الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 572
المشاهدات: 273506
تحميل: 4733


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 273506 / تحميل: 4733
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 7

مؤلف:
العربية

ضمن الأحلام المختلطة و «الأضغاث» حيث قسّموا الأحلام الى قسمين : أحلام ذات معنى وهي قابلة للتعبير.

وأحلام مختلطة لا معنى لها حيث لم يجدوا لها تعبيرا وتأويلا وكانوا يعدّون هذا النوع نتيجة قوّة الخيال ، على العكس من النوع الاوّل الذي يعدّونه نتيجة اتّصال الروح بعالم الغيب.

كما انّ هناك احتمال آخر ، وهو انّهم توقّعوا ان تقع حوادث مزعجة في المستقبل ، وما اعتاد عليه حاشية الملوك والطغاة هو ذكر المسائل المريحة لهم فحسب ، وكما يصطلح عليه ما فيه طيب الخاطر ، ويمتنعون عن ذكر ما يزعجهم ، وهذا احد اسباب سقوط مثل هذه الحكومات المتجبّرة!

هنا يرد سؤال ، وهو : كيف تجرّا هؤلاء امام السلطان ، بقولهم جوابا لسؤاله عن رؤياه انّها( أَضْغاثُ أَحْلامٍ ) في حين انّ المعروف عند حاشية السلطان انّ تفلسف كلّ حركة منه ولو كانت بغير معنى ويفسّرونها تفسيرا مقبولا.

من الممكن انّهم رأوا الملك مهموما من هذه الرؤيا ، وكان من حقّه ذلك لانّه راى( سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ ) .

الا يدلّ ذلك على أنّ من الممكن انّ افرادا ضعافا يتسلّمون السلطة من يده على حين غرّة!؟!

لذلك قالوا له :( أَضْغاثُ أَحْلامٍ ) ليرفعوا الكدورة عن خاطره ، اي : لا تتأثّر فما هنالك امر مهم ، وهذه الأحلام لا يمكن ان تكون دليلا على اي شيء.

وهناك احتمال آخر ذكره المفسّرون وهو انّ مرادهم من( أَضْغاثُ أَحْلامٍ ) لم يكن انّ هذه الأحلام لا تأويل لها ، بل المراد انّ مثل هذه الأحلام ملتوية ومجموعة من امور مختلفة ، وهم غير قادرين على تأويل مثل هذه الأحلام ، فهم لم ينكروا إمكان وجود أستاذ ماهر وقادر على تأويل هذه الرؤيا ، وانّما أظهروا

٢٢١

عجزهم عن التعبير والتأويل فحسب.

وهنا تذكّر ساقي الملك ما حدث له ولصاحبه في السجن مع يوسف ، ونجا من السجن كما بشّره يوسف( وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ) .

اجل في زاوية السجن يعيش رجل حيّ الضمير طاهر القلب مؤمن وقلبه مرآة للحوادث المستقبلية ، انّه الذي يستطيع ان يكشف الحجاب عن هذه الرؤيا المغلقة ويعبّرها.

جملة( فَأَرْسِلُونِ ) تشير الى انّ من الممكن ان يكون يوسف ممنوع المواجهة ، وكان الساقي يريد ان يأذن الملك ومن حوله بمواجهته لهذا الشأن.

وهكذا حرّك كلام الساقي المجلس وشخصت الأبصار نحوه ، وطلبوا منه الاسراع بالذهاب اليه والإتيان بالخبر.

مضى الساقي الى السجن ليرى صديقه القديم ذلك الصديق الذي لم يف بوعده له ، لكنّه ربّما كان يعرف انّ شخصية يوسف الكريمة تمنعه من فتح «باب العتاب» فالتفت اليه وقال :( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

كلمة «الناس» تشير الى احتمال انّ رؤيا الملك صيّرها أطرافه المتملّقون وحاشيته حادثة مهمّة لذلك اليوم ، فنشروها بين الناس وعمّموا حالة «القلق» من القصر الى الوسط الاجتماعي العام.

وعلى كلّ حال فإنّ يوسف دون ان يطلب شرطا او قيدا او اجرا لتعبيره عبّر الرؤيا فورا تعبيرا دقيقا لا غموض فيه ولا حجاب مقرونا بما ينبغي عمله في المستقبل و( قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا

٢٢٢

قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ) (1) .

ثمّ انّه يحلّ بكم القحط لسبع سنين متوالية فلا امطار ولا زراعة كافية ، فعليكم بالاستفادة ممّا جمعتم في سنيّ الرخاء( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ ) .

