الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 572
المشاهدات: 273410
تحميل: 4733


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 273410 / تحميل: 4733
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 7

مؤلف:
العربية

الآيات

( قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) )

التّفسير

عاقبة الجماعة الظّالمة :

وأخيرا حين شاهد الملائكة رسل الله الأضياف ما عليه لوط من العذاب النفس كشفوا «ستارا» عن اسرار عملهم و( قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ) .

الطريف هنا انّ ملائكة الله لم يقولوا : لن يصلنا سوء وضرر ، بل قالوا : لن يصلوا إليك يا لوط فيؤذوك ويسيئوا إليك!

وهذا التعبير امّا لانّهم كانوا يحسبون انّهم غير منفصلين عن لوط لانّهم

٢١

أضيافه على كل حال ، وهتك حرمتهم هتك لحرمة لوط. او لانّهم أرادوا ان يفهموا لوطا بأنّهم رسل الله ، وانّ عدم وصول قومه إليهم بالاساءة امر مسلّم به ، بل حتى لوط نفسه الذي هو رجل من جنس أولئك لن يصلوا اليه بسوء ، وذلك بلطف الله وفضله.

نقرا في الآية (37) من سورة القمر( وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ) وهذه الآية تدل على ان هؤلاء الجماعة الذين أرادوا السوء بأضياف لوط ، فقدوا بصرهم بإذن الله ، فلم يستطيعوا الهجوم عليهم. ونقرا في بعض الرّوايات ـ ايضا ـ انّ احد الملائكة غشّى وجوههم بحفنة من التراب فعموا جميعا.

وعلى كل حال ، فاطلاع لوطعليه‌السلام على حال أضيافه ومأموريتهم نزل كالماء البارد على قلبه المحترق واحسّ بلحظة واحدة ان ثقلا كبيرا من الغمّ والحيرة قد ازيل عن قلبه ، وأشرقت عيناه بالسرور والبهجة ، وعلم انّ مرحلة الغم والحيرة أشرفت على الانتهاء ، ودنا زمن السرور والنجاة من مخالب هؤلاء القوم المنحرفين المتوحشين.

ثمّ امر الأضياف لوطا ـ مباشرة ـ ان يرحل هو واهله من هذه البلدة وقالوا :( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) (1) .

ولكن كونوا على حذر( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) الى الوراء( إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ ) لتخلّفها عن امر الله وعصيانهم مع العصاة الظلمة.

وفي قوله تعالى :( لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) عند المفسّرين احتمالات عديدة.

الاوّل : لا ينظر احد الى ورائه مديرا وجهه الى الخلف.

الثّاني : لا تفكروا بما تركتم خلفكم من الأموال ووسائل المعاش ، انّما عليكم

__________________

(1) «أسر» مشتق من «الاسراء» وهو المسير ليلا ، وذكر الليل في الآية من باب توكيد الموضوع ، والقطع معناه ظلمة الليل ، اشارة الى ان يتحرك والناس نيام او مشغولون عنه بالشراب وحلك الليل ليخرج وهم في غفلة عنه.

٢٢

ان تنجوا أنفسكم من الهلاك.

الثّالث : لا يتخلف منكم احد عن هذه القافلة الصغيرة.

الرّابع : انّ الأرض ستضطرب حال خروجكم وستبدأ مقدمات العذاب فاهربوا بسرعة ولا تلتفتوا الى الوراء ولكن لا مانع من الجمع بين هذه الاحتمالات كلها في الآية(1) .

وخلاصة الأمر فإنّ آخر ما قاله رسل الله ـ اي الملائكة ـ للوطعليه‌السلام : انّ العذاب سينزل قومه صباحا. ومع اوّل شعاع للشمس سيحين غروب حياة هؤلاء :( إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ) .

ونقرا في بعض الرّوايات انّ الملائكة حين وعدوا لوطا بنزول العذاب صباحا ، سأل لوط الملائكة لشدة ما لقيه من قومه ممّا ساءه ، وجرح قلبه وملأه همّا وغمّا ان يعجلوا عليهم بالعذاب في الحال فإنّ الأفضل الاسراع ، ولكن الملائكة طمأنوه وسرّوا عنه بقولهم :( أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) .

وأخيرا دنت لحظة العذاب وتصرّمت ساعات انتظار لوط النّبيعليه‌السلام ، وكما يقول القرآن الكريم( فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ) .

