الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287933 / تحميل: 5234
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

قول الله أصدق مِن قولك

زرارة قال: دخلت أنا وحمران على أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، فقلت له: مَن وافقنا مِن علويٍّ أو غيره تولَّيناه، ومَن خالفنا مِن علويٍّ أو غيره برِئنا منه.

فقال لي: (يا زرارة، قول الله أصدق مِن قولك، فأين الذين قال الله عَزَّ وجَلَّ: ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيل ) (1).

أين المُرجَون لأمر الله؟!

أين الذين خلطوا عَملاً صالحاً وآخر سيِّئاً؟!

أين أصحاب الأعراف؟!

أين المُؤلَّفة قلوبهم؟!) (2) .

____________________

(1) النساء: 98.

(2) المعاد، ج1.

١٠١

...............................

إنَّ سعد بن عبادة قال: إنَّ بَكراً أخا بني ساعدة، توفِّيت أُمَّه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله، إنَّ أُمِّي توفِّيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إنْ تصدَّقت بشيء عنها؟

قال: (نعم).

قال: فإنِّي أُشهِدك أنَّ حائط المَخْرَف صدقة عليها.

الولد الصالح كالصدقة الجارية، مصدر أجر وثواب للوالدين في عالم البرزخ، فالولد الصالح يستغفر أحياناً لوالديه، وهذا الأمر يجعل الوالدين يتمتَّعان بالعفوِّ الإلهي، والرحمة الإلهيَّة في عالم البرزخ، أو أنَّ الولد الصالح، ونظراً لأنَّ تربيته تربية صالحة مِن قِبَل أبويه، هي التي جعلته يقوم بهذا العمل الصالح الحسن؛ فإنَّ ثواب وأجر هذا العمل الصالح، الذي قام به الولد يعود إلى والديه في عالم البرزخ.

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

مَرَّ عيسى بن مريم (عليه السلام) بقبر يُعذَّب صاحبه، ثمَّ مَرَّ به مِن قابل، فإذا هو ليس يُعذَّب، فقال: (يا رَبِّ مررت بهذا القبر عامَ أوَّلٍ فكان صاحبه يُعذَّب؟!).

فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه: (يا روح الله، إنَّه أدرك له ولد صالح، فأصلح طريقاً وآوى يتيماً؛ فغفرت له بما فعل ابنه) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٢

كرامة عبد المُطَّلب جَدُّ النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)

قام إبراهيم الخليل، وابنه إسماعيل، بأمر مِن الله ببناء الكعبة، وإقامة ذلك البيت المَقْدس، وأقام إسماعيل في مَكَّة، وكان إبراهيم (عليه السلام) يأتي إلى مَكَّة في مواسم الحَجِّ، وكان إسماعيل يشكو لوالده شُحَّ المياه، وطلب منه أنْ يُساعده للتغلُّب على هذه المُشكلة، فأوحى الله إلى إبراهيم أنْ يقوم بحفر بئر لتأمين مِياه الشِّرب للحجيج، وتوفير سُبل الراحة لهم، وبالطبع فإنَّ عمليَّة حَفر البئر في تلك المنطقة، والوصول إلى الماء لم تكن عمليَّة سهلة، فأمر الله جبرائيل أنْ يُحدِّد نقطة مُعيَّنة، أو مكان مُعيَّن يُحفر فيه البئر، وهذا المكان هو الذي يقع فيه اليوم بِئر زمزم.

قاموا بالفعل بحفر البئر، وخلافاً للتوقُّعات، وصلوا إلى الماء على عُمقٍ قليل، وفرحوا كثيراً لهذه العناية الإلهيَّة.

بعد ذلك، طلب جبرائيل مِن إبراهيم أنْ ينزل إلى داخل البئر، وتبعه جبرائيل الذي طلب مِن إبراهيم أنْ يضرب بفأسه في كلِّ زاوية مِن الزوايا الأربع، في قعر البئر، وأنْ يذكر اسم الله في كلِّ مَرَّة يضرب فيها بمِعوله، وكان إبراهيم يفعل ذلك، فكان الماء يتدفَّق مِن كلِّ زاوية مِن زوايا البئر.

فقال جبرائيل: (يا إبراهيم، اشرب الآن مِن ماء البئر وادع لولدك بالبركة)، ثمَّ خرج إبراهيم وجبرائيل مِن البئر.

وفي فترة كانت قبيلة جُرهم تُسيطر على مدينة مَكَّة، وتتولَّى سَدانة الحرم الإلهي، حيث كان المسؤولون عن شؤون الكعبة، يستلمون الهدايا والقرابين، التي كان الناس في الجاهليَّة يهدونها ويُقدِّمونها إلى آلهتهم، التي كانت موجودة في داخل الكعبة، ويحتفظون بها في مكان خاصٍّ يخضع لإشرافهم.

كان في الكعبة غَزالان مِن ذهب، وخمسة أسياف فلمَّا غلبت خُزاعة جُرهم على

١٠٣

الحرم، ألقت جُرهم الأسياف والغزالين في بِئر زمزم، وألقوا فيها الحِجارة، وطمُّوها وعموا أثرها، فلمَّا غلب قُصي على خُزاعة، لم يعرفوا موضع زمزم وعَمِيَ عليهم، وبقي مكان بئر زمزم مجهولاً لا يعرفه أحد، حتى جاء دور السيادة لعبد المُطَّلب جَدِّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي كان يحظى بمكانةٍ عظيمة، وموقعٍ اجتماعيٍّ كبيرٍ بين القبائل العربيَّة في ذلك الوقت؛ بحيث إنَّهم كانوا يفرشون له البساط لكي يستريح عليه في ظِلِّ جِدار الكعبة، ولم يكونوا يفعلون ذلك لأحدٍ مِن قبله، وفي إحدى المَرَّات، عندما كان عبد المُطَّلب نائماً عند جدار الكعبة، رأى في المنام أنَّ شَخصاً جاء إليه، وقال له: احفر زمزم واعلم أنَّه يوجد في مكان زمزم غُراب أبيض الجناحين، ووَكر للنمل، وكان بالفعل يوجد في مكان بئر زمزم صخرة، تحتها وَكْر للنمل، وفي النهار عندما كان النمل يخرج مِن وكره، كان يأتي غراب أبيض الجناح، ويلتقط النمل بمنقاره ويأكله.

وقد عرف عبد المُطَّلب مكان بئر زمزم، استناداً إلى تلك الرُّؤيا الحقيقية؛ فقام هو وأبناؤه بحفر ذلك المكان، وأزالوا عنه الحِجارة والرِّمال، حتَّى عثروا على الماء، فكبَّروا الله.

مِن خلال هذه الرُّؤيا ظهر مكان بئر زمزم، الذي كان يجهله الناس في ذلك الوقت، ظهر بصورة حقيقيَّة كما هو، وتعرَّف عبد المُطَّلب - بموجب تلك الرُّؤيا - على مكان البئر المجهول، وأُلهِم بحقيقة كانت مَخفيَّة وغير معروفة، دون أنْ تكون هناك حاجة إلى تفسير هذه الرؤيا (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٤

عبد المُطَّلب وحُلْم الشجرة التي تنبت في ظهره

كان عبد المُطَّلب في إحدى الليالي إلى جانب الكعبة، بالقُرب مِن الحَجر الأسود، فرأى حُلْماً بَدَّاً عَجيباً بنظره، فسيطر عليه الخوف والهلع؛ فذهب إلى أحد مُفسِّري الأحلام، وأخبره بما رآه في المنام، وقال: رأيت في المنام أنَّ شجرة نبتت في ظهري، امتدَّت أغصانها إلى عِنان السماء، وغطَّت أوراقها وأغصانها الشرق والغرب، ثمَّ رأيت نوراً ينبعث مِن تلك الشجرة، وهو أكثر بريقاً مِن نور الشمس وضوئها، ورأيت الناس مِن العرب والعَجم يسجدون لهذه الشجرة، وكلُّ يوم كان يمرُّ كانت هذه الشجرة تزداد نوراً، ورأيت أنَّ جماعة مِن قريش جاءت لكي تجتثُّ تلك الشجرة، وتقتلعها مِن جذورها، ولكنْ كلَّما اقتربوا مِن تلك الشجرة بهدف الإساءة إليها، كان يظهر شابٌّ حَسَن الملبس والمظهر، فيصدُّهم عنها، ويقصم ظهورهم، ويقتلع عيونهم، وقد مدْدْت يدي لكي آخذ غِصناً مِن أغصانها؛ فصاح بي الشابُّ الوسيم قائلاً: أنْ أيضاً ليس لك نصيب مِن هذه الشجرة، فقلت له: ومَن هم الذين لهم نصيب منها؟

فقال: إنَّ هذه الشجرة هي مِلك للذين يتمسَّكون بها، ويُمسكون بأغصانها؛ فتغيَّر وجه الشخص الذي كان يستمع إلى هذه الرؤيا مِن عبد المُطَّلب واضطربت أحواله.

