الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287848 / تحميل: 5231
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

امام اربع حالات مختلفة.

الاولى : ان يتمنّى ان ينعم الله عليه مثل ما أنعم على غيره ، وهذه الحالة تدعى «الغبطة» وهي جديرة بالثناء والمدح ، وليس لها اثر سيء ، لانّها تدعو صاحبها للسعي والجدّ والمثابرة حتى ينال مثل ما نال المغبوط.

الثّانية : ان يتمنّى ان تسلب هذه النعمة عن الآخرين ، ويسعى من اجل تحقيق هذا التمني ، وهذه هي الحالة المذمومة الموسومة «بالحسد» التي تدعو صاحبها الى التخريب وسلب النعمة عن الآخرين ، دون ان تدعوه لانّ يطلب من الله مثل ما اعطي غيره من النعم.

الثّالثة : ان يتمنّى ان تكون هذه النعمة له فقط ويحرم الآخرون منها وهذه الحالة تسمّى «البخل» والانانية التي تدعو الإنسان ان يطلب شيئا لنفسه ، ويلتذّ من حرمان الآخرين.

الرّابعة : ان يتمنّى ويحب تنعّم الآخرين بهذه النعمة وان كان محروما منها ، وهو مستعدّ ان يقدّم ما عنده من أجلهم وبغض النظر عن منافعه الشخصية ، وهذه الحالة الرفيعة هي ما يسمّى بـ «الإيثار» التي هي من أهم الصفات الانسانية الحميدة.

وعلى كل حال فإنّ الحسد لا يقتصر على قتل اخوة يوسف لأخيهم فحسب ، بل قد يوصل الإنسان الى قتل نفسه.

ولهذا نجد في الأحاديث الاسلامية تعابير مؤثرة تدعو الى مكافحة هذه الرّذيلة ، وعلى سبيل المثال نورد منها ما يلي :

١ ـ في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : «انّ الله نهى موسى عن الحسد وقال له : انّ الحاسد ساخط لنعمي صادّ لقسمي الذي قسمت بين عبادي ، ومن يك كذلك فلست منه وليس منّي»(١) .

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٠٧.

١٤١

٢ ـ ونقرا حديثا للإمام الصادقعليه‌السلام يقول : «آفة الدين الحسد والعجب والمفاخرة» كما نقرا له حديثا يقول : «انّ المؤمن يغبط ولا يحسد ، والمنافق يحسد ولا يغبط»(١) .

٦ ـ كما نستنتج درسا آخر من هذا المقطع في القصّة ، وهو انّ الوالدين ينبغي ان يلاحظا أبناءها الآخرين عند إبراز عنايتهما ومحبّتهما لواحد منهم ، فبالرغم من ان يعقوب لم يرتكب خطأ ـ دون ايّ شك ـ بالنسبة لإبراز علاقته لولديه يوسف وبنيامين ، وانّما كان كل ذلك وفق حسابات خاصّة. ولكن هذه الحادثة تكشف لنا انّه ينبغي ان يكون الإنسان اكثر إحساسا ، في هذه المسألة ـ من القدر اللازم. لانّ إبراز العلاقة لبعض الأبناء دون بعض توجد عقدة في نفوس الآخرين ، الى درجة انّها تجرّهم الى كل عمل مخرّب ، حيث يجدون شخصياتهم منهزمة ولا بدّ من تحطيم شخصية أخيهم للتعويض عن هذه الهزيمة ، فيكون الاقدام على هذا العمل دون لحاظ الرحمية ووشائج القربى.

وإذا لم يستطع الإنسان ان يقوم بعمل معاكس ، فإنّه يظل يلوم نفسه ويحرضها حتى يبتلى بالمرض النفسي.

وما زلت اذكر انّه كان لي صديق قد مرض ولده الصغير ، فأوصى ولده الكبير برعايته ، وأخذ الأب يولي ولده الصغير محبة وشفقة فائضة «لانّه مريض».

فلم تمض فترة حتى مرض هذا الابن الكبير بمرض نفسي مجهول ، قلت لذلك الصديق العزيز : الا تفكّر انّ أساس المرض هو عدم العدالة بين ولديك لكنّه لم يصدّق ، وأخيرا راجع الطبيب النّفساني المختصّ فقال : ان ابنك ليس مريضا بمرض خاصّ ، وانّما أساس مرضه هو اهتمامك بأخيه وعدم اهتمامك به ، وهو يحس بأنّ شخصيته متعطشة للحنان والحبّ ، في حين انّ أخاه لم يحرم منهما.

__________________

(١) المصدر نفسه.

١٤٢

وفي هذا الصدد نقرا في الرّوايات الاسلامية ان الامام الباقرعليه‌السلام قال يوما : «والله انّي لأصانع بعض ولدي ، وأجلسه على فخذي ، وانكز له المخّ ، واكسر له الكسر ، وان الحقّ لغيره من ولدي ، ولكن مخافة عليه منه ومن غيره ، لا يصنعوا به ما فعل بيوسف اخوته ، وما انزل الله سورة الّا أمثالا لكي لا يجد بعضنا بعضا كما حسد يوسف اخوته ، وبغوا عليه ، فجعلها رحمة على من تولّانا ، ودان بحبّنا وحجّة على أعدائنا ومن نصب لنا الحرب والعداوة»(١) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٧٨.

١٤٣

الآيات

( قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) )

التّفسير

المؤامرة المشؤومة!

بعد ان صوّب اخوة يوسف اقتراح أخيهم في عدم قتل يوسف ، والقائه في الجبّ ، أخذوا يفكرون في كيفية فصل يوسف عن أبيه لذلك اقدموا على تخطيط آخر ، فجاءوا الى أبيهم بلسان ليّن يدعو الى الترحم ، وفي شكل يتظاهرون به انهم مخلصون له وحدثوا أباهم و( قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) .

تعال يا أبانا وارفع اليد عن اتهامنا ، فإنّه أخونا وما يزال صبيا وبحاجة الى اللهو واللعب ، وليس من الصحيح حبسه عندك في البيت ، فخلّ سبيله( أَرْسِلْهُ

١٤٤

مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ) (١) .

وإذا كنت تخشى عليه من سوء فنحن نواظب على حمايته( وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) .

وبهذا الأسلوب خططوا لفصل أخيهم عن أبيه بمهارة ، ولعلّهم قالوا هذا الكلام امام يوسف ليطلب من أبيه إرساله معهم.

وهذه الخطة تركت الأب ـ من جانب ـ امام طريق مسدود ، فإذا لم يرسل يوسف مع اخوته فهو تأكيد على اتهامه ايّاهم ، وحرضت ـ من جانب آخر ـ يوسف على ان يطلب من أبيه الذهاب معهم ليتنزّه كما يتنزه اخوته ، ويستفيد من هذه الفرصة لاستنشاق الهواء الطلق خارج المدينة.

اجل ، هكذا تكون مؤامرات الذين ينتهزون الفرصة ، وغفلة الطرف الآخر ، فيستفيدوا من جميع الوسائل العاطفية والنفسيّة ، ولكن المؤمنين ينبغي الّا ينخدعوا بحكم الحديث المأثور «المؤمن كيّس» اي فطن ذكي فلا يركنوا للمظهر المنمّق حتى لو كان ذلك من أخيهم.

ولكن يعقوب ـ دون ان يتهم اخوة يوسف بسوء القصد ـ اظهر تردّده في إرسال يوسف لامرين : الاوّل : انه سيبتعد عنه فيحزن عليه ، والثاني : ربّما يوجد خارج المدينة بعض الذئاب المفترسة فتأكله ، فاعتذر إليهم و( قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ ) .

وهذه المسألة طبيعية ، حيث قد يبتعد اخوة يوسف عنه فيغفلون عن امره ، فيأتي إليه الذئب فيأكله.

وبديهي انّ الاخوة لم يكن لهم جواب بالنسبة للأمر الاوّل الذي أشار اليه أبوهم يعقوب ، لانّ الحزن والاغتمام على فراق يوسف لم يكن شيئا عاديّا حتى

__________________

(١) «يرتع» من مادة «رتع» على وزن «قطع» ومعناه في الأصل رعي الأغنام والانعام بصورة عامّة للنباتات وشبعها منها ، ولكن قد يطلق هذا اللفظ (رتع ، يرتع) ويراد به تنزّه الإنسان وكثرة الاكل والشرب ايضا.

١٤٥

يعوّض عنه ، وربّما كان هذا التعبير مثيرا لنار الحسد في اخوة يوسف اكثر.

ومن جهة اخرى فإنّ هذا الموضوع الذي أشار اليه يعقوب ، وهو حزنه على ابتعاد يوسف عنه يمكن ردّه ، وهو لا يحتاج الى بيان ، لانّ الولد لا بدّ له من الابتعاد عن أبيه من اجل ان ينمو ويرشد ، وإذا أريد له ان يكون كنبات «النّورس» بحيث يبقى تحت ظل شجرة «وجود الأب» فإنّه سوف يبقى عالة عليه فلا بدّ من هذا الابتعاد والانفصال حتى يتكامل ولده ، فاليوم تنزّه وغدا اجتهاد ومثابرة لتحصيل العلم ، وبعد غد عمل وسعي للحياة ، وأخيرا فإنّ الانفصال لا بدّ منه.

لذلك فإنّهم لم يجيبوه عن الشقّ الاوّل من كلامه ، بل أجابوه عن الشقّ الثّاني لانّه كان مهما واساسيا بالنسبة لهم إذ( قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ ) .

