الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل13%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287969 / تحميل: 5235
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

الغضب وقال مخاطبا ايّاهم بنفس العبارة التي خاطبهم بها حينما أرادوا ان يشرحوا له خديعتهم مع يوسف( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) اي انّ أهواءكم الشيطانية هي التي استولت عليكم وزيّنت لكم الأمر بهذه الصورة التي أنتم تصفونه.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا ، هو انّ يعقوب هل اكتفى في نسبة الكذب واتّباع الهوى لأولاده استنادا الى ما فعلوه في المرّة السابقة مع يوسف من سوء الفعل والحنث باليمين والعهد ، مع انّ مثل هذا الظنّ والقول واتّهام الآخرين لمجرّد تجربة سابقة بعيد عن سيرة عامّة الناس فضلا عن يعقوب الذي هو نبي معصوم ، وعلى الخصوص إذا استند المدّعي في دعواه على وثائق ومستندات تثبت دعواه ، كما انّ طريق الفحص والتحقيق عن واقع الحال كان مفتوحا ليعقوب.

او كان يعقوب يقصد بقوله : ( بل سّولت لكم . الى آخر) الاشارة الى امور اخرى ، منها :

١ ـ لعلّه عتاب لأولاده لخضوعهم امام الأمر الواقع وتسليمهم لحكم العزيز بمجرّد عثور الصاع عند أخيهم ، مع انّ العثور بمفرده لا يعدّ دليلا منطقيّا على السرقة.

٢ ـ ولعلّه عتاب لأولاده لما بيّنوه للعزيز من انّ عقوبة السارق عندهم هو استعباده مع انّ هذه السنّة السائرة في اهل كنعان سنّة باطلة ولا تعدّ قانونا سماويا (هذا ان قلنا انّ هذه السنّة لم تكن مأخوذة من شريعة يعقوب كما ذهب اليه بعض المفسّرين).

٣ ـ وأخيرا لعلّه عتاب لأولاده على استعجالهم في الخضوع لأحكام العزيز وخلق المعاذير والمبرّرات والرجوع مستعجلين الى كنعان دون الاقتداء بأخيهم الكبير في البقاء بمصر برغم العهود والمواثيق المغلّظة التي قطعوها مع أبيهم(١) .

__________________

(١) احتمل بعض المفسّرين انّ هذه الآية لعلّها اشارة الى قصّة يوسف ، لكنّه بعيد عن الواقع ، لانّ الآيات السابقة لا

٢٨١

لكن بعد هذا العتاب المليء بالحزن والاسى رجع يعقوب الى قرارة نفسه وقال :( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) اي انّني سوف امسك بزمام نفسي ، ولا اسمح لها بأن تطغى عليّ بل اصبر صبرا جميلا على امل بأنّ الله سبحانه وتعالى سوف يعيد لي اولادي (يوسف وبنيامين وأخوهم الأكبر)( عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) فإنّه هو العالم بواقع الأمور والخبير بحوادث العالم ما مضى منها وما سوف يأتي ، ولا يفعل الّا عن حكمة وتدبير( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

ثمّ بعد هذه المحاورات بين يعقوب وأولاده ، استولى عليه الحزن والألم ، وحينما رأى مكان بنيامين خاليا عادت ذكريات ولده العزيز يوسف إلى ذهنه ، وتذكّر تلك الايّام الجميلة التي كان يحتضن فيها ولده الجميل ذا الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة والذكاء العالي فيشمّ رائحته الطيّبة ويستعيد نشاطه ، امّا اليوم فلم يبق منه اثر ولا عن حياته خبر ، كما أنّ خليفته (بنيامين) ايضا قد ابتلي مثل يوسف بحادث مؤلم وذهب الى مصير مجهول لا تعرف عاقبته.

حينما تذكّر يعقوب هذه الأمور ابتعد عن أولاده واستعبر ليوسف( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ ) امّا الاخوة فإنّهم حينما سمعوا باسم يوسف ، ظهر على جبينهم عرق الندامة وازداد خجلهم واستولى عليهم الحزن لمصير اخويهم بنيامين ويوسف ، واشتدّ حزن يعقوب وبكاؤه على المصائب المتكرّرة وفقد اعزّ أولاده( وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ) لكن يعقوب كان ـ في جميع الأحوال مسيطرا على حزنه ويخفّف من آلامه ويكظم غيظه وان لا يتفوّه بما لا يرضى به الله سبحان وتعالى( فَهُوَ كَظِيمٌ ) .

يفهم من هذه الآيات انّ يعقوب لم يكن فاقدا لبصره ، لكنّ المصائب الاخيرة وشدّة حزنه ودوام بكائه افقده بصره ، وكما أشرنا سابقا فإنّ هذا الحزن والألم والعمى كان خارجا عن قدرته واختياره ، فإذا لا يتنافى مع الصبر الجميل.

__________________

تبحث عن قضيّة يوسف وفراقه عن أبويه.

٢٨٢

امّا الاخوة فكانوا متألّمين من جميع ما جرى لهم ، فمن جهة كان عذاب الوجدان لا يتركهم ممّا أحدثوه ليوسف ، ـ وفي قضيّة بنيامين ـ شاهدوا أنفسهم في وضع صعب وامتحان جديد ، ومن جهة ثالثة كان يصعب عليهم ان يشاهدوا أباهم يتجرّع غصص المرارة والألم ويواصل بكاؤه الليل بالنهار ، توجّهوا الى أبيهم وخاطبوه معاتبين( قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ) (١) اي انّك تردّد ذكر يوسف وتتأسّف عليه حتّى تتمرّض وتشرف على الهلاك وتموت.

لكنّ شيخ كنعان هذا النّبي العظيم والمتيقّظ الضمير ردّ عليهم بقوله :( إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ) (٢) لا إليكم ، أنتم الذين تخونون الوعد وتنكثون العهد لانّني( وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) فهو اللطيف الكريم الذي لا اطلب سواه.

* * *

__________________

(١) (حرض) على وزن مرض بمعنى الشيء الفاسد والمؤلم ، والمقصود منه هنا هو المريض الذي ضعف جسمه وصار مشرفا على الموت.

(٢) (بثّ) بمعنى التفرقة والشيء الذي لا يمكن إخفاؤه ، والمقصود منه هنا هو الألم والحزن الظاهر الذي لا يخفى على احد.

٢٨٣

الآيات

( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) )

التّفسير

اليأس علامة الكفر!

كان القحط والغلاء وشحّة الطعام يشتدّ يوما بعد آخر في مصر وما حولها

٢٨٤

ومنها كنعان ، ومرّة اخرى امر يعقوب أولاده بأن يتّجهوا صوب مصر للحصول على الطعام ، لكنّه هذه المرّة طلب منهم بالدرجة الاولى ان يبحثوا عن يوسف وأخيه بنيامين ، حيث قال لهم :( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ) .

لكن بما انّ أولاد يعقوب كانوا مطمئنين الى هلاك يوسف وعدم بقاءه ، تعجّبوا من توصية أبيهم وتأكيده على ذلك ، لكن يعقوب نهاهم عن اليأس والقنوط ووصّاهم بالاعتماد على الله سبحانه والاتّكال عليه بقوله :( وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ) فإنّه القادر على حلّ الصعاب و( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) .

(تحسّس) أصله من (حس) بمعنى البحث عن الشيء المفقود بأحد الحواس ، وهنا بحث بين اللغويين والمفسّرين في الفرق بينه وبين (تجسّس) وقد نقل عن ابن عبّاس انّ التحسّس هو البحث عن الخير ، والتجسّس هو البحث عن الشرّ ، لكن ذهب آخرون الى انّ التحسّس هو السعي في معرفة سيرة الأشخاص والأقوام دون التجسّس الذي هو البحث لمعرفة العيوب.

وهنا رأي ثالث في انّهما متّحدان في المعنى ، الّا انّ ملاحظة الحديث الوارد بقوله : «لا تجسّسوا ولا تحسّسوا» يثبت لنا انّهما مختلفان وانّ ما ذهب اليه ابن عبّاس في الفرق بينهما هو الأوفق بسياق الآيات المذكورة ، ولعلّ المقصود منهما في هذا الحديث الشريف : لا تبحثوا عن امور الناس وقضاياهم سواء كانت شرّا ام خيرا.

قوله تعالى «روح» بمعنى الرحمة والراحة والفرج والخلاص من الشدّة.

يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته «الرّوح والرّوح في الأصل واحد

٢٨٥

وجعل الروح اسما للنّفس والرّوح التنفّس وقد أراح الإنسان إذا تنفّس ...).

وأخيرا جمع الاخوة متاعهم وتوجّهوا صوب مصر ، وهذه هي المرّة الثّالثة التي يدخلون فيها ارض مصر ، هذه الأرض التي سبّبت لهم المشاكل وجرّت عليهم الويلات.

لكن في هذه السفرة ـ خلافا للسفرتين السابقتين ـ كانوا يشعرون بشيء من الخجل يعذّب ضمائرهم فإنّ سمعتهم عند اهل مصر او العزيز ملوّثة للوصمة التي لصقت بهم في المرّة السابقة ، ولعلّهم كانوا يرونهم بمثابة (مجموعة من لصوص كنعان) الذين جاؤوا للسرقة. ومن جهة اخرى لم يحملوا معهم هذه المرّة من المتاع ما يستحقّ ان يعاوضوه بالطعام والحبوب ، اضافة الى هذه الأمور فإنّ فقد أخيهم بنيامين والآلام التي المّت بأبيهم كانت تزيد من قلقهم وبتعبير آخر فإنّ السكين قد وصلت الى العظم ، كما يقول المثل الّا انّ الذي كان يبعث في نفوسهم الأمل ويعطيهم القدرة على تحمّل الصعاب هو وصيّة أبيهم( لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ) .

وأخيرا استطاعوا ان يقابلوا يوسف ، فخاطبوه ـ وهم في غاية الشدّة والألم ـ بقولهم :( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ) اي انّ القحط والغلاء والشدّة قد المّت بنا وبعائلتنا ولم نحمل معنا من كنعان إلّا متاعا رخيصا( وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) (١) لا قيمة لها ولكن ـ في كلّ الأحوال ـ نعتمد على ما تبذل لنا من كرمك ونأمل في معروفك( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ) بمنّك الكريم وصدقاتك الوافرة( وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ) ولا تطلب منّا الأجر ، بل اطلبه من الله سبحانه وتعالى حيث( إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) .

__________________

(١) (البضاعة) أصلها (البضع) على وزن جزء ، وهي بمعنى القطعة من اللحم المقطوعة من الجسم ، كما يطلق على جزء من المال الذي يقتطع منه ثمنا لشيء (مزجاة) من (الإزجاء) بمعنى الدفع ، وبما انّ الشيء التافه والقليل الثمن يدفعه الآخذ عن نفسه ، اطلق عليه (مزجاة).