وكلمة «سجّيل» فارسية الأصل ، وهي مركبة من «سنگ» ومعناها الحجارة و «گل» ومعناها الطين ، فعلى هذا هي شيء صلبا كالحجارة ولا رخوا كالزهرة ،

__________________

(1) في قوله( إِلَّا امْرَأَتَكَ ) هذا الاستثناء من اي جملة هو؟ للمفسّرين احتمالان : «الاوّل» انّه يعدّ استثناء من( لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) ومفهومها انّ لوطا واهله بما فيهم امرأته تحركوا للخروج من المدينة ولم يلتفت منهم احد كما أمرهم الرسل ، الا امراة لوط فإنّها بحكم علاقتها بقوم لوط وتأثرها على مصيرهم ، وقفت لحظة ونظرت الى الوراء ، وطبقا لبعض الرّوايات أصابها حجر من الأحجار التي كانت تهوي على المدينة فقتلت به. «الثاني» انّه استثناء من جملة( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ) فيكون معناها انّ جميع اهله ذهبوا معه ولكن امرأته بقيت في المدينة ولم يأخذها لوط معه ، ولكن الاحتمال الاوّل انسب.

٢٣

وانّما هي برزخ «وسط» بينهما.

و «المنضود» من مادة «نضد» ومعناه كون الشيء مصفوفا وموضوعا بشكل متتابع ومتراكم ، اي انّ هذا المطر كان متتابعا سريعا الى درجة حتى كأنّ هذه الأحجار تتراكب بعضها فوق بعض فتكون «منضودة».

ولكن هذه الأحجار ليست أحجارا عادية ، بل هي أحجار فيها علامات عند الله( مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ) .

ولا تتصوروا انّ هذه الأحجار مخصوصة بقوم لوط ، بل( وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) .

هؤلاء القوم المنحرفون ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم ، لعبوا بمصير أمتهم كما هزئوا بالايمان والأخلاق الانسانيّة ، وكلّما نصحهم نبيّهم بإخلاص وحرقة قلب لم يسمعوا له وسخروا منه ، وبلغت صلافتهم وعدم حيائهم حدّا انّهم أرادوا الاعتداء على ضيوف زعيمهم ويهتكوا حرمتهم.

هؤلاء الذين كانوا قد قلبوا كل شيء يجب ان تنقلب مدينتهم عليهم ، ولا يكفي ان يغدو عليها سافلها ، بل ليمطروا بوابل من الأحجار تدمّر كل شيء من «معالم الحياة» هناك ولا يبقى منهم سوى صحراء موحشة وقبور مظلمة تحت ركام الأحجار الصغيرة.

وهل انّ الذين ينبغي معاقبتهم هم قوم لوط فحسب؟ قطعا لا. فكل جماعة منحرفة وامّة ظالمة ينتظرها مثل هذا المصير ، فتارة تكون تحت وابل الأحجار ، وأخرى تحت ضربات القنابل المحرقة ، وحينا تحت ضغط الاختلافات الاجتماعية القاتلة ، وأخيرا فإنّ لكلّ شكلا من العذاب وصورة معينة.

* * *

٢٤

ملاحظات

1 ـ لم كان العذاب صباحا؟

ملاحظة الآيات المتقدمة تثير في ذهن القارئ هذا السؤال ، وهو ايّ اثر للصبح في هذا الأمر ، ولم لم ينزل العذاب في قلب الليل البهيم؟!

ترى هل كان ذلك لانّ الجماعة الذين هجموا على دار لوط فعموا وعادوا الى قومهم وحدثوهم بما جرى لهم ، فحينئذ فكر أولئك بما حدث! وانّ الله امهلهم الى الصباح لعلهم ينتبهون ويتوبون؟

او انّ الله لم يرد الاغارة عليهم في الليل ، ولذلك فقد امر الملائكة ان ينتظروا حتى يحين الصباح؟!

لم يرد في كتب التّفسير شيء من هذا ، ولكنّ ما ذكرناه آنفا احتمالات تستحق المطالعة.

2 ـ لم قلب الله عاليها سافلها؟

قلنا : انّ العذاب ينبغي ان يتناسب مع الإثم ، وحيث انّ هؤلاء القوم قلبوا كل شيء عن طريق الانحراف الجنسي فإنّ الله جعل مدنهم عاليها سافلها ايضا ، وحيث كانوا دائما يتقاذفون بالكلمات البذيئة فيما بينهم ، فإنّ الله امطرهم بحجارة لتتهاوى على رؤوسهم ايضا.

3 ـ لماذا الوابل من الأحجار؟!

وهل كان امطارهم بالأحجار الصغيرة قبل انقلاب المدن ، او كان مقترنا ومتزامنا معها ، او بعدها؟!

هناك اقوال بين المفسّرين ، والآيات القرآنية لم تصرّح بشيء في هذا الشأن ايضا ، لانّ الجملة عطفت بالواو ، وهي لمطلق العطف ولا يستفاد منها الترتيب.

٢٥

ولكن بعض المفسّرين ـ كصاحب المنار ـ يعتقد انّ مطر الأحجار امّا ان يكون قبل ان يقلب عاليها سافلها ، او مقترن مع القلب ، وذلك لينال بعض الافراد الذين التجأوا الى زاوية او معزل ولم يدفنوا تحت الانقاض جزاءهم العادل ولا تبقى لهم فرصة للهروب.

