الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287693 / تحميل: 5228
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

ملاحظات

١ ـ حرية الارادة هي أساس خلق الإنسان ودعوة جميع الأنبياء ، وأساسا لا يستطيع الإنسان بدونها ان يخطو ولو خطوة واحدة في مسير التكامل «التكامل الانساني والمعنوي» ولهذا فقد اكّدت آيات متعددة على انّه لو شاء الله ان يهدي الناس بإجباره لهم جميعا لفعل ، لكنّه لم يشأ.

فيما يتعلق بالله هو الدعوة الى المسير الحق وتعريف الطريق ووضع العلامات ، والتنبيه ، على ما ينبغي الحذر منه وتعيين القائد للمسيرة البشرية والمنهج فحسب.

يقول القرآن الكريم :( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (١) كما يقول ايضا( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (٢) ويقول في سورة الشمس :( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) (٣) ونقرا ايضا في سورة الدهر الآية (٤) :( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) فعلى هذا فإنّ الآيات محل البحث من أوضح الآيات التي تؤكّد على حرية الارادة ونفي مذهب الجبر ، وتدل على انّ التصميم النهائي هو بيد الإنسان.

٢ ـ في الهدف من الخلق والوجود ، في آيات القرآن بيانات مختلفة ، وفي الحقيقة يشير كل واحد منها الى بعد من ابعاد هذا الهدف ، من هذه الآيات( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (٤) اي ليتكاملوا في مذهب العبادة وليبلغوا أعلى مقام للانسانية في هذا المذهب.

ونقرا في مكان آخر( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ

__________________

(١) الليل ، ١٢.

(٢) الغاشية ، ٢١.

(٣) الشمس ، ٨.

(٤) الذاريات ، ٥٦.

١٠١

عَمَلاً (١) .

امّا في الآية محل البحث فيقول :( وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) وكما تلاحظون فإنّ جميع هذه الخطوط تنتهي الى نقطة واحدة ، وهي تربية الناس وهدايتهم وتقدمهم وتكاملهم ، وكل ذلك يعدّ الهدف النهائي للخلق.

وفائدة هذا الهدف تعود للإنسان نفسه لا الى الله ، لانّ الله وجود مطلق لا نهاية له من جميع الجهات ، ومثل هذا الوجود لا نقص فيه ليرفعه ويزيله بالخلق.

٣ ـ وفي نهاية الآية الاخيرة تأكيد على الأمر الالهي بملء جنهم من الجن والانس أجمعين ، وبديهي انّ هذا الأمر المحتوم فيه شرط واحد وهو الخروج من دائرة رحمة الله ، والتقهقر عن هداية الرسل والادلّاء من قبله ، وبهذا الترتيب فإنّ هذه الآية لا يعتبر دليلا على مذهب الإجبار بل هي تأكيد جديد على مذهب الاختيار.

* * *

__________________

(١) الملك ، ٢.

١٠٢

الآيات

( وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣) )

التّفسير

اربع معطيات لقصص الماضين :

بانتهاء هذه الآيات تنتهي سورة هود ، وفي هذه الآيات استنتاج كلي لمجموع بحوث هذه السورة ، وبما انّ القسم الاهمّ من هذه السورة يتناول القصص التي تحمل العبر من سيره الأنبياء والأمم السابقة ، فإنّ هذه القصص تعطي نتائج قيّمة ملخّصة في اربعة مواضيع.

تقول هذه الآيات اوّلا :( وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ) . وكلمة «كلّا» اشارة الى تنوع هذه القصص ، وكل نوع منها يشير الى

١٠٣

اتّخاذ جبهة «قبال الأنبياء» ونوع من الانحرافات ونوع من العقاب ، وهذا التنوّع يلقي اشعة نيرة على ابعاد حياة الناس.

«تثبيت قلب النّبي»صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقوية ارادته ـ التي يشار إليها في هذه الآية ـ امر طبيعي ، لانّ معارضة الأعداء اللجوجين الشديدة والقاسية ـ رضينا ام أبينا ـ تؤثر على قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانّه انسان وبشر ايضا. ولكن من اجل ان لا ينفذ اليأس الى قلب النّبي المطهّر وتضعف ارادته الفولاذية من هذه المعارضة والمخالفات والمثبطات ، فإنّ الله يقص عليه قصص الأنبياء وما واجهوه ، ومقاومتهم قبال أممهم المعاندين ، وانتصارهم الواحد تلو الآخر ليقوي قلب النّبي والمؤمنين الذي يلتّفون حوله يوما بعد يوم.(١) .

ثمّ تشير الآية الى النتيجة الكبرى الثّانية فتقول الآيات : وجاءك في هذه الحق.

امّا ثالث الآثار ورابعها اللذان يستلفتان النظر هما( مَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

الطريف هنا انّ صاحب المنار يقول في تفسير الآية معقبا : انّ الإيجاز والاختصار في هذه الآية المعجزة في غاية ما يتصور ، حتى كأنّ جميع المعاجز السالفة قد جمعت في الآية نفسها وبيّنت فوائدها جميعا بعدّة جمل قصيرة.

وعلى اية حال ، فإنّ هذه الآية تؤكّد مرّة اخرى انّه لا ينبغي ان نعدّ قصص القرآن ملهاة او يستفاد منها لاشغال السامعين ، بل هي مجموعة من احسن الدروس الحياتية في جميع المجالات ، وطريق رحب لجميع الناس في الحاضر والمستقبل.

__________________

(١) ممّا ذكر في المتن يتّضح انّ مرجع الضمير في «هذه» يعود على «أَنْباءِ الرُّسُلِ » وعودة الضمير على هذه الكلمة لقربها وتناسبها مع البحوث الواردة في هذه الآية واضح جدّا ، لكنّ الاحتمالات الاخرى بأنّ المشار اليه هو «الدنيا» او «خصوص الآيات السابقة» فبعيد ، كما يبدو ، وما قاله كثير من المفسّرين من انّ المشار اليه هو «السورة» فقابل للمطابقة مع ما ذكرنا ، لانّ القسم الاهمّ من السورة يتناول قصص الأنبياء السابقين.

١٠٤

ثمّ تخاطب الآيات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يواجه أعداءه الذين يؤذونه ويظهرون اللجاجة والعناد ان واصل الطريق( وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) .

فستعلمون من الذي سينتصر ، انتظروا هزيمتنا كما تزعمون انتظارا غير مجد ، ونحن ننتظر العذاب من الله عليكم ، وهو ما ستذوقونه من قبلنا او من قبل الله مباشرة.

وهذه التهديدات التي تذكر بصيغة الأمر تلاحظ في أماكن اخرى من القرآن كقوله تعالى :( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (١) .

ونقرا في شأن الشيطان ايضا( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) (٢) .

وبديهي انّه لا يراد بأيّة صيغة من صيغ الأمر هنا طلب الفعل ، بل جميعها جاءت للتهديد والتنديد.

وآخر الآيات من هذه السورة تتحدث عن التوحيد «التوحيد المعرفي والتوحيد الافعالي ، وتوحيد العبادة» كما تحدثت الآيات الاولى من هذه السورة عن التوحيد ايضا.

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تشير الى ثلاث شعب من التوحيد ، توحيد علم الله اوّلا ، فغيب السّماوات والأرض خاص بالله وهو المطّلع عليها جميعا( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

امّا سواه فعلمه محدود ، وفي الوقت ذاته فإنّ هذا العلم ناشئ من التعليم الإلهي ، فعلى هذا فإنّ العلم غير المحدود ، والعلم الذاتي بالنسبة ما في السموات والأرض مخصوص بذات الله المقدسة.

__________________

(١) فصّلت ، ٤٠.

(٢) الاسراء ، ٦٤.

١٠٥

ومن جهة ثانية فإنّ ازمّة جميع الأفعال مرهونة بقدرته( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ) وهذه مرحلة توحيد الأفعال.

ثمّ تستنتج الآية انّه إذا علمت انّ الاحاطة والعلم غير المحدود والقدرة التي لا تنتهي جميعها مخصوص بذات الله المقدّسة( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) وهذه مرحلة توحيد العبادة.

فينبغي اجتناب العصيان والعناد والطغيان( وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ علم الغيب خاص بالله

كما تحدثنا بالتفصيل في تفسير الآية (١٨٨) من سورة الأعراف ، وفي تفسير الآية (٥٠) من سورة الانعام ، انّه لا مجال للتردد في انّ الاطلاع على الأسرار الخفية او الأسرار الماضية والآتية كله خاص بالله والآيات المختلفة من القرآن تؤكّد هذه الحقيقة وتؤيدها ايضا انّه ليس كمثله شيء وهو متفرد بهذه الصفة.