اي : أترانا موتى فلا ندافع عن أخينا ، بل نتفرج على الذئب كيف يأكله! ثمّ اضافة الى علاقة الاخوة التي تدفعنا للحفاظ على أخينا ، ما عسى ان نقول للناس عنّا؟ هل ننتظر ليقال عنّا : انّ جماعة أقوياء وفتية أشداء جلسوا وتفرجوا على الذئب وهو يفترس أخاهم! فهل نستطيع العيش بعد هذا مع الناس؟!

لقد أجابوا أباهم بما تضمن قوله :( أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ ) ومشغولون بلعبكم ، كيف يكون ذلك؟ والمسألة ليست بهذه البساطة انّها الخسارة وذهاب ماء الوجه والخزي إذ كيف يمكن لواحد منّا ان يشغله اللعب فيغفل عن أخيه يوسف ، لانّه في مثل هذه الحال لا تبقى لنا قيمة ولا نصلح لاي عمل.

ويبرز هنا سؤال مهم وهو : لماذا أشار يعقوب الى خطر الذئب من دون الاخطار الاخرى؟!

قال البعض : ان صحراء كنعان ـ كانت ـ «صحراء مذئبة» ومن هنا كان

١٤٦

الخوف من الذئب اكثر من غيره.

وقال البعض : كان ذلك للرؤيا التي رآها يعقوب من قبل وهي ان ذئابا هجمت على ولده يوسف.

وهناك احتمال آخر هو ان يعقوب أجابهم بلسان الكناية ، والمقصود من الذئاب في كلامه هم الأناس المتصفون بصفة الذئب اخوة يوسف.

وعلى كل حال فقد استطاع اخوة يوسف بما أوتوا من الحيل ، وبتحريك احاسيس يوسف النقيّة وترغيبه الى التنزه خارج المدينة ، وربّما كان الاوّل مرّة يتاح ليوسف ان يحصل على مثل هذه الفرصة استطاعوا ان يأخذوا يوسف معهم وان يستسلم الأب لهذا الأمر فيوافق على طلبهم.

* * *

بحوث

وينبغي هنا الالتفات الى عدة دروس حيّة تستلهم من هذه القصّة :

١ ـ مؤامرات الأعداء في ثياب الأصدقاء

من الطبيعي انّ الأعداء لا يدخلون الميادين ـ عند الهجوم ـ بصراحة ودون استتار ابدا.

بل انّهم من اجل تفويت الفرصة على الطرف الآخر واستغفاله وسلبه كل وسائل الدفاع يسعون الى إخفاء عملهم تحت قناع جذاب انّ اخوة يوسف اخفوا خطة هلاكه او ابعاده تحت غطاء اسمى الاحاسيس والعواطف الاخوية ، هذه الاحاسيس التي كانت تحرك يوسف من جهة لانّ يمضي معهم ، وكانت عند أبيهم موضع قبول من جهة اخرى ايضا.

وهذه هي الطريقة التي نواجهها في حياتنا اليوميّة على المدى الواسع ، وما

١٤٧

تلقيناه من ضربات قاسية من أعدائنا المخاتلين بثياب الأبرار في هذا المضمار غير قليل ، ولها مظاهر متعددة ، فمرة بمظهر المساعدات الاقتصادية ، واخرى تحت ستار التبادل الثقافي ، وثالثة في ثوب الدفاع عن حقوق البشر ، ورابعة بأسلوب المعاهدات الدفاعية كل تلك الأمور كانت نتيجة اسوا القرارات الاستعمارية المذلّة للأمم المستضعفة والتي من ضمنها أمتنا الاسلاميّة.

ولكن ومع هذه التجارب التاريخيّة ينبغي ان نكون حذرين للغاية وان نعرف أعداءنا جيدا ، فلا نحسن الظن بهذه الذئاب البشرية التي تريد ان تمتص دماءنا بما تظهره من عواطف واحاسيس متلبسة بثياب المخلصين المتفانين فما زلنا نتذكر ما فعلته الدول المتسلطة على العالم حيث أرسلت تحت ستار المساعدات الطبيّة الى بعض الدول الافريقية المتضررة بالحرب اسلحة وعتاد أرسلت الى عملائها ، كما بعثت اخطر جواسيسها تحت ثياب الدبلوماسية والسفارات والممثلين لها الى مختلف مناطق العالم.

وتحت ستار الخبراء العسكريين وتدريب الدّول المستضعفة على الاسلحة الحديثة والمتطورة كانوا يأخذون مع عودتهم جميع الأسرار العسكرية لتلك الدولة.

وبإرسال خبراء فنيين!! الى هذه الدول يربطوا عجلة اقتصادها بالمناهج تكرس التبعية ترى ، أليست كل هذه التجارب التأريخيّة كافية لئلّا ننخدع بهذه الزخارف البرّاقة الكاذبة وان نعرف وجوه هؤلاء الذئاب المتظاهرين بالانسانيّة.

٢ ـ حاجة الإنسان الفطرية والطبيعية الى التنزّه والارتياح

من الطريف ان يعقوبعليه‌السلام لم يردّ على كلام اخوة يوسف واستدلالهم على انّه بحاجة الى التنزه والارتياح ، بل وافق على ذلك عمليّا ، وهذا دليل كاف على ان ايّ عقل سليم لا يستطيع ان ينكر هذه الحاجة الفطرية والطبيعيّة فالإنسان

١٤٨

ليس آلة تستعمل في اي وقت كان وكيف كان ، بل له روح ونفس ينالهما التعب والنصب كما ينالان الجسم. فكما ان الجسم يحتاج الى الراحة والنوم ، كذلك الرّوح والنّفس بحاجة الى التنزّه والارتياح السليم.

التجربة ـ ايضا ـ تدل على ان الإنسان كلّما واصل عمله بشكل رتيب ، فإنّ مردود هذا العمل سيقلّ تدريجيا نتيجة ضعف النشاط ، وعلى العكس من ذلك فإنّ الاستراحة لعدة ساعات تبعث في الجسم نشاطا جديدا بحيث تزداد كمية العمل وكيفيته معا ، ولذلك فإنّ الساعات التي تصرف في الراحة والتنزه تكون عونا على العمل ايضا.

وفي الرّوايات الاسلامية نجد هذه الواقعية بأسلوب طريف جاء بمثابة «القانون» حيث يقول الامام عليعليه‌السلام : «للمؤمن ثلاث ساعات : فساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يرمّ معاشه ، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذّتها فيما يحلّ ويجمل»(١) .

وممّا يستجلب النظر انّ في بعض الرّوايات الاسلامية أضيفت هذه الجملة الى النص المتقدم «وذلك عون على سائر الساعات».

وعلى حدّ تعبير البعض فإنّ التنزّه والارتياح بمثابة تدهين وتنظيف اجهزة السيّارة ، فلو توقفت هذه السيارة ساعة عن العمل لمراقبة اجهزتها وتنظيفها ، فإنها ستغدو اكثر قوة نشاطا يعوّض عن زمن توقفها اضعاف المرات ، كما انه سيزيد من عمر السيارة ايضا.

لكن المهم ان يكون هذا التنزّه صحيحا ، والّا فإنه لا يحل المشكلة ، بل سيزيدها ، فإنّ كثيرا من حالات التنزّه هذه تدمر الإنسان وتسلب منه نشاطه وقدرته على العمل لفترة ما ، او على الأقل تخفف من نشاط عمله.

وهناك نقطة تدعو للالتفات ايضا ، وهي ان الإسلام اهتم بمسألة الترويض والاستراحة النفسية بحيث أجاز المسابقات في هذا المضمار ويحدثنا التاريخ

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار : رقم الكلمة ٣٩٠.

١٤٩

انّ قسما من هذه المسابقات جرت بمرأى من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحيانا كانت تناط اليه مهمة التحكيم والقضاء في هذه المسابقة ، وربّما اعطى ناقته الخاصّة ـ لبعض الصحابة للتسابق عليها.

ففي رواية الامام الصادقعليه‌السلام انّه قال : «ان النّبي اجرى الإبل مقبلة من تبوك فسبقت العصباء وعليها اسامة ، فجعل الناس يقولون : سبق رسول الله ورسول الله يقول : سبق اسامة(١) » (اشارة الى ان المهم في السبق هو الراكب لا المركب ، حتى وان كان المركب السابق عند من لا يجيدون السبق).

النقطة الاخرى هي انّه كما ان اخوة يوسف استغلّوا علاقة الإنسان ـ ولا سيما الشاب ـ بالتنزّه واللعب من اجل الوصول الى هدفهم الغادر ففي حياتنا المعاصرة ـ ايضا ـ نجد اعداء الحق والعدالة يستغلّون مسألة الرياضة واللعب في سبيل تلويث أفكار الشباب ، فينبغي ان نحذر المستكبرين «الذئاب» الذين يخططون لإضلال الشباب وحرفهم عن رسالتهم تحت اسم الرياضة والمسابقات المحلّية والعالمية.

ولا ننسى ما كان يجري في عصر الطاغوت (الشاه) ، فإنّهم وبهدف تنفيذ بعض المؤامرات ونهب ثروات البلاد وتحويلها الى الأجانب لقاء ثمن بخس ، كانوا يرتّبون سلسلة من المسابقات الرياضية الطويلة العريضة لالهاء الناس لئلّا يطلعوا على المسائل السياسيّة.

