ ).

وقوله تعالى:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ) ( التوبة: ١١٢ ).

وقوله سبحانه:( كُنتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) ( آل عمران: ١١٠ ).

إلى غير ذلك من الآيات، والخطابات الموجّهة إلى المجتمع بصورة عامّة.

وإلى القسم الثاني تشير الآيات التي تضع هذه الوظيفة على عاتق جماعة خاصّة وتعبّر عنها ب‍ ( أمّة ) وفي ذلك قوله سبحانه:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( العمران: ١٠٤ ).

ومن المعلوم أنّ الاُمّة عبارة عن جماعة خاصّة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر، وهي وإن كانت تطلق أحياناً على الفرد الواحد كقوله سبحانه:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( النحل: ١٢٠ ) لكنه إطلاق واستعمال غير شائع فلا تحمل الآية عليه. وقد فسّر الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام هذه الآية بقوله: « وسُئل عن الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الاُمّة جميعاً ؟ فقال: لا، فقيل لهُ: ولم ؟ قال: إنَّما هُو على القوي الـمـُطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضَّعيف والدَّليلُ على ذلك كتاب الله عزَّ وجلَّ قوله:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) فهذا خاص غير عام كما قال الله عزَّ وجلَّ:( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أمّة يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ( الأعراف: ١٥٩ ) ولم يقل: على أمّة موسى ولا على كُلِّ قومه، وهم يومئذ اُمم مختلفة والاُمّة واحد فصاعداً كما قال الله عزَّ وجلَّ:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ ) »(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٠.

٢٩١

وقوله تعالى:( إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج: ٤١ ).

فهذه الآية تشير ـ بوضوح ـ إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكورين في الآية هو من النوع الذي يحتاج إلى المكنة والقدرة والسلطة، فالوصف فيه وصف للمؤمنين الذين تمكّنوا من السلطة وبالتالي فهو وصف للجهاز الحاكم والسلطة التنفيذيّة، ولا يمكن إرجاعه إلى عامّة المسلمين لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتوجّبين على الكافة لا يختصّ بظرف المكنة في الأرض، ولا يتقيد بقيد السلطة، بل تجب مراتبه قلباً ولساناً في جميع الأحوال بل يمكن أن يقال أيضاً إنّ الدعوة والتبليغ حتى باللسان على قسمين :

قسم يمكن أن يقوم به كلّ مسلم عارف بضروريات الإسلام من واجبها وحرامها.

وقسم لا يمكن أن يقوم به إلّا فرقة من كلّ طائفة ممّن صرفوا أوقاتهم وأعمارهم في تعلّم الدين بعمقه وتفاصيله وجزئيّاته، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:( وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة: ١٢٢ ).

وقد سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن قول رسول الله: « اختلافُ أُمّتي رحمة » فقال: « صدقوا في هذا النَّقل » فقلت: إن كان أختلافهم رحمةً فاجتماعهم عذاب قال: « ليس حيثُ تذهب وذهبوا، إنَّما أراد قولُ الله تعالى:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهُم الله أن ينفروا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمَّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أرادهم من البلدان لا اختلافهم في الدين إنّما الدّينُ واحد »(١) .

__________________

(١) تفسير البرهان ٢: ١٧٢ ومعاني الاخبار: ١٥٧ وعلل الشرائع ١: ٦٠ وقد نقلها صاحب الوسائل في ٨: ١٠١ ـ ١٠٢.

٢٩٢

وأمّا الأحاديث والأخبارُ الواردة في شأن وظيفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فهي أيضاً تُقسِّم هذه الفريضة إلى قسمين :

قسم لا يحتاج القيام به الى جهاز خاص وقدرة وتمكّن، لأنّه لا يتجاوز القلب واللسان والوجه. وقسم يتوقّف القيام به على الجهاز والقوَّة والسّلطة.

وإلى القسم الأوّل يشير ما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إذ قال: « من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه فهو ميّت بين الأحياء »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً قال: « أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة »(٢) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة »(٣) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام إذ قال: « حسبُ المؤمن غيراً ( أي غيرة ) إذا رأى منكر أن يعلم الله عزَّ وجلَّ من قلبهُ إنكاره »(٤) .

وهذا القسم من الأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يشملُ كلّ فرد من أفراد المسلمين ولا يتجاوز القلب والوجه واللسان ويمكن لأيِّ فرد من الأفراد القيام به ؛ إذ لا يحتاج إلى تكلّف مؤنة، ولا توفّر قوَّة وسلطة وهو بالتالي يعمُّ كلّ مسلم آمراً ومأموراً حاكماً ومحكوماً.