وإذا وجدنا في قسم من آيات القرآن بيان انّ الأنبياء قد يعلمون بعض الأمور الغيبية ، او قرانا في بعض الآيات او الرّوايات الكثيرة انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام عليّا والائمة المعصومينعليهم‌السلام قد يخبرون عمّا يجري في المستقبل من حوادث ويبيّنون اسرارا خفيّة منها ، فينبغي ان نعرف ان كل ذلك بتعليم الله سبحانه.

فهو سبحانه حيث يجد المصلحة يطلع عباده وأولياءه على قسم من اسرار الغيب ، ولكن هذا العلم لا هو علم ذاتي ولا غير محدود ، بل هو من تعليم الله وهو محدود بمقدار ما يريده الله.

١٠٦

وبهذا البيان تتّضح الاجابة على المنتقدين لعقيدة الشيعة في مجال على الغيب حيث يرون انّ الأنبياء والائمةعليهم‌السلام يعلمون الغيب.

وليس الاطلاع على علم الغيب من قبل الله خاصا بالأنبياء او الائمّة فقد يطلع الله غير النّبي والائمّة على غيبه ايضا فنحن نقرا في قصّة ام موسى في القرآن انّ الله قال لها :( وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (١) .

وقد يطلع الله لضرورة الحياة ـ أحيانا ـ الطيور والحيوانات على الأسرار الخفيّة وحتى على المستقبل البعيد نسبيّا ممّا يصعب علينا تصوّره وبهذا الترتيب قد تكون بعض المسائل التي نحسبها غيبا ، هذه المسائل نفسها بالنسبة للطيور او الحيوانات لا تعد من الغيب.

٢ ـ العبادة لله وحده

في الآية المتقدمة دليل لطيف على انّ العبادة لله وحده ، وهو انّه لو كانت العبادة من اجل العظمة وصفات الجمال ، والجلال فهذه الصفات قبل كل شيء موجودة في الله ، وامّا الآخرون فلا شيء بالنسبة اليه. واكبر دليل على عظمة الله علمه الواسع غير المحدود وقدرته اللامتناهية ، وقد اشارت الآية الآنفة الى انّهما مختصّان بالله.

وإذا كانت العبادة لأجل الالتجاء ـ في حلّ المشاكل ـ الى المعبود فإنّ مثل هذا العمل جدير بمن هو عليم بجميع حاجات العباد واسرارهم الخفيّة. وما يغيب عليهم ، وهو قادر على اجابة دعوتهم ، وبالنتيجة فإنّ توحيد الصفات يكون سببا لتوحيد العبادة (لاحظوا بدقّة).

٣ ـ قال بعض المفسّرين : انّ سير الإنسان في طريق عبودية الله ، لخّص كلّه

__________________

(١) القصص ، ٧.

١٠٧

في جملتين في هذه الآية( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) لانّ العبادة سواء كانت عبادة جسمانية كالعبادة العامّة ، او عبادة روحانية كالتفكّر في خلق الله ونظام اسرار الوجود ، هي بداية هذا السير.

والتوكّل الذي يعني الالتجاء المطلق الى الله وإيداع جميع الأشياء بيده ، بحيث يعدّ نوعا من «الفناء في الله» هو آخر نقطة من هذا السير.

وفي جميع هذا المسير من بدايته حتى نهايته يوجههم الى حقيقة توحيد الصفات ، ويعين السائرين في هذا المسير ويدعوهم الى البحث المقرون بالعشق لساحته.

اللهم ألهمنا معرفتك بصفات جلالك وجمالك.

وألهمنا ان نتحرك إليك بعرفان.

اللهم وفقنا لان نعبدك مخلصين ونتوكل عليك عاشقين.

اللهم أنت رجاؤنا وملاذنا في حل مشاكلنا ، ففي هذه الفترة من الزمن أحاطت بالمسلمين المشاكل من كل جانب ، وسعى اعداء الله لإطفاء نور هذه الصحوة المباركة ، فأنت وليّنا.

اللهم : لم نكن لنصل لهذه المرحلة لو لا تأييداتك الظاهرة والخفيّة التي اعانتنا للوصول إليها. نسألك ان لا تحرمنا من مواهبك العظيمة في ما بقي من الطريق ولا تقطع ـ ألطافك الخاصّة ـ عنّا.

ووفقنا برحمتك ان نواصل هذا التّفسير الذي يفتح نافذة جديدة على كتابك السّماويّ العظيم.

* * *

١٠٨

سورة يوسف

مكيّة وعدد آياتها مائة واحدى عشرة آية

١٠٩
١١٠

سورة يوسف

بداية سورة يوسف

قبل الدخول في تفسير آيات هذه السورة ينبغي ذكر عدّة امور :

١ ـ لا اشكال بين المفسّرين في انّ هذه السورة نزلت في مكّة ، سوى ما نقل عن ابن عباس انّ اربع آيات مدنية (الآيات الثلاث في اوّل السورة والآية السّابعة منها).

ولكن التدقيق في ارتباط هذه الآيات بعضها مع البعض الآخر في هذه السورة يجعلنا غير قادرين على التفكيك بينها ، فاحتمال نزول هذه الآيات الأربع في المدينة ـ على هذا الأساس ـ بعيد جدّا.

٢ ـ جميع آيات هذه السورة سوى الآيات القليلة التي تقع في نهاية السورة تبيّن قصّة نبيّ الله يوسفعليه‌السلام . القصّة الطّريفة والجميلة والتي تحمل بين طيّاتها العبر. ولذلك سمّيت هذه السورة باسم «يوسف» وبهذه المناسبة ـ ايضا ـ ورد ذكر يوسف ـ من مجموع (٢٧) مرّة في القرآن ـ (٢٥) مرّة في هذه السورة ومرّة واحدة في سورة غافر الآية (٣٤) ـ ومرّة أخرى في سورة الانعام الآية (٨٤).

ومحتوى هذه السورة ـ على خلاف سور القرآن الاخرى ـ مرتبط بعضه ببعض ، ويبيّن جوانب مختلفة من قصّة واحدة وردت في اكثر من عشرة فصول ، مع بيان اخاذ موجز ، عميق ، وطريف ومثير.

وبالرغم من انّ القصّاصين غير الهادفين ، او من لهم أغراض رخيصة سعوا الى ان يحوّلوا هذه القصّة المهذّبة الى قصّة عشق يحرك اهل الهوى والشهوة!!

١١١

وان يمسخوا الوجه الواقعي ليوسفعليه‌السلام بحيث بلغت الحال ان يصوروا «فيلما سينمائيا» وينشروه بصورة مبتذلة الّا انّ القرآن ـ وكلّ ما فيه أسوة وعبرة ـ عكس في ثنايا هذه القصّة اسمى دروس العفة وضبط النفس والتقوى والايمان ، حتى لو انّ إنسانا قراها عدة مرات فإنّه يتأثر ـ بدون اختيار ـ بأسلوبها الجذّاب في كل مرّة.

ولذا فقد عبّر القرآن عنها ب( أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) وجعل فيها العبر للمعتبرين( أُولِي الْأَلْبابِ ) .

٣ ـ التدقيق في آيات هذه السورة يكشف هذه الحقيقة للإنسان ، وهي انّ القرآن معجز في جميع ابعاده ، لان الابطال الذين يقدمهم في قصصه ابطال حقيقيّون لا خياليّون ، وكل واحد في نفسه منهم منعدم النظير : فإبراهيمعليه‌السلام : البطل الذي حطّم الأصنام بروحه العالية التي لا تقبل المساومة مع الطغاة.

ونوحعليه‌السلام : بطل الصبر والاستقامة والشفقة والقلب المحترق في ذلك العمر الطويل المبارك.

وموسىعليه‌السلام : البطل المربّي لقومه اللجوجين ، والذي وقف بوجه فرعون المتكبر الطاغي.

ويوسفعليه‌السلام : بطل الورع والتقوى والطهارة امام امراة محتالة جميلة عاشقة.

بعد هذا كلّه تتجلّى القدرة البيانية للوحي القرآني بصورة تحيّر الإنسان ، لانّ هذه القصّة ـ كما نعرف ـ تنتهي في بعض مواردها الى مسائل العشق ودون ان يمسخها القرآن او يتجاوزها يتعرض الى الاحداث في مسرحها بدقة بحيث لا يحس السامع شيء غير مطلوب فيها. ويذكر القضايا بأجمعها في المتن ، ولكن تحفّها اشعة قوية من التقوى والطهارة.