٣ ـ الولد في ظلّ الوالد

إذا كانت محبّة الأب الشديدة او الام بالنسبة للولد تستوجب ان يحفظ الى جانبهما ، الّا ان من الواضح ان فلسفة هذه المحبة من وجهة نظر قانون الخلقة هي المحافظة التامة على الولد عند الحاجة إليها ، وعلى هذا الأساس ينبغي ان تقل

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٥٩٦.

١٥٠

هذه المحافظة كلّما تقدّمت به السن ، ويمنح الولد الاجازة ليخطو في حياته نحو الاستقلال ، والّا فسيكون كمثل غرسة النّورس تحت ظل الشجرة القوية دائما لا تنمو كما يلزم.

وربّما وافق يعقوبعليه‌السلام ـ لهذا السبب ـ على اقتراح ابنائه رغم علاقته الشديدة بيوسف ، وأرسله معهم الى خارج المدينة ، ومع انّ هذا الأمر كان صعبا على يعقوب ، ولكن مصلحة يوسف وحاجته الى الرشد والنموّ كانت تستوجب ان يجيزه أبوه ليبتعد عنه ساعات وايّاما!

وهذه مسألة تربوية مهمّة غفل عنها كثير من الآباء والأمهات ، حيث يربّون أولادهم تربية بحيث لا يستطيعون ان يعيشوا خارج «خيمة الأبوين» ومحافظتهما عليهم ، وبالتالي يسقطون امام تيارات الحوادث وضغوطها ، كما ان هناك رجالا عظماء فقدوا والديهم في دور الطفولة ، ولكنّهم صنعوا أنفسهم بأيديهم وواجهوا المشاكل وتجاوزوها.

فالمهم ان يلتفت الوالدان الى هذه المسألة التربوية ، والّا فستكون محبتهما «الكاذبة» مانعا من استقلال أولادهم.

من الطريف ان هذه المسألة موجودة في بعض الحيوانات بشكل غريزي ، فنحن نرى أفراخ الدجاج «الفروج» ـ مثلا ـ يبدأ حياته تحت جناحي امه ، وتحافظ الدجاجة الام عليها كما تحافظ على روحها «العزيزة».

ولكن بعد فترة حيت تكبر هذه الافراخ فإنّ الام لا تترك المحافظة على هذه الافراخ فحسب ، بل تنقر ايّا منها يصل إليها. ومعنى هذا انّها تريد ان تعوّدهم على ان يتعلموا طريق الحياة المستقلة! فإلى متى تعيشون غير مستقلين؟!

ولكن هذا الموضوع لا ينافي تقوية الروابط العائلية والمحافظة على المودة والمحبّة ، بل هي محبّة عميقة وعلاقة محسوبة ونافعة للطرفين.

١٥١

٤ ـ لا قصاص ولا اتهام قبل الجناية

نشاهد في هذا الفصل من القصّة انّ يعقوب بالرغم من علمه بما سيقدم عليه اخوة يوسف وتحذيره ولده يوسف ألّا يقصص رؤياه على اخوته ، وان يكتم الأمر ، الّا انّه لم يكن مستعدا لانّ يتّهمهم بقصد الاساءة الى يوسف ، بل كان عذره إليهم انّه يحزنه فراقه ، ويخاف ان يأكله الذئب في الصحراء.

والأخلاق والمعايير الانسانية والاسس القضائية العادلة توجب ذلك ايضا ، فحيث لم تتوفر لدينا علامة ظاهرة على مخالفة شخص ما فلا ينبغي اتّهامه ، فالأصل البراءة والصحّة والطهارة الّا ان يثبت خلافه.

٥ ـ تلقين العدوّ

المسألة الاخرى اننا نقرا ـ في ذيل الآيات المتقدمة ـ رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : «لا تلقّنوا الكذّاب فيكذب فإنّ بني يعقوبعليه‌السلام لم يعلموا ان الذئب يأكل الإنسان حتى لقّنهم أبوهم»(١) . اشارة الى انه قد يحدث أحيانا ان لا يلتفت الطرف الآخر الى الحيلة والى طريق الاعتذار وانتخاب طريق الانحراف ، فعليكم ان تحذروا من ذكر الاحتمالات المختلفة التي تبيّن له طرق الانحراف.

ومثل هذا يشبه تماما ما لو قال الإنسان لطفله : لا ترم الكرة باتّجاه المصباح ، ولم يكن الطفل يعلم ان الكرة يمكن ان ترمى نحو المصباح ، فيلتفت الى ان مثل هذا العمل ممكن ، وتتحرك فيه نوازع الفحص ماذا سيكون لو رميت الكرة باتجاه المصباح؟ ثمّ يبدأ «لعبته» لتنتهي بتكسّر المصباح!

وليس هذا موضوعا هينا ولا خاصا بالأطفال ، فقد يتفق أحيانا ان الأوامر والنواهي الخاطئة ، تسبب ان يتعلم الناس أشياء لم يعرفوها من قبل ، فتوسوس لهم أنفسهم ان يقدموا عليها ، فينبغي في مثل هذه الموارد ـ قدر المستطاع ـ ان

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٤١٥.

١٥٢

تثار المسائل بشكل لا يبعث على اي تعلّم سيئ! وبالطبع فإنّ يعقوب النّبيعليه‌السلام قال كلامه عن صفاء وطهارة قلب ، الّا انّ أبناءه الضالين استغلوا كلامه لقصدهم السيئ.

وشبيه هذا الموضوع الأسلوب الذي نجده في كثير من المقالات ، فمثلا قد يكتب أحدهم مقالة ـ او يقوم بإخراج فيلما او غيرها ـ عن ضرر الموادّ المخدرة او الاستمناء ، فيتناول هذه المسائل بصورة يتعلمها غير المطلعين وينسون المسائل التي تذكر في هذه المواضيع لذم هذه الأعمال وبيان طرق النجاة منها ، ولذلك فغالبا ما يكون ضرر هذه المقالات والافلام وخسارتها اكثر من فائدتها بمراتب.

٦ ـ وآخر نقطة نشير إليها هنا انّ اخوة يوسف( قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ ) وهي اشارة الى انّ الإنسان إذا تحمّل مسئولية ما ـ ووافق عليها ـ فإنّ من الواجب عليه ان يوقف نفسه من أجلها والّا فإنّه سيفقد كل قيمه ـ قيمة شخصيته ، وماء وجهه ، والموقع الاجتماعي ، ووجدانه.

فكيف يعقل ان يكون الشخص ضمير حيّ ووجدان يقظ وشخصية كريمة يعتز بحيثيته وماء وجهه ، ومع كل ذلك يتنصل عن مسئولياته ويقف موقفا سلبيا ازاءها؟!

* * *

١٥٣

الآيات

( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) )

التّفسير

الكذب المفضوح :

وأخيرا انتصر اخوة يوسف واقنعوا أباهم ان يرسل معهم أخاهم يوسف ، فباتوا ليلتهم مطمئني البال بانتظار الصبح لتنفيذ خطتهم وازاحة أخاهم الذي يقف عائقا في طريقهم وكان قلقهم الوحيد ان يندم أبوهم ويسحب كلامه ووعده بإرسال يوسف معهم.

فجاءوا صباحا الى أبيهم فأمرهم بالمحافظة على يوسف ، وكرر توصياته

١٥٤

في شأنه ، فأظهر الأبناء طاعتهم لأبيهم وابدوا احترامهم الفائق ومحبتهم العميقة ، وتحركوا الى خارج المدينة.

يقال : انّ أباهم ودعهم الى بوابة المدينة ثمّ أخذ منهم يوسف وضمّه الى صدره ودمعت عيناه ، ثمّ أودع يوسف عندهم وفارقهم ، ولكن يعقوب كان يودعهم بنظراته ، وكان اخوة يوسف لا يقصرون عن مدارة أخيهم يوسف واظهار عنايتهم به ومحبتهم له طالما كانت تلاحظهم عينا أبيهم ، ولكن ما ان غاب عنهم أبوهم واطمأنوا الى انّه لا يراهم ، حتى انفجرت عقدتهم وصبوا «جام غضبهم» وحقدهم وحسدهم المتراكم لعدّة سنوات على راس يوسف ، فالتفّوا حوله يضربونه بأيديهم ويلتجئ من واحد لآخر ويستجير بهم فلا يجيره احد منهم.

نقرا في رواية انّ يوسف كان يبكي تحت وابل اللكمات والضربات القاسيّة ، ولكن حين أرادوا ان يلقوه في الجبّ شرع بالضحك فجأة فتعجب اخوته كثيرا وحسبوا ان أخاهم يظنّ الأمر لا يعدو كونه مزاحا ولكنّه رفع الستار عن ضحكه وعلّمهم درسا كبيرا إذ قال : ـ لا انسى انني نظرت ـ ايها الاخوة ـ الى عضلات أيديكم القويّة وقواكم الجسدية الخارقة ، فسررت وقلت في نفسي : ما عسى ان يخشى ويخاف من الحوادث والملمّات من كان عنده مثل هؤلاء الاخوة ، فاعتمدت عليكم وربطت قلبي بقواكم ، والآن وقد أصبحت أسيرا بين أيديكم واستجير بكم من واحد للآخر فلا أجار ، وقد سلطكم الله عليّ لا تعلم هذا الدرس ، وهو الّا اعتمد واتوكّل على احد سواه حتى ولو كانوا اخوتي.

وعلى كل حال فالقرآن الكريم يقول في هذا الصدد :( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ ) (١) .

