الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل13%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287640 / تحميل: 5226
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

والقمر والكواكب الأحد عشر الذين رايتهم في منامك ، ليكونوا مؤنسيك في هذه البئر ، ويكسوك ويلبسوك ثوبا على بدنك فدعا يوسف على اثر اليأس المطلق بالدعاء الآنف الذكر.(١)

وفي رواية عن الامام الصادقعليه‌السلام انّه قال : «حين القي يوسف في الجبّ هبط عليه جبرئيل وقال : ما تصنع هنا ايّها الغلام؟ فقال له : ان اخوتي القوني في البئر. فقال له جبرئيل : أتحبّ ان تخرج من البئر؟ قال : ذلك بمشيئة الله ، ان شاء اخرجني.

فقال له : ان الله يأمرك ان تدعو بهذا الدعاء لتخرج من البئر : «اللهم انّي اسألك بأنّ لك الحمد ، لا اله الّا أنت المنّان ، بديع السماوات والأرض ، ذو الجلال والإكرام ، ان تصلي على محمّد وآل محمّد وان تجعل لي ممّا انا فيه فرجا ومخرجا»(٢) .

٣ ـ جملة( وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ ) تدلّ على انّهم لم يرموه في البئر ، أنزلوه على مكان يشبه الرصيف لمن يريد النّزول الى سطح الماء ، وقد شدوه بحبل حتى إذا نزل ووصل الى غيابة الجبّ تركوه وحده.

وهناك قسم من الرّوايات التي تفسّر الآيات المتقدمة تؤيد هذا الموضوع.

٤ ـ تسويل النفس

جملة «سوّلت» مشتقّة من «التسويل» ومعناه «التزيين» وقد يأتي بمعنى «الترغيب» وقد يأتي بمعنى «الوسوسة» كما في بعض التفاسير جميع هذه المعاني ترجع الى شيء واحد اي انّ هوى النفس زيّن لكم هذا العمل.

وهي اشارة الى انّه حين يطغى هوى النفس على الإنسان ويستبدّ به عناده ، فإنه يتصور ان اسوا الجنايات لديه امر حسن ، كما لو كان ذلك قتل الأخ او ابعاده ، وقد يتصور ان ذلك امر مقدّس وهذه نافذة على اصل كلي في المسائل

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ٤١٦.

(٢) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢١٦.

١٦١

النفسية ، بحيث يجعل الميل المفرط والرغبة الجامحة لأمر ما ـ وخاصّة مع اقترانهما بالرذائل الاخلاقية ـ غشاوة على احساس الإنسان ، فتنقلب عنده الحقائق وتتغير صورها.

لذا فإنّ القضاء الصحيح وادراك الواقعيّات العينيّة ، لا يمكن لها ان تتحقق دون تهذيب النفس ، وإذا كانت العدالة شرط في القاضي فإنّ هذا الأمر واحد من أسبابها وإذا كان القرآن الكريم يقول في الآية (٢٨٢) من سورة البقرة( وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ) فذلك اشارة الى هذه الحقيقة ايضا.

٥ ـ الكذاب عديم الحافظة

قصّة يوسف ـ وما جرى له مع اخوته ـ تثبت مرّة اخرى هذا الأصل المعروف الذي يقول : انّ الكذاب لا يستطيع ان يكتم سرّه دائما ، لانّ الواقعيات العينية حين تظهر الى الوجود الخارجي تظهر ومعها روابط ـ اكثر من ان تعدّ ـ مع موضوعات اخرى تدور حولها ، وإذا أراد الكاذب ان يهيئ مناخا لمسألة غير واقعية فإنّه لا يستطيع ان يحفظ هذه الروابط مهما كان دقيقا.

ولنفرض انّه يستطيع ان يؤلف بين عدد من الروابط الكاذبة في حادثة ما ، ولكن المحافظة على هذه الروابط المصطنعة في ذهنه ليست عملا هيّنا ، فإنّ اقل غفلة منه تسبب وقوعه في التناقض ، فتتسبب هذه الغفلة في فضيحة صاحبها وتكشف الأمر الواقعي وهذا درس كبير لمن يريد المحافظة على ماء وجهه ومكانته في المجتمع ان لا يلجأ الى الكذب فيتعرض موقعه الاجتماعي للخطر وينزل عليه غضب الله.

٦ ـ ما هو الصبر الجميل؟

الصبر امام الحوادث الصعبة والأزمات الشديدة يدلّ على قوة شخصية الإنسان ، وعلى سعة روحه بسعة ما تتركه هذه الحوادث فلا يتأثر ولا يهتز لها.

١٦٢

ربّما يحرك النسيم العليل ماء الحوض الصغير ، ولكن المحيطات العظيمة كالمحيط الهادي ـ مثلا ـ يستوعب حتى الاعصار الذي يتلاشى امام هدوئه وسعته.

وقد يتصبر الإنسان أحيانا ، ولكنّه سرعان ما يتلف هذا الصبر بكلماته النابية التي تدل على عدم الشكر وعدم تحمل الحادثة ونفاد الصبر.

ولكن المؤمنين الذين يتمتعون بإرادة قويّة واستيعاب للحوادث ، هم أولئك الذين لا يتأثرون بها ولا يجري على لسانهم ما يدلّ على عدم الشكر وكفران النعمة او الجزع او الهلع.

صبر هؤلاء هو الصبر الجميل قد يبرز الآن هذا السؤال ، وهو اننا نقرا في الآيات الاخرى ـ من هذه السورة ـ انّ يعقوب بكى على يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ، أفلا ينافي ما صدر من يعقوب صبره الجميل؟!

والجواب على هذا السؤال في جملة واحدة ، وهي : ان قلوب عباد الله مركز للعواطف ، فلا عجب ان ينهلّ دمع عينهم مدرارا ، المهم ان يسيطروا على أنفسهم ، ولا يفقدوا توازنهم ، ولا يقولوا شيئا يسخط الله.

ومن الطريف ان مثل هذا السؤال وجه الى النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين بكى على موت ولده ابراهيم حيث قالوا له : يا رسول الله ، أتنهانا عن البكاء وتبكي؟! فأجابهم النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «تدمع العين ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الربّ».

وفي رواية اخرى انّه قال : «ليس هذا بكاء انّه رحمة»(١) .

وهذا اشارة الى انّ ما في صدر الإنسان هو القلب ، وليس حجر! وطبيعيّ ان يتأثر الإنسان امام المسائل العاطفية ، وابسط هذا التأثر هو انهلال الدمع انّ هذا لا يعدّ عيبا ، بل هو امر حسن ، العيب هو ان يقول الإنسان ما يسخط الربّ.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٢ ، ص ١٥٧ و ١٥٨.

١٦٣

الآيتان

( وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) )

التّفسير

نحو ارض مصر :

قضى يوسف في ظلمة الجب الموحشة والوحدة القاتلة ساعات مرّة ، ولكنّه بإيمانه بالله وسكينته المنبثقة عن الايمان شع في قلبه نور الأمل ، وألهمه الله تعالى القوة والقدرة على تحمّل الوحدة الموحشة ، وان ينجح في هذا الامتحان.

ولكنّ الله اعلم كم يوما قضى يوسف في هذه الحالة؟

قال بعض المفسّرين : قضى ثلاثة ايام ، وقال آخرون : يومين.

وعلى كل حال تبلج النّور( وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ ) (١) .

وانتخبت منزلها على مقربة من الجبّ ، وطبيعي انّ اوّل ما تفكر القافلة فيه ـ

__________________

(١) سمّيت القافلة «سيارة» لانّها في سير وحركة دائمين.

١٦٤

في منزلها الجديد ـ هو تأمين الماء وسد حاجتها منه( فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ ) (١) .

فانتبه يوسف الى صوت وحركة من أعلى البئر ، ثمّ راى الحبل والدلو يسرعان الى النّزول ، فانتهز الفرصة وانتفع من هذا العطاء الالهي وتعلق بالحبل بوثوق.

فأحسّ المأمور بالإتيان بالماء ان الدلو قد ثقل اكثر ممّا ينبغي ، فلمّا سحبه بقوة الى الأعلى فوجئ نظره بغلام كأنّه فلقة قمر ، فصرخ وقال :( يا بُشْرى هذا غُلامٌ ) .

وشيئا فشيئا سرى خبر يوسف بين جماعة من اهل القافلة ، ولكن من اجل ان لا يذاع هذا الخبر وينتشر ، ولكي يمكن بيع هذا الغلام الجميل في مصر ، اخفوه( وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً ) (٢) .

وبالطبع هناك احتمالات اخرى في تفسير هذه الجملة منها ان الذين عثروا على يوسف اسرّوه واخفوا خبره ، وقالوا : هذا متاع لأصحاب هذا الجبّ أودعوه عندنا لنبيعه في مصر.

ومنها ان احد اخوة يوسف كان بين الحين والحين يأتي الى الجبّ ليطلع على يوسف ويأتيه بالطعام وحين اطلع اخوة يوسف على ما جرى اخفوا علاقتهم الاخوية بيوسف وقالوا : هذا غلامنا فرّ من أيدينا واختفى هنا ، وهددوا يوسف بالموت إذ كشف الستار عن الحقيقة.