١١٢

٤ ـ قصّة يوسف قبل الإسلام وبعده

لا شكّ انّ قصّة يوسف كانت مشهورة ومعروفة بين الناس قبل الإسلام ، لانّها مذكورة في (١٤) فصلا من [سفر التكوين] في التوراة بين [الفصل ٣٧ ـ ٥٠] ذكرا مفصلا.

وبطبيعة الحال فإنّ المطالعة الدقيقة في هذه الفصول الاربعة عشر تكشف مدى الاختلاف بين ما جاء في التوراة وما جاء في القرآن.

وبالمقارنة بين نصّ التوراة ونصّ القرآن نجد انّ نصّ القصّة في القرآن في غاية الصدق وتخلو من اي خرافة.

وما يقوله القرآن للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ ) يشير الى قصّة يوسف التي عبّر عنها بأحسن القصص ، حيث لم يكن النّبي مطّلعا على حقيقتها الخالصة.

ويظهر من التوراة انّ يعقوبعليه‌السلام لما راى قميص يوسف ملطخا بالدم قال : هذا قميص ولدي وقد اكله الحيوان المفترس ، فيوسف ممزق الأحشاء ثمّ خرّق يعقوب ثوبه وشدّ الحزام على ظهره وجلس ايّاما للبكاء والنواح على يوسف ، وقد عزّاه جميع ابنائه ذكورا وإناثا الّا انه امتنع ان يقبل تعزيتهم وقال : سأدفن في القبر حزنا على ولدي.

بيد انّ القرآن يبيّن : انّ يعقوب لم يصدّق ما قاله أولاده ، ولم يفزع ولم يجزع لمصيبة ولده يوسف ، بل ادّى ما عليه من سنّة الأنبياء من الصبر والتوكل على الله ، وقال لأبنائه :( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ ) وان كان قلبه يحترق على فراق ولده وعيناه تدمعان من اجله حتى ابيضتا وعميتا ، ولكن ـ وكما يعبر القرآن ـ لم يقم بأي عمل من قبيل تخريق الثوب والنواح وشدّ الحزام على ظهره ـ والذي كان علامة للمصيبة و «العزاء» ـ وانّما قال : «صبر جميل» وكتم حزنه «فهو كظيم».

١١٣

وعلى كل حال فإنّ هذه القصّة ـ بعد الإسلام ـ تناقلتها أقلام مؤرخي الشرق والغرب وأحيانا مع أغصان وأوراق اضافية.

٥ ـ لم ذكرت قصّة يوسف في مكان واحد على خلاف قصص سائر الأنبياء؟!

انّ من خصائص قصّة يوسف البارزة انّ هذه القصّة ذكرت في مكان واحد من القرآن ، على خلاف قصص الأنبياء التي ذكرت على شكل فصول مستقلة في سور متعددة من القرآن.

والحكمة في ذلك تعود الى ان تفكيك فصول هذه القصّة مع ملاحظة وضعها الخاص يفقدها ترابطها وانسجامها ، فلهذا ينبغي ان تذكر كاملة في مكان واحد للحصول على النتيجة المتوخاة وعلى سبيل المثال فان الرؤيا وما ذكره أبوه من تعبير في اوّل هذه السورة يفقد معناه دون ذكر نهايتها.

لذلك نقرا في أواخر هذه السورة ، حين جاء يعقوب واخوة يوسف الى مصر وخرّوا له سجّدا قال يوسف ملتفتا الى أبيه :( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ) (١) .

هذا النموذج يوضح الارتباط الوثيق بين بداية السورة ونهايتها ، في حين انّ قصص الأنبياء الآخرين ليست على هذه الشاكلة ، ويمكن درك كل واحدة من خلال فصولها.

والخصيصة الاخرى خصائص هذه السورة هي انّ قصص الأنبياء التي وردت في السور الاخرى من القرآن تبيّن عادة مواجهة الأنبياء لقومهم المعاندين والطغاة ، ثمّ تنتهي الحالة الى ايمان جماعة بالأنبياء ومخالفة جماعة اخرى لهم واستحقاقهم عذاب الله وعقابه.

__________________

(١) الآية ١٠٠.

١١٤

امّا في قصّة يوسف فلا كلام عن هذا الموضوع ، بل اكثر ما فيها بيان حياة يوسف نفسه ونجاته من المزالق الخطيرة التي تنتهي أخيرا الى استلامه سدّة الحكم ، وهي في حدّ ذاتها «أنموذج» خاص.

٦ ـ فضيلة سورة يوسف

وردت في الرّوايات الاسلامية فضائل مختلفة في تلاوة هذه السورة ، ونقرا من ضمنها حديثا عن الامام الصادقعليه‌السلام حيث يقول : «من قرا سورة يوسف في كل يوم او في كل ليلة ، بعثه الله يوم القيامة وجماله مثل جمال يوسف ، ولا يصيبه فزع يوم القيامة ، وكان من خيار عباد الله الصالحين»(١) .

انّ الرّوايات التي وردت في فضائل سور القرآن ـ كما قلنا مرارا ـ ليس معناها القراءة السطحيّة دون تفكر وعمل ، بل تلاوة تكون مقدمة للتفكر التفكر الذي يجر الى العم ، ومع ملاحظة محتوى هذه السورة يتّضح ان من يستلهم خطة حياته من هذه القصّة ، ويعفّ نفسه امام طوفان شديد من الشّهوات والمال والجاه والمقام ، الى درجة يرى بها خفرة السجن المظلمة مقرونة بطهارة الثوب أفضل من الحياة في قصور الملوك الملوّثة ، فإنّ مثل هذا الشخص في جمال روحه كجمال يوسف ، وما من خفيّ الّا ظهر يوم القيامة وسيجد له جمالا مذهلا ويكون في صف عباد الله الصالحين.

وممّا يلزم ذكره انّه ورد في عدد من الأحاديث النهي عن تعليم هذه السورة «للنساء» ، ولعلّ السرّ في ذلك هو ما في الآيات المرتبطة بامراة عزيز مصر فبالرغم من سرد القصّة في بيان عفيف ، الّا انّها سبب لتحريك بعض النساء ايضا وقد جاء التأكيد على تعليم سورة «النّور» المشتملة على آيات الحجاب للنساء بدلا من سورة يوسف.

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير الآية.

١١٥

ولكن سند هذه الرّوايات بشكل عام لا يعتمد عليه ، اضافة الى ذلك فقد ورد في بعض الرّوايات الاخرى خلاف ذلك حيث ترغّب في تعليم هذه السورة للعائلة. وبعد هذا كلّه فإنّه التدقيق في آيات هذه السورة يكشف انّ هذه السورة ، ليس فيها ايّة نقطة سلبية بالنسبة للنساء ، وليس هذا فحسب ، بل ان ما جرى لامراة عزيز مصر ، درس فيه عبرة لجميع النسوة اللائي يبتلين بالوساوس الشيطانيّة.

* * *

١١٦

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) )

التّفسير

احسن القصص بين يديك :

تبدا هذه السورة بالحروف المقطعة «الف. لام. راء» وهي دلالة على عظمة القرآن ، وانّ تركيب هذه الآيات ذات المحتوى العميق متكوّن من ابسط الاجزاء ، وهي حروف الهجاء «الف ـ باء إلخ» وقد تحدثنا عن الحروف المقطعة في القرآن ـ حتى الآن ـ في ثلاثة مواضع «بداية سورة البقرة ، وآل عمران ، والأعراف» بقدر كاف فلا ضرورة للتكرار ، واثبتنا دلالتها على عظمة القرآن.

وربّما كان لهذا السبب ان تأتي الاشارة ـ بعد هذه الحروف المقطعة مباشرة ـ الى بيان عظمة القرآن في هذه السورة ، فتقول :( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) .

وممّا يستلفت النظر انّه استفيد من اسم الاشارة «تلك» في هذه الآية للبعيد ، نظير ما جاء في بداية سورة البقرة وبعض السور القرآنية الاخرى. وقد قلنا : انّ

١١٧

مثل هذه التعبيرات جميعا يشار بها الى عظمة هذه الآيات ، اي انّها بدرجة من الرفعة والعلوّ كأنّها في نقطة بعيدة لا يمكن الوصول إليها ببساطة ، بل بالسعي والجدّ المتواصل فهي في أوج السّماوات وفي اعالي الفضاء اللامتناهي ، لا انّها مطالب ومفاهيم رخيصة يحصل عليها الإنسان في كل خطوة.