والرّواية التي تقول : انّ امراة لوط حين سمعت الصوت والتفتت لترى ما حدث أصابها حجر في الحال فقتلها ، هذه الرّواية تدل على انّ الأمرين «القلب ووابل المطر» حدثا مقترنين.

ولكن لو تجاوزنا عن ذلك فما يمنع ان يكون وابل الأحجار ـ لتشديد العذاب ـ بعد قلب المدن عاليها سافلها ، لتتوارى أرضهم وتنمحى آثارها تماما.

4 ـ لماذا العلامة المتميّزة؟!

قلنا : انّ جملة( مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ) تفهمنا هذه المسألة الدقيقة ، وهي انّ هذه الأحجار كانت ذوات علائم خاصّة ومميّزة عند الله سبحانه ولكن كيف كانت علاماتها؟ هناك اقوال بين المفسّرين فقال بعضهم : كان في هذه الأحجار علامات تدل على انّها ليست كسائر الأحجار «العادية» بل هي خاصّة لنزول العذاب الالهي لئلا تختلط مع سقوط الأحجار الاخرى ، ولذا قال آخرون : انّ هذه الأحجار لم يكن لها شبه مع أحجار الأرض بل تدل مشاهدة وضعها على انّها أحجار سماويّة نزلت الى الكرة الارضية من خارجها.

وقال آخرون : هي علامات في علم الله ، انّ كل حجر منها يصيب شخصا بعلامته او يستهدف نقطة معينة ، وهي اشارة الى دقة الحساب في عقاب الله وجزائه بحيث يعلم ايّ شخص يصيبه اي حجر! وليس المسألة اعتباطيّة.

٢٦

5 ـ تحريم الانحراف الجنسي

يعدّ الميل الجنسي الى المماثل «سواء وقع ذلك بين الرجال او بين النساء» من الذنوب الكبيرة في الإسلام ، وقد جعل الإسلام لكل من الحالتين حدا شرعيا.

فالحدّ الشرعي في «اللواط» هو القتل فاعلا كان الرجل ام مفعولا. وهناك طرق مبيّنة لهذا القتل في الفقه الاسلامي ، ويجب ان يعوّل على طرق معتبرة وقطعية لاثبات هذا الذنب وردت في الفقه الاسلامي وروايات المعصومين في هذا المجال. فلا يكفي لاقامة الحد الشرعي ـ وهو القتل هنا ـ حتى اقرار المذنب على نفسه ثلاث مرات ، بل يجب ان يقرّ على نفسه اربع مرات على الأقل.

وامّا الحدّ على المراة في عملية المساحقة فيكون بعد الإقرار بالذنب على نفسها اربع مرات ، او شهادة اربعة شهود «وبالشرائط المذكورة في الفقه» مائة جلدة ، وقال بعض الفقهاء ، إذا كانت المراة التي تقوم بهذا العمل الشنيع ذات بعل فحدّها القتل.

واقامة هذه الحدود لها شرائط دقيقة ذكرت في كتب الفقه الاسلامي.

والرّوايات التي تذم الميل الجنسي الى المماثل والمنقولة عن قادة الإسلام كثيرة ومذهلة والمطالع لهذه الرّوايات يحسّ انّ قبح هذا الذنب ليس له مثيل بين الذنوب.

نقرا مثلا من هذه الرّوايات رواية عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : «لمّا عمل قوم لوط ما عملوا بكت الأرض الى ربّها حتى بلغت دموعها السّماء ، وبكت السّماء حتى بلغت دموعها العرش ، فأوحى الله الى السّماء ان احصبيهم واوحى الى الأرض ان اخسفي بهم»(1) .

ونقرا في حديث للإمام الصادق انّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من جامع غلاما جاء

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 231.

٢٧

يوم القيامة جنبا لا ينقّيه ماء الدنيا ، وغضب الله عليه ولعنه واعدّ له جهنم وساءت مصيرا. ثمّ قال : ان الذكر يركب الذكر فيهتز العرش لذلك»(1) .

ونقرا في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام «... والعامل على هذا من الرجال إذا بلغ أربعين سنة لم يتركه ، وهم بقية سدوم. امّا اني لست اعني بهم انّهم بقيتهم انّهم ولدهم ، ولكنّهم من طينتهم ، قال : قلت : سدوم التي قلبت ، قال : هي اربع مدائن «سدوم وصريم والدما وغميرا» او [ولدنا وعموّرا] إلخ(2) .

ونقرا في رواية اخرى عن الامام امير المؤمنينعليه‌السلام انّه قال : «سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال»(3) .