ولكن التّفسير الاوّل يبدو اقرب للنظر.

وتقول الآية في نهايتها :( وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ ) وبالرغم من اختلاف المفسّرين في من هم الذين شروا يوسف بثمن بخس ، وقول بعضهم : هم اخوة

__________________

(١) «الوارد» في الأصل من «الورود» وهو من يأتي بالماء ، ثمّ توسع استعمال الكلمة وأطلقت على كل ورود ودخول.

(٢) «البضاعة» في الأصل من مادة «بضع» على وزن «نذر» ومعناها : القطعة من اللحم ، ثمّ توسعوا في المعنى وأطلقوا هذا اللفظ على القطعة المهمّة ، من المال. والبضعة هي القطعة من الجسد ، وحسن البضع معناه : الإنسان المكتنز لحمه ، و «بضع» على وزن «حزب» معناه العدد من ثلاثة الى عشرة (راجع المفردات للراغب).

١٦٥

يوسف ، ولكن ظاهر الآيات هو من كان في القافلة ، وقد تمّ البحث عن اخوته في نهاية الآية التي سبقت هذه الآيات ، وجميع الضمائر في الجمل( فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً ) تعود على من كان في القافلة.

هنا يبرز هذا السؤال وهو : لم باعوا يوسف الذي كان يعدّ ـ على الأقل ـ غلاما ذا قيمة بثمن قليل ، او كما عبّر عنه القرآن( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ) ؟

ولكن هذا امر مألوف فإنّ السراق او أولئك الذين تأتيهم بضاعة مهمّة دون اي تعب ونصب يبيعونها سريعا لئلا يطلع الآخرون.

ومن الطبيعي انّهم لا يستطيعون بهذه الفورية ان يبيعوه بسعر غال.

و «البخس» في الأصل معناه تقليل قيمة الشيء ظلما ، ولذلك فإنّ القرآن يقول :( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ) (١) .

ثمّ انّ هناك اختلافا آخر بين المفسّرين في الثمن الذي بيع به يوسف ، وكيف قسّم بينهم؟ فقال البعض : عشرون درهما ، وقالت طائفة : اثنان وعشرون ، ومع ملاحظة انّ الباعة كانوا عشرين يتّضح سهم كل منهم ، وكم هو زهيد! وتقول الآية :( وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ) .

وفي الحقيقة انّ هذه الجملة في حكم بيان العلة للجملة المتقدمة ، وهي اشارة الى انّهم باعوا يوسف بثمن بخس ، لانّهم لم يرغبوا في هذه المعاملة ولم يعتنوا بها.

وهذا البيع البخس امّا لانّ اهل القافلة اشتروا يوسف بثمن بخس ، والإنسان إذا اشترى شيئا رخيصا باعه رخيصا عادة ، او انّهم كانوا يخافون ان يفتضح سرّهم ويجدون من يدّعيه ، او من جهة انّهم لم يجدوا في يوسف أثرا للغلام الذي يباع ويشترى ، بل وجدوا فيه آثار الحرّية واضحة في وجهه ، ومن هنا فلا البائعون كانوا راغبين ببيعه ولا المشترون كانوا راغبين بشرائه.

* * *

__________________

(١) هود ، ٨٥.

١٦٦

الآيتان

( وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) )

التّفسير

في قصر عزيز مصر :

انتهت حكاية يوسف مع اخوته الذين القوه في غيابة الجبّ وبيّناها تفصيلا ، بدا فصل جديد من حياة هذا الغلام الحدث في مصر فقد جيء بيوسف الى مصر وعرض للبيع ، ولما كان تحفة نفيسة فقد صار من نصيب «عزيز مصر» الذي كان وزيرا لفرعون او رئيسا لوزرائه ، لانّه كان يستطيع ان يدفع قيمة أعلى لغلام ممتاز من جميع الجهات ، والآن لنر ما الذي حدث له في بيت عزيز مصر.

يقول القرآن الكريم في شأن يوسف :( وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ

١٦٧

أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) (١) فلا ينبغي ان تنظري اليه كما ينظر الى العبيد.

يستفاد من سياق الآية انّ عزيز مصر لم يرزق ولدا وكان في غاية الشوق للولد ، وحين وقعت عيناه على هذا الصبيّ الجميل والسعيد تعلّق قلبه به ليكون مكان ولده.

ثمّ يضيف القرآن الكريم( وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ) .

هذا «التمكين» في الأرض امّا ان يكون لمجيء يوسف الى مصر ، وخاصّة ان خطواته ، في محيط مصر مقدّمة لما سيكون عليه من الاقتدار والمكانة القصوى ، وامّا انّه لا قياس ، بين هذه الحياة في مصر «العزيز» وبين تلك الحياة في غيابة الجبّ والوحدة والوحشة. فأين تلك الشدّة من هذه النعمة والرفاه!

ويضيف القرآن ايضا( وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) .

المراد من «تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ » ـ كما أشرنا سابقا ـ هو علم تفسير الأحلام وتعبير الرؤيا حيث كان يوسف قادرا على ان يطلع على بعض اسرار المستقبل من خلاله ، او المراد منه الوحي لانّ يوسف مع عبوره من المضايق الصعبة والشدائد القاسية ونجاحه في الاختبارات الالهية في قصر عزيز مصر ، نال الجدارة بحمل الرسالة والوحي. ولكن الاحتمال الاوّل اقرب كما يبدو للنظر.

ثمّ يختتم القرآن هذه الآية بالقول :( وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

انّ واحدة من مظاهر قدرة الله العجيبة وهيمنته على الأمور كلها ان يدع ـ في كثير من الموارد ـ اسباب موفقية الإنسان ونجاحه بيد أعدائه كما حدث في مسألة يوسفعليه‌السلام ، فلو لا خطة اخوته لم يصل الى الجبّ ابدا ، ولو لم يصل الى الجبّ لما وصل الى مصر ، ولو لم يصل الى مصر لما ذهب الى السجن ولما كان

__________________

(١) «المثوى» من مادة (ثوى) ومعناه المقام ، ولكن معناه هنا الموقعية والمنزلة والمقام كذلك.

١٦٨

هناك اثر من رؤيا فرعون التي أصبح يوسف بسببها عزيز مصر! ففي الحقيقة ان الله اجلس يوسف على عرش الاقتدار بواسطة اخوته الذين تصوروا انّهم سيقضون عليه في تركهم ايّاه في غيابة الجبّ.

لقد واجه يوسف في هذا المحيط الجديد ، الذي يعدّ واحدا من المراكز السياسية المهمة في مصر مسائل مستحدثة فمن جهة كان يرى قصور الطغاة المدهشة وثرواتهم ومن جهة اخرى كانت تتجسد في ذهنه صورة أسواق النخاسين وبيع المماليك والعبيد ومن خلال الموازنة بين هاتين الصورتين كان يفكر في كيفية القضاء على هموم المستضعفين من الناس لو أصبح مقتدرا على ذلك!

اجل ، لقد تعلم الكثير من هذه الأشياء في هذا المحيط المفعم بالضوضاء ، وكان قلبه يفيض همّا لانّ الظروف لم تتهيأ له بعد. فاشتغل بتهذيب نفسه وبنائها ، يقول القرآن الكريم في هذا الصدد :( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

كلمة «اشدّ» مشتقّة من مادة «شدّ» وتعني فتل العقدة باستحكام وهي هنا اشارة الى الاستحكام الجسماني والروحاني.

قال بعضهم : انّ هذه الكلمة جمع لا مفرد لها ولكن البعض الآخر قال : انّها جمع (شدّ) على وزن (سدّ) ولكن معناها الجمعي غير قابل للإنكار على كل حال!

المراد من «الحكم» و «العلم» الواردين في الآية المتقدمة التي تقول :( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ) امّا ان يكون مقام النبوّة كما ذهب الى ذلك بعض المفسّرين ، وامّا ان يكون المراد من الحكم العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح الخالي من اتباع الهوى والاشتباه. والمراد من العلم الاطلاع الذي لا يقترن معه الجهل ، ومهما كان فإنّ الحكم والعلم موهبتان نادرتان وهبهما

١٦٩

الله ليوسف لتقواه وصبره وتوكله عليه ، وجميع هذه الصفات مجتمعة في كلمة «المحسنين».

قال بعض المفسّرين : هناك ثلاثة احتمالات لمعنى كلمتي (الحكم والعلم) الواردتين في الآية ، وهي :

١ ـ انّ الحكم اشارة الى مقام النبوة (لانّ النّبي حاكم على الحق) والعلم اشارة الى علم الدين.

٢ ـ ان الحكم يعني ضبط النفس إزاء الهوى والميول النفسيّة ، وهو هنا اشارة الى الحكمة العملية. والعلم اشارة الى العلم النظري وتقديم الحكم على العلم هنا لانّ الإنسان إذا لم يهذب نفسه ويبنيها بناء صحيحا لا يصل الى العلم الصحيح.