وأمّا القسم الثاني ؛ وهي الأحاديث التي تجعل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر دعامةً لأقامة الفرائض، وسبيلاً إلى أمن الطرق والمسالك، وردِّ المظالم، وردع الظَّالم، ووسيلةً إلى عمارة الأرض والانتصاف من الأعداء وهي اُمور لا تتحقّق إلّا بجهاز قادر متمكِّن فهي كالتالي :

قال الإمام محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام : « إنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض والنَّهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء بها

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٤، ٤١٣.

(٣ و ٤) وسائل الشيعة ١١: ٤١٣، ٤٠٩.

٢٩٣

تأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر »(١) .

ومن المعلوم أنّ الأمر والنّهي المؤدّيين إلى أمان الطّرق والمسالك وعمارة الأرض والانتصاف من الأعداء للمظلومين لا يتيسّر إلّا بجهاز تنفيذيّ قويّ، وسلطة إجرائيّة قادرة تتحمّل عبء الأمر والنّهي على المستوى العموميّ وبواسطة الأجهزة والتشكيلات، هذا مضافاً إلى أنّ ذكر الأنبياء في الحديث لعلّه يوحي بأنّ الأمر والنهي المذكورين هنا هو ما كان مقروناً بالحاكميّة والسلطة على غرار ما كان للأنبياء: حيث كانوا يمارسون مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ غالباً ـ من موقع السلطة والحاكميّة والولاية لا من موقع الفرد ومن موضع التبليغ ومجرد الوعظ والإرشاد الفرديّ.

وعن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرِّ فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء »(٢) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردِّ المظالم، ومخالفة الظالم وقسمه الفيء وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها »(٣) .

ومن البين أنّ مخالفة الظالم وردعه وإيقافه عند حدّه، وتقسيم المال بين المسلمين بصورة عادلة وأخذ الصدقات والموارد الماليّة، الذي يعني التنظيم الاقتصاديّ على المستوى العام للمجتمع، لا يتأتّى عن طريق الأمر والنهي الفرديين والمنحصرين في إطار الموعظة بل يحصل ويتحقّق بوجود جهاز تنفيذيّ حاكم وسلطة إجرائيّة تتولّى إدارة دفّة البلاد وفق تعاليم الإسلام، فإنّ مثل هذا الأمر والنهي يحتاج إلى استعمال القوّة

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥، ٣٩٨.

(٣) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٣، وقد ورد مثلها عن الإمام الحسين بن عليّ في تحف العقول: ١٧١ ( طبعة بيروت ).

٢٩٤

لإجراء الحدود والعقوبات وتنفيذ الأحكام الجزائيّة، وهي اُمور لا يمكن أن تتحقّق إلّا في ظلّ سلطة وجهاز تنفيذيّ.

من هنا ؛ تكون الوظيفة العموميّة وما يترتّب عليها من الحبس والتأديب والقصاص وما شابه ؛ مقتضية لوجود سلطة تنفيذيّة يعهد إليها الأمر والنهي الاجتماعيين العموميين، الذين فيهما صلاح عامّة الناس، واستقامة اُمورهم عامّة ويمكن إستفادة هذا المطلب من كلام للسيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام إذ قالت: « والأمرُ بالمعروف مصلحة للعامَّة »(١) .

إذ أي أمر بالمعروف يمكن أن يكون مصلحة للعامّة إذا لم يكن القائم به جهاز ذو قدرة وسلطان يقوم بذلك عن طريق التشكيلات والتنفيذ العام.

كما ويمكن استفادة ذلك أيضاً من كلام الإمام عليّعليه‌السلام إذ قال: « أخذ الله على العُلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم وسغب مظلوم »(٢) .

فكيف يمكن منع الظالم من ظلمه، ومنع المستغلّ من الاستئثار بلقمة الفقير، إلّا بجهاز وسلطة خاصّة، فليس العلماء المذكورون في هذا الحديث إلّا ذلك الجهاز التنفيذيّ القادر على الإجراء.

وكذا يستفاد هذا الأمر من كلام آخر للإمامعليه‌السلام وهو يتحدّث عن الوالي وماله وما عليه: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطَّلة من حدودك »(٣) .

__________________

(١) بلاغات النساء لابن طيفور ـ المتوفّى عام ( ٣٨٠ ه‍ ) ـ ص ١٢، ومعاني الأخبار: ٣٣٦.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٣).

(٣) نهج البلاغة: الخطبة (١٢٧) شرح عبده، وقد ورد نظيره عن الإمام الحسين بن عليّ إذ قال: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك » راجع تحف العقول: ١٧٢ ( طبعة بيروت ).