٢٨٦

والطريف انّ اخوة يوسف لم ينفذوا وصيّة أبيهم في البحث عن إخوتهم اوّلا ، بل حاولوا الحصول على الطعام ، ولأجل ذلك قابلوا العزيز وطلبوا منه المؤن والحبوب ، ولعلّ السبب في ذلك ضعف أملهم في العثور على يوسف ، او لعلّهم أرادوا ان يظهروا أنفسهم امام العزيز والمصريين وكأنّهم أناس جاؤوا لشراء الطعام والحبوب فقط ، فمن ثمّ يطرحوا مشكلتهم امام العزيز ويطلبوا منه المساعدة ، فعند ذاك يكون وقع الطلب أقوى واحتمال تنفيذه اكثر.

قال بعض المفسّرين : انّ مقصود الاخوة من قولهم :( تَصَدَّقْ عَلَيْنا ) كان طلب الإفراج عن أخيهم لانّهم لم يطلبوا من العزيز الطعام والحبوب مجّانا دون عوض حتّى يطلبوا منه التصدّق عليهم ، فإنّهم يدفعون ثمنه.

ونقرا في روايات وردت في هذا المقام ، انّ الاخوة كانوا يحملون معهم رسالة من أبيهم الى عزيز مصر ، حيث مدح يعقوب في تلك الرسالة عزيز مصر واكبر عدالته وصلاحه وشكره على ما بذله له ولعائلته من الطعام والحبوب ، ثمّ عرّف نفسه والأنبياء من اهل بيته وأخبره برزاياه وما تحمله من المصائب والمصاعب من فقده اعزّ أولاده واحبّهم الى نفسه يوسف وأخيه بنيامين ، وما أصابهم من القحط والغلاء ، وفي ختام الرسالة طلب من العزيز ان يمنّ عليه ويطلق سراح ولده بنيامين ، وذكّره انّ بنيامين سليل بيت النبوّة والرسالة وانّه لا يتلوّث بالسرقة وغيرها من الدناءات والمعاصي.

وحينما قدّم الأولاد رسالة أبيهم الى العزيز شاهدوا انّه فضّ الرسالة باحترام وقبلها ووضعها على عينيه وبدا يبكي بحيث انّ الدموع بلّت ثيابه(١) (وهذا ما حيّر الاخوة ، وبداوا يفكّرون بعلاقة العزيز مع أبيهم بحيث جعله يبكي شوقا وشغفا حينما فتحها ، ولعلّ فعل العزيز اثار عندهم احتمال ان يكون يوسف هو العزيز ، ولعلّ هذه الرسالة أثارت عواطف العزيز وشعوره بحيث لم يطق صبرا

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية الشريفة.

٢٨٧

وعجز عن ان يخفي نفسه بغطاء السلطة وأجبره على كشف نفسه لإخوته).

وفي تلك اللحظة ، وبعد ان مضت ايّام الامتحان الصعب ـ وكان قد اشتدت محنة الفراق على يوسف وظهرت عليه آثار الكآبة والهمّ ، أراد ان يعرّف نفسه لإخوته فابتدرهم بقوله :( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) .

لاحظوا عظمة يوسف وعلوّ نفسه حيث يسألهم اوّلا عن ذنبهم لكن بهذه الكناية اللطيفة يقول :( ما فَعَلْتُمْ ) وثانيا يبيّن لهم طريقة الاعتذار وانّ ما ارتكبوه في حقّ إخوتهم انّما صدر عن جهلهم وغرورهم ، وانّه قد مضى ايّام الصبى والطفولة وهم الآن في دور الكمال والعقل!

كما انّه يفهم من الآية الشريفة انّ يوسف لم يكن وحده الذي ابتلي بإخوته ومعاملتهم السيّئة ، بل انّ بنيامين ايضا كان يقاسي منهم ألوان العذاب ، ولعلّه قد شرح لأخيه يوسف في الفترة التي قضاها في مصر ، جانبا ممّا عاناه تحت أيديهم ، ويستفاد من بعض الرّوايات انّ يوسف حينما استفسر عمّا فعلوه معه ومع أخيه ختم استفساره بابتسامة عريضة ليدفع عن أذهانهم احتمال انّه سوف ينتقم منهم فظهرت لإخوته أسنانه الجميلة ولاحظوا وتذكّروا الشبه بينه وبين أسنان أخيهم يوسف(١) .

امّا هم ، فإنّهم حينما لاحظوا هذه الأمور مجتمعة ، وشاهدوا انّ العزيز يتحدّث معهم ويستفسرهم عمّا فعلوه بيوسف ، تلك الأعمال التي لم يكن يعلمها احد غيرهم الّا يوسف.

ومن جهة اخرى ادهشهم يوسف وما اصابه من الوجد والهياج حينما استلم كتاب يعقوب ، واحسّوا بعلاقة وثيقة بينه وبين صاحب الرسالة.

وثالثا كلّما أمعنوا النظر في وجه العزيز ودقّقوا في ملامحه ، لاحظوا الشبه الكبير بينه وبين أخيهم يوسف لكنّهم في نفس الوقت لم يدر بخلدهم ولم

__________________

(١) مجمع البيان في ذيل الآية الشريفة.

٢٨٨

يتصوّروا انّه يمكن ان يكون أخوهم يوسف قد ارتقى منصب الوزارة وصار عزيزا لمصر ، اين يوسف واين الوزارة والعزّة؟! لكنّهم تجرّأوا أخيرا وسألوه مستفسرين منه( قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) .

كانت هذه الدقائق أصعب اللحظات على الاخوة ، حيث لم يكونوا يعرفون محتوى اجابة العزيز! وانّه هل يرفع الستار ويظهر لهم حقيقته ، ام انّه سوف يعتقد بأنّهم مجانين حيث ظنّوا هذا الظنّ.

كانت اللحظات تمرّ بسرعة والانتظار الطويل يثقل على قلوبهم فيزيد في قلقهم ، لكن يوسف لم يدع اخوته يطول بهم الانتظار ورفع الحجاب بينه وبينهم واظهر لهم حقيقة نفسه و( قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي ) لكن لكي يشكر الله سبحانه وتعالى على ما أنعمه من جميع هذه المواهب والنعم ، ولكي يعلّم اخوته درسا آخر من دروس المعرفة قال : إنّه( قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) .

لا يعرف احد كيف مرّت هذه اللحظات الحسّاسة على الاخوة كما لا يعرف احد مدى انفعالهم وما خامرهم من السرور والفرح وكيف تعانقوا واحتضنوا أخاهم والدموع الغزيرة التي ذرفوها وذلك حينما التقوا بأخيهم وبعد عشرات السنين من الفراق ، لكنّهم في كلّ الأحوال كانوا لا يطيقون النظر إلى وجه أخيهم يوسف لعلمهم بالذنب والجريمة التي اقترفوها في حقّه ، فترقّبوا اجابة يوسف وانّه هل يغفر لهم إساءتهم اليه ويعفو عن جريمتهم ام لا؟ فابتدءوا مستفسرين بقولهم :( قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا ) (١) اي انّ الله سبحانه وتعالى قد فضّلك علينا بالعلم والحلم والحكومة( وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) (٢) .

__________________

(١) (آثرك) أصله من (الإيثار) وفي الأصل بمعنى البحث عن اثر الشيء ، وبما انّه يقال للفضل والخير : اثر ، فقد استعملت هذه الكلمة للدلالة على الفضيلة والعلو ، فبناء على هذا يكون معنى قوله( آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا ) اي انّ الله سبحانه وتعالى قد أكرمك وفضّلك علينا لما قمت به من الأعمال الخيّرة.

(٢) يرى الفخر الرازي في تفسيره انّ الفرق بين الخاطئ والمخطئ هو انّ الخاطئ يقال لمن تعمّد الخطأ ، والمخطئ لمن

٢٨٩

امّا يوسف الذي كانت نفسه تأبى ان يرى اخوته في حال الخجل والندامة ـ خاصّة في هذه اللحظات الحسّاسة وبعد انتصاره عليهم ـ او لعلّه أراد ان يدفع عن أذهانهم ما قد يتبادر إليها من احتمال ان ينتقم منهم ، فخاطبهم بقوله :( قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) (١) اي انّ العتاب والعقاب مرفوع عنكم اليوم ، اطمئنوا وكونوا مرتاحي الضمير ولا تجعلوا للآلام والمصائب السابقة منفذا الى نفوسكم ، ثمّ لكي يبيّن لهم انّه ليس وحده الذي أسقط حقّه وعفا عنهم ، بل إنّ الله سبحانه وتعالى ايضا عفا عنهم حينما أظهروا الندامة والخجل قال لهم :( يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) اي انّ الله سبحانه وتعالى قد قبل توبتكم وعفا عنكم لانّه ارحم الراحمين.

وهذا دليل على علو قدر يوسف وغاية فضله حيث انّه لم يعف عن سيّئات اخوته فحسب ، بل رفض حتّى ان يوبّخ ويعاتب اخوته ـ فضلا عن ان يجازيهم ويعاقبهم ـ اضافة الى هذا فإنّه طمأنهم على انّ الله سبحانه وتعالى رحيم غفور وانّه تعالى سوف يعفو عن سيّئاتهم ، واستدلّ لهم على ذلك بأنّ الله سبحانه وتعالى هو ارحم الراحمين.

وهنا تذكر الاخوة مصيبة اخرى قد المّت بعائلتهم والشاهد الحي على ما اقترفوه في حقّ أخيهم الا وهو أبوهم حيث فقد الشيخ الكبير بصره حزنا وفراقا على يوسف ، امّا يوسف فإنّه قد وجد لهذه المشكلة حلا حيث خاطبهم بقوله :( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) ثمّ طلب منهم ان يجمعوا العائلة ويأتوا بهم جميعا( وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) .

* * *

__________________

اخطأ عن سهو.

(١) «تثريب» أصله من مادّة (ثرب) وهو شحمة رقيقة تغطّي المعدة والأمعاء ، والتثريب بمعنى رفع هذا الغطاء ، ثمّ بمعنى العتاب والملامة فكان المعاقب قد رفع بعتابه غطاء الذنب عن وجه المذنب (راجع القاموس ومفردات الراغب وتفسير الرازي وروح المعاني).