ولكن عليكم ان تحذروا من استهلاك الطعام( إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ) وإذا واظبتم على هذه الخطّة فحينئذ لا خطر يهدّدكم لانّه( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ )

و( يُغاثُ النَّاسُ ) اي يدركهم الغيث فتكثر خيراتهم ، وليس هذا فحسب ، بل( فِيهِ يَعْصِرُونَ ) المحاصيل لاستخراج الدهن والفاكهة لشراب عصيرها إلخ.

* * *

ملاحظات

1 ـ كم كان تعبير يوسف لهذه الرؤيا دقيقا ومحسوبا ، حيث كانت البقرة في الأساطير القديمة مظهر «السنة» وكون البقرات سمانا دليل على كثرة النعمة ، وكونها عجافا دليل على الجفاف والقحط ، وهجوم السبع العجاف على السبع السّمان كان دليلا على ان يستفاد من ذخائر السنوات السابقة.

وسبع سنبلات خضر وقد أحاطت بها سبع سنبلات يابسات تأكيد آخر على هاتين الفترتين فترة النعمة وفترة الشدّة.

اضافة الى انّه اكّد له على هذه المسألة الدقيقة ، وهي خزن المحاصيل في

__________________

(1) كلمة «داب» على وزن «ادب» تعني في الأصل ادامة الحركة ، كما انّها بمعنى العادة المستمرة ، فيكون معنى الكلام : عليكم ان تزرعوا تبعا لعادتكم المستمرة في مصر ولكن ينبغي ان تقتصدوا في مصرفه ويحتمل ان يكون المراد منه ان تزرعوا بجد وجهد اكثر فأكثر لانّ دأبا ودؤوبا بمعنى الجدّ والتعب ايضا ، اي اعملوا حتّى تتعبوا.

٢٢٣

سنابلها لئلّا تفسد بسرعة وليكون حفظها الى سبع سنوات ممكنا.

وكون عدد البقرات العجاف والسنابل اليابسات لم يتجاوز السبع لكلّ منهما دليل آخر على انتهاء الجفاف والشدّة مع انتهاء تلك السنوات السبع وبالطبع فإنّ سنّة سيأتي بعد هذه السنوات سنة مليئة بالخيرات والأمطار ، فلا بدّ من التفكير للبذر في تلك السنة وان يحتفظوا بشيء ممّا يخزن لها.

في الحقيقة لم يكن يوسف مفسّرا بسيطا للأحلام ، بل كان قائدا يخطّط من زاوية السجن لمستقبل البلاد ، وقد قدّم مقترحا من عدّة مواد لخمسة عشر عاما على الأقل ، وكما سنرى فإنّ هذا التعبير المقرون بالمقترح للمستقبل حرّك الملك وحاشيته وكان سببا لانقاذ اهل مصر من القحط القاتل من جهة ، وان ينجو يوسف من سجنه وتخرج الحكومة من ايدي الطغاة من جهة اخرى.

2 ـ مرّة اخرى تعلّمنا هذه القصّة هذا الدرس الكبير وهو انّ قدرة الله اكبر ممّا نتصوّر ، فهو القادر بسبب رؤيا بسيطة يراها جبابرة الزمان أنفسهم ان ينقذ امّة كبيرة من فاجعة عظيمة ، ويخلّص عبده الخالص بعد سنين من الشدائد والمصائب ايضا.

فلا بدّ ان يرى الملك هذه الرؤيا ، ولا بدّ ان يحضر الساقي عنده يتذكّر رؤياه في السجن ، وترتبط أخيرا حوادث مهمّة بعضها ببعض ، فالله تعالى هو الذي يخلق الحوادث العظيمة من توافه الأمور.

اجل ، ينبغي لنا توكيد ارتباطنا القلبي مع هذا الربّ القادر

3 ـ الأحلام المتعدّدة في هذه السورة ، من رؤيا يوسف نفسه الى رؤيا السجينين الى رؤيا فرعون مصر ، والاهتمام الكبير الذي كان يوليه اهل ذلك العصر بالنسبة لتعبير الرؤيا أساسا ، يدلّ على انّ تعبير الرؤيا في ذلك العصر كان من العلوم المتقدّمة ، وربّما وجب ـ لهذا السبب ـ ان يكون نبي ذلك العصر ـ اي

٢٢٤

(يوسف) ـ مطّلعا على مثل هذا العلم الى درجة عالية بحيث يعدّ اعجازا منه.

أليست معاجز الأنبياء يجب ان تكون من ابرز العلوم في زمانهم ، ليحصل اليقين ـ عند العجز من قبل علماء العصر ـ بأنّ مصدر العلم الذي يحمله نبيّهم هو الله!.

* * *

٢٢٥

الآيات

( وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) )

التّفسير

تبرئة يوسف من كلّ اتّهام!