فلسفة تحريم الميول الجنسية لامثالها

بالرغم من انّ العالم الغربي مليء بالانحرافات الجنسية ، وانّ هذه الأعمال السيئة قد باتت متعارفة بحيث سمع انّ بعض الدول كبريطانيا وطبقا لقانون صدر بكل وقاحة من المجلس النيابي «البرلمان» فيها يجوز هذا الموضوع «اللواط او السحاق» ولكن شيوع هذه المنكرات لا يخفف من قبحها ومن مفاسدها الاخلاقية والاجتماعية والنفسية.

بعض اتباع المذاهب المادّية الذين تلوّثوا بمثل هذه المنكرات يقولون : نحن لا نجد محذورا طبيّا في هذا الأمر.

ولكنّهم لم يلتفتوا لي انّ كل انحراف جنسي له اثره السلبي في روحية الإنسان وبنائه النفسي يفقده توازنه.

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 14 ، ص 249.

(2) وسائل الشيعة ، ج 14 ، ص 253.

(3) وسائل الشيعة ، ج 14 ، ص 255.

٢٨

توضيح ذلك ، انّ الإنسان الطبيعي والسليم يميل الى المخالف من جنسه ، اي انّ الرجل يميل الى المراة ، والمراة تميل الى الرجل ، وهذا الميل من اشدّ الغرائز المتجذرة فيه ، والضامن لبقاء نسله ، فأيّ عمل يؤدّي الى تحوير هذا الميل الطبيعي عن مساره فسيوجد نوعا من المرض والانحراف النفسي في الإنسان.

فالرجل الذي يميل الى نظيره من جنسه ، ليس رجلا كاملا ، وقد عدّ هذا الانحراف في كتب الأمور الجنسية «هموسكو اليسيم» اي الميل الجنسي للمماثل من أهم الانحرافات.

والاستمرار على هذا العمل وادامته يميت في الفرد الميل الجنسي الى المخالف. والشخص الذي يسلّم نفسه لممارسة هذا العمل معه يشعر شيئا فشيئا «باحساسات المراة» ويورث هذا العمل الطرفين «الفاعل والمفعول» ضعفا مفرطا في الجنس حتى انّه لا يستطيع بعد مدّة على المعاشرة الطبيعية مع جنسه المخالف.

ومع ملاحظة انّ الإحساسات الجنسيّه [بالنسبة للرجل والمراة] لها تأثيرها في أعضاء بدن كل منهما ، كما انّ لها تأثيرها على روحية كلّ منهما وأخلاقه.

تتّضح انّ فقدان الإحساسات الطبيعية الى اي درجة سيؤثر على روح الإنسان وجسمه حتى انه من الممكن ان يبتلى الافراد هؤلاء بالضعف الجنسي الذي يؤدّي الى عدم القدرة على الانجاب والتوليد.

وهؤلاء الأشخاص ـ غالبا ـ ليسوا أصحاء من الناحية النفسيّة ، ويحسون في داخلهم انّهم غرباء عن أنفسهم وغرباء عن مجتمعهم ويفقدون بالتدريج القدرة على الارادة التي هي أساس لكم نجاح وشرط من شروطه ، ويتكرس في روحهم نوع من الاضطراب والقلق.

وإذا لم يصمموا على إصلاح أنفسهم فورا ، ولم يستعينوا عند الضرورة والحاجة بالطبيب النفسي او الطبيب الجسمي فسيغدو هذا العمل عندهم عادة

٢٩

يصعب تركها ، فمن وعلى كلّ حال ، فإنّ اي وقت لترك هذا العمل القبيح لا يعدّ خارجا عن أوانه ، بل لا بدّ من التصميم الجاد.

ولا ريب انّ الحيرة والاضطراب النفسي قد يجرّ هؤلاء الى استعمال المواد المخدرة والمشروبات الكحولية ، كما يجرّهم الى انحرافات أخلاقية اخرى ، وهذا بنفسه شقاء عظيم.

الطريف انّنا نقرا في الرّوايات الاسلامية عبارة موجزة وذات معنى كبير تشير الى هذه المفاسد ، ومن هذه الرّوايات ما نقل عن الامام الصادقعليه‌السلام انّ رجلا سأله : لم حرّم الله اللواط؟ فقال سلام الله عليه : «من اجل انّه لو كان إتيان الغلام حلالا لاستغنى الرجال عن النساء وكان فيه قطع النسل وتعطيل الفروج وكان في اجازة ذلك فساد كبير»(1) .

وما يجدر ذكره انّ احد العقوبات الشرعية لهذا العمل انّ الإسلام حرم الزواج من اخت المفعول وامّه وبنته على الفاعل ، اي إذا تحقق اللواط قبل الزواج فعندئذ يحرم الزواج منهنّ حرمة مؤبدة.