٢٩٠

بحوث

١ ـ من الذي حمل قميص يوسف؟

ورد في بعض الرّوايات انّ يوسف قال : انّ الذي يحمل قميصي المشافي الى أبي لا بدّ وان يكون هو نفسه الذي حمل قميصي الملطّخ بالدماء اليه ، لكي يدخل السرور على قلبه بعد ان ملا قلبه حزنا وألما من قبل! فأعطى ل (يهودا) قميصه بعد ان اعترف له انّه هو الذي حمل قميصه الملطّخ بالدماء الى أبيه وأخبره بأنّ الذئب قد أكل يوسف ، وهذا التصرّف من يوسف ان لم يدلّ على شيء فإنّه يدلّ على انّه برغم اعماله الكثيرة ومتاعبه اليوميّة ، فإنّه لم يغفل عن صغائر الأمور المتعلّقة بالسلوك الاخلاقي(١) .

٢ ـ يوسف وجلالة شأنه :

ورد في بعض الرّوايات انّ اخوة يوسف ـ بعد هذه القضايا ـ كانوا يحسّون بالخجل الشديد فأرسلوا اليه من يقول له : يا يوسف انّك تستضيفنا كلّ يوم صباحا ومساء ـ على مائدتك فنأكل من زادك وهذا ما يزيد في خجلنا حيث لا نطيق النظر الى وجهك بعد ان نتذكّر اساءتنا إليك ، فأجابهم بكلمة لطيفة ليبعد عنهم الخجل بأنّ الفضل يعود إليهم ، وانّ جلوسهم على مائدته لهو مكرمة منهم وانّ الشعب المصري كانوا ينظرون اليّ نظرة الحرّ الى العبد ويقولون فيما بينهم (سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ!!) اي انظروا الى فعل الله سبحانه وتعالى بهذا العبد فإنّه قد بيع في السوق بعشرين درهما وهو الآن وصل الى هذه المرتبة السامية ، لكنّهم الآن ينظرون الى مائدتي وأنتم جلوس حولها ، فيعرفون قدري وتثبت لهم منزلتي وانّني لست بعبد ذليل بيع بعشرين درهما ، وانّما انا سليل بيت النبوّة والرسالة ومن أولاد نبي الله ابراهيم الخليل ، وهذا ما أباهي

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية الشريفة.

٢٩١

وافتخر به امام الآخرين(١) .

٣ ـ الشكر على الانتصار :

انّ الآيات السابقة تعلّمنا بجلاء ووضوح درسا من دروس الأخلاق الاسلامية ، وهو انّه بعد الانتصار على العدو وكسر شوكته لا بدّ ان لا ننسى العفو والرحمة ، وان لا نعامله بقساوة ، فإنّ اخوة يوسف قد عاملوه اشدّ المعاملة أشرفت به على نهايته وأوصلته الى أبواب الموت ، ولو لم تشمله عناية الله سبحانه وتعالى ، لعجز عن الخلاص ممّا اوقعوه فيه ، هذا اضافة الى المصائب والآلام التي تحملها أبوه ، لكنّهم الآن جميعا واقفون امّام يوسف وهو السيّد المطاع وبيده القوّة والقدرة ، لكنّه عاملهم بلطف واحسان.

كما انّه يفهم من خلال حديثه معهم انّه لم يحقد عليهم قطّ ، بل الذي يقلقه هو تذكّر الاخوة ماضيهم الأسود ويحسّوا بالخجل! ولذا حاول جاهدا ان يريحهم من هذا القلق ويزيح هذا الكابوس عن صدورهم ، بل اكثر من هذا فإنّه حاول ان يفهمهم انّ لهم عليه فضلا في مجيئهم الى مصر والتعرّف عليهم ، فإنّهم كانوا السبب في كشف حقيقته امام الشعب في هذا البلد ، حيث عرف اهل مصر انّ عزيزهم هو سليل بيت النبوّة والرسالة وليس عبدا بيع في السوق بدراهم معدودات ، ومن هنا فإنّ يوسف كان يرى لهم في ذلك فضلا ومنّة!

ومن حسن الصدف انّنا نرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمتحن بمثل هذه المواقف الحرجة ، فمثلا حينما فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة واذلّ المشركين وهزمهم وكسر أصنامهم وداس شوكتهم وكبرياءهم ، جاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كما رواه ابن عبّاس) الى جوار الكعبة وأخذ بحلقة بابها وكان المشركون قد التجأوا إليها هم ينتظرون حكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم ، وقال كلمته المشهورة : «الحمد لله الذي صدق وعده

__________________

(١) تفسير فخر الرازي ، ج ١٨ ، ص ٢٠٦.

٢٩٢

ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ثمّ توجّه الى قريش وخاطبهم بقوله : «ماذا تظنّون يا معشر قريش؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، وقد قدرت! قال : وانا أقول كما قال اخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم».

اي انّ اليوم ليس يوم ملامة وانتقام واظهار الحقد والضغينة «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

فقال عمر بن الخطاب : ففضت عرقا من الحياء من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك انّي قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكّة : اليوم ننتقم منكم ونفعل(١) .

كما انّه وردت في كثير من الرّوايات الاسلامية انّ «زكاة النصر هو العفو».

يقول عليعليه‌السلام : «إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه»(٢) .

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٢٥٨.

(٢) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار ـ جملة ١١.

٢٩٣

الآيات

( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قال ألَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) )

التّفسير

وأخيرا شملتهم رعاية الله ولطفه :

امّا أولاد يعقوب فإنّهم بعد ان واجهوا يوسف وجرى لهم ما جرى حملوا معهم قميص يوسف فرحين ومستبشرين وتوجّهوا مع القوافل القادمة من مصر ، وفيما كان الاخوة يقضون اسعد لحظات حياتهم ، كان هناك بيت في بلاد الشام وارض كنعان ـ الا وهو بيت يعقوب الطاعن في السنّ حيث كان يقضي هو وعائلته احرج اللحظات واشدّها حزنا وبؤسا.

٢٩٤

لكن ـ مقارنا مع حركة القافلة من مصر ـ حدث في بيت يعقوب حادث غريب بحيث اذهل الجميع وصار مثارا للعجب والحيرة ، حيث نشط يعقوب وتحرّك من مكانه وتحدّث كالمطمئن والواثق بكلامه قال : لو لم تتحدّثوا عنّي بسوء ولم تنسبوا كلامي الى السفاهة والجهل والكذب لقلت لكم :( إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ) فإنّي احسّ بأنّ ايّام المحنة والآلام سوف تنصرم في القريب العاجل ، وانّه قد حان وقت النصر واللقاء مع الحبيب ، وارى انّ آل يعقوب قد نزعوا ثوب العزاء والمصيبة ولبسوا لباس الفرح والسرور ـ لكن لا تصدّقون كلامي( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) (١) .

والمستفاد من قوله تعالى (فصلت) انّه بمجرّد ان تحرّكت القافلة من مصر احسّ يعقوب بالأمر وتغيّرت أحواله.

امّا الذين كانوا مع يعقوب ـ وهم عادة أحفاده وازواج أولاده وغيرهم من الأهل والعشيرة ـ فقد استولى عليهم العجب وخاطبوه بوقاحة مستنكرين :( قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) أليس هذا برهانا واضحا على ضلالك حيث مضت سنين طويلة على موت يوسف لكنّك لا زلت تزعم انّه حي ، وأخيرا تقول : انّك تشمّ رائحته من مصر؟! اين مصر واين الشام وكنعان؟! وهذا دليل على بعدك عن عالم الواقع وانغماسك في الأوهام والخيالات لكنّك قد ضللت منذ مدّة طويلة ، الم تقل لاولادك قبل فترة اذهبوا الى مصر وتحسّسوا عن احوال يوسف!

يظهر من هذه الآية الشريفة انّ المقصود ب (الضلال) ليس الانحراف في العقيدة ، بل الانحراف في تشخيص حقيقة حال يوسف والقضايا المتعلّقة به ، لكن يستفاد من هذه التعابير انّهم كانوا يتعاملون مع هذا النّبي الكبير والشيخ المتيقّظ

__________________

(١) (تفنّدون) من مادّة (الفند) على زنة (الرمد) ومعناها العجز الفكري والسفاهة ، ومضى بعض اللغويين الى انّ معناها الكذب ومعناها في الأصل الفساد. فبناء على ذلك فإنّ جملة (لو لا ان تفنّدون) معناها إذا لم تتّهموني بالسفاهة وفساد العقل.

٢٩٥

الضمير بخشونة وقساوة بالغين بحيث كانوا يقولون له مرّة :( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) وهنا قالوا له :( إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) لكنّهم كانوا غافلين عن الحقيقة التي كان يتحلّى بها يعقوب وعن صفاء قلبه ، ويتصوّرون انّ قلب يعقوب كقلوبهم القاسية المظلمة وانّه لا يطّلع على حقائق الأمور ماضيها ومستقبلها.

وتمضي الليالي والايّام ويعقوب في حالة الانتظار الانتظار القاسي الذي يستبطن السرور والفرح والهدوء والاطمئنان ، الّا انّ المحيطين به كانوا مشغولين عن هذه الأمور لاعتقادهم بأنّ قضيّة يوسف مختومة والى الأبد.

وبعد عدّة ايّام من الانتظار ـ والتي لا يعلم الّا الله كيف قضاها يعقوب ـ ارتفع صوت المنادي معلنا عن وصول قافلة كنعان من مصر ، لكن في هذه المرّة ـ وخلافا للمرّات السابقة ـ دخل أولاد يعقوب الى المدينة فرحين مستبشرين ، وتوجّهوا مسرعين الى بيت أبيهم ، وقد سبقهم ال (بشير) الذي بشّر يعقوب بحياة يوسف والقى قميص يوسف على وجهه.

امّا يعقوب الذي أضعفت المصائب بصره ولم يكن قادرا على رؤية القميص فبمجرّد ان احسّ بالرائحة المنبعثة من القميص شعر في تلك اللحظة الذهبية بأنّ نورا قد شعّ في جميع ذرّات وجوده وانّ السّماء والأرض مسروران ونسيم الرحمة يدغدغ فؤاده ويزيل عنه الحزن والألم ، شاهد الجدران وكأنّها تضحك معه ، واحسّ يعقوب بتغيّر حالته ، وفجأة راى النّور في عينيه واحسّ بأنّهما قد فتحتا ومرّة اخرى راى جمال العالم ، والقرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة بقوله :( فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ) .

هذه الحالة التي حصلت ليعقوب اسالت دموع الفرح من عيون الاخوة والأهل ، وعند ذلك خاطبهم بقوله :( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .

هذه المعجزة الغريبة ، جعلت الأولاد يعودون الى أنفسهم ويتساءلون عنها ويفكّرون في ماضيهم الأسود المليء بالاخطاء والذنوب ، وما اعتورهم من

٢٩٦

الحسد وغيره من الصفات الرذيلة البعيدة عن الانسانية ، لكن ما أجمل التوبة والعودة الى طريق الصواب حينما ينكشف للإنسان خطأ المسيرة التي سار فيها وما احلى تلك اللحظات التي يحاول المذنب ان يطلب العفو ممّن جنى عليه ، ليطهّر به نفسه ويبعدها عن جادّة الخطأ والانحراف ، وهذا ما قام به الاخوة حيث وقعوا نادمين على يد أبيهم يقبّلونها ويطلبون منه العفو والاستغفار( قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ ) .