لقد كان تعبير يوسف لرؤيا الملك ـ كما قلنا ـ دقيقا ومدروسا ومنطقيا الى درجة انّه جذب الملك وحاشيته اليه ، إذ كان يرى انّ سجينا مجهولا عبّر رؤياه بأحسن تعبير وتحليل ، دون ان ينتظر ايّ اجر او يتوقّع امرا ما كما انّه اعطى

٢٢٦

للمستقبل خطّة مدروسة ايضا.

لقد فهم الملك اجمالا انّ يوسف لم يكن رجلا يستحقّ السجن ، بل هو شخص اسمى مقاما من الإنسان العادي ، دخل السجن نتيجة حادث خفيّ ، لذلك تشوّق لرؤيته ، ولكن لا ينبغي للملك ان ينسى غروره ويسرع الى زيارته ، بل امر ان يؤتى به اليه كما يقول القرآن :( وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ) لم يوافق يوسف على الخروج من السجن دون ان يثبت براءته ، فالتفت الى رسول الملك و( قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ ) اذن فيوسف لم يرغب ان يكون كأي مجرم ، او على الأقل كأي متّهم يعيش مشمولا بـ «عفو الملك» لقد كان يرغب اوّلا ان يحقّق في سبب حبسه ، وان تثبت براءته وطهارة ذيله ، ويخرج من السجن مرفوع الراس ، كما يثبت ضمنا تلوّث النظام الحكومي وما يجري في قصر وزيره!.

اجل لقد اهتمّ بكرامة شخصيته وشرفه قبل خروجه من السجن ، وهذا هو نهج الأحرار.

الطريف هنا انّ يوسف في عبارته هذه أبدى سموا في شخصيته الى درجة انّه لم يكن مستعدّا لانّ يصرّح باسم امراة العزيز التي كانت السبب المباشر في اتّهامه وحبسه ، بل اكتفى بالاشارة الى جماعة النسوة اللاتي لهنّ علاقة بهذا الموضوع فحسب.

ثمّ يضيف يوسف : إذا لم يعلم سبب سجني شعب مصر ولا جهازه الحكومي وبأي سبب وصلت السجن ، فالله مطّلع على ذلك( إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) .

عاد المبعوث من قبل الملك الى يوسف مرّة ثانية الى الملك ، وأخبره بما طلبه يوسف مع ما كان من إبائه وعلوّ همّته ، لذا عظم يوسف في نفس الملك وبادر مسرعا الى إحضار النسوة اللائي شاركن في الحادثة ، والتفت اليهنّ( قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ) يجب ان تقلن الحقّ هل ارتكب

٢٢٧

يوسف خطيئة او ذنبا؟

فتيقّظ فجأة الوجدان النائم في نفوسهنّ ، وأجبنه جميعا بكلام واحد ـ متّفق على طهارته و( قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) .

امّا امراة العزيز التي كانت حاضرة ايضا ، وكانت تصغي بدقّة الى حديث الملك ونسوة مصر ، فلم تجد في نفسها القدرة على السكوت ، ودون ان تسأل احسّت بأنّ الوقت قد حان لانّ تنزّه يوسف وان تعوّض عن تبكيت وجدانها وحيائها وذنبها بشهادتها القاطعة في حقّه ، وخاصّة انّها رأت كرم يوسف المنقطع النظير من خلال رسالته الى الملك ، إذ لم يعرّض فيها بالطعن في شخصيتها وكان كلامه عامّا ومغلقا تحت عنوان «نسوة مصر».

فكأنّما حدث انفجار في داخلها فجأة وصرخت و( قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) .

ثمّ واصلت امراة العزيز كلامها( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) لانّي عرفت بعد هذه المدّة الطويلة وما عندي من التجارب( أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) .

في الحقيقة (بناء على انّ الجملة المتقدّمة لامراة العزيز كما يقتضيه ظاهر العبارة) فانّها ومن اجل اعترافها الصريح بنزاهة يوسف وما اخطأته في حقّه ، تقيم دليلين :

الاوّل : انّ وجدانها ، ويحتمل بقايا علاقتها بيوسف ، لا تسمح لها ان تستر الحقّ اكثر من هذا ، وان تخون هذا الشاب الطاهر في غيابه.

الثّاني : انّ من مشاهدة الدروس المليئة بالعبر على مرور الزمن تجلّت لها هذه الحقيقة ، وهي انّ الله يرعى الصالحين ولا يوفّق الخائنين في مرادهم ابدا.

وبهذا بدأت الحجب تنقشع عن عينيها قليلا قليلا وتلمس حقيقة الحياة ولا سيّما في هزيمة عشقها الذي صنع غرورها وشخصيتها الخياليّة ، وانفتحت

٢٢٨

عيناها على الواقع اكثر ، فلا عجب ان تعترف هذا الاعتراف الصريح.

