الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287686 / تحميل: 5228
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

الغضب وقال مخاطبا ايّاهم بنفس العبارة التي خاطبهم بها حينما أرادوا ان يشرحوا له خديعتهم مع يوسف( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) اي انّ أهواءكم الشيطانية هي التي استولت عليكم وزيّنت لكم الأمر بهذه الصورة التي أنتم تصفونه.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا ، هو انّ يعقوب هل اكتفى في نسبة الكذب واتّباع الهوى لأولاده استنادا الى ما فعلوه في المرّة السابقة مع يوسف من سوء الفعل والحنث باليمين والعهد ، مع انّ مثل هذا الظنّ والقول واتّهام الآخرين لمجرّد تجربة سابقة بعيد عن سيرة عامّة الناس فضلا عن يعقوب الذي هو نبي معصوم ، وعلى الخصوص إذا استند المدّعي في دعواه على وثائق ومستندات تثبت دعواه ، كما انّ طريق الفحص والتحقيق عن واقع الحال كان مفتوحا ليعقوب.

او كان يعقوب يقصد بقوله : ( بل سّولت لكم . الى آخر) الاشارة الى امور اخرى ، منها :

١ ـ لعلّه عتاب لأولاده لخضوعهم امام الأمر الواقع وتسليمهم لحكم العزيز بمجرّد عثور الصاع عند أخيهم ، مع انّ العثور بمفرده لا يعدّ دليلا منطقيّا على السرقة.

٢ ـ ولعلّه عتاب لأولاده لما بيّنوه للعزيز من انّ عقوبة السارق عندهم هو استعباده مع انّ هذه السنّة السائرة في اهل كنعان سنّة باطلة ولا تعدّ قانونا سماويا (هذا ان قلنا انّ هذه السنّة لم تكن مأخوذة من شريعة يعقوب كما ذهب اليه بعض المفسّرين).

٣ ـ وأخيرا لعلّه عتاب لأولاده على استعجالهم في الخضوع لأحكام العزيز وخلق المعاذير والمبرّرات والرجوع مستعجلين الى كنعان دون الاقتداء بأخيهم الكبير في البقاء بمصر برغم العهود والمواثيق المغلّظة التي قطعوها مع أبيهم(١) .

__________________

(١) احتمل بعض المفسّرين انّ هذه الآية لعلّها اشارة الى قصّة يوسف ، لكنّه بعيد عن الواقع ، لانّ الآيات السابقة لا

٢٨١

لكن بعد هذا العتاب المليء بالحزن والاسى رجع يعقوب الى قرارة نفسه وقال :( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) اي انّني سوف امسك بزمام نفسي ، ولا اسمح لها بأن تطغى عليّ بل اصبر صبرا جميلا على امل بأنّ الله سبحانه وتعالى سوف يعيد لي اولادي (يوسف وبنيامين وأخوهم الأكبر)( عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) فإنّه هو العالم بواقع الأمور والخبير بحوادث العالم ما مضى منها وما سوف يأتي ، ولا يفعل الّا عن حكمة وتدبير( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

ثمّ بعد هذه المحاورات بين يعقوب وأولاده ، استولى عليه الحزن والألم ، وحينما رأى مكان بنيامين خاليا عادت ذكريات ولده العزيز يوسف إلى ذهنه ، وتذكّر تلك الايّام الجميلة التي كان يحتضن فيها ولده الجميل ذا الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة والذكاء العالي فيشمّ رائحته الطيّبة ويستعيد نشاطه ، امّا اليوم فلم يبق منه اثر ولا عن حياته خبر ، كما أنّ خليفته (بنيامين) ايضا قد ابتلي مثل يوسف بحادث مؤلم وذهب الى مصير مجهول لا تعرف عاقبته.

حينما تذكّر يعقوب هذه الأمور ابتعد عن أولاده واستعبر ليوسف( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ ) امّا الاخوة فإنّهم حينما سمعوا باسم يوسف ، ظهر على جبينهم عرق الندامة وازداد خجلهم واستولى عليهم الحزن لمصير اخويهم بنيامين ويوسف ، واشتدّ حزن يعقوب وبكاؤه على المصائب المتكرّرة وفقد اعزّ أولاده( وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ) لكن يعقوب كان ـ في جميع الأحوال مسيطرا على حزنه ويخفّف من آلامه ويكظم غيظه وان لا يتفوّه بما لا يرضى به الله سبحان وتعالى( فَهُوَ كَظِيمٌ ) .

