الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287962 / تحميل: 5235
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الحسد والبغضاء في بعض النفوس الضعيفة فيسعون ضدّهم عند السلطان ويظهرونهم كمجموعة اجنبية تحاول العبث بأمن البلد ونظامه ، فحاول يعقوبعليه‌السلام ان يجنبهم بنصيحته عن هذه المشاكل.

وأخيرا حاول بعض المفسّرين تأويل الآية بمعنى قد يعد ذوقيا قال : انّ يعقوب بنصيحته تلك أراد ان يعلم أولاده دستورا اجتماعيا هامّا ، وهو انّ على الإنسان ان يبحث عن ضالّته بطرق عديدة وسبل شتّى بحيث لو سدّ طريق بوجهه لكان بمقدوره البحث عنها من طرق اخرى حيث سيكون النصر حليفه في النهاية ، امّا إذا حاول الوصول الى هدفه بانتهاجه طريقا واحدا فقط ، فقد يصطدم في اوّل الطريق بعائق يمنعه عن الوصول فعند ذلك يستولي عليه اليأس ويترك السعي اليه.

واصل الاخوة سيرهم نحو مصر ، وبعد ان قطعوا مسافة طويلة وشاسعة بين كنعان ومصر دخلوا الاراضي المصرية ، وعند ذاك( وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ) فهم برغم تفرّقهم الى جماعات صغيرة ـ طبقا لما وصّاهم به أبوهم ـ فإنّ الفائدة والثمرة الوحيدة التي ترتّبت على تلك النصيحة ليس (الّا حاجة في نفس يعقوب قضاها) وهذه اشارة الى انّ اثرها لم يكن سوى الهدوء والطمأنينة التي استولت على قلب الأب الحنون الذي بعد عنه أولاده ، وبقي ذهنه وفكره مشغولا بهم وبسلامتهم وخائفا عليهم من كيد الحاسدين وشرور الطامعين ، فما كان يتسلّى به في تلك الايّام لم يكن سوى يقينه القلبي بأنّ أولاده سوف يعملون بنصيحته.

ثمّ يستمرّ القرآن في مدح يعقوب ووصفه بقوله :( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) وهذه اشارة الى انّ كثيرا من الناس يتيهون في الأسباب وينسون قدرة الله سبحانه وتعالى ويتصوّرون انّ ما يصيب الإنسان من الشرور انّما هو من الآثار الملازمة لبعض العيون فيتوسلّون بغير الله سبحانه

٢٦١

وتعالى لدفع هذه الشرور ويغفلون عن التوكّل على الله سبحانه وتعالى والاعتماد عليه ، الّا انّ يعقوب كان عالما بأنّه بدون ارادة الله سبحانه وتعالى لا يحدث شيء ، فكان يتوكّل في الدرجة الاولى على الله سبحانه وتعالى ويعتمد عليه ، ثمّ يبحث عن عالم الأسباب ومن هنا نرى في الآية (١٠٢) من سورة البقرة انّ القرآن يصف سحرة بابل وكهنتها بأنّهم( وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) وهذه اشارة الى انّ القادر الوحيد هو الله سبحانه وتعالى ، فلا بدّ من الاعتماد والاتّكال عليه لا على سواه.

* * *

٢٦٢

الآيات

( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) )

التّفسير

يوسف يخطّط للاحتفاظ بأخيه :

وأخيرا دخل الاخوة على يوسف واعلموه بأنّهم قد نفّذوا طلبته واصطحبوا

٢٦٣

معهم أخاهم الصغير برغم امتناع الأب في البداية ، ولكنّهم اصرّوا عليه وانتزعوا منه الموافقة لكي يثبتوا لك انّهم قد وفوا بالعهد ، امّا يوسف فإنّه قد استقبلهم بحفاوة وكرم بالغين ودعاهم لتناول الطعام على مائدته ، فأمر ان يجلس كلّ اثنين منهم على طبق من الطعام ، ففعلوا وجلس كلّ واحد منهم بجنب أخيه على الطعام ، وبقي بنيامين وحيدا فتألّم من وحدته وبكى وقال : لو كان اخي يوسف حيّا لعطف عليّ ولاجلسني الى جنبه على المائدة لانّنا اخوة من أب واحد وامّ واحدة ، قال يوسف مخاطبا ايّاهم : إنّ أخاكم بقي وحيدا وانّني سأجلسه بجنبي على المائدة ونأكل سويّة من الطعام ، ثمّ بعد ذلك امر يوسف بأن تهيّأ لهم الغرف ليستريحوا فيها ويناموا ، ومرّة اخرى بقي بنيامين وحيدا ، فاستدعاه يوسف إلى غرفته وبسط له الفراش الى جنبه ، لكنّه لاحظ في تقاسيم وجهه الحزن والألم وسمعه يذكر أخاه المفقود (يوسف) متأوّها ، عند ذلك نفذ صبر يوسف وكشف عن حقيقة نفسه ، والقرآن الكريم يصف هذه الوقائع بقوله :( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

قوله تعالى( فَلا تَبْتَئِسْ ) مأخوذ من مادّة (البؤس) وهو اصل بمعنى الضرر والشدّة ، لكن في الآية الشريفة استعملت بمعنى : لا تسلط الغمّ على نفسك ولا تكن حزينا من معاملتهم لك ، والمراد بقوله «يعملون» هو معاملة الاخوة السيّئة لأخيهم بنيامين حيث خطّطوا لإبعاده وطرده من بينهم كما فعلوا بيوسف ـ فقال يوسف لأخيه : لا تحزن فإنّ المحاولات التي قاموا بها لالحاق الضرر بي قد انقلبت الى خير وسعادة ورفعة لي ، إذا لا تحزن وكن على يقين بأنّ محاولاتهم سوف تذهب ادراج الرياح.

وتقول بعض الرّوايات : انّه عند ذاك اقترح يوسف على أخيه بنيامين وقال له : هل تودّ ان تبقى عندي ولا تعود معهم؟

٢٦٤

قال بنيامين : نعم ، ولكن اخوتي لا يوافقون على ذلك ، لانّهم قد اعطوا أبي العهود والمواثيق المغلّظة بأن يرجعوني اليه سالما.

قال يوسف : لا تهتمّ بهذا الأمر فإنّي سوف أضع خطّة محكمة بحيث يضطرّون لتركك عندي والرجوع دونك.

وبدا يوسف بتنفيذ الخطّة ، وامر بأن يعطي لكلّ واحد منهم حصّة من الطعام والحبوب ثمّ عند ذاك( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ) .

لا شكّ في أنّ يوسف قام بهذا العمل بسرية تامّة ، ولعلّه لم يطّلع على هذه الخطّة سوى موظّف واحد وعند ذاك افتقد العاملون على تزويد الناس بالمؤونة الكيل الملكي الخاص ، وبحث عنه الموظّفون والعمّال كثيرا لكن دون جدوى وحينئذ( أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) .

وحينما سمع اخوة يوسف هذا النداء ارتعدت فرائصهم واستولى عليهم الخوف ، حيث لم يخطر ببالهم ان يتّهموا بالسرقة بعد الحفاوة التي قوبلوا بها من جانب يوسف ، فتوجّهوا الى الموظفين والعمال وقالوا لهم : ماذا فقدتم؟( قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ ) .

قالوا : قد فقدنا صواع الملك ونظنّ انّه عندكم( قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) وبما انّ الصواع ثمين ومورد علاقة الملك فانّ لمن يعثر عليه جائزة ، وهي حمل بعير من الطعام( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) ، ثمّ أضاف المؤذّن والمسؤول عن البحث عن الصواع المفقود : انّني شخصيّا اضمن هذه الجائزة( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) .

فاشتدّ اضطراب الاخوة لسماعهم هذه الأمور وزادت مخاوفهم ، وتوجّهوا الى الموظّف مخاطبين ايّاه( قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ ) .