وتواصل امراة العزيز القول :( وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ) وبحفظه واعانته نبقى مصونين ، وانا أرجو ان يغفر لي ربّي هذا الذنب( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

قال بعض المفسّرين : انّ الآيتين الأخيرتين من كلام يوسف ، وقالوا : انّهما في الحقيقة تعقيب لما قاله يوسف لرسول الملك ومعنى الكلام يكون هكذا.

«إذا قلت حقّقوا عن شأن النسوة اللائي قطّعن أيديهن ، فمن اجل ان يعلم الملك او عزيز مصر الذي هو وزيره ، انّي لم اخنه في غيابه والله لا يهدي كيد الخائنين كما لا أبرئ نفسي لانّ النفس امّارة بالسوء الّا ما رحم ربّي انّ ربّي غفور رحيم».

الظاهر انّ الهدف من هذا التّفسير المخالف لظاهر الآية انّهم صعب عليهم قبول هذا المقدار من العلم والمعرفة لامراة العزيز التي تقول بلحن مخلص وحاك عن التنبّه والتيقّظ.

والحال انّه لا يبعد انّ الإنسان حين يرتطم في حياته بصخرة صمّاء ، تظهر في نفسه حالة من التيقّظ المقرون بالاحساس بالذنب والخجل ، خاصّة انّه لوحظ انّ الهزيمة في العشق المجازي يجرّ الإنسان الى طريق العشق الحقيقي «عشق الله».

وبالتعبير علم النفس المعاصر : انّ تلك الميول النفسية المكبوتة يحصل فيها حالة ال «تصعيد» وبدلا من تلاشيها وزوالها فانّها تتجلّى بشكل عال.

ثمّ انّ قسما من الرّوايات التي تشرح حال امراة العزيز ـ في السنين الاخيرة من حياتها ـ دليل على هذا التيقّظ والانتباه ايضا.

وبعد هذا كلّه فربط هاتين الآيتين بيوسف ـ الى درجة ما ـ بعيد ، وهو خلاف الظاهر بحيث لا ينسجم مع اي من المعايير الادبية للأسباب الآتية :

٢٢٩

اوّلا : كلمة «ذلك» التي ذكرت في بداية الآية هي بعنوان ذكر العلّة ، اي علّة الكلام المتقدّم الذي لم يكن سوى كلام امراة العزيز فحسب ، وربط هذا التذييل بكلام يوسف الوارد في الآيات السابقة امر عجيب.

ثانيا : إذا كانت هاتان الآيتان بيانا لكلام يوسف فسيبدو بينهما نوع من التناقض والتضادّ ، فمن جهة يقول : انّي لم اخنه بالغيب ، ومرّة يقول : وما أبرئ نفسي انّ النفس لامّارة بالسوء. وهذا الكلام لا يقوله الّا من يعثر او يزل ولو يسيرا ، في حين انّ يوسف لم يصدر منه اي زلل.

وثالثا : إذا كان مقصوده ان يعرف عزيز مصر انّه بريء فهو من البداية «بعد شهادة الشاهد» عرف الواقع ، ولذلك قال لامراته :( اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ) وإذا كان مقصوده انّه لم يخن الملك ، فلا علاقة للملك بهذا الأمر ، والتوسّل الى تفسيرهم هذا بحجّة انّ الخيانة لامراة العزيز خيانة للملك الجبّار ، فهو حجّة واهية ـ كما يبدو ـ خاصّة انّ حاشية القصر لا يكترثون بمثل هذه المسائل.

وخلاصة القول : انّ هذا الارتباط في الآيات يدلّ على انّ جميع ما ورد في السياق من كلام امراة العزيز التي انتبهت وتيقّظت واعترفت بهذه الحقائق.

* * *

ملاحظات

1 ـ هذه عاقبة التقوى

رأينا في هذا القسم من قصّة يوسف انّ عدوّته المعاندة «زليخا» اعترفت أخيرا بطهارته ، كما اعترفت بذنبها وخطئها وببراءته وهذه عاقبة التقوى وطهارة الثوب ، وهذا معنى قوله تعالى :( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) .

فكن طاهرا واستقم في طريق «الطهارة» فالله حاميك ولا يسمح للملوّثين

٢٣٠

ان يسيئوا إليك.

2 ـ الهزائم التي تكون سببا للتيقّظ

لا تكون الهزائم هزائم دائما ، بل ـ في كثير من الأحيان ـ تعدّ الهزيمة هزيمة في الظاهر الّا انّها في الباطن نوع من الانتصار المعنوي ، وهذه هي الهزائم التي تكون سببا لتيقّظ الإنسان ، وتشقّ حجب الغفلة والغرور عنه ، وتعدّ نقطة انعطاف جديدة في حياته.