امّا يعقوب هذا الرجل العظيم الذي كانت روحه أوسع من المحيطات ، فقد أجابهم دون ان يلومهم على تلك الأفعال التي اقترفوها في حقّه وحقّ أخيهم أجابهم بقوله :( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) واملي معقود بأن يغفر الله سبحانه وتعالى ذنوبكم( إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ كيف احسّ يعقوب برائحة قميص يوسف؟!

هذا سؤال اثاره كثير من المفسّرين ، واعتبروه معجزة خارقة للعادة من قبل يعقوب او يوسف. الّا انّه ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار سكوت القرآن عن هذا الأمر ـ ولم يتناوله على انّه امر اعجازي او غير اعجازي فمن الهيّن ان نجد له توجيها علميّا ايضا. إذ انّ حقيقة «التليبائي» او انتقال الفكر من النقاط او الأماكن البعيدة تعدّ مسألة علميّة قطعيّة مسلّما بها وانّها تحدث عند من تكون لديهم علاقة قريبة تربط بعضهم ببعض ، او تكون لديهم قدرة روحيّة عالية.

ولعلّ كثيرا منّا يواجه مثل هذه المسألة في حياتنا اليوميّة ، وذلك ان يشعر شخص «من أب ، او امّ ، او أخ» مثلا بالكآبة وانقباض النفس دون سبب ، ثمّ لا يمضي وقت ـ او فترة ـ حتّى يبلغه خبر بأنّ أخاه او ولده قد حدث له حادث ما

٢٩٧

في نقطة بعيدة عنه.

فالعلماء يوجّهون هذا الاحساس على انّه جرى عن طريق انتقال الفكر.

وما ورد في قصّة يعقوب لعلّه من هذا القبيل ايضا ، فعلاقته الشديدة بيوسف وعظمة روحه ، كلّ ذلك كان سببا لان يشعر بالحالة الحاصلة للاخوة نتيجة حمل قميص يوسف من مسافة بعيدة.

ومن الممكن ان يتعلّق هذا الأمر بمسألة سعة دائرة علم الأنبياء ايضا.

وقد وردت اشارة طريفة ـ في بعض الرّوايات ـ الى مسألة انتقال الفكر ، وهي انّ بعضهم سأل الامام أبا جعفر الباقرعليه‌السلام : فقال : جعلت فداك ، ربّما حزنت من دون مصيبة تصيبني او امر ينزل بي ، حتّى يعرف ذلك اهلي في وجهي وصديقي.

فقالعليه‌السلام : «نعم يا جابر ، انّ الله خلق المؤمنين من طينة الجنان واجرى فيهم من ريح روحه ، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وامّه ، فإذا أصاب روحا من تلك الأرواح في بلد من البلدان حزن حزنت هذه لانّها منها»(١) .

ويستفاد من بعض الرّوايات ايضا انّ هذا القميص لم يكن قميصا مألوفا ، بل كان ثوبا من ثياب الجنّة ، وقد خلّفه ابراهيم الخليلعليه‌السلام في آل يعقوب وأسرته ليكون ذكرى له ، وانّ رجلا كيعقوبعليه‌السلام الذي كانت لديه شامّة من «الجنّة» احسّ برائحة هذا الثوب الذي هو من ثياب الجنّة من بعيد(٢) .

٢ ـ اختلاف حالات الأنبياء :

الاشكال المعروف الآخر هنا هو ما اثاره بعضهم في شأن يعقوب من سؤال وهو :

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٢٣ «والسائل هو جابر الجعفي».

(٢) لمزيد الاطلاع على هذه الرّوايات يراجع المجلد الثّاني من تفسير نور الثقلين ، ص ٤٦٤.

٢٩٨

كيف يمكن ان يكون هذا النّبي العظيم قد احسّ بريح قميص يوسف من مسافة قدّرها بعضهم بثمانين فرسخا ، وقال بعضهم : من مسافة عشرة ايّام ، مع انّه لم يطّلع على الحوادث القريبة منه التي مرّت على يوسف عند ما القي في الجبّ في ارض كنعان؟

والجواب على هذا السؤال ـ مع الالتفات الى ما ذكرناه آنفا في شأن علم الغيب ، وحدود علم الأنبياء والائمّة ـ يسير لا غبار عليه ، لانّ علمهم بالأمور الغيبيّة يستند الى علم الله وارادته ، وما يشاؤه الله لهم من العلم «او عدمه» حتّى ولو كان ذلك في اقرب نقطة من نقاط العالم.

فيمكن تشبيههم من هذا الوجه بالقافلة التي تسير في ليل مظلم في صحراء تغشيها الغيوم وبينا هي على هذه الحال وإذا السّماء تومض بالبرق اللامع فتضيء الصحراء الى منتهى أطرافها ، فترى القافلة بأمّ أعينها كلّ شيء امامها ، الّا انّ البرق ينطفئ ثانية ويستوعب الظلام كلّ مكان فلا يرى احد شيئا.

ولعلّ الحديث الوارد عن الامام الصادقعليه‌السلام في شأن علم الامامعليه‌السلام اشارة الى هذا المعنى ، إذ جاء عنهعليه‌السلام انّه قال : «جعل الله بينه وبين الامام عمودا من نور ، ينظر الله به الى الامام ، وينظر الامام به اليه ، فإذا أراد علم شيء نظر في ذلك النّور فعرفه»(١) .

ومع الالتفات الى هذه الحقيقة ، فلا مجال للتعجّب بأن تقتضي مشيئة الله سبحانه ـ لابتلاء يعقوب وتمحيصه ان لا يعرف يوما شيئا عن الحوادث في كنعان وهي تجري قريبا منه ، وان يحسّ برائحة قميص ولده يوسف وهو في مصر في يوم آخر عند ما قدّر له ان تنتهي محنته وبلواه.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ، للخوئي ، ج ٥ ، ص ٢٠٠.

٢٩٩

٣ ـ كيف ردّ على يعقوب بصره؟!

احتمل بعض المفسّرين انّ يعقوبعليه‌السلام لم يفقد بصره بصورة كليّة ، وانّما ضعف بصره ، وعند حصول مقدّمات الوصال تبدّل تبدّلا بحيث عاد ذلك البصر الى حالته الطبيعيّة الاولى ، الّا انّ ظاهر آيات القرآن يدلّ على انّه فقد بصره تماما وابيضّت عيناه من الحزن ، وعلى ذلك فإنّ بصره عاد اليه عن طريق الاعجاز ، حيث يقول القرآن الكريم :( فَارْتَدَّ بَصِيراً ) .

٤ ـ الوعد بالاستغفار :

نقرا في الآيات ـ محل البحث ـ انّ يوسفعليه‌السلام قال لإخوته عند ما أظهروا له ندامتهم:( يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ ) الّا انّ يعقوبعليه‌السلام قال لهم عند ما اعترفوا عنده بالذنب وأظهروا الندامة :( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ) وكان هدفه ـ كما تقول الرّوايات ـ ان يؤخّر استجابة طلبهم الاستغفار الى السحر (من ليلة الجمعة) الذي هو خير وقت لاستجابة الدعاء وقبول التوبة(١) .

والآن ينقدح هذا السؤال وهو : كيف أجابهم يوسف بصورة قطعيّة ، وأوكل أبوهم ذلك الى المستقبل؟!

ولعلّ هذا الاختلاف ناشئ عن انّ يوسفعليه‌السلام كان يتحدّث عن «إمكان المغفرة» وانّ هذا الذنب من الممكن ان يعفو الله عنه ، ويعقوب كان يتحدّث عن «فعليّة المغفرة» وانّه ما الذي ينبغي ان يفعل حتّى تتحقّق التوبة والمغفرة «فلاحظوا بدقّة».

__________________

(١) نقرا في تفسير القرطبي انّ هدفه كان الاستغفار لهم في ليلة الجمعة الموافقة ليوم عاشوراء «لمزيد الاطلاع يراجع تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٤٩١».

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

امرأته ، فلما صار في النوم وضعت رأسه على الأرض و قامت ، فانتبه المأمون و غضب لذلك فقالت : إنّ أبي أدّبني بأن لا أقعد عند نائم و لا أنام عند قاعد .

قول المصنف ( و هذه من الاستعارات العجيبة ، كأنّه شبّه السّه بالوعاء و العين بالوكاء ، فإذا اطلق الوكاء لم ينضبط الوعاء ، و هذا القول في الأشهر الأظهر من كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ) فروى أبو داود في سننه في آخر باب الوضوء من النوم عن حيوة بن شريح الحمصي ، في آخرين عن بقية عن الوضين بن عطا عن محفوظ بن علقمة عن عبد الرحمن بن عائذ عن عليعليه‌السلام قال : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : وكاء السّه العينان فمن نام فليتوضأ(١) .

( و قد رواه قوم لأمير المؤمنينعليه‌السلام و ذكر ذلك المبرد محمد بن يزيد ) قال الحموي : لقب محمد بن يزيد بالمبرد لأنّه لمّا صنّف المازني كتاب الألف و اللام سأله عن دقيقه و عويصه ، فأجابه بأحسن جواب ، فقال له المازني : قم فأنت المبرّد بكسر الراء أي : المثبت للحق ، فحرفه الكوفيون و فتحوا الراء ، و كان متّهما بالوضع في اللغة و أرادوا امتحانه ، فسألوه عن القبعض فقال هو القطن و أنشد

« كأنّ سنامها حشي القبعضا »

فقالوا : إن كان صحيحا فهو عجيب و إن كان مختلقا فهو أعجب(٢) .

( في كتاب المقتضب في باب اللفظ بالحروف ) في كشف الظنون المقتضب في الخطب للمبرد شرحه الرماني و علق على مشكلات أوائله الفارقي .

( و قد تكلمنا على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم بمجازات الآثار النبوية ) قال ثمة كأنّهعليه‌السلام شبّه السته بالوعاء و العين بالوكاء ، فإذا نامت العين

____________________

( ١ ) سنن أبي داود ١ : ٥٢ ح ٢٣ اسند إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام .

( ٢ ) معجم الأدباء للحموي ١٠ : ١١٢ ١١٣ .

٥٠١

انحلّ صرار السته كما أنّه إذا زال الوكاء وسع بما فيه الوعاء ، الا أن حفظ العين للسته على خلاف حفظ الوكاء للوعاء ، فان العين إذا أشرجت لم تحفظ سيتها و الأوكية إذا حللت لم تضبط أوعيتها(١) .

