الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل13%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287951 / تحميل: 5234
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ضمن الأحلام المختلطة و «الأضغاث» حيث قسّموا الأحلام الى قسمين : أحلام ذات معنى وهي قابلة للتعبير.

وأحلام مختلطة لا معنى لها حيث لم يجدوا لها تعبيرا وتأويلا وكانوا يعدّون هذا النوع نتيجة قوّة الخيال ، على العكس من النوع الاوّل الذي يعدّونه نتيجة اتّصال الروح بعالم الغيب.

كما انّ هناك احتمال آخر ، وهو انّهم توقّعوا ان تقع حوادث مزعجة في المستقبل ، وما اعتاد عليه حاشية الملوك والطغاة هو ذكر المسائل المريحة لهم فحسب ، وكما يصطلح عليه ما فيه طيب الخاطر ، ويمتنعون عن ذكر ما يزعجهم ، وهذا احد اسباب سقوط مثل هذه الحكومات المتجبّرة!

هنا يرد سؤال ، وهو : كيف تجرّا هؤلاء امام السلطان ، بقولهم جوابا لسؤاله عن رؤياه انّها( أَضْغاثُ أَحْلامٍ ) في حين انّ المعروف عند حاشية السلطان انّ تفلسف كلّ حركة منه ولو كانت بغير معنى ويفسّرونها تفسيرا مقبولا.

من الممكن انّهم رأوا الملك مهموما من هذه الرؤيا ، وكان من حقّه ذلك لانّه راى( سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ ) .

الا يدلّ ذلك على أنّ من الممكن انّ افرادا ضعافا يتسلّمون السلطة من يده على حين غرّة!؟!

لذلك قالوا له :( أَضْغاثُ أَحْلامٍ ) ليرفعوا الكدورة عن خاطره ، اي : لا تتأثّر فما هنالك امر مهم ، وهذه الأحلام لا يمكن ان تكون دليلا على اي شيء.

وهناك احتمال آخر ذكره المفسّرون وهو انّ مرادهم من( أَضْغاثُ أَحْلامٍ ) لم يكن انّ هذه الأحلام لا تأويل لها ، بل المراد انّ مثل هذه الأحلام ملتوية ومجموعة من امور مختلفة ، وهم غير قادرين على تأويل مثل هذه الأحلام ، فهم لم ينكروا إمكان وجود أستاذ ماهر وقادر على تأويل هذه الرؤيا ، وانّما أظهروا

٢٢١

عجزهم عن التعبير والتأويل فحسب.

وهنا تذكّر ساقي الملك ما حدث له ولصاحبه في السجن مع يوسف ، ونجا من السجن كما بشّره يوسف( وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ) .

اجل في زاوية السجن يعيش رجل حيّ الضمير طاهر القلب مؤمن وقلبه مرآة للحوادث المستقبلية ، انّه الذي يستطيع ان يكشف الحجاب عن هذه الرؤيا المغلقة ويعبّرها.

جملة( فَأَرْسِلُونِ ) تشير الى انّ من الممكن ان يكون يوسف ممنوع المواجهة ، وكان الساقي يريد ان يأذن الملك ومن حوله بمواجهته لهذا الشأن.

وهكذا حرّك كلام الساقي المجلس وشخصت الأبصار نحوه ، وطلبوا منه الاسراع بالذهاب اليه والإتيان بالخبر.

مضى الساقي الى السجن ليرى صديقه القديم ذلك الصديق الذي لم يف بوعده له ، لكنّه ربّما كان يعرف انّ شخصية يوسف الكريمة تمنعه من فتح «باب العتاب» فالتفت اليه وقال :( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

كلمة «الناس» تشير الى احتمال انّ رؤيا الملك صيّرها أطرافه المتملّقون وحاشيته حادثة مهمّة لذلك اليوم ، فنشروها بين الناس وعمّموا حالة «القلق» من القصر الى الوسط الاجتماعي العام.

وعلى كلّ حال فإنّ يوسف دون ان يطلب شرطا او قيدا او اجرا لتعبيره عبّر الرؤيا فورا تعبيرا دقيقا لا غموض فيه ولا حجاب مقرونا بما ينبغي عمله في المستقبل و( قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا

٢٢٢

قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ) (١) .

ثمّ انّه يحلّ بكم القحط لسبع سنين متوالية فلا امطار ولا زراعة كافية ، فعليكم بالاستفادة ممّا جمعتم في سنيّ الرخاء( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ ) .

ولكن عليكم ان تحذروا من استهلاك الطعام( إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ) وإذا واظبتم على هذه الخطّة فحينئذ لا خطر يهدّدكم لانّه( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ )

و( يُغاثُ النَّاسُ ) اي يدركهم الغيث فتكثر خيراتهم ، وليس هذا فحسب ، بل( فِيهِ يَعْصِرُونَ ) المحاصيل لاستخراج الدهن والفاكهة لشراب عصيرها إلخ.