قولهم (لقد علمتم ما جئنا الى آخره) لعلّه اشارة الى ما قصده الاخوة في خطابهم للموظفين من انّكم قد وقفتم على حسن نيّتنا في المرّة السابقة حيث

٢٦٥

جئناكم وقد وضعتم الأموال التي دفعناها إليكم ثمنا للطعام في رحالنا ، لكنّنا رجعنا إليكم مرّة ثانية ، فلا يعقل انّنا وقد قطعنا المسافات البعيدة للوصول الى بلدكم نقوم بعمل قبيح ونسرق الصواع؟

اضافة الى هذا فقد ورد في بعض المصادر انّ الاخوة حينما دخلوا ارض مصر ألجموا جمالهم ليمنعوها من التطاول والتعدّي على المزارع واموال الناس ، فمثلنا الحريص على اموال الناس كيف يعقل ان يقوم بهذا العمل القبيح؟ الّا انّ الموظفين توجّهوا إليهم و( قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) .

أجاب الاخوة : إنّه عقاب من وجد الصواع في رحله هو ان يؤخذ الشخص نفسه بدل الصواع( قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ) وانّ هذا العقاب هو جزاء السارق( كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) .

وحينئذ امر يوسف الموظفين والعمال بأنّ تنزل رحالهم من على ظهور الجمال ويفتح متاعهم وان يبحثوا فيها واحدا بعد واحد ودون استثناء ، وتجنّبا عن انكشاف الخطّة امر يوسف بأن يبداوا البحث والتفتيش في امتعة الاخوة اوّلا قبل امتعة أخيه بنيامين ، لكنّهم وجدوه أخيرا في امتعة بنيامين( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ) .

بعد ان عثر على الصاع في متاع بنيامين ، استولى الارتباك والدهشة على الاخوة ، وصعقتهم هذه الواقعة ورأوا أنفسهم في حيرة غريبة ، فمن جهة قام أخوهم بعمل قبيح وسرق صواع الملك ، وهذا يعود عليهم بالخزي والعار ، ومن جهة اخرى انّ هذا العمل سوف يفقدهم اعتبارهم ونفوذهم عند الملك خصوصا مع حاجتهم الشديدة الى الطعام ، واضافة الى كلّ هذا ، كيف يجيبون على استفسارات أبيهم؟ وكيف يقنعونه بذنب ابنه وعدم تقصيرهم في ذلك؟

قال بعض المفسّرين : انّه بعد ان عثر على الصاع توجّه الاخوة الى بنيامين وعاتبوه عتابا شديدا ، فقالوا له : الا تخجل من فعلك القبيح قد فضحتنا وفضحت

٢٦٦

أباك يعقوب ، وآل يعقوب قل لنا كيف سرقت الصاع ووضعته في رحلك؟

أجابهم بنيامين ببرود ، حيث كان عالما بالقضيّة واسرارها : انّ الذي قام بهذا العمل ووضع الصواع في رحلي ، هو نفسه الذي وضع الأموال في متاعكم في المرّة السابقة ، لكن الاخوة لم ينتبهوا ـ لهول الواقعة عليهم ـ لمغزى كلام بنيامين(١) .

ثمّ يستمرّ القرآن الكريم ويبيّن كيف استطاع يوسف ان يأخذ أخاه بالخطّة التي رسمها الله له دون ان يثير في اخوته اي نوع من المقاومة والرفض( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) .

والأمر المهمّ في هذه القضيّة هو انّه لو أراد يوسف ان يعاقب أخاه بنيامين ، وطبقا للقانون المصري ـ لكان عليه ان يضرب أخاه ويودعه السجن لكن مثل هذه المعاملة كانت تخالف رغبات واهداف يوسف للاحتفاظ بأخيه ، ومن هنا وقبل القبض على بنيامين ، سأل اخوته عن عقوبة السارق عندهم ، فاعترفوا عنده بأنّ السنة المتّبعة عندهم في معاقبة السارق ان يعمل السارق عند المعتدى عليه كالعبد.

لا ريب انّ للعقوبة والجزاء طرقا عديدة منها ان يعاقب المعتدي على طبق ما يعاقب به في قومه ، وهكذا عامل يوسف أخاه بنيامين ، وتوضيحا لهذه الحالة وانّ يوسف لم يكن بإمكانه أخذ أخيه طبقا للدستور المصري يقول القرآن الكريم :( ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ) لكن الله سبحانه وتعالى يستثني بقوله :( إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) وهو اشارة إلى أنّ ما فعله يوسف بأخيه لم يكن الّا بأمر منه سبحانه وتعالى وطبقا لإرادته في الاحتفاظ ببنيامين ، واستمرارا لامتحان يعقوب وأولاده.

وأخيرا يضيف القرآن الكريم ويقول : انّ الله سبحانه يرفع درجات من

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٢٥٣ ذيل الآية.

٢٦٧

استطاع ان يفوز في الامتحان ويخرج مرفوع الراس كما حدث ليوسف( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ) ولكن في كلّ الأحوال فانّ الله تعالى عليم يهدي الإنسان الى سواء السبيل وهو الذي أوقع هذه الخطّة في قلب يوسف وألهمه ايّاها( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) .

* * *

بحوث

الآيات السابقة تثير اسئلة كثيرة فلا بدّ من الاجابة عليها :

١ ـ لماذا لم يعترف يوسف بالحقيقة

لماذا لم يعترف يوسف بالحقيقة لإخوته لينهي ـ وفي اسرع وقت ممكن ـ مأساة أبيه وينجيه من العذاب الذي كان يعيشه؟

الجواب على هذا السؤال : هو ما مرّ علينا خلال البحث ، من انّ الهدف كان امتحان يعقوب وأولاده واختبار مدى تحمّلهم وصبرهم على الشدائد والمصائب ، وبتعبير آخر : لم تكن هذه الخطّة امرا عفويا دون تفكير ، وانّما نفذت طبقا لاوامر الله سبحانه وتعالى وارادته في اختبار يعقوب ومدى صبره على مصيبة فقد ثاني اعزّ أولاده ، لكي تكمل سلسلة الامتحانات ويفوز بالدرجات العالية التي يستحقّها ، كما كانت الخطّة اختبارا لأخوة يوسف في مدى تحمّلهم للمسؤولية وقدرتهم على حفظ العهد ومراعاة الامانة التي قطعوها مع أبيهم.

٢ ـ لماذا اتّهم يوسف أخاه؟

هل يجوز شرعا ان يتّهم الإنسان بريئا لم يرتكب ذنبا ، ولم تقتصر آثار هذه

٢٦٨

التّهمة على البريء وحده ، بل تشمل الآخرين من قريب او بعيد؟ كما هو الحال في يوسف حيث شمل اتّهامه الاخوة وسبب لهم مشاكل عديدة.

يمكن معرفة الجواب بعد وقوفنا على انّ توجيه هذه التّهمة لبنيامين كان باتّفاق مسبق بينه وبين يوسف ، وكان عارفا بأنّ هدف الخطّة وتوجيه التهمة اليه لأجل بقائه عند يوسف ، امّا بالنسبة للآثار السلبية المترتّبة على الاخوة فإنّ اتّهام بنيامين بالسرقة لم يكن في الواقع اتّهاما مباشرا لإخوته وإنّ سبب لهم بعض التشويش والقلق ولا مانع من ذلك بالنظر الى امتحان مهم.

٣ ـ لماذا اتّهام الجميع بالسرقة؟

مرّ علينا في الآية الشريفة قوله تعالى :( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) وهذه في الواقع تهمة موجّهة الى الجميع وهي تهمة كاذبة ، فما المسوغ والمجوّز الشرعي لمثل هذا الاتّهام الباطل؟

يمكن الاجابة على هذا السؤال في عدّة نقاط وهي :

اوّلا : انّ قائل هذه الجملة غير معلوم ، حيث ورد في القرآن انّه (قالوا ...) ولعلّ القائلين هم بعض الموظفين من عمّال يوسف والمسؤولين عن حماية خزائن الحبوب ، فهم حينما افتقدوا صواع الملك ، اطمأنّوا بأنّ السارق هو احد افراد القافلة القادمة من كنعان ، فوجّهوا الخطاب إليهم جميعا ، وهذا من الأمور الطبيعيّة ، فحينما يقوم شخص مجهول في ضمن مجموعة معيّنة بعمل ما ، فإنّ الخطاب يوجّه إليهم جميعا ويقال لهم : إنّكم فعلتم هذا العمل ، والمقصود إنّ احد هذا المجموعة او بعضها قد فعل كذا.