فامرأة العزيز التي تدعى «زليخا» او «راعيل» وإن ابتليت في عملها بأشدّ الهزائم ، لكن هذه الهزيمة في مسير الذنب كانت سببا لأنّ تنتبه ويتيقّظ وجدانها النائم ، وان تندم على ما فات من عملها والتفتت الى ساحة الله. وما ينقل من قصتها بعد لقائها ليوسف وهو عزيز مصر ـ آنئذ ـ شاهد على هذا المدّعى ، إذ قالت : «الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته وجعل الملوك عبيدا بمعصيته». ونقرا في نهاية الحديث انّ يوسف تزوّج منها أخيرا(1) .

السعداء هم أولئك الذين يصنعون من الهزائم انتصارا ، ومن سوء الحظّ حظّا حسنا ، ومن اخطائهم طريقا صحيحا للحياة.

وبالطبع فليس ردّ الفعل من قبل جميع الافراد إزاء الهزائم هكذا فالأشخاص الضعاف حين تصيبهم الهزيمة ييأسون ويكتنف القنوط جميع وجودهم ، وقد يؤدّي بهم الى الانتحار وهذه هي الهزيمة الحقيقيّة.

لكن الذين يشعرون بكرامتهم وشخصيّتهم ، يسعون لان يجعلوا الهزائم سلّما لصعودهم وترقّيهم وجسرا لانتصارهم.

__________________

(1) سفينة البحار ج 1 ص 554.

٢٣١

3 ـ الحفاظ على الشرف خير من الحرية الظاهرية

رأينا انّ يوسف لم يدخل السجن لطهارة ثوبه فحسب ، بل لم يكن مستعدّا للخروج من السجن حتّى يعود مبعوث الملك ويجري التحقيقات حول النسوة اللائي قطّعن أيديهن لتثبت براءته ويخرج من السجن مرفوع الراس لا ان يخرج كأي مجرم ملوّث يشمله عفو الملك!! وذلك ذلّ واي ذلّ! وهذا درس لكلّ الناس في الماضي والحاضر والمستقبل.

4 ـ النفس الامّارة «المتمرّدة»

يقسّم علماء النفس والأخلاق النفس «وهي الإحساسات والغرائز والعواطف الانسانية» الى ثلاثة مراحل ، وقد أشار إليها القرآن المجيد :

المرحلة الاولى : «النفس الامّارة» وهي النفس التي تأمر الإنسان بالذنب وتجرّه الى كلّ جانب ، ولذا سمّوها «امّارة» وفي هذه المرحلة لا يكون العقل والايمان قد بلغا مرحلة من القدرة ليكبحا جماحها ، بل في كثير من المواقع يستسلمان للنفس الامّارة ، وإذا تصارعت النفس الامّارة مع العقل في هذه المرحلة فإنّها ستهزمه وتطرحه أرضا.

وهذه المرحلة هي التي أشير إليها في الآية المتقدّمة ، وجرت على لسان امراة العزيز بمصر ، وجميع شقاء الإنسان أساسه النفس الامّارة بالسوء.

المرحلة الثّانية : «النفس اللوّامة» وهي التي ترتقي بالإنسان بعد التعلّم والتربية والمجاهدة ، وفي هذه المرحلة ربّما يخطئ الإنسان نتيجة طغيان الغرائز ، لكن سرعان ما يندم وتلومه هذه النفس ، ويصمّم على تجاوز هذا الخطأ والتعويض عنه ، ويغسل قلبه وروحه بماء التوبة.

وبعبارة اخرى : في المواجهة بين النفس والعقل ، قد ينتصر العقل أحيانا وقد

٢٣٢

تنتصر النفس ، الّا انّ النتيجة والكفّة الراجحة هي للعقل والايمان.

ومن اجل الوصول الى هذه المرحلة لا بدّ من الجهاد الأكبر ، والتمرين الكافي ، والتربية في مدرسة الأستاذ ، والاستلهام من كلام الله وسنن الأنبياء والائمّةعليهم‌السلام .

وهذه المرحلة هي التي اقسم الله بها في سورة القيامة قسما يدلّ على عظمتها( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) .

المرحلة الثّالثة : «النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ » وهي المرحلة التي توصل الإنسان بعد التصفية والتهذيب الكامل الى ان يسيطر على غرائزه ويروّضها فلا تجد القدرة للمواجهة مع العقل والايمان ، لانّ العقل والايمان بلغا درجة من القوّة بحيث لا تقف امامهما الغرائز الحيوانية.