__________________

(١) في العبارة المتقدمة حذف جواب «لما» والتقدير كما يلي : فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابة الجبّ عظمت فتنتهم (تفسير القرطبي) ولعل هذا الحذف اقتضى لعظم هذه الحادثة المؤلمة ان يسكت عنه المتكلم ، وهو بنفسه من فنون البلاغة العربية (تفسير الميزان).

١٥٥

جملة «اجمعوا» تدلّ على انّ جميع الاخوة كانوا متفقين على هذه الخطّة ، وان لم يتفقوا جميعا على قتله.

وأساسا فإنّ كلمة «اجمعوا» مأخوذة من مادة «جمع» وهي في هذه الموارد اشارة الى جمع الآراء والأفكار.

ثمّ تبيّن الآية انّ الله اوحى الى يوسف وهدا روعه وألهمه الّا يحزن فالعاقبة له ، إذ تقول :( وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

ذلك اليوم الذي تجلس فيه على العرش وأنت القوي الأمين ، فيأتي إخوتك ليمدّوا ايدي الحاجة إليك ، ويكونوا كالظامئين الى النبع العذب في الصحراء اللاهبة ويسرعون إليك في منتهى التواضع ، ولكنّك في حال من العظمة بحيث لا يصدّقون انك أخوهم ، وستقول لهم في ذلك اليوم : ألستم الذين فعلتم مع أخيكم الصغير يوسف كذا وكذا وكم سيكونون خجلين من فعلهم هذه في ذلك اليوم! وهذا الوحي الالهي لم يكن وحي النبوة ، بقرينة الآية (٢٢) من السورة ذاتها ، بل كان إلهاما لقلب يوسف ليعلم انه ليس وحيدا ، بل له حافظ ورقيب ، وهذا الوحي بثّ في قلب يوسف نور الأمل وأزال عن روحه ظلمات اليأس والحيرة.

لقد نفّذ اخوة يوسف خطتهم كما أرادوا ، ولكن ينبغي ان يفكروا عند العودة ماذا كيف كي يصدّق أبوهم ان يوسف انتهى بصورة طبيعية لا عن مكيدة ليضمنوا عواطف أبيهم نحوهم.

وكانت الفكرة التي أوصلتهم الى هذا الهدف هي ما تخوّف أبوهم منه ، فأقنعوه ـ ظاهرا ـ عن هذا الطريق مدّعين بأنّ الذئب قد أكل يوسف وجاؤوا اليه بدلائل مزيّفة!!

يقول القرآن الكريم :( وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ ) بكاء كاذبا ، وهذا يدلّ على انّ البكاء الكاذب ممكن ولا يمكن ان يخدع ببكاء العين وحدها.

امّا الأب الذي كان ينتظر مجيء ولده (يوسف) بفارغ الصبر ، فقد اهتز

١٥٦

وارتجف حين راى الجمع وليس بينهم يوسف ، وسأل عنه مستفسرا فأجابوه و( قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا ) لصغر سنه ولانّه لا يعرف التسابق ، وانشغلنا عنه( فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ ) .

لأنك أخبرتنا من قبل بهذا الاحتمال ، وستظن ان ادّعاءنا مجرّد احتيال.

لقد كان كلام اخوة يوسف مدروسا بشكل دقيق ، وذلك ـ اوّلا ـ لانّهم خاطبوا يعقوب بقولهم بكلمة «يا أَبانا » وفيها ما فيها من الاستعطاف.

وثانيا : لانّ من الطبيعي ان ينشغل هؤلاء الاخوة الأقوياء بالتسابق ، ويتركوا أخاهم الصغير رقيبا على متاعهم ، وبعد ذلك كله فقد جاؤوا أباهم يبكون لتمرير خطتهم ، وقالوا له :( وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ ) .

ومن اجل ان يبرهنوا على صحة كلامهم فقد( جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ) إذ لطخوا الثوب بدم الغزال او الخروف او التيس ولكن حيث انّ الكاذب لا يمتلك حافظة قويّة ، وحيث ان اية حقيقة فيها علائق مختلفة وكيفيات ومسائل يقل ان تجتمع منظّمة في الكذب ، فقد غفل اخوة يوسف عن هذه المسألة الدقيقة وهي ـ على الأقل ـ ان يخرقوا قميص يوسف الملطخ بالدم ليدل على هجوم الذئب فقد قدّموا القميص سالما غير مخرق فأحس الأب بمؤامرتهم ، فما ان وقعت عيناه على القميص حتى فهم كل شيء و( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) .

جاء في بعض الرّوايات انّ يعقوب أخذ قميص يوسف وهو يقلّبه ويقول : «ما أرى اثر ناب ولا ظفر انّ هذا السبع رحيم» ، وفي رواية انّه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص ، وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئبا احلم من هذا أكل ابني ولم يمزق على قميصه ، وجاء انّه بكى وصاح وحرّ مغشيّا عليه فأفاضوا على الماء فلم يتحرك ونادوه فلم يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق ، فقال : ويل لنا من

١٥٧

ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق الّا ببرد السحر(١) .

وبالرغم من احتراق قلبه ولهيب روحه لم يجر على لسانه ما يدل على عدم الشكر او اليأس او الفزع او الجزع ، بل قال :( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) (٢) ثمّ قال :( وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ ) واسأله ان يبدل مرارة الصبر في فمي الى «حلاوة» ويرزقني القوة والقدرة على التحمّل اكثر امام هذا الطوفان العظيم ، لئلا افقد زمامي ويجري على لساني كلام غير لائق.

ولم يقل : اسأله ان يعطيني الصبر على موت يوسف ، لانّه كان يعلم ان يوسف لم يقتل بل قال : اطلب الصبر على مفارقتي ولدي يوسف وعلى ما تصفون.

ملاحظات

* * *

١ ـ حول الترك «الاولى»

ينقل ابو حمزة الثمالي عن الامام السجاد فيقول : كنت يوم الجمعة في المدينة وصليت الغداة مع الامام السجادعليه‌السلام فلمّا فرغ من صلاته وتسبيحه نهض الى منزله وانا معه ، فدعا مولاة له تسمى سكينة فقال لها : «لا يعبر على بابي سائل الّا أطعمتموه فإنّ اليوم يوم الجمعة».

يقول ابو حمزة : فقلت له : ليس كل من يطلب العون مستحقا له ، فقال : يا أبا ثابت ، أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقّا فلا نطعمه ونردّه فينزل بنا ـ اهل البيت ـ ما نزل بيعقوب وآله. أطعموهم ان يعقوب كان يذبح كل يوم كبشا فيتصدق منه ويأكل هو وعياله منه ، وان سائلا مؤمنا صوّاما محقّا له عند الله منزلة ، وكان مجتازا غريبا اعترّ على باب يعقوب عشية جمعة عند أوان إفطاره

__________________

(١) تفسير الآلوسي : ذيل الآية.

(٢) صبر جميل (صفة وموصوف) خبر لمبتدإ محذوف ، وتقدير الكلام : صبري صبر جميل.

١٥٨

يهتف على بابه : أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم ، يهتف بذلك على بابه مرارا وهم يسمعونه ، قد جهلوا حقّه ولم يصدقوا قوله : فلما ايس ان يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه الى الله باب وطاويا ، وأصبح صائما جائعا صابرا حامدا لله ، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعا بطانا وأصبحوا وعندهم من فضل طعامهم.

قال : فأوحى اللهعزوجل الى يعقوب في صبيحة تلك الليلة : لقد أذللت ـ يا يعقوب ـ عبدي ذلة استجررت بها غضبي ، واستوجبت بها أدبي ، ونزول عقوبتي وبلواي عليك وعلى ولدك يا يعقوب ، ان احبّ انبيائي اليّ وأكرمهم علي من رحم مساكين عبادي وقرّبهم اليه وأطعمهم وكان لهم مأوى وملجأ يا يعقوب ، ما رحمت «ذميال» عبدي المجتهد في عبادته ، القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس لمّا عبر ببابك عند أوان إفطاره ويهتف بكم : أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع ، فلم تطعموه شيئا. فاسترجع واستعبر وشكا ما به اليّ وبات جائعا وطاويا حامدا ، أصبح لي صائما ، وأنت ـ يا يعقوب ـ وولدك شباع ، وأصبحت وعندكم فضل من طعامكم.

او علمت ـ يا يعقوب ـ انّ العقوبة والبلوى أوليائي أسرع منها الى اعدائي ...إلخ(١) .

ومن الطريف انّ أبا حمزة يقول : سألت الامام زين العابدينعليه‌السلام متى راى يوسف رؤياه؟ فقال الامام : في تلك الليلة»(٢) .

يستفاد من هذا الحديث ان زلّة بسيطة او بعبارة أدق : «ترك الاولى» وهو لا يعدّ خطيئة او إثما ، لانّ يعقوب له يتّضح له حال السائل هذا الترك من قبل الأنبياء والأولياء يكون سببا لانّ يبتليهم الله بلاء شديدا وما ذلك الّا لمقامهم

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٢٤٣ ونور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٤١١.

(٢) المصدر السّابق.

١٥٩

الكبير الذي يوجب عليهم ان يراقبوا كل حركاتهم وسكناتهم ، لانّ «حسنات الأبرار سيئات المقربين».

فإذا كان يعقوبعليه‌السلام قد ابتلي بهذا البلاء والهمّ لانّه لم يطلع على حال قلب السائل وآلامه ، فكيف الحال في المجتمعات التي تغرق فيها طائفة بالنعيم والرفاه وطائفة من الناس جياع ، كيف لا يشملهم غضب الله! وكيف يسلمون من عذاب الله!