ثانيا : الطرف الذي وجّهت اليه التّهمة وهو بنيامين ، كان موافقا على توجيه هذه التهمة له ، لانّ التهمة كانت مقدّمة للخطّة المرسومة والتي كانت تنتهي ببقائه عند أخيه يوسف ، وامّا شمول الاتّهام لجميع الاخوة ودخولهم جميعا في دائرة

٢٦٩

الظنّ بالسرقة ، فإنّ كلّ ذلك كان اتّهاما مؤقتا حيث زالت بمجرّد التفتيش والعثور على الصواع وظهر المذنب الواقعي.

قال بعض المفسّرين : انّه قصد بالسرقة ـ فيما نسبوه الى اخوة يوسف ـ هو ما اقترفوه سابقا من سرقة الاخوة يوسف من أبيه ، لكن هذا التوجيه يتمّ إذا كانت التهمة قد وجهت إليهم من قبل يوسف ، لانّه كان عالما بالذنب الذي ارتكبوه ، ولعلّ ما ورد في ذيل الآية الشريفة يدلّ على ذلك ، حيث قال العمّال انّنا :( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) ومثل هذا الخطاب لا يتضمّن توجيه السرقة إليهم ، (ولكن الجواب الاوّل أصح ظاهرا).

٤ ـ عقوبة السرقة في تلك الازمنة

يستفاد من الآيات السابقة انّ عقوبة السرقة عند المصريين كانت تختلف عنها عند الكنعانيين ، فعند اخوة يوسف (آل يعقوب) ولعلّه عند الكنعانيين كانت العقوبة هي عبودية السارق (بصورة دائمة او مؤقتة) لأجل الذنب الذي اقترفه(١) .

لكن المصريين لم يجازوا السارق بالعبودية الدائمة او المؤقتة ، وانّما كانوا يعاقبون المذنب بالضرب المبرح او السجن ، وفي كلّ الأحوال لا يستفاد من قوله تعالى :( قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ) انّ الشرائع السّماوية كانت تحدّد عقوبة السارق بالعبودية ، ولعلّها كانت سنّة متّبعة عند بعض المجتمعات في تلك الازمنة ، وقد ذكر المؤرّخون في تاريخ العبودية انّ بعض المجتمعات التي كانت تدين بالشرائع الخرافية ، كانوا يعاقبون المدين العاجز عن سداد دينه بالعبودية للمدين.

__________________

(١) يقول الطبرسي في مجمع البيان ـ ذيل الآية ـ انّ السنّة المتّبعة لدى بعض المجتمعات في ذلك الزمان هو ان يصير السارق عبدا لمدّة سنة كاملة ، وذكر ايضا انّ اسرة يعقوب كانت ترى عبودية السارق بمقدار ما سرق (اي يعمل عندهم بذلك المقدار).

٢٧٠

٥ ـ السقاية او الصواع

يلاحظ في الآيات السابقة انّ الله سبحانه وتعالى يعبّر عن الكيل تارة ب (الصواع) واخرى ب (السقاية) ، والظاهر انّهما صفتان لشيء واحد ، حيث ورد في بعض المصادر انّ هذا الصاع كان في اوّل الأمر كأسا يسقى به الملك ، ثمّ حينما عمّ القحط والغلاء في مصر وصار الطعام والحبوب يوزّع على الناس حسب الحصص ، استعمل هذا الكأس الثمين لكيل الطعام وتوزيعه ، وذلك إظهارا لاهميّة الحبوب وترغيبا للناس في القناعة وعدم الإسراف في الطعام.

ثمّ انّ المفسّرين ذكروا أوصافا عديدة لهذا الصاع ، حيث قال بعضهم انّها كانت من الفضّة وقال آخرون : انّها كأس ذهبية ، وأضاف آخرون انّ الكأس كان مطعما بالجواهر والأحجار الكريمة ، وقد وردت في بعض الرّوايات الضعيفة إشارة الى هذه الأمور ، لكن ليس لنا دليل قطعي وصريح على صحة كلّ هذه المذكورات ، الّا ما قيل من انّ هذا الصاع كان في يوم من الايّام كأسا يسقى به ملك مصر ، ثمّ صار كيلا للطعام ، ومن البديهي انّه لا بدّ وان يكون لهذا الصاع صبغة رمزية واعتبارية للدلالة على اهمية الطعام وتحريض الناس على عدم الإسراف فيه ، إذ لا يعقل ان يكون الجهاز الذي يوزن به كلّ ما يحتاجه البلد من الطعام والحبوب ، هو مجرّد كأس كان يستعمله الملك في يوم من الايّام.

وأخيرا فقد مرّ علينا خلال البحث انّ يوسف قد اختير مشرفا على خزائن الدولة ، ومن الطبيعي ان يكون الصاع الملكي الثمين في حوزته ، فحينما حكم على بنيامين بالعبودية صار عبدا لمن كان الصاع في يده (اي يوسف) وهذه هي النتيجة التي كان يوسف قد خطّط لها.

* * *

٢٧١

الآيات

( قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) )

التّفسير

موقف اخوة يوسف :

وأخيرا اقتنع اخوة يوسف بأنّ أخاهم (بنيامين) قد ارتكب فعلا شنيعا وقبيحا وإنّه قد شوّه سمعتهم وخذلهم عند عزيز مصر ، فأرادوا ان يبرّئوا أنفسهم ويعيدوا ماء وجههم قالوا :( إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) اي انّه لو قام بالسرقة فهذا ليس بأمر عجيب منه فإنّ أخاه يوسف وهو اخوه لأبويه قد ارتكب مثل هذا العمل القبيح ، ونحن نختلف عنهما في النسب ، وهكذا أرادوا ان يفصلوا بينهم وبين بنيامين ويربطوه بأخيه يوسف.

٢٧٢

وحينما سمع يوسف كلامهم تأثّر بشدّة لكنّه كتم ما في نفسه( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) لانّه كان عالما بأنّهم قد افتروا عليه واتّهموه كذبا ، الّا انّه لم يرد عليهم وقال لهم باختصار واقتضاب( قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) اي انّكم احقر واشرّ مكانا ممّن تتّهمونه وتنسبون اليه السرقة ، او أنتم احقر الناس عندي.

ثمّ أضاف يوسف : انّ الله سبحانه وتعالى اعلم بما تنسبون( وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) .

الملاحظ هنا انّه برغم انّ اخوة يوسف افتروا عليه زورا واتّهموه بالسرقة لكي يبرّئوا أنفسهم ، لكن لا بدّ وان تكون لهذه التّهمة ارضية قديمة بحيث تمسّك بها الاخوة في تلك اللحظة الحرجة.

ومن هنا فقد قام المفسّرون بالبحث والتنقيب في الرّوايات القديمة والمصادر التاريخيّة ، ونقلوا ثلاثة نصوص في هذا المجال :

الاوّل : انّ يوسف بعد ان توفّيت امّه قضى فترة من طفولته عند عمّته ، وقد كانت تكنّ له حبّا عميقا ، وحينما كبر يوسف وأراد يعقوب ان يفصله عنها ، لم تر عمّته حيلة ووسيلة للاحتفاظ بيوسف الّا بحيلة نسائية وذلك بأن ربطت على خاصرته حزاما او شالا ممّا تركه آل إسحاق ، ثمّ ادّعت انّ يوسف أراد سرقتها ، فلا بدّ من ان يعاد إليها يوسف ـ وطبقا للدستور والسنّة المتّبعة عندهم ـ عبدا قنا جزاء له.