* * *

ملاحظات

١ ـ كم كان تعبير يوسف لهذه الرؤيا دقيقا ومحسوبا ، حيث كانت البقرة في الأساطير القديمة مظهر «السنة» وكون البقرات سمانا دليل على كثرة النعمة ، وكونها عجافا دليل على الجفاف والقحط ، وهجوم السبع العجاف على السبع السّمان كان دليلا على ان يستفاد من ذخائر السنوات السابقة.

وسبع سنبلات خضر وقد أحاطت بها سبع سنبلات يابسات تأكيد آخر على هاتين الفترتين فترة النعمة وفترة الشدّة.

اضافة الى انّه اكّد له على هذه المسألة الدقيقة ، وهي خزن المحاصيل في

__________________

(١) كلمة «داب» على وزن «ادب» تعني في الأصل ادامة الحركة ، كما انّها بمعنى العادة المستمرة ، فيكون معنى الكلام : عليكم ان تزرعوا تبعا لعادتكم المستمرة في مصر ولكن ينبغي ان تقتصدوا في مصرفه ويحتمل ان يكون المراد منه ان تزرعوا بجد وجهد اكثر فأكثر لانّ دأبا ودؤوبا بمعنى الجدّ والتعب ايضا ، اي اعملوا حتّى تتعبوا.

٢٢٣

سنابلها لئلّا تفسد بسرعة وليكون حفظها الى سبع سنوات ممكنا.

وكون عدد البقرات العجاف والسنابل اليابسات لم يتجاوز السبع لكلّ منهما دليل آخر على انتهاء الجفاف والشدّة مع انتهاء تلك السنوات السبع وبالطبع فإنّ سنّة سيأتي بعد هذه السنوات سنة مليئة بالخيرات والأمطار ، فلا بدّ من التفكير للبذر في تلك السنة وان يحتفظوا بشيء ممّا يخزن لها.

في الحقيقة لم يكن يوسف مفسّرا بسيطا للأحلام ، بل كان قائدا يخطّط من زاوية السجن لمستقبل البلاد ، وقد قدّم مقترحا من عدّة مواد لخمسة عشر عاما على الأقل ، وكما سنرى فإنّ هذا التعبير المقرون بالمقترح للمستقبل حرّك الملك وحاشيته وكان سببا لانقاذ اهل مصر من القحط القاتل من جهة ، وان ينجو يوسف من سجنه وتخرج الحكومة من ايدي الطغاة من جهة اخرى.

٢ ـ مرّة اخرى تعلّمنا هذه القصّة هذا الدرس الكبير وهو انّ قدرة الله اكبر ممّا نتصوّر ، فهو القادر بسبب رؤيا بسيطة يراها جبابرة الزمان أنفسهم ان ينقذ امّة كبيرة من فاجعة عظيمة ، ويخلّص عبده الخالص بعد سنين من الشدائد والمصائب ايضا.

فلا بدّ ان يرى الملك هذه الرؤيا ، ولا بدّ ان يحضر الساقي عنده يتذكّر رؤياه في السجن ، وترتبط أخيرا حوادث مهمّة بعضها ببعض ، فالله تعالى هو الذي يخلق الحوادث العظيمة من توافه الأمور.

اجل ، ينبغي لنا توكيد ارتباطنا القلبي مع هذا الربّ القادر

٣ ـ الأحلام المتعدّدة في هذه السورة ، من رؤيا يوسف نفسه الى رؤيا السجينين الى رؤيا فرعون مصر ، والاهتمام الكبير الذي كان يوليه اهل ذلك العصر بالنسبة لتعبير الرؤيا أساسا ، يدلّ على انّ تعبير الرؤيا في ذلك العصر كان من العلوم المتقدّمة ، وربّما وجب ـ لهذا السبب ـ ان يكون نبي ذلك العصر ـ اي

٢٢٤

(يوسف) ـ مطّلعا على مثل هذا العلم الى درجة عالية بحيث يعدّ اعجازا منه.

أليست معاجز الأنبياء يجب ان تكون من ابرز العلوم في زمانهم ، ليحصل اليقين ـ عند العجز من قبل علماء العصر ـ بأنّ مصدر العلم الذي يحمله نبيّهم هو الله!.

* * *

٢٢٥

الآيات

( وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) )

التّفسير

تبرئة يوسف من كلّ اتّهام!