٢ ـ دعاء يوسف البليغ الجذّاب

ترد في روايات اهل البيتعليهم‌السلام وروايات اهل السنة ، ان يوسف حين استقرّ في قعر الجبّ انقطع أمله من كل شيء ، وصرف كلّ توجهه الى ذات الله المقدسة يناجي ربّه ، وكانت لديه حوائج ذكرها بتلقين جبرئيل إياه ففي رواية انّه دعا ربّه بهذه المناجاة «اللهم يا مؤنس كل غريب ، ويا صاحب كل وحيد ، يا ملجأ كل خائف ، ويا كاشف كل كربة ، ويا عالم كل نجوى ، ويا منتهى كل شكوى ، ويا حاضر كل ملا ، يا حيّ يا قيّوم ، اسألك ان تقذف رجاءك في قلبي ، حتى لا يكون لي همّ ولا شغل غيرك ، وان تجعل لي من امري فرجا ومخرجا ، انّك على كل شيء قدير».

ومن الطريف انّنا نقرا في ذيل هذه الرواية ، انّ الملائكة سمعت صوت يوسف فنادت : «الهنا نسمع صوتا ودعاء ، الصوت صوت صبي والدعاء دعاء نبيّ»(١) .

وهناك نقطة تدعو للالتفات وهي : حين رمى يوسف اخوته في الجبّ خلعوا عنه قميصه وتركوه عاريا ، فنادى : اتركوا لي قميصي ـ على الأقل ـ لاغطي به بدني إذا بقيت حيا ، ويكون كفني إذا متّ. فقال له اخوته : اطلبه من الشمس

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٥ ، ص ٣٣٧.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

والمراد من «الوازرة» من يتحمّل الوزر(١) .

ولمزيد الإيضاح يضيف القرآن قائلا :( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) (٢) .

«السعي» في الأصل معناه السير السريع الذي لا يصل مرحلة الركض ، إلّا أنّه يستعمل غالبا في الجدّ والمثابرة ، لأنّ الإنسان يؤدّي حركات سريعة في جدّه ومثابرته سواء كان ذلك في الخير أو الشرّ!

والذي يسترعي الانتباه أنّ القرآن لا يقول : وان ليس للإنسان إلّا ما أدّى من عمل بل يقول : إلّا ما سعى. وهذا التعبير إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يجدّ ويثابر فذلك هو المطلوب منه وإن لم يصل إلى هدفه ، فالعبرة بالنيّة ، فإذا نوى خيرا أعطاه الله ثوابه ، لأنّ الله يتقبّل النيّات والمقاصد لا الأعمال المؤدّاة فحسب.

أمّا الآية التالية فتقول :( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ) فالإنسان لا يرى غدا نتائج أعماله التي كانت في مسير الخير أو الشرّ فحسب ، بل سيرى أعماله نفسها يوم الحساب ، كما نجد التصريح بذلك في الآية (٣٠) من سورة آل عمران :( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ) .

كما ورد التصريح بمشاهدة الأعمال الصالحة والطالحة عند القيامة في سورة الزلزلة الآيتين (٧) و٨) :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ! أمّا الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فتقول :( ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى ) (٣) .

والمراد من «الجزاء الأوفى» هو الجزاء الذي يكون طبقا للعمل. وبالطبع هذا

__________________

(١) أتت لفظ الوازرة لكونه وصفا للنفس المحذوفة في الآية ومثلها تأنيث اخرى.

(٢) كلمة «ما» في «ما سعى» مصدرية.

(٣) نائب الفاعل في يجزاه ضمير يعود على الإنسان والهاء في يجزاه تعود على العمل (مع حذف حرف الجرّ) وتقدير الآية هكذا ثمّ يجزى الإنسان بعمله أو على عمله الجزاء الأوفى يقول الزمخشري في الكشّاف : يمكن أن لا يكون هناك حرف مقدّر لأنّه يقال يجزى العبد سعيه إلّا أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّه يقال مثلا جزاه الله على عمله ويندر أن يقال جزاه الله عمله ، والجزاء الأوفى يمكن أن يكون مفعولا ثانيا أو مفعولا مطلقا.

٢٦١

لا ينافي لطف الله وتفضّله بأن يضاعف الجزاء على الأعمال الصالحة عشرة أضعاف أو عشرات الأضعاف ومئاتها وإلى ما شاء الله! وما فسّره بعضهم بأنّ «الجزاء الأوفى» معناه الجزاء الأكثر في شأن الحسنات ، لا يبدو صحيحا ، لأنّ كلام هذه الآية يشمل الذنوب والأعمال الطالحة ، بل الكلام فيها أساسا على الوزر والذنب «فلاحظوا بدقّة»!

* * *

بحوث

١ ـ ثلاثة اصول إسلامية مهمّة

أشير في الآيات ـ آنفة الذكر ـ إلى ثلاثة اصول من الأصول الإسلامية ، وقد أكّدت عليها الكتب السماوية السابقة وهي :

أ ـ كلّ إنسان مسئول عن ذنبه ووزره.

ب ـ ليس للإنسان في آخرته إلّا سعيه.

ج ـ يجزي الله كلّ إنسان على عمله الجزاء الأوفى.

وهكذا فإنّ القرآن يشجب الكثير من الأوهام والخرافات التي يهتمّ بها عامّة الناس أو السائدة بينهم وكأنّها مذهب عقائدي!

والقرآن لا ينفي ـ عن هذا الطريق ـ عقيدة العرب المشركين الذين يعتقدون أنّ بإمكان الإنسان أن يتحمّل وزر الآخر فحسب! بل ينفي الإعتقاد الذي كان سائدا ـ ولا يزال ـ بين المسيحيين ، وهو أنّ الله أرسل ابنه المسيح ليصلب ويذوق العذاب والألم ويحمل على عاتقه ذنوب المذنبين!.

وكذلك يحكم على جماعة من القسسة والرهبان بقبح عملهم لما كانوا يبيعونه من صكوك الغفران ومنح قطع الأراضي في الجنّة لمن يشاءون ، والعفو عن المخطئين!! فكلّ هذه الأمور باطلة.

٢٦٢

ومنطق العقل أيضا يقتضي أنّ كلّا مسئول عن عمله ، ويعود عليه عمله بالنفع أو الضرر.

وهذا المبدأ الإسلامي يؤدّي إلى أن يسعى الإنسان إلى الخير وأن يجتهد بدلا من الالتجاء إلى الخرافات أو أن يتحمّل آثامه غيره! وأن يتجنّب الذنب ويتّقي الله ، وإذا ما اتّفق له أن عثرت قدمه في معصية ، فعليه أن يبادر إلى التوبة ويجبر ذلك بالاستغفار والعمل الصالح!

وتأثير هذه العقيدة التربوية في الناس واضح تماما ولا يقبل الإنكار ، كما أنّ أثر تلك المعتقدات الجاهلية الفاسدة ـ المخرّب لا يخفى على أحد.

وصحيح أنّ هذه الآيات ناظرة إلى السعي والمثابرة والعمل للآخرة ورؤية الثواب في الآخرة! إلّا أنّ الملاك والمعيار الأصلي له يتجلّى في الدنيا أيضا أي أنّ الأفراد المؤمنين لا ينبغي لهم أن يتوقّعوا من الآخرين أن يعملوا لهم ويحلّوا مشاكلهم الاجتماعية ، بل عليهم أنفسهم أن ينهضوا ويجدّوا ويثابروا أبدا.

ويستفاد من هذه الآيات أصل حقوقي في المسائل الجزائية أيضا ، وهو أنّ الجزاء أو العقاب إنّما ينال المذنب الحقيقي ، وليس لأحد أن يجعل إثم غيره في ذمّته!

٢ ـ سوء الاستفادة من مفاد الآية :

كما بيّنا آنفا ، فإنّ هذه الآيات بقرينة الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها ناظرة إلى سعي الإنسان لأمور الآخرة ، إلّا أنّه مع هذه الحال ـ لما كان ذلك على أساس حكم عقلي مسلّم به فيمكن تعميم السعي والجدّ حتّى يشمل السعي لأمور الدنيا ويشمل أيضا الجزاء الدنيوي ، إلّا أنّ ذلك لا يعني أن يتأثّر بعضهم بالمذاهب الاشتراكية فيقول : إنّ مفهوم الآية أنّ المالكية إنّما تحصل عن طريق العمل فحسب ، وبذلك يخطّي قانون الإرث والمضاربة والإجارة وأمثالها!

٢٦٣

والعجب أنّه ينادي بالإسلام ويستدلّ بآيات القرآن أيضا مع أنّ مسألة الإرث من الأصول الإسلامية القطعية ، وكذلك الخمس والزكاة! علما بأنّه لم يسع الوارث إلى إرثه ولا مستحقّو الزكاة أو الخمس إليهما ، ولم يقع سعي في مواطن النذر والوصايا ومع كلّ ذلك فإنّ القرآن الكريم ذكر هذه الأمور.

وبتعبير آخر أنّ هذا هو الأصل ، إلّا أنّه غالبا ما يوجد استثناء أمام كلّ أصل ، فمثلا الولد يرث أباه هذا أصل إسلامي ، لكن متى قتل الولد أباه أو خرج عن الإسلام حرم حقّ الإرث.

وكذلك نتيجة سعي كلّ شخص تعود عليه أو إليه ، هذا هو الأصل ، إلّا أنّه لا مانع من أن يعطي مقدار من المال للآخر طبقا لقرار الإجارة بين الطرفين ، وهو أصل قرآني(١) كذلك ، أو أن ينتقل المال عن طريق النذر أو الوصية ، كما صرّح به القرآن الكريم.