الثّاني : قيل انّ امراة من أرحام يوسف من امّه يوسف كان لها صنم تعبده ، فأخذه يوسف وحطمه ورمى به على الطريق ، فاتّهموه بالسرقة.

الثّالث : قيل انّ يوسف كان يأخذ ـ أحيانا بعض الطعام من المائدة ويتصدّق به على الفقراء والمساكين ، فعلم الاخوة بذلك واتّهموه بالسرقة.

لكن مثل هذه الأعمال لا تعدّ سرقة ، لانّ النّبيه يعرف انّ ربط الحزام على الشخص دون علمه بأنّه ملك الغير. او كسر الصنم ورميه على الطريق ، او أخذ

٢٧٣

الطعام من المائدة التي بسطها أبوه ويعلم انّه يرضى بالتصدّق ببعضها للفقراء والمساكين ، لا يعدّ سرقة ولا يجوز معاقبة من فعله بهذه التّهمة.

وعند ما لاحظ الاخوة أنفسهم محاصرين بين أمرين ، فمن جهة وطبقا للسنّة والدستور المتعيّن عندهما لا بدّ وان يبقى أخوهم الصغير ـ بنيامين عند عزيز مصر ويقوم بخدمته كسائر عبيده ، ومن جهة اخرى فإنّهم قد اعطوا لأبيهم المواثيق والايمان المغلّظة على ان يحافظوا على أخيهم بنيامين ويعودوا به سالما اليه ، حينما وقعوا في هذه الحالة توجّهوا الى يوسف الذي كان مجهول الهوية عندهم ، مخاطبين ايّاه( قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ ) لكي نرجعه الى أبيه ونكون قد وفينا بالوعد الذي قطعناه له ، فإنّه شيخ كبير ولا طاقة له بفراق ولده العزيز ، فنرجو منك ان تترحّم علينا وعلى أبيه ف( إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) .

امّا يوسف فإنّه قد واجه هذا الطلب بالإنكار الشديد و( قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ) فإنّ العدل والإنصاف يقتضي ان يكون المعاقب هو السارق ، وليس بريئا رضي بأن يتحمّل أوزار عمل غيره ، ولو فعلنا لامسينا من الظالمين( إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ ) .

والطريف انّ يوسف لم ينسب لأخيه السرقة وانّما عبّر عنه ب( مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ) . وهذا برهان على السلوك الحسن والسيرة المستقيمة التي كان ينتهجها يوسف في حياته.

* * *

٢٧٤

الآيات

( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) )

التّفسير

رجوع الاخوة الى أبيهم خائبين :

حاول الاخوة ان يستنقذوا أخاهم بنيامين بشتّى الطرق ، إلّا انّهم فشلوا في ذلك ، ورأوا انّ جميع سبل النجاة قد سدّت في وجوههم ، فبعد ان فشلوا في تبرئة أخيهم وبعد ان رفض العزيز استعباد أحدهم بدل بنيامين ، استولى عليهم اليأس وصمّموا على الرجوع والعودة الى كنعان لكي يخبروا أباهم ، يقول القرآن واصفا

٢٧٥

ايّاهم( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ) اي انّهم بعد ان يئسوا من عزيز مصر او من انقاذ أخيهم ، ابتعدوا عن الآخرين واجتمعوا في جانب وبداوا بالتشاور والنجوى فيما بينهم.

قوله تعالى (خلصوا) بمعنى الخلوص ، وهو كناية عن الابتعاد عن الآخرين والاجتماع في جلسة خاصّة ، امّا قوله تعالى «نجيّا» فهو من مادّة (المناجاة) وأصله من (نجوة) بمعنى الربوة والأرض المرتفعة ، فباعتبار انّ الربوات منعزلة عن اراضيها المجاورة ، سمّيت الجلسات الخاصّة البعيدة عن عيون الغرباء والحديث في السرّ قياسا عليها ب (النجوى) فإذا كلمة (النجوى) تطلق على الحديث السرّي والخاص سواء كانت في جلسة خصوصية او في محاورة خاصّة بين اثنين لا يتعدّى سمعهما.

ذهب كثير من المفسّرين الى انّ جملة( خَلَصُوا نَجِيًّا ) تعدّ من افصح العبارات في القرآن وأجملها حيث انّ الله سبحانه وتعالى قد بيّن في كلمتين أمورا كثيرة يحتاج بيانها الى عدّة جمل.

وفي ذلك الاجتماع الخاص خاطبهم الأخ الكبير قائلا :( قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ ) بأن تردّوا اليه بنيامين سالما ، فالآن بماذا تجيبونه؟ وقد سوّدنا صفحتنا في المرّة السابقة بما عاملنا به أخانا يوسف( وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ) (١) فالآن والحالة هكذا ـ فإنّني لا اغادر ارض مصر وسوف اعتصم فيها( فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) والظاهر انّ قصده بحكم الله ، امّا الموت الذي هو حكم الهي ، اي لا أبرح من هذه الأرض حتّى أموت فيها ، وامّا ان يفتح الله سبحانه وتعالى له سبيلا للنجاة ، او عذرا مقبولا عند أبيه.

__________________

(١) (فرّطتم) من مادّة تفريط وأصله من (فروط) على وزن شروط ، ومعناه التقدّم ، ولكن حينما يكون من باب التفعيل يأخذ معنى القصور في التقدّم ، وحينما يكون من باب الأفعال (افراط) يأخذ معنى الإسراف في التقدّم والتجاوز عنه.

٢٧٦

ثمّ أمرهم الأخ الأكبر ان يرجعوا الى أبيهم ويخبروه بما جرى عليهم( ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ) وهذه شهادة نشهدها بمقدار علمنا عن الواقعة حيث سمعنا بفقد صواع الملك ، ثمّ عثر عليه عند أخينا ، وظهر للجميع انّه قد سرقها( وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا ) ولكن نحن لا نعلم الّا ما شهدناه بأعيننا وهذا غاية معرفتنا( وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) .

وقد يرد احتمال في تفسير هذه الآية ، فلعلّهم بقولهم :( وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ ) أرادوا ان يخاطبوا أباهم بأنّنا وان قطعنا عند الايمان والعهود المغلّظة على ان نرجع أخانا سالما ، لكنّنا لا نعرف من الأمور الّا ظواهرها ومن الحقائق الّا بعضها ، فغيب الأمور عند الله سبحانه ولم نكن نتصوّر ان يسرق أخونا.

ثمّ أرادوا ان يزيلوا الشكّ والريبة عن قلب أبيهم فقالوا يمكنك ان تتحقّق وتسأل من المدينة التي كنّا فيها( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها ) (١) ومن القافلة التي سافرنا معها الى مصر ورجعنا معها ، حيث انّ فيها أناسا يعرفونك وتعرفهم ، وبمقدورك ان تسألهم عن حقيقة الحال وواقعها( وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها ) (٢) وفي كلّ الأحوال كن على ثقة بأنّنا صادقون ولم نقص عليك سوى الحقيقة والواقع( وَإِنَّا لَصادِقُونَ ) .

يستفاد من مجموع هذه الكلمات والحوار الذي دار بين الأولاد والأب انّ قضيّة سرقة بنيامين كانت قد شاعت في مصر ، وانّ جميع الناس علموا بأنّ احد افراد العير والقافلة القادمة من كنعان حاول سرقة صواع الملك ، لكن موظفي الملك تمكّنوا بيقظتهم من العثور عليها والقبض على سارقها ، ولعلّ قول الاخوة

__________________

(١) (القرية) لا تطلق عند العرب على القرى والأرياف خاصّة ، بل يشمل جميع الأرياف والمدن والقرى ، الصغيرة منها والكبيرة ـ والمقصود منها في الآية هي مصر.