٢٩٥

فكيف يمكن أمان المظلومين، وإقامة الحدود المعطّلة وإظهار الإصلاح العام في البلاد وتطبيق سنن الله وأحكامه بلا استثناء إلّا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعتمدين على السلطة والناشئين عن جهاز تنفيذيّ ؟

إذ كيف يمكن قيام الفرد أو الأفراد بكلّ ذلك وهو بحاجة إلى قدرة وتمكّن ونفوذ أمر وسلطان ؟

ويمكن تأييد ضرورة وجود هذه السلطة واختصاص هذا النوع من ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يتجاوز القلب والوجه واللسان ويتعدّاه إلى ( اليد ) وإستعمال القوة والسلطة ؛ بتنديد الله بالربانيّين والأحبار الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم المسؤولون عن ذلك لأنّهم كانوا في مقام الإمرة وفي موقع السلطة فقال الله تعالى:( وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة: ٦٢ ـ ٦٣ ).

وقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى تفسير هذه بقوله: « أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حينما عملوا من المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك وأنَّهم لـمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات »(١) .

وهكذا تفيد نصوص الكتاب والسنّة وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ أحدهما وظيفة جميع الأفراد والآخر وظيفة سلطة قادرة

وبذلك يجمع بين الطائفتين من الآيات والروايات اللتين يضع قسم منها هذه الوظيفة على عاتق الجميع، وقسم منها على عاتق جماعة خاصّة ؛ فالأوّل راجع إلى الوظيفة الفرديّة منهما، فهو الذي يجب على الجميع، والثاني راجع إلى الوظيفة الاجتماعيّة التي تختصّ باُمّة متمكّنة من السلطة.

وممّا يدلّ على هذا إلى جانب تلك النصوص فتاوى الفقهاء ـ في باب الحدود ـ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥.

٢٩٦

والتي تضافرت على أنّه لو وجب قتل مسلم قصاصاً لم يجز لأحد أن يقتص منه غير ولي الدم بإذن الحاكم أو الحاكم نفسه، فلو قتله غيره كان عليه القود، ولا يتوهّم أنّ من وجب عليه إجراء الحدّ، يكون مهدور الدم بالنسبة إلى كلّ واحد فإنّه توهّم باطل فإنّ من وجب عليه الحد والقصاص على أقسام :

١. إمّا أن يكون مهدور الدم لكلّ أحد كساب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو الكافر الحربيّ، فإنّه إذا قتله المسلم أو الذمي لا قود عليهما. ولكنّهما يعزّران لتدخلهما في أمر الحاكم.

٢. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى المسلمين كالمرتد الفطريّ، فإذا قتله المسلم لا قود عليه، ولو قتله الذميّ فعليه قود، ومع ذلك فيعزّر المسلم لو قتله للتدخّل المذكور.

٣. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من له القصاص ( أي وليّ الدم ) ومن إليه القصاص ( أي الحاكم ) كالقاتل المسلم ظلماً فلا يجوز لغير ولي الدم أو الحاكم قتله(١) .

٤. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من إليه الحكم، كاللائط والزاني المحصن.

كما أنّ ممّا يدلّ على وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أنّ الفقهاء ذكروا للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شروطاً أربعة هي :

١. أن يكون عارفاً بالمعروف من المنكر.

٢. أن يحتمل تأثير إنكاره فلو غلب على ظنّه أو علم أنّه لا يؤثّر لم يجب عليه شيء.

٣. أن يكون الفاعل للمنكر مصرّاً على الاستمرار فلو لاحت منه إمارة الامتناع أو قلع عنه، سقط الإنكار.

٤. أن لا يكون في الإنكار مفسدة، فلو ظنّ توجّه الضرر إليه، أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط(٢) .

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ونظائر هذه المسألة من ص ١٥٩ ـ ١٩٨ الجزء ٤١.

(٢) شرائع الإسلام: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٢٩٧

ومن المعلوم ؛ أنّ الشرط الثاني ( احتمال التأثير ) والثالث ( الإصرار على المنكر ) من شروط القسم الفرديّ من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا الاجتماعيّ منهما إذ لا يعتبر في الاجتماعيّ من هذه الفريضة احتمال التأثير، بل للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة فيقتصّ من القاتل أو الجارح، ويقطع يد السارق سواء أكان هناك تأثير أم لا.

كما أنّ للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة سواء كرّر المجرم أم لم يكرّر جريمته ومعصيته، ولأجل هذا يجب التمييز والفصل بين الأمر والنهي الفردي، والأمر والنهي الاجتماعيّ العموميّ لاختلافهما في الشروط والغايات. ولا شكّ أنّ هذه المغايرة والتمايز يكشف ـ وبمعونة ما سبق وما يأتي من الأدّلة ـ عن أنّ القسم الثاني من هذه الفريضة هو من شأن سلطة تنفيذيّة وجهاز حكم وليس من شأن الأفراد.