وهذه هي مرحلة الاطمئنان والسكينة الاطمئنان الذي يحكم المحيطات والبحار حيث لا يظهر عليها الانهزام امام اشدّ الأعاصير.

وهذا هو مقام الأنبياء والأولياء واتباعهم الصادقين ، أولئك الذين تدارسوا الايمان والتقوى في مدرسة رجال الله ، وهذّبوا أنفسهم سنين طوالا ، وواصلوا الجهاد الأكبر الى آخر مرحلة.

وإليهم والى أمثالهم يشير القرآن الكريم في سورة الفجر( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ) .

اللهمّ اعنّا لنستضيء بنور آياتك ، ونصعّد أنفسنا الامّارة الى اللّوامة ومنها الى النفس المطمئنة ولنجد روحا مطمئنا لا يضطرب ولا يتزلزل امام طوفان الحوادث ، وان نكون أقوياء امام الأعداء ، ولا تبهرنا زخارف الدنيا وزبارجها ، وان نصبر على البأساء والضرّاء.

اللهمّ ارزقنا العقل لننتصر على اهوائنا ونوّرنا إذا كنّا على خطأ بالتوفيق

٢٣٣

والهداية.

اللهمّ انّنا لم نبلغ هذه المرحلة بخطانا ، بل كنت أنت في كلّ مرحلة دليلنا وقائدنا ، فلا تحبس الطافك عنّا وإذا كان عدم شكرنا على جميع هذه النعم مستوجبا لعقابك ، فأيقظنا من نومة الغافلين قبل ان نذوق العذاب آمين ربّ العالمين.

* * *

٢٣٤

الآيات

( وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) )

التّفسير

يوسف أمينا على خزائن مصر :

رأينا انّ يوسف ـ هذا النّبي العظيم ـ ثبتت براءته أخيرا للجميع ، وحتّى الأعداء شهدوا بطهارته ونزاهته ، وظهر لهم انّ الذنب الوحيد الذي أودع من اجله السجن لم يكن غير التقوى والامانة التي كان يتحلّى بهما.

اضافة الى هذا فقد ثبت لهم انّ هذا السجين منهل العلم والمعرفة والنّباهة وطاقة فذّة وعالية في الادارة ، حيث انّه حينما فسّر رؤيا الملك (وهو سلطان

٢٣٥

مصر) بيّن له الطرق الكفيلة للخلاص من المشكلة الاقتصادية المتفاقمة القادمة.

ثمّ يستمر القرآن بذكر القصّة فيقول :( وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ) وهكذا امر الملك بإحضاره لكي يجعله مستشاره الخاص ونائبه في المهمّات فيستفيد من علمه ومعرفته وخبرته لحلّ المشاكل المستعصية.

ثمّ أرسل الملك مندوبا لزيارته في السجن ، فدخل عليه وأبلغه تحيات الملك وعواطفه القلبية تجاهه ثمّ قال له : انّه قد لبّى طلبك في البحث والتحقيق عن نساء مصر واتّهامهنّ ايّاك ، حيث شهدنّ جميعهنّ صراحة ببراءتك ونزاهتك فالآن لا مجال للتأخير ، قم لنذهب الى الملك.

فدخل يوسف على الملك وتكلّم معه فعند ما سمع من يوسف الاجوبة التي تحكي عن علمه وفراسته وذكائه الحادّ ، ازداد حبّا له وقال : انّ لك اليوم عندنا منزلة رفيعة وسلطات واسعة وانّك في موضع ثقتنا واعتمادنا( فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ) فلا بدّ ان تتصدّى للمناصب الهامّة في هذا البلد ، وتهتمّ بإصلاح الأمور الفاسدة ، وانّك تعلم (حينما فسّرت الرؤيا) بأنّ ازمة اقتصادية شديدة سوف تعصف بهذا البلد ، وفي تصوّري انّك الشخص الوحيد القادر على ان يتغلّب على هذه الازمة.

فاختار يوسف منصب الامانة على خزائن مصر ، وقال اجعلني مشرفا على خزائن هذا البلد فإنّي حفيظ عليم وعلى معرفة تامّة بأسرار المهنة وخصائصها( قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) .

كان يوسف يعلم انّ جانبا كبيرا من الاضطراب الحاصل في ذلك المجتمع الكبير المليء بالظلم والجور يكمن في القضايا الاقتصادية ، والآن وبعد ان عجزت اجهزة الحكم من حلّ تلك المشاكل واضطرّوا لطلب المساعدة منه ، فمن الأفضل له ان يسيطر على اقتصاد مصر حتّى يتمكّن من مساعدة المستضعفين وان يخفّف عنهم ـ قدر ما يستطيع ـ الآلام والمصاعب ويستردّ حقوقهم من

٢٣٦

الظالمين. ويقوم بترتيب الأوضاع المترديّة في ذلك البلد الكبير ، ويجعل الزراعة وتنظيمها هدفه الاوّل وخاصّة بعد وقوفه على انّ السنين القادمة هي سنوات الوفرة حيث تليها سنوات المجاعة والقحط ، فيدعو الناس الى الزراعة وزيادة الانتاج وعدم الإسراف في استعمال المنتوجات الزراعية وتقنين الحبوب وخزنها والاستفادة منها في ايّام القحط والشدّة.