٣ ـ انّ الحكم معناه ان يبلغ الإنسان مقام «النفس المطمئنة» ويتسلّط على نفسه بحيث يستطيع ان يتملك زمام النفس الامّارة ووسوستها والمراد من العلم هو الأنوار القدسيّة واشعة الفيض الالهي الذي تنزل من عالم الملكوت على قلب الإنسان الطاهر(١) .

* * *

ملاحظات

١ ـ ما هو اسم «عزيز» مصر؟

ممّا يستجلب النظر في الآيات المتقدمة ان اسم عزيز مصر لم يذكر فيها ، انّما ورد التعبير عنه ب( الَّذِي اشْتَراهُ ) .

لكن من هو هذا العزيز؟! لم تذكره الآية ، كما سنرى في الآيات المقبلة ان عنوانه لم يصرّح به الّا بالتدريج ، فمثلا نقرا في الآية (٢٥) هذا النصّ( وَأَلْفَيا

__________________

(١) راجع التفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ١٨ ، ص ١١١.

١٧٠

سَيِّدَها لَدَى الْبابِ ) .

وحين نتجاوز هذه الآيات ونصل الى الآية (٣٠) نواجه التعبير عن زوجته بـ «امْرَأَتُ الْعَزِيزِ ».

وهذا البيان التدريجي امّا لانّ القرآن يتحدث ـ حسب طريقته ـ بالمقدار اللازم ، وهذا دليل من ادلة الفصاحة والبلاغة ، او لأنّه ـ كما هو ملاحظ هذا اليوم في «نصوص الآداب» ايضا ـ حين يبدأ بالقصّة ـ يبدأ بها من نقطة غامضة ليتحرك الاحساس في الباحث ، وليلفت نظره نحو القصّة.

٢ ـ يوسفعليه‌السلام وتعبير الأحلام

الملاحظة الاخرى التي تثير السؤال في الآيات المتقدمة ، هي : ما علاقة الاطلاع على تفسير الأحلام وتأويل الأحاديث بمجيء يوسف الى قصر عزيز مصر الذي أشير اليه بلام الغاية في جملة( وَلِنُعَلِّمَهُ ) ؟!

لكن مع الالتفات الى انّ هذه النقطة يمكن ان تكون جوابا للسؤال الآنف الذكر ، وهي ان كثيرا من المواهب العلمية يهبها الله قبال التقوى من الذنوب ومقاومة الأهواء والميول النفسيّة ، او بتعبير آخر : انّ هذه المواهب التي هي ثمرة البصيرة القلبية الثاقبة ، هي جائزة الهية يهبها الله لمثل هؤلاء الأشخاص.

نقرا في حالات ابن سيرين مفسر الأحلام المشهور انّه كان رجلا بزازا وكان جميلا للغاية فعشقته امراة وتعلق قلبها به ، واستدرجته الى بيتها بأساليب وحيل خاصّة ، ثمّ غلّقت الأبواب عليه (لينال منها الحرام) لكنه لم يستسلم لهوى تلك المراة وأخذ ينصحها ويذكر مفاسد هذا الذنب العظيم ، ولكن نار الهوى كانت متأججة في قلبها بحيث لم يطفئها ماء الموعظة ، ففكر ابن سيرين في الخلاص من قبضتها ، فلوّث جسده بما كان في بيتها من اقذار تنفّر الرائي ، فلما رأته المراة نفرت منه وأخرجته من البيت.

١٧١

يقال انّ ابن سيرين أصبح ذكيّا بعد هذه الحادثة ورزق موهبة عظيمة في تفسير الأحلام ، وذكروا قصصا عجيبة عنه في الكتب التي تتناول تفسير الأحلام تدل على عمق اطلاعه في هذا المجال!

فعلى هذا يمكن ان يكون يوسفعليه‌السلام قد نال هذه الموهبة الخاصّة (العلم بتأويل الأحاديث) لتسلّطه على نفسه قبال اثارة امراة العزيز لهوى النفس!

ثمّ بعد هذا كله فإنّ قصور الملوك في ذلك الزمان كانت مراكز لمفسري الأحلام ، وانّ شابا ـ ذكيا كيوسف ـ كان يستطيع ان يستفيد من تجارب الآخرين ، وان يكون له استعداد روحي لافاضة العلم الالهي في هذا المجال!

وعلى كل حال فإنّه ليس مستبعدا ان يهب الله سبحانه لعباده المخلصين المنتصرين في ميادين «جهاد النفس للهوى والشّهوات» مواهب من المعارف والعلوم التي لا تقاس بأيّ معيار مادي ، ويمكن ان يكون الحديث المعروف «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء» اشارة الى هذه الحقيقة.

هذا العلم ليس ممّا يقرا عند الأستاذ ، ولا يعطى لايّ كان وبدون حساب بل هو جائزة من الجوائز التي تمنح للمتسابقين في ميادين جهاد النفس!

٣ ـ المراد من قوله تعالى :( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ )

قلنا ان (اشدّ) معناه الاستحكام الجسماني والروحاني ، وبلوغ الرشد معناه الوصول الى هذه المرحلة ، ولكن هذا العنوان قد عبّر عنه القرآن الكريم في مراحل مختلفة من عمر الإنسان.

فتارة أطلقه على سنّ البلوغ كقوله تعالى :( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) (١) .

وتارة يرد هذا المعنى في وصول الإنسان الى أربعين سنة ، كقوله تعالى :

__________________

(١) سورة الاسراء ، الآية ٣٤.

١٧٢

( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) (١) .

وتارة يراد به ما قبل مرحلة الشيخوخة والكبر ، كقوله تعالى :( ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ) (٢) .

ولعل هذا التفاوت في التعبيرات آت من طيّ الإنسان مراحل مختلفة لاستحكام الروح والجسم ، ولا شكّ ان الوصول الى سنّ البلوغ واحد من هذه المراحل.

وبلوغ الأربعين الذي يكون تواما للنضج الفكري والعقلي مرحلة ثانية ، كما ان المرحلة الثّالثة تكون قبل ان يسير الإنسان نحو قوس النّزول ويبلغ الضعف والوهن!

وعلى كل حال فإنّ المقصود في الآية ـ محل البحث ـ هو مرحلة البلوغ الجسمي والروحي الذي ظهر في يوسف بداية شبابه ، يقول الفخر الرازي في تفسيره في هذا الصدد : «مدة دور القمر ثمانية وعشرون يوما وكسر ، فإذا جعلت هذه الدورة اربعة اقسام كان كل قسم منها سبعة ايام ، فلا جرم رتبوا احوال الأبدان على الأسابيع ، فالإنسان إذا ولد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب الى ان يتم له سبع سنين ، ثمّ إذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء والقوّة ، ثمّ لا يزال في الترقي الى ان يتمّ له اربع عشرة سنة ، فإذا دخل في السنة الخامسة عشرة دخل في الأسبوع الثّالث وهناك يكمل العقل ويبلغ الى حد التكليف وتتحرك فيه الشهودة ، ثمّ لا يزال يرتقي على هذه الحالة الى ان يتم السنة الحادية والعشرين وهناك يتم الأسبوع الثّالث ، ويدخل في السنة الثّانية والعشرين وهذا الأسبوع آخر أسبوع النشوء والنماء ، فإذا تمّت السنة الثّامنة والعشرون فقد تمّت مدّة النشوء والنماء وينتقل الإنسان منه الى زمان الوقوف ،

__________________

(١) سورة الأحقاف ، الآية ١٥.

(٢) سورة غافر ، ٦٧.

١٧٣

وهو الزمان الذي يبلغ الإنسان فيه اشدّه ، وبتمام هذا الأسبوع الخامس ـ يحصل للإنسان خمسة وثلاثون سنة ثمّ انّ هذه المراتب مختلفة في الزيادة والنقصان ، فهذا الأسبوع الخامس الذي هو أسبوع الشدّة والكمال يبتدئ من السنة التّاسعة والعشرين الى الثّالثة والثّلاثين ، وقد يمتّد الى الخامسة والثّلاثين ، فهذا هو الطريق المعقول في هذا الباب ، والله اعلم بحقائق الأشياء»(١) .

التقسيم المتقدّم وان كان مقبولا الى حدّ ما لكنّه يبدو غير دقيق ، لانّ مرحلة البلوغ اوّلا ليست في انتهاء العقد الثاني ، وكذلك فإن التكامل الجسماني ـ طبقا لما يقول علماء اليوم ـ هو ٢٥ سنة والبلوغ الفكري الكامل أربعون سنة طبقا لبعض الرّوايات ، وبعد هذا كله فإنّ ما ورد آنفا لا يصحّ ان يكون قانونا عامّا ليصدق على جميع الأشخاص.

٤ ـ وآخر ما ينبغي الالتفات اليه هنا هو ان القرآن بعد ان يتحدث عن إتيان يوسف الحكم والعلم يعقب بالقول :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) ومعنى ذلك ان مواهب الله ـ حتى للأنبياء ـ ليست اعتباطا ، وكل ينال بمقدار إحسانه ويغرف من بحر الله وفيضه اللامحدود كما نال يوسف سهما وافرا من ذلك بصبره واستقامته امام كل تلك المشاكل.