دفع إشكال حول الأمر والنهي :

ربما يتوهّم أحد أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطويان على مجرّد طلب فعل المعروف وطلب ترك المنكر وهذا ممّا لا يتحقّق في إجراء حدّ القتل أو الرجم على المحكوم بهما، فكيف يمكن أن نعتبرهما من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟

ولكن هذا الإشكال مدفوع بأنّ الطلب الإنشائي الذي هو من قبيل المفهوم، وإن لم يكن موجوداً في إجراء حدّ القتل والرجم لكنّه فيه واقعيّة الطلب وحقيقته وأثره، إذ باجراء هذين الحدّين تنعدم المنكرات واقعاً، ولو بالنسبة للآخرين، وهذا نظير قوله سبحانه:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٧٩ ) فإن قتل القاتل وإن كان سلباً لحياته لكنّه إحياء للنفوس الاُخرى. وهو هدف القصاص، ولأجل ذلك كانت العرب تقول في مورد القصاص « القتل أنفى للقتل ».

وخلاصة القول أنّ الأثر المطلوب من إجراء الحدود وإن كان منفيّاً بالنسبة إلى الجاني نفسه ولكنّه موجود بالنسبة إلى المجتمع.

٢٩٨

هذا وممّا يؤكد وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنّ علماء الإسلام ذكروا للمحتسب وهو من يقوم بالأمر والنهي الاجتماعيّين شروطاً لا تعتبر في القسم الفرديّ من هذه الفريضة.

فقد قال ابن الاخوة القرشيّ في كتابه معالم القربة في أحكام الحسبة :

الحسبة من قواعد الاُمور الدينيّة، وقد كان أئمّة الصدر الأوّل يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها وهي: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله وإصلاح بين الناس، قال الله تعالى:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ( النساء: ١١٤ ).

والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعيّة والكشف عن اُمورهم ومصالحهم ( وفي نسخة اُخرى: وبياعاتهم ومأكولهم ومشروبهم ومساكنهم وطرقاتهم ) وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

ومن شروط المحتسب أن يكون: ( مسلماً ) ( حرّاً ) ( بالغاً ) ( عاقلاً ) ( عدلاً ) ( قادراً )(١) .

ومن المعلوم أنّ ( الحريّة ) و ( البلوغ ) و ( العدالة ) ليست شروطاً في القسم الفرديّ من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فهذا التباين في الشرائط والصلاحيّات يكشف ـ بوضوح ـ عن تنوّع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى نوعين مختلفين: فرديّ، وعموميّ، والأوّل هو وظيفة كلّ فرد من أفراد المسلمين، بينما يختصّ الثاني بجهاز وسلطة ويتطلّب وجودها في الحياة الإسلاميّة.

وظيفة المحتسب والسلطة التنفيذيّة :

وممّا يدلّ على اختصاص القسم الاجتماعيّ من وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي

__________________

(١) معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الاخوة: ٧.

٢٩٩

عن المنكر ) والمسمّى بالحسبة، بالسلطة التنفيذيّة ؛ مطالبة الإمام عليّعليه‌السلام أحد ولاته على بعض الأمصار بأن يقوم بها ـ وهو في موقع الحكم ـ باعتبار أنّ ذلك أحد مسؤوليّاته ووظائفه وهو يتولّى اُمور المسلمين إذ قال: « من الحقّ عليك حفظُ نفسك والاحتسابُ على الرَّعيّة بجهدك فإنّ الّذي يصلُ إليك من ذلك ( أي من جانب الله ) أفضلُ من الّذي يصلُ بك ( أي من جانب الناس ) ».

وقد أشار صاحب كتاب معالم القربة في أحكام الحسبة فروقاً بين المحتسب والمتطوّع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ قال: ( وأمّا ما بين المحتسب المتولّي من السلطان وبين المنكر المتطوّع من عدّة أوجه :

أحدها: أنّ فرضه متعيّن على المحتسب ـ بحكم الولاية ـ وفرضه على غيره داخل تحت فرض الكفاية.

الثاني: أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره، وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.

الثالث: أنّه منصوب للاستعداء إليه في ما يجب إنكاره، وليس المتطوّع منصوباً للاستعداء.

الرابع: على المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوّع إجابته.

الخامس: أنّ له أن يتّخذ على الإنكار أعواناً لأنّه عمل هو له منصوب، وإليه مندوب وليكون له أقهر، وعليه أقدر، وليس للمتطوّع أن يتّخذ لذلك أعواناً.

السادس: أنّ له أن يعزّر في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود، وليس للمتطوّع أن يعزّر.

السابع: أن يرتزق على حسبته من بيت المال وليس للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر إلى غير ذلك.

فهذه وجوه الفرق بين من يحتسب بولاية السلطان ( أي يقوم بالقسم الاجتماعيّ

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572