ثمَّ قال: لئِن صدقت، ليخرجَنَّ مِن صُلْبك وَلد يَمْلك الشرق والغرب، ويُنبِّأ في الناس... وكان أبو طالب يُحدِّث بهذا الحديث، والنبي قد خرج ويقول: كانت الشجرة - والله - أبا القاسم الأمين.

ووفقاً لما قاله الشخص، الذي فسَّر هذه الرؤيا، فإنَّ الرؤيا المذكورة تتضمَّن مجموعة مِن الأنباء الغيبيَّة، بدأت تتحقَّق بصورة تدريجيَّة بعد ذلك بعشرات السنين، ففي بداية الأمر يُرزَق عبد المُطَّلب بولدٍ.

١٠٥

وثانياً: هذا الولد يَحُكم الشرق والغرب.

وثالثاً: يقوم بنشر وترويج التعاليم الإلهيَّة بين الناس.

ورابعاً: هذا المولود يرتفع نجمه، وتزداد شُهرته، وتتعزَّز مكانته يوماً بعد يوم.

خامساً: مجموعة مِن قريش تبدأ في مُناهضته ومُعارضة رسالته، وبالتالي فهي تسعى للقضاء عليه.

سادساً: إنَّ شابَّاً ينبري للدفاع عن هذه الشجرة، ويقضي على المُعارضين، وهذا الشاب ليس سوى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

سابعاً: إنَّ يَد عبد المُطَّلب لا تصل إلى أغصان الشجرة؛ لأنَّه يُفارق الحياة قبل أنْ يُبعث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٦

إيَّاكم وتعلُّم النجوم إلاَّ ما يُهتدى به في بَرٍّ أو بحر

عندما أعدَّ عليٌّ (عليه السلام) جنوده لمُحاربة الخوارج، واستعدَّ للانطلاق، تقدَّم إليه رجل، وقال له: إذا ذهبت إلى الحرب في هذا الوقت بالذات، أخاف أنْ لا تحقَّق هدفك، وتعود مُنهزماً، وقد عرفت ذلك عن طريق الحسابات الفلكيَّة، والتدقيق في أوضاع الكواكب والنجوم في السماء.

فقال (عليه السلام): (أتزعم أنَّك تهدي إلى الساعة، التي مَن سار فيها صُرِف عنه السوء، وتُخوِّف مِن الساعة، التي مَن سار فيها حاق به الضُّرُّ؟! فمَن صَدَّقك بهذا؛ فقد كَذَّب القرآن؛ واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المَحبوب، ودفع المكروه، وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أنْ يُولْيك الحمد دون رَبِّه؛ لأنَّك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فهيا النفع وأمن الضُّرَّ).

ثمَّ أقبل (عليه السلام) على الناس فقال: (أيُّها الناس، إيَّاكم وتعلُّم النجوم، إلاَّ ما يُهتدى به في بَرٍّ أو بحرٍ؛ فإنَّها تدعو إلى الكَهانة، والمُنجِّم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم الله) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٧

ما مؤمن يموت..

إلاَّ قيل لروحه: الحَقْي بوادي السلام

عن حبَّة العَرني قال: خرجت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الظهر، فوقف بوادي السلام، كأنَّه مُخاطب لأقوام، فقُمت بقيامه حتَّى أعييت، ثمَّ جلست حتَّى مَلَلت، ثمَّ قُمت حتَّى نالني مِثل ما نالني أوَّلاً، ثمَّ جلست حتَّى مَلَلت، ثمَّ قُمت وجمعت ردائي، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنِّي قد أشفقت عليك مِن طول القيام فراحة ساعة.

ثمَّ طرحت الرداء ليجلِس عليه، فقال لي: (يا حبَّة، إنْ هو إلاّ مُحادثة مؤمن أو مُؤانسته).

قلت: يا أمير المؤمنين، وإنَّهم لكذلك؟!

قال: (نعم، ولو كُشِف لك لرأيتهم حلقاً حلقاً، مُحتَبين يتحادثون).

فقلت: أجسام أمْ أرواح؟

فقال: (أرواح، وما مؤمن يموت في بُقعة مِن بِقاع الأرض، إلاَّ قيل لروحه: الحقي بوادي السلام، وإنَّها لبُقعة مِن جَنَّة عَدْنٍ) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٨

سلمان وتكليم المَيِّت له

عيَّن أمير المؤمنين (عليه السلام) سلمان الفارسي والياً على المَدائن.

ويقول أصبغ بن نُباتة: كنت مع سلمان في المدائن، وكنت أُكثِر مِن زيارته ولقائه. وفي أحد الأيَّام ذهبت لعيادته عندما كان مريضاً، وهو المرض الذي أودى بحياته في نهاية الأمر، وكنت أعوده باستمرار، وأسأل عن حاله وشيئاً فشيئاً اشتدَّ به المرض، وأيقن بالموت، فالتفت إليَّ وقال لي: يا أصبغ، عهدي برسول الله يقول: (يا سلمان، سيُكلِّمك مَيِّت إذا دنت وفاتك)، وقد اشتهيت أنْ أدري أدنت أم لا؟.

فقال أصبغ: يا سلمان، اطلب ما تُريده فسأُنجزه لك.

فقال: تذهب الآن، وتُحضِر لي تابوتاً، وتفرش في داخله نفس البساط الذي يُفرش للموتى عندما يوضعون داخل التابوت، ومِن ثمَّ تُحضر معك أربعة أشخاص، فتحملوني إلى المقبرة، فقام أصبغ على عَجَلٍ، وعاد بعد ساعة وقد أحضر كلَّ ما طلبه منه سلمان الفارسي، وفعل كلَّ ما أمره به، وحمله إلى المقبرة، وعندما وصل إلى هناك وضع التابوت على الأرض.

فقال سلمان: ضعوني أمام القبلة؛ ففعلوا ذلك، عندها نادى سلمان بأعلى صوته:

السلام عليكم يا أهل عَرصة البلاء، السلام عليكم يا مُحتجبين عن الدنيا، فلم يسمع جواباً. ثمَّ كرَّر السلام عليهم قائلاً:

أقسمتكم بالله وبرسوله الكريم، أنْ يُجيبني واحد منكم، فأنا سلمان الفارسي صاحب رسول الله، وهو الذي أخبرني: بأنَّه إذا دنا أجلي، فإنَّ مَيِّتاً سيُكلِّمني، وإنِّي أُريد أنْ أعرف هل دنا أجلي أم لا؟

عندها سمع سلمان الجواب مِن الروح الذي رَدَّ السلام، وقال لسلمان:

لقد سمعنا كلامك، فاسأل ما تُريد.

١٠٩

فسأل سلمان الروح قائلاً: هل أنت مِن أهل الجَنَّة أمْ مِن أهل النار؟

فقال الروح: بلْ أنا مِن الذين شملتهم الرَّحمة والمَغفرة الإلهيَّة وفازا بالجَنَّة.