وآخر ما ينبغي التذكير به هنا من المسائل الدقيقة ، ان جرّ الافراد الى مثل هذا الانحراف الجنسي له اسباب وعلل مختلفة ، حتى من ضمنها أحيانا طريقة التعامل والمعاشرة من قبل الوالدين مع ابنائهما ، او الغفلة عنهم وعدم مراقبة من معهم من بني جنسهم ، وطريقة معاشرتهم ومنامهم معا في بيت واحد ، كل ذلك له اثره الفاعل في هذا التلوّث والانحراف.

نحن نقرا في احوال قوم لوط انّ سبب انحرافهم وتلوثهم بهذا الذنب انّهم كانوا قوما بخلاء ، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام ولم يكونوا ليرغبوا في استضافة العابرين من المسافرين ، كانوا يوحون إليهم بداية الأمر انّهم يريدون ان يعتدوا عليهم جنسيا ليفرّ منهم الضيوف والمسافرون ،

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 14 ، ص 252.

٣٠

ولكنّ هذا العمل أصبح بالتدريج مألوفا عندهم ونما عندهم الانحراف الجنسي وبلغ عملهم حدّا انّهم تلوّثوا بالآثام من قرنهم الى قدمهم(1) .

وربّما جرّ المزاح غير المناسب بين الذكور او بين الإناث الى هذا الانحراف ، فعلى كل حال ، ينبغي ملاحظة هذه المسائل بدقة انقاذ المنحرفين والملوّثين بهذا الذنب بسرعة ، ويطلب من الله التوفيق في هذا السبيل.

أخلاق قوم لوط :

ونقرا في الرّوايات والتواريخ الاسلامية اعمالا سيئة كانت عند قوم لوط سوى الانحراف الجنسي المشار اليه ، ومن هذه الأعمال ما ورد في «سفينة البحار» حيث نقرا ما يلي : قبل كانت مجالسهم ، تشتمل على انواع المناكير مثل الشتم والسخف والصفع والقمار وضرب المخراق وخذف الأحجار على من مرّ بهم ، وضرب المعازف والمزامير وكشف العورات(2) .

وواضح انّ الانحراف في مثل هذه البيئة واعمال السوء تأخذ ابعادا جديدة كل يوم ، وبغض النظر عن قبح الأعمال السيئة ـ أساسا ـ تبلغ الحال درجة لا يرى عندها اي عمل في نظر تلك البيئة سيّئا او منكرا.

ويوجد في عصر تقدم العلوم من هم أشقى من قوم لوط حيث يسلكون نفس ذلك السبيل وقد تصل اعمال هؤلاء المخزية الى درجة ننسى عندها اعمال قوم لوط

* * *

__________________

(1) البحار ، ج 12 ، ص 147.

(2) سفينة البحار ، ص 517.

٣١

الآيات

( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) )

التّفسير

مدين بلدة شعيب

مع انتهاء قصّة قوم لوط تصل النوبة الى قوم شعيب واهل مدين ، أولئك الذين حادوا عن طريق التوحيد وهاموا على وجوههم في شركهم وعبادة الأصنام ، ولم يعبدوا الأصنام فحسب ، بل الدّرهم والدينار والثروة والمال ، ومن اجل ذلك فإنّهم لوثوا تجارتهم الرابحة وكسبهم الوفير بالغش والبخس والفساد.

في بداية القصّة تقول الآيات( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ) وكلمة «أخاهم» كما أشرنا إليها سابقا تستعمل في مثل هذا التعبير لبيان منتهى المحبّة من قبل

٣٢

الأنبياء لقومهم ، لا لانّهم افراد قبيلته وقومه فحسب ، بل اضافة الى ذلك فإنّه يريد الخير لهم. ويتحرق قلبه عليهم ، فمثله مثل الأخ الودود.

و «مدين» على وزن «مريم» اسم لمدينة شعيب وقبيلته ، وتقع المدينة شرق خليج العقبة ، وأهلها من أبناء إسماعيل ، وكانوا يتاجرون مع اهل مصر ولبنان وفلسطين.

ويطلق اليوم على مدينة «مدين» اسم «معّان» ولكن بعض الجغرافيين أطلقوا اسم مدين على الساكنين بين خليج العقبة وجبل سيناء.

وورد في التوراة ايضا اسم «مديان» ولكن تسمية لبعض القبائل ، وطبيعي انّ اطلاق الاسم على المدينة وأهلها امر رائج(1) .

هذا النّبي وهذا الأخ الودود المشفق على قومه ـ كأي نبيّ في أسلوبه وطريقته في بداية الدعوة ـ دعاهم اوّلا الى ما هو الأساس والعماد والمعتقد وهو «التوحيد» وقال :( يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) .

لانّ الدعوة الى التوحيد دعوة الى هزيمة جميع «الطواغيت» والسنن الجاهلية ولا يتيسر ايّ إصلاح اجتماعي او اخلاقي بدونه.

ثمّ أشار الى احد المفاسد الاقتصادية التي هي من افرازات عبادة الأصنام والشرك ، وكانت رائجة عند اهل مدين يومئذ جدّا ، وقال :( وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ ) اي حال البيع والشراء.