٣٦ الخطبة ( ٧٩ ) و قالعليه‌السلام :

أَيُّهَا اَلنَّاسُ اَلزَّهَادَةُ قِصَرُ اَلْأَمَلِ وَ اَلشُّكْرُ عِنْدَ اَلنِّعَمِ وَ اَلوَرَعُ عِنْدَ اَلْمَحَارِمِ فَإِنْ عَزَبَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلاَ يَغْلِبِ اَلْحَرَامُ صَبْرَكُمْ وَ لاَ تَنْسَوْا عِنْدَ اَلنِّعَمِ شُكْرَكُمْ فَقَدْ أَعْذَرَ اَللَّهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظَاهِرَةٍ وَ كُتُبٍ بَارِزَةِ اَلْعُذْرِ وَاضِحَةٍ « أيها الناس إلى عند المحارم » جعلعليه‌السلام الزهد عبارة عن ثلاثة أمور :

قصر الأمل ، و شكر النعم ، و الورع عند المحارم .

أمّا الأول فقالوا : جمع اللَّه تعالى الزهد في كلمتين(٢) :( لكيلا تأسوا على ما فاتَكم و لا تَفرَحوا بِمآ آتاكم ) (٣) و لا يحصل الحالان إلاّ بقصر الأمل .

و أما الثاني : فلأن من زهد في الدّنيا هان عليه الإنفاق ممّا أنعم اللَّه عليه من المال شكرا .

و قال الصادقعليه‌السلام إنّ اللَّه أنعم على قوم بالمواهب فلم يشكروا فصارت عليهم وبالا ، و ابتلى قوما بالمصائب فصبروا فصارت عليهم نعمة(٤) .

و اما الثالث فسئل الصادقعليه‌السلام عن الزاهد في الدنيا فقال : الذي يترك

____________________

( ١ ) المجازات النبوية : ١٧٨ .

( ٢ ) من حديث للإمام الصادقعليه‌السلام ، بحار الأنوار ٧٨ : ٧٠ بتصرف .

( ٣ ) الحديد : ٢٣ .

( ٤ ) تحف العقول : ٢٦٧ .

٥٠٢

حلالها مخافة حسابه و يترك حرامها مخافة عقابه(١) .

« فإن عزب » أي : بعد و غاب .

« ذلك » الذي ذكر من الأمور الثلاثة .

« عنكم » فلا بدّ لكم من رعاية الثاني ، و الثالث شكر النعم و الورع عن المحارم ، و أشار إلى الورع بقوله .

« فلا يغلب الحرام صبركم » لأنّه ورد أنّه يؤتى يوم القيامة بأعمال قوم كالجبال فتصير هباء منثورا لغلبة الحرام على صبرهم .

و أشار إلى الشكر بقوله :

« و لا تنسوا عند النعم شكركم » فإنّ شكر المنعم واجب عقلي و قال تعالى :

( و لئن كفرتم إنّ عذابي لشديد ) (٢) .

« فقد أعذر اللَّه عليكم بحجج مسفرة » أي : مشرقة مضيئة( لئلاّ يكون لِلنَّاس على اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُل ) (٣) .

« و كتب بارزة العذر واضحة » إلى نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله و إلى أنبياء قبله .

٣٧ الحكمة ( ٤٢ ) و قالعليه‌السلام : لبعض أصحابه :

جَعَلَ اَللَّهُ مَا كَانَ مِنْ شَكْوَاكَ حَطّاً لِسَيِّئَاتِكَ فَإِنَّ اَلْمَرَضَ لاَ أَجْرَ فِيهِ وَ لَكِنَّهُ يَحُطُّ اَلسَّيِّئَاتِ وَ يَحُتُّهَا حَتَّ اَلْأَوْرَاقِ وَ إِنَّمَا اَلْأَجْرُ فِي اَلْقَوْلِ بِاللِّسَانِ وَ اَلْعَمَلِ بِالْأَيْدِي وَ اَلْأَقْدَامِ وَ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يُدْخِلُ بِصِدْقِ

____________________

( ١ ) بحار الأنوار للمجلسي ٧٠ : ٣١١ .

( ٢ ) إبراهيم : ٧ .

( ٣ ) النساء : ١٦٥ .

٥٠٣

اَلنِّيَّةِ وَ اَلسَّرِيرَةِ اَلصَّالِحَةِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ اَلْجَنَّةَ قول المصنّف : ( و قالعليه‌السلام لبعض أصحابه ) :

هو صالح بن سليم بن سلامان بن طي ( في علة اعتلها ) فلم يشهد معه صفّين لمرضه ، فقالعليه‌السلام ما نقل(١) المصنف له لمّا رجع من صفّين في طريقه .

ففي ( صفّين نصر بن مزاحم ) : قال عبد الرحمن بن جندب : لمّا أقبل عليّعليه‌السلام من صفّين أقبلنا معه إلى أن قال حتى جزنا النخيلة و رأينا بيوت الكوفة ، فإذا نحن بشيخ جالس في ظلّ بيت على وجهه أثر المرض ، فأقبل إليه عليّعليه‌السلام و نحن معه ، فقال له : مالي أرى وجهك منكفتا ؟ أمن مرض ؟ قال : نعم .

قال : فلعلك كرهته فقال : ما أحبّ أن يعتري قال : أليس احتساب بالخير في ما أصابك منه ؟ قال : بلى قال : أبشر برحمة ربّك و غفران ذنبك ، من أنت يا عبد اللَّه ؟ قال : أنا صالح بن سليم قال : ممّن ؟ قال : أمّا الأصل فمن سلامان بن طي ، و أمّا الجوار و الدعوة فمن بني سليم بن منصور قال : سبحان اللَّه ما أحسن اسمك و اسم أبيك و اسم من اعتزيت إليه ، هل شهدت معنا غزاتنا هذه ؟ قال : لا و اللَّه ما شهدتها و لقد أردتها و لكن ما ترى بي من لحب الحمّى خذلني عنها .

قالعليه‌السلام : ليسَ على الضُعَفاءِ و لاَ عَلى المَرضَى و لا على الذين لا يَجدُونَ ما يُنفقُون حرجٌ( إِذا نَصَحوا للَّه و رسوله ما على المحسنين من سبيلٍ و اللَّه غفورٌ رحيم ) (٢) أخبرني ما يقول الناس فيما كان بيننا و بين أهل الشام ؟ قال : منهم المسرور فيما كان بينك و بينهم و اولئك أغبياء الناس ، و منهم المكبوت الأسف لمّا كان من ذلك و اولئك نصحاء الناس لك ، و ذهب لينصرف فقالعليه‌السلام له : صدقت جعل اللَّه ما كان من شكواك حطّا لسيّئاتك ، فإنّ المرض لا أجر فيه

____________________

( ١ ) النهج ، الحكمة : ٤٢ .

( ٢ ) التوبة : ٩١ .

٥٠٤

و لكن لا يدع للعبد ذنبا إلاّ حطّه ، إنّما الأجر في القول باللّسان و العمل باليد و الرجل ، و إنّ اللَّه عز و جل يدخل بصدق النيّة و السريرة الصالحة من عباده الجنّة(١) .

« جعل اللَّه ما كان من شكواك حطّا لسيّئاتك » في الخبر عاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سلمان في علته فقال : إنّ لك فيها ثلاث خصال : أنت من اللَّه تعالى بذكر ، و دعاؤك فيه مستجاب ، و لا تدع العلّة عليك ذنبا إلاّ حطّته(٢) .

و في الخبر : حمّى ليلة كفّارة سنة لأنّه يبقى أثرها إلى سنة(٣) .

و في ( الطرائف ) : برى‏ء الفضل بن سهل من علّة فقال : إنّ في المرض لنعما لا ينبغي للعقلاء أن يجحدوها ، منها تمحيص للذنوب و تعرّض للثواب و الصبر و إيقاظ من الغفلة و ادكار للنعمة الموجودة في الصحة و رضا بما قدر اللَّه و قضائه و استدعاء للتوبة و حضّ على الصدقة(٤) .

« فإنّ المرض لا أجر فيه و لكنه يحط السيئات و يحتها حت الأوراق » يقال : حت الدم عن الثوب و حت الورق عن الشجر .

و في ( أدب كاتب الصولي ) لبعضهم تشبيها بمقط القلم لاصلاحه :

فإن تكن الحطوب فرين مني

أديما لم يكن قدما يعط

فإنّ كرائم الأقلام تحفى

فيصلح من تشعثها المقط(٥)

هذا ، و في ( تاريخ بغداد ) اعتل الحسن بن وهب من حمّى نافض و صالب و طاولته فكتب إليه أبو تمّام :

____________________

( ١ ) صفّين لنصر بن مزاحم : ٥٢٨ ، و نقله المجلسي في بحار الأنوار ٣٢ : ٥٥١ .

( ٢ ) ذكره الصدوق في الخصال : ١٧١ ( ١٩٥ ) و المجلسي في البحار ٧٧ : ٦٢ رواية ٣ و ٨١ : ١٨٥ رواية ٣٧ .

( ٣ ) نسبه الطوسي في أماليه إلى الرسول الأكرم صلّى اللَّه عليه و آله ، الأمالي : ٦٤١ ح ١ .

( ٤ ) الظرائف للمقدّسي : ١٤٣ .

( ٥ ) أدب الكتاب للصولي : ١١ .

٥٠٥

ليت حمّاك فيّ و كان لك الأجر

فلا تشتكي و كنت المريضا(١)

( و فيه ) : إعتل الفضل بن سهل ذو الرياستين بخراسان ثم برى‏ء فجلس للناس فهنّأوه بالعافية و تصرّفوا في الكلام ، فلمّا فرغوا أقبل على الناس فقال :

إنّ في العلل لنعما ينبغي للعقلاء أن يعلموها : تمحيص للذنوب ، و تعرّض لثواب الصبر ، و إيقاظ من الغفلة ، و ادكار للنعمة في حال الصحة ، و استدعاء للتوبة ، و حضّ على الصدقة ، و في قضاء اللَّه و قدره بعدم الخيار فنسي الناس ما تكلّموا به و انصرفوا بكلام الفضل(٢) .

« و إنّما الأجر في القول باللّسان و العمل بالأيدي و الأقدام » و المرض ليس منهما فليس فيه أجر ، و أمّا قوله( ذلك بأنّهم لا يصيبُهم ظمأ و لاَ نَصبُ و لا مخمصة في سبيل اللَّه و لا يطَؤُنَ موطئا يغيظ الكفّار و لا ينالُونَ من عَدُوّ نيلاً إِلاّ كُتب لهُم به عمل صالح إِن اللَّه لا يُضيعُ أجرَ المُحسِنينَ و لا يُنفِقونَ نَفَقَةً صغيرةً و لا كبيرةً و لا يقطَعُون وادياً إِلاّ كتب لَهُم ليَجزِيَهُمُ اللَّهُ أَحسَن ما كانوا يَعمَلُون ) (٣) في جعل إصابتهم الجوع و العطش و التعب و هي ليست من أعمال الجوارح مثل وطى‏ء الأقدام في غيظ الكفار و النيل منهم و الإنفاق و قطع الوادي في الجهاد و نحوها ممّا هو العمل بالأيدي و الأقدام ، فلا ينافي كلامهعليه‌السلام لأنّ ما ذكر أوّلا مسبّب عن أعمال الجوارح ، فإنّ الجوع و العطش و التعب كانت بواسطة الجهاد .