وهكذا لم ير يوسف بدّا من توليّة منصب الاشراف على خزائن مصر.

وقال البعض : انّ الملك حينما راى في تلك السنة انّ الأمور قد ضاقت عليه وعجز عن حلّها ، كان يبحث عمّن يعتمد عليه وينجّيه من المصاعب ، فمن هنا حينما قابل يوسف ورآه أهلا لذلك أعطاه مقاليد الحكم بأجمعها واستقال هو من منصبه.

وقال آخرون : انّ الملك جعله في منصب الوزير الاوّل بديلا عن (عزيز مصر).

والاحتمال الآخر هو انّه بقي مشرفا على خزائن مصر ـ وهذا ما يستفاد من ظاهر الآية الكريمة ، الّا انّ الآيتين (100) و (101) واللتين يأتي تفسيرهما بإذن الله تدلّان على انّه أخيرا استقلّ بأمور مصر ـ بدل الملك وصار هو ملكا على مصر.

وبرغم انّ الآية رقم (88) تقول : انّ اخوة يوسف حينما دخلوا عليه نادوه باسم( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ) وهذا دليل على انّه استقلّ بمنصب عزيز مصر ، لكن نقول : انّه لا مانع من ان يكون يوسف قد ارتقى سلّم المناصب تدريجا حيث كان في اوّل الأمر مشرفا على الخزائن ، ثمّ جعل الوزير الاوّل ، وأخيرا صار ملكا على مصر.

ثمّ يقول الله سبحانه وتعالى منهيا بذلك قصّة يوسفعليه‌السلام :( وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ) .

٢٣٧

نعم انّ الله سبحانه وتعالى ينزل رحمته وبركاته ونعمه المادية والمعنوية على من يشاء من عباده الذين يراهم أهلا لذلك( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ) .

وانّه سبحانه وتعالى لا ينسى ان يجازي المحسنين ، وانّه مهما طالت المدّة فإنّه يجازيهم بجزائه الأوفى( وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) .

ولكن لا يقتصر سبحانه وتعالى على مجازاة المحسنين في الدنيا ، بل يجازي المتّقين والمحسنين بأحسن من ذلك في الآخرة وهو الجزاء الأوفى( وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ) .

* * *

بحوث

1 ـ كيف استجاب يوسف لطلب طاغوت زمانه؟

بالنسبة للآيات المتقدّمة فإنّ اوّل ما يجلب إليها النظر هو انّه كيف لبّى يوسف ـ هذا النّبي العظيم ـ طلب طاغوت زمانه وتعاون معه وتحمّل منصب الوزارة او الاشراف على خزينة الدولة؟

جواب هذا السؤال ـ في الحقيقة ـ يكمن في نفس الآيات السابقة ، فإنّه قد تحمّل هذه المسؤولية بعنوان انّه( حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) كي يحفظ بيت المال المتضمّن لاموال الشعب ويستثمره في سبيل منافعهم ، وبخاصّة حقوق الطبقة المحرومة والتي غالبا ما يستولي عليها المستكبرون.

اضافة الى هذا فإنّه عن طريق معرفته بتعبير الرؤيا ـ كما ذكرنا ـ كان على علم بالأزمة الاقتصادية الشديدة التي سوف تعصف بالشعب المصري ، بحيث لولا التخطيط الدقيق والاشراف المباشر عليها لماتت جماعات كثيرة من الشعب فبناء على هذا فإنّ انقاذ حياة الامّة والاحتفاظ بأرواح شعب بريء يقتضي ان يستفيد يوسف من هذه الفرصة التي أتيحت له ويستغلّها لأجل خدمة جميع افراد

٢٣٨

الشعب ، وبخاصّة المحرومين منهم حيث انّهم عادة ما يكونون اوّل ضحايا الازمة الاقتصادية واكثر المتضرّرين من الغلاء.

وقد ورد كلام مفصّل حول هذا الموضوع في بحث استجابة طلب الظالم وقبول الولاية في علم الفقه ، وانّ استجابة طلب الظالم والتصدّي لمناصب الحكم لا يكون حراما دائما ، بل تارة يكون مستحبّا ، وقد يكون في بعض الأحيان واجبا شرعا ، وذلك إذا كانت منفعة التصدّي ومرجّحاته الدينيّة اكثر من الإضرار الناتجة عن التصدّي من دعم حكم الظالم وغيره.