و «المكيال» و «الميزان» من أدوات الوزن يعرف بهما وزن المبيع ومقداره ، ونقصانه يعني عدم إيفاء حقوق الناس والبخس في البيع.

ورواج هذين الأمرين بينهم يدل على عدم النظم والحساب والميزان في اعمالهم ونموذجا للظلم والجور والإجحاف في ذلك المجتمع الثري.

ويشير هذا النّبي العظيم بعد هذا الأمر الى علّتين :

__________________

(1) أعلام القرآن ، ص 573.

٣٣

العلّة الاولى : هي قوله( إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ ) .

يقول اوّلا : انّ قبول نصحي يكون سببا لتفتح أبواب الخير عليكم وتقديم التجارة وهبوط سطح القيمة واستقرار المجتمع.

ويحتمل ايضا في تفسير هذه الجملة( إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ ) انّ شعيبا يقول لهم : انّي أراكم منعمين وفي خير كثير ، فعلى هذا لا مدعاة لعبادة الأصنام واضاعة حقوق الناس والكفر بدلا من الشكر على نعم الله سبحانه.

وثانيا :( وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ) بسبب إصراركم على الشرك والتطفيف في الوزن وكفران النعمة إلخ.

وكلمة «محيط» جاءت صفة ليوم ، اي يوم شامل ذو احاطة ، وشمول اليوم يعني شمول العذاب والعقاب في ذلك اليوم ، وهذا التعبير فيه اشارة الى عذاب الآخرة كما يشير الى عقاب الدنيا الشامل.

فعلى هذا لا أنتم بحاجة الى مثل هذه الأعمال ، ولا ربّكم غافل عنكم ، فينبغي إصلاح أنفسكم عاجلا.

والآية الاخرى تؤكّد على نظامهم الاقتصادي ، فإذا كان شعيب قد نهى قومه عن قلّة البيع والبخس في المكيال ، فهنا يدعوهم الى إيفاء الحقوق والعدل والقسط حيث يقول :( وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ) .

ويجب ان يحكم هذا الأصل «وهو اقامة القسط والعدل ، وإعطاء كل ذي حقّ حقه» على مجتمعكم بأسره.

ثمّ يخطو خطوة أوسع ويقول :( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ) و «البخس» ومعناه في اللغة التقليل ، وجاء هنا بمعنى الظلم ايضا. ويطلق على الاراضي المزروعة دون سقي «انّها بخس» لانّ ماءها قليل ، حيث تعتمد على ماء المطر فحسب ، او انّ هذه الاراضي قليلة الانتاج بالنسبة الى الاراضي الزراعية الاخرى.

٣٤

وإذا توسعنا في معنى هذه الكلمة ومفهوم الجملة وجدناها دعوة الى رعاية جميع الحقوق الفردية والاجتماعية ولجميع الملل والنحل ، ويظهر «بخس الحق» في كل محيط وعصر وزمان بشكل معين حتى بالمساعدة دون عوض أحيانا ، والتعاون وإعطاء قرض معين (كما هي طريقة المستعمرين في عصرنا).

ونجد في نهاية الآية انّ شعيبا يخطو خطوة اخرى أوسع ويقول لقومه :( وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) .

فالفساد يقع عن طريق البيع ويقع عن طريق غصب حقوق الناس والاعتداء على حقوق الآخرين ، والفساد ايضا يقع في الإخلال بالموازين والمقاييس الاجتماعيّة ، ويقع ايضا ببخس الناس أشياءهم وأموالهم ، وأخيرا يقع الفساد على الحيثيات بالاعتداء على حرمتها وعلى النواميس وأرواح الناس.

وجملة «لا تعثوا» معناها «لا تفسدوا» بدلالة ذكر مفسدين بعدها لمزيد التوكيد على هذا الموضوع.

انّ الآيتين المتقدمتين تعكسان هذه الواقعية بجلاء ، وهي انّه بعد الاعتقاد بالتوحيد والنظر الفكري الصحيح ، ينظر الى الاقتصاد السليم بأهمية خاصّة ، كما تدلّان على انّ الإخلال بالنظام الاقتصادي سيكون أساسا للفساد الوسيع في المجتمع.

ثمّ يخبرهم انّ زيادة الثروة ـ التي تصل الى أيديكم عن طريق الظلم واستثمار الآخرين ـ ليست هي السبب في غناكم ، بل ما يغنيكم هو( بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

التعبير بـ «بَقِيَّتُ اللهِ » امّا لانّ الربح الحلال القليل المترشح عن امر الله فهو «بَقِيَّتُ اللهِ » وامّا لانّ الحصول على الرزق الحلال باعث على دوام نعم الله وبقاء البركات وامّا لانّه يشير الى الجزاء والثواب المعنوي الذي يبقى الى الأبد. فإنّ الدنيا فانية وما فيها لا محاله فان ، وتشير الآية (46) من سورة الكهف :( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) الى هذا المضمون ايضا. والتعبير

٣٥

بقوله :( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) اشارة الى انّ هذه الواقعية لا يعرفها الّا المؤمنون بالله وحكمته وفلسفة أوامره.