(٢) «عير» كما يقول الراغب في المفردات ـ تعني الجماعة التي تصحب معها الإبل والدواب المحمّلة بالغذاء ، اي يطلق على المجموع «عير» فعلى هذا يكون السؤال منهم ممكنا لانّ الكلمة تشمل الأشخاص ايضا ولا حاجة للتقدير ، ولكن بعض المفسّرين ذهب الى انّ «العير» يطلق على الدواب فقط فلا بدّ من التقدير كما هو الحال في «القرية».

٢٧٧

لأبيهم( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) اي اسأل ارض مصر ، كناية عن انّ القضيّة شاعت بحيث علم بها حتّى أراضي مصر وحيطانها.

* * *

بحوث

١ ـ من هو اكبر الاخوة؟

ذهب بعض المفسّرين الى انّه كان روبين (روبيل) وقال آخرون : انّه (شمعون) واحتمل البعض ان يكون أكبرهم هو (يهودا).

وحصل نقاش آخر بين المفسّرين في انّه ما المقصود من الكبر ، هل هو في العمر ام في العقل؟ لكن المستفاد من ظاهر الآية انّ المقصود به هو اكبر الاخوة في العمر.

٢ ـ الحكم وفق الدلائل الظاهرة :

ويستفاد من مدلول الآية الشريفة انّه يحقّ للقاضي والحاكم ان يحكم في الواقعة المرفوعة اليه على ما يستفيده من القرائن والشواهد القطعيّة ، وان يقرّ المتّهم او يشهد الشهود عنده ، لانّنا لاحظنا في قضيّة اخوة يوسف انّه بمجرّد ان عثر على الصاع في متاع بنيامين عدّ مذنبا وحكم عليه بالسرقة من دون شهادة او اقرار ، لانّنا حينما نتحرّى عن القضيّة نرى انّ كلّ شخص كان مسئولا عن حمل متاعه من الحبوب بنفسه ، او انّه كان حاضرا على الأقل عند تحميل العمال لمتاعه ، ومن جهة اخرى لم يكن يتصوّر احد انّ هناك خطّة في البين ، وهؤلاء الاخوة لم يعاديهم احد في مصر ، فجميع القرائن والشواهد تورث اليقين بأنّ هذا الفعل (السرقة) قد صدر عمّن وجد عنده الصاع.

وهذا الموضوع بحاجة الى دراسة عميقة في الفقه الاسلامي لتأثيره المهمّ

٢٧٨

في قضايانا المعاصرة لانّ عالم اليوم يعتمد عليه كثيرا في محاكماته ، لكنّنا تركنا هذا المبحث لانّ مجاله كتاب (القضاء).

٣ ـ يستفاد من الآيات السابقة انّ اخوة يوسف كانت طبائعهم مختلفة ، امّا الأخ الأكبر فإنّه كان وفيّا بميثاقه وحافظا لوعده الذي واعد به أباه ، امّا بقيّة الاخوة فإنّهم بعد ان شاهدوا فشل جميع محاولاتهم في اقناع العزيز ، تراجعوا عن موقفهم وعدّوا أنفسهم معذورين ، ومن الطبيعي انّ ما قام به الأخ الأكبر كان هو الأسلوب المجدي والصحيح ، لانّه ببقائه في مصر والاعتصام بها وعلى مقربة من بلاط العزيز وقصره كان باعثا للامل في ان يترحّم العزيز على الاخوة وعلى أبيهم الشّيخ الكبير ، ويعفو عن هذا الغريب ولا يجازيه من اجل صاع سرقه ثمّ عثر عليه العمّال ، فعلى هذا واملا في استجداء عطف العزيز ، بقي في مصر وبعث بإخوته الى أبيهم في كنعان ليبلغوه الخبر ويطلبوا منه ان يدلّهم على الطريق الصحيح لانقاذ أخيهم.

* * *

٢٧٩

الآيات

( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) )

التّفسير

يعقوب والألطاف الالهية :

وأخيرا غادروا مصر متّجهين الى كنعان في حين تخلّف أخواهم الكبير والصغير ، ووصلوا الى بيتهم منهوكي القوى وذهبوا لمقابلة أبيهم ، وحينما راى الأب الحزن والألم مستوليا على وجوههم (خلافا للسفرة السابقة والتي كانوا فيها في غاية الفرح) علم انّهم يحملون اليه اخبارا محزنة وخاصّة حينما افتقد بينهم بنيامين وأخاه الأكبر ، وحينما اخبروه عن الواقعة بالتفصيل ، استولى عليه

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

للآية ، بأن أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ـ قد منع أجيره أجره ـ والظاهر أنّه كان مسلما ـ وقال متهكما : إن كان ما يقوله محمّد حقا فنحن أولى من غيرنا بنعم الجنّة ، وسندفع أجر هذا العامل بالكامل هناك! فنزلت هذه الآية وقالت : إنّ الجنّة مختصة بمن كان تقيا.

* * *

٤٨١

الآيتان

( وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) )

سبب النّزول

ذكر جماعة من المفسّرين في سبب نزول هاتين الآيتين ، أنّ الوحي انقطع أيّاما ، ولم يأت جبرئيل رسول الوحي الإلهي إلى النّبي ، فلمّا انقضت هذه المدّة قال له : قال عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما منعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا» ، فنزلت الآية :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (1) .

التّفسير

الطاعة التّامة :

بالرّغم من أن لهذه الآية سبب نزول ذكر أعلاه ، إلّا أنّ هذا لا يكون مانعا من

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 352 ، عن مجمع البيان ، وتفسير القرطبي ، الجزء 11 ، ص 416 ، وذيل الآية مورد البحث باختلاف يسير.

٤٨٢

أن يكون لها ارتباطا منطقيا بالآيات السابقة ، لأنّها تأكيد على أنّ كل ما أتى به جبرئيل من الآيات السابقة قد بلغه عن الله بدون زيادة أو نقصان ، ولا شيء من عنده ، فتتحدث الآية الأولى على لسان رسول الوحي فتقول :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) فكل شيء منه، ونحن عباد وضعنا أرواحنا وقلوبنا على الأكف( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) والخلاصة : فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل ، وهنا وهناك وكل مكان ، والدنيا والآخرة والبرزخ ، كل ذلك متعلق بذات الله المقدسة.

وقد ذكر بعض المفسّرين لجملة( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) آراء عديدة بلغت أحيانا أحد عشر قولا ما ذكرنا أعلاه هو أنسبها جميعا كما يبدو

ثمّ تضيف الآية : إن كل ذلك بأمر ربّك( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) فإذا كان الأمر كذلك ، وكل الخطوط تنتهي إليه( فَاعْبُدْهُ ) عبادة مقترنة بالتوحيد والإخلاص. ولما كان هذا الطريق ـ طريق العبودية والطاعة وعبادة الله الخالصة ـ مليء بالمشاكل والمصاعب ، فقد أضافت( وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) ، وتقول في آخر جملة :( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) .

وهذه الجملة في الواقع ، دليل على ما جاء في الجملة السابقة ، يعني : هل لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمد يدك اليه وتعبده؟

إنّ كلمة (سمي) وإن كانت تعني «المشترك في الاسم» ، إلّا أن من الواضح أنّ المراد هنا ليس الاسم فقط ، بل محتوى الاسم ، أي : هل تعلم أحدا غير الله خالقا رازقا ، محييا مميتا ، قادرا على كل شيء ، وظاهرا على كل شيء؟

* * *

٤٨٣

الآيات

( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) )

سبب النّزول

الآيات الأولى ـ على رأي جماعة من المفسّرين ـ نزلت في شأن «أبي بن خلف» ، أو «الوليد بن المغيرة» ، حيث أخذوا قطعة من عظم منخور ، ففتوه بأيديهم ونثروه في الهواء حتى تطايرت كل ذرة منه إلى جهة ، وقالوا انظروا إلى محمّد الذي يظن أن الله يحيينا بعد موتنا وتلاشي عظامنا مثل هذا العظم! إن هذا شيء غير ممكن أبدا. فنزلت هذه الآيات وأجابتهم ، جوابا قاطعا ، جوابا مفيدا ومعلما لكل البشر ، وفي جميع القرون والأعصار.