* * *

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ١٨ ، ص ١١١.

١٧٤

الآيتان

( وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) )

التّفسير

العشق الملتهب :

لم يأسر جمال يوسف الملكوتي عزيز مصر فحسب ، بل أسر قلب امراة العزيز كذلك وأصبح متيّما بجماله!.

وامتدّت مخالب العشق الى اعماق قلبها ، وبمرور الزمن كان هذا العشق يتجذّر يوما بعد يوم ويزداد اشتعالا لكنّ يوسف هذا الشابّ الطاهر التقي ، لم يفكّر بغير الله ، ولم يتعلّق قلبه بغير عشق الله سبحانه.

وهناك امور اخرى زادت من عشق امراة العزيز ليوسف فمن جهة لم ترزق الولد ، ومن جهة اخرى انغمارها في حياة مترفة مفعمة بالبذخ ومن جهة

١٧٥

ثالثة عدم ابتلائها بأيّ نوع من البلاء كما هي حال المتنعّمين ، وعدم الرقابة الشديدة على هذا القصر من قبل العزيز من جهة رابعة كلّ ذلك ترك امراة العزيز ـ الفارغة من الايمان والتقوى ـ تهوي في وساوسها الشيطانية الى الحضيض ، بحيث أفضت ليوسف أخيرا عمّا في قلبها وراودته عن نفسه.

واتّبعت جميع الاساليب والطرق للوصول الى هدفها ، وسعت لكي تلقي في قلبه أثرا من هواها وترغيبها وطلبها ، كما يقول عن ذلك القرآن الكريم :( وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها ) .

وجملة «راودته» مأخوذة من مادّة «المراودة» وأصلها البحث عن المرتع والمرعى ، وما ورد في المثل المعروف «الرائد لا يكذب اهله» اشارة الى هذا المعنى ، كما يطلق «المرود» على وزن (منبر) على قلم الكحل الذي تكحل به العين ، ثمّ توسّعوا في هذا اللفظ فأطلق على كلّ ما يطلب بالمداراة والملاءمة.

وهذا التعبير يشير الى انّ امراة العزيز طلبت من يوسف ان ينال منها بطريق المسالمة والمساومة ـ كما يصطلح عليه ـ وبدون اي تهديد ، وأبدت محبّتها القصوى له بمنتهى اللين.

وأخيرا فكّرت في ان تخلو به وتوفّر له جميع ما يثير غريزته ، من ثياب فضفاضة ، وعطور عبقة شذيّة ، وتجميلات مرغبة ، حتّى تستولي على يوسف وتأسره!.

يقول القرآن الكريم :( وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ ) .

«غلّقت» تدلّ على المبالغة وانّها أحكمت غلق الأبواب ، وهذا يعني انّها سحبت يوسف الى مكان من القصر المتشكّل من غرف متداخلة وكما ورد في بعض الرّوايات كانت سبعة أبواب ، فغلقتها عليه جميعا لئلّا يجد يوسف اي طريق للفرار اضافة الى ذلك أرادت ان تشعر يوسف ان لا يقلق لانتشار الخبر فإنّه سوف لا يفتضح ، حيث لا يستطيع احد ان ينفذ الى داخل القصر ابدا.

١٧٦

وفي هذه الحال ، حين راى يوسف انّ هذه الأمور تجري نحو الإثم ، ولم ير طريقا لخلاصه منها ، توجّه يوسف الى زليخا و( قالَ مَعاذَ اللهِ ) وبهذا الكلام رفض يوسف طلب امراة العزيز غير المشروع وأعلمها انّه لن يستسلم لارادتها. وافهمها ضمنا ـ كما افهم كلّ انسان ـ انّه في مثل هذه الظروف الصعبة لا سبيل الى النجاة من وساوس الشيطان واغراءاته الّا بالالتجاء الى الله الله الذي لا فرق عنده بين السرّ والعلن ، بين الخلوة والاجتماع ، فهو مطّلع ومهيمن على كلّ شيء ، ولا شيء الّا وهو طوع امره وارادته!

وبهذه الجملة اعترف يوسف بوحدانية الله تعالى من الناحية النظرية ، وكذلك من الناحية العملية ايضا ، ثمّ أضاف( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) أليس التجاوز ظلما وخيانة واضحة( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) .

المراد من كلمة «ربّي»

هناك اقوال كثيرة بين المفسّرين في المراد من قوله :( إِنَّهُ رَبِّي ) فأكثر المفسّرين ، كالعلّامة الطبرسي في مجمع البيان وكاتب المنار في تفسير المنار وغيرهما ، قالوا : انّ كلمة «ربّ» هنا استعملت في معناها الواسع ، وقالوا : انّ المراد من كلمة «ربّ» هنا هو «عزيز مصر» الذي لم يأل جهدا في إكرام يوسف ، وكان يوصي امرأته من البداية بالاهتمام به وقال لها :( أَكْرِمِي مَثْواهُ ) .

ومن يظنّ انّ هذه الكلمة لم تستعمل بهذا المعنى فهو مخطئ تماما ، لانّ كلمة «ربّ» في هذه السورة أطلقت عدّة مرّات على غير الله سبحانه. وأحيانا ورد هذا الاستعمال على لسان يوسف نفسه ، وأحيانا على لسان غيره!

فمثلا في قصّة تعبير الرؤيا للسجناء ، طلب يوسف من الذي بشّره بالنجاة ان يذكر حاله عند ملك مصر( وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) (الآية ٤٢).

١٧٧

كما نلاحظ هذا الاستعمال على لسان يوسف ـ أيضا ـ حين جاءه مبعوث فرعون مصر ، إذ يقول القرآن الكريم في هذا الصدد :( فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ ) (الآية ٥٠).

وفي الآية (٤١) من هذه السورة ، وذيل الآية (٤٢) أطلقت كلمة «ربّ» في لسان القرآن الكريم بمعنى المالك وصاحب النعمة. فعلى هذا تلاحظون انّ كلمة «ربّ» استعملت ٤ مرّات ـ سوى الآية محلّ البحث ـ في غير الله ، وإن كانت قد استعملت في هذه السورة وفي سور اخرى من القرآن في خصوص ربّ العالمين (الله) مرارا.

فالحاصل انّ هذه الكلمة من المشترك اللفظي وهي تستعمل في المعنيين.

ولكن رجّح بعض المفسّرين ان تكون كلمة «ربّ» في هذه الآية( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) يقصد بها الله لانّها جاءت بعد كلمة( مَعاذَ اللهِ ) مباشرة ، وكونها الى جنب لفظ الجلالة صار سببا لعود الضمير في( إِنَّهُ رَبِّي ) عليه فيكون معنى الآية : انّني ألتجئ الى الله وأعوذ به فهو الهي الذي اكرمني وعظم مقامي وكلّ ما عندي من النعم فهو منه.

ولكن مع ملاحظة وصية عزيز مصر لامراته( أَكْرِمِي مَثْواهُ ) وتكرارها في الآية ـ محل البحث ـ يكون المعنى الاوّل اقرب وأقوى.

جاء في التوراة الفصل ٣٩ رقم ٨ و ٩ و ١٠ ما مؤدّاه : «وبعد هذا وقعت المقدّمات ، انّ امراة سيّده القت نظرتها على يوسف وقالت : اضطجع معي ، لكنّه ابى وقال لامراة سيّده : انّه سيّدي غير عارف بما معي في البيت ، وكلّ ما يملك مودع عندي ، ولا أجد اكبر منّي في هذا البيت ، ولم يزاحمني شيء سواك لانّك امرأته ، فكيف اقدم على هذا العمل القبيح جدّا ، واتجرّا في الذنب على الله». فهذه الجمل في التوراة تؤيّد المعنى الاوّل.

وهنا يبلغ امر يوسف وامراة العزيز الى ادقّ مرحلة واخطرها ، حيث يعبّر

١٧٨

القرآن عنه تعبيرا ذا مغزى كبير( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) .

وفي معنى هذه الجملة اقوال بين المفسّرين يمكن تصنيفها واجمالها الى ثلاثة تفاسير :

١ ـ انّ امراة العزيز كانت تريد ان تقضي وطرا مع يوسف ، وبذلت وسعها في ذلك ، وكاد يوسف يستجيب لرغبتها بطبيعة كونه بشرا شابّا لم يتزوّج ويرى نفسه إزاء المثيرات الجنسيّة وجها لوجه لو لا ان راى برهان الله اي روح الايمان والتقوى وتربية النفس ، أضف الى كلّ ذلك مقام العصمة الذي كان حائلا دون هذا العمل!

فعلى هذا يكون الفرق بين معاني «همّ» اي القصد من امراة العزيز ، والقصد من قبل يوسف ، هو انّ يوسف كان يتوقّف قصده على شرط لم يتحقّق ، اي (عدم وجود برهان ربّه) ولكن القصد من امراة العزيز كان مطلقا ، ولانّها لم يكن لديها مثل هذا المقام من التقوى والعفّة ، فإنّها صمّمت على هذا القصد حتّى آخر مرحلة ، والى ان اصطدمت جبهتها بالصخرة الصمّاء!