ونقرا في روايات متعددة في تفسير( بَقِيَّتُ اللهِ ) انّ المراد بها وجود المهدي عجّل الله فرجه الشريف ، او بعض الائمّة الآخرين ، ومن هذه الرّوايات ما نقل عن الامام الباقرعليه‌السلام في كتاب إكمال الدين : «اوّل ما ينطق به القائمعليه‌السلام حين يخرج هذه الآية( بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ثمّ يقول : انا بقية الله وحجّته وخليفته عليكم ، فلا يسلّم عليه مسلم الّا قال : السّلام عليك يا بقية الله في ارضه»(1) .

وقد قلنا مرارا انّ آيات القرآن بالرغم من نزولها في موارد خاصّة ، الّا انّها تحمل مفاهيم جامعة وكلية ، بحيث يمكن ان تكون اثر مصداقا في العصور والقرون التالية وتنطبق على مجال أوسع ايضا.

صحيح انّ المخاطبين في الآية المتقدمة هم قوم شعيب ، والمراد من( بَقِيَّتُ اللهِ ) هو الربح وراس المال الحلال او الثواب الالهي ، الّا انّ كل موجود نافع باق من قبل الله للبشرية ، ويكون أساس سعادتها وخيرها يعدّ «بَقِيَّتُ اللهِ » ايضا.

فجميع أنبياء الله ورسله المكرمين هم «بَقِيَّتُ اللهِ » وجميع القادة الحقّ الذين يبقون بعد الجهاد المرير في وجه الأعداء فوجودهم في الامّة يعدّ «بَقِيَّتُ اللهِ » وكذلك الجنود المقاتلون إذا عادوا الى ذويهم من ميدان القتال بعد انتصاهم على الأعداء فهم «بَقِيَّتُ اللهِ » ومن هنا فإنّ «المهدي الموعود»عليه‌السلام آخر امام وأعظم قائد ثوري بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اجلى مصاديق «بَقِيَّتُ اللهِ » وهو أجدر من سواه بهذا اللقب ، خاصّة انّه الوحيد الذي بقي بعد الأنبياء والائمّةعليهم‌السلام .

وفي نهاية الآية ـ محل البحث ـ نقرا على لسان شعيب( وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) إذ وظيفته هي البلاغ وليس مسئولا على «إجبار» احد ابدا.

* * *

__________________

(1) نقلا عن تفسير الصافي ، في شرح المتقدمة.

٣٦

الآيات

( قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) )

التّفسير

المنطق الواهي :

والآن فلنر ما كان ردّ القوم اللجوجين إزاء نداء هذا المصلح السّماوي «شعيب».

٣٧

فبما انّهم كانوا يتصورون انّ عبادة الأصنام من آثار سلفهم الصالح ، ودلالة على اصالة ثقافتهم ، وكانوا لا يرفعون اليد عن الغش في المعاملة وتحقيق الربح الوفير عن هذا الطريق( قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا ) ونترك حريتنا في التصرف بأموالنا فلا نستطيع الاستفادة منها( أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا ) ان هذا بعيد منك( إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) ؟!

وهنا ينقدح هذا السؤال وهم لم سألوه عن الصلاة وأظهروا اهتمامهم بها؟! قال بعض المفسّرين : كان ذلك لانّ شعيبا كان يكثر من صلاته ويقول للناس : انّ الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكرات.

ولكن هؤلاء الأغبياء الذين لم يعرفوا السرّ والعلاقة بين الصلاة وترك المنكرات ، كانوا يسخرون من شعيب وكانوا يقولون له : أهذه الاذكار والأوراد والحركات التي تقوم بها تأمرك ان نترك ما يعبد آباؤنا ونهمل سنّة السلف وثقافتنا التقليدية او ان نسلب اختيارنا من التصرف بأموالنا كيف شئنا؟!

واحتمل البعض انّ «الصلاة» اشارة الى العقيدة والدين ، لانّها عبارة عن المظهر البارز للدين.

وعلى كل حال لو كان أولئك يفكرون جيدا لادركوا هذا الأمر الواقعي وهو انّ الصلاة توقظ في الإنسان الاحساس بالمسؤولية والتقوى ومخافة الله ومعرفة الحقوق ، وتذكره بالله وبمحكمة عدل الله ، وتنفض عن قلبه غبار حبّ الذات وعبادة الذات! وتصرفه عن هذه الدنيا المحدودة والملوّثة الى عالم ما وراء الطبيعة ، الى عالم الصالحات وتزكية النفس ، ولذلك فهي تخلّصه من الشرك وعبادة الأصنام والتقليد الأعمى للسلف الجاهل وبخس الناس أشياءهم ، وعن انواع الغش والخداع إلخ.