٤٨٤

التّفسير

حال أهل النّار :

مرّت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنّة والجحيم ، وتتحدث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع ، فتعيد الآية الأولى أقوال منكري المعاد ، فتقول:( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) .

هذا الاستفهام استفهام إنكاري طبعا ، أي إنّ هذا الشيء غير ممكن. أمّا التعبير بالإنسان (وخاصّة مع ألف ولام الجنس) ، مع أنّه كان من المناسب أن يذكر الكافر محله ـ فربّما كان من جهة أن هذا السؤال مخفي في طبع كل إنسان في البداية بزيادة ونقيصة ، وبسماع مسألة الحياة بعد الموت سترتسم في ذهنه علامة الاستفهام فورا.

ثمّ يجيبهم مباشرة بنفس التعبير( أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) . ويمكن أن يكون التعبير بـ «الإنسان» هنا أيضا إشارة إلى أن الإنسان مع ذلك الاستعداد والذكاء الذي منحه الله إيّاه ، يجب أن لا يجلس ساكتا أمام هذا السؤال ، بل يجب أن يجيب عليه بتذكر الخلق الأوّل ، وإلّا فإنّه لم يستعمل حقيقة إنسانيته.

إنّ هذه الآيات ـ ككثير من الآيات المرتبطة بالمعاد ـ تؤكّد على المعنى الجسماني ، وإلّا فإذا كان القرار أن تبقى الروح فقط ، ولا وجود لرجوع الجسم إلى الحياة ، فلا مكان ولا معنى لذلك السؤال ، ولا لهذا الجواب.

على كل حال ، فقد استعمل القرآن هذا المنطق لإثبات المعاد هنا ، وقد جاء في مواضع أخرى من القرآن أيضا ، ومن جملتها في أواخر سورة يس ، حيث طرح الأمر بنفس تعبير الإنسان :( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ

٤٨٥

يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1) (2) .

بعض المفسّرين طرح هنا سؤالا ، وهو أن هذا الدليل إذا كان صحيحا ، بأنّ كل شخص إذا ما عمل عملا فإنّه قادر على إعادته ، فلما ذا نقوم بأعمال ثمّ نعجز عن تكرارها أحيانا؟ فمثلا قد ننشد قطعة شعرية رائعة جدّا ، أو نكتب بخط جميل جدّا ، غير أنّنا بعد ذلك نجتهد في الإتيان بمثله ولكن دون جدوى.

الجواب هو : صحيح أنّنا نقوم بأعمالنا بإرادة واختيار ، إلّا أن هناك سلسلة من الأمور غير الإرادية تؤثر في أفعالنا الخاصّة أحيانا ، فإنّ حركة واهتزاز يدنا غير المحسوس يؤثر أحيانا في دقة شكل الحروف. إضافة إلى أن قدرتنا واستعدادنا ليسا متساويين دائما ، فقد تعرض أحيانا عوامل تعبئ كل قوانا الداخلية ، ونستطيع أن نبدع في الأعمال ونأتي بأعلاها، إلّا أنّ هذه الدوافع تكون ضعيفة أحيانا ، فلا تستجمع كل الطاقات ، ولذلك فإن العمل الثّاني لا ينفذ بدقة وجودة العمل الأوّل.

إلّا أنّ الله الذي لا تنتهي قدرته ، لا تثار حوله هذه المسائل ، ولا تقاس قدرته على أعمالنا وقدراتنا ، فإنّه إذا عمل عملا فإنّه يستطيع إعادته بعينه بدون زيادة أو نقصان.

ثمّ تهدد الآية التالية منكري المعاد ، والمجرمين الكافرين :( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) .

إنّ هذه الآية توحي بأنّ محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من جهنم! والتعبير بـ «جثيا» ـ مع العلم أن جثي جمع جاثي ، وهو الذي يجثو على ركبتيه ـ ربّما كان إشارة إلى ضعف وعجز وذلة هؤلاء ، حتى أنّهم لا قدرة لهم على الوقوف أحيانا.

__________________

(1) يس ، 77 ـ 79.

(2) لقد بحثنا حول هذا الدليل في ذيل الآية (29) من الأعراف تحت عنوان (أقصر دليل لإثبات المعاد).

٤٨٦

ولهذه الكلمة معاني أخرى أيضا ، فمن جملتها أنّهم فسروا «جثيا» بمعنى جماعة جماعة ، وبعضهم فسّرها بمعنى الكثرة وازدحام بعضهم على بعض كتراكم التراب والحجارة ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب والأشهر.

ولما كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة ، فإنّ الآية التالية تقول :( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) (1) ونبدأ بحسابهم أوّلا ، فإنّهم عتوا عتوا نسوا معه كل مواهب الله الرحمان ، وجنحوا إلى التمرد والعصيان وإظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم! أجل ، إن هؤلاء أحق من الجميع بالجحيم.

ثمّ تؤكّد على هذا المعنى مرّة أخرى فتقول :( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ) فسنختار هؤلاء بدقة ، وسوف لا يقع أي اشتباه في هذا الإختيار.

(صلي) مصدر يعطي معنى إشعال النار وإيقادها ، كما يعني حرق الشيء بالنّار.

* * *

__________________

(1) «الشيعة» في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما ، وانتخاب هذا التعبير في الآية يمكن أن يكون إشارة إلى أن العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان ، ونحن سنحاسب هؤلاء أوّلا ، لأنّهم أكثر تمردا وعصيانا من الجميع.

٤٨٧

الآيتان

( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) )

التّفسير

الجميع يردون جهنم!

تستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب ، وأشارت في البداية إلى مسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس ، فتقول :( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فجميع الناس سيدخلون جهنم بدون استثناء لأنّه أمر حتمي.

( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) فنتركهم فيها جالسين على الركب من الضعف والذّل.

وهناك بحث مفصل بين المفسّرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من «الورود» في جملة( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) .

فيرى بعض المفسّرين أنّ «الورود» هنا بمعنى الاقتراب والإشراف ، أي إن جميع الناس بدون استثناء ـ المحسن منهم والمسيء ـ يأتون إلى جانب جهنم للحساب ، أو لمشاهدة مصير المسيئين النهائي ، ثمّ ينجي الله المتقين ، ويدع

٤٨٨

الظالمين فيها. وقد استدل هؤلاء لدعم هذا التّفسير بالآية (23) من سورة القصص :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) حيث أن للورود هنا نفس المعنى.

والتّفسير الثّاني الذي اختاره أكثر المفسّرين ، هو أن الورود هنا بمعنى الدخول ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء ـ محسنهم ومسيئهم ـ يدخلون جهنم ، إلّا أنّها ستكون بردا وسلاما على المحسنين ، كحال نار نمرود على إبراهيم( يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ) ، لأنّ النّار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين ، فقد تفر منهم وتبتعد عنهم ، إلّا أنّها تناسب الجهنميين فهم بالنسبة للجحيم كالمادة القابلة للاشتعال ، فما أن تمسهم النار حتى يشتعلوا.

وبغض النظر عن فلسفة هذا العمل ، والتي سنشرحها فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ فإنّ ممّا لا شك في أنّ ظاهر الآية يلائم وينسجم مع التّفسير الثاني ، لأنّ المعنى الأصلي للورود هو الدخول ، وغيره يحتاج إلى قرينة. إضافة إلى أن جملة( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) وكذلك جملة( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) كلتاهما شاهدتان على هذا المعنى. علاوة على الرّوايات المتعددة الواصلة إلينا في تفسير الآية التي تؤيد هذا المعنى ، ومن جملتها :

روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّ رجلا سأله عن هذه الآية ، فأشار جابر بإصبعيه إلى أذنيه وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «الورود الدّخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلّا يدخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى أن للنّار ـ أو قال لجهنم ـ ضجيجا من بردها ، ثمّ ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا»(1) .

وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تقول النّار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي»(2) !

__________________

(1) نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 353.

(2) المصدر السّابق.

٤٨٩

ويستفاد هذا المعنى أيضا من بعض الرّوايات الأخرى. وكذلك التعبير العميق المعنى للصراط ، والذي ورد في روايات متعددة بأنّه جسر على جهنم ، وأنّه أدق من الشعرة وأحد من السيف ، هذا التعبير شاهد آخر على هذا التّفسير(1) .

أمّا ما يقوله البعض من أن الآية (101) من سورة الأنبياء :( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) دليل على التّفسير الأوّل ، فلا يبدو صحيحا ، لأن هذه الآية مرتبطة بمحل إقامة ومقر المؤمنين الدائمي ، حتى أنّنا نقرأ في الآية التالية لهذه الآية :( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) فإذا كان الورود في آية البحث بمعنى الاقتراب ، فهي غير مناسبة لكلمة( مُبْعَدُونَ ) ولا لجملة( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) .

جواب عن سؤال :

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ، هو : ما هي الحكمة هذا العمل؟ وهل أن المؤمنين لا يرون أذى ولا عذابا من هذا العمل؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال ـ التي وردت في الرّوايات حول كلا الشقين ـ ستتضح بقليل من الدقة.

إنّ مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة ، ستكون مقدمة لكي يلتذ المؤمنون بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة ، لأن أحدا لا يعرف قدر العافية حتى يبتلى بمصيبة (وبضدها تتمايز الأشياء) فهناك لا يبتلى المؤمنون بمصيبة ، بل يشاهدون المصيبة على المسرح فقط ، وكما قرأنا في الرّوايات السابقة ، فإنّ النّار تصبح بردا وسلاما على هؤلاء ، ويطغى نورهم على نورها ويخمده.

إضافة إلى أنّ هؤلاء يمرون على النار بكل سرعة بحيث لا يرى عليهم أدنى أثر ، كما

روي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في حديث : «يرد الناس ثمّ يصدون بأعمالهم ،

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 5 ، ص 572 ذيل آية( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر ، 14.

٤٩٠

فأوّلهم كلمع البرق ، ثمّ كمر الريح ، ثمّ كحضر الفرس ، ثمّ كالراكب ، ثمّ كشد الرجل ، ثمّ كمشيه»(1) .

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ أهل النّار أيضا سيلقون عذابا أشد من رؤية هذا المشهد ، وأن أهل الجنّة يمرون بتلك السرعة وهم يبقون في النّار ، وبهذا سيتّضح جواب كلا السؤالين.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 353.

٤٩١

الآيات

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) )

التّفسير

هذه الآيات تتابع ما مر في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين لا إيمان لهم ، وتتعرض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.

ومن المعلوم أنّ أوّل جماعة آمنت بالرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا من المستضعفين الطاهري القلوب ، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها هؤلاء المحرومون هم الذين جاءت الأديان الإلهية من أجل إنقاذهم من قبضة

٤٩٢

الظالمين الجائرين بلال وسلمان ، وعمار ، وخباب ، وسمية ، وأمثالهم مصاديق بارزة لهؤلاء المؤمنين المظلومين.

ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان ـ وكذا في كل مجتمع جاهلي آخر ـ هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية ، فكان الأثرياء الظالمون ، كالنضر بن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين الفقراء بذلك ويقولون : إنّ علامة شخصيتنا معنا ، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم ومحروميتكم ، وهذا بنفسه دليل على أحقيتنا وباطلكم! كما يقول القرآن الكريم في أول آيه من الآيات مورد البحث :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) .

خاصّة وأنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أن هؤلاء الأشراف المترفين كانوا يلبسون أجمل ملابسهم ، ويتزينون بأبهى زينة ، ويتبخترون أمام أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا ينظرون إليهم نظرة تحقير واستهزاء نعم ، هذه طريقة هذه الطبقة في كل عصر وزمان.

«النديّ» أخذت في الأصل من (الندى) أي الرطوبة ، ثمّ جاءت بمعنى الأفراد الفصحاء والخطباء ، لأن أحد شروط القدرة على التكلم امتلاك القدر الكافي من اللعاب ، ولذلك فإن (نديّ) تعني المجالسة والتحدث ، بل يقال للمجلس الذي يجتمعون فيه للأنس والسمر ، أو يجلسون فيه للتشاور : نادي ، ومن هذا أخذت (دار الندوة) وهي المحل الذي كان في مكّة ، وكان يجتمع فيه زعماؤها للتشاور.

وقد يعبر عن السخاء والبذل والعطاء ب (الندى)(1) وهذه الآية يمكن أن تكون إشارة إلى كل هذه المعاني ، أي : إنّ مجلس أنسنا أجمل من مجلسكم ، وإن مالنا وثروتنا وزينتنا ولباسنا أبهى وأروع ، وإن كلامنا وأشعارنا الفصيحة والبليغة

__________________

(1) مفردات الراغب ، مادة (ندى).

٤٩٣

أبلغ وأحسن!

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماما ، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم ، فيقول : كأن هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر ، ولم ينظروا كم دمرنا من الأقوام السابقين عند تمردهم وعصيانهم :( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً ) (1) فهل استطاعت أموالهم وثروتهم ، ومجالسهم الفاسقة ، وملابسهم الفاخرة ، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإلهي وتقف أمامه؟ وإذا كانت هذه الأمور دليلا على شخصيتهم ومنزلتهم عند الله ، فلما ذا ابتلوا بهذا المصير المشؤوم؟

إنّ زخارف الدنيا وبهارجها متزلزلة إلى حدّ أنّها تتلاشى وتزول بمجرّد أن يهب عليها أدنى نسيم هادئ.

«القرن» ـ كما قلنا سابقا في ما مرّ في ذيل الآية (6) من سورة الأنعام ـ تعني عادة الزمان الطويل ، لكن لما كانت قد أخذت من مادة الاقتران ، أي الاقتراب ، فإنّها تقال أيضا للقوم والأناس المجتمعين في زمان واحد.

ثمّ تحذرهم تحذيرا آخر ، بأن لا تظنوا أيّها الظالمون الكافرون أنّ مالكم وثروتكم هذه رحمة ، بل كثيرا ما تكون دليلا على العذاب الإلهي :( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ) إي إمّا العذاب في هذه الدنيا ، وإمّا عذاب الآخرة( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً ) .

في الحقيقة ، إنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يمكن هدايتهم (والملاحظ أن القرآن يقول :( مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ) وهو إشارة إلى الاستمرار في الضلال) من

__________________

(1) (الأثاث) بمعنى المتاع وزينة الدنيا ، و (رئي) بمعنى الهيئة والمنظر.

٤٩٤

أجل أن يروا العقاب الإلهي الشديد ، فإنّ الله سبحانه يجعلهم أحيانا يغوصون ويغرقون في النعم لتصبح سببا لغرورهم ، كما تكون سببا لنزول العذاب عليهم ، فإنّ سلب النعم عنهم حينئذ سيجعل لوعة العذاب أشد. وهذا هو ما ذكر في بعض آيات القرآن بعنوان عقاب «الاستدراج»(1) .

جملة( فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ) وإن كانت بصيغة الأمر ، إلّا أنّها بمعنى الخبر ، فمعناها : إنّ الله يمهل هؤلاء ويديهم عليهم النعم.

وقد فسرها بعض المفسّرين بنفس معنى الأمر أيضا ، وأنّه يعني هنا اللعنة ، أو وجوب مثل هذا العمل والمعاملة على الله. إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب.

وكلمة (العذاب) بقرينة وقوعها في مقابل (الساعة) فإنّها إشارة إلى العقوبات الإلهية في عالم الدنيا ، عقوبات كطوفان نوح ، والزلزلة ، والحجارة السماوية التي نزلت على قوم لوط. أو العقوبات التي أصيبوا بها على يد المؤمنين والمقاتلين في جبهات الحق ، كما نقرأ في الآية (14) من سورة التوبة :( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

«الساعة» هنا إمّا بمعنى نهاية الدنيا ، أو العذاب الإلهي في القيامة. ويبدو لنا أن المعنى الثّاني هو الأنسب.

هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها ، أمّا أولئك الذين آمنوا واهتدوا ، فإنّ الله يزيدهم هدى وإيمانا( وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) .

من البديهي أن للهداية درجات ، فإذا طوى الإنسان درجاتها الأولى فإنّ الله يأخذه بيده ويرفعه إلى درجات أعلى ، وكما أنّ الشجرة المثمرة تقطع كل يوم

__________________

(1) راجع ذيل الآيات 182 ، 183 من سورة الأعراف.

٤٩٥

مرحلة جديدة إلى التكامل والإيناع ، فكذلك المهتدون يرتقون كل يوم مراق أعلى في ظل الإيمان والأعمال الصالحة التي يعملونها.

وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة الزوال ، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين ، فتقول :( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) (1) .

* * *

__________________

(1) «مردّ» ـ على وزن نمدّ بتشديد الدال ـ إمّا مصدر بمعنى الرّد والإرجاع ، أو اسم مكان بمعنى محل الرجوع، والمراد منه هنا الجنّة ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أوفق لمعنى الآية.

٤٩٦

الآيات

( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) )

التّفسير

تفكير خرافي ومنحرف :

يعتقد بعض الناس أنّ الإيمان والطهارة والتقوى لا تناسبهم ، وأنّها السبب في أن تدبر الدنيا عنهم ، أمّا إذا خرجوا من دائرة الإيمان والتقوى فإنّ الدنيا ستقبل عليهم ، وتزيد ثروتهم وأموالهم!

إنّ هذا النوع من التفكير ، سواء كان نابعا من البساطة واتباع الخرافات ، أو أنّه غطاء وتستّر للفرار من تحمل المسؤوليات والتعهدات الإلهية ، فهو تفكير خاطئ وخطير.

لقد رأينا عبدة الأوهام هؤلاء يجعلون أحيانا من كثرة أموال وثروات

٤٩٧

الأفراد غير المؤمنين ، وفقر وحرمان جماعة من المؤمنين ، دليلا لإثبات هذه الخرفة ، في حين أنّه لا الأموال التي تصل إلى الإنسان عن طريق الظلم والكفر وترك أسس التقوى تبعث على الفخر ، ولا الإيمان والتقوى يكونان سدا ومانعا في طريق النشاطات المشروعة والمباحة مطلقا.

على كل حال ، فقد كان في عصر النّبي ـ وكذلك في عصرنا ـ أفراد جاهلون يظنون هذه الظنون والأوهام ، أو كانوا يتظاهرون بها على الأقل ، فيتحدث القرآن ـ كمواصلة للبحث الذي بيّنه سابقا حول مصير الكفار والظالمين ـ في الآيات مورد البحث عن طريقة التفكير هذه وعاقبتها ، فيقول في أوّل آية من هذه الآيات :( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ) (1) .

ثمّ يجيبهم القرآن الكريم :( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) فإنّ الذي يستطيع أن يتكهن بمثل هذا التكهن ، ويقول بوجود علاقة بين الكفر والغنى وامتلاك الأموال والأولاد ، مطلّع على الغيب ، لأنا لا نرى أيّ علاقة بين هاتين المسألتين ، أو يكون قد أخذ عهدا من الله سبحانه ، وهذا الكلام أيضا لا معنى له.

ثمّ يضيف بلهجة حادة : إنّ الأمر ليس كذلك ، ولا يمكن أن يكون الكفر أساسا لزيادة مال وولد أحد مطلقا :( كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ) .

أجل ، فإنّ هذا الكلام الذي لا أساس له قد يكون سببا في انحراف بعض البسطاء ، وسيثبت كل ذلك في صحيفة أعمال هؤلاء( وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) .

هذه الجملة قد تكون إشارة إلى العذاب المستمر الخالد ، كما يحتمل أيضا أن

__________________

(1) نقل بعض المفسّرين سببا لنزول الآية وهو : إنّ أحد المؤمنين ـ واسمه خباب ـ كان يطلب أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ، فقال المدين مستهزئا : إذا وجدت مالا وولدا في عالم الآخرة فسأؤدي دينك.

إلّا أنّ سبب النّزول هذا لا يناسب الآية التي نبحثها ظاهرا ، خاصّة وأنّ الكلام عن الولد هنا ، ونحن نعلم أنّ الولد في عالم الآخرة غير مطروح للبحث. إضافة إلى أن الآيات التالية تقول بصراحة :( نَرِثُهُ ما يَقُولُ ) ويتّضح من هذا التعبير أنّ المقصود أموال الدنيا لا الأموال في الآخرة.

وعلى كل حال ، فإنّ جماعة من المفسّرين اعتبروا هذه الآية ـ بناء على سبب النّزول هذا ـ إشارة إلى الآخرة ، إلّا أنّ الحق ما قيل.

٤٩٨

تكون إشارة إلى العقوبات التي تحيط بهم في هذه الدنيا نتيجة للكفر وعدم الإيمان. ويحتمل أيضا أنّ هذه الأموال والأولاد التي هي أساس الغرور والضلال هي بنفسها عذاب مستمر لهؤلاء!

( وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ) من الأموال والأولاد( وَيَأْتِينا فَرْداً ) .

نعم ، إنّه سيترك في النهاية كل هذه الإمكانيات والأملاك المادية ويرحل ، ويحضر في محكمة العدل الإلهية بأيد خالية ، وفي الوقت الذي اسودت فيه صحيفة أعماله من الذنوب والمعاصي ، وخلت من الحسنات هناك ، حيث يرى نتيجة أقواله الجوفاء في دار الدنيا.

وتشير الآية التالية إلى علّة أخرى في عبادة هؤلاء الأفراد للأصنام ، فتقول :( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) وليشفعوا لهم عند الله ، ويعينوهم في حل مشاكلهم ، لكن ، أي ظن خاطئ وخيال ساذج هذا؟!

ليس الأمر كما يظن هؤلاء أبدا ، فليست الأصنام سوف لا تكون لهم عزّا وحسب، بل ستكون منبعا لذلتهم وعذابهم ، ولهذا فإنّهم سوف ينكرون عبادتهم لها في يوم القيامة:( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

إن هذه الجملة إشارة إلى نفس ذلك المطلب الذي نقرؤه في الآية (14) من سورة فاطر :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) . وكذلك ما نلاحظه في الآية (6) من سورة الأحقاف :( وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ) .

وقد احتمل بعض كبار المفسّرين أن المراد من الآية : إنّ عبدة الأصنام عند ما ترفع الحجب في القيامة ، وتتضح كل الحقائق ، ويرون أنفسهم قد فضحوا وخزوا ، فإنّهم ينكرون عبادة الأصنام ، وسيقفون ضدها ، كما نقرأ ذلك في الآية (23) من سورة الأنعام :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب مع ظاهر الآية ، لأن عبّاد الأصنام كانوا يريدون

٤٩٩

أن تكون آلهتهم ومعبوداتهم عزّا لهم ، إلّا أنّهم يصبحون ضدها في النهاية.

ومن الطبيعي أن تكلم المعبودات التي لها عقل وإدراك كالملائكة والشياطين والجن واضح ومعلوم ، إلّا أنّ الآلهة الميتة التي لا روح لها ، من الممكن أن تتكلم بإذن الله وتعلن تنفرها واشمئزازها من عبدتها ومن الممكن أن يستفاد هذا التّفسير من حديث مروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال في تفسير هذه الآية : يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة ويتبرءون منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة.

والجميل في الأمر أننا نقرأ في ذيل الحديث جملة قصيرة عميقة المحتوى حول العبادة:ليس العبادة هي السجود ولا الركوع ، وإنّما هي طاعة الرجال ، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده»(1) .

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 357.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572