لقد كان تعبير يوسف لرؤيا الملك ـ كما قلنا ـ دقيقا ومدروسا ومنطقيا الى درجة انّه جذب الملك وحاشيته اليه ، إذ كان يرى انّ سجينا مجهولا عبّر رؤياه بأحسن تعبير وتحليل ، دون ان ينتظر ايّ اجر او يتوقّع امرا ما كما انّه اعطى

٢٢٦

للمستقبل خطّة مدروسة ايضا.

لقد فهم الملك اجمالا انّ يوسف لم يكن رجلا يستحقّ السجن ، بل هو شخص اسمى مقاما من الإنسان العادي ، دخل السجن نتيجة حادث خفيّ ، لذلك تشوّق لرؤيته ، ولكن لا ينبغي للملك ان ينسى غروره ويسرع الى زيارته ، بل امر ان يؤتى به اليه كما يقول القرآن :( وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ) لم يوافق يوسف على الخروج من السجن دون ان يثبت براءته ، فالتفت الى رسول الملك و( قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ ) اذن فيوسف لم يرغب ان يكون كأي مجرم ، او على الأقل كأي متّهم يعيش مشمولا بـ «عفو الملك» لقد كان يرغب اوّلا ان يحقّق في سبب حبسه ، وان تثبت براءته وطهارة ذيله ، ويخرج من السجن مرفوع الراس ، كما يثبت ضمنا تلوّث النظام الحكومي وما يجري في قصر وزيره!.

اجل لقد اهتمّ بكرامة شخصيته وشرفه قبل خروجه من السجن ، وهذا هو نهج الأحرار.

الطريف هنا انّ يوسف في عبارته هذه أبدى سموا في شخصيته الى درجة انّه لم يكن مستعدّا لانّ يصرّح باسم امراة العزيز التي كانت السبب المباشر في اتّهامه وحبسه ، بل اكتفى بالاشارة الى جماعة النسوة اللاتي لهنّ علاقة بهذا الموضوع فحسب.

ثمّ يضيف يوسف : إذا لم يعلم سبب سجني شعب مصر ولا جهازه الحكومي وبأي سبب وصلت السجن ، فالله مطّلع على ذلك( إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) .

عاد المبعوث من قبل الملك الى يوسف مرّة ثانية الى الملك ، وأخبره بما طلبه يوسف مع ما كان من إبائه وعلوّ همّته ، لذا عظم يوسف في نفس الملك وبادر مسرعا الى إحضار النسوة اللائي شاركن في الحادثة ، والتفت اليهنّ( قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ) يجب ان تقلن الحقّ هل ارتكب

٢٢٧

يوسف خطيئة او ذنبا؟

فتيقّظ فجأة الوجدان النائم في نفوسهنّ ، وأجبنه جميعا بكلام واحد ـ متّفق على طهارته و( قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) .

امّا امراة العزيز التي كانت حاضرة ايضا ، وكانت تصغي بدقّة الى حديث الملك ونسوة مصر ، فلم تجد في نفسها القدرة على السكوت ، ودون ان تسأل احسّت بأنّ الوقت قد حان لانّ تنزّه يوسف وان تعوّض عن تبكيت وجدانها وحيائها وذنبها بشهادتها القاطعة في حقّه ، وخاصّة انّها رأت كرم يوسف المنقطع النظير من خلال رسالته الى الملك ، إذ لم يعرّض فيها بالطعن في شخصيتها وكان كلامه عامّا ومغلقا تحت عنوان «نسوة مصر».

فكأنّما حدث انفجار في داخلها فجأة وصرخت و( قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) .

ثمّ واصلت امراة العزيز كلامها( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) لانّي عرفت بعد هذه المدّة الطويلة وما عندي من التجارب( أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) .

في الحقيقة (بناء على انّ الجملة المتقدّمة لامراة العزيز كما يقتضيه ظاهر العبارة) فانّها ومن اجل اعترافها الصريح بنزاهة يوسف وما اخطأته في حقّه ، تقيم دليلين :

الاوّل : انّ وجدانها ، ويحتمل بقايا علاقتها بيوسف ، لا تسمح لها ان تستر الحقّ اكثر من هذا ، وان تخون هذا الشاب الطاهر في غيابه.

الثّاني : انّ من مشاهدة الدروس المليئة بالعبر على مرور الزمن تجلّت لها هذه الحقيقة ، وهي انّ الله يرعى الصالحين ولا يوفّق الخائنين في مرادهم ابدا.

وبهذا بدأت الحجب تنقشع عن عينيها قليلا قليلا وتلمس حقيقة الحياة ولا سيّما في هزيمة عشقها الذي صنع غرورها وشخصيتها الخياليّة ، وانفتحت

٢٢٨

عيناها على الواقع اكثر ، فلا عجب ان تعترف هذا الاعتراف الصريح.

وتواصل امراة العزيز القول :( وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ) وبحفظه واعانته نبقى مصونين ، وانا أرجو ان يغفر لي ربّي هذا الذنب( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

قال بعض المفسّرين : انّ الآيتين الأخيرتين من كلام يوسف ، وقالوا : انّهما في الحقيقة تعقيب لما قاله يوسف لرسول الملك ومعنى الكلام يكون هكذا.

«إذا قلت حقّقوا عن شأن النسوة اللائي قطّعن أيديهن ، فمن اجل ان يعلم الملك او عزيز مصر الذي هو وزيره ، انّي لم اخنه في غيابه والله لا يهدي كيد الخائنين كما لا أبرئ نفسي لانّ النفس امّارة بالسوء الّا ما رحم ربّي انّ ربّي غفور رحيم».

الظاهر انّ الهدف من هذا التّفسير المخالف لظاهر الآية انّهم صعب عليهم قبول هذا المقدار من العلم والمعرفة لامراة العزيز التي تقول بلحن مخلص وحاك عن التنبّه والتيقّظ.

والحال انّه لا يبعد انّ الإنسان حين يرتطم في حياته بصخرة صمّاء ، تظهر في نفسه حالة من التيقّظ المقرون بالاحساس بالذنب والخجل ، خاصّة انّه لوحظ انّ الهزيمة في العشق المجازي يجرّ الإنسان الى طريق العشق الحقيقي «عشق الله».

وبالتعبير علم النفس المعاصر : انّ تلك الميول النفسية المكبوتة يحصل فيها حالة ال «تصعيد» وبدلا من تلاشيها وزوالها فانّها تتجلّى بشكل عال.

ثمّ انّ قسما من الرّوايات التي تشرح حال امراة العزيز ـ في السنين الاخيرة من حياتها ـ دليل على هذا التيقّظ والانتباه ايضا.

وبعد هذا كلّه فربط هاتين الآيتين بيوسف ـ الى درجة ما ـ بعيد ، وهو خلاف الظاهر بحيث لا ينسجم مع اي من المعايير الادبية للأسباب الآتية :

٢٢٩

اوّلا : كلمة «ذلك» التي ذكرت في بداية الآية هي بعنوان ذكر العلّة ، اي علّة الكلام المتقدّم الذي لم يكن سوى كلام امراة العزيز فحسب ، وربط هذا التذييل بكلام يوسف الوارد في الآيات السابقة امر عجيب.

ثانيا : إذا كانت هاتان الآيتان بيانا لكلام يوسف فسيبدو بينهما نوع من التناقض والتضادّ ، فمن جهة يقول : انّي لم اخنه بالغيب ، ومرّة يقول : وما أبرئ نفسي انّ النفس لامّارة بالسوء. وهذا الكلام لا يقوله الّا من يعثر او يزل ولو يسيرا ، في حين انّ يوسف لم يصدر منه اي زلل.

وثالثا : إذا كان مقصوده ان يعرف عزيز مصر انّه بريء فهو من البداية «بعد شهادة الشاهد» عرف الواقع ، ولذلك قال لامراته :( اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ) وإذا كان مقصوده انّه لم يخن الملك ، فلا علاقة للملك بهذا الأمر ، والتوسّل الى تفسيرهم هذا بحجّة انّ الخيانة لامراة العزيز خيانة للملك الجبّار ، فهو حجّة واهية ـ كما يبدو ـ خاصّة انّ حاشية القصر لا يكترثون بمثل هذه المسائل.

وخلاصة القول : انّ هذا الارتباط في الآيات يدلّ على انّ جميع ما ورد في السياق من كلام امراة العزيز التي انتبهت وتيقّظت واعترفت بهذه الحقائق.

* * *

ملاحظات

١ ـ هذه عاقبة التقوى

رأينا في هذا القسم من قصّة يوسف انّ عدوّته المعاندة «زليخا» اعترفت أخيرا بطهارته ، كما اعترفت بذنبها وخطئها وببراءته وهذه عاقبة التقوى وطهارة الثوب ، وهذا معنى قوله تعالى :( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) .

فكن طاهرا واستقم في طريق «الطهارة» فالله حاميك ولا يسمح للملوّثين

٢٣٠

ان يسيئوا إليك.

٢ ـ الهزائم التي تكون سببا للتيقّظ

لا تكون الهزائم هزائم دائما ، بل ـ في كثير من الأحيان ـ تعدّ الهزيمة هزيمة في الظاهر الّا انّها في الباطن نوع من الانتصار المعنوي ، وهذه هي الهزائم التي تكون سببا لتيقّظ الإنسان ، وتشقّ حجب الغفلة والغرور عنه ، وتعدّ نقطة انعطاف جديدة في حياته.

فامرأة العزيز التي تدعى «زليخا» او «راعيل» وإن ابتليت في عملها بأشدّ الهزائم ، لكن هذه الهزيمة في مسير الذنب كانت سببا لأنّ تنتبه ويتيقّظ وجدانها النائم ، وان تندم على ما فات من عملها والتفتت الى ساحة الله. وما ينقل من قصتها بعد لقائها ليوسف وهو عزيز مصر ـ آنئذ ـ شاهد على هذا المدّعى ، إذ قالت : «الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته وجعل الملوك عبيدا بمعصيته». ونقرا في نهاية الحديث انّ يوسف تزوّج منها أخيرا(١) .

السعداء هم أولئك الذين يصنعون من الهزائم انتصارا ، ومن سوء الحظّ حظّا حسنا ، ومن اخطائهم طريقا صحيحا للحياة.

وبالطبع فليس ردّ الفعل من قبل جميع الافراد إزاء الهزائم هكذا فالأشخاص الضعاف حين تصيبهم الهزيمة ييأسون ويكتنف القنوط جميع وجودهم ، وقد يؤدّي بهم الى الانتحار وهذه هي الهزيمة الحقيقيّة.

لكن الذين يشعرون بكرامتهم وشخصيّتهم ، يسعون لان يجعلوا الهزائم سلّما لصعودهم وترقّيهم وجسرا لانتصارهم.

__________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٥٥٤.

٢٣١

٣ ـ الحفاظ على الشرف خير من الحرية الظاهرية

رأينا انّ يوسف لم يدخل السجن لطهارة ثوبه فحسب ، بل لم يكن مستعدّا للخروج من السجن حتّى يعود مبعوث الملك ويجري التحقيقات حول النسوة اللائي قطّعن أيديهن لتثبت براءته ويخرج من السجن مرفوع الراس لا ان يخرج كأي مجرم ملوّث يشمله عفو الملك!! وذلك ذلّ واي ذلّ! وهذا درس لكلّ الناس في الماضي والحاضر والمستقبل.

٤ ـ النفس الامّارة «المتمرّدة»

يقسّم علماء النفس والأخلاق النفس «وهي الإحساسات والغرائز والعواطف الانسانية» الى ثلاثة مراحل ، وقد أشار إليها القرآن المجيد :

المرحلة الاولى : «النفس الامّارة» وهي النفس التي تأمر الإنسان بالذنب وتجرّه الى كلّ جانب ، ولذا سمّوها «امّارة» وفي هذه المرحلة لا يكون العقل والايمان قد بلغا مرحلة من القدرة ليكبحا جماحها ، بل في كثير من المواقع يستسلمان للنفس الامّارة ، وإذا تصارعت النفس الامّارة مع العقل في هذه المرحلة فإنّها ستهزمه وتطرحه أرضا.

وهذه المرحلة هي التي أشير إليها في الآية المتقدّمة ، وجرت على لسان امراة العزيز بمصر ، وجميع شقاء الإنسان أساسه النفس الامّارة بالسوء.

المرحلة الثّانية : «النفس اللوّامة» وهي التي ترتقي بالإنسان بعد التعلّم والتربية والمجاهدة ، وفي هذه المرحلة ربّما يخطئ الإنسان نتيجة طغيان الغرائز ، لكن سرعان ما يندم وتلومه هذه النفس ، ويصمّم على تجاوز هذا الخطأ والتعويض عنه ، ويغسل قلبه وروحه بماء التوبة.

وبعبارة اخرى : في المواجهة بين النفس والعقل ، قد ينتصر العقل أحيانا وقد

٢٣٢

تنتصر النفس ، الّا انّ النتيجة والكفّة الراجحة هي للعقل والايمان.

ومن اجل الوصول الى هذه المرحلة لا بدّ من الجهاد الأكبر ، والتمرين الكافي ، والتربية في مدرسة الأستاذ ، والاستلهام من كلام الله وسنن الأنبياء والائمّةعليهم‌السلام .

وهذه المرحلة هي التي اقسم الله بها في سورة القيامة قسما يدلّ على عظمتها( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) .

المرحلة الثّالثة : «النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ » وهي المرحلة التي توصل الإنسان بعد التصفية والتهذيب الكامل الى ان يسيطر على غرائزه ويروّضها فلا تجد القدرة للمواجهة مع العقل والايمان ، لانّ العقل والايمان بلغا درجة من القوّة بحيث لا تقف امامهما الغرائز الحيوانية.

وهذه هي مرحلة الاطمئنان والسكينة الاطمئنان الذي يحكم المحيطات والبحار حيث لا يظهر عليها الانهزام امام اشدّ الأعاصير.

وهذا هو مقام الأنبياء والأولياء واتباعهم الصادقين ، أولئك الذين تدارسوا الايمان والتقوى في مدرسة رجال الله ، وهذّبوا أنفسهم سنين طوالا ، وواصلوا الجهاد الأكبر الى آخر مرحلة.

وإليهم والى أمثالهم يشير القرآن الكريم في سورة الفجر( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ) .

اللهمّ اعنّا لنستضيء بنور آياتك ، ونصعّد أنفسنا الامّارة الى اللّوامة ومنها الى النفس المطمئنة ولنجد روحا مطمئنا لا يضطرب ولا يتزلزل امام طوفان الحوادث ، وان نكون أقوياء امام الأعداء ، ولا تبهرنا زخارف الدنيا وزبارجها ، وان نصبر على البأساء والضرّاء.

اللهمّ ارزقنا العقل لننتصر على اهوائنا ونوّرنا إذا كنّا على خطأ بالتوفيق

٢٣٣

والهداية.

اللهمّ انّنا لم نبلغ هذه المرحلة بخطانا ، بل كنت أنت في كلّ مرحلة دليلنا وقائدنا ، فلا تحبس الطافك عنّا وإذا كان عدم شكرنا على جميع هذه النعم مستوجبا لعقابك ، فأيقظنا من نومة الغافلين قبل ان نذوق العذاب آمين ربّ العالمين.

* * *

٢٣٤

الآيات

( وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧) )

التّفسير

يوسف أمينا على خزائن مصر :

رأينا انّ يوسف ـ هذا النّبي العظيم ـ ثبتت براءته أخيرا للجميع ، وحتّى الأعداء شهدوا بطهارته ونزاهته ، وظهر لهم انّ الذنب الوحيد الذي أودع من اجله السجن لم يكن غير التقوى والامانة التي كان يتحلّى بهما.

اضافة الى هذا فقد ثبت لهم انّ هذا السجين منهل العلم والمعرفة والنّباهة وطاقة فذّة وعالية في الادارة ، حيث انّه حينما فسّر رؤيا الملك (وهو سلطان

٢٣٥

مصر) بيّن له الطرق الكفيلة للخلاص من المشكلة الاقتصادية المتفاقمة القادمة.

ثمّ يستمر القرآن بذكر القصّة فيقول :( وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ) وهكذا امر الملك بإحضاره لكي يجعله مستشاره الخاص ونائبه في المهمّات فيستفيد من علمه ومعرفته وخبرته لحلّ المشاكل المستعصية.

ثمّ أرسل الملك مندوبا لزيارته في السجن ، فدخل عليه وأبلغه تحيات الملك وعواطفه القلبية تجاهه ثمّ قال له : انّه قد لبّى طلبك في البحث والتحقيق عن نساء مصر واتّهامهنّ ايّاك ، حيث شهدنّ جميعهنّ صراحة ببراءتك ونزاهتك فالآن لا مجال للتأخير ، قم لنذهب الى الملك.

فدخل يوسف على الملك وتكلّم معه فعند ما سمع من يوسف الاجوبة التي تحكي عن علمه وفراسته وذكائه الحادّ ، ازداد حبّا له وقال : انّ لك اليوم عندنا منزلة رفيعة وسلطات واسعة وانّك في موضع ثقتنا واعتمادنا( فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ) فلا بدّ ان تتصدّى للمناصب الهامّة في هذا البلد ، وتهتمّ بإصلاح الأمور الفاسدة ، وانّك تعلم (حينما فسّرت الرؤيا) بأنّ ازمة اقتصادية شديدة سوف تعصف بهذا البلد ، وفي تصوّري انّك الشخص الوحيد القادر على ان يتغلّب على هذه الازمة.

فاختار يوسف منصب الامانة على خزائن مصر ، وقال اجعلني مشرفا على خزائن هذا البلد فإنّي حفيظ عليم وعلى معرفة تامّة بأسرار المهنة وخصائصها( قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) .

كان يوسف يعلم انّ جانبا كبيرا من الاضطراب الحاصل في ذلك المجتمع الكبير المليء بالظلم والجور يكمن في القضايا الاقتصادية ، والآن وبعد ان عجزت اجهزة الحكم من حلّ تلك المشاكل واضطرّوا لطلب المساعدة منه ، فمن الأفضل له ان يسيطر على اقتصاد مصر حتّى يتمكّن من مساعدة المستضعفين وان يخفّف عنهم ـ قدر ما يستطيع ـ الآلام والمصاعب ويستردّ حقوقهم من

٢٣٦

الظالمين. ويقوم بترتيب الأوضاع المترديّة في ذلك البلد الكبير ، ويجعل الزراعة وتنظيمها هدفه الاوّل وخاصّة بعد وقوفه على انّ السنين القادمة هي سنوات الوفرة حيث تليها سنوات المجاعة والقحط ، فيدعو الناس الى الزراعة وزيادة الانتاج وعدم الإسراف في استعمال المنتوجات الزراعية وتقنين الحبوب وخزنها والاستفادة منها في ايّام القحط والشدّة.

وهكذا لم ير يوسف بدّا من توليّة منصب الاشراف على خزائن مصر.

وقال البعض : انّ الملك حينما راى في تلك السنة انّ الأمور قد ضاقت عليه وعجز عن حلّها ، كان يبحث عمّن يعتمد عليه وينجّيه من المصاعب ، فمن هنا حينما قابل يوسف ورآه أهلا لذلك أعطاه مقاليد الحكم بأجمعها واستقال هو من منصبه.

وقال آخرون : انّ الملك جعله في منصب الوزير الاوّل بديلا عن (عزيز مصر).

والاحتمال الآخر هو انّه بقي مشرفا على خزائن مصر ـ وهذا ما يستفاد من ظاهر الآية الكريمة ، الّا انّ الآيتين (١٠٠) و (١٠١) واللتين يأتي تفسيرهما بإذن الله تدلّان على انّه أخيرا استقلّ بأمور مصر ـ بدل الملك وصار هو ملكا على مصر.

وبرغم انّ الآية رقم (٨٨) تقول : انّ اخوة يوسف حينما دخلوا عليه نادوه باسم( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ) وهذا دليل على انّه استقلّ بمنصب عزيز مصر ، لكن نقول : انّه لا مانع من ان يكون يوسف قد ارتقى سلّم المناصب تدريجا حيث كان في اوّل الأمر مشرفا على الخزائن ، ثمّ جعل الوزير الاوّل ، وأخيرا صار ملكا على مصر.

ثمّ يقول الله سبحانه وتعالى منهيا بذلك قصّة يوسفعليه‌السلام :( وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ) .

٢٣٧

نعم انّ الله سبحانه وتعالى ينزل رحمته وبركاته ونعمه المادية والمعنوية على من يشاء من عباده الذين يراهم أهلا لذلك( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ) .

وانّه سبحانه وتعالى لا ينسى ان يجازي المحسنين ، وانّه مهما طالت المدّة فإنّه يجازيهم بجزائه الأوفى( وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) .

ولكن لا يقتصر سبحانه وتعالى على مجازاة المحسنين في الدنيا ، بل يجازي المتّقين والمحسنين بأحسن من ذلك في الآخرة وهو الجزاء الأوفى( وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ) .

* * *

بحوث

١ ـ كيف استجاب يوسف لطلب طاغوت زمانه؟

بالنسبة للآيات المتقدّمة فإنّ اوّل ما يجلب إليها النظر هو انّه كيف لبّى يوسف ـ هذا النّبي العظيم ـ طلب طاغوت زمانه وتعاون معه وتحمّل منصب الوزارة او الاشراف على خزينة الدولة؟

جواب هذا السؤال ـ في الحقيقة ـ يكمن في نفس الآيات السابقة ، فإنّه قد تحمّل هذه المسؤولية بعنوان انّه( حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) كي يحفظ بيت المال المتضمّن لاموال الشعب ويستثمره في سبيل منافعهم ، وبخاصّة حقوق الطبقة المحرومة والتي غالبا ما يستولي عليها المستكبرون.

اضافة الى هذا فإنّه عن طريق معرفته بتعبير الرؤيا ـ كما ذكرنا ـ كان على علم بالأزمة الاقتصادية الشديدة التي سوف تعصف بالشعب المصري ، بحيث لولا التخطيط الدقيق والاشراف المباشر عليها لماتت جماعات كثيرة من الشعب فبناء على هذا فإنّ انقاذ حياة الامّة والاحتفاظ بأرواح شعب بريء يقتضي ان يستفيد يوسف من هذه الفرصة التي أتيحت له ويستغلّها لأجل خدمة جميع افراد

٢٣٨

الشعب ، وبخاصّة المحرومين منهم حيث انّهم عادة ما يكونون اوّل ضحايا الازمة الاقتصادية واكثر المتضرّرين من الغلاء.

وقد ورد كلام مفصّل حول هذا الموضوع في بحث استجابة طلب الظالم وقبول الولاية في علم الفقه ، وانّ استجابة طلب الظالم والتصدّي لمناصب الحكم لا يكون حراما دائما ، بل تارة يكون مستحبّا ، وقد يكون في بعض الأحيان واجبا شرعا ، وذلك إذا كانت منفعة التصدّي ومرجّحاته الدينيّة اكثر من الإضرار الناتجة عن التصدّي من دعم حكم الظالم وغيره.

ونلاحظ في روايات عديدة انّ ائمّة اهل البيتعليهم‌السلام كانوا يجوّزون لبعض خلّص شيعتهم وأصحابهم أمثال علي بن يقطين ـ الذي كان من اصحاب الكاظمعليه‌السلام ـ حيث تصدّى لمنصب الوزارة لفرعون زمانه ـ هارون الرشيد ـ وذلك بأمر من الامامعليه‌السلام ، غاية ما في الأمر انّ الاستجابة والتصدّي لمناصب الحكم او ردّها تابعان لقانون «الأهم والمهم».

فلا بدّ من ملاحظة المنافع الدينيّة والاجتماعية ومقارنتها مع الإضرار الناتجة ، إذ لعلّ الذي يتصدّى للمنصب قد يستطيع في نهاية المطاف ان يزيح الظالم عن الحكم (كما حدث ليوسف بناء على مضمون بعض الرّوايات الواردة) او يكون المعين الذي تنبثق منه الحركات والثورات ، لانّه يقوم بتهيئة مقدّمات الثورة من داخل اجهزة الحكم القائم (ويمكن ان يكون مؤمن آل فرعون من هذا القبيل) او يكون على الأقل ملجأ وملاذا للمظلومين والمحرومين ومخفّفا عن آلامهم والضغوط الواردة عليهم من قبل اجهزة النظام.

وكلّ واحد من هذه الأمور يمكن ان يكون مبرّرا للتصدّي للمناصب وقبولها من الحاكم الظالم ، وللإمام الصادقعليه‌السلام رواية معروفة في حقّ هؤلاء الأشخاص يقولعليه‌السلام (فّارة عمل السلطان قضاء حوائج الاخوان)(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ١٣٩.

٢٣٩

لكن هذا الموضوع ـ التعاون مع الظالم ـ من الأمور التي يقترب فيها حدود الحلال من الحرام ، وكثيرا ما يؤدّي تهاون صغير من الشخص المتصدّي الى وقوعه في اشراك النظام وارتكاب جريمة تعدّ من اكبر الجرائم وأفظعها ـ وهي التعاون مع الظالم ـ في حين يتصوّر انّه يقوم بعبادة وخدمة انسانية مشكورة.

وقد يستفيد بعض الانتهازيين من حياة (يوسف) او (علي بن يقطين) ويتّخذه ذريعة للتعاون مع الظالم وتغطية لاعمالهم الشريرة ، في حين انّه يوجد بون شاسع بين تصرّفاتهم وتصرّفات يوسف او علي بن يقطين(١) .

هنا سؤال آخر يطرح نفسه وهو انّه كيف رضخ سلطان مصر الظالم لهذا الأمر ـ واستجاب لطلب يوسف ـ مع علمه بأنّ يوسف لا يسير بسيرة الظالمين والمستثمرين والمستعمرين ، بل يكون على العكس من ذلك معاديا لهم؟

الاجابة على هذا السؤال لا تكون صعبة مع ملاحظة امر واحد وهو انّه تارة تحيط الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بالظالم بحيث تزلزل اركان حكومته الظالمة ، فيرى الخطر محدقا بحكومته وبكلّ شيء يتعلّق بها في هذه الحالة وتجنّبا من السقوط التامّ لا يمانع ، بل يدعم قيام حكومة شعبية عادلة لكي يحافظ على حياته وبجزء من سلطته.

٢ ـ اهميّة المسائل الاقتصادية والادارية

رغم انّنا لا نتّفق مع الرؤية التي تنظر الى الأمور بمنظار واحد وتحصر جميع

__________________

(١) نطالع في روايات عديدة عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام انّ بعض الجاهلين بالمعايير الاسلامية كانوا يعترضون على الامام أحيانا ، بأنّه لماذا قبلت ولاية عهد المأمون مع كلّ زهدك في الدنيا واعراضك عنها؟ فكان الامامعليه‌السلام يجيبهم : «يا هذا ايّما أفضل النّبي ام الوصي»؟ فقالوا : لا بل النّبي ، فقال : ايّهما أفضل مسلم ام مشرك»؟ فقالوا : لا بل مسلم فقال : «فإنّ العزيز عزيز مصر كان مشركا ، وكان يوسف عليه‌السلام نبيّا ، وانّ المأمون مسلم» وانا وصي ، ويوسف سأل العزيز ان يولّيه حين قال :( اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ، وانا أجبرت على ذلك» وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٤٦.

٢٤٠

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

1 - الوعد والوعيد.

2 - المنزلة بين المنزلتين.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

8 - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

14 - توبة الناكثين صحيحة.

15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(1) البحر الزخّار: 52 - 96.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

15

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

1 - إسماعيل بن جعفر.

2 - عبد الله بن جعفر.

3 - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(1) إرشاد المفيد: 284.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.

(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.

9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).

2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).

4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).

٢٥٨

5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).

6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572