ونظير هذا التعبير موجود في الآداب العربيّة وغيرها كما نقول مثلا : انّ جماعة لا ترتبط بقيم أخلاقية ولا ذمّة صمّمت على الاغارة على مزرعة فلان ونهب خيراته ، ولولا انّي تربّيت سنين طوالا عند استاذي العارف الزاهد فلان ، لاقدمت على هذا العمل معهم.

فعلى هذا كان تصميم يوسف مشروطا بشرط لم يتحقّق ، وهذا الأمر لا منافاة له مع مقام يوسف من العصمة والتقوى ، بل يؤكّد له هذا المقام العظيم كذلك.

وطبقا لهذا التّفسير لم يبد من يوسف اي شيء يدلّ على التصميم على الذنب ، بل لم يكن في قلبه حتّى هذا التصميم.

ومن هنا فيمكن القول انّ بعض الرّوايات التي تزعم انّ يوسف كان مهيّئا

١٧٩

لينال وطرا من امراة العزيز ، وخلع ثيابه عن بدنه ، وذكرت تعبيرات اخرى نستحيي من ذكرها ، كلّ هذه الأمور عارية من الصحّة ومختلقة ، وهذه اعمال من شأن الافراد والمنحرفين الملوّثين غير الانقياء. فكيف يمكن ان يتّهم يوسف مع هذه المنزلة وقداسة روحه ومقام تقواه بمثل هذا الاتّهام.

الطريف انّ التّفسير الاوّل نقل عن الامام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في عبارة موجزة جدّا وقصيرة ، حيث يسأله المأمون «الخليفة العبّاسي» قائلا : الا تقولون انّ الأنبياء معصومون؟ فقال الامام : «بلى». فقال : فما تفسير هذه الآية( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) فقال الامامعليه‌السلام : «لقد همّت به ، ولولا ان راى برهان ربّه لهمّ بها كما همّت ، لكنّه كان معصوما والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه» فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن(١) .

٢ ـ انّ تصميم كلّ من امراة العزيز ويوسف لا علاقة له بالوطر الجنسي ، بل كان تصميما على ضرب أحدهما الآخر

فتصميم امراة العزيز على هذا العمل كان لعدم انتصارها في عشقها وبروز روح الانتقام فيها ثأرا لهذا العشق.

وتصميم يوسف كان دفاعا عن نفسه ، وعدم التسليم لطلب تلك المراة.

ومن جملة القرائن التي تذكر في هذا الموضوع :

اوّلا : انّ امراة العزيز كانت قد صمّمت على نيل الوطر الجنسي قبل هذه الحالة ، وكانت قد هيّأت مقدّمات هذا الأمر ، فلا مجال ـ اذن ـ لان يقول القرآن : انّها صمّمت على هذا العمل الآن ، لانّ هذه الساعة لم تكن ساعة تصميم.

وثانيا : انّ ظهور حالة الخشونة والانتقام بعد هذه الهزيمة امر طبيعي ، لانّها بذلت ما في وسعها لاقناع يوسف ، ولمّا لم توفّق الى ما رغبت فيه توسلّت بطريق آخر ، وهو طريق الخشونة والضرب.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٤٢١.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

بحث

ما يخلفه الإنسان بعد موته :

المستفاد من الرّوايات الشريفة ، بالإضافة لما ورد في الآيات المباركة أعلاه ، إنّه ثمّة أعمال وآثار يخلفها الإنسان بعد موته ، وما ينجسم من تلك الأعمال والآثار حتى يوم القيامة يبقى مرتبطا بذات الفاعل الأصلي ، فإن كانت الأعمال حيّرة فستصله حسنات تتمة العمل واستمراره ، وإن كانت شريرة فلا يجني منها سوى الهون والعذاب.

فعن الإمام الصادق ٧ ، أنّه قال : «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثالث خصال : صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري بعد موته ، وسنّة هدى سنّها ، فهي تعمل بها بعد موته ، وولد صالح يستغفر له»(١) .

وفي رواية اخرى : «ست خصال يتنفع بها المؤمن بعد موته : ولد صالح يستغفر له ، مصحف يقرأ منه ، وقليب (بئر) يحفره ، وغرس يغرسه ، وصدقة ماء يجربه ، وسنة حسنة يؤخذ بها بعده»(٢) .

فيما أكّدت بعض الرّوايات على (العلم) الذي يخلّفه بعده.(٣) وقد حذّرت كثير من الرّوايات من أن يسنّ الإنسان سنّة سيئة ، لأنّ الفاعل الأوّل ستتابع عليه آثام تلك السنة إلى يوم القيامة.

وكذلك حثت وشوقت على استنان السنن الحسنة ، لينتفع الفاعل الأوّل لها بثوابها الجاري إلى يوم القيامة.

وذكر العلّامة الطبرسي حديثا في هذا المضمار إنّ سائلا قام على عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسأل ، فسكت القوم ، ثمّ أنّ رجلا أعطاه ، فأعطاه القوم فقال

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ٢٥٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) منية المريد ، ص ١١.

٤٨١

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من استن خيرا فاستن به فله أجره ، ومثل أجور من اتبعه ، غير منتقص من أجورهم ، ومن استن شرّا فاستن به فعليه وزره ، مثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم» فتلا حذيفة بن اليمان قوله تعالى :( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) (١) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّه قال : «فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور وبعثرت القبور ، هناك تبلو كلّ نفس ما أسلفت ، وردّوا إلى الله مولاهم الحق ، وضل عنهم ما كانوا يفترون»(٢) .

فتعكس هذه الآيات والرّوايات أبعاد مسئولية الإنسان أمام أعماله ، وتبيّن عظم المسؤولية ، فأثار فعل الخيرات أو المنكرات يتصل إليه وإن امتدت الآلاف السنين بعد موته!(٣) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٩.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٦.

(٣) لمزيد من التفصيل. راجع تفسير الآية (٢٥) من سورة النحل.

٤٨٢

الآيات

( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) )

التّفسير

لا داعي للغرور :

تنتقل الآيات أعلاه من المعاد إلى الإنسان ، ببيان إيقاظي عسى أن ينتبه الإنسان من غفلة ما في عنقه من حقّ وما على عاتقه من مسئوليات جسام أمام خالقه سبحانه وتعالى ، فتخاطب الآية الاولى الإنسان باستفهام توبيخي محاط بالحنان والرأفة الرّبانية :( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) .

فالقرآن يذكّر الإنسان بإنسانيته ، وما لها من إكرام وأفضلية ، ثمّ جعله أمام «ربّ» «كريم» ، فالرّب وبمقتضى ربوبيته هو الحامي والمدبّر لأمر تربية وتكامل الإنسان ، وبمقتضى كرمه أجلس الإنسان على مائدة رحمته ، ورعاه بما أنعم عليه ماديا ومعنويا ودون أن يطلب منه أيّ مقابل ، بل ويعفو عن كثير من ذنوب

٤٨٣

الإنسان لفضل كرمه

فهل من الحكمة أن يتمرد هذا الموجود المكرّم على هكذا ربّ رحيم كريم؟!

وهل يحقّ لعاقل أن يغفل عن ذكر ربّه ولو للحظة واحدة ، ولا يطيع أمر مولاه الذي يتضمن سعادته وفوزه؟!

ولهذا فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند تلاوته للآية المباركة أنّه قال : «غرّه جهله»(١) .

ومن هنا ، يتقرّب لنا هدف الآية ، فهي تدعو الإنسان لكسر حاجز غروره وتجاوز حالة الغفلة ، وذلك بالاستناد على مسألة الربوبية والكرم الإلهي ، وليس كما يحلو للبعض من أن يصور هدف الآية ، على أنّه تلقين الإنسان عذره ، فيقول : غرّني كرمك! أو كما قيل للفضيل بن عياض : «لو أقامك الله ويوم القيامة بين يديه ، فقال :( ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ، ماذا كنت تقول له؟ قال : أقول : غرّني ستورك المرخاة»(٢) .

فهذا ما يخالف تماما ، لأنّها في صدد كسر حالة غرور الإنسان وإيقاظه من غفلته ، وليست في صدد إضافة حجاب آخر على حجب الغفلة!

فلا ينبغي لنا أن نذهب بالآية بما يحلو لنا ونوجهها في خلاف ما تهدف إليه! «غرّك» : من (الغرور) ، و «الغرّة» : غفلة في اليقظة ، وبعبارة اخرى : غفلة في وقت لا ينبغي فيه الغفلة ، ولما كانت الغفلة أحيانا مصدرا للاستعلاء والطغيان فقد استعملت (الغرور) بهذه المعاني.

والغرور) : كلّ ما يغرّ الإنسان من مال ، جاه ، شهوة وشيطان ، وقد فسّر الغرور بالشيطان ، لأنّه أخبث من يقوم بهذا الدور الدنيء في الدّنيا.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٩ ؛ والدر المنثور ، وروح المعاني ، وروح البيان ، والقرطبي ، عند تفسير الآية المبحوثة.