كما ينقدح هنا سؤال آخر ، وهو : انّ قولهم لشعيب( إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ

٣٨

الرَّشِيدُ ) هل كان كلاما واقعيا من منطلق الايمان به ، ام هو على سبيل الاستهزاء والسخرية؟!

احتمل المفسّرون الوجهين ولكن مع ملاحظة أسلوب سؤالهم( أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ ) الذي يستبطن الاستهزاء ، يظهر انّ هذه الجملة على نحو الاستهزاء ، وهي اشارة الى انّ الإنسان الحليم الرشيد هو من لم يتعجل القول او الراي في امر دون ان يسبر غوره ويعرف كنهه ، والإنسان العاقل الرشيد هو من لم يسحق سنن قومه تحت رجليه ويسلب حريتهم في التصرف بأموالهم ، فيظهر انّك لم تسبر غور الأمور وليس لديك عقل حصيف وفكر عميق ، لانّ الفكر العميق والعقل يوجبان على الإنسان الّا يرفع يده عن طريقة السلف ، ولا يسلب من الآخرين الاختيار وحرية العمل.

ولكن شعيبا ردّ على من اتّهمه بالسفه وقلّة العقل بكلام متين و( قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ) (1) .

انّه يريد ان يفهم قومه انّ في عمله هذا هدفا معنويا وانسانيا وتربويا ، وانّه يعرف حقائق لا يعرفها قومه ، والإنسان دائما عدوّ ما جهل.

ومن الطريف انّه في هذه الآيات يكرر عبارة( يا قَوْمِ ) وذلك ليعبّئ عواطفهم لقبول الحق وليشعرهم بأنّهم منه وانّه منهم ، سواء أكان المقصود بالقوم القبيلة او الطائفة او الجماعة او الاسرة ، ام كان المقصود الجماعة التي كان يعيش وسطهم ويعدّ جزءا منهم.

ثمّ يضيف هذا النّبي العظيم قائلا :( وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ ) فلا تتصوروا انني أقول لكم لا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تنقصوا المكيال ، وانا ابخس الناس او انقص المكيال ، او أقول لكم لا تعبدوا الأوثان وانا افعل

__________________

(1) ينبغي الالتفات الى انّ جزاء الجملة الشرطية محذوف هنا وتقديره هكذا ، أفأعدل مع ذلك عمّا انا عليه من عبادته وتبليغ دينه.

٣٩

ذلك كلّه ، كلا فإنّني لا افعل شيئا من ذلك ابدا.

ويستفاد من هذه الجملة انّهم كانوا يتهمون شعيبا بأنّه كان يريد الربح لنفسه ، ولهذا فهو ينفي هذا الموضوع صراحة ويقول تعقيبا على ما سبق( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) .

وهذا هو هدف الأنبياء جميعا ، حيث كانوا يسعون الى إصلاح العقيدة ، وإصلاح الأخلاق ، وإصلاح العمل ، وإصلاح العلائق والروابط الاجتماعية وانظمتها( وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ) للوصول الى هذا الهدف.

وعلى هذا فإنني ، ولأجل أداء رسالتي والوصول الى هذا الهدف الكبير( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) .

وأسعى للاستعانة به على حل المشاكل ، وأتوكل عليه في تحمّل الشدائد في هذا الطريق ، وأعود اليه ايضا.

ثمّ ينبههم الى مسألة أخلاقية ، وهي انّه كثيرا ما يحدث للإنسان انّه لا يعرف مصالحه وينسى مصيره ، وذلك بسبب بغضه وعدائه بالنسبة لشخص آخر او التعصب الأعمى واللجاجة في شيء ما ، فيقول لهم( وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي ) فتبتلوا بما ابتلى به غيركم و( أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ ) وما حدث لقوم لوط من البلاء العظيم حيث امطرهم الله بحجارة من سجيل منضود وقلب مدنهم فجعل عاليها سافلها( وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ) فلا زمانهم بعيد عنكم كثيرا ، ولا مكان حياتهم ، كما انّ اعمالكم وذنوبكم لا تقل عن اعمالهم وذنوبهم ايضا.

و «مدين» التي كانت موطن شعيب لم تكن بعيدة عن موطن قوم لوط ، لانّ الموطنين كلاهما كانا من مناطق «الشامات» وإذا كان بينهما فاصل زمني ، فلم يكن الفاصل بالمقدار الذي يستدعي نسيان تأريخه ، وامّا من الناحية العملية فالفرق كبير بين الانحراف الجنسي الذي كان عليه قوم لوط والانحراف

٤٠