« و ان اللَّه سبحانه يدخل بصدق النيّة و السريرة الصالحة من يشاء من عباده الجنّة » الظاهر كون الكلام استدراكا من قولهعليه‌السلام السابق « و انما الأجر . » ،

____________________

( ١ ) تاريخ بغداد ٨ : ٢٥٢ ، لم نعثر على البيت الشعري في ديوان أبي تمام .

( ٢ ) تاريخ بغداد ١٢ : ٣٤٢ .

( ٣ ) التوبة : ١٢٠ ١٢١ .

٥٠٦

بمعنى أن النيّة و إن لم تكن عمل الجوارح إلاّ أنّها لمّا كانت سببا لأعمال الجوارح كانت أيضا موجبا للأجر إن كانت صالحة ، و للوزر إن كانت فاسدة .

قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « نيّة المؤمن خير من عمله و نيّة الكافر شرّ من عمله »(١) ، و قال تعالى .( إِن السَمعَ و البَصَرَ و الفؤاد كُل اُولئكَ كان عنه مسؤولاً ) (٢) .

و قال الصادقعليه‌السلام : إنّما خلّد أهل النّار في النّار لأنّ نياتهم في الدّنيا ان لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللَّه أبدا ، و إنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم أن لو بقوا في الدّنيا أن يطيعوا اللَّه أبدا ، فبالنيّات خلّد هؤلاء و هؤلاء ثم تلا قوله تعالى قُل كُلٌ يعمَلُ على شاكِلَتِه(٣) .

و في ( الكافي ) : و إن المؤمن الفقير يقول : ربّ ارزقني حتى أفعل كذا و كذا من البرّ ، فإذا علم تعالى ذلك منه بصدق نيّة كتب له من الأجر مثل ما لو عمله ، إنّ اللَّه واسع كريم(٤) .

هذا ، و قالعليه‌السلام بصدق النيّة ، لأنّه ليست كلّ نيّة صادقة ، فقد قال تعالى( و منهم من عاهدَ اللَّه لئن آتانا من فَضلِهِ لنَصَّدَّقَنَّ و لنكُوننَّ من الصالحين فَلما آتاهُم من فَضلِهِ بَخِلُوا بهِ و تَولَّوا و هُم مُعرِضون فأَعقَبَهُم نفاقاً في قلوبهم إِلى يوم يلقونه بما أخلفوا اللَّه ما و عدُوه و بما كانوا يكذِبُونَ ) (٥) .

و قال الصادقعليه‌السلام في صدق النية : عند تصحيح الضمائر تبدو الكبائر ، تصفية العمل أشدّ من العمل ، تخليص النيّة من الفساد أشد على العالمين

____________________

( ١ ) علل الشرائع للصدوق ٢ : ٤٠٣ حديث ٤ .

( ٢ ) الاسراء : ٣٦ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٢ : ٨٥ ح ٥ ، و ذكره الصدوق في علل الشرائع ٢ : ٥٢٣ ح ١ ، و الآية ٨٤ من سورة الاسراء .

( ٤ ) الكافي للكليني ٢ : ٨٥ ح ٣ ، و ذكره البرقي في المحاسن : ٢٦١ .

( ٥ ) التوبة : ٧٥ ٧٧ .

٥٠٧

من طول الجهاد(١) .

( قال الرضي : و أقول : صدقعليه‌السلام ، إنّ المرض لا أجر فيه لأنّه ليس من قبيل ما يستحق عليه العوض ، لأن العوض يستحق على ما كان في مقابلة فعل اللَّه تعالى بالعبد من الآلام و الأمراض و ما يجري مجرى ذلك ، و الأجر و الثواب يستحقان على ما كان في مقابلة فعل العبد ، فبينهما فرق قد بيّنه كما يقتضيه علمه الثاقب و رأيه الصائب ) و قد قالعليه‌السلام في المرض يصيب الصبي : إنّه كفارة لوالديه ، و ورد أنّ النّوم الموحش كفّارة(٢) .

٣٨ الحكمة ( ٤٧ ) و قالعليه‌السلام :

قَدْرُ اَلرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ وَ صِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِهِ وَ شَجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ وَ عِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِ « قدر الرجل على قدر همّته » في ( تاريخ بغداد ) غلب عبد اللَّه بن طاهر على الشام و وهب له المأمون ما وصل إليه من الأموال هنا لك ، ففرّقه على القوّاد ثم وقف على باب مصر فقال : أخزى اللَّه فرعون ما كان أخسّه و أدنى همّته ، ملك هذه القرية فقال( أنا ربُّكم الأعلى ) (٣) و اللَّه لا دخلتها(٤) .

و في ( المعجم ) قال الصاحب بن عباد :

و قائلة : لم عرتك الهموم

و أمرك ممتثل في الامم

____________________

( ١ ) الروضة من الكافي للكليني : ٢ ح ١ .

( ٢ ) بحار الأنوار عن الإمام عليعليه‌السلام ٥ : ٣١٧ و عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ٨١ : ١٩٧ رواية ٥٤ .

( ٣ ) النازعات : ٢٤ .

( ٤ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٩ : ٤٨٣ ، ترجمة عبد اللَّه بن طاهر ( ٥٠١٤ ) .

٥٠٨

فقلت دعيني و ما قد عرى(١)

فإنّ الهموم بقدر الهمم(٢)

و في ( الكامل ) : سافر كعب بن مامة الأيادي مع رجل من بني النمر بن قاسط ، فقلّ الماء فتصافناه و التصافن أن يطرح حجر في الاناء ثم يصبّ فيه من الماء ما يغمره لئلا يتغابنوا ، فجعل النمري يشرب نصيبه فإذا أخذ كعب نصيبه قال : اسق أخاك النمري فيؤثره ، حتى جهد كعب و رفعت له أعلام الماء ، فقيل له رد كعب و لا ورود به فمات عطشا .

و وفد أوس بن حارثة بن لام الطائي و حاتم الطائي على عمرو بن هند ملك الحيرة ، فدعا أوسا فقال له : أنت أفضل أم حاتم ؟ فقال له : أبيت اللعن ، لو ملكني حاتم و ولدي و لحمتي لوهبنا في غداة واحدة ، ثم دعا حاتما فقال له :

أنت أفضل أم أوس ؟ فقال : أبيت اللعن إنّما ذكّرت بأوس ، و لأحد ولده أفضل منّي .

و كان النعمان بن المنذر دعا بحلة و عنده وفود العرب من كلّ حي فقال :

احضروني في غد فانّي ملبس هذه الحلة أكرمكم ، فحضر القوم جميعا إلاّ أوسا ، فقيل له لم تخلفت ؟ فقال : إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء بي ألاّ أكون حاضرا ، و إن كنت أنا المراد فسأطلب و يعرف مكاني ، فلما جلس النعمان لم ير أوسا فقال : إذهبوا إلى أوس فقولوا له : إحضر آمنا ممّا خفت ، فحضر فلبس الحلة فحسده قوم من أهله فقالوا للحطيئة : اهجه و لك ثلاثمائة ناقة فقال : كيف أهجو رجلا لا أرى في بيتي أثاثا و لا مالا إلاّ من عنده ، ثم قال :

كيف الهجاء و ما تنفكّ صالحة

من آل لأم(٣) بظهر الغيب تأتيني(٤)

____________________

( ١ ) ورد في الديوان بلفظ : « فقلت ذريني على غصتي »

( ٢ ) ديوان الصاحب بن عباد : ٢٨٠ .

( ٣ ) نسخة التحقيق « إذا ذكرت » .

( ٤ ) ديوان الحطيئة : ١٧٤ .

٥٠٩

فقال لهم بشر بن أبي خازم الأسدي : أنا أهجوه لكم ، فأخذ الابل و فعل ، فأغار أوس على الابل فاكتسحها و جعل بشر لا يستجير حيّا إلاّ قالوا قد أجرناك إلاّ من أوس و كان في هجائه إيّاه ذكر امّه فأتى به فدخل على امه فقال : قد أتينا ببشر الهاجي لك و لي فما ترين فيه ؟ قالت : أرى أن ترد عليه ماله و تعفو عنه و تحبوه و أفعل مثل ذلك ، فانّه لا يغسل هجاه إلاّ مدحه ، فخرج إليه و قال له : إنّ امّي سعدى التي كنت تهجوها أمرت لك بكذا و كذا فقال : لا جرم ، لا و اللَّه لا مدحت أحدا حتى أموت غيرك(١) .

« و صدقه على قدر مروّته » في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام : لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل و سجوده ، فإنّ ذلك شي‏ء اعتاده فلو تركه استوحش لذلك ، و لكن انظروا إلى صدق حديثه و أداء أمانته(٢) .

و عنهعليه‌السلام : إنّما سمّي اسماعيل صادق الوعد لأنّه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة فأتاه بعد سنة فقال له إسماعيل : مازلت منتظرا لك(٣) .

و في ( الخصال ) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ست من المروّة ، ثلاث منها في الحضر ، و ثلاث منها في السفر : فأمّا الّتي في الحضر ، فتلاوة كتاب اللَّه عز و جل و عمارة مساجد اللَّه و اتخاذ الإخوان في اللَّه عز و جل ، و أمّا الّتي في السفر ، فبذل الزاد و حسن الخلق و المزاح في غير معاصي اللَّه(٤) .

« و شجاعته على قدر أنفته » في ( وزراء الجهشياري ) : بلغ موسى بن المهدي و هو الهادي حال بنت لعمارة بن حمزة مولاهم و هي جميلة

____________________

( ١ ) الكامل في الأدب للمبرّد ١ : ١٩٧ ١٩٩ ، طبعة مصر .

( ٢ ) الكافي للكليني ٢ : ١٠٥ ح ١٢ .

( ٣ ) ورد في البحار قريب منه عن الإمام الرضاعليه‌السلام ٣ : ٣٨٨ رواية ١ .

( ٤ ) الخصال للصدوق ١ : ٣٢٤ ح ١١ .