(٢) المصدر السابق.

٤٨٤

وذكر في تفسير «الكريم» آراء كثيرة ، منها : إنّه المنعم الذي تكون جميع أفعاله إحسان ، وهو لا ينتظر منها أيّ نفع أو دفع ضرر.

ومنها : هو الذي يعطي ما يلزمه وما لا يلزمه.

ومنها : هو من يعطي الكثير بالقليل.

ولو جمعنا كلّ ما ذكر وبأعلى صورة لدخل في كرم اللهعزوجل ، فيكفي كرم الله جلالا أنّه لا يكتفي عن المذنبين ، بل يبدل (لمن يستحق) سيئاتهم حسنات.

وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام عند تلاوته لهذه الآية ، أنّه قال : (إن الإنسان) «أدحض مسئول حجّة ، وأقطع مغترّ معذرة ، لقد أبرح (أي اغتر) جهالة بنفسه.

يا أيّها الإنسان ، ما جرّأك على ذنبك ، وما غرّك بربّك ، وما أنسك بهلكة نفسك؟

أمّا من دائك بلول (أي شفاء) ، أم ليس من نومتك يقظة؟ أما ترحم نفسك ما ترحم من غيرك؟ فلربّما ترى الضاحي من حرّ الشمس فتظلّه ، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي رحمة له! فما صبرك على دائك ، وجلدك على مصابك ، وعزاك عن البكاء على نفسك وهي أعزّ الأنفس عليك ، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة (أي تبيت بنقمة من الله) وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته! فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة ، ومن كرى (أي النوم) الغفلة في ناظرك بيقظة ، وكن لله مطيعا وبذكره آنسا ، وتمثل (أي تصور) في حال توليك عنه إقباله عليك ، يدعوك إلى عفوه ويتغمدك بفضله وأنت متول عنه إلى غيره ، فتعالى من قوي ما أكرمه! وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته! ...»(١) .

وتعرض لنا الآية التالية جانبا من كرم الله ولطفه على الإنسان :( الَّذِي

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٣.

٤٨٥

خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما (١) شاءَ رَكَّبَكَ ) .

فالآية قد طرحت مراحل خلق الإنسان الأربعة أصل الخلقة ، التسوية ، التعديل ، ومن ثمّ التركيب.

ففي مرحلة الاولى : يبدأ خلق الإنسان ومن نطفة في ظلمات رحم الام.

وفي مرحلة الثّانية : مرحلة «التسوية والتنظيم» وفيها يقدر الباري سبحانه خلق كلّ عضو من أعضاء الإنسان بميزان متناهي الدّقة.

فلو أمعن الإنسان النظر في تكوين عينه اذنه أو قلبه ، عروقه وسائر أعضاءه ، وما أودع فيها من ألطاف ومواهب وقدرات إلهية ، لتجسم أمامه عالما من العلم والقدرة واللطف والكرم الإلهي.

عطاء ربّاني قد شغل العلماء آلاف السنين بالتفكير والبحث والتأليف ، ولا زالوا في أوّل الطريق

وفي المرحلة الثّالثة : يكون التعديل بين «القوى» و «الأعضاء» وتحكيم الارتباط فيما بينها.

وبدن الإنسان قد بني على هذين القسمين المتقاربين ، فـ اليدين ، الرجلين ، العينين ، الأذنين ، العظام ، العروق ، الأعصاب والعضلات قد توزعت جميعها على هذين القسمين متجانس ومترابط.

هذا بالإضافة إلى أنّ الأعضاء في عملها يكمل بعضها للبعض الآخر ، فجهاز التنفس مثلا يساعد في عمل الدورة الدموية بدورها تقدم يد العون إلى عملية التنفس ، ولأجل ابتلاع لقمة غذاء ، لا تصل إلى الجهاز الهضمي إلّا بعد أن يؤدّي كلّ من : الأسنان ، اللسان ، الغدد وعضلات الفم دوره الموكل به ، ومن ثمّ تتعاضد أجزاء الجهاز الهضمي على إتمام عملية الهضم وامتصاص الغذاء ، لينتج منه القوّة

__________________

(١) «ما» : زائدة ، واحتملها البعض (شرطية) ، ولكنّ الرأي الأوّل أقرب للصواب.

٤٨٦

اللازمة للحركة والفعالية

وكلّ ما ذكر ، وغيره كثير ، قد جمع قصيرة رائعة( ... فَعَدَلَكَ ) .

وقيل : «عدلك» إشارة إلى اعتدال قامة الإنسان ، وهو ما يمتاز به عن بقية الحيوانات ، وهذا المعنى أقرب للمرحلة القادمة ولكن المعنى الأوّل أجمع.

وفي المرحلة الرابعة : تكون عملية «التركيب» وإعطاء الصورة النهائية للإنسن نسبة إلى بقية الموجودات.

نعم ، فقد تكرم الباري بإعطاء النوع الإنساني صورة موزونة عليها مسحة جمالية بديعة قياسا مع بقية الحيوانات ، وأعطى الإنسان فطرة سليمة ، وركّبه بشكلّ يكون فيه مستعدا لتلقي كلّ علم وتربية.

ومن حكمة الباري أن جعل الصور الإنسانية مختلفة متباينة ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٢٢) من سورة الروم :( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ) ، ولولا الاختلاف المذكور لاختل توازن النظام الاجتماعي البشري.

ومع الاختلاف في المظهر فإنّ الباري جلّ شأنه قدّر الاختلاف والتفاوت في القابليات والاستعدادات والأذواق والرغبات ، وجاء هذا النظم بمقتضى حكمته ، وبه يمكن تشكيل مجتمع متكامل سليم وكلّ حوائجه ستكون مؤمّنة.

وتلخص الآية (٤) من سورة التين خلق الله للإنسان بصورة إجمالية :( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) .

والخلاصة : فالآيات المبحوثة ، إضافة لآيات أخر كثيرة تهدف وبشكلّ دقيق إلى تعريف الإنسان المغرور بحقيقته ، منذ كان نطفة قذرة ، مرورا بتصويره وتكامله في رحم امّه ، حتى أشدّ حالات نموه وتكامله ، وتؤكّد على أنّ حياة الإنسان في حقيقتها مرهونة بنعم الله ، وكلّ حيّ يفعم برحمة الله في كل لحظات حياته ، ولا بدّ لكلّ حي ذي لبّ وبصيرة من أن يترحل من مطية غروره وغفلته ،

٤٨٧

ويضع طوق عبودية المعبود الأحد في رقبته ، وإلّا فالهلاك الحتمي.

وتتناول الآية التالية منشأ الغرور والغفلة :( كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) .

فالكرم الإلهي ، ولطف الباري منعمه ليست بمحفز لغروركم ، ولكنكم آليتم على عدم إيمانكم بالقيامة ، فوقعتم بتلك الهاوية الموهمة.(١)

ولو دققنا النظر في حال المغرورين والغافلين ، لرأينا أنّ الشك بيوم القيامة أو إنكاره هو الذي استحوذ على قلوبهم وما دونه مجرّد مبررات واهية ، ومن هنا يأتي لتشديد على أصل المعاد ، فلو قوي الإيمان بالمعاد في القلوب لارتفع الغرور وانقشعت الغفلة عن النفوس.

«الدين» : يراد به هنا ، الجزاء يوم الجزاء ، وما احتمله البعض من أنّه (دين الإسلام) فبعيد عن سياق حديث الآيات ، لأنّها تتحدث عن «المعاد».

وتأتي الآيات التالية لتوضح أنّ حركات وسكنات الإنسان كلّها مراقبة ومحسوبة ولا بدّ الإيمان بالمعاد وإزالة عوامل الغفلة والغرور ، فتقول( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ) (٢) .

وهؤلاء الحفظة لهم مقام كريم عند الله تعالى ودائبين على كتابة أعمالكم :( كِراماً كاتِبِينَ ) .

( يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) .

و «الحافظين» : هم الملائكة المكلفون بحفظ وتسجيل أعمال الإنسان من خير أو شرّ ، كما سمّتهم الآية (١٧) من سورة (ق) بالرقيب العتيد :( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ، كما وذكرتهم الآية (١٦) من نفس السورة :( إِذْ يَتَلَقَّى

__________________

(١) «كلا» حرف ردع لإنكار شيء ذكر وتوهم ، لكن أي إنكار قصدته الآية؟ ثمة احتمالات عديدة للمفسرين في ذلك ، وأهمها ما ذكر أعلاه ، أي أن «كلا» جاءت لتنفي كل أسباب ومنابع الغرور والغفلة وتجعلها في إنكار القيامة والتكذيب به فقط. وهو ما ورد بعد «بل» وهذا ما اختاره الراغب في مفردات (في مادة : بل) ، وقال بعد ذكره للآية : قيل ليس هاهنا ما يقتضي أن يغرهم به تعالى ولكن تكذيبهم هو الذي حملهم على ما ارتكبوه.

(٢) قيل : إن «الواو» هنا حالية ، كما في روح المعاني وروح البيان ، ولكن احتمال كونها (استئنافية) أقرب للحال.