ثمَّ سأل سلمان الروح عن كيفيَّة مُفارقته الدنيا، وعن الأوضاع بعد الموت، وكان الروح يُجيب على أسئلة سلمان الفارسي واحداً واحداً، وبعد أنْ انتهى الحديث بين سلمان والروح، أخرجوه مِن التابوت، ووضعوه على الأرض فتوجَّه سلمان إلى الله قائلاً:

يا مَن بيده ملكوت كلِّ شيء، وإليه تُرجعون، وهو يُجير ولا يُجار عليه، بك آمنت ولنبيِّك اتَّبعت، وبكتابك صدقت، وقد أتاني ما وعدتني، يا مَن لا يُخلف الميعاد اقبضني إلى رحمتك، وأنزلني دار كرامتك (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٠

صَفاء الروح وقوَّة الحُلْم

قبل سنوات عديدة، كان يعيش في إحدى مُدن إيران رجل شريف ومؤمن، وكان ولده الأكبر أيضاً رجلاً صالحاً ومؤمناً، كوالده وكان الأب والابن يعيشان في منزلٍ عاديٍّ، في وضع ماديٍّ صعب؛ حيث كانا يقتصدان كثيراً في النفقات؛ لكي يُحافظا على سُمعتهما، ولا يمدَّا يد الحاجة إلى الآخرين، وقد بلغ بهما الوضع حَدَّاً، بحيث إنَّهما صارا يستعملا ماء الحنفيَّة في المنزل للشرب والطبخ فقط. أمَّا لغسل الملابس ومَلء الحوض الموجود في باحة المنزل، وسقي حديقة المنزل، فإنَّهما كانا يستعملان ماء البئر، كما أنَّهما قاما ببناء غرفة صغيرة فوق البئر؛ لكي تقي الأشخاص الذين يُريدون إخراج الماء، مِن البئر الحَرَّ، وأشعَّة الشمس المُحرقة في فصل الصيف، والبرد والأمطار والثلوج في فصل الشتاء، كما أنَّ وجود مِثل هذه الغرفة الصغيرة، يمنع سقوط الأجسام الغريبة، والقاذورات، والأحجار، وغيرها في داخل البئر، وبالتالي تُحافظ على نظافة البئر.

لقد كان الأب وابنه يقومان - بنفسهما - بسحب الماء مِن البئر، ولم يستأجرا أحداً للقيام بهذا العمل.

وفي أحد الأيَّام، لاحظ الأب وابنه أنَّ الطبقة الطينيَّة، التي تُغطِّي سقف هذه الغرفة مِن الداخل، يُمكن أنْ تسقط على الأرض، أو في داخل البئر، أو يُمكن أنْ تسقط على رأس أحد، يُصادف وجوده في الغرفة في تلك اللحظة، ونظراً لأنَّهما لا يملكان المال اللازم لاستخدام عمَّال بناء، يقومون بصيانة السقف وترميمه، فقد قررَّا أنْ يقوما بنفسيهما بهذا العمل في يوم عطلة.

وبالفعل قاما في اليوم المُتَّفق عليه بتغطية فوهة البئر، بقطع الأخشاب، وقطعة مِن البساط، وبدءا بإزالة الطبقة الطينيَّة مِن السقف، وقاما بتجميع هذه القطع في باحة

١١١

المنزل، وصبَّا عليها الماء، حتَّى أصبحت ليِّنة طريَّة، وأخذ الأب يقوم بعمل البناء، وابنه يُناوله الطين، حتَّى انتهى الأب مِن تغطية سقف الغرفة بأكمله، بالطين المخلوط بالقَشِّ أو التبن، وبعد انتهاء العمل لاحظ الأب أنَّ خاتمه ليس موجوداً في إصبعه، فاعتقد في بادئ الأمر أنَّه نسيه إلى جانب الحوض، عندما كان يغسل يديه، ولكنَّه لم يعثر عليه هناك.

وظلَّ الأب يبحث عن خاتمه، على مدى يومين كاملين في كلِّ مكان، ولكنَّه لم يعثر على أيِّ أثرٍ، وتأثَّر كثيراً لضياع خاتمه، ويئس مِن إمكانيَّة العثور عليه، وظلَّ لفترة مِن الوقت يتحدَّث مع أهله وعياله عن الخاتم المفقود، وكان يتأسَّف كثيراً على ذلك، وبعد عِدَّة سنوات مِن هذه القضيَّة توفِّي الأب إثر نوبة قلبيَّة.

يقول الابن: بعد فترة مِن وفاة والدي، رأيته يوماً في المنام، وكنت أعلم أنَّه ميِّت، فاقترب مِنِّي، وسلَّم عليَّ، وسألني عن أحوالي، ثمَّ قال لي: يا ولدي، إنَّني مَدينٌ للشخص الفلاني بخمسمائة تومان، فأرجو أن تخلصني مِن العذاب.

استيقظ الولد مِن نومه، ولم يكترث بالحُلْم الذي رآه، ولم يعمل بما طلبه منه أبوه، وبعد فترة رأى الابن والده مَرَّة أُخرى في المنام، وكرَّر ما سبق أنْ طلبه منه، وعاتبه على عدم تلبية طلبه، فقال له الابن - وهو في المنام ويعلم أنَّ والده مَيِّت ـ: أعطني عَلامة؛ حتَّى أطمئن بأنَّك والدي.

قال له: أتذكر قبل عِدَّة سنوات، أنَّنا قُمنا - معاً - بتغطية سقف غرفة البئر بالطين، وبعدها اكتشفت أنَّ خاتمي مفقود، وبحثنا عنه في كلِّ مكان، فلم نعثر عليه.

قال الابن: نعم، أذكر ذلك.

قال الأب: إنَّ الشخص عندما يموت، تتَّضح له كثير مِن القضايا والأُمور المجهولة، فلقد عرفت بعد موتي أنَّ خاتمي أضعته داخل الطين الذي أصلحت به سقف الغرف، حيث انزلق الخَاتم مِن إصبعي عندما كنت أعِجن الطين وأقلبه. ولكي

١١٢

تطمئنَّ بأنِّي أبوك الذي أتحدَّث معك، عليك أنْ تُزيل الطين مِن السقف وتخلطه بالماء، حتَّى يُصبح طريَّاً عندها سوف تعثر على الخاتم.

في الصباح نفَّذ الولد ما قاله له أبوه، دون أنْ يُخبر أحداً بالأمر، فعثر بالفعل على خاتم والده.

يقول الابن: بعد ذلك ذهبت إلى السوق، للشخص الذي أخبرني به والدي، فسلَّمت عليه وسألته عن حاله، ثمَّ قلت له: هل أنَّ والدي مَدينٌ لك بمبلغ مِن المال؟

قال الرجل صاحب الدُّكَّان: لماذا تسأل مِثل هذا السؤال؟

قلت: أُريد أنْ أعرف حقيقة الأمر.

قال: أطلب والدك بخمسمائة تومان.

سألته: كيف كان ذلك؟

قال: جاءني أبوك يوماً إلى هنا، وطلب مِنِّي قرضاً بمبلغ خمسمائة تومان، فأعطيته المبلغ دون أنْ آخذ منه إيصالاً بذلك، وبعد فترة توفِّي والدك بالنوبة القلبيَّة.

ـ لماذا لم تُطالب بقرضك؟

قال الرجل: لأنِّي لم أكُن أملك وثيقة أو إيصالاً، ورأيت أنَّ مِن غير المُناسب أنْ أُطالب بالمبلغ، فقد لا تصدِّقونني.

سلَّم الابن المبلغ المذكور إلى الدائن صاحب الدُّكَّان، ونقل له القِصَّة مِن أوَّلها إلى آخرها (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٣

توقَّع الموت صباحاً ومساءً

جاء موسى العطَّار إلى أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، فقال له: يا ابن رسول الله، رأيت رؤيا هالتني: رأيت صِهراً لي مَيِّتاً، وقد عانقني، وقد خِفت أنْ يكون الأجل قد اقترب.

فقال: (يا موسى، توقَّع الموت صباحاً ومساءً؛ فإنَّه مُلاقينا، ومُعانقة الأموات الأحياء أطول لأعمارهم فما كان اسم صِهرك؟).

قال: حسين.

فقال: (أمَّا رؤياك تدلُّ على بقائك وزيارتك لأبي عبد الله الحسين { عليه السلام }) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٤

ليس هناك ليلٌ وإنَّما هو ضوء ونور

قال رجل: يا رسول الله، هل في الجَنَّة مِن ليلٍ؟

قال: (وما هيَّجك على هذا؟).