يفهم من هذه الآيات انّ يعقوب لم يكن فاقدا لبصره ، لكنّ المصائب الاخيرة وشدّة حزنه ودوام بكائه افقده بصره ، وكما أشرنا سابقا فإنّ هذا الحزن والألم والعمى كان خارجا عن قدرته واختياره ، فإذا لا يتنافى مع الصبر الجميل.

__________________

تبحث عن قضيّة يوسف وفراقه عن أبويه.

٢٨٢

امّا الاخوة فكانوا متألّمين من جميع ما جرى لهم ، فمن جهة كان عذاب الوجدان لا يتركهم ممّا أحدثوه ليوسف ، ـ وفي قضيّة بنيامين ـ شاهدوا أنفسهم في وضع صعب وامتحان جديد ، ومن جهة ثالثة كان يصعب عليهم ان يشاهدوا أباهم يتجرّع غصص المرارة والألم ويواصل بكاؤه الليل بالنهار ، توجّهوا الى أبيهم وخاطبوه معاتبين( قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ) (١) اي انّك تردّد ذكر يوسف وتتأسّف عليه حتّى تتمرّض وتشرف على الهلاك وتموت.

لكنّ شيخ كنعان هذا النّبي العظيم والمتيقّظ الضمير ردّ عليهم بقوله :( إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ) (٢) لا إليكم ، أنتم الذين تخونون الوعد وتنكثون العهد لانّني( وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) فهو اللطيف الكريم الذي لا اطلب سواه.

* * *

__________________

(١) (حرض) على وزن مرض بمعنى الشيء الفاسد والمؤلم ، والمقصود منه هنا هو المريض الذي ضعف جسمه وصار مشرفا على الموت.

(٢) (بثّ) بمعنى التفرقة والشيء الذي لا يمكن إخفاؤه ، والمقصود منه هنا هو الألم والحزن الظاهر الذي لا يخفى على احد.

٢٨٣

الآيات

( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) )

التّفسير

اليأس علامة الكفر!

كان القحط والغلاء وشحّة الطعام يشتدّ يوما بعد آخر في مصر وما حولها

٢٨٤

ومنها كنعان ، ومرّة اخرى امر يعقوب أولاده بأن يتّجهوا صوب مصر للحصول على الطعام ، لكنّه هذه المرّة طلب منهم بالدرجة الاولى ان يبحثوا عن يوسف وأخيه بنيامين ، حيث قال لهم :( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ) .

لكن بما انّ أولاد يعقوب كانوا مطمئنين الى هلاك يوسف وعدم بقاءه ، تعجّبوا من توصية أبيهم وتأكيده على ذلك ، لكن يعقوب نهاهم عن اليأس والقنوط ووصّاهم بالاعتماد على الله سبحانه والاتّكال عليه بقوله :( وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ) فإنّه القادر على حلّ الصعاب و( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) .

(تحسّس) أصله من (حس) بمعنى البحث عن الشيء المفقود بأحد الحواس ، وهنا بحث بين اللغويين والمفسّرين في الفرق بينه وبين (تجسّس) وقد نقل عن ابن عبّاس انّ التحسّس هو البحث عن الخير ، والتجسّس هو البحث عن الشرّ ، لكن ذهب آخرون الى انّ التحسّس هو السعي في معرفة سيرة الأشخاص والأقوام دون التجسّس الذي هو البحث لمعرفة العيوب.

وهنا رأي ثالث في انّهما متّحدان في المعنى ، الّا انّ ملاحظة الحديث الوارد بقوله : «لا تجسّسوا ولا تحسّسوا» يثبت لنا انّهما مختلفان وانّ ما ذهب اليه ابن عبّاس في الفرق بينهما هو الأوفق بسياق الآيات المذكورة ، ولعلّ المقصود منهما في هذا الحديث الشريف : لا تبحثوا عن امور الناس وقضاياهم سواء كانت شرّا ام خيرا.

قوله تعالى «روح» بمعنى الرحمة والراحة والفرج والخلاص من الشدّة.

يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته «الرّوح والرّوح في الأصل واحد

٢٨٥

وجعل الروح اسما للنّفس والرّوح التنفّس وقد أراح الإنسان إذا تنفّس ...).

وأخيرا جمع الاخوة متاعهم وتوجّهوا صوب مصر ، وهذه هي المرّة الثّالثة التي يدخلون فيها ارض مصر ، هذه الأرض التي سبّبت لهم المشاكل وجرّت عليهم الويلات.

لكن في هذه السفرة ـ خلافا للسفرتين السابقتين ـ كانوا يشعرون بشيء من الخجل يعذّب ضمائرهم فإنّ سمعتهم عند اهل مصر او العزيز ملوّثة للوصمة التي لصقت بهم في المرّة السابقة ، ولعلّهم كانوا يرونهم بمثابة (مجموعة من لصوص كنعان) الذين جاؤوا للسرقة. ومن جهة اخرى لم يحملوا معهم هذه المرّة من المتاع ما يستحقّ ان يعاوضوه بالطعام والحبوب ، اضافة الى هذه الأمور فإنّ فقد أخيهم بنيامين والآلام التي المّت بأبيهم كانت تزيد من قلقهم وبتعبير آخر فإنّ السكين قد وصلت الى العظم ، كما يقول المثل الّا انّ الذي كان يبعث في نفوسهم الأمل ويعطيهم القدرة على تحمّل الصعاب هو وصيّة أبيهم( لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ) .

وأخيرا استطاعوا ان يقابلوا يوسف ، فخاطبوه ـ وهم في غاية الشدّة والألم ـ بقولهم :( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ) اي انّ القحط والغلاء والشدّة قد المّت بنا وبعائلتنا ولم نحمل معنا من كنعان إلّا متاعا رخيصا( وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) (١) لا قيمة لها ولكن ـ في كلّ الأحوال ـ نعتمد على ما تبذل لنا من كرمك ونأمل في معروفك( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ) بمنّك الكريم وصدقاتك الوافرة( وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ) ولا تطلب منّا الأجر ، بل اطلبه من الله سبحانه وتعالى حيث( إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) .

__________________

(١) (البضاعة) أصلها (البضع) على وزن جزء ، وهي بمعنى القطعة من اللحم المقطوعة من الجسم ، كما يطلق على جزء من المال الذي يقتطع منه ثمنا لشيء (مزجاة) من (الإزجاء) بمعنى الدفع ، وبما انّ الشيء التافه والقليل الثمن يدفعه الآخذ عن نفسه ، اطلق عليه (مزجاة).

٢٨٦

والطريف انّ اخوة يوسف لم ينفذوا وصيّة أبيهم في البحث عن إخوتهم اوّلا ، بل حاولوا الحصول على الطعام ، ولأجل ذلك قابلوا العزيز وطلبوا منه المؤن والحبوب ، ولعلّ السبب في ذلك ضعف أملهم في العثور على يوسف ، او لعلّهم أرادوا ان يظهروا أنفسهم امام العزيز والمصريين وكأنّهم أناس جاؤوا لشراء الطعام والحبوب فقط ، فمن ثمّ يطرحوا مشكلتهم امام العزيز ويطلبوا منه المساعدة ، فعند ذاك يكون وقع الطلب أقوى واحتمال تنفيذه اكثر.

قال بعض المفسّرين : انّ مقصود الاخوة من قولهم :( تَصَدَّقْ عَلَيْنا ) كان طلب الإفراج عن أخيهم لانّهم لم يطلبوا من العزيز الطعام والحبوب مجّانا دون عوض حتّى يطلبوا منه التصدّق عليهم ، فإنّهم يدفعون ثمنه.

ونقرا في روايات وردت في هذا المقام ، انّ الاخوة كانوا يحملون معهم رسالة من أبيهم الى عزيز مصر ، حيث مدح يعقوب في تلك الرسالة عزيز مصر واكبر عدالته وصلاحه وشكره على ما بذله له ولعائلته من الطعام والحبوب ، ثمّ عرّف نفسه والأنبياء من اهل بيته وأخبره برزاياه وما تحمله من المصائب والمصاعب من فقده اعزّ أولاده واحبّهم الى نفسه يوسف وأخيه بنيامين ، وما أصابهم من القحط والغلاء ، وفي ختام الرسالة طلب من العزيز ان يمنّ عليه ويطلق سراح ولده بنيامين ، وذكّره انّ بنيامين سليل بيت النبوّة والرسالة وانّه لا يتلوّث بالسرقة وغيرها من الدناءات والمعاصي.