٤٨٨

الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) .

وثمّة آيات قرآنية اخرى تشير إلى رقابة الملائكة لما يفعله الإنسان في حياته.

إنّ نظر وشهادة اللهعزوجل على أعمال الإنسان ، ممّا لا شك فيه ، فهو الناظر لما يبدر من الإنسان قبل أيّ أحد ، وأدق من كلّ شيء ، ولكنّه سبحانه ولزيادة التأكيد ولتحسيس الإنسان بعظم مسئولية ما يؤديه ، فقد وضع مراقبين يشهدون على الإنسان يوم الحساب ، ومنهم هؤلاء الملائكة الكرام.

وقد فصّلنا أقسام المراقبين الذين يحفون بالإنسان من كلّ جهة ، وذلك ذيل الآيتين (٢٠ و٢١) من سورة فصّلت ، ونوردها هنا إجمالا ، وهي على سبعة أقسام.

أوّلا : ذات الله المقدّسة ، كما في قوله تعالى :( وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) (١) .

ثانيا : الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، بدلالة قوله تعالى :( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) (٢) .

ثالثا : أعضاء بدن الإنسان ، بدلالة قوله تعالى :( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٣) .

رابعا : جلد الإنسان وسمعه وبصره ، بدلالة قوله تعالى :( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤) .

خامسا : الملائكة ، بدلالة قوله تعالى :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ

__________________

(١) يونس ، الآية ٦١.

(٢) النساء ، الآية ٤١.

(٣) النور ، الآية ٢٤.

(٤) فصلت ، الآية ٢١.

٤٨٩

وَشَهِيدٌ ) (١) ، وبدلالة الآية المبحوثة أيضا.

سادسا : الأرض المكان الذي يعيش عليه الإنسان ، بدلالة قوله تعالى :( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ) (٢) .

سابعا : الزمان الذي تجري فيه أعمال الإنسان ، بدلالة ما روي عن الإمام عليعليه‌السلام في وقوله : «ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلّا قال له ذلك اليوم : يا ابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد»(٣) .

وفي كتاب الإحتجاج للشيخ الطبرسي : إنّ شخصا سأل الإمام الصادقعليه‌السلام عن علّة وضع الملائكة لتسجيل أعمال الإنسان في حين أنّ اللهعزوجل عالم السرّ وأخفى؟

فقال الإمامعليه‌السلام : «استعبدهم بذلك ، وجعلهم شهودا على خلقه ، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة الله مواظبة ، وعن معصيته أشدّ انقباضا ، وكم من عبد يهم بمعصية فذكر مكانهما فارعوى وكفّ ، فيقول ربّي يراني ، وحفظتي عليّ بذلك يشهد ، وأنّ برأفته ولطفه وكّلهم بعباده ، يذبّون عنهم مردة الشياطين ، وهوام الأرض ، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله ، إلى أن يجيء أمر اللهعزوجل »(٤) .

ويستفاد من هذه الرواية أنّ للملائكة وظائف اخرى إضافة لتسجيلهم لأعمال الإنسان كحفظ الإنسان من الحوادث والآفات ووساوس الشيطان.

(وقد بحثنا موضوع وظائف ومهام الملائكة بتفصيل في ذيل الآية (١) من سورة فاطر ـ فراجع).

__________________

(١) سورة ق ، الآية ٢١.

(٢) الزلزال ، الآية ٤.

(٣) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٧٣٩ (مادة : يوم).

(٤) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٢٢.

٤٩٠

وقد وصفت الآيات المبحوثة هؤلاء الملائكة بأنّهم «كرام» ، ليكون الإنسان أكثر دقّة في مراقبة نفسه وأعماله ، لأنّ الناظر كلّما كان ذا شأن كبير ، تحفظ الإنسان منه أكثر وأكثر واستحى من فعل المعاصي أمامه.

وعلّة ذكر «كاتبين» للتأكيد على إنّهم لا يكتفون بالمراقبة والحفظ دون تسجيل ذلك بدقّة متناهية.

وذكر :( يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) تأكيد آخر على كونهم مطلعين على كلّ الأعمال وبشكل تام ، واستنادا إلى اطلاعهم ومعرفتهم يسجلون ما يكتبونه.

فالآيات تشير إلى حرية إرادة الإنسان ، وتشير إلى كونه مختارا ، وإلّا فما قيمة تسجيل الأعمال؟ وهل سيبقى للتحذير والإنذار من معنى؟

وتشير أيضا إلى جدّية ودقّة الحساب والجزاء والإلهي.

ويكفي فهم واستيعاب هذه الإشارات البيانية الرّبانية لإنقاذ الإنسان من وقوعه في هاوية المعاصي ، وتكفيه الإشارات عظة ليزكي ويعرف مسئوليته ويعمل بدروه.

* * *

بحث

كتبة صحائف الأعمال :

لم تكن الآيات المبحوثة الدليل الوحيد على وجود المراقبين لأعمال الإنسان ، والكاتبين لها بخيرها وشرّها ، بل ثمّة آيات كثيرة وروايات عديدة تناولت ذلك ومن جملة ما ورد من الأحاديث بهذا الشأن.

١ ـ سؤال عبد الله بن موسى بن جعفرعليه‌السلام لأبيه عن الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله ، أو الحسنة؟

فقال الإمامعليه‌السلام : «ريح الكنيف وريح الطيب سواء؟».

٤٩١

قال : لا.

قال : «إنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيّب الريح ، فيقول صاحب اليمين لصاحب الشمال : قم فإنّه قد همّ بالحسنة ، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، فأثبتها له ، وإذا همّ بالسيئة خرج نفسه منتن الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين ، قف فإنّه قد همّ بالسيئة ، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، وأثبتها عليه»(١) .

فالرواية تبيّن ما للنيّة من أثر على كامل وجود الإنسان ، وأنّ الملائكة يسجلون ما وقع من فعل من الإنسان ولكنّهم مطلعين على فعل الواقع قبل وقوعه ، وعليه فتسجيلهم لأعمال الإنسان دقيق جدّا ، ولا يفوتهم شيئا إلّا وكتبوه في صحيفته.

والرواية أيضا ، تأتي في سياق الحديث النبوي الشريف : «إنّما الأعمال بالنيات» للتأكيد على ما لنيّة الإنسان من أثر على فعله الحسن أو السيء.

وتبيّن أيضا ، بأنّ وسائل الكتابة هي جوارح الإنسان الناوي للفعل ، فلسانه القلم وريقه المداد!

٢ ـ وثمّة روايات تؤكّد على أنّ الملائكة مأمورة بتسجيل النوايا الحسنة دون النوايا السيئة ، ومنها : «إنّ تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا ، ومن همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب له ، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيئة».(٢)

فالرواية تبيّن منتهى اللطف الرّباني الفصل الإلهي على الإنسان ، وتحث الإنسان على الأعمال الصالحة فنيّته السيئة لا تسجل عليه ، وفعله السيء يكتب عليه وفق موازين العدل ، في حين أنّ نيّته الحسنة وفعله الحسن يسجلان

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٢٩ ، باب «من يهمّ بالحسنة أو السيئة» الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ١ ـ ٢.

٤٩٢

له وفق اللطف والتفضل الإلهي

٣ – وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «يهمّ العبد بالحسنة فيعملها ، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيّته ، وإن هو عملها كتب الله له عشرا ، ويهمّ بالسيئة أن يعملها ، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء وإن عملها اجّل سبع ساعات ، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال : لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها ، فإن اللهعزوجل يقول :( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) ، أو الاستغفار فإنّ هو قال : استغفر الله الذي لا إله إلّا هو ، عالم الغيب والشهادة ، العزيز الحكيم ، الغفور الرحيم ، ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه ، لم يكتب عليه شيء ، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة أو استغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات : اكتب على الشقي المحروم»(١) .

٤ – وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ المؤمنين إذا أقبلا على المساءلة قالت الملائكة بعضها لبعض : تنحوا عنهما فإنّ لهما سرّا وقد ستر الله عليهما»!(٢)

٥ – وفي خطبة لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال فيها بعد أن دعى الناس فيها لتقوى الله : «اعلموا عباد الله ، إنّ عليكم رصدا من أنفسكم ، وعيونا من جوارحكم ، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم ، وعدد أنفاسكم ، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج «أي إحكام» ، وإنّ غدا من اليوم قريب»(٣) .

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ، الحديث ٤.

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٨٤ ، الحديث ٢ ؛ وعنه نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٠.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٧.

٤٩٣

الآيات

( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩) )

التّفسير

«يوم لا تملك نفس لنفس شيئا» :

بعد ذكر الآيات السابقة لتسجيل أعمال الإنسان من قبل الملائكة ، تأتي الآيات أعلاه لتتطرق إلى نتائج تلك الرقابة ، وما سيصل إليه كلّ من المحسن والمسيء من عاقبة ، فتقول الآية الاولى :( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ) .

والثّانية :( وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) .