قال: سمعت الله يذكر في الكتاب: ( ... وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) (مريم)، والليل مِن البُّكْرة والعَشيِّ.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ليس هناك ليلٌ، وإنَّما هو ضوء ونور يَرد الغُدوَّ على الرواح والرواح على الغدوِّ، وتأتيهم طرف الهدايا مِن الله لمواقيت الصلوات، التي كانوا يُصلُّون فيها في الدنيا، وتُسلِّم عليهم الملائكة) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٥

امرأة تدخل النار في هِرَّة حبستها

وأُخرى تدخل الجَنَّة في كلب سقته

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (اطَّلعت ليلة الإسراء على النار فرأيت امرأة تُعذَّب، فسألت عنها: فقيل: إنَّها ربطت هِرَّة، ولم تُطعمها، ولم تُسقها، ولم تدعها تأكل مِن خَشاش الأرض حتَّى ماتت، فعذَّبها بها بذلك.

واطَّلعت على الجَنَّة، فرأيت امرأة مومس، فسألت عنها: فقيل: إنَّها مَرَّت بكلب يلهث مِن العطش، فأرسلت إزارها في بئر، فعصرته في حلقه حتَّى روي فغفر الله لها) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٦

البئر صدقة

خَرج سعد يُرافقه عدد مِن الأشخاص يوماً مِن المدينة، مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في طريقهم إلى الحرب، وكانت أُمُّ سعد مريضة، حيث فارقت الحياة أثناء غياب ابنها، وكان سعد مُقاتلاً في جيش الإسلام ويُحبُّ والدته كثيراً، وعندما سمع بوفاتها لدى عودته تأثَّر كثيراً، فجاء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له: أردت قبل سفري أنْ أُعطي صدقة عن والدتي، ولكنِّي لم أستطع، والآن حيث فارقت والدتي الدنيا هل ينفعها إذا قدَّمت صدقة عنها؟

فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (نعم).

فقال سعد: ما هي أفضل صدقة أُقدِّمها لها؟

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لقد رأيت أنَّ الجنود يُعانون أثناء الطريق مِن شَحَّة الماء، فبإمكانك أنْ تحفر بئراً في الطريق؛ لكي تستفيد منه القوافل التي تمرُّ مِن هناك، وتكون صدقة جارية لوالدتك).

فقام سعد - استجابة لأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - بحفر بئر على نيَّة والدته، وأسماه: بئر أُمَّ سعد وجعلها وقفاً للجميع (1).

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٧

غفر لك بالخوف فانظر كيف تكون فيما تستقبل

عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (صلوات الله عليهما) قال: (إنَّ رجلاً ركب البحر بأهله، فكُسر بهم فلم ينجُ مِمَّن كان في السفينة إلاَّ امرأة الرجل، فإنَّها نجت على لوح مِن ألواح السفينة، حتَّى لجأت إلى جزيرة مِن جُزر البحر، وكان في تلك الجزيرة رجل يقطع الطريق، ولم يَدَعْ لله حُرمَة إلاَّ وانتهكها، فلم يعلم إلاَّ والمرأة قائمة على رأسه، فرفع رأسه إليها، فقال: إنسيَّة أمْ جِنِّيَّة؟

قالت: إنسيَّة.

فلم يكلِّمها كلمة، حتَّى جلس منها مجلس الرجل مِن أهله، فلمَّا أنْ همَّ بها اضطربت، فقال لها: ما لك تضطربين؟

قالت: أفرق مِن هذا، وأومأت بيدها إلى السماء.

قال: وما صنعتِ مِن هذا الشيء، وإنَّما أستكرِهُك استكراهاً، فأنا - والله - أولى بهذا الفَرق والخوف أحقُّ منك.

[ قال: ] فقام ولم يُحدِث شيئاً، ورجع إلى أهله، وليست له هِمَّة إلاَّ التوبة والمُراجعة.

فبينا هو يمشي، إذ صادفه راهب يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشمس، فقال الراهب للشابِّ: ادعُ الله يُظلُّنا بغَمامة، فقد حَميت علنيا الشمس.

فقال الشابُّ: ما أعلم أنَّ لي عند رَبِّي حسنة، فأتجاسر على أنْ أسأله شيئاً.

قال: فأدعو أنا، وتؤمِّن أنت؟

قال: نعم.

فأقبل الراهب يدعو والشابُّ يؤمِّن، فما كان بأسرع مِن أنْ أظلَّتهما غَمامة، فمشيا

١١٨

تحتها مَليَّاً مِن النهار، ثمَّ تفرَّقت الجادَّة جادَّتين، فأخذ الشابُّ في واحدة، وأخذ الراهب في واحدة، فإذا السحابة مع الشابِّ، فقال الراهب: أنت خيرٌ مِنِّي، لك استُجيب، ولم يُستجَب لي، فأخبرني ما قِصَّتك، فأخبره بخبر المرأة.

فقال: غُفر لك ما مضى؛ حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٩

المرء مع مَن أحبَّ

عن أنس قال: جاء رجل مِن أهل البادية - وكان يُعجبنا أنْ يأتي الرجل مِن أهل البادية يسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - فقال يا رسول الله: متى قيام الساعة؟

فحضرت الصلاة، فلمَّا قضى (صلى الله عليه وآله وسلم) صلاته، قال: (أين السائل عن الساعة؟).

قال: أنا يا رسول الله.

قال: (أعددت لها؟).

قال: والله، ما أعددت لها مِن كثيرِ عملٍ، صلاة ولا صوم، إلاَّ أنِّي أُحبُّ الله ورسوله.

فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): (المرء مع مَن أحبَّ).

قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء أشدُّ مِن فرحهم بهذا (1) .

____________________

(1) المعاد، ج3.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الحسد والبغضاء في بعض النفوس الضعيفة فيسعون ضدّهم عند السلطان ويظهرونهم كمجموعة اجنبية تحاول العبث بأمن البلد ونظامه ، فحاول يعقوبعليه‌السلام ان يجنبهم بنصيحته عن هذه المشاكل.

وأخيرا حاول بعض المفسّرين تأويل الآية بمعنى قد يعد ذوقيا قال : انّ يعقوب بنصيحته تلك أراد ان يعلم أولاده دستورا اجتماعيا هامّا ، وهو انّ على الإنسان ان يبحث عن ضالّته بطرق عديدة وسبل شتّى بحيث لو سدّ طريق بوجهه لكان بمقدوره البحث عنها من طرق اخرى حيث سيكون النصر حليفه في النهاية ، امّا إذا حاول الوصول الى هدفه بانتهاجه طريقا واحدا فقط ، فقد يصطدم في اوّل الطريق بعائق يمنعه عن الوصول فعند ذلك يستولي عليه اليأس ويترك السعي اليه.

واصل الاخوة سيرهم نحو مصر ، وبعد ان قطعوا مسافة طويلة وشاسعة بين كنعان ومصر دخلوا الاراضي المصرية ، وعند ذاك( وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ) فهم برغم تفرّقهم الى جماعات صغيرة ـ طبقا لما وصّاهم به أبوهم ـ فإنّ الفائدة والثمرة الوحيدة التي ترتّبت على تلك النصيحة ليس (الّا حاجة في نفس يعقوب قضاها) وهذه اشارة الى انّ اثرها لم يكن سوى الهدوء والطمأنينة التي استولت على قلب الأب الحنون الذي بعد عنه أولاده ، وبقي ذهنه وفكره مشغولا بهم وبسلامتهم وخائفا عليهم من كيد الحاسدين وشرور الطامعين ، فما كان يتسلّى به في تلك الايّام لم يكن سوى يقينه القلبي بأنّ أولاده سوف يعملون بنصيحته.

ثمّ يستمرّ القرآن في مدح يعقوب ووصفه بقوله :( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) وهذه اشارة الى انّ كثيرا من الناس يتيهون في الأسباب وينسون قدرة الله سبحانه وتعالى ويتصوّرون انّ ما يصيب الإنسان من الشرور انّما هو من الآثار الملازمة لبعض العيون فيتوسلّون بغير الله سبحانه

٢٦١

وتعالى لدفع هذه الشرور ويغفلون عن التوكّل على الله سبحانه وتعالى والاعتماد عليه ، الّا انّ يعقوب كان عالما بأنّه بدون ارادة الله سبحانه وتعالى لا يحدث شيء ، فكان يتوكّل في الدرجة الاولى على الله سبحانه وتعالى ويعتمد عليه ، ثمّ يبحث عن عالم الأسباب ومن هنا نرى في الآية (١٠٢) من سورة البقرة انّ القرآن يصف سحرة بابل وكهنتها بأنّهم( وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) وهذه اشارة الى انّ القادر الوحيد هو الله سبحانه وتعالى ، فلا بدّ من الاعتماد والاتّكال عليه لا على سواه.