٥١٠

فراسلها فقالت لأبيها ذلك ، فقال : إبعثي إليه في المصير إليك و أعلميه أنّك تقدرين على إيصاله إليك في موضع يخفى أثره ، فأرسلت إليه بذلك و حمل موسى على المصير نفسه ، فأدخلته حجرة قد فرشت و اعدّت له ، فلما صار إليها دخل عليه عمارة فقال : السّلام عليك أيها الأمير ماذا تصنع هاهنا ؟

إتّخذناك وليّ عهد فينا أو فحلا في نسائنا ؟ ثم أمر به فبطح في موضعه فضربه عشرين درة خفيفة و ردّه إلى منزله ، فحقد عليه فلما ولي الخلافة دسّ إليه رجلا يدّعي عليه أنّه غصبه الضيعة المعروفة بالبيضاء بالكوفة و كانت قيمتها ألف ألف درهم فبينا الهادي ذات يوم جالس للمظالم و عمارة بحضرته ، و ثب الرجل فتظلم منه ، فقال الهادي لعمارة : ما تقول ؟ قال : ان كانت الضيعة لي فهي له و ان كانت له فهي له و وثب فانصرف عن المجلس(١) .

( و عفته على قدر غيرته ) كانعليه‌السلام يقول لأهل العراق : نبئت أن نساءكم يدافعن الرجال في الطريق ، أما تستحون و لا تغارون ؟

و في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام : ان اللَّه تعالى غيور يحب كلّ غيور ، و لغيرته حرّم الفواحش ظاهرها و باطنها ، و إذا لم يغر الرجل فهو منكوس القلب(٢) .

و عنهعليه‌السلام : لمّا أقام العالم الجدار أوحى تعالى إلى موسىعليه‌السلام : إنّي مجازي الأبناء بسعي الآباء ، إن خيرا فخير و إن شرّا فشر ، لا تزنوا فتزني نساؤكم ، و من وطى‏ء فراش امرى‏ء مسلم وطى‏ء فراشه ، كما تدين تدان(٣) .

و عن الصادقعليه‌السلام : كانت في بني اسرائيل بغيّ و كان رجل منهم يكثر

____________________

( ١ ) وزراء الجهشياري تاريخ الوزراء : ١٤٧ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٥ : ٥٣٦ ح ٣ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٥ : ٥٥٣ رواية ١ ، و كذلك ثواب الأعمال : ١٣ ، و أيضا المجلسي في بحار الأنوار ١٣ : ٢٩٦ رواية ١٣ .

٥١١

الاختلاف إليها ، فلمّا كان في آخر ما أتاها أجرى اللَّه على لسانها : أما إنّك سترجع إلى أهلك فتجد معها رجلا ، فارتفعا إلى موسىعليه‌السلام فنزل جبرئيلعليه‌السلام و قال : يا موسى من يزن يزن به ، فنظر موسى إليهما فقال : عفّوا تعفّ نساؤكم(١) .

٣٩ الحكمة ( ٤٨ ) و قالعليه‌السلام :

اَلظَّفَرُ بِالْحَزْمِ وَ اَلْحَزْمُ بِإِجَالَةِ اَلرَّأْيِ وَ اَلرَّأْيُ بِتَحْصِينِ اَلْأَسْرَارِ هو قياس منتج : ان الظفر بتحصين الأسرار و هو قياس ينحلّ إلى قياسين ، لأنّ القضية الثانية كبرى بالنسبة إلى الاولى و صغرى بالنسبة إلى الثالثة .

أمّا كون الظّفر بالحزم ففي العيون : قيل لرجل من بني عبس : ما أكثر صوابكم فقال : نحن ألف رجل و فينا حازم واحد و نحن نطيعه ، فكأنّا ألف حازم(٢) .

و يقال : روّ بحزم فإذا استوضحت فاعزم(٣) .

و أمّا كون الحزم بإجالة الرأي فكان عامر بن الظرب حكيم العرب يقول :

دعوا الرأي يغبّ حتى يختمر ، و إيّاكم و الرأي الفطير(٤) .

و لمّا استعجل الحجّاج المهلّب في حرب الأزارقة قال المهلّب : إنّ من

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ٥ : ٥٥٣ رواية ٣ .

( ٢ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ : ٣٠ ٣٢ ، و كذلك العقد الفريد ١ : ٦٠ .

( ٣ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ : ٣٤ .

( ٤ ) ابن عبد ربه ١ : ٦٠ ( دار الكتب العلمية ) .

٥١٢

البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره(١) .

و يقال : ليس بين الملك و بين ان يملك رعيته أو تملكه رعيته إلاّ حزم أو توان .

و قيل : من التمس الرخصة من الإخوان عند المشورة و من الأطباء عند المرض و من الفقهاء عند الشبهة أخطأ الرأي و ازداد مرضا و حمل الوزر(٢) .

و أمّا كون الرأي بتحصين الأسرار فيقال : ما كنت كاتمه من عدوك فلا تظهر عليه صديقك(٣) .

و في ( وزراء الجهشياري ) : كان موسى بن عيسى الهاشمي يتقلّد للرشيد مصر ، و كثر التظلّم منه و اتّصلت السعايات به و قيل إنّه قد استكثر من العبيد و العدّة فقال الرشيد ليحيى البرمكي : اطلب لي رجلا كاتبا عفيفا يكمل لمصر و يستر خبره فلا يعلم موسى بن عيسى حتى يفجأه قال : قد وجدته هو عمر بن مهران و كان كتب للخيزران و لم يكتب لغيرها قط و كان رجلا أحول مشوّه الخلق خسيس اللّباس فأمر بإحضاره قال : فاستدناني الرشيد و نحّى الغلمان و أمرني أن أستر خبري حتى افاجى‏ء موسى بن عيسى فأتسلّم العمل منه ، فأعلمته أنّه لا يقرأ لي ذكرا في كتب أصحاب الأخبار حتى أوافي مصر ، فكتب لي بخطّه إلى موسى ، فخرجت من غد مبكرا على بغلة لي و معي غلام أسود على بغل استأجرته ، معه خرج فيه قميص و مبطنة و طيلسان و شاشية و خف و مفرش صغير ، و اكتريت لثلاثة من أصحابي أثق بهم ثلاثة أبغل ، و أظهرت أنّي وجّهت ناظرا في أمور بعض العمّال ، كلّما وردت

____________________

( ١ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ : ٣١ .

( ٢ ) المصدر نفسه ١ : ٣٠ ، في كتاب للهند .

( ٣ ) المصدر نفسه ١ : ٤٠ .

٥١٣

بلدا توهّم من معي أنّي قصدته و ليس يعرف خبري أحد من أهل البلدان أمرّ بها في نزولي و نفوذي حتى وافيت الفسطاط فنزلت جنابا و خرجت منه وحدي في زيّ متظلم أو تاجر ، فدخلت دار الامارة و ديوان البلد و بيت المال ، و سألت و بحثت عن الأخبار و جلست مع المتظلمين و غيرهم ، فمكثت ثلاثة أيام أفعل ذلك حتى عرفت جميع ما احتجت إليه ، فلمّا نام الناس دعوت أصحابي فقلت للّذي أردت استكتابه على الديوان : قد رأيت مصر و قد استكتبتك على الديوان فبكّر إليه فاجلس فيه ، فإذا سمعت الحركة فاقبض على الكاتب و وكلّ به و بالكتاب و الأعمال ، و لا يخرج من الديوان أحد حتى أوافيك ، و دعوت بآخر فقلّدته بيت المال و أمرته بمثل ذلك ، و قلّدت الآخر عملا من الأعمال بالحضرة ، و أمرتهم أن يبكّروا و لا يظهروا أنفسهم حتى يسمعوا الحركة ، و بكّرت فلبست ثيابي و وضعت الشاشية على رأسي و مضيت إلى دار الامارة ، فأذن موسى للناس إذنا عامّا ، فدخلت فيمن دخل ، فإذا موسى على فرش و القوّاد وقوف عن يمينه و شماله و الناس يدخلون فيسلّمون و يخرجون و أنا جالس بحيث يراني و حاجبه ساعة بساعة يقيمني و يقول لي تكلّم بحاجتك ، فأعتلّ عليه حتى خفّ الناس ، فدنوت منه و أخرجت إليه كتاب الرشيد فقبّله و وضعه على عينه ثم قرأه فامتقع لونه و قال : السمع و الطاعة تقرى‏ء أبا حفص السلام و تقول له : ينبغي لك أن تقيم بموضعك حتى نعدّ لك منزلا يشبهك و يخرج غدا أصحابنا يستقبلونك فتدخل مدخل مثلك .

فقال له : أنا عمر بن مهران قد أمرني الرشيد بإقامتك للناس و انصاف المظلوم منك و أنا فاعل ذلك فقال : أنت عمر بن مهران ؟ قلت : نعم قال :( لعن اللَّه فرعون حيث يقول أليس لي مُلك مِصر ) (١) و اضطرب الصوت في الدار ،

____________________

( ١ ) الزخرف : ٥١ .

٥١٤

فقبض كاتبي على الديوان و صاحبي الآخر على بيت المال و ختما عليه و وردت عليه رقاع أصحاب أخباره بذلك ، فنزل عن فرشه و قال : « لا إله إلاّ اللَّه هكذا تقوم الساعة ما ظننت أنّ أحدا بلغ من الحزم و الحيلة ما بلغت ، فإنّك قد تسلّمت الأعمال و أنت في مجلسي » ثم نهضت إلى الديوان فقطعت أمور المتظلمين منه و انصرفت على بغلتي التي دخلت عليها و معي غلامي الأسود(١) .

و في ( عيون ابن قتيبة ) قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إستعينوا على الحوائج بالكتمان ، فإنّ كلّ ذي نعمة محسود(٢) .

و كان عليعليه‌السلام يتمثل بهذين البيتين :

و لا تفش سرّك إلاّ إليك

فإنّ لكلّ نصيح نصيحا

فإنّي رأيت غواة الرجال

لا يتركون أديما صحيحا(٣)

و قال الشاعر :

و لو قدرت على نسيان ما اشتملت

منّي الضلوع من الأسرار و الخبر

لكنت أوّل من ينسى سرائره

إذ كنت من نشرها يوما على خطر(٤)

٤٠ الحكمة ( ٦٣ ) و قالعليه‌السلام :

اَلشَّفِيعُ جَنَاحُ اَلطَّالِبِ

____________________

( ١ ) تاريخ الوزراء للجهشياري : ٢١٧ ٢٢٠ بتصرف .

( ٢ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ، أخرجه عن أحمد بن خليل عن محمد بن الحصيب عن أوس بن عبد اللَّه بن بريدة عن أخيه عن بريدة ١ : ٣٨ و قد مرّ .

( ٣ ) ذكرهما ابن قتيبة في العيون ١ : ٣٩ ، و قد مرّ ذكره .

( ٤ ) عيون الأخبار لابن قتيبه ١ : ٣٩ .