٣ ـ الجواب على سؤالين

يرد هنا سؤالان وينبغي أن نجيب عليها :

أوّلا : إذا كان ما يناله الإنسان يوم القيامة هو نتيجة سعيه ، فما معنى الشفاعة إذا؟!

والثّاني : إنّنا نقرأ في الآية (٢١) من سورة الطور في شأن أهل الجنّة :( أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) ! مع أنّ الذريّة لم تسع في هذا المضمار ، ثمّ إنّنا نجد في الرّوايات الإسلامية أنّ الإنسان إذا عمل عملا صالحا فإنّ نتيجة ذلك تنعكس على أبنائه أيضا.

والجواب على هذه الأسئلة جملة واحدة وهي أنّ القرآن يقول أنّ الإنسان

__________________

(١) جاء هذا الأصل في قصّة موسى وشعيب في سورة القصص الآية (٢٧).

٢٦٤

ليس له أن يأخذ أكثر من سعيه وعمله ، إلّا أنّه لا يمنع أن ينال بعض الناس اللائقين نعما أخر عن طريق اللطف والتفضّل الإلهي.

فالاستحقاق شيء ، والتفضّل شيء آخر! كما أنّ الله يضاعف الحسنات عشرات المرّات بل مئات المرّات وآلافها أحيانا.

ثمّ ـ الشفاعة ـ كما ذكرنا في محلّه ـ ليست اعتباطا ـ بل هي بحاجة إلى السعي والجدّ وإيجاد العلاقة بالشافع أيضا ، وكذلك الأمر في شأن ذريّة الأشخاص الصالحين ، فإنّ القرآن يقول أيضا :( وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ) !.

٤ ـ صحف إبراهيم وموسى

«الصحف» جمع صحيفة ، وتطلق هذه الكلمة على كلّ شيء واسع كما يقال مثلا صحيفة الوجه ، ثمّ استعملوا هذه الكلمة على صفحات الكتاب.

فالمراد من صحف موسى هي التوراة النازلة عليه وأمّا صحف إبراهيم فما نزل عليه من كتاب سماوي أيضا.

ينقل المرحوم الطبرسي في مجمع البيان حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير سورة الأعلى وخلاصته ما يلي.

يسأل أبو ذرّ النّبي : يا رسول الله كم عدد الأنبياء؟

فيجيبه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم مائة الف نبي وأربعة وعشرون ألفا.

فيسأله ثانية عن الرسل منهم : كم المرسلون؟

فيجيبه النبي : ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء «والرّسول هو المأمور بالإنذار والإبلاغ في حين أنّ النّبي أعمّ منه مفهوما».

ويسأل أبو ذرّ مرّة اخرى : كان آدم نبيّا؟!

فيجيب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم ، كلّمه الله وخلقه بيده.

فيسأله أبو ذرّ : كم أنزل الله من كتاب؟ فيجيب النبي : مائة وأربعة كتب أنزل الله

٢٦٥

منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوخ وهو «إدريس» ثلاثين صحيفة ، وهو أوّل من خطّ بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان»(١) .

٥ ـ المسؤولية عن الأعمال في كتب السابقين

الذي يلفت النظر أنّ التّوراة الحالية أوردت المضمون الذي ذكرته الآيات محلّ البحث في كتاب حزقيل إذ جاء فيه :

«الجاني الذي يذنب سيموت ، والابن لا يحمل عبء أبيه والأب لا يحمل ذنب ابنه»(٢) .

وجاء هذا المعنى ذاته أيضا في مورد القتل في سفر التثنية من التوراة.

«لا يقتل الآباء عوضا عن الأبناء ولا يقتل الأبناء عوضا عن الآباء ، فكلّ يقتل بذنبه»(٣) .

وبالطبع فإنّ كتب الأنبياء الأصلية ليست في متناول اليد ، وإلّا لكان من الممكن أن نعثر على موارد أكثر في شأن هذا الأصل وأمثاله.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٧٦ وذكر هذا الحديث في روح البيان أيضا ، ج ٩ ، ص ٢٤٦.

(٢) كتاب حزقيل ، الفصل ١٨ ص ٢٠.

(٣) التوراة ، سفر التثنية ، باب ٢٤ الرقم ١٦.

٢٦٦

الآيات

( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) )

التّفسير

كلّ شيء ينتهى إليه :

في هذه الآيات تتجلّى بعض صفات الله التي ترشد الإنسان إلى مسألة التوحيد وكذلك المعاد أيضا.

ففي هذه الآيات وإكمالا للبحوث الواردة في شأن جزاء الأعمال يقول القرآن :( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) .

وليس الحساب والثواب والجزاء في الآخرة بيد قدرته فحسب ، فإنّ الأسباب والعلل جميعها تنتهي سلسلتها إلى ذاته المقدّسة ، وجميع تدبيرات هذا العالم تنشأ من تدبيراته ، وأخيرا فإنّ ابتداء هذا العالم والموجودات وانتهاؤها كلّها

٢٦٧

منه وإليه ، وتعود إلى ذاته المقدّسة.

ونقرأ في بعض الرّوايات في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا»(١) .

أي لا تتكلّموا في ذات الله فإنّ العقول تحار فيه ولا تصل إلى حدّ فإنّه لا يمكن للعقول المحدودة أن تفكّر في ما هو غير محدود لأنّه مهما فكّرت العقول فتفكيرها محدود وحاشا لله أن يكون محدودا.

وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يبيّن مفهوما آخر لهذه الآية ولا ينافي ما ذكرناه آنفا ويمكن الجمع بين المفهومين في الآية.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية مبيّنا حاكمية الله في أمر ربوبيته وانتهاء امور هذا العالم إليه فيقول :( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) (٢) ( مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى ) !

وهذه الآيات الأربع وما قبلها في الحقيقة هي بيان جامع وتوضيح طريف لمسألة انتهاء الأمور إليه وتدبيره وربوبيته ، لأنّها تقول : إنّ موتكم وحياتكم بيده واستمرار النسل عن طريق الزوجين بيده ، وكلّ ما يحدث في الحياة فبأمره ، فهو يضحك ، وهو يبكي ، وهو يميت ، وهو يحيي ، وهكذا فإنّ أساس الحياة والمعوّل عليه من البداية حتّى النهاية هو ذاته المقدّسة.

وقد جاء في بعض الأحاديث ما يوسع مفهوم الضحك والبكاء في هذه الآية ففسّرت بأنّه سبحانه : أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات(٣) .

وقد أورد بعض الشعراء هذا المضمون في شعره فقال :

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما جاء في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٧٠.

(٢) هذه الأفعال وإن جاءت بصيغة الماضي إلّا أنّها تعطي معنى الفعل المضارع أيضا والدلالة على الدوام (فلاحظوا بدقّة).

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٧٢.

٢٦٨

انّ فصل الربيع فصل جميل

تضحك الأرض من بكاء السماء

وما يسترعي النظر أنّ القرآن أشار إلى صفتي الضحك والبكاء دون سائر أفعال الإنسان ، لأنّ هاتين الصفتين خاصّتان بالإنسان وغير موجودتين في الحيوانات الاخر أو نادرتان جدّا.

أمّا تصوير انفعالات الإنسان عند الضحك أو البكاء وعلاقتهما بالتغيّرات في نفس الإنسان وروحه فانّها غريبة وعجيبة جدّا ، وكلّ هذه الأمور في مجموعها يمكن أن تكون آية واضحة من آيات المدبّر الحقّ ، بالإضافة إلى التناسب الموجود بين الضحك والبكاء والحياة والفناء!

وعلى كلّ حال ، فانتهاء جميع الأمور إلى تدبير الله وربوبيته لا ينافي أصل الإختيار وحرية إرادة الإنسان ، لأنّ الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان أيضا من قبل الله وتدبيره وتنتهي إليه!.

وبعد ذكر الأمور المتعلّقة بالربوبية والتدبير من قبل الله يتحدّث القرآن عن موضوع المعاد فيقول :( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ) .

«النشأة» : معناها الإيجاد والتربية ، و «النشأة الاخرى» ليست شيئا سوى القيامة!

والتعبير بـ «عليه» من جهة أنّ الله لمّا خلق الناس وحمّلهم الوظائف والمسؤوليات وأعطاهم الحرية وكان بينهم المطيعون وغير المطيعون والظلمة والمظلومون ولم يبلغ أي من هؤلاء جزاءه النهائي في هذا العالم ، اقتضت حكمته أن تكون نشأة اخرى للتحقّق العدالة.

أضف إلى ذلك فإنّ الحكيم لا يخلق هذا العالم الواسع لأيّام أو سنوات محدودة بما فيها من مسائل غير منسجمة ، فلا بدّ أن يكون مقدّمة لحياة أوسع تكمن فيها قيمة هذا الخلق الواسع ، وبتعبير آخر إذا لم تكن هناك نشأة اخرى فإيجاد هذا العالم لا يبلغ هدفه النهائي!

٢٦٩

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ الله سبحانه جعل هذا الوعد لعباده وعدا محتوما على نفسه ، وصدق كلام الله يوجب أن لا يخلف وعده.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى ) فالله سبحانه لم يرفع حاجات الإنسان المادية عنه بلطفه العميم فحسب ، بل أولاده غنى يرفع عنه حاجاته المعنوية من امور التربية والتعليم والتكامل عن طريق إرسال الرسل إليه وإنزال الكتب السماوية وإعطائه المواهب العديدة.