* * *

٢٦٢

الآيات

( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) )

التّفسير

يوسف يخطّط للاحتفاظ بأخيه :

وأخيرا دخل الاخوة على يوسف واعلموه بأنّهم قد نفّذوا طلبته واصطحبوا

٢٦٣

معهم أخاهم الصغير برغم امتناع الأب في البداية ، ولكنّهم اصرّوا عليه وانتزعوا منه الموافقة لكي يثبتوا لك انّهم قد وفوا بالعهد ، امّا يوسف فإنّه قد استقبلهم بحفاوة وكرم بالغين ودعاهم لتناول الطعام على مائدته ، فأمر ان يجلس كلّ اثنين منهم على طبق من الطعام ، ففعلوا وجلس كلّ واحد منهم بجنب أخيه على الطعام ، وبقي بنيامين وحيدا فتألّم من وحدته وبكى وقال : لو كان اخي يوسف حيّا لعطف عليّ ولاجلسني الى جنبه على المائدة لانّنا اخوة من أب واحد وامّ واحدة ، قال يوسف مخاطبا ايّاهم : إنّ أخاكم بقي وحيدا وانّني سأجلسه بجنبي على المائدة ونأكل سويّة من الطعام ، ثمّ بعد ذلك امر يوسف بأن تهيّأ لهم الغرف ليستريحوا فيها ويناموا ، ومرّة اخرى بقي بنيامين وحيدا ، فاستدعاه يوسف إلى غرفته وبسط له الفراش الى جنبه ، لكنّه لاحظ في تقاسيم وجهه الحزن والألم وسمعه يذكر أخاه المفقود (يوسف) متأوّها ، عند ذلك نفذ صبر يوسف وكشف عن حقيقة نفسه ، والقرآن الكريم يصف هذه الوقائع بقوله :( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

قوله تعالى( فَلا تَبْتَئِسْ ) مأخوذ من مادّة (البؤس) وهو اصل بمعنى الضرر والشدّة ، لكن في الآية الشريفة استعملت بمعنى : لا تسلط الغمّ على نفسك ولا تكن حزينا من معاملتهم لك ، والمراد بقوله «يعملون» هو معاملة الاخوة السيّئة لأخيهم بنيامين حيث خطّطوا لإبعاده وطرده من بينهم كما فعلوا بيوسف ـ فقال يوسف لأخيه : لا تحزن فإنّ المحاولات التي قاموا بها لالحاق الضرر بي قد انقلبت الى خير وسعادة ورفعة لي ، إذا لا تحزن وكن على يقين بأنّ محاولاتهم سوف تذهب ادراج الرياح.

وتقول بعض الرّوايات : انّه عند ذاك اقترح يوسف على أخيه بنيامين وقال له : هل تودّ ان تبقى عندي ولا تعود معهم؟

٢٦٤

قال بنيامين : نعم ، ولكن اخوتي لا يوافقون على ذلك ، لانّهم قد اعطوا أبي العهود والمواثيق المغلّظة بأن يرجعوني اليه سالما.

قال يوسف : لا تهتمّ بهذا الأمر فإنّي سوف أضع خطّة محكمة بحيث يضطرّون لتركك عندي والرجوع دونك.

وبدا يوسف بتنفيذ الخطّة ، وامر بأن يعطي لكلّ واحد منهم حصّة من الطعام والحبوب ثمّ عند ذاك( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ) .

لا شكّ في أنّ يوسف قام بهذا العمل بسرية تامّة ، ولعلّه لم يطّلع على هذه الخطّة سوى موظّف واحد وعند ذاك افتقد العاملون على تزويد الناس بالمؤونة الكيل الملكي الخاص ، وبحث عنه الموظّفون والعمّال كثيرا لكن دون جدوى وحينئذ( أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) .

وحينما سمع اخوة يوسف هذا النداء ارتعدت فرائصهم واستولى عليهم الخوف ، حيث لم يخطر ببالهم ان يتّهموا بالسرقة بعد الحفاوة التي قوبلوا بها من جانب يوسف ، فتوجّهوا الى الموظفين والعمال وقالوا لهم : ماذا فقدتم؟( قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ ) .

قالوا : قد فقدنا صواع الملك ونظنّ انّه عندكم( قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) وبما انّ الصواع ثمين ومورد علاقة الملك فانّ لمن يعثر عليه جائزة ، وهي حمل بعير من الطعام( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) ، ثمّ أضاف المؤذّن والمسؤول عن البحث عن الصواع المفقود : انّني شخصيّا اضمن هذه الجائزة( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) .

فاشتدّ اضطراب الاخوة لسماعهم هذه الأمور وزادت مخاوفهم ، وتوجّهوا الى الموظّف مخاطبين ايّاه( قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ ) .

قولهم (لقد علمتم ما جئنا الى آخره) لعلّه اشارة الى ما قصده الاخوة في خطابهم للموظفين من انّكم قد وقفتم على حسن نيّتنا في المرّة السابقة حيث

٢٦٥

جئناكم وقد وضعتم الأموال التي دفعناها إليكم ثمنا للطعام في رحالنا ، لكنّنا رجعنا إليكم مرّة ثانية ، فلا يعقل انّنا وقد قطعنا المسافات البعيدة للوصول الى بلدكم نقوم بعمل قبيح ونسرق الصواع؟

اضافة الى هذا فقد ورد في بعض المصادر انّ الاخوة حينما دخلوا ارض مصر ألجموا جمالهم ليمنعوها من التطاول والتعدّي على المزارع واموال الناس ، فمثلنا الحريص على اموال الناس كيف يعقل ان يقوم بهذا العمل القبيح؟ الّا انّ الموظفين توجّهوا إليهم و( قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) .

أجاب الاخوة : إنّه عقاب من وجد الصواع في رحله هو ان يؤخذ الشخص نفسه بدل الصواع( قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ) وانّ هذا العقاب هو جزاء السارق( كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) .

وحينئذ امر يوسف الموظفين والعمال بأنّ تنزل رحالهم من على ظهور الجمال ويفتح متاعهم وان يبحثوا فيها واحدا بعد واحد ودون استثناء ، وتجنّبا عن انكشاف الخطّة امر يوسف بأن يبداوا البحث والتفتيش في امتعة الاخوة اوّلا قبل امتعة أخيه بنيامين ، لكنّهم وجدوه أخيرا في امتعة بنيامين( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ) .

بعد ان عثر على الصاع في متاع بنيامين ، استولى الارتباك والدهشة على الاخوة ، وصعقتهم هذه الواقعة ورأوا أنفسهم في حيرة غريبة ، فمن جهة قام أخوهم بعمل قبيح وسرق صواع الملك ، وهذا يعود عليهم بالخزي والعار ، ومن جهة اخرى انّ هذا العمل سوف يفقدهم اعتبارهم ونفوذهم عند الملك خصوصا مع حاجتهم الشديدة الى الطعام ، واضافة الى كلّ هذا ، كيف يجيبون على استفسارات أبيهم؟ وكيف يقنعونه بذنب ابنه وعدم تقصيرهم في ذلك؟

قال بعض المفسّرين : انّه بعد ان عثر على الصاع توجّه الاخوة الى بنيامين وعاتبوه عتابا شديدا ، فقالوا له : الا تخجل من فعلك القبيح قد فضحتنا وفضحت

٢٦٦

أباك يعقوب ، وآل يعقوب قل لنا كيف سرقت الصاع ووضعته في رحلك؟

أجابهم بنيامين ببرود ، حيث كان عالما بالقضيّة واسرارها : انّ الذي قام بهذا العمل ووضع الصواع في رحلي ، هو نفسه الذي وضع الأموال في متاعكم في المرّة السابقة ، لكن الاخوة لم ينتبهوا ـ لهول الواقعة عليهم ـ لمغزى كلام بنيامين(١) .

ثمّ يستمرّ القرآن الكريم ويبيّن كيف استطاع يوسف ان يأخذ أخاه بالخطّة التي رسمها الله له دون ان يثير في اخوته اي نوع من المقاومة والرفض( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) .