ثمّ يأتي البيان عن الهدف من نزول الآيات فيقول :( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

فالهدف اذن ليس القراءة او التلاوة او التيمّن او التبرك بتلاوة هذه الآيات فحسب ، بل الهدف الاساسي هو الإدراك الإدراك القوي الذي يدعو الإنسان الى العمل بجميع وجوده.

وامّا سرّ كون القرآن عربيا فهو بالاضافة الى انّ اللغة العربية واسعة كما يشهد بذلك اهل المعرفة باللغات المختلفة من العالم ، بحيث تستطيع ان تكون ترجمانا للسان الوحي ، وان تبيّن المفاهيم الدقيقة لكلام الله سبحانه ، فمن المسلم به ـ بعد هذا ـ انّ نور الإسلام بزغ في جزيرة العرب التي كانت منطلقا للجاهلية والظلمة والتوحّش والبربرية ، ومن اجل ان يجمع اهل تلك المنطقة حول نفسه فينبغي ان يكون القرآن واضحا مشرقا ، ليعلّم اهل الجزيرة الذين لا حظ لهم من الثقافة والعلم والمعرفة ، ويخلق بذلك مركزا محوريا لانتشار هذا الدين الى سائر نقاط العالم.

وبطبيعة الحال فإنّ القرآن بهذه اللغة «العربيّة» لا يتيسّر فهمه لجميع الناس في العالم (وهذا شأن اية لغة اخرى) لانّنا لا نملك لغة عالمية ليفهمها جميع الناس ، ولكن ذلك لا يمنع من ان يستفيد من في العالم من تراجم القرآن ، او ان يطلعوا تدريجا على هذه اللغة ليتلمسوا الآيات نفسها ويدركوا مفاهيم الوحي في طيّات هذه الألفاظ.

وعلى كل حال فالتعبير بكون القرآن عربيا ـ الذي تكرر في عشرة موارد

١١٨

من القرآن ـ جواب لأولئك الذين يتهمون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه تعلم القرآن من اعجمي ، وانّ محتوى القرآن مستورد وليس وحيا الهيا.

وهذه التعبيرات المتتابعة تحتم ضمنا وظيفة مفروضة على جميع المسلمين ، وهي ان يسعوا جميعا الى معرفة اللغة العربية وان تكون اللغة الثانية الى جانب لغتهم ، لانّها لغة الوحي ومفتاح فهم حقائق الإسلام.

ثمّ يقول سبحانه :( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ ) .

يعتقد بعض المفسّرين انّ( أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) اشارة الى مجموع القرآن ، وانّ جملة( بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ) قرينة على ذلك. والقصّة هنا ليست بمعنى سرد الحكاية ، بل المراد معناها «الجذري» في اللغة وهو البحث عن آثار الشيء. وبما انّ اي موضوع ـ حين يشرح ويفصّل ـ يبيّن بكلمات متتابعة ، فلذلك يطلق عليه قصّة ايضا.

وعلى كل حال فإنّ الله سبحانه عبّر ب( أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) عن مجموع هذا القرآن الذي جاء في أجمل البيان والشرح ، وافصح الألفاظ وأبلغها ، مقرونة بأسمى المعاني وادقّها ، بحيث يبدو ظاهره عذبا جميلا ، ومن حيث الباطن فمحتواها عظيم.

ونشاهد في روايات متعددة انّ هذا التعبير استعمل في مجموع القرآن ، رغم انّ هذه الرّوايات لم ترد في تفسير هذه الآية ـ محل بحثنا ـ.

فمثلا نقرا حديثا نقله علي بن ابراهيم عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «انّ احسن القصص هذا القرآن»(١) .

كما نقل في روضة الكافي عن خطبة لأمير المؤمنين قوله : ان احسن

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٤٩.

١١٩

القصص وابلغ الموعظة وانفع الذكر كتاب الله»(١) .

ولكنّ ارتباط الآيات المقبلة التي تبيّن قصّة يوسفعليه‌السلام مع هذه الآية ـ محل البحث ـ بشكل يشدّ ذهن الإنسان الى هذا المعنى ، وهو انّ الله عبر عن قصّة يوسف بأحسن القصص وربّما لا ينقدح في أذهان الكثيرين ممن يطالعون بداية آيات هذه السورة غير هذا المعنى.

وقلنا مرارا انّه لا مانع من ان تكون مثل هذه الآيات للمعنيين جميعا فالقرآن هو احسن القصص بصورة عامّة ، وقصّة يوسف هي احسن القصص بصورة خاصّة.

ولم لا تكون هذه القصّة احسن القصص ، مع انّها ترسم في فصولها المثيرة اسمى دروس الحياة؟!

فنحن نشاهد حاكمية ارادة الله على كل شيء هذه القصّة ، وننظر بأعيننا المصير الأسود الذي انتهى اليه الحسّاد وما رقموه على الماء من خطط.

كما تتجسم من خلال سطورها الذلة في الابتذال وعدم العفة ، والعظمة في التقوى ومنظر الصبيّ وهو وحيد في قعر الجبّ ، وفي مشهد آخر نراه يقضي الليالي والايّام دون ذنب في حفرة السجن المظلم ، ثمّ انبثاق نور الأمل من خلف حجب اليأس والظّلمات ، ثمّ نشاهد بعد ذلك حكومته العظيمة الواسعة نتيجة دراسته وأمانته. كل هذه المشاهد تتجلّى للقارىء لهذه القصّة بشكل رتيب.

لحظات وبسبب رؤيا يتحول مصير امّة انقاذ امّة ومجتمع بشري من الهلكة على يد قائد الهي متيقظ وعشرات الدروس الاخرى ـ الكبيرة ـ التي تلوح في هذه القصّة ، فلم لا تكون هذه القصّة احسن القصص؟!

غاية ما في الأمر أنّه لا تكفي أن تكون قصّة يوسف وحدها هي احسن القصص ، بل المهم ان تكون فينا الجدارة لانّ نفهم هذا الدرس العظيم وان نعرف

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٤٩.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

ومن المعلوم أنّ وقوع الخطاء في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين ورفع الاختلاف عن الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعيّ في سدّ طريق استكمال النوع الإنسانيّ، وإضلاله هذا النوع في سيره إلى سعادته، فيعود المحذور من رأس.

قلت: الأبحاث السابقة تكفي مؤنة حلّ هذه العقدة، فإنّ الّذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعليّة أعني الأمر الروحي الّذي يرفع الاختلاف إنّما هو الناموس التكوينيّ الّذي هو الإيصال التكوينيّ لكلّ نوع من الأنواع الوجوديّة إلى كماله الوجوديّ وسعادته الحقيقيّة، فإنّ السبب الّذي أوجب وجود الإنسان في الخارج وجوداً حقيقيّاً كسائر الأنواع الخارجيّة هو الّذي يهديه هداية تكوينيّة خارجيّة إلى سعادته، ومن المعلوم أنّ الاُمور الخارجيّة من حيث أنّها خارجيّة لا تعرضها الخطاء والغلط، أعني: أنّ الوجود الخارجيّ لا يوجد فيه الخطاء والغلط لوضوح أنّ ما في الخارج هو ما في الخارج! وإنّما يعرض الخطاء والغلط في العلوم التصديقيّة والاُمور الفكريّة من جهة تطبيقها على الخارج فإنّ الصدق والكذب من خواصّ القضايا، تعرضها من حيث مطابقتها للخارج وعدمها، وإذا فرض أنّ الّذي يهدي هذا النوع إلى سعادته ورفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الإيجاد والتكوين لزم أن لا يعرضه غلط ولا خطاء في هدايته، ولا في وسيلة هدايته الّتي هي روح النبوّة وشعور الوحى، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح والشعور في وجود النبيّ، ولا هذا الشعور الّذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده وسعادته عن شقائه، ولو فرضنا له غلطاً وخطائاً في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط والخطاء، فمن الواجب أن يقف أمر التكوين على صواب لا خطاء فيه ولا غلط.