«وأغنى» : فعل مشتق من غني ومعناه عدم الحاجة.

«وأقنى» : فعل مشتقّ من قنية على وزن جزية ، ومعناها الأموال التي يدّخرها الإنسان(١) .

فيكون معنى الآية على هذا النحو : هو أغنى أي رفع الحاجات الفعلية ، وأقنى معناه إيلاء المواهب التي تدخّر سواء في الأمور المادية كالحائط أو البستان والأملاك وما شاكلها ، أو الأمور المعنوية كرضا الله سبحانه الذي يعدّ أكبر «رأس مال» دائم!

وهناك تفسير آخر لأقنى ، وهو أنّه ما يقابل أغنى ، أي أنّ الغنى والفقر بيد قدرته ، نظير ذلك ما جاء في الآية (٢٦) من سورة الرعد :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) .

إلّا أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ما ورد عن «أقنى» من معنى في كتب اللغة والآية المذكورة في هذا الصدد لا يمكن أن تكون «شاهدا» على هذا التّفسير.

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتقول :( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) .

والتعويل في القرآن على «الشعرى» النجم المعروف في السماء بالإضافة إلى أنّه أكثر النجوم لمعانا ويطّلع عند السحر في مقربة من الجوزاء ممّا يلفت النظر

__________________

(١) راجع المفردات للراغب ، مادّة قني.

٢٧٠

تماما هذا التعويل والتصريح به لأنّ طائفة من المشركين العرب كانت تعبده ، فالقرآن يشير إلى أنّ الأولى بالعبادة هو الله لأنّه ربّ الشعرى «وربّكم».

وينبغي الالتفات ـ ضمنا ـ أنّ هناك نجمين معروفين باسم الشعرى أحدهما إلى الجنوب ويدعى بنجم الشعرى اليماني «لأنّ اليمن جنوب الجزيرة العربية» والآخر نجم الشعرى الشامي الواقع في الجهة الشمالية «والشام شمال الجزيرة أيضا» إلّا أنّ المعروف والمشهور هو الشعرى اليماني.

وهناك لطائف ومسائل خاصّة في هذا النجم «الشعرى» سنتحدّث عنه بعد قليل.

* * *

بحوث

١ ـ كلّ الدلائل تشير إليه

إنّ ما تثيره هذه الآيات في الحقيقة إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنّ أي نوع من أنواع التدبير في هذا العالم إنّما يعود إلى ذات الله المقدّسة ، بدءا من مسألة الموت والحياة ، إلى خلق الإنسان من نطفة لا قيمة لها ، وكذلك الحوادث المختلفة التي تقع في حياة الإنسان فتضحكه تارة وتبكيه اخرى ، كلّ ذلك من تدبير الله سبحانه.

والنجوم والكواكب المشرقة في السماء تطلع وتغيب بأمره وتحت ربوبيته.

وفي الأرض الغنى وعدم الحاجة وما يقتنيه الإنسان كلّ ذلك يعود إلى ذاته المقدّسة.

وبالطبع فإنّ النشأة الاخرى بأمره أيضا ، لأنّها حياة جديدة وامتداد لهذه الحياة واستمرارها.

هذا البيان ـ يبرز خطّ التوحيد من جهة ومن ـ جهة اخرى ـ خطّ المعاد ، لأنّ خالق الإنسان من نطفة لا قيمة لها في الرحم قادر على تجديد حياته أيضا.

٢٧١

وبتعبير آخر ، إنّ جميع هذه الأمور كاشفة عن توحيد أفعال الله وتوحيد ربوبيته أجل كلّ هذي الأصداء من إيحائه!

٢ ـ عجائب نجم الشعرى :

«نجم الشعرى» كما أشرنا إليه آنفا من أشدّ النجوم في السماء لمعانا وإشراقا وهو معروف بنجم الشعرى اليماني ، لأنّه يقع في جهة جنوب الجزيرة العربية ، وحيث أنّ اليمن في جنوب الجزيرة أيضا فقد أطلق عليه «باليماني»!

وكانت طائفة من العرب كقبيلة «خزاعة» تقدّس هذا النجم وتعبده وتعتقد أنّه مبدأ الموجودات على الأرض فتأكيد القرآن على أنّ الله ربّ الشعرى هو لإيقاظ هذه القبيلة وأمثالها من غفوتها ، لئلّا يشتبه المخلوق بالخالق ويجعل المربوب مكان الربّ كما كانت القبيلة آنفة الذكر عليه.

هذا النجم العجيب الخلقة لإشراقه الكثير عدّ ملك النجوم وله أسرار وعجائب نشير إليها في هذا البحث مع ملاحظة أنّ هذه الحقائق كانت في ذلك العصر مجهولة عند العرب وغيرهم عن الشعرى فإنّ تأكيد القرآن على هذا الموضوع ذو معنى غزير!

أ ـ طبقا للتحقيقات التي أجريت في المراصد المعروفة في العالم عن «الشعرى» ظهر أنّ حرارة هذا النجم تبلغ ١٢٠ ألف درجة سانتيغراد!.

مع العلم أنّ حرارة سطح الشمس لا تتجاوز ٦٥٠٠ درجة سانتيغراد وهذا التفاوت بين الحرارتين يبيّن مدى حرارة الشعرى بالنسبة إلى الشمس.

ب ـ الجرم المخصوص لهذا النجم أثقل وزنا من الماء بمقدار خمسين ألف مرّة تقريبا ، أي أنّ وزن الليتر من الماء على الشعرى يعادل خمسين طنّا على سطح الأرض! مع أنّ من بين مجموع المنظومة الشمسية يعدّ كوكب عطارد أكثر الأجرام في وزنه النوعي ولا يتجاوز وزنه النوعي ستّة أضعاف الوزن النوعي للماء!

٢٧٢

فينبغي أن نعرف بهذا الوصف كم هذا النجم مثير للدهشة والعجب ، ومن أي عنصر يتألّف حتّى صار مضغوطا بهذا المستوى؟!

ج ـ يظهر نجم الشعرى ـ في قرننا ـ عند فصل الشتاء إلّا أنّ هذا النجم أو الكوكب كان يظهر في عصر منجمّي مصر في الصيف! وهو كوكب كبير يعادل عشرين ضعفا من كوكب الشمس ، ومسافته تبعد عن الأرض أكثر من مسافة الشمس بمقدار كبير وقد ذكروا أنّ مسافة بين الشعرى والأرض تعادل مليون مرّة المسافة بيننا وبين الشمس.

ونعرف أنّ سرعة النور في الثانية ٣٠٠ ألف ألف متر (ثلاثمائة ألف كيلومتر) وأنّ نور الشمس يصل إلينا خلال ثماني دقائق وثلاث عشرة ثانية مع أنّها تبعد عنّا مسافة خمسة عشر مليون كيلو «مترا» في حين أنّ شعاع الشعرى لا يصلنا إلّا بعد عشر سنين ، والآن قدّروا كم هي الفاصلة بين الشعرى والأرض!

د ـ لكوكب الشعرى نجم تابع له يدور حوله وهو من نجوم السماء الغامضة.

وأوّل من اكتشفه عالم يدعى بسل Besell عام ١٨٤٤ م إلّا أنّه رؤي عام ١٨٦٢ بالمجهر «التلسكوب» ويكمل هذا النجم دورته حول الشعرى في ٥٠ عاما(١) .

كلّ هذا يدلّ أنّ تعابير القرآن إلى أيّ مدى عميقة وذات معنى غزير ، وفي طيّات تعابيره حقائق كامنة إذا لم يقدّر لها أن تعرف في عصر نزولها فإنّها تتجلّى بمرور الزمان.

٣ ـ حديث عميق المحتوى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

جاء في بعض الأحاديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بقوم يضحكون فقال : لو تعلمون

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية مادّة ، شعرى.

٢٧٣

ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا فنزل عليه جبرئيل فقال : إنّ الله هو أضحك وأبكى فرجع النّبي إليهم وقال ما خطوت أربعين خطوة حتّى أتاني جبرئيل فقال : ائت هؤلاء ، فقل لهم : إنّ الله أضحك وأبكى(١) .

وفي ذلك إشارة إلى أنّ المؤمن لا يلزمه أن يبكي دائما ، فالبكاء من خوف الله في محلّه مطلوب ، والضحك في محلّه مطلوب أيضا ، لأنّهما من الله!

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه التعابير لا تنافي أصل الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان ، لأنّ الهدف هو بيان علّة العلل وخالق هذه الغرائز والإحساسات!

وعند ما نقرأ في الآية ٨٢ من سورة التوبة قوله تعالى :( فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) فهذا الأمر وارد في المنافقين ، لأنّ الآيات التي قبل هذه الآية وبعدها تشهد بذلك!

الذي يلفت النظر أنّ القرآن يقسم في بداية السورة بالنجم فيقول :( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) وفي الآية محلّ البحث يقول في بيان صفات الله :( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) فإذا جمعنا الآيتين جنبا إلى جنب فهمنا لم لا يصحّ عبادة الشعرى ، لأنّ كوكب الشعرى يأفل أيضا ، وهو أسير في قبضة قوانين الخلق!

* * *

__________________

(١) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٣٠.

٢٧٤

الآيات

( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) )

التّفسير

ألا تكفي دروس العبرة هذه؟!

هذه الآيات ـ كالآيات المتقدّمة ـ تستكمل المسائل المذكورة في الصحف الاولى وما جاء في صحف إبراهيم وموسى.