والأمر المهمّ في هذه القضيّة هو انّه لو أراد يوسف ان يعاقب أخاه بنيامين ، وطبقا للقانون المصري ـ لكان عليه ان يضرب أخاه ويودعه السجن لكن مثل هذه المعاملة كانت تخالف رغبات واهداف يوسف للاحتفاظ بأخيه ، ومن هنا وقبل القبض على بنيامين ، سأل اخوته عن عقوبة السارق عندهم ، فاعترفوا عنده بأنّ السنة المتّبعة عندهم في معاقبة السارق ان يعمل السارق عند المعتدى عليه كالعبد.

لا ريب انّ للعقوبة والجزاء طرقا عديدة منها ان يعاقب المعتدي على طبق ما يعاقب به في قومه ، وهكذا عامل يوسف أخاه بنيامين ، وتوضيحا لهذه الحالة وانّ يوسف لم يكن بإمكانه أخذ أخيه طبقا للدستور المصري يقول القرآن الكريم :( ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ) لكن الله سبحانه وتعالى يستثني بقوله :( إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) وهو اشارة إلى أنّ ما فعله يوسف بأخيه لم يكن الّا بأمر منه سبحانه وتعالى وطبقا لإرادته في الاحتفاظ ببنيامين ، واستمرارا لامتحان يعقوب وأولاده.

وأخيرا يضيف القرآن الكريم ويقول : انّ الله سبحانه يرفع درجات من

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٢٥٣ ذيل الآية.

٢٦٧

استطاع ان يفوز في الامتحان ويخرج مرفوع الراس كما حدث ليوسف( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ) ولكن في كلّ الأحوال فانّ الله تعالى عليم يهدي الإنسان الى سواء السبيل وهو الذي أوقع هذه الخطّة في قلب يوسف وألهمه ايّاها( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) .

* * *

بحوث

الآيات السابقة تثير اسئلة كثيرة فلا بدّ من الاجابة عليها :

١ ـ لماذا لم يعترف يوسف بالحقيقة

لماذا لم يعترف يوسف بالحقيقة لإخوته لينهي ـ وفي اسرع وقت ممكن ـ مأساة أبيه وينجيه من العذاب الذي كان يعيشه؟

الجواب على هذا السؤال : هو ما مرّ علينا خلال البحث ، من انّ الهدف كان امتحان يعقوب وأولاده واختبار مدى تحمّلهم وصبرهم على الشدائد والمصائب ، وبتعبير آخر : لم تكن هذه الخطّة امرا عفويا دون تفكير ، وانّما نفذت طبقا لاوامر الله سبحانه وتعالى وارادته في اختبار يعقوب ومدى صبره على مصيبة فقد ثاني اعزّ أولاده ، لكي تكمل سلسلة الامتحانات ويفوز بالدرجات العالية التي يستحقّها ، كما كانت الخطّة اختبارا لأخوة يوسف في مدى تحمّلهم للمسؤولية وقدرتهم على حفظ العهد ومراعاة الامانة التي قطعوها مع أبيهم.

٢ ـ لماذا اتّهم يوسف أخاه؟

هل يجوز شرعا ان يتّهم الإنسان بريئا لم يرتكب ذنبا ، ولم تقتصر آثار هذه

٢٦٨

التّهمة على البريء وحده ، بل تشمل الآخرين من قريب او بعيد؟ كما هو الحال في يوسف حيث شمل اتّهامه الاخوة وسبب لهم مشاكل عديدة.

يمكن معرفة الجواب بعد وقوفنا على انّ توجيه هذه التّهمة لبنيامين كان باتّفاق مسبق بينه وبين يوسف ، وكان عارفا بأنّ هدف الخطّة وتوجيه التهمة اليه لأجل بقائه عند يوسف ، امّا بالنسبة للآثار السلبية المترتّبة على الاخوة فإنّ اتّهام بنيامين بالسرقة لم يكن في الواقع اتّهاما مباشرا لإخوته وإنّ سبب لهم بعض التشويش والقلق ولا مانع من ذلك بالنظر الى امتحان مهم.

٣ ـ لماذا اتّهام الجميع بالسرقة؟

مرّ علينا في الآية الشريفة قوله تعالى :( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) وهذه في الواقع تهمة موجّهة الى الجميع وهي تهمة كاذبة ، فما المسوغ والمجوّز الشرعي لمثل هذا الاتّهام الباطل؟

يمكن الاجابة على هذا السؤال في عدّة نقاط وهي :

اوّلا : انّ قائل هذه الجملة غير معلوم ، حيث ورد في القرآن انّه (قالوا ...) ولعلّ القائلين هم بعض الموظفين من عمّال يوسف والمسؤولين عن حماية خزائن الحبوب ، فهم حينما افتقدوا صواع الملك ، اطمأنّوا بأنّ السارق هو احد افراد القافلة القادمة من كنعان ، فوجّهوا الخطاب إليهم جميعا ، وهذا من الأمور الطبيعيّة ، فحينما يقوم شخص مجهول في ضمن مجموعة معيّنة بعمل ما ، فإنّ الخطاب يوجّه إليهم جميعا ويقال لهم : إنّكم فعلتم هذا العمل ، والمقصود إنّ احد هذا المجموعة او بعضها قد فعل كذا.

ثانيا : الطرف الذي وجّهت اليه التّهمة وهو بنيامين ، كان موافقا على توجيه هذه التهمة له ، لانّ التهمة كانت مقدّمة للخطّة المرسومة والتي كانت تنتهي ببقائه عند أخيه يوسف ، وامّا شمول الاتّهام لجميع الاخوة ودخولهم جميعا في دائرة

٢٦٩

الظنّ بالسرقة ، فإنّ كلّ ذلك كان اتّهاما مؤقتا حيث زالت بمجرّد التفتيش والعثور على الصواع وظهر المذنب الواقعي.

قال بعض المفسّرين : انّه قصد بالسرقة ـ فيما نسبوه الى اخوة يوسف ـ هو ما اقترفوه سابقا من سرقة الاخوة يوسف من أبيه ، لكن هذا التوجيه يتمّ إذا كانت التهمة قد وجهت إليهم من قبل يوسف ، لانّه كان عالما بالذنب الذي ارتكبوه ، ولعلّ ما ورد في ذيل الآية الشريفة يدلّ على ذلك ، حيث قال العمّال انّنا :( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) ومثل هذا الخطاب لا يتضمّن توجيه السرقة إليهم ، (ولكن الجواب الاوّل أصح ظاهرا).

٤ ـ عقوبة السرقة في تلك الازمنة

يستفاد من الآيات السابقة انّ عقوبة السرقة عند المصريين كانت تختلف عنها عند الكنعانيين ، فعند اخوة يوسف (آل يعقوب) ولعلّه عند الكنعانيين كانت العقوبة هي عبودية السارق (بصورة دائمة او مؤقتة) لأجل الذنب الذي اقترفه(١) .

لكن المصريين لم يجازوا السارق بالعبودية الدائمة او المؤقتة ، وانّما كانوا يعاقبون المذنب بالضرب المبرح او السجن ، وفي كلّ الأحوال لا يستفاد من قوله تعالى :( قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ) انّ الشرائع السّماوية كانت تحدّد عقوبة السارق بالعبودية ، ولعلّها كانت سنّة متّبعة عند بعض المجتمعات في تلك الازمنة ، وقد ذكر المؤرّخون في تاريخ العبودية انّ بعض المجتمعات التي كانت تدين بالشرائع الخرافية ، كانوا يعاقبون المدين العاجز عن سداد دينه بالعبودية للمدين.

__________________

(١) يقول الطبرسي في مجمع البيان ـ ذيل الآية ـ انّ السنّة المتّبعة لدى بعض المجتمعات في ذلك الزمان هو ان يصير السارق عبدا لمدّة سنة كاملة ، وذكر ايضا انّ اسرة يعقوب كانت ترى عبودية السارق بمقدار ما سرق (اي يعمل عندهم بذلك المقدار).

٢٧٠

٥ ـ السقاية او الصواع

يلاحظ في الآيات السابقة انّ الله سبحانه وتعالى يعبّر عن الكيل تارة ب (الصواع) واخرى ب (السقاية) ، والظاهر انّهما صفتان لشيء واحد ، حيث ورد في بعض المصادر انّ هذا الصاع كان في اوّل الأمر كأسا يسقى به الملك ، ثمّ حينما عمّ القحط والغلاء في مصر وصار الطعام والحبوب يوزّع على الناس حسب الحصص ، استعمل هذا الكأس الثمين لكيل الطعام وتوزيعه ، وذلك إظهارا لاهميّة الحبوب وترغيبا للناس في القناعة وعدم الإسراف في الطعام.