٥١٥

قالوا : الشفاعات مفاتيح الطلبات و قيل في فضل البرمكي :

و من يكن الفضل بن يحيى بن خالد

شفيعا له عند الخليفة ينجح(١)

و في ( تاريخ بغداد ) : إشترى أخ لشعبة من طعام السلطان فخسر هو و شركاؤه ، فحبس بستة آلاف دينار بحصته ، فخرج شعبة إلى المهدي ليكلّمه فيه ، فلمّا دخل عليه قال للمهدي : انشدني قتادة و سماك بن حرب لامية بن أبي الصلت يقوله لعبد اللَّه بن جدعان :

أأذكر حاجتي أم قد كفاني

حياؤك إن شيمتك الحياء

كريم لا يعطّله صباح

عن الخلق الكريم و لا مساء

فارضك أرض مكرمة بنتها

بنو تيم و أنت لهم سماء

فقال : لا ، لا تذكرها قد عرفناها و قضيناها لك ، إرفعوا إليه أخاه لا تلزموه شيئا(٢) .

هذا ، و في المعجم قال أبو العيناء : كان لي صديق فجاءني يوما و قال :

أريد الخروج إلى فلان العامل و أحببت أن يكون معي إليه وسيلة و قد سألت عن صديقه فقيل لي الجاحظ و هو صديقك فاحبّ أن تأخذ لي كتابه إليه بالعناية ، فصرت إلى الجاحظ فقلت له جئتك مسلّما و قاضيا للحق و لبعض أصدقائي حاجة و هي كذا و كذا فقال : لا تشغلنا الساعة عن المحادثة و إذا كان في غد وجّهت إليك بالكتاب ، فلمّا كان في غد ، وجّه إليّ بالكتاب ، فقلت لابني :

وجّه هذا الكتاب إلى فلان ففيه حاجته فقال لي : إن الجاحظ بعيد الغور فينبغي أن نفضّه و ننظر ما فيه ، ففعل فإذا في الكتاب :

« هذا الكتاب مع من لا أعرفه و قد كلّمني فيه من لا أوجب حقّه ، فان

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٠٨ .

( ٢ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٩ : ٢٥٦ في ترجمة شعبة بن الحجاج .

٥١٦

قضيت حاجته لم أحمدك ، و ان رددته لم أذممك » .

فلمّا قرأت الكتاب مضيت من فوري إلى الجاحظ فقال : قد علمت انّك أنكرت ما في الكتاب ، فقلت أو ليس موضع نكرة ، فقال لا هذه علامة بيني و بين الرجل في من أعتني به ، فقلت : لا إله إلاّ اللَّه ما رأيت أحدا أعلم بطبعك و ما جبلت عليه من هذا الرجل ، انّه لمّا قرأ هذا الكتاب قال : أم الجاحظ عشرة آلاف في عشرة آلاف قحبة و ام من يسأله حاجة فقلت له : يا هذا تشتم صديقنا فقال :

هذه علامة في من أشكره فضحك الجاحظ(١) .

٤١ الخطبة (( الحكمة )) ( ٦٨ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْعَفَافُ زِينَةُ اَلْفَقْرِ وَ اَلشُّكْرُ زِينَةُ اَلْغِنَى أقول : كرّره المصنف في ( ٣٤٠ ) سهوا ، لكن نقله عنه هنا ابن ميثم بدون الفقرة الأخيرة(٢) و انما نقله عنه معها ابن أبي الحديد(٣) .

« العفاف زينة الفقر » و قد وصف اللَّه تعالى الفقراء المتزيّنين بالعفاف في قوله( يَحسَبُهُم الجاهِلُ أَغنياءَ مِنَ التَّعفُّف تَعرفُهم بسيماهم لا يَسألونَ الناس إِلحافاً ) (٤) .

« و الشكر زينة الغنى » قال سليمانعليه‌السلام ( ربِّ أَوزعني أن أَشكُر نعمتك الّتي أَنعمتَ عليَّ وَ على والديَّ ) (٥) و قال أيضا لمّا رأى عرش ملكة سبأ مستقرا

____________________

( ١ ) معجم الادباء للحموي ١٦ : ٨٣ ، في ترجمة عمرو بن بحر ، الجاحظ .

( ٢ ) نقل شرح ابن ميثم « العفاف زينة الفقر » ٥ : ٢٧٣ رقم ٦٠ .

( ٣ ) راجع شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢١٣ رقم ٦٦ .

( ٤ ) البقرة : ٢٧٣ .

( ٥ ) النمل : ١٩ .

٥١٧

عنده في أقل من طرفة عين( هذا من فضل رَبّي ليبلوَني ءأشكُر أَم أكفُر و مَن شَكَرَ فإنّما يَشكُرُ لِنَفسِهِ ) ( و مَن كَفَر فإن ربِّي غَنيٌ كريم ) (١) .

٤٢ الحكمة ( ٦٩ ) و قالعليه‌السلام :

إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا تُرِيدُ فَلاَ تُبَلْ مَا كُنْتَ أقول : هكذا في ( الطبعة المصرية )(٢) ، و الصواب ما في ابن أبي الحديد(٣) و ابن ميثم(٤) و النسخة الخطية(٥) « فلا تبل كيف كنت » و « تبل » بضم التاء و الأصل فيه تبال ، حذفوا الألف تخفيفا لكثرة الاستعمال كما حذفوا الياء من قولهم « لا أدر » قال زهير :

لقد باليت مظعن امّ أوفى

و لكن ام أوفى لا تبالي(٦)

قالوا : كان لامرأة ابن واحد ، فمات فقالت أردت أن لا يموت هذا ، فمن شاء بعده عاش و من شاء مات .

٤٣ الحكمة ( ٨٧ ) و قالعليه‌السلام :

عَجِبْتُ لِمَنْ يَقْنَطُ وَ مَعَهُ اَلاِسْتِغْفَارُ

____________________

( ١ ) النمل : ٤٠ .

( ٢ ) راجع النسخة المصرية شرح محمّد عبده : ٦٧١ رقم ٦٦ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢١٥ .

( ٤ ) في شرح ابن ميثم ٥ : ٢٧٣ كما ما ذكره ( محمّد عبده ) في النسخة المصرية المنقحة .

( ٥ ) راجع النسخة الخطية ( المرعشي ) : ٣١٢ .

( ٦ ) ديوان زهير بن أبي سلمى : ٥٧ .

٥١٨

أقول : روي عنهعليه‌السلام هذا المعنى بلفظ آخر ، فعنهعليه‌السلام قال « العجب لمن يهلك و النجاة معه » قيل : ما هي ؟ قالعليه‌السلام : الاستغفار(١) .

و ورد أنّ الزهري لمّا حصل له القنوط من عقوبته رجلا فمات قال له عليّ بن الحسينعليه‌السلام : أخاف عليك من قنوطك ما لا أخاف عليك من ذنبك .

و أمره ببعث ديته ثم الاستغفار ، فقال له فرّجت عني يا سيدي اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته(٢) .

و في ( الكافي ) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : الاستغفار و قول لا إله إلاّ اللَّه خير العبادة ، قال تعالى( فَاعلَم أَنّه لا إله إلاّ اللَّه و استَغفر لِذَنبك ) .(٣) و قد قال تعالى .( وَ ما كانَ اللَّه مُعذِّبَهُم وَ هُم يَستَغفِرُون ) (٤) .

٤٤ الحكمة ( ٨٩ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَللَّهِ أَصْلَحَ اَللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلنَّاسِ وَ مَنْ أَصْلَحَ أَمْرَ آخِرَتِهِ أَصْلَحَ اَللَّهُ لَهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَ مَنْ كَانَ لَهُ فِي نَفْسِهِ وَاعِظٌ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ اَللَّهِ حَافِظٌ الحكمة ( ٤٢٣ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اَللَّهُ عَلاَنِيَتَهُ وَ مَنْ عَمِلَ لِدِينِهِ كَفَاهُ اَللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَ مَنْ أَحْسَنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَللَّهِ أَحْسَنَ اَللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلنَّاسِ

____________________

( ١ ) ذكره الطبرسي في مكارم الأخلاق : ١٦٦ .

( ٢ ) تنقيح المقال للمامقاني ٣ : ١٨٧ .

( ٣ ) محمد : ١٩ .

( ٤ ) الكافي للكليني ٢ : ٥٠٥ ح ٦ عن حسين بن زيد ، و الآية ١٩ من سورة محمد .

٥١٩

أقول : روى ( روضة الكافي ) في حديثه ( ٤٧٧ ) عن الصادقعليه‌السلام : قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : كانت الفقهاء و العلماء إذا كتب بعضهم إلى بعض كتبوا بثلاثة ليس معهنّ رابعة : من كانت همّته آخرته كفاه اللَّه همّه من الدنيا ، و من أصلح سريرته أصلح اللَّه علانيته ، و من أصلح فيما بينه و بينه تعالى أصلح اللَّه فيما بينه و بين الناس(١) .

قولهعليه‌السلام في الأول : « من أصلح ما بينه و بين اللَّه تعالى أصلح اللَّه ما بينه و بين الناس » و في الثاني : « و من أحسن في ما بينه و بين اللَّه أحسن اللَّه ما بينه و بين الناس » على ما في ( الطبعة المصرية(٢) و ابن أبي الحديد )(٣) ، و لكن في ( ابن ميثم(٤) و النسخة الخطية ) : « كفاه اللَّه ما بينه و بين الناس »(٥) .

قال الصادقعليه‌السلام : ما نقل اللَّه عبدا من ذلّ المعاصي إلى عزّ التقوى إلاّ أغناه من غير مال و أعزّه من غير عشيرة و آنسه من غير بشر(٦) .

و في الأول « و من أصلح أمر آخرته أصلح اللَّه له أمر دنياه » و في الثاني « و من عمل لدينه كفاه اللَّه أمر دنياه » قال تعالى : و من يَتّق اللَّه يَجعَل لهُ مخرجا .

( و يَرزُقُه من حيثُ لا يَحتَسبُ ) (٧) .

و عن عيسىعليه‌السلام : أوحى اللَّه تعالى إلى الدّنيا : من خدمني فاخدميه ، و من خدمك فاستخدميه(٨) .

____________________

( ١ ) الكافي الروضة للكليني : ٣٠٧ .

( ٢ ) راجع النسخة المصرية المنقحة : ٧٥٥ رقم ٤٠٩ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٦٨ رقم ٤٢٩ .

( ٤ ) شرح ابن ميثم ٥ : ٤٤٧ رقم ٤٩٨ .

( ٥ ) النسخة الخطية : ٣٢٧ .

( ٦ ) الكافي للكليني ٢ : ٧٦ ح ٨ .

( ٧ ) الطلاق : ٢ ٣ .

( ٨ ) ورد ما يشابهه في بحار الأنوار ٧٧ : ٥٤ .

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572