«الأبرار» : جمع (بار) و «برّ» على وزن (حق) ، بمعنى : المحسن ، و (البرّ) بكسر الراء ـ كلّ عمل صالح والآية تريد العقائد السليمة ، والنيات والأعمال الصالحة.

«نعيم» : وهي مفرد بمعنى النعمة ، ويراد به هنا «الجنّة» ، وجاءت بصيغة

٤٩٤

النكرة لبيان أهمية وعظمة هذه النعمة ، التي لا يصل لإدراك حقيقتها إلّا الله سبحانه وتعالى ، واختيرت كلمة «نعيم» بصيغة الصفة المشبهة ، للتأكيد على بقاء واستمرار هذه النعمة ، لأنّ الصفة المشبهة عادة ما تتضمّن ذلك.

«الفجّار» : جمع (فاجر) من (فجر) ، وهو الشقّ الواسع ، وقيل للصبح فجر لكونه فجر الليل ، أيّ شقّه بنور الصباح ، و (الفخور) : شقّ ستر الديانة والعفة ، والسير في طريق الذنوب.

«جحيم» : من (الجحمة) ، وهي تأجج النّار ، وتطلق الآيات القرآنية (الحجيم) على جهنّم عادة.

ويمكن أن يراد بقوله تعالى :( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) الحال الحاضر ، أيّ : إنّ الأبرار يعيشون في نعيم الجنّة حاليّا ، وإنّ الفجّار قابعون في أودية النّار ، كما يفهم من إشارة الآية (٥٤) من سورة العنكبوت :( إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) .

وقال بعض : المراد من الآيتين هو حتمية الوقوع المستقبلي ، لأنّ المستقبل الحتمي والمضارع المتحقق الوقوع يأتي بصيغة الحال في اللغة العربية ، وأحيانا يأتي بصيغة الماضي.

فالمعنى الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية ، إلّا أنّ المعنى الثّاني أنسب للحال ، والله العالم.

وتدخل الآية التالية في تفصيل أكثر لمصير الفجّار :( يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ ) .

فإذا كانت الآية السابقة تشير إلى أنّ الفجّار هم في جهنّم حاليا ، فسيكون إشارة هذه الآية ، إلى أنّ دخولهم جهنّم سيتعمق ، وسيحسون بعذاب نارها ، بشكل أشدّ.

«يصلون» : من (المصلى) على وزن (سعي) ، و «صلى النّار» : دخل فيها ، ولكون الفعل في الآية قد جاء بصيغة المضارع ، فإنّه يدل على الاستمرار

٤٩٥

والملازمة في ذلك الدخول.

ولزيادة التفصيل ، تقول الآية التالية :( وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) .

اعتبر كثير من المفسّرين كون الآية دليلا على خلود الفجّار في العذاب ، وخلصوا إلى أنّ المراد بـ «الفجّار» هم «الكفّار» ، لكون الخلود في العذاب يختص بهم دون غيرهم.

ف «الفجّار» : إذن : هم الذين يشقون ستر التقوى والعفة بعدم إيمانهم وتكذيبهم بيوم الدين ، ولا يقصد بهم ـ في هذه الآيات ـ أولئك الذي يشقّون الستر المذكور بغلبة هوى النفس مع وجود حالة الإيمان عندهم.

وإتيان الآية بصيغة زمان الحال تأكيدا لما أشرنا إليه سابقا ، من كون هؤلاء يعيشون جهنّم حتّى في حياتهم الدنيا (الحالية) أيضا( ... وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) ، فحياتهم بحدّ ذاتها جهنّما ، وقبورهم حفرة من حفر النيران (كما ورد في الحديث الشريف) ، وعليه فجهنّم القبر والبرزخ وجهنّم الآخرة كلّها مهيأة لهم.

كما وتبيّن الآية أيضا : إنّ عذاب أهل جهنّم عذاب دائم ليس له انقطاع ، ولا يغيب عنهم ولو للحظة واحدة.

ولأهمية خطب ذلك اليوم العظيم ، تقول الآية التالية :( وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ) .

( ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ) .

فإذا كانت وحشة وأهوال ذلك اليوم قد أخفيت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو المخاطب في الآية ـ مع كلّ ما له من علم بـ القيامة ، المبدأ ، المعاد فكيف يا ترى حال الآخرين؟!!

والآيات قد بيّنت ما لأبعاد يوم القيامة من سعة وعظمة ، بحيث لا يصل لحدّها أيّ وصف أو بيان ، وكما نحن (السجناء في عالم المادة) لا نتمكن من إدراك حقيقة النعم الإلهية المودعة في الجنّة ، فكذا هو حال إدراكنا بالنسبة

٤٩٦

لحقيقة عذاب جهنّم ، وعموما لا يمكننا إدراك ما سيجري من حوادث في ذلك اليوم الرهيب المحتوم.

وينتقل البيان القرآني للتعبير عن إحدى خصائص ذلك اليوم ، وبجملة وجيزة ، لكنها متضمّنة لحقائق ومعان كثيرة :( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) .

فستتجلّى حقيقة أنّ كلّ شيء في هذا العالم هو بيد الله العزيز القهّار ، وستبان حقيقة حاكمية الله المطلقة ومالكيته على كلّ من تنكر لهذه الحقيقة الحقّة ، وستنعدم تلك التصورات الساذجة التي حكمت أذهان المغفلين بكون فلان أميرا ورئيسا أو حاكما ، وسينهار أولئك البسطاء الذين اعتبروا أن قدراتهم مستقلة بعد أن أكل الغرور نفوسهم وتكالب التكبر على تصرفاتهم في الحياة الدنيا الفانية.

وتشهد على الحقيقة ـ بالإضافة إلى الآية المذكورة ـ الآية (١٦) من سورة المؤمن حيث تقول :( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) .

وتشير الآية (٣٧) من سورة عبس إلى انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم دون كلّ الأشياء الاخرى ، ولو قدّر أن يمنح قدرا معينا من القدرة ، لما نفع بها أحد دون نفسه! ، حيث تقول الآية :( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) .

حتّى روي عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، أنّه تناول ذلك الموقف بقوله : (إن الأمر يومئذ واليوم كله لله ، ...) وإذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم إلّا الله»(١)

وهنا يواجهنا السؤال التالي : هل يعني ذلك ، إنّ الآية تتعارض وشفاعة الأنبياء والأوصياء والملائكة؟

ويتّضح جواب السؤال المذكور من خلال البحوث التي قدمناها بخصوص موضوع (الشفاعة) فقد صرّح الحكيم في بيانه الكريم ، إنّ الشّفاعة لن تكون إلّا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٥٠.

٤٩٧

بإذنه ، وإنّ الشّفاعة غير مطلقة ، حسب ما تشير إليه الآية (٢٨) من سورة الأنبياء( لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ) اللهم! إنّ الخلائق تنتظر رحمتك ولطفك في ذلك اليوم الرهيب ، ونحن الآن نتوقع لطفك.

إلهنا! لا تحرمنا من الطافك وعناياتك في هذا العالم والعالم الآخر.

ربّنا! أنت الحاكم المطلق في كلّ مكان وزمان ، فاحفظنا من التورط في شباك الذنوب والسقوط في وادي الشرك واللجوء الى الغير

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الإنفطار

انتهى المجلد التاسع عشر

* * *

٤٩٨

الفهرس

سورة المعارج

محتوى السورة ٥

فضيلة هذه السورة ٦

تفسير الآيات : ١ ـ ٣ ٧

سبب النّزول ٧

العذاب العاجل ٩

ملاحظة

إشكالات المعاندين الواهية ١٠

تفسير الآيات : ٤ ـ ٧ ١٤

يوم مقداره خمسين ألف سنة ١٤

تفسير الآيات : ٨ ـ ١٨ ١٧

تفسير الآيات : ١٩ ـ ٢٨ ٢١

أوصاف المؤمنين ٢١

تفسير الآيات : ٢٩ ـ ٣٥ ٢٧

القسم الآخر من صفات أهل الجنّة ٢٧

تفسير الآيات : ٣٦ ـ ٤١ ٣٢

الطمع الواهي في الجنّة ٣٢

٤٩٩

ملاحظة

ربّ المشارق والمغارب ٣٥

تفسير الآيات : ٤٢ ـ ٤٤ ٣٧

كأنّهم يهرعون إلى الأصنام ٣٧

«سورة نوح»

محتوى سورة ٤٣

فضيلة هذه السورة ٤٤

تفسير الآيات : ١ ـ ٤ ٤٥

رسالة نوح الأولى ٤٥

ملاحظة

العوامل المعنوية لزيادة ونقصان العمر ٤٧

تفسير الآيات : ٥ ـ ٩ ٤٨

استخدام مختلف الوسائل لهدايتهم ، ولكن ٤٨

ملاحظتان

١ ـ أسلوب الإبلاغ ومنهجه ٥١

٢ ـ لماذا الفرا من الحقيقة ٥١

تفسير الآيات : ١٠ ـ ١٤ ٥٣

ثمرة الإيمان في الدنيا ٥٣

ملاحظة

الرّابطة بين التقوى والعمران ٥٥

تفسير الآيات : ١٥ ـ ٢٠ ٥٨

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572