ثمّ انّ المفسّرين ذكروا أوصافا عديدة لهذا الصاع ، حيث قال بعضهم انّها كانت من الفضّة وقال آخرون : انّها كأس ذهبية ، وأضاف آخرون انّ الكأس كان مطعما بالجواهر والأحجار الكريمة ، وقد وردت في بعض الرّوايات الضعيفة إشارة الى هذه الأمور ، لكن ليس لنا دليل قطعي وصريح على صحة كلّ هذه المذكورات ، الّا ما قيل من انّ هذا الصاع كان في يوم من الايّام كأسا يسقى به ملك مصر ، ثمّ صار كيلا للطعام ، ومن البديهي انّه لا بدّ وان يكون لهذا الصاع صبغة رمزية واعتبارية للدلالة على اهمية الطعام وتحريض الناس على عدم الإسراف فيه ، إذ لا يعقل ان يكون الجهاز الذي يوزن به كلّ ما يحتاجه البلد من الطعام والحبوب ، هو مجرّد كأس كان يستعمله الملك في يوم من الايّام.

وأخيرا فقد مرّ علينا خلال البحث انّ يوسف قد اختير مشرفا على خزائن الدولة ، ومن الطبيعي ان يكون الصاع الملكي الثمين في حوزته ، فحينما حكم على بنيامين بالعبودية صار عبدا لمن كان الصاع في يده (اي يوسف) وهذه هي النتيجة التي كان يوسف قد خطّط لها.

* * *

٢٧١

الآيات

( قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) )

التّفسير

موقف اخوة يوسف :

وأخيرا اقتنع اخوة يوسف بأنّ أخاهم (بنيامين) قد ارتكب فعلا شنيعا وقبيحا وإنّه قد شوّه سمعتهم وخذلهم عند عزيز مصر ، فأرادوا ان يبرّئوا أنفسهم ويعيدوا ماء وجههم قالوا :( إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) اي انّه لو قام بالسرقة فهذا ليس بأمر عجيب منه فإنّ أخاه يوسف وهو اخوه لأبويه قد ارتكب مثل هذا العمل القبيح ، ونحن نختلف عنهما في النسب ، وهكذا أرادوا ان يفصلوا بينهم وبين بنيامين ويربطوه بأخيه يوسف.

٢٧٢

وحينما سمع يوسف كلامهم تأثّر بشدّة لكنّه كتم ما في نفسه( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) لانّه كان عالما بأنّهم قد افتروا عليه واتّهموه كذبا ، الّا انّه لم يرد عليهم وقال لهم باختصار واقتضاب( قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) اي انّكم احقر واشرّ مكانا ممّن تتّهمونه وتنسبون اليه السرقة ، او أنتم احقر الناس عندي.

ثمّ أضاف يوسف : انّ الله سبحانه وتعالى اعلم بما تنسبون( وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) .

الملاحظ هنا انّه برغم انّ اخوة يوسف افتروا عليه زورا واتّهموه بالسرقة لكي يبرّئوا أنفسهم ، لكن لا بدّ وان تكون لهذه التّهمة ارضية قديمة بحيث تمسّك بها الاخوة في تلك اللحظة الحرجة.

ومن هنا فقد قام المفسّرون بالبحث والتنقيب في الرّوايات القديمة والمصادر التاريخيّة ، ونقلوا ثلاثة نصوص في هذا المجال :

الاوّل : انّ يوسف بعد ان توفّيت امّه قضى فترة من طفولته عند عمّته ، وقد كانت تكنّ له حبّا عميقا ، وحينما كبر يوسف وأراد يعقوب ان يفصله عنها ، لم تر عمّته حيلة ووسيلة للاحتفاظ بيوسف الّا بحيلة نسائية وذلك بأن ربطت على خاصرته حزاما او شالا ممّا تركه آل إسحاق ، ثمّ ادّعت انّ يوسف أراد سرقتها ، فلا بدّ من ان يعاد إليها يوسف ـ وطبقا للدستور والسنّة المتّبعة عندهم ـ عبدا قنا جزاء له.

الثّاني : قيل انّ امراة من أرحام يوسف من امّه يوسف كان لها صنم تعبده ، فأخذه يوسف وحطمه ورمى به على الطريق ، فاتّهموه بالسرقة.

الثّالث : قيل انّ يوسف كان يأخذ ـ أحيانا بعض الطعام من المائدة ويتصدّق به على الفقراء والمساكين ، فعلم الاخوة بذلك واتّهموه بالسرقة.

لكن مثل هذه الأعمال لا تعدّ سرقة ، لانّ النّبيه يعرف انّ ربط الحزام على الشخص دون علمه بأنّه ملك الغير. او كسر الصنم ورميه على الطريق ، او أخذ

٢٧٣

الطعام من المائدة التي بسطها أبوه ويعلم انّه يرضى بالتصدّق ببعضها للفقراء والمساكين ، لا يعدّ سرقة ولا يجوز معاقبة من فعله بهذه التّهمة.

وعند ما لاحظ الاخوة أنفسهم محاصرين بين أمرين ، فمن جهة وطبقا للسنّة والدستور المتعيّن عندهما لا بدّ وان يبقى أخوهم الصغير ـ بنيامين عند عزيز مصر ويقوم بخدمته كسائر عبيده ، ومن جهة اخرى فإنّهم قد اعطوا لأبيهم المواثيق والايمان المغلّظة على ان يحافظوا على أخيهم بنيامين ويعودوا به سالما اليه ، حينما وقعوا في هذه الحالة توجّهوا الى يوسف الذي كان مجهول الهوية عندهم ، مخاطبين ايّاه( قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ ) لكي نرجعه الى أبيه ونكون قد وفينا بالوعد الذي قطعناه له ، فإنّه شيخ كبير ولا طاقة له بفراق ولده العزيز ، فنرجو منك ان تترحّم علينا وعلى أبيه ف( إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) .

امّا يوسف فإنّه قد واجه هذا الطلب بالإنكار الشديد و( قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ) فإنّ العدل والإنصاف يقتضي ان يكون المعاقب هو السارق ، وليس بريئا رضي بأن يتحمّل أوزار عمل غيره ، ولو فعلنا لامسينا من الظالمين( إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ ) .

والطريف انّ يوسف لم ينسب لأخيه السرقة وانّما عبّر عنه ب( مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ) . وهذا برهان على السلوك الحسن والسيرة المستقيمة التي كان ينتهجها يوسف في حياته.

* * *

٢٧٤

الآيات

( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) )

التّفسير

رجوع الاخوة الى أبيهم خائبين :

حاول الاخوة ان يستنقذوا أخاهم بنيامين بشتّى الطرق ، إلّا انّهم فشلوا في ذلك ، ورأوا انّ جميع سبل النجاة قد سدّت في وجوههم ، فبعد ان فشلوا في تبرئة أخيهم وبعد ان رفض العزيز استعباد أحدهم بدل بنيامين ، استولى عليهم اليأس وصمّموا على الرجوع والعودة الى كنعان لكي يخبروا أباهم ، يقول القرآن واصفا

٢٧٥

ايّاهم( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ) اي انّهم بعد ان يئسوا من عزيز مصر او من انقاذ أخيهم ، ابتعدوا عن الآخرين واجتمعوا في جانب وبداوا بالتشاور والنجوى فيما بينهم.

قوله تعالى (خلصوا) بمعنى الخلوص ، وهو كناية عن الابتعاد عن الآخرين والاجتماع في جلسة خاصّة ، امّا قوله تعالى «نجيّا» فهو من مادّة (المناجاة) وأصله من (نجوة) بمعنى الربوة والأرض المرتفعة ، فباعتبار انّ الربوات منعزلة عن اراضيها المجاورة ، سمّيت الجلسات الخاصّة البعيدة عن عيون الغرباء والحديث في السرّ قياسا عليها ب (النجوى) فإذا كلمة (النجوى) تطلق على الحديث السرّي والخاص سواء كانت في جلسة خصوصية او في محاورة خاصّة بين اثنين لا يتعدّى سمعهما.