ونلاحظ في روايات عديدة انّ ائمّة اهل البيتعليهم‌السلام كانوا يجوّزون لبعض خلّص شيعتهم وأصحابهم أمثال علي بن يقطين ـ الذي كان من اصحاب الكاظمعليه‌السلام ـ حيث تصدّى لمنصب الوزارة لفرعون زمانه ـ هارون الرشيد ـ وذلك بأمر من الامامعليه‌السلام ، غاية ما في الأمر انّ الاستجابة والتصدّي لمناصب الحكم او ردّها تابعان لقانون «الأهم والمهم».

فلا بدّ من ملاحظة المنافع الدينيّة والاجتماعية ومقارنتها مع الإضرار الناتجة ، إذ لعلّ الذي يتصدّى للمنصب قد يستطيع في نهاية المطاف ان يزيح الظالم عن الحكم (كما حدث ليوسف بناء على مضمون بعض الرّوايات الواردة) او يكون المعين الذي تنبثق منه الحركات والثورات ، لانّه يقوم بتهيئة مقدّمات الثورة من داخل اجهزة الحكم القائم (ويمكن ان يكون مؤمن آل فرعون من هذا القبيل) او يكون على الأقل ملجأ وملاذا للمظلومين والمحرومين ومخفّفا عن آلامهم والضغوط الواردة عليهم من قبل اجهزة النظام.

وكلّ واحد من هذه الأمور يمكن ان يكون مبرّرا للتصدّي للمناصب وقبولها من الحاكم الظالم ، وللإمام الصادقعليه‌السلام رواية معروفة في حقّ هؤلاء الأشخاص يقولعليه‌السلام (فّارة عمل السلطان قضاء حوائج الاخوان)(1) .

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 12 ، 139.

٢٣٩

لكن هذا الموضوع ـ التعاون مع الظالم ـ من الأمور التي يقترب فيها حدود الحلال من الحرام ، وكثيرا ما يؤدّي تهاون صغير من الشخص المتصدّي الى وقوعه في اشراك النظام وارتكاب جريمة تعدّ من اكبر الجرائم وأفظعها ـ وهي التعاون مع الظالم ـ في حين يتصوّر انّه يقوم بعبادة وخدمة انسانية مشكورة.

وقد يستفيد بعض الانتهازيين من حياة (يوسف) او (علي بن يقطين) ويتّخذه ذريعة للتعاون مع الظالم وتغطية لاعمالهم الشريرة ، في حين انّه يوجد بون شاسع بين تصرّفاتهم وتصرّفات يوسف او علي بن يقطين(1) .

هنا سؤال آخر يطرح نفسه وهو انّه كيف رضخ سلطان مصر الظالم لهذا الأمر ـ واستجاب لطلب يوسف ـ مع علمه بأنّ يوسف لا يسير بسيرة الظالمين والمستثمرين والمستعمرين ، بل يكون على العكس من ذلك معاديا لهم؟

الاجابة على هذا السؤال لا تكون صعبة مع ملاحظة امر واحد وهو انّه تارة تحيط الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بالظالم بحيث تزلزل اركان حكومته الظالمة ، فيرى الخطر محدقا بحكومته وبكلّ شيء يتعلّق بها في هذه الحالة وتجنّبا من السقوط التامّ لا يمانع ، بل يدعم قيام حكومة شعبية عادلة لكي يحافظ على حياته وبجزء من سلطته.

2 ـ اهميّة المسائل الاقتصادية والادارية

رغم انّنا لا نتّفق مع الرؤية التي تنظر الى الأمور بمنظار واحد وتحصر جميع

__________________

(1) نطالع في روايات عديدة عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام انّ بعض الجاهلين بالمعايير الاسلامية كانوا يعترضون على الامام أحيانا ، بأنّه لماذا قبلت ولاية عهد المأمون مع كلّ زهدك في الدنيا واعراضك عنها؟ فكان الامامعليه‌السلام يجيبهم : «يا هذا ايّما أفضل النّبي ام الوصي»؟ فقالوا : لا بل النّبي ، فقال : ايّهما أفضل مسلم ام مشرك»؟ فقالوا : لا بل مسلم فقال : «فإنّ العزيز عزيز مصر كان مشركا ، وكان يوسف عليه‌السلام نبيّا ، وانّ المأمون مسلم» وانا وصي ، ويوسف سأل العزيز ان يولّيه حين قال :( اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ، وانا أجبرت على ذلك» وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 146.

٢٤٠