وكانت الآيات المتقدّمة قد ذكرت عشر مسائل ضمن فصلين :

الأوّل : كان ناظرا إلى مسئولية كلّ إنسان عن أعماله.

الثاني : ناظر إلى انتهاء جميع الخطوط والحوادث إلى الله سبحانه! أمّا الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن مسألة واحدة ـ وإن شئت قلت ـ تتحدّث عن موضوع واحد ذلك هو مجازاة أربع امم من الأمم المنحرفة الظالمة وإهلاكهم ، وفي ذلك إنذار لأولئك الذين يلوون رؤوسهم عن طاعة الله ولا يؤمنون بالمبدأ والمعاد(١) .

__________________

(١) ينبغي الالتفات بأنّ هذه المسائل أو المواضيع المشار إليها في القرآن في أحد عشر فصلا ، كلّها بدأت بأنّ : فأوّلها جاء

٢٧٥

فتبدأ الآية الاولى من الآيات محلّ البحث فتقول :( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ) وصف عاد بـ «الاولى» إمّا لقدمها حتّى أنّ العرب تطلق على كلّ قديم أنّه «عاديّ» أو لوجود امّتين في التاريخ باسم «عاد» والامّة المعروفة التي كانت نبيّها هودعليه‌السلام تدعى بـ «عاد الاولى»(١) .

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( وَثَمُودَ فَما أَبْقى ) .

ويقول في شأن قوم نوح :( وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ) .

لأنّ نبيّهم نوحا عاش معهم زمانا طويلا ، وبذل قصارى جهده في إبلاغهم ونصحهم ، فلم يستجب لدعوته إلّا قليل منهم ، وأصرّوا على شركهم وكفرهم وعتوّهم واستكبار هم وإيذائهم نبيّهم نوحا وتكذيبهم إيّاه وعبادة الأوثان بشكل فظيع كما سنعرض تفصيل ذلك في تفسير سورة نوح إن شاء الله.

وأمّا رابعة الأمم فهي «قوم لوط» المشار إليهم بقوله تعالى :( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى ) .

والظاهر أنّ زلزلة شديدة أصابت حيّهم وقريتهم فقذفت عماراتهم نحو السماء بعد اقتلاعها من الأرض وقلبتها على الأرض ، وطبقا لبعض الرّوايات كان جبرئيل قد اقتلعها بإذن الله وجعل عاليها سافلها ودمّرها تدميرا( فَغَشَّاها ما غَشَّى ) (٢) .

أجل لقد أمطروا بحجارة من السماء ، فغشّت حيّهم وعماراتهم المنقلبة ودفنتها عن آخرها.

وبالرغم من أنّ التعبير في هذه الآية والآية السابقة لم يصرّح بقوم لوط ، إلّا

__________________

في الآية ٣٨ ألا تزر وازرة وزر اخرى وآخرها وأنّه أهلك عادا الاولى.

(١) مجمع البيان وروح المعاني ، وتفسير الرازي.

(٢) «ما» في ما غشّى يمكن أن تكون مفعولا به أو فاعلا نظير والسماء وما بناها إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يأتي للتهويل!

٢٧٦

أنّ المفسّرين فهموا منه كما فهموا من الآية ٧٠ من سورة التوبة والآية ٩ من سورة الحاقة هذا المعنى من عبارة المؤتفكات ، وقد احتمل بعضهم أنّه هذا التعبير يشمل كلّ المدن المقلوبة والنازل عليها العذاب من السماء ، إلّا أنّ آيات القرآن الاخر تؤيّد ما ذهب إليه المشهور بين المفسّرين!.

وقد جاء في الآية (٨٢) من سورة هود :( فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ) !

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم أنّ المؤتفكة «المدينة المقلوبة» هي «البصرة»! لأنّه ورد في رواية أنّ أمير المؤمنين عليا خاطب أهلها بالقول : يا أهل البصرة ويا أهل المؤتفكة ويا جند المرأة وأتباع البهيمة!

غير أنّه من المعلوم أنّ هذا التعبير في كلام الإمام عليعليه‌السلام هو من باب التطبيق والمصداق ، لا التّفسير ، لاحتمال أن يكون أهل البصرة يومئذ فيهم شبه بأهل المؤتفكة من الناحية الأخلاقية وما ابتلي به قوم لوط من عذاب الله!

وفي ختام هذا البحث يشير القرآن إلى مجموع النعم الوارد ذكرها في الآيات المتقدّمة ويلمح إليها بصورة استفهام إنكاري قائلا :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى ) ؟

فهل تشّك وتتردّد بنعم الله ، كنعمة الحياة أو أصل نعمة الخلق والإيجاد ، أو نعمة أنّ الله هذه لا يأخذ أحدا بوزر أحد ، وما جاء في الصحف الاولى وأكّده القرآن؟!

وهل من شاكّ بهذه النعمة ، وهي أنّ الله أبعدكم عن البلاء الذي عمّ الأمم السابقة بكفرهم وشملكم بعفوه ورحمته؟!

أو هل هناك شكّ في نعمة نزول القرآن وموضوع الرسالة والهداية؟

صحيح أنّ المخاطب بالآية هو شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ مفهومها شامل لجميع المسلمين ، بل الهدف الأصلي من هذه الآية إفهام الآخرين.

٢٧٧

«تتمارى»(١) مشتقّ من تماري ومعناه المحاجة والمجادلة المقرونة بالشكّ والتردّد!

«آلاء» جمع : ألأ ، أو إلي ـ على وزن فعل ـ والألئ معناها النعمة وبالرغم من أنّ بعض ما جاء في الآيات المتقدّمة ومن ضمنها إهلاك الأمم السابقة وتعذيبهم ليس مصداقا للنعمة إلّا أنّه من جهة كونه درسا للعبرة «للآخرين» ولأنّ الله لم يعذّب المسلمين وحتّى الكفّار المعاصرين لهم بذلك العذاب يمكن اعتبار ذلك نعمة عظيمة.

* * *

__________________

(١) بالرغم من أنّ باب التفاعل في اللغة العربية يدلّ على اشتراك طرفين في الفعل ، إلّا أن تتمارى هنا مخاطب به شخص واحد ، وهو أمّا لتعدّد الحالات أو للتأكيد «فلاحظوا بدقّة».

٢٧٨

الآيات

( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢) )

التّفسير

اسجدوا له جميعا

تعقيبا على الآيات المتقدّمة التي كانت تتحدث عن إهلاك الأمم السالفة لظلمهم ، تتوجّه هذه الآيات ـ محلّ البحث ـ إلى المشركين ، والكفّار ومنكري دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتخاطبهم بالقول :( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) أي النّبي أو القرآن نذير كمن سبقه من المنذرين.

وقوله عن «القرآن أو النّبي «هذا نذير من النذر الاولى» يعني أنّ رسالة محمّد وكتابه السماوي لم يكن (أي منهما) موضوعا لم يسبق إليه ، فقد أنذر الله أمما بمثله في ما مضى من القرون ، فعلام يكون ذلك مثار تعجّبكم؟

وقال بعض المفسّرين إنّ المراد من( هذا نَذِيرٌ ) هو الإشارة إلى الإخبار

٢٧٩

الوارد في الآيات المتقدّمة عن نهاية الأمم السالفة ، لأنّ هذا الإخبار بنفسه نذير أيضا ، إلّا أنّ التّفسيرين السابقين أنسب كما يبدو.

ومن أجل أن يلتفت المشركون والكفّار إلى الخطر المحدق بهم ويهتّموا به أكثر يضيف القرآن قائلا :( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) .

أجل ، فقد اقترب وعد القيامة فأعدّوا أنفسكم للحساب ، والتعبير بـ «الآزفة» عن القيامة هو لاقترابها وضيق وقتها ، لأنّ الكلمة هذه مأخوذة من الأزف على وزن نجف. ومعناه ضيق الوقت ، وبالطبع فإنّ مفهومه يحمل الاقتراب أيضا

وتسمية القيامة بالآزفة في القرآن بالإضافة إلى هذه الآية محلّ البحث ، واردة في الآية ١٨ من سورة غافر أيضا وهو تعبير بليغ وموقظ ، وهذا المعنى جاء بتعبير آخر في سورة القمر (الآية الاولى)( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) ، وعلى كلّ حال فإنّ اقتراب القيامة مع الأخذ بنظر الإعتبار عمر الدنيا المحدود والقصير يمكن إدراكه بوضوح ، خاصّة ما ورد أنّ من يموت تقوم قيامته الصغرى.

ثمّ يضيف القرآن قائلا : أنّ المهمّ هو أنّه لا أحد غير الله بإمكانه إغاثة الناس في ذلك اليوم والكشف عمّا بهم من شدائد :( لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ ) (١) .

«الكاشفة» هنا معناه مزيحة الشدائد. إلّا أنّ بعضهم فسّرها بأنّها العامل لتأخير القيامة ، وبعضهم فسّرها بأنّها الكاشفة عن تاريخ وقوع يوم القيامة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب ظاهرا.

وعلى كلّ حال ، فالحاكم والمالك وصاحب القدرة في ذلك الحين وكلّ حين هو الله سبحانه ، فإذا أردت النجاة فالتجئوا إليه وإلى لطفه وإذا طلبتم الدّعة والأمان فاستظلّوا بالإيمان به.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ) .

__________________

(١) الضمير في لها يعود على الآزفة وتأنيث الكاشفة ، لأنّها صفة للنفس المحذوفة ، وقال آخرون هي تاء المبالغة كالتاء في العلامة.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572