ذهب كثير من المفسّرين الى انّ جملة( خَلَصُوا نَجِيًّا ) تعدّ من افصح العبارات في القرآن وأجملها حيث انّ الله سبحانه وتعالى قد بيّن في كلمتين أمورا كثيرة يحتاج بيانها الى عدّة جمل.

وفي ذلك الاجتماع الخاص خاطبهم الأخ الكبير قائلا :( قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ ) بأن تردّوا اليه بنيامين سالما ، فالآن بماذا تجيبونه؟ وقد سوّدنا صفحتنا في المرّة السابقة بما عاملنا به أخانا يوسف( وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ) (١) فالآن والحالة هكذا ـ فإنّني لا اغادر ارض مصر وسوف اعتصم فيها( فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) والظاهر انّ قصده بحكم الله ، امّا الموت الذي هو حكم الهي ، اي لا أبرح من هذه الأرض حتّى أموت فيها ، وامّا ان يفتح الله سبحانه وتعالى له سبيلا للنجاة ، او عذرا مقبولا عند أبيه.

__________________

(١) (فرّطتم) من مادّة تفريط وأصله من (فروط) على وزن شروط ، ومعناه التقدّم ، ولكن حينما يكون من باب التفعيل يأخذ معنى القصور في التقدّم ، وحينما يكون من باب الأفعال (افراط) يأخذ معنى الإسراف في التقدّم والتجاوز عنه.

٢٧٦

ثمّ أمرهم الأخ الأكبر ان يرجعوا الى أبيهم ويخبروه بما جرى عليهم( ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ) وهذه شهادة نشهدها بمقدار علمنا عن الواقعة حيث سمعنا بفقد صواع الملك ، ثمّ عثر عليه عند أخينا ، وظهر للجميع انّه قد سرقها( وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا ) ولكن نحن لا نعلم الّا ما شهدناه بأعيننا وهذا غاية معرفتنا( وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) .

وقد يرد احتمال في تفسير هذه الآية ، فلعلّهم بقولهم :( وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ ) أرادوا ان يخاطبوا أباهم بأنّنا وان قطعنا عند الايمان والعهود المغلّظة على ان نرجع أخانا سالما ، لكنّنا لا نعرف من الأمور الّا ظواهرها ومن الحقائق الّا بعضها ، فغيب الأمور عند الله سبحانه ولم نكن نتصوّر ان يسرق أخونا.

ثمّ أرادوا ان يزيلوا الشكّ والريبة عن قلب أبيهم فقالوا يمكنك ان تتحقّق وتسأل من المدينة التي كنّا فيها( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها ) (١) ومن القافلة التي سافرنا معها الى مصر ورجعنا معها ، حيث انّ فيها أناسا يعرفونك وتعرفهم ، وبمقدورك ان تسألهم عن حقيقة الحال وواقعها( وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها ) (٢) وفي كلّ الأحوال كن على ثقة بأنّنا صادقون ولم نقص عليك سوى الحقيقة والواقع( وَإِنَّا لَصادِقُونَ ) .

يستفاد من مجموع هذه الكلمات والحوار الذي دار بين الأولاد والأب انّ قضيّة سرقة بنيامين كانت قد شاعت في مصر ، وانّ جميع الناس علموا بأنّ احد افراد العير والقافلة القادمة من كنعان حاول سرقة صواع الملك ، لكن موظفي الملك تمكّنوا بيقظتهم من العثور عليها والقبض على سارقها ، ولعلّ قول الاخوة

__________________

(١) (القرية) لا تطلق عند العرب على القرى والأرياف خاصّة ، بل يشمل جميع الأرياف والمدن والقرى ، الصغيرة منها والكبيرة ـ والمقصود منها في الآية هي مصر.

(٢) «عير» كما يقول الراغب في المفردات ـ تعني الجماعة التي تصحب معها الإبل والدواب المحمّلة بالغذاء ، اي يطلق على المجموع «عير» فعلى هذا يكون السؤال منهم ممكنا لانّ الكلمة تشمل الأشخاص ايضا ولا حاجة للتقدير ، ولكن بعض المفسّرين ذهب الى انّ «العير» يطلق على الدواب فقط فلا بدّ من التقدير كما هو الحال في «القرية».

٢٧٧

لأبيهم( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) اي اسأل ارض مصر ، كناية عن انّ القضيّة شاعت بحيث علم بها حتّى أراضي مصر وحيطانها.

* * *

بحوث

١ ـ من هو اكبر الاخوة؟

ذهب بعض المفسّرين الى انّه كان روبين (روبيل) وقال آخرون : انّه (شمعون) واحتمل البعض ان يكون أكبرهم هو (يهودا).

وحصل نقاش آخر بين المفسّرين في انّه ما المقصود من الكبر ، هل هو في العمر ام في العقل؟ لكن المستفاد من ظاهر الآية انّ المقصود به هو اكبر الاخوة في العمر.

٢ ـ الحكم وفق الدلائل الظاهرة :

ويستفاد من مدلول الآية الشريفة انّه يحقّ للقاضي والحاكم ان يحكم في الواقعة المرفوعة اليه على ما يستفيده من القرائن والشواهد القطعيّة ، وان يقرّ المتّهم او يشهد الشهود عنده ، لانّنا لاحظنا في قضيّة اخوة يوسف انّه بمجرّد ان عثر على الصاع في متاع بنيامين عدّ مذنبا وحكم عليه بالسرقة من دون شهادة او اقرار ، لانّنا حينما نتحرّى عن القضيّة نرى انّ كلّ شخص كان مسئولا عن حمل متاعه من الحبوب بنفسه ، او انّه كان حاضرا على الأقل عند تحميل العمال لمتاعه ، ومن جهة اخرى لم يكن يتصوّر احد انّ هناك خطّة في البين ، وهؤلاء الاخوة لم يعاديهم احد في مصر ، فجميع القرائن والشواهد تورث اليقين بأنّ هذا الفعل (السرقة) قد صدر عمّن وجد عنده الصاع.

وهذا الموضوع بحاجة الى دراسة عميقة في الفقه الاسلامي لتأثيره المهمّ

٢٧٨

في قضايانا المعاصرة لانّ عالم اليوم يعتمد عليه كثيرا في محاكماته ، لكنّنا تركنا هذا المبحث لانّ مجاله كتاب (القضاء).

٣ ـ يستفاد من الآيات السابقة انّ اخوة يوسف كانت طبائعهم مختلفة ، امّا الأخ الأكبر فإنّه كان وفيّا بميثاقه وحافظا لوعده الذي واعد به أباه ، امّا بقيّة الاخوة فإنّهم بعد ان شاهدوا فشل جميع محاولاتهم في اقناع العزيز ، تراجعوا عن موقفهم وعدّوا أنفسهم معذورين ، ومن الطبيعي انّ ما قام به الأخ الأكبر كان هو الأسلوب المجدي والصحيح ، لانّه ببقائه في مصر والاعتصام بها وعلى مقربة من بلاط العزيز وقصره كان باعثا للامل في ان يترحّم العزيز على الاخوة وعلى أبيهم الشّيخ الكبير ، ويعفو عن هذا الغريب ولا يجازيه من اجل صاع سرقه ثمّ عثر عليه العمّال ، فعلى هذا واملا في استجداء عطف العزيز ، بقي في مصر وبعث بإخوته الى أبيهم في كنعان ليبلغوه الخبر ويطلبوا منه ان يدلّهم على الطريق الصحيح لانقاذ أخيهم.

* * *

٢٧٩

الآيات

( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) )

التّفسير

يعقوب والألطاف الالهية :

وأخيرا غادروا مصر متّجهين الى كنعان في حين تخلّف أخواهم الكبير والصغير ، ووصلوا الى بيتهم منهوكي القوى وذهبوا لمقابلة أبيهم ، وحينما راى الأب الحزن والألم مستوليا على وجوههم (خلافا للسفرة السابقة والتي كانوا فيها في غاية الفرح) علم انّهم يحملون اليه اخبارا محزنة وخاصّة حينما افتقد بينهم بنيامين وأخاه الأكبر ، وحينما اخبروه عن الواقعة بالتفصيل ، استولى عليه

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572