وحينما قدّم الأولاد رسالة أبيهم الى العزيز شاهدوا انّه فضّ الرسالة باحترام وقبلها ووضعها على عينيه وبدا يبكي بحيث انّ الدموع بلّت ثيابه(١) (وهذا ما حيّر الاخوة ، وبداوا يفكّرون بعلاقة العزيز مع أبيهم بحيث جعله يبكي شوقا وشغفا حينما فتحها ، ولعلّ فعل العزيز اثار عندهم احتمال ان يكون يوسف هو العزيز ، ولعلّ هذه الرسالة أثارت عواطف العزيز وشعوره بحيث لم يطق صبرا

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية الشريفة.

٢٨٧

وعجز عن ان يخفي نفسه بغطاء السلطة وأجبره على كشف نفسه لإخوته).

وفي تلك اللحظة ، وبعد ان مضت ايّام الامتحان الصعب ـ وكان قد اشتدت محنة الفراق على يوسف وظهرت عليه آثار الكآبة والهمّ ، أراد ان يعرّف نفسه لإخوته فابتدرهم بقوله :( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) .

لاحظوا عظمة يوسف وعلوّ نفسه حيث يسألهم اوّلا عن ذنبهم لكن بهذه الكناية اللطيفة يقول :( ما فَعَلْتُمْ ) وثانيا يبيّن لهم طريقة الاعتذار وانّ ما ارتكبوه في حقّ إخوتهم انّما صدر عن جهلهم وغرورهم ، وانّه قد مضى ايّام الصبى والطفولة وهم الآن في دور الكمال والعقل!

كما انّه يفهم من الآية الشريفة انّ يوسف لم يكن وحده الذي ابتلي بإخوته ومعاملتهم السيّئة ، بل انّ بنيامين ايضا كان يقاسي منهم ألوان العذاب ، ولعلّه قد شرح لأخيه يوسف في الفترة التي قضاها في مصر ، جانبا ممّا عاناه تحت أيديهم ، ويستفاد من بعض الرّوايات انّ يوسف حينما استفسر عمّا فعلوه معه ومع أخيه ختم استفساره بابتسامة عريضة ليدفع عن أذهانهم احتمال انّه سوف ينتقم منهم فظهرت لإخوته أسنانه الجميلة ولاحظوا وتذكّروا الشبه بينه وبين أسنان أخيهم يوسف(١) .

امّا هم ، فإنّهم حينما لاحظوا هذه الأمور مجتمعة ، وشاهدوا انّ العزيز يتحدّث معهم ويستفسرهم عمّا فعلوه بيوسف ، تلك الأعمال التي لم يكن يعلمها احد غيرهم الّا يوسف.

ومن جهة اخرى ادهشهم يوسف وما اصابه من الوجد والهياج حينما استلم كتاب يعقوب ، واحسّوا بعلاقة وثيقة بينه وبين صاحب الرسالة.

وثالثا كلّما أمعنوا النظر في وجه العزيز ودقّقوا في ملامحه ، لاحظوا الشبه الكبير بينه وبين أخيهم يوسف لكنّهم في نفس الوقت لم يدر بخلدهم ولم

__________________

(١) مجمع البيان في ذيل الآية الشريفة.

٢٨٨

يتصوّروا انّه يمكن ان يكون أخوهم يوسف قد ارتقى منصب الوزارة وصار عزيزا لمصر ، اين يوسف واين الوزارة والعزّة؟! لكنّهم تجرّأوا أخيرا وسألوه مستفسرين منه( قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) .

كانت هذه الدقائق أصعب اللحظات على الاخوة ، حيث لم يكونوا يعرفون محتوى اجابة العزيز! وانّه هل يرفع الستار ويظهر لهم حقيقته ، ام انّه سوف يعتقد بأنّهم مجانين حيث ظنّوا هذا الظنّ.

كانت اللحظات تمرّ بسرعة والانتظار