فظهر: أنّ هذا الروح النبويّ لا يحلّ محلّاً إلّا بمصاحبة العصمة، وهي المصونيّة عن الخطاء في أمر الدين والشريعة المشرّعة، وهذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا إليه سابقاً، فإنّ هذه عصمة في تلقّي الوحى من الله سبحانه، وتلك عصمة في مقام العمل والعبوديّة، وهناك مرحلة ثالثة من العصمة وهي العصمة في تبليغ الوحى، فإنّ كلتيهما واقعتان في طريق سعادة الإنسان التكوينيّة وقوعاً تكوينيّاً،

١٦١

ولا خطاء ولا غلط في التكوين.

وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام وهو: أنّه لم لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطنيّ مثل الشعور الفطريّ المشترك أعني الشعور الفكريّ في نحو الوجود بأن يكون محكوماً بحكم التغيّر والتأثّر؟ فإنّ الشعور الفطريّ وإن كان أمراً غير مادّيّ، ومن الاُمور القائمة بالنفس المجرّدة عن المادّة إلّا أنّه من جهة ارتباطه بالمادّة يقبل الشدّة والضعف والبقاء والبطلان كما في مورد الجنون والسفاهة والبلاهة والغباوة وضعف الشيب وسائر الآفات الواردة على القوى المدركة، فكذلك هذا الشعور الباطنيّ أمر متعلّق بالبدن المادّيّ نحواً من التعلّق، وإن سلّم أنّه غير مادّيّ في ذاته فيجب أن يكون حاله حال الشعور الفكريّ في قبول التغيّر والفساد، ومع إمكان عروض التغيّر والفساد فيه يعود الإشكالات السابقة البتّة.

والجواب: أنّا بيّنّا أن هذا السوق أعني سوق النوع الإنسانيّ نحو سعادته الحقيقيّة إنّما يتحقّق بيد الصنع والإيجاد الخارجيّ دون العقل الفكريّ، ولا معنى لتحقّق الخطاء في الوجود الخارجيّ.

وأمّا كون هذا الشعور الباطنيّ في معرض التغيّر والفساد لكونه متعلّقاً نحو تعلّق بالبدن فلا نسلّم كون كلّ شعور متعلّق بالبدن معرضاً للتغيّر والفساد، وإنّما القدر المسلّم من ذلك هذا الشعور الفكريّ (وقد مرّ أنّ الشعور النبويّ ليس من قبيل الشعور الفكريّ) وذلك أنّ من الشعور شعور الإنسان بنفسه، وهو لا يقبل البطلان والفساد والتغيّر والخطاء فإنّه علم حضوريّ معلومه عين المعلوم الخارجيّ، وتتمّة هذا الكلام موكول إلى محلّه.

فقد تبيّن ممّا مرّ اُمور:أحدها: انسياق الاجتماع الإنساني إلى التمدّن والاختلاف.

ثانيها: أنّ هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع ولن يرتفع بما يضعه العقل الفكريّ من القوانين المقرّرة.

ثالثها: أنّ رافع هذا الاختلاف إنّما هو الشعور النبويّ الّذي يوجده الله سبحانه

١٦٢

في بعض آحاد الإنسان لا غير.

رابعها: أنّ سنخ هذا الشعور الباطنيّ الموجود في الأنبياء غير سنخ الشعور الفكريّ المشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان.

خامسها: أنّ هذا الشعور الباطنيّ لا يغلط في إدراكه الاعتقادات والقوانين المصلحة لحال النوع الإنسانيّ في سعادته الحقيقيّة.

سادسها: أنّ هذه النتائج (ويهمّنا من بينها الثلثة الأخيرة أعني: لزوم بعثة الأنبياء، وكون شعور الوحى غير الشعور الفكريّ سنخاً، وكون النبيّ معصوماً غير غالط في تلقّي الوحى) نتائج ينتجها الناموس العامّ المشاهد في هذه العالم الطبيعيّ، وهو سير كلّ واحد من الأنواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجوديّة الّتي جهّزتها بوسائل السير نحو سعادته والوصول إليها والتلبّس بها، والإنسان أحد هذه الأنواع، وهو مجهّز بما يمكنه به أن يعتقد الاعتقاد الحقّ ويتلبّس بالملكات الفاضلة، ويعمل عملاً صالحاً في مدينة صالحة فاضلة، فلا بدّ أن يكون الوجود يهيّئ له هذه السعادة يوماً في الخارج ويهديه إليه هداية تكوينيّة ليس فيها غلط ولا خطاء على ما مرّ بيانه.

١٦٣

( سورة البقرة آية ٢١٤)

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( ٢١٤ )

( بيان)

قد مرّ أنّ هذه الآيات آخذة من قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ) ، تثبيت لما تدلّ عليه الآيات السابقة، وهو أنّ الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونعمة حباهم الله بها، فمن الواجب أن يسلّموا له ولا يتّبعوا خطوات الشيطان، ولا يلقوا فيه الاختلاف، ولا يجعلوا الدواء دائاً، ولا يبدّلوا نعمة الله سبحانه كفراً ونقمة من اتّباع الهوى وابتغاء زخرف الدنيا وحطامها فيحلّ عليهم غضب من ربّهم كما حلّ ببني إسرائيل حيث بدّلوا نعمة الله من بعد ما جائتهم، فإنّ المحنة دائمة، والفتنة قائمة، ولن ينال أحد من الناس سعادة الدين وقرب ربّ العالمين إلّا بالثبات والتسليم.

وفي الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة، فإنّ أصل الخطاب كان معهم ووجه الكلام إليهم في قوله: يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة، وإنّما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلاميّة أوجبت ذلك، وبعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانياً

وكلمة أم منقطعة تفيد الإضراب، والمعنى على ما قيل: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنّة الخ، والخلاف في أم المنقطعة معروف، والحقّ أنّ أم لإفاده الترديد، وأنّ الدلالة على معنى الإضراب من حيث انطباق معنى الإضراب على المورد، لا أنّها دلالة وضعيّة، فالمعنى في المورد مثلاً: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الإيمان والثبات على

١٦٤

نعمة الدين، والاتّفاق والاتّحاد فيه أم لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنّة الخ.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ) ، المثل بكسر الميم فسكون الثاء، والمثل بفتح الميم والثاء كالشبه والشبه، والمراد به ما يمثّل الشئ ويحضره ويشخّصه عند السامع، ومنه المثل بفتحتين، وهو الجملة أو القصّة الّتي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيليّة كما قال تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، ومنه أيضاً المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ) الفرقان - ٩، وإنّما قالوا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مجنون وساحر وكذّاب ونحو ذلك، وحيث أنّه تعالى يبيّن المثل الّذي ذكره بقوله: مسّتهم البأساء والضرّاء إلخ فالمراد به المعنى الأوّل.

قوله تعالى: ( مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ ) إلى آخره لمّا اشتدّ شوق المخاطب ليفهم تفصيل الإجمال الّذي دلّ عليه بقوله: ولمّا يأتكم مثل الّذين، بيّن ذلك بقوله: مسّتهم البأساء والضرّاء والبأساء هو الشدّة المتوجّهة إلى الإنسان في خارج نفسه كالمال والجاه والأهل والأمن الّذي يحتاج إليه في حياته، والضرّاء هي الشدّة الّتي تصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزلة والزلزال معروف وأصله من زلّ بمعنى عثر، كرّرت اللفظة للدلالة على التكرار كأنّ الأرض مثلاً تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة، وهو كصّر وصرصر، وصّل وصلصل، وكبّ وكبكب، والزلزال في الآية كناية عن الاضطراب والادّهاش.

قوله تعالى: ( حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) ، قرء بنصب يقول، والجملة على هذا في محلّ الغاية لما سبقها، وقرء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، والمعنيان وإن كانا جميعاً صحيحين لكنّ الثاني أنسب للسياق، فإنّ كون الجملة غاية يعلّل بها قوله: وزلزلوا لا يناسب السياق كلّ المناسبة.

قوله تعالى: ( مَتَىٰ نَصْرُ اللَّه ) ، الظاهر أنّه مقول قول الرسول والّذين آمنوا معه جميعاً، ولا ضير في أن يتفّوّه الرسول بمثل هذا الكلام استدعائاً وطلباً للنصر الّذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم كما قال تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا

١٦٥

الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ) الصافّات - ١٧٢، وقال تعالى:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة - ٢١، وقد قال تعالى أيضاً:( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) يوسف - ١١٠، وهو أشدّ لحناً من هذه الآية.

والظاهر أيضاً أنّ قوله تعالى: ألا إنّ نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمّة لقول الرسول والّذين آمنوا معه

والآية (كما مرّت إليه الإشارة سابقاً) تدلّ على دوام أمر الابتلاء والامتحان وجريانه في هذه الاُمّة كما جرى في الاُمم السابقة.

وتدل أيضاً على اتّحاد الوصف والمثل بتكرّر الحوادث الماضية غابراً، وهو الّذي يسمّى بتكرّر التاريخ وعوده.

١٦٦

( سورة البقرة آية ٢١٥)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢١٥ )

( بيان)

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ ) ، قالوا: إنّ الآية واقعة على اُسلوب الحكمة، فإنّهم إنّما سألوا عن جنس ما ينفقون ونوعه، وكان هذا السؤال كاللّغو لمكان ظهور ما يقع به الإنفاق وهو المال على أقسامه، وكان الأحقّ بالسؤال إنّما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرّض بحاله وبيان أنواعه ليكون تنبيهاً لهم بحقّ السؤال.

والّذي ذكروه وجه بليغ غير أنّهم تركوا شيئاً، وهو أنّ الآية مع ذلك متعرّضه لبيان جنس ما ينفقونه، فإنّها تعرّضت لذلك: أوّلاً بقولها: من خير، إجمالاً، وثانياً بقولها: وما تفعّلوا من خير فإنّ الله به عليم، ففي الآية دلالة على أنّ الّذي ينفق به هو المال كائناً ما كان، من قليل أو كثير، وأنّ ذلك فعل خير والله به عليم، لكنّهم كان عليهم أن يسألوا عمّن ينفقون لهم ويعرفوه، وهم: الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل.

ومن غريب القول ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ المراد بما في قوله تعالى: ماذا له ينفقون ليس هو السؤال عن المهيّة فإنّه اصطلاح منطقيّ لا ينبغي أن ينزّل عليه الكلام العربيّ ولا سيّما أفصح الكلام وأبلغه، بل هو السؤال عن الكيفيّة، وأنّهم كيف ينفقونه، وفي أيّ موضع يضعونه، فاُجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة!.

ومثله وهو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: أنّ السؤال وإن كان بلفظ ما إلّا أنّ

١٦٧

المقصود هو السؤال عن الكيفيّة فإنّ من المعلوم أنّ الّذي ينفق به هو المال، وإذا كان هذا معلوماً لم يذهب إليه الوهم، وتعيّن أنّ السؤال عن الكيفيّة، نظير قوله تعالى:( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) البقرة - ٧٠، فكان من المعلوم أنّ البقرة بهيمة نشأتها وصفتها كذا وكذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على طلب المهيّة، فكان من المتعيّن أن يكون سؤالاً عن الصفة الّتي بها تمتاز البقرة من غيرها، ولذلك اُجيب بالمطابقة بقوله تعالى:( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ ) الآية البقرة - ٧١.

وقد اشتبه الأمر على هؤلاء، فإنّ ما وإن لم تكن موضوعة في اللغة لطلب المهيّة الّتي اصطلح عليها المنطق، وهي الحدّ المؤلّف من الجنس والفصل القريبين، لكنّه لا يستلزم أن تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفيّة، حتّى يصحّ لقائل أن يقول عند السؤال عن المستحقّين للانفاق: ماذا اُنفق: أي على من اُنفق؟ فيجاب عنه بقوله: للوالدين والأقربين، فإنّ ذلك من أوضح اللحن.

بل ما موضوعة للسؤال عما يعرّف الشئ سواء كان معرّفاً بالحدّ والمهيّة، أو معرّفاً بالخواصّ والأوصاف، فهي أعمّ ممّا اصطلح عليه في المنطق لا أنّها مغايرة له وموضوعة للسؤال عن كيفيّة الشيئ، ومنه يعلم أنّ قوله تعالى:( يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ) وقوله تعالى:( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ ) سؤال وجواب جاريان على أصل اللغة، وهو السؤال عمّا يعرّف الشئ ويخصّه والجواب بذلك.

وأمّا قول القائل: إنّ المهيّة لمّا كانت معلومة تعيّن حمل ما على السؤال عن الكيفيّة دون المهيّة فهو من أوضح الخطاء، فإنّ ذلك لا يوجب تغيّر معنى الكلمة ممّا وضع له إلى غيره. ويتلوهما في الغرابة قول من يقول: إنّ السؤال كان عن الأمرين جميعاً: ما ينفقون؟ وأين ينفقون فذكر أحد السؤالين وحذف الآخر، وهو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه! وهو كما ترى.

وكيف كان لا ينبغي الشكّ في أنّ في الآية تحويلاً ما للجواب إلى جواب آخر تنبيهاً على أنّ الأحقّ هو السؤال عن من ينفق عليهم، وإلّا فكون الإنفاق من الخير

١٦٨

والمال ظاهر، والتحوّل من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحوّل إليه والاشتغال به كثير الورود في القرآن، وهو من ألطف الصنائع المختصّة به كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١ وقوله تعالى:( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ) آل عمران - ١١٧ وقوله تعالى:( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ) البقرة - ٢٦١، وقوله تعالى:( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء - ٨٩، وقوله تعالى:( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ) الفرقان - ٥٧، وقوله تعالى:( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات - ١٦٠، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.

قوله تعالى: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ، في تبديل الإنفاق من فعل الخير هيهنا كتبديل المال من الخير في أوّل الآية إيماء إلى أنّ الإنفاق وإن كان مندوباً إليه من قليل المال وكثيره، غير أنّه ينبغي أن يكون خيراً يتعلّق به الرغبة وتقع عليه المحبّة كما قال تعالى:( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران - ٩٢، وكما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ) البقرة - ٢٦٧.

وايماء إلى أن الإنفاق ينبغى أن لا يكون على نحو الشرّ كالإنفاق بالمنّ والأذى كما قال تعالى:( ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) البقرة - ٢٦٢، وقوله تعالى:( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) البقرة - ٢١٩.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور عن ابن عبّاس قال ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب محمّد ما سألوه إلّا عن ثلاث عشرة مسألة حتّى قبض، كلّهنّ في القرآن، منهنّ: يسئلونك عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام، ويسألونك عن اليتامى، ويسألونك عن المحيض، ويسألونك عن الأنفال، ويسألونك ماذا ينفقون، ما كانوا يسألون إلّا عمّا كان ينفعهم.

١٦٩

في المجمع في الآية: نزلت في عمرو بن الجموح - وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير - فقال: يا رسول الله! بماذا أتصدّق؟ وعلى من أتصدّق؟ فأنزل الله هذه الآية.

اقول: ورواه في الدرّ المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيّان، وقد استضعفوا الرواية، وهي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلّا السؤال عمّا يتصدّق به دون من يتصدّق عليه.

ونظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضاً عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير، فذلك النفقة في التطوّع، والزكوة سوى ذلك كلّه.

ونظيرها في ذلك أيضاً ما رواه عن السدّي، قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدّق بها فنسختها الزكاة.

اقول: وليست النسبة بين آية الزكاة:( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) التوبة - ١٠٣، وبين هذه الآية نسبه النسخ وهو ظاهر إلّا أن يعني بالنسخ معنى آخر.

١٧٠

( سورة البقرة آية ٢١٦ - ٢١٨)

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٢١٦ ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢١٧ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢١٨ )

( بيان)

قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) ، الكتابة كما مرّ مراراً ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقاً لبيان التشريع، وفي القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدلّ على فرض القتال على كافّة المؤمنين لكون الخطاب متوجّهاً إليهم إلّا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى:( يْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) النور - ٦١، وغير ذلك من الآيات والأدلّة.

ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيّلة بقوله:( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) وهو لا يناسب إظهار الفاعل صوناً لمقامه عن الهتك، وحفظاً لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحاً مورداً لكراهة المؤمنين.

والكره بضمّ الكاف المشقّة الّتي يدركها الإنسان من نفسه طبعاً أو غير ذلك، والكره بفتح الكاف: المشقّة الّتي تحمّل عليه من خارج كأن يجبره إنسان آخر على

١٧١

فعل ما يكرهه، قال تعالى:( لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًاً ) النساء - ١٩، وقال تعالى:( فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًاً ) فصّلت - ١١، وكون القتال المكتوب كرهاً للمؤمنين إمّا لأنّ القتال لكونه متضمّناً لفناء النفوس وتعب الأبدان والمضارّ الماليّة وارتفاع الأمن والرخص والرفاهية، وغير ذلك ممّا يستكرهه الإنسان في حياته الإجتماعيّة لا محالة كان كرهاً وشاقّاً للمؤمنين بالطبع، فإنّ الله سبحانه وإن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، وذكر أنّ فيهم رجالاً صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنّه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل، وهو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر واُحد والخندق وغيرها، ومعلوم أنّ من الجائز أن ينسب الكراهة والتثاقل إلى قوم فيهم كاره وغير كاره وأكثرهم كارهون، فهذا وجه.

وإمّا لأنّ المؤمنين كانوا يرون أنّ القتال مع الكفّار مع ما لهم من العدّة والقوّة لا يتمّ على صلاح الإسلام والمسلمين، وأنّ الحزم في تأخيره حتّى يتمّ لهم الاستعداد بزيادة النفوس وكثرة الأموال ورسوخ الاستطاعة، ولذلك كانوا يكرهون الإقدام على القتال والاستعجال في النزال، فبيّن تعالى أنّهم مخطئون في هذا الرأي والنظر، فإنّ لله أمراً في هذا الأمر هو بالغه، وهو العالم بحقيقة الأمر وهم لا يعلمون إلّا ظاهره وهذا وجه آخر.

وإمّا لأنّ المؤمنين لكونهم متربّين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفّار لكونه مؤدّياً إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، ولم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبّون أن يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة، والدعوة الحسنة لعلّهم يسترشدوا بذلك، ويدخلوا تحت لواء الإيمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، ونفوس الكفّار من الهلاك الأبديّ والبوار الدائم، فبيّن ذلك أنّهم مخطئون في ذلك، فإنّ الله - وهو المشّرع لحكم القتال - يعلم أنّ الدعوة غير مؤثّرة في تلك النفوس الشقيّة الخاسرة، وأنّه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنياً أو آخرة، فهم في الجامعة الإنسانيّة كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الأعضاء، الّذي لا ينجع فيه علاجٌ دون

١٧٢

أن يقطع ويرمي به، وهذا أيضاً وجه.

فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى:( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) إلّا أنّ الأوّل أنسب نظراً إلى ما اُشير إليه من آيات العتاب، على أنّ التعبير في قوله: كتب عليكم القتال، بصيغة المجهول على ما مرّ من الوجه يؤيّد ذلك.

قوله تعالى: ( وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) ، قد مرّ فيما مرّ أنّ أمثال عسى ولعلّ في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجيّ، وليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلّم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنّما يقول: عسى أن يكون كذا لا لأنّه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو السامع.

وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبّين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطائهم في الأمرين جميعاً، بيان ذلك: أنّه لو قيل: عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم أو تحبّوا شيئاً وهو شرٌّ لكم، كان معناه أنّه لا عبرة بكرهكم وحبّكم فإنّهما ربّما يخطئان الواقع، ومثل هذا الكلام إنّما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحداً كمن يكره لقاء زيد فقط، وأمّا من أخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحبّ الاعتزال، فالّذي تقتضيه البلاغة أن يشار إلى خطائه في الأمرين جميعاً، فيقال له: لا في كرهك أصبت، ولا في حبّك اهتديت، عسى أن تكره شيئاً وهو خير لك وعسى أن تحبّ شيئاً وهو شرّ لك لأنّك جاهل لا تقدر أن تهتدي بنفسك إلى حقيقة الأمر، ولمّا كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبّين للسلم كما يشعر به أيضاً قوله تعالى سابقاً: أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الّذين خلوا من قبلكم، نبّههم الله بالخطائين بالجملتين المستقلّتين وهما: عسى أن تكرهوا، وعسى أن تحبّوا.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ، تتميم لبيان خطائهم، فإنّه تعالى تدرّج في بيان ذلك إرفاقاً بأذهانهم، فأخذ أوّلاً بإبداء احتمال خطائهم في كراهتهم للقتال بقوله: عسى أن تكرهوا، فلمّا اعتدلت أذهانهم بحصول الشكّ فيها، وزوال صفة الجهل المركّب كرّ عليهم ثانياً بأنّ هذا الحكم الّذي كرهتموه أنتم إنّما شرّعه

١٧٣

الله الّذي لا يجهل شيئاً من حقائق الاُمور، والّذي ترونه مستند إلى نفوسكم الّتي لا تعلم شيئاً إلّا ما علّمها الله إيّاه وكشف عن حقيقته، فعليكم أن تسلّموا إليه سبحانه الأمر.

والآية في إثباته العلم له تعالى على الإطلاق ونفى العلم عن غيره على الإطلاق تطابق سائر الآيات الدالّة على هذا المعنى كقوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ ) آل عمران - ٥، وقوله تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) البقرة - ٢٥٥، وقد سبق بعض الكلام في القتال في قوله:( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) البقرة - ١٩٠.

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) ، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام وذمّة بأنّه صدّ عن سبيل الله وكفر، واشتمالها مع ذلك على أنّ إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، وأنّ الفتنة أكبر من القتل، يؤذن بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال وأنّ هناك قتلاً، وأنّه إنّما وقع خطائاً لقوله تعالى في آخر الآيات( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الآية، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفّار خطائاً من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، وطعن الكفّار به، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصّة عبدالله بن جحش وأصحابه.

قوله تعالى: ( قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ، الصدّ هو المنع والصرف، والمراد بسبيل الله العبادة والنسك وخاصّة الحجّ، والظاهر أن ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفراً في العمل دون الاعتقاد، والمسجد الحرام عطف على سبيل الله أي صدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.

والآية تدلّ على حرمة القتال في الشهر الحرام، وقد قيل: إنّها منسوخة بقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٦، وليس بصواب، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.

قوله تعالى: ( وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) ، أي والّذي فعله المشركون من إخراج رسول الله والمؤمنين من المهاجرين - وهم أهل المسجد

١٧٤

الحرام - منه أكبر من القتال، وما فتنوا به المؤمنين من الزجر والدعوة إلى الكفر أكبر من القتل، فلا يحقّ للمشركين أن يطعنوا المؤمنين وقد فعلوا ما هو أكبر ممّا طعنوا به، ولم يكن المؤمنون فيما أصابوه منهم إلّا راجين رحمة الله والله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) إلى آخر الآية حتّى للتعليل أي ليردّوكم.

قوله تعالى: ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ) الخ تهديد للمرتدّ بحبط العمل وخلود النار.

( كلام في الحبط)

والحبط هو بطلان العمل وسقوط تأثيره، ولم ينسب في القرآن إلّا إلى العمل كقوله تعالى:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الزمر - ٦٥، وقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) محمّد - ٣٣، وذيل الآية يدلّ بالمقابلة على أنّ الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى:( وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) هود - ١٦، ويقرب منه قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣.

وبالجملة الحبط هو بطلان العمل وسقوطه عن التأثير، وقد قيل: إنّ أصله من الحبط بالتحريك وهو أن يكثر الحيوان من الأكل فينتفخ بطنه وربّما أدّى إلى هلاكه.

والّذي ذكره تعالى من أثر الحبط بطلان الأعمال في الدنيا والآخرة معاً، فللحبط تعلّق بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة، فإنّ الإيمان يطيّب الحياة الدّنيا كما يطيّب الحياة الآخرة، قال تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل - ٩٧، وخسران سعى الكافر، وخاصّة من ارتدّ إلى الكفر بعد الإيمان، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه، فإنّ قلبه غير متعلّق بأمر ثابت - وهو الله سبحانه - يبتهج به عند النعمة،

١٧٥

ويتسلّى به عند المصيبة، ويرجع إليه عند الحاجة، قال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٢، تبيّن الآية أن للمؤمن في الدنيا حياة ونوراً في أفعاله، وليس للكافر، ومثله قوله تعالى،( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) طه - ١٢٤، حيث يبيّن أنّ معيشة الكافر وحياته في الدّنيا ضنك ضيّقة متعبة، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياته سعيدة رحبة وسيعة.

وقد جمع الجميع ودلّ على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) محمّد - ١١.

فظهر ممّا قرّبناه أنّ المراد بالأعمال مطلق الأفعال الّتي يريد الإنسان بها سعادة الحياة، لا خصوص الأعمال العباديّة، والأفعال القربيّة الّتي كان المرتد عملها وأتى بها حال الإيمان، مضافاً إلى أنّ الحبط وارد في مورد الّذين لا عمل عباديّ، ولا فعل قربيّ لهم كالكفّار والمنافقين كقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) محمّد - ٩، وقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) آل عمران - ٢٢، إلى غير ذلك من الآيات.

فمحصّل الآية كسائر آيات الحبط هو أنّ الكفر والإرتداد يوجب بطلان العمل عن أن يؤثّر في سعادة الحياة، كما أنّ الإيمان يوجب حياة في الأعمال تؤثّر بها أثرها في السعادة، فإن آمن الإنسان بعد الكفر حييت أعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة، وإن ارتدّ بعد الإيمان ماتت أعماله جميعاً وحبطت، فلا تأثير لها في سعادة دنيويّة ولا اُخرويّة، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الردّة وإن مات على الردّة حتم له الحبط وكتب عليه الشقاء.

١٧٦

ومن هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء أعمال المرتدّ إلى حين الموت والحبط عنده أو عدمه.

توضيح ذلك: أنّه ذهب بعضهم إلى أنّ أعمال المرتدّ السابقة على ردّته باقية إلى حين الموت، فإن لم يرجع إلى الإيمان بطلت بالحبط عند ذلك، واستدلّ عليه بقوله تعالى( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) الآية وربّما أيّده قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣، فإنّ الآية تبيّن حال الكفّار عند الموت، ويتفرّع عليه أنّه لو رجع إلى الإيمان تملّك أعماله الصالحة السابقة على الارتداد.

وذهب آخرون إلى أنّ الردّة تحبط الأعمال من أصلها فلا تعود إليه وإن آمن من بعد الارتداد، نعم له ما عمله من الأعمال بعد الإيمان ثانياً إلى حين الموت، وأمّا الآية فإنّما أخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع أعماله وأفعاله الّتي عملها في الدنيا!

وأنت بالتدبّر فيما ذكرناه تعرف: أن لا وجه لهذا النزاع أصلاً، وأنّ الآية بصدد بيان بطلان جميع أعماله وأفعاله من حيث التأثير في سعادته!

وهنا مسألة اُخرى كالمتفرّعة على هذه المسألة وهي مسألة الإحباط والتكفير، وهي أنّ الأعمال هل تبطل بعضها بعضاً أو لا تبطل بل للحسنة حكمها وللسيّئة حكمها؟ نعم الحسنات ربّما كفّرت السيّئآت بنصّ القرآن.

ذهب بعضهم إلى التباطل والتحابط بين الأعمال وقد اختلف هؤلاء بينهم، فمن قائل بأنّ كلّ لاحق من السيّئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس، ولازمه أن لا يكون عند الإنسان من عمله إلّا حسنة فقط أو سيّئة فقط، ومن قائل بالموازنة وهو أن ينقص من الأكثر بمقدار الأقلّ ويبقى الباقي سليماً عن المنافي، ولازم القولين جميعاً أن لا يكون عند الإنسان من أعماله إلّا نوع واحد حسنة أو سيّئة لو كان عنده شئ منهما.

ويردّهما أوّلاً قوله تعالى:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) التوبة - ١٠٢، فإنّ الآية ظاهرة في اختلاف الأعمال وبقائها على حالها إلى أن تلحقها توبة من الله سبحانه، وهو ينافي التحابط

١٧٧

بأيّ وجه تصوّروه.

وثانياً: أنّه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الإنسانيّ من طريق المجازاة، وهو الجزاء على الحسنة على حدة وعلى السيّئة على حدة إلّا في بعض السيّئآت من المعاصي الّتي تقطع رابطة المولويّة والعبوديّة من أصلها فهو مورد الإحباط، والآيات في هذه الطريقة كثيرة غنيّة عن الإيراد.

وذهب آخرون إلى أنّ نوع الأعمال محفوظة، ولكلّ عمل أثره سواء في ذلك الحسنة والسيّئة.

نعم الحسنة ربّما كفّرت السيّئة كما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) الأنفال - ٢٩، وقال تعالى:( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) الآية البقرة - ٢٠٣، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣٠، بل بعض الأعمال يبدّل السيّئة حسنة كما قال تعالى:( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) الفرقان - ٧٠.

وهنا مسألة اُخرى هي كالأصل لهاتين المسألتين، وهي البحث عن وقت استحقاق الجزاء وموطنه، فقيل: إنّه وقت العمل، وقيل: حين الموت، وقيل: الآخرة، وقيل: وقت العمل بالموافاة بمعنى إنّه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين الموت وموافاته لم يستحقّ ذلك إلّا أن يعلم الله ما يؤل إليه حاله ويستقرّ عليه، فيكتب ما يستحقّه حال العمل.

وقد استدلّ أصحاب كلّ قول بما يناسبه من الآيات، فإنّ فيها ما يناسب كلّاً من هذه الأوقات بحسب الانطباق، وربّما استدلّ ببعض وجوه عقليّة ملفّقة.

والّذي ينبغي أن يقال: إنّا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير وما يجري مجراها مسلك نتائج الأعمال على ما بيّناه في تفسير قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) البقرة - ٢٦، كان لازم ذلك كون النفس الإنسانيّة ما دامت متعلّقة بالبدن جوهراً متحوّلاً قابلاً للتحوّل في ذاته وفي آثار ذاته من الصور الّتي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقيّة، فإذا صدر منه

١٧٨

حسنة حصل في ذاته صورة معنويّة مقتضية لاتّصافه بالثواب، وإذا صدر منه معصية فصورة معنويّة تقوم بها صورة العقاب، غير أنّ الذات لمّا كانت في معرض التحوّل والتغيّر بحسب ما يطرؤها من الحسنات والسيّئآت كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدّلها إلى غيرها، وهذا شأنها حتّى يعرضها الموت فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحوّل واستعداده، فعند ذلك يثبت لها الصور وآثارها ثبوتاً لا يقبل التحوّل والتغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الّذي بيّناه سابقاً.

وكذا لو سلكنا في الثواب والعقاب مسلك المجازاة على ما بيّناه فيما مرّ كان حال الإنسان من حيث اكتساب الحسنة والمعصية بالنسبة إلى التكاليف الإلهيّة وترتّب الثواب والعقاب عليها حاله من حيث الإطاعة والمعصية في التكاليف الإجتماعيّة وترتّب المدح والذمّ عليها، والعقلاء يأخذون في مدح المطيع والمحسن وذمّ العاصي والمسئ بمجرّد صدور الفعل عن فاعله، غير أنّهم يرون ما يجازونه به من المدح والذمّ قابلاً للتغيّر والتحوّل لكونهم يرون الفاعل ممكن التغيّر والزوال عمّا هو عليه من الانقياد والتمرّد، فلحوق المدح والذمّ على فاعل الفعل فعليّ عندهم بتحقّق الفعل غير أنّه موقوف البقاء على عدم تحقّق ما ينافيه، وأمّا ثبوت المدح والذم ولزومهما بحيث لا يبطلان قطّ فإنّما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغيّر قطّ بموت أو بطلان استعداد في الحياة.

ومن هنا يعلم: أنّ في جميع الأقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافاً عن الحقّ لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه.

وأنّ الحقّ أوّلاً: أنّ الإنسان يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بمجرّد صدور الفعل الموجب له لكنّه قابل للتحوّل والتغيّر بعد، وإنّما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه.

وثانياً: أنّ حبط الأعمال بكفر ونحوه نظير استحقاق الأجر يتحقّق عند صدور المعصية ويتحتّم عند الموت.

وثالثاً: أنّ الحبط كما يتعلّق بالأعمال الاُخرويّة كذلك يتعلّق بالأعمال الدنيويّة.

ورابعاً: أنّ التحابط بين الأعمال باطل بخلاف التكفير ونحوه.

١٧٩

( كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء)

من أحكام الأعمال: أنّ من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد. قال تعالى:( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) وكالكفر بآيات الله والعناد فيه. قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) آل عمران - ٢٢، وكذا من الطاعات ما يكفّر سيّئآت الدنيا والآخرة كالإسلام والتوبة، قال تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم ) الزمر - ٥٥، وقال تعالى:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) طه - ١٢٤.

وأيضاً: من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقّة مع الرسول، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) سورة محمّد - ٣٣، فإنّ المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقّة، وإبطال العمل هو الإحباط، وكرفع الصوت فوق صوت النبيّ، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) الحجرات - ٢.

وكذا من الطاعات ما يكفّر بعض السيّئآت كالصلوات المفروضة، قال تعالى:( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) هود - ١١٤، وكالحجّ، قال تعالى:( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) البقرة - ٢٠٣، وكاجتناب الكبائر، قال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572