الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287647 / تحميل: 5227
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

2 - حواره مع أصحاب الأديان

قال الحسن بن محمد النوفليّ: لمّا قدم علي بن موسى الرضاعليه‌السلام إلى المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر، وأصحاب زردهشت وقسطاس الرّومي والمتكلّمين ليسمع كلامه وكلامهم فجمعهم الفضل بن سهل، ثم أعلم المأمون باجتماعهم، فقال: أدخلهم عليّ، ففعل، فرحّب بهم المأمون.

ثم قال لهم: إني إنّما جمعتكم لخير، وأحببت أن تناظروا ابن عمّي هذا المدنيّ القادم عليّ، فإذا كان بكرة فاغدوا عليَّ ولا يتخلّف منكم أحد، فقالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكّرون إن شاء الله.

قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضاعليه‌السلام إذ دخل علينا ياسر الخادم وكان يتولّى أمر أبي الحسنعليه‌السلام فقال: يا سيدي إنّ أمير المؤمنين يقرئك السلام فيقول: فداك أخوك إنه اجتمع إليّ أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلّمون من جميع الملل، فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم وإن كرهت كلامهم فلا تتجشّم وإن أحببت أن نصير إليك خفّ ذلك علينا.

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك

١٨١

بكرة إن شاء الله. قال الحسن بن محمّد النوفلي: فلمّا مضى ياسر التفت إلينا، ثم قال لي: يا نوفليّ أنت عراقي ورقّة العراقي غير غليظ فما عندك في جمع ابن عمّك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟ فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان ويحبّ أن يعرف ما عندك، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان وبئس - والله - ما بنى.

فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب؟ قلت: إن أصحاب البدع والكلام خلاف العلماء وذلك أنّ العالم لا ينكر غير المنكر وأصحاب المقالات والمتكلّمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة، وإن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا: صحّح وحدانيّته وإن قلت: إن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول الله قالوا: أثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجّته، ويغالطونه حتى يترك قوله فاحذرهم جعلت فداك.

قال: فتبسّمعليه‌السلام ثم قال: يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا عليّ حجّتي؟

قلت: لا والله ما خفت عليك قطّ وإنّي لأرجو أن يظفرك الله لهم إن شاء الله.

فقال لي: يا نوفلي تحبّ أن تعلم متى يندم المأمون؟ قلت: نعم.

قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزّبور بزبورهم وعلى الصابئين بعبرانيتهم وعلى الهرابذة بفارسيتهم وعلى أهل الرّوم بروميتهم وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم فإذا قطعت كلّ صنف ودحضت حجّته وترك مقالته ورجع إلي قولي علم المأمون أنّ الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحق له فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

فلمّا أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له: جعلت فداك ابن عمّك ينتظرك، وقد اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه؟

فقال الرضاعليه‌السلام : تقدمني فإنّي صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله، ثم، توضأعليه‌السلام

١٨٢

وضوء الصلاة وشرب شربة سويق وسقانا منه، ثمّ خرج وخرجنا معه حتى دخلنا على المأمون، فإذا المجلس غاص بأهله ومحمّد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين والقوّاد حضور.

فلما دخل الرضاعليه‌السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وقام جميع بني هاشم فما زالوا وقوفاً والرضاعليه‌السلام جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا، فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدّثه ساعة، ثم التفت إلى الجاثليق، فقال: يا جاثليق هذا ابن عمّي علي بن موسى بن جعفر، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا وابن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام فأحب أن تكلّمه وتحاجّه وتنصفه.

فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلاً يحتجّ عليّ بكتاب أنا منكره ونبيّ لا أؤمن به؟

فقال له الإمام الرضاعليه‌السلام : يا نصرانيّ فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقرّ به؟!

قال الجاثليق: وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل، نعم والله أقرّ به على رغم أنفي.

فقال له الرضاعليه‌السلام : سل عمّا بدا لك وافهم الجواب.

قال الجاثليق: ما تقول في نبوّة عيسىعليه‌السلام وكتابه هل تنكر منهما شيئاً؟

قال الرضاعليه‌السلام : أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أمته وأقرّ به الحواريون وكافر بنبوّة كل عيسي لم يقرَّ بنبوة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكتابه ولم يبشّر به أمته.

قال الجاثليق: أليس إنّما تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟

قال: بلى.

قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوّة محمد ممّن لا تنكره النصرانية وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا.

قال الرضاعليه‌السلام : الآن جئت بالنصفة يا نصراني، ألا تقبل منّي العدل المقدّم عند

١٨٣

المسيح عيسى بن مريم؟

قال الجاثليق: ومن هذا العدل؟ سمه لي؟

قال: ما تقول في يوحنا الدّيلمي.

قال: بخ بخ ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح.

قال: فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أنّ يوحنا قال إن المسيح أخبرني بدين محمد العربي وبشّرني به إنه يكون من بعده، فبشّرت به الحواريين فآمنوا به؟!

قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشّر بنبوّة رجل وبأهل بيته ووصيّه ولم يلخّص متى يكون ذلك ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم.

قال الرضاعليه‌السلام : فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمّد وأهل بيته وأمته أتؤمن به؟

قال: شديداً.

قال الرضاعليه‌السلام لقسطاس الرومي: كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟

قال: ما أحفظني له.

ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: ألست تقرأ الإنجيل؟!

قال: بلى لعمري.

قال: فخذ على السفر الثالث، فإن كان فيه ذكر محمّد وأهل بيته وأمته سلام الله عليهم فاشهدوا لي، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي.

ثم قرأعليه‌السلام السّفر الثالث حتى إذا بلغ ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف، ثم قال: يا نصراني، إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل؟ قال: نعم، ثم تلا علينا ذكر محمّد وأهل بيته وأمته ثم قال: ما تقول يا نصرانيّ؟ هذا قول عيسى بن مريم فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبت عيسى وموسىعليهما‌السلام ومتى أنكرت هذا الذّكر وجب عليك القتل لأنّك تكون قد كفرت بربّك وبنبيّك وبكتابك.

١٨٤

قال الجاثليق: لا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل وإنّي لمقرّ به.

قال الرضاعليه‌السلام : اشهدوا على إقراره. ثم قال: يا جاثليق، سل عمّا بدا لك.

قال الجاثليق: أخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدّتهم، وعن علماء الإنجيل كم كانوا.

قال الرضاعليه‌السلام : على الخبير سقطت، أمّا الحواريون فكانوا اثنى عشر رجلاً وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا.

وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال: يوحنّا الأكبر بأج، ويوحنّا بقرقيسيا، ويوحنّا الدّيلمي بزجان، وعنده كان ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر أهل بيته وأُمته وهو الذي بشر أُمة عيسى وبني إسرائيل به، ثم قالعليه‌السلام : يا نصراني، والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ننقم على عيساكم شيئاً إلاّ ضعفه وقلّة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق: أفسدت والله علمك وضعّفت أمرك، وما كنت ظننت إلاّ أنّك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضاعليه‌السلام : وكيف ذلك؟

قال الجاثليق: من قولك: إنّ عيساكم كان ضعيفاً قليل الصيام قليل الصلاة، وما أفطر عيسى يوماً قطّ، ولا نام بليل قطّ، ومازال صائم الدّهر، قائم الليل.

قال الرضاعليه‌السلام : فلمن كان يصوم ويصلي؟

قال: فخرس الجاثليق وانقطع.

قال الرضاعليه‌السلام : يا نصراني! إني أسألك عن مسألة.

قال: سل فإن كان عندي علمها أجبتك.

قال الرضاعليه‌السلام : ما أنكرت أنّ عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله عَزَّ وجَلَّ؟

قال الجاثليق: أنكرت ذلك من قبل، إنّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه

١٨٥

والأبرص فهو ربّ مستحق لأن يعبد.

قال الرضاعليه‌السلام : فإنّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، فلم يتّخذه أُمته رباً ولم يعبده أحد من دون الله عَزَّ وجَلَّ، ولقد صنع حزقيل النبيعليه‌السلام مثل ما صنع عيسى بن مريمعليه‌السلام فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستّين سنة.

ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: يا رأس الجالوت، أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة أختارهم بخت نصر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدّس ثم انصرف بهم إلى بابل فأرسله الله عَزَّ وجَلَّ إليهم فأحياهم، هذا في التوراة لا يدفعه إلاّ كافر منكم.

قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه.

قال: صدقت. ثم قالعليه‌السلام : يا يهوديّ، خذ على هذا السفر من التوراة فتلاعليه‌السلام علينا من التوراة آيات، فأقبل يهودي يترجّح لقراءته ويتعجّب.

ثم أقبل على النصراني فقال: يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم؟

قال: بل كانوا قبله.

قال الرضاعليه‌السلام : لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فسألوه أن يحيي لهم موتاهم فوجّه معهم علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال له: اذهب إلى الجبانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك، يا فلان و يا فلان و يا فلان، يقول لكم محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قوموا بإذن الله عَزَّ وجَلَّ، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم.

ثم أخبروهم أنّ محمّداً قد بعث نبيّاً، وقالوا: وددنا أنا أدركناه فنؤمن به ولقد ابرأ الأكمه والأبرص والمجانين وكلّمه البهائم، والطير والجن والشياطين ولم نتخذه ربّاً من دون

١٨٦

الله عَزَّ وجَلَّ ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم، فمتى اتّخذتم عيسى رباً جاء لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل ربّاً لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى وغيره، أنّ قوماً من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت.

فأماتهم الله في ساعة واحدة فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميماً، فمرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجّب منهم ومن كثرة العظام البالية فأوحى الله إليه: أتحبّ أن أحييهم لك فتنذرهم؟ قال: نعم يا ربّ، فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه أن نادهم.

فقال: أيتها العظام البالية قومي بإذن الله عَزَّ وجَلَّ فقاموا أحياء أجمعون ينفضون التراب عن رؤوسهم ثم إبراهيمعليه‌السلام خليل الرحمن حين أخذ الطيور وقطعهنّ قطعاً ثمّ وضع على كل جبل منهنّ جزءً، ثم ناديهن فأقبلن سعياً إليه، ثم موسى بن عمران وأصحابه والسبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له: إنّك قد رأيت الله سبحانه فأرناه كما رأيته.

فقال لهم: إني لم أره. فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيداً، فقال: يا ربّ اخترت سبعين رجلاً من بني إسرائيل فجئت بهم وارجع وحدي فكيف يصدّقني قومي بما أخبرهم به، فلو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أفتهلكنا بما فعل السفهاء منّا، فأحياهم الله عَزَّ وجَلَّ من بعد موتهم.

وكل شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه، لأنّ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به، فإن كان كل من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتّخذ ربّاً من دون الله، فاتّخذ هؤلاء كلّهم أرباباً، ما تقول يا نصراني؟

قال الجاثليق: القول قولك ولا إله إلاّ الله.

ثم التفتعليه‌السلام إلى رأس الجالوت فقال: يا يهوديّ أقبل عليَّ أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمرانعليه‌السلام ، هل تجد في التوراة مكتوباً نبأ محمّد وأُمته

١٨٧

إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير يسبّحون الربّ جداً جداً تسبيحاً جديداً في الكنائس الجدد، فليفرغ بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم لتطمئنّ قلوبهم فإنّ بأيديهم سيوفاً ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض. هكذا هو في التوراة مكتوب؟!

قال رأس الجالوت: نعم إنّا لنجده كذلك.

ثم قال للجاثليق: يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا؟ قال: أعرفه حرفاً حرفاً.

قال الرضاعليه‌السلام لهما: أتعرفان هذا من كلامه: يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار لابساً جلابيب النور، ورأيت راكب البعير ضوؤه مثل ضوء القمر.

فقالا: قد قال ذلك شعيا.

قال الرضاعليه‌السلام : يا نصراني هل تعرف في الإنجيل قول عيسى: إني ذاهب إلى ربّي وربّكم والفار قليطا جاء هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له وهو الذي يفسّر لكم كلّ شيء وهو الذي يبدي فضائح الأمم، وهو الذي يكسر عمود الكفر؟

فقال الجاثليق: ما ذكرت شيئاً ممّا في الإنجيل إلاّ ونحن مقرّون به.

فقال: أتجد هذا في الإنجيل ثابتاً يا جاثليق؟!

قال: نعم.

قال الرضاعليه‌السلام : يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل الأوّل حين افتقدتموه عند من وجدتموه ومن وضع لكم هذا الإنجيل؟

قال له ك ما افتقدنا الإنجيل إلاّ يوماً واحداً حتى وجدناه غضّاً طريّاً فأخرجه إلينا يوحنّا ومتي.

فقال له الرضاعليه‌السلام : ما أقلّ معرفتك بسرّ الإنجيل وعلمائه، فإن كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل؟ إنّما وقع الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم فلو كان على العهد الأوّل لم تختلفوا فيه، ولكني مفيدك علم ذلك، اعلم أنّه لمّا افتقد الإنجيل الأوّل

١٨٨

اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم: قتل عيسى بن مريمعليه‌السلام وافتقدنا الإنجيل وأنتم العلماء فما عندكم؟

فقال لهم لوقا ومرقابوس: إنّ الإنجيل في صدورنا، ونحن نخرجه إليكم سفراً سفراً في كل أحد، فلا تحزنوا عليه ولا تخلّوا الكنائس، فإنّا سنتلوه عليكم في كلّ أحد سفراً سفراً حتّى نجمعه لكم كلّه، فقعد لوقاء ومرقابوس ويوحنّا ومتي ووضعوا لهم هذا الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأوّل وإنّما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ تلاميذ الأوّلين، أعلمت ذلك؟

قال الجاثليق: أما هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن، وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل وسمعت أشياء ممّا علمته، شهد قلبي أنّها حقّ فاستزدت كثيراً من الفهم.

فقال له الرضاعليه‌السلام : فكيف شهادة هؤلاء عندك؟

قال: جائزة، هؤلاء علماء الإنجيل وكلّ ما شهدوا به فهو حقّ.

فقال الرضاعليه‌السلام للمأمون ومن حضره من أهل بيته ومن غيرهم: اشهدوا عليه، قالوا: قد شهدنا.

ثم قال للجاثليق: بحقّ الابن وأمه هل تعلم أنّ متي قال: إن المسيح هو ابن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهودا بن خضرون، وقال مرقابوس: في نسبة عيسى بن مريم: إنه كلمة الله أحلّها في جسد الآدمي فصارت إنساناً، وقال الوقا: إن عيسى بن مريم وأمه كانا إنسانين من لحم ودم فدخل فيهما روح القدس.

ثم إنّك تقول من شهادة عيسى على نفسه، حقّاً أقول لكم يا معشر الحواريين إنّه لا يصعد إلى السماء إلاّ ما نزل منها إلاّ راكب البعير خاتم الأنبياء، فإنّه يصعد إلى السماء وينزل، فما تقول في هذا القول؟

قال الجاثليق: هذا قول عيسى لا ننكره.

١٨٩

قال الرضاعليه‌السلام : فما تقول في شهادة الوقا، ومرقابوس ومتي على عيسى وما نسبوه إليه؟

قال الجاثليق: كذبوا على عيسى.

قال الرضاعليه‌السلام : يا قوم أليس قد زكّاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حقّ؟

فقال الجاثليق: يا عالم المسلمين أحبّ أن تعفيني من أمر هؤلاء.

قال الرضاعليه‌السلام : فإنا قد فعلنا، سل يا نصراني، عمّا بدالك؟

قال الجاثليق: ليسألك غيري فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك.

فالتفت الرضاعليه‌السلام إلى رأس الجالوت فقال له: تسألني أو أسألك؟

قال: بل أسألك، ولست أقبل منك حجة إلاّ من التوراة أو من الإنجيل أو من زبور داود أو ممّا في صحف إبراهيم وموسى.

فقال الرضاعليه‌السلام : لا تقبل منّي حجة إلاّ بما تنطق به التوراة، على لسان موسى بن عمران، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم، والزبور على لسان داود.

فقال رأس الجالوت: من أين تثبت نبوّة محمد؟

قال الرضاعليه‌السلام : شهد بنبوّته (صلّى الله عليه وآله) موسى بن عمران وعيسى بن مريم وداود خليفة الله عَزَّ وجَلَّ في الأرض.

فقال له: أثبت قول موسى بن عمران.

قال الرضاعليه‌السلام : هل تعلم يا يهوديّ أن موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم: إنّه سيأتيكم نبيّ هو من إخوتكم فيه فصدّقوا، ومنه فاسمعوا، فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيمعليه‌السلام ؟

فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى لا ندفعه.

١٩٠

فقال له الرضاعليه‌السلام : هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبي غير محمد (صلّى الله عليه وآله).

قال: لا.

قال الرضاعليه‌السلام : أوليس قد صحّ هذا عندكم؟!

قال: نعم ولكنّي أحب أن تصحّحه لي من التوراة.

فقال له الرضاعليه‌السلام : هل تنكر أن التوراة تقول لكم: جاء النور من جبل طور سيناء، وأضاء لنا من جبل ساعير واستعلن علينا من جبل فاران؟

قال رأس الجالوت: أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها.

قال الرضاعليه‌السلام : أنا أخبرك به، أما قوله: جاء النّور من جبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسىعليه‌السلام على جبل طور سيناء، وأما قوله: وأضاء لنا من جبل ساعير، فهو الجبل الذي أوحى الله عَزَّ وجَلَّ إلى عيسى بن مريمعليه‌السلام وهو عليه، وأما قوله: واستعلن علينا من جبل فاران، فذلك جبل من جبال مكّة بينه وبينها يوم.

وقال شعيا النبيعليه‌السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة: رأيت راكبين أضاء لهما الأرض أحدهما راكب على حمار، والآخر على جمل، فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل؟!

قال رأس الجالوت: لا أعرفهما فخبّرني بهما.

قالعليه‌السلام : أما راكب الحمار فعيسى بن مريم، وأما راكب الجمل، فمحمد (صلّى الله عليه وآله) أتنكر؟ هذا من التوراة، قال لا، ما أنكره.

ثم قال الرضاعليه‌السلام : هل تعرف حيقوق النبي؟ قال: نعم إنّي به لعارف، قالعليه‌السلام فإنّه قال وكتابكم ينطق به: جاء الله بالبيان من جبل فاران، وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأُمته، يحمل خيله في البحر كما يحمل في البرّ يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدّس - يعني بالكتاب القرآن - أتعرف هذا وتؤمن به؟

١٩١

قال رأس الجالوت: قد قال ذلك حيقوقعليه‌السلام ولا ننكر قوله.

قال الرضاعليه‌السلام : وقد قال داود في زبوره وأنت تقرأ: اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة، فهل تعرف نبياً أقام السنّة بعد الفترة غير محمد (صلّى الله عليه وآله)؟

قال رأس الجالوت: هذا قول داود نعرفه ولا ننكره، ولكن عنى بذلك عيسى، وأيّامه هي الفترة.

قال الرضاعليه‌السلام : جهلت أنّ عيسى لم يخالف السنّة وقد كان موافقاً لسنّة التوراة حتى رفعه الله إليه، وفي الإنجيل مكتوب: إن ابن البرّة ذاهب والفارقليطا جاء من بعده وهو الذي يخفّف الآصار، ويفسّر لكم كلّ شيء، ويشهد لي كما شهدت له، أنا جئتكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل أتؤمن بهذا في الإنجيل؟

قال: نعم لا أنكره.

فقال الرضاعليه‌السلام : يا رأس الجالوت أسألك عن نبيّك موسى بن عمران؟

فقال: سل.

قال: ما الحجّة على أنّ موسى ثبتت نبوّته؟

قال اليهوديّ: إنّه جاء بما لم يجيء به أحد من الأنبياء قبله.

قال له: مثل ماذا؟

قال: مثل فلق البحر، وقلبه العصا حيّة تسعى وضربه الحجر فانفجرت منه العيون، وإخراجه يده بيضاء للناظرين وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها.

قال له الرضاعليه‌السلام : صدقت إذا كانت حجة على نبوّته أنه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله أفليس كلّ من ادّعى أنّه نبيّ ثم جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟

قال: لا؛ لأن موسى لم يكن له نظير لمكانته من ربّه، وقربه منه ولا يجب علينا الإقرار بنبوّة من ادّعاها حتى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به.

١٩٢

قال الرضاعليه‌السلام : فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسىعليه‌السلام ولم يفلقوا البحر ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشرة عيناً، ولم يخرجوا أيديهم بيضاء مثل إخراج موسى يده بيضاء ولم يقلب العصا حيّة تسعى؟!

قال له اليهودي: قد خبرتك أنه متى جاءوا على دعوى نبوّتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ولو جاءوا بما لم يجيء به موسى، أركان على غير ما جاء به موسى وجب تصديقهم.

قال الرضاعليه‌السلام : يا رأس الجالوت فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم، وقد كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله؟

قال رأس الجالوت: يقال إنّه فعل ذلك ولم نشهده.

قال له الرضاعليه‌السلام : أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته؟! أليس إنّما جاء في الأخبار به من ثقات أصحاب موسى أنه فعل ذلك.

قال: بلى.

قال: فكذلك أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم فكيف صدقتم بموسى ولم تصدّقوا بعيسى.

فلم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : وكذلك أمر محمد (صلّى الله عليه وآله) وما جاء به وأمر كلّ نبي بعثه الله ومن آياته أنه كان يتيماً فقيراً راعياً أجيراً لم يتعلّم كتاباً ولم يختلف إلى معلّم، ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم حرفاً حرفاً وأخبار من مضى ومن بقى إلى يوم القيامة.

ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى.

قال رأس الجالوت: لم يصحّ عندنا خبر عيسى ولا خبر محمّد ولا يجوز لنا أن نقرّ لهما بما لم يصحّ.

١٩٣

قال الرضاعليه‌السلام : فالشاهد الذي شهد لعيسى ولمحمد (صلّى الله عليه وآله) شاهد زور.

فلم يحر جواباً.

ثم دعاعليه‌السلام بالهربذ الأكبر فقال له الرضاعليه‌السلام : أخبرني عن زردهشت الذي تزعم أنه نبي ما حجّتك على نبوّته؟

قال: إنه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ولم نشهده، ولكن الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنه أحل لنا ما لم يحلّه غيره فاتّبعناه.

قالعليه‌السلام : أفليس إنّما أتتكم الأخبار فاتبعتموه؟!

قال: بلى.

قال: فكذلك سائر الأمم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به النبيّون، وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم فما عذركم في ترك الإقرار لهم، إذ كنتم أقررتم بزردهشت من قبل الأخبار المتواترة، بأنّه جاء بما لم يجيء به غيره؟!

فانقطع الهربذ مكانه.

فقال الرضاعليه‌السلام : يا قوم إن كان فيكم أحدٌ يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم.

فقام إليه عمران الصابي وكان واحداً في المتكلمين فقال: يا عالم الناس لو لا أنّك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل، ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ولقيت المتكلمين فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً ليس غيره قائماً بوحدانيّته أفتأذن لي أن أسألك؟

قال الرضاعليه‌السلام : إن كان في الجماعة عمران الصابي فأنت هو!

فقال: أنا هو.

فقالعليه‌السلام : سل يا عمران وعليك بالنصفة وإيّاك والخطل والجور!

قال: والله يا سيدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلّق به فلا أجوزه.

١٩٤

قالعليه‌السلام : سل عمّا بدا لك، فازدحم عليه الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض.

فقال عمران الصابي: أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق.

قالعليه‌السلام : سألت فافهم أما الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض، ولا يزال كذلك ثمّ خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة لا في شيء أقامه ولا في شيء حدّه ولا على شيء حذاه ولا مثّله له.

فجعل من بعد ذلك الخلق صفوة وغير صفوة واختلافاً وائتلافاً وألواناً وذوقاً وطمعاً لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلاّ به، ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً، تعقل هذا يا عمران؟

قال: نعم والله يا سيدي.

قالعليه‌السلام : واعلم يا عمران! أنه لو كان خلق ما خلق لحاجة لم يخلق إلاّ من يستعين به على حاجته ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق، لأنّ الأعوان كلّما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه لم يحدث من الخلق شيئاً إلاّ حدثت فيه حاجة أخرى ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجة، ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض وفضّل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضّل ولا نقمةٍ منه على من أذلّ، فلهذا خلق.

قال عمران: يا سيدي هل كان الكائن معلوماً في نفسه عند نفسه؟

قال الرضاعليه‌السلام : إنّما تكون المعلمة بالشيء لنفي خلافه وليكون الشيء نفسه بما نفي عنه موجوداً، ولم يكن هناك شيء يخالفه فتدعوه الحاجة إلى نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد علم منها، أفهمت ياعمران؟

قال: نعم والله يا سيدي فأخبرني بأيّ شيء علم ما علم أبضمير أم بغير ذلك؟

قال الرضاعليه‌السلام : أرأيت إذا علم بضمير هل تجد بدّاً من أن تجعل لذلك الضمير حداً ينتهى إليه المعرفة؟!

١٩٥

قال عمران: لابدّ من ذلك.

قال الرضاعليه‌السلام : فما ذلك الضمير؟

فانقطع ولم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : لا بأس، إن سألتك عن الضّمير نفسه تُعرّفُه بضمير آخر؟!

ثم قال الرضاعليه‌السلام : أفسدت عليك قولك ودعواك يا عمران، أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد ليس يوصف بضمير، وليس يقال له أكثر من فعل وعمل وصنع وليس يتوهّم منه مذاهب وتجزئة كمذاهب المخلوقين وتجزئتهم فاعقل ذلك وابن عليه ما علمت صواباً.

قال عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن حدود خلقه؟ كيف هي؟ وما معانيها؟ وعلى كم نوع يتكوّن؟

قالعليه‌السلام : قد سألت فافهم إنّ حدود خلقه على ستّة أنواع: ملموس وموزون ومنظور إليه، وما لا وزن له، وهو الروح ومنها منظور إليه وليس له وزن ولا لمس ولا حسّ ولا ذوق والتقدير، والأعراض، والصور والعرض والطول، ومنها العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعلمها وتغييرها من حال إلى حال وتزيدها وتنقصها.

وأما الأعمال والحركات فإنّها تنطلق لأنّها لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج إليه، فإذا فرق من الشيء انطلق بالحركة وبقي الأثر ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره.

قال له عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شيء غيره ولا شيء معه، أليس قد تغيّر بخلقه الخلق.

قال الرضاعليه‌السلام : يتغير عَزَّ وجَلَّ بخلق الخلق، ولكن الخلق يتغير بتغييره.

قال عمران: فبأي شيء عرفناه.

قالعليه‌السلام : بغيره.

قال: فأي شيء غيره؟

١٩٦

قال الرضاعليه‌السلام : مشيّته واسمه وصفته وما أشبه ذلك، وكلّ ذلك محدث مخلوق مدبّر.

قال عمران: يا سيدي فأيّ شيء هو؟

قالعليه‌السلام : هو نور بمعنى أنه هاد لخلقه من أهل السماء وأهل الأرض، وليس لك عليَّ أكثر من توحيدي إيّاه.

قال عمران: يا سيدي أليس قد كان ساكتاً قبل الخلق لا ينطق ثم نطق؟

قال الرضاعليه‌السلام : لا يكون السكوت إلاّ عن نطق قبله، والمثل في ذلك أنّه لا يقال للسراج هو ساكت لا ينطق ولا يقال إنّ السراج ليضيء فيما يريد أن يفعل بنا، لأنّ الضوء من السراج ليس بفعل منه ولا كون وإنّما هو ليس شيء غيره، فلما استضاء لنا قلنا قد أضاء لنا حتى استضأنا به، فبهذا تستبصر أمرك.

قال عمران: يا سيدي فإنّ الذي كان عندي أن الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق.

قال الرضا: أحلت يا عمران في قولك: إن الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه حتى يصيب الذات منه ما يغيره، يا عمران هل تجد النار تغير نفسها؟ أو هل تجد الحرارة تحرق نفسها؟ أو هل رأيت بصيراً قطّ رأى بصره؟

قال عمران: لم أرَ هذا، ألا تخبرني أهو في الخلق أم الخلق فيه.

قال الرضاعليه‌السلام : جلّ يا عمران عن ذلك ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه، تعالى عن ذلك، وسأعلّمك وتعرفه به، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، أخبرني عن المرآة أنت فيها أم هي فيك؟! فان كان ليس واحد منكما في صاحبه، فبأي شيء استدللت بها على نفسك؟

قال عمران: بضوء بيني وبينها.

فقال الرضاعليه‌السلام : هل ترى من ذلك الضوء في المرآة أكثر ممّا تراه في عينك؟

قال نعم.

١٩٧

قال الرضاعليه‌السلام : فأرناه؟ فلم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : فلا أرى النور إلاّ وقد دلّك ودلّ المرّاة على أنفسكما من غير أن يكون في واحد منكما، ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالاً ولله المثل الأعلى.

ثم التفتعليه‌السلام إلى المأمون قال: الصلاة قد حضرت.

فقال عمران: يا سيدي لا تقطع عليّ مسألتي فقد رقّ قلبي.

قال الرضاعليه‌السلام : نصلّي ونعود، فنهض ونهض المأمون، فصلّى الرضاعليه‌السلام داخلاً وصلّى الناس خارجاً خلف محمد بن جعفر، ثم خرجاً، فعاد الرضاعليه‌السلام إلى مجلسه ودعا بعمران فقال: سل يا عمران.

قال: يا سيدي ألا تخبرني عن الله عَزَّ وجَلَّ هل يوحد بحقيقة أم يوحد بوصف؟

قال الرضاعليه‌السلام : إنّ الله المبدئ الواحد الكائن الأوّل، لم يزل واحداً لا شيء معه، فرداً لا ثاني معه لا معلوماً ولا مجهولاً، ولا محكماً ولا متشابهاً، ولا مذكوراً ولا منسياً، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الأشياء غيره، ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون ولا بشيء قام ولا إلى شيء يقوم، ولا إلى شيء استند، ولا في شيء استكن، وذلك كلّه قبل الخلق إذ لا شيء وما أوقعت عليه من الكلّ فهي صفات محدثة وترجمة يفهم بها من فهم.

واعلم أنّ الإبداع والمشيّة والإرادة معناها واحد، وأسماؤها ثلاثة، وكان أوّل إبداعه وإرادته ومشيّته الحروف التي جعلها أصلاً لكل شيء ودليلاً على كلّ مدرك وفاصلاً لكلّ مشكل. وتلك الحروف تفريق كلّ شيء من اسم حقّ وباطل أو فعل أو مفعول أو معنى أو غير معنى، وعليها اجتمعت الأمور كلّها، ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها يتناهي ولا وجود لأنها مبدعة بالإبداع، والنّور في هذا الموضع أوّل فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض.

١٩٨

والحروف هي المفعول بذلك الفعل وهي الحروف التي عليها الكلام والعبارات كلّها من الله عَزَّ وجَلَّ، علّمها خلقه، وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً، فمنها ثمانية وعشرون حرفاً تدل على اللغات السريانيّة، والعبرانيّة، ومنها خمسة أحرف متحرّفة في سائر اللغات من العجم لأقاليم اللغات كلّها وهي خمسة أحرف تحرّفت من الثمانية والعشرين الحرف من اللغات فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً.

فأمّا الخمسة المختلفة فتحجج لا يجوز ذكرها أكثر ممّا ذكرناه ثمّ جعل الحروف بعد إحصائها وإحكام عدّتها فعلاً منه كقوله عَزَّ وجَلَّ:( كُنْ فَيَكُونُ ) وكن منه صنع وما يكون به المصنوع، فالخلق الأوّل من الله عَزَّ وجَلَّ الإبداع لا وزن له ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حسّ.

والخلق الثاني الحروف لا وزن لها ولا لون، وهي مسموعة موصوفة غير منظور إليها، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلّها محسوساً ملموساً ذا ذوق منظوراً إليه والله تبارك وتعالى سابق للإبداع لأنّه ليس قبله عَزَّ وجَلَّ شيء، ولا كان معه شيء والإبداع سابق للحروف والحروف لا تدلّ على غير أنفسها.

قال المأمون: وكيف لا تدلّ على غير أنفسها؟ قال الرضاعليه‌السلام : لأن الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً، فإذا ألّف منها أحرفاً أربعة أو خمسة أو ستة أو أكثر من ذلك أو أقلّ لم يؤلفها لغير معنى ولم يك إلاّ لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئاً.

قال عمران: فكيف لنا بمعرفة ذلك؟

قال الرضاعليه‌السلام : أمّا المعرفة فوجه ذلك وبابه أنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير أنفسها ذكرتها فرداً فقلت: ا ب ت ث ج ح خ حتى تأتي على آخرها، فلم تجد لها معنى غير أنفسها، فإذا ألفتها وجمعت منها أحرفاً وجعلتها اسماً وصفة لمعنى ما طلبت ووجه ما عنيت كانت دليلة على معانيها داعية إلى الموصوف بها، أفهمته؟ قال: نعم.

١٩٩

قال الرضاعليه‌السلام : واعلم أنّه لا يكون صفة لغير موصوف ولا اسم لغير معنى ولا حدّ لغير محدود، والصفات والأسماء كلّها تدلّ على الكمال والوجود ولا تدلّ على الإحاطة كما تدلّ على الحدود التي هي التربيع والتثليث والتسديس، لأنّ الله عَزَّ وجَلَّ وتقدّس تدرك معرفته بالصفات والأسماء، ولا تدرك بالتحديد بالطول والعرض والقلّة والكثرة واللّون والوزن وما أشبه ذلك، وليس يحلّ بالله جلّ وتقدّس شيء من ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا.

ولكن يدلّ على الله عَزَّ وجَلَّ بصفاته ويدرك بأسمائه ويستدلّ عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين، ولا استماع أذن ولا لمس كفّ ولا إحاطة بقلب، فلو كانت صفاته جل ثناؤه لا تدلّ عليه وأسماؤه لا تدعو إليه والمعلمة من الخلق لا تدركه لمعناه كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه، فلو لا أنّ ذلك كذلك لمكان المعبود الوحد غير الله تعالى، لأنّ صفاته وأسماءه غيره، أفهمت؟ قال: نعم يا سيدي زدني.

قال الرضاعليه‌السلام : إياك وقول الجهّال أهل العمى والضلال الذي يزعمون أن الله عَزَّ وجَلَّ وتقدّس موجود في الآخرة للحساب والثواب والعقاب، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء ولو كان في الوجود لله عَزَّ وجَلَّ نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبداً، ولكنّ القوم تاهوا وعموا وصمّوا عن الحقّ من حيث لا يعلمون، وذلك قوله عَزَّ وجَلَّ:( وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلّ سَبِيلاً ) يعنى أعمى عن الحقائق الموجودة.

وقد علم ذوو الألباب أنّ الاستدلال على ما هناك لا يكون إلاّ بما ههنا، ومن أخذ علم ذلك برأيه وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك إلاّ بعداً، لأنّ

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الأمور في القضايا الاقتصادية دون إعطاء اي دور للإنسان ، ولكن برغم ذلك فإنّه لا يمكن غضّ النظر عن اهمية القضايا الاقتصادية ودورها في المجتمعات ، والآيات السابقة تشير إلى هذه الحقيقة ، والملاحظ انّ يوسف ركّز من بين جميع مناصب الدولة على منصب الاشراف على الخزانة ، وذلك لعلمه انّه إذا نجح في ترتيب اقتصاد مصر ، فإنّه يتمكّن من إصلاح كثير من المفاسد الاجتماعية ، كما انّ تنفيذه للعدالة الاقتصادية يؤدّي الى سيطرته على سائر دوائر الدولة وجعلها تحت امرته.

وقد اهتمّت الرّوايات الاسلامية بهذا الموضوع اهتماما كبيرا ، فمثلا نرى في الرّواية المعروفة المروية عن امير المؤمنين عليعليه‌السلام انّه جعل (قوام الدين والدنيا) في ركنين : أحدهما القضايا الاقتصادية وما يقوم عليه معاش الناس ، والرّكن الآخر هو العلم والمعرفة.

وبرغم انّ المسلمين قد أهملوا هذا الجانب من الحياة الفردية والاجتماعية الذي اهتمّ به الإسلام كثيرا وتأخّروا عن اعداء الإسلام في هذا الجانب ، الّا انّ يقظة المجتمعات الاسلامية المتزايدة وتوجّههم نحو الإسلام يزيد الأمل في النفوس بأن تزيد من نشاطها الاقتصادي وتعتبره عبادة اسلامية كبرى ، وتقوم ببناء نظام اقتصادي مدروس وفق خطط محكمة لكي تعود إليهم قوّتهم ونشاطهم.

وهنا نقطة اخرى يجب التنبيه عليها ، وهي انّنا نلاحظ انّ يوسفعليه‌السلام يخاطب الملك ويقول له :( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) وهذه اشارة الى اهميّة عنصر الادارة الى جانب عنصر الامانة وانّ توفّر عنصر الامانة والتقوى فقط في شخص لا يؤهّله لان يتصدّى لأحد المناصب الاجتماعية الحسّاسة ، بل لا بدّ من اجتماع ذلك العامل مع العلم والتخصّص والقدرة على الادارة ، لكونه قرن ال (عليم) مع ال (حفيظ) وكثيرا ما نشاهد الإضرار الناتجة عن سوء الادارة لا تقلّ بل تزيد على

٢٤١

الخسائر الناتجة عن الخيانة!

فهذه التعليمات الاسلامية صريحة في اهميّة جانب الادارة والقدرة عليها ، ومع ذلك نرى تهاون بعض المسلمين بهذا الجانب ، فالمهمّ لديهم هو نصب الأشخاص الذين يطمئنون الى تقواهم وأمانتهم لادارة الأمور ، مع انّ السيرة النبوية الشريفةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك سيرة عليعليه‌السلام ترشدان الى انّهما كانا يهتمّان اهتماما كبيرا بالجانب الاداري والقدرة على الادارة مع اهتمامهم بأمانة الشخص وسلوكه الحسن.

٣ ـ الرّقابة على الاستهلاك

الملاحظ في القضايا الاقتصادية انّه قد لا تكون (زيادة الانتاج) بمكان من الاهميّة بقدر اهميّة (الرقابة على الاستهلاك) ومن هنا نشاهد انّ يوسف في ايّام حكومته ، حاول ـ بشدّة ـ ان يسيطر على الاستهلاك الداخلي في سنوات الوفرة لكي يتمكّن من الاحتفاظ بجزء كبير من المنتوجات الزراعية لسنوات القحط والمجاعة القادمة ، وفي الحقيقة انّ زيادة الانتاج والرقابة متلازمان لا يفترقان ، فالزيادة في الانتاج لا تثمر الّا إذا أعقبتها رقابة صحيحة ، كما انّ الرقابة تكون اكثر فائدة إذا أعقبتها زيادة في الانتاج.

انّ السياسة الاقتصادية التي انتهجها يوسفعليه‌السلام في مصر أظهرت انّ الخطّة الاقتصادية الصحيحة والمتطورة مع الزمن لا يمكن ان تقتصر على متطلّبات الجيل الحاضر ، بل لا بدّ وان تراعي مصالح الأجيال القادمة ، لانّ التفكير بالمصالح المستعجلة للجيل الحاضر والتغاضي عن مصالح الأجيال القادمة ـ كما لو استهلكنا جميع ثروات الأرض ـ تعتبر غاية الانانية وحبّ الذات ، إذ انّ الأجيال القادمة هم في الواقع إخوتنا وأبناؤنا فلا بدّ من التفكير في مصالحهم وعدم التفريط بها.

٢٤٢

والملفت للنظر انّه يستفاد من بعض الرّوايات الواردة كما ورد عن الامام علي بن موسى الرّضاعليهما‌السلام «واقبل يوسف على جمع الطعام فجمع في السبع سنين المخصبة فكبسه في الخزائن ، فلمّا مضت تلك السنون وأقبلت المجدية اقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الاولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم الّا صار في مملكة يوسف ، وباعهم في السنة الثّانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلي ولا جواهر الا صار في ملكة يوسف ، وباعهم في السنة الثّالثة بالدّواب والمواشي حتى لم يبق بمصر وما حولها دابة ولا ماشية الّا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الرّابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق بمصر ومن حولها عبد ولا امة الّا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الخامسة بالدّور والعقار حتى لم يبق بمصر وما حولها دار ولا عقار الّا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة السّادسة بالمزارع والأنهار حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة الّا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة السّابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حرّ الّا صار عبد يوسف ، فملك احرارهم وعبيدهم وأموالهم وقال النّاس : ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه الله من الملك ما اعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبيرا ، ثمّ قال يوسف للملك : ايّها الملك ما ترى فيما خولني ربّي من ملك مصر وأهلها اشر علينا برأيك ، فإنّي لم أصلحهم لافسدهم ، ولم انجهم من البلاء ليكون وبالا عليهم ولكن الله نجاهم على يدي ، قال له الملك : الرّاي رأيك ، قال يوسف : انّي اشهد الله وأشهدك ايّها الملك انّي اعتقت اهل مصر كلّهم ، ورددت إليهم أموالهم وعبيدهم ، ورددت إليك ايّها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على ان لا تسير الّا بسيرتي ولا تحكم الّا بحكمي قال له الملك : انّ ذلك لشرفي وفخري لا أسير الّا بسيرتك ولا احكم الّا بحكمك ، ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له ، ولقد جعلت سلطاني عزيزا ما

٢٤٣

يرام ، وانا اشهد ان لا اله الّا الله وحده لا شريك له ، وأنت رسوله فأقم على ما وليتك فإنّك لدينا مكين أمين»(١) .

٤ ـ مدح النفس

لا شكّ في انّ مدح الإنسان نفسه يعدّ من الأمور القبيحة ، ولكن ليست هذه قاعدة عامّة ، بل قد تقتضي الأمور بأن يقوم الإنسان بعرض نفسه على المجتمع والإعلان عن خبراته وتجاربه ، لكي يتعرّف عليه الناس ويستفيدوا من خبراته ولا يبقى كنزا مستورا.

وقد مرّ علينا في الآيات السابقة انّ يوسف حينما تولّى مسئولية الاشراف على خزائن مصر وصف نفسه بأنّه :( حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ، وكان هذا الوصف من يوسف لنفسه ضروريا وذلك حتّى يعرف شعب مصر ومليكها انّه يمتلك الصفات اللازمة التي تؤهله للتصدّي لهذا المنصب.

ومن هنا نقرا في تفسير العياشي نقلا عن الامام الصّادقعليه‌السلام انّه حينما سئل عن الحكم الشرعي لمدح الإنسان نفسه؟ أجابعليه‌السلام «نعم إذا اضطرّ اليه ، امّا سمعت قول يوسف اجعلني على خزائن الأرض انّي حفيظ عليم ، وقول العبد الصالح : وانا لكم ناصح أمين»(٢) .

ومن هنا يتّضح لنا جليّا فلسفة مدح الامام عليعليه‌السلام نفسه في بعض الخطب ، فمثلا يقول في خطبة الشقشقية واصفا نفسه : (... انّ محلي منها محلّ القطب من الرّحى ينحدر عنّي السيل ولا يرقى اليّ الطير ...) فمثل هذه الأوصاف هي في الواقع لأجل إيقاظ الغافلين وإرشادهم الى الاستفادة من هذا المنهل العذب في سبيل الوصول الى سعادة الفرد والمجتمع.

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد الثّالث ، صفحة ٢٤٤ ، تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٤٣٥.

(٢) تفسير نور الثّقلين ، ج ٢ ، ص ٤٣٣.

٢٤٤

٥ ـ افضليّة الجزاء المعنوي على سواه

برغم انّ كثيرا من المؤمنين الخيرين يلقون في هذه الدنيا جزاء اعمالهم الخيرة ، كما هو الحال بالنسبة ليوسف حيث جوزي جزاء حسنا ، لعفافه وتقواه وصبره على البلاء ، إذ لو كان آثما لما اعتلى هذا المنصب ، ولكن هذا لا يعني انّ على الإنسان ان ينتظر الجزاء في هذه الدنيا ويتوهّم انّ الجزاء يجب ان يكون ماديّا وملموسا وفي هذه الدنيا ويرى تأخير الجزاء ظلما في حقّه ، لكن هذا التصوّر بعيد عن الواقع ، لانّ الجزاء الأوفى هو ما يوافي الإنسان في حياته القادمة.

ولعلّ لدفع هذا التوهّم الخاطئ وانّ ما جوزي به يوسف هو الجزاء الأوفى ، يقول القرآن الكريم( وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ) .

٦ ـ الدفاع عن المسجونين

برغم انّ السجن لم يكن دائما محلا للأخيار ، بل يستضيف تارة الابرياء وتارة المجرمين ، لكنّ القواعد الانسانية تستوجب التعامل الحسن مع السجناء ، حتّى ولو كانوا مجرمين.

وقد يتصوّر البعض أنّ الدفاع عن المسجونين من مبتكرات العصر الحديث ، لكن المتتبّع للتاريخ الاسلامي يرى انّه منذ الايّام الاولى لقيام دولة الإسلام كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد ويوصي على التعامل الحسن مع الأسرى والمسجونين ـ كما قرانا جميعا وصيّة عليعليه‌السلام في حقّ المجرم الذي قام باغتياله (وهو عبد الرّحمن بن ملجم المرادي) حيث امر ان يرفق به وحتّى انّهعليه‌السلام بعث اليه من اللبن الذي كان يشربه وعند ما أرادوا قتله قال : ضربة بضربة.

كما انّ يوسف حينما كان في السجن كان يعدّ أخا حميما وصديقا وفيّا ومستشارا أمينا لجميع نزلاء السجن ، وحينما خرج من السجن ـ امر ان يكتب ـ

٢٤٥

لجلب انتباه العالمين ـ على بابه «هذا قبور الاحياء ، وبيت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء»(١) .

واظهر لهم بهذا الدعاء عطفه ومحبّته حيث قال : «اللهمّ اعطف عليهم بقلوب الأخيار ، ولا تعم عليهم الاخبار»(٢) .

والطريف انّنا نقرا في سياق الحديث السابق انّه : «فذلك يكون اصحاب السجن اعرف الناس بالاخبار في كلّ بلدة».

وقد مرّت علينا هذه التجربة في ايّام السجن ، حيث كانت تصلنا الاخبار وبصورة منتظمة ـ الّا في بعض الحالات النادرة ـ وعن طرق خفيّة لا يكشفها السجّانون ، وكثيرا ما كان الذي يدخل الى السجن يطّلع على بعض الاخبار التي لم يكن قد سمعها عند ما كان في الخارج ، والحديث عن هذا الموضوع طويل وقد يخرجنا عن هدف هذا الكتاب.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٤٣٢.

(٢) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٤٣٢.

٢٤٦

الآيات

( وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) )

التّفسير

اقتراح جديد من يوسف لإخوته :

وكما كان متوقّعا ، فقد تحسّنت الزراعة في مصر خلال سبع سنوات متتالية وذلك على اثر توالي الأمطار ووفرة ماء النيل وكثرته ، ويوسف الذي كان مسئولا عن الشؤون الاقتصادية في مصر ومشرفا على خزائنها ، امر ببناء المخازن الكبيرة والصغيرة التي تستوعب الكميّات الكبيرة من المواد الغذائية

٢٤٧

وتحفظها عن الفساد ، وقد اجبر أبناء الشعب على ان يبيعوا للدولة الفائض عن حاجتهم من الانتاج الزراعي ، وهكذا امتلأت المخازن بالمنتوجات الزراعية والاستهلاكية ومرّت سبع سنوات من الرخاء والوفرة ، وبدا القحط والجفاف يظهر وجهه الكريه ، ومنعت السّماء قطرها ، فلم تينع ثمرة ، ولم تحمل نخلة.

وهكذا أصاب عامّة الشعب الضيق وقلّت منتوجاتهم الزراعية ، لكنّهم كانوا على علم بخزائن الدولة وامتلائها بالمواد الغذائية ، وساعدهم يوسف حيث استطاع ـ بخطّة محكمة ومنظّمة مع الأخذ بعين الاعتبار الحاجات المتزايدة ، في السنين القادمة ـ ان يرفع الضيق عن الشعب بأن باع لهم المنتوجات الزراعية مراعيا في ذلك العدالة بينهم.

وهذا القحط والجفاف لم يكن مقتصرا على مصر وحدها ، بل شمل البلدان المحيطة بها ايضا ، ومنهم شعب فلسطين وارض كنعان المتاخمة لمصر والواقعة على حدودها في الشمال الشرقي ، وكانت عائلة يوسف تسكن هناك وقد تأثّرت بالجفاف. واشتدّ بهم الضيق ، بحيث اضطرّ يعقوب ان يرسل جميع أولاده ـ ما عدا بنيامين الذي أبقاه عنده بعد غياب يوسف ـ الى مصر ، حيث سافروا مع قافلة كانت تسير الى مصر ووصلوا إليها ـ كما قيل ـ بعد ١٨ يوما.

وتذكر المصادر التاريخيّة انّ الأجانب عند دخولهم الى الاراضي المصرية كانوا ملزمين بتسجيل اسمائهم في قوائم معيّنة لكي تعرض على يوسف ، ومن هنا فحينما عرض الموظفون تقريرا على يوسف عن القافلة الفلسطينية وطلبهم للحصول على المؤن والحبوب راى يوسف أسماء اخوته بينهم وعرفهم وامر بإحضارهم اليه ، دون ان يتعرّف احد على حقيقتهم وانّهم اخوته يقول القرآن الكريم :( وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) وكان طبيعيّا ان لا يتعرّف اخوة يوسف عليه لانّه في جانب كان قد مضى على فراقهم ايّاه منذ ان أودعوه الجبّ وخرج منه ودخل الى مصر ما يقرب

٢٤٨

من أربعين سنة ، ومن جهة اخرى كان لا يخطر ببالهم انّ أخوهم صار عزيزا لمصر ، وحتّى لو رأوا الشبه بين العزيز وبين أخيهم لحملوه على الصدفة.

اضافة الى هذا فإنّ ملابس يوسف تختلف عن السابق ، ومن الصعب عليهم معرفة يوسف وهو في ملابس اهل مصر ، كما انّ احتمال بقاء يوسف على قيد الحياة بعد هذه المدّة كان ضعيفا عندهم ، وعلى ايّة حال فإنّ اخوة يوسف قد اشتروا ما طلبوه من الحبوب ودفعوا ثمنه بالأموال او الكندر او الاحذية او بسائر ما جلبوه معهم من كنعان الى مصر.

امّا يوسف فإنّه قد رحّب بإخوته ولاطفهم وفتح باب الحديث معهم ، قالوا : نحن عشرة اخوة من أولاد يعقوب ، ويعقوب هو ابن ابراهيم الخليل نبي الله العظيم ، وأبونا ايضا من أنبياء الله العظام ، وقد كبر سنّه والمّ به حزن عميق ملك عليه وجوده.

فسألهم يوسف : لماذا هذا الغمّ والحزن؟

قالوا : كان له ولد أصغر من جميع اخوته وكان يحبّه كثيرا ، فخرج معنا يوما للنزهة والتفرّج والصيد وغفلنا عنه فأكله الذئب ، ومنذ ذلك اليوم وأبونا يبكي لفراقه.

نقل بعض المفسّرين انّه كان من عادة يوسف ان لا يعطي ولا يبيع لكلّ شخص الّا حمل بعير واحد ، وبما انّ اخوته كانوا عشرة فقد باع لهم ١٠ أحمال من الحبوب ، فقالوا : انّ لنا أبا شيخا كبيرا عاجزا عن السفر وأخا صغيرا يرعى شؤون الأب الكبير ، فطلبوا من العزيز ان يدفع إليهم حصّتهما ، فأمر يوسف ان يضاف الى حصصهم حملان آخران ، ثمّ توجّه إليهم مخاطبا ايّاهم وقال : انّي ارى في وجوهكم النبل والرفعة كما انّكم تتحلّون بأخلاق طيبة ، وقد ذكرتم انّ أباكم يحبّ أخاكم الصغير كثيرا ، فيتّضح انّه يمتلك صفات ومواهب عالية وفذّة ولهذا احبّ ان أراه اضافة الى هذا ، فإنّ الناس هنا قد أساءوا الظنّ بكم واتهموكم ،

٢٤٩

لانّكم من بلد اجنبي ، فأتوا بأخيكم الصغير في سفركم القادم لتثبتوا صدقكم ، وتدفعوا التّهمة عن أنفسكم.

وهنا يقول القرآن الكريم : انّه حينما جهّزهم يوسف بجهازهم وأرادوا الرحيل عن مصر( وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) لكنّه ختم كلامه بتهديد مبطّن لهم ، وهو انّني سوف امنع عنكم المؤن والحبوب إذا لم تأتوني بأخيكم( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ ) ، وكان يوسف يحاول بشتّى الطرق ، تارة بالتهديد ، واخرى بالتحبّب ، ان يلتقي بأخيه بنيامين ويبقيه عنده. وظهر من سياق الآيات.

أمران : انّ الحبوب كانت تباع وتشترى في مصر بالكيل لا بالوزن ، واتّضح ايضا انّ يوسف كان يستقبل الضيوف ـ ومنهم اخوته ـ الذين كانوا يفدون الى مصر بحفاوة بالغة ويستظيفهم بأحسن وجه.

وأجاب اخوة يوسف على طلب أخيهم :( قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ ) ويستفاد من قوله( إِنَّا لَفاعِلُونَ ) واجابتهم الصريحة لعزيز مصر ، انّهم كانوا مطمئنين الى قدرتهم على التأثير على أبيهم وأخذ الموافقة منه ، وكيف لا يكونون مطمئنين بقدرتهم على ذلك وهم الذين استطاعوا بإصرارهم والحاحهم ان يفرّقوا بين يوسف وأبيه؟!

وأخيرا امر يوسف رجاله بأن يضعوا الأموال التي اشتروا بها الحبوب في رحالهم ـ جلبا لعواطفهم ـ( وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

* * *

٢٥٠

بحوث

١ ـ لماذا لم يظهر يوسف حقيقته لإخوته

بالنسبة للآيات السابقة فإنّ اوّل ما يتبادر الى الذهن هو انّه لماذا لم يعرّف يوسف نفسه لإخوته ، حتّى يقفوا على حقيقة حاله ويرجعوا الى أبيهم ويخبرونه عن مصير يوسف ، وبذلك تنتهي آلامه لأجل فراق يوسف؟

ويمكن طرح هذا السؤال على شكل أوسع وبصورة اخرى ، وهو انّه حينما التقى يوسف بإخوته في مصر كان قد مرّ ثمان سنوات على تحريره من السجن ، حيث كان في السنة الاولى من سنوات القحط والجدب ، التي أعقبت سبع سنوات من الوفرة والرخاء ، وقام بخزن المنتوجات الزراعية ـ وفي السنة الثامنة او بعدها ـ جاء اخوة يوسف الى مصر لشراء الحبوب ، فلما ذا لم يحاول يوسف خلال هذه السنوات الثمان ان يبعث الى كنعان من يخبر أباه بواقع حاله ويخرجه عن آلامه وينهي مرارته الطويلة؟

حاول جمع من المفسّرين ـ كالعلّامة الطبرسي في مجمع البيان والعلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان والقرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن ـ الاجابة على هذا السؤال ، وذكروا له عدّة اجوبة ، ولعلّ أحسنها وأقربها هو انّ يوسف لم يكن مجازا من قبل الله سبحانه وتعالى في اخبار أبيه ، لانّ قصّة يوسف مع غضّ النظر عن خصائصه الذاتية كانت ساحة لاختبار يعقوب وحقلا لامتحانه ، فلا بدّ من ان يؤدّي يعقوب امتحانه ويجتاز فترة الاختبار قبل ان يسمح ليوسف بإخباره ، واضافة الى هذا فإنّ اسراع يوسف في اخبار اخوته قد يؤدّي الى عواقب غير محمودة ، مثلا قد يستولي عليهم الخوف والهلع من انتقام يوسف منهم لما ارتكبوه سابقا في حقّه فلا يرجعوا اليه.

٢ ـ لماذا ارجع يوسف الأموال الى اخوته

السؤال الذي يطرح نفسه هو انّه لماذا امر يوسف ان تردّ اموال اخوته التي

٢٥١

دفعوها ثمنا للحبوب ، وتوضع في رحالهم؟

وقد أجاب المفسّرون عن هذا السؤال بإجابات عديدة ، ومنهم الرازي في تفسيره حيث ذكر عشرة اجوبة ، لكن بعضها بعيد عن الواقع ، ولعلّ ملاحظة الآيات السابقة تكفي في الاجابة عن السؤال ، لانّ الآية الشريفة تقول :( لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) فإنّ يوسف كان يقصد من وراء هذا العمل ، انّ اخوته بعد رجوعهم الى الوطن حينما يجدون أموالهم قد خبّئت في متاعهم ، سوف يقفون على كرم عزيز مصر (يوسف) وجلالة قدره ، اكثر ممّا شاهدوه ، وسوف يطمئن يعقوب بنوايا عزيز مصر ويعطي الاذن بسفر بنيامين ، ويكون السبب والدافع في سفرهم الى مصر مرّة اخرى وباطمئنان اكثر مستصحبين معهم أخاهم الصغير.

٣ ـ كيف وهب يوسف الى اخوته اموال بيت المال؟

السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هنا هو انّه كيف وهب يوسف الأموال من بيت المال لإخوته دون اي تعويض؟

يمكن الاجابة على هذا السؤال بطريقتين :

الاوّل : انّ بيت المال في مصر كان يحتوي على حصّة معيّنة من الأموال تصرف في شؤون المستضعفين (ومثل هذه الحصّة موجودة دائما) وبما انّ اخوة يوسف كانوا في تلك الفترة من المستضعفين ، استغلّ يوسف هذه الفرصة واستفاد من هذه الحصّة لمساعدة إخوته : (كما كان يستفيد منها في مساعدة سائر المستضعفين) ومن المعلوم انّ الحدود المصطنعة بين الدولة لم تكن حائلا دون مساعدة مستضعفي سائر البلدان من هذه الحصّة.

الثّاني : انّ المناصب العالية في الدولة ـ كمنصب يوسف ـ تتضمّن عادة على

٢٥٢

امتيازات وحقوق معيّنة ، ومن اقلّ هذه الحقوق هو ان يهيئ لنفسه ولعائلته المحتاجة ولمن يقرب اليه كأبيه واخوته مستلزمات العيش الكريم ، وقد استفاد يوسف من هذا الحقّ في إعطاء الأموال لإخوته.

* * *

٢٥٣

الآيات

( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) )

التّفسير

موافقة يعقوب :

رجع اخوة يوسف الى كنعان فرحين حاملين معهم المتاع الثمين ، لكنّهم كانوا يفكّرون بمصيرهم في المستقبل وانّه لو رفض الأب ولم يوافق على سفر أخيهم الصغير (بنيامين) فإنّ عزيز مصر سوف لن يستقبلهم ، كما انّه لا يعطيهم

٢٥٤

حصّتهم من الحبوب والمؤن.

ومن هنا يقول القرآن :( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ ) ولا سبيل لنا للحصول عليه الّا ان ترسل معنا أخانا( فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ ) وكن على يقين من انّنا سوف نحافظ عليه ونمنعه من الآخرين( وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) .

امّا الأب الشيخ الكبير الذي لم يمح صورة (يوسف) عن ذاكرته مرّ السنين فإنّه حينما سمع هذا الكلام استولى عليه الخوف وقال لهم معاتبا :( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ) فكيف تتوقّعون منّي ان اطمئن بكم والبّي طلبكم واوافق على سفر ولدي وفلذّة كبدي معكم الى بلاد بعيدة ، ولا زلت اذكر تخلفّكم في المرّة السابقة عن عهدكم ، ثمّ أضاف( فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) هذه العبارة لعلّها اشارة الى ما تحدّثت به نفس يعقوب من انّه يصعب عليّ ان اوافق على سفر بنيامين معكم وقد عرفت سوءكم في المرّة السابقة ، لكن حتّى لو وافقت على ذلك فإنّني اتّكل على الله سبحانه وتعالى الذي هو ارحم الراحمين واطلب رعايته وحفظه منه لا منكم.

الآية السابقة لا تدلّ على الموافقة القطعيّة وقبوله لطلبهم ، وانّما هي مجرّد احتمال منه حيث انّ الآيات القادمة تظهر انّ يعقوب لم يكن قد وافق على طلبهم الّا بعد ان أخذ منهم العهود والمواثيق ، والاحتمال الآخر هو انّ هذه الآية لعلّها اشارة الى يوسف ، حيث كان يعلم انّه على قيد الحياة (وسوف نقرا في الآيات القادمة انّه كان على يقين بحياة يوسف) فدعا له بالحفظ.

ثمّ انّ الاخوة حينما عادوا من مصر( وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ) فشاهدوا انّ هذا الأمر هو برهان قاطع على صحّة طلبهم ، فجاءوا الى أبيهم و( قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا ) وهل هناك فضل وكرم اكثر من هذا ان يقوم حاكم اجنبي وفي ظروف القحط والجفاف ،

٢٥٥

بمساعدتنا ويبيع لنا الحبوب والمؤن ثمّ يردّ إلينا ما دفعناه ثمنا له؟!

ثمّ انّه ردّ بضاعتنا علينا بشكل خفي بحيث لا يستثير فينا الخجل ـ أليس هذا غاية الجود والكرم؟! فيا أبانا ليس هناك مجال للتأخير ـ ابعث معنا أخانا لكي نسافر ونشتري الطعام( وَنَمِيرُ أَهْلَنا ) وسوف نكون جادّين في حفظ أخينا( وَنَحْفَظُ أَخانا ) ، وهكذا نتمكّن من ان نشتري كيل بعير من الحبوب( وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ) وانّنا على يقين في انّ سماحة العزيز وكرمه ـ سوف يسهّلان حصوله و( ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) .

وفي كلّ الأحوال ـ رفض يعقوب إرسال ابنه بنيامين معهم ، ولكنّه كان يواجه إصرار أولاده بمنطقهم القوي بحيث اضطرّ الى التنازل على مطلبهم ولم ير بدّا من القبول ، ولكنّهوافق بشرط :( قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) ، والمقصود من قوله( مَوْثِقاً مِنَ اللهِ ) هو العهد واليمين المتضمّن لاسم الله سبحانه وتعالى ، وامّا جملة( إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) فهي في الواقع بمعنى ـ الّا إذا أحاطت بكم وغلبتكم الحوادث ، ولعلّها اشارة الى حوادث الموت او غيرها من الحوادث والمصائب التي تسلب قدرة الإنسان وتقصم ظهره وتجعله عاجزا.

وذكر هذا الاستثناء دليل بارز على ذكاء نبي الله يعقوب وفطنته ، فإنّه برغم حبّه الشديد لولده بنيامين لكنّه لم يحمل أولاده بما لا يطيقوا وقال لهم : انّكم مسئولون عن سلامة ولدي العزيز وانّي سوف اطلبه منكم الّا ان تغلبكم الحوادث القاهرة ، فحينئذ لا حرج عليكم.

وعلى كلّ حال فقد وافق اخوة يوسف بدورهم على شرط أبيهم ، وحينما أعطوه العهد والمواثيق المغلّظة قال يعقوب :( فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ ) .

* * *

٢٥٦

بحوث

١ ـ بالنسبة للآيات السابقة فإنّ اوّل ما يتبادر الى الذهن ، هو انّه كيف وافق يعقوب على سفر بنيامين مع اخوته برغم ما اظهروه في المرّة السابقة من سوء المعاملة مع يوسف ، اضافة الى هذا فإنّنا نعلم انّهم كانوا يبطنون الحقد والحسد لبنيامين ـ وان كان اخفّ من حقدهم وحسدهم على يوسف ـ حيث وردت في الآيات الافتتاحية لهذه السورة قوله تعالى :( إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ) اي انّ يوسف وأخاه احبّ الى أبينا برغم ما نملكه نحن من قوّة وكثرة.

لكن تظهر الاجابة على هذا السؤال إذا لاحظنا انّه قد مضى ثلاثون الى أربعين سنة على حادثة يوسف ، وقد صار اخوة يوسف الشبّان كهولا ، ومن الطبيعي انّهم نضجوا اكثر من السابق ، كما وقفوا على الآثار السلبية والسيّئة لما فعلوه مع يوسف ، سواء في داخل اسرتهم ام في وجدانهم ، حيث أثبتت لهم تجارب السنين السالفة انّ فقد يوسف كان لا يزيد حبّ أبيهم لهم ، بل ازداد نفوره منهم وخلق لهم مشاكل جديدة.

اضافة الى هذه الأمور فإنّ يعقوب لم يواجه طلبا للخروج الى التنزّه والصيد ، بل كان يواجه مشكلة مستعصية مستفحلة ، وهي اعداد الطعام لعائلة كبيرة وفي سنوات القحط والمجاعة.

فمجموع هذه الأمور أجبرت يعقوب على الرضوخ لطلب أولاده والموافقة على سفر بنيامين ولكنّه أخذ منهم العهود والمواثيق على ان يرجعوه سالما.

٢ ـ السؤال الآخر الذي نواجهه هنا هو انّه هل الحلف وأخذ العهد والمواثيق منهم كان كافيا لكي يوافق يعقوب على سفر بنيامين معهم؟

الجواب : انّه من الطبيعي انّ مجرّد الحلف واليمين لم يكن كافيا لذلك ، ولكن في هذه المرّة كانت الشواهد والقرائن تدلّ على انّ هناك حقيقة واضحة قد برزت

٢٥٧

الى الوجود ، وهي خالية عن محاولات الخداع والتضليل (كما هو الحال في المرّة السابقة) ففي مثل هذه الصورة لا سبيل لتأكيد هذه الحقيقة وجعلها اقرب الى التنفيذ سوى العهد واليمين ، مثل ما نشاهده في هذه الايّام من تحليف الزعماء السياسيين كرئيس الجمهورية او نوّاب البرلمان ، حيث يحلفون بالوفاء للدستور والعمل على طبقه وذلك بعد ان انتخبهم الشعب من خلال انتخابات حرّة ونزيهة.

* * *

٢٥٨

الآيتان

( وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) )

التّفسير

وأخيرا توجّه اخوة يوسف صوب مصر للمرّة الثانية بعد اذن أبيهم وموافقته على اصطحاب أخيهم الصغير معهم ، وحينما أرادوا الخروج ودعهم أبوهم موصيا ايّاهم بقوله :( وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) ثمّ أضاف : انّه ليس في مقدوري ان امنع ما قد قدّر لكم في علم الله سبحانه وتعالى( وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ) ولكن هناك بعض الأمور التي يمكن للإنسان ان يجتنب عنها حيث لم يثبت في حقّها القدر الالهي

٢٥٩

المحتوم ، وما أسديته لكم من النصيحة هو في الواقع لدفع هذه الأمور الطارئة والتي بإمكان الإنسان ان يدفعها عن نفسه ثمّ قال : أخيرا( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) .

لا شكّ في انّ عاصمة مصر في تلك الايّام شأنها شأن جميع البلدان ، كانت تمتلك سورا عاليا وأبوابا متعدّدة وكان يعقوب قد نصح أولاده بأن يتفرّقوا الى جماعات صغيرة ، وتدخل كلّ جماعة من باب واحد ، لكن الآية السابقة لم تبيّن لنا فلسفة هذه النصيحة.

ذهب جمع من المفسّرين الى انّ سبب هذه النصيحة هو انّ اخوة يوسف كانوا يتمتّعون بقسط وافر من الجمال (وان لم يكونوا كيوسف لكنّهم في كلّ الأحوال كانوا اخوته) وبأجسام قويّة رشيقة ، وكان الأب الحنون في قلق شديد من انّ الفات نظر الناس الى هذه المجموعة المكوّنة من ١١ شخصا ويدلّ سيماهم على انّهم غرباء وانّهم ليسوا من اهل مصر ، فيصيبهم الحسد من تلك العيون الفاحصة.

ثمّ بعد هذا التّفسير ـ دخل المفسّرون في بحث طويل ونقاش مستمر حول موضوع تأثير العين في حياة الإنسان واستدلّوا على ذلك بشواهد عديدة من الرّوايات والتاريخ. ونحن بحول الله وقوّته سوف نبحث عن هذا الموضوع عند حديثنا عن قوله تعالى :( وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ ) .(١) ونثبت انّه برغم الخرافات الكثيرة التي لفّها العوام حوله الّا انّ مقدارا من هذا الأمر له حقيقة موضوعية حيث ثبت علميا انّ أمواج سيّالة تخرج من العين وتمتلك بعض المواصفات المغناطيسيّة.

وهناك سبب آخر ذكره المفسّرون وهو انّ دخول هذه المجموعة الى مصر بوجوههم المشرقة وأجسامهم الرشيقة القويمة والسير في شوارعها ، قد يثير

__________________

(١) سورة ن والقلم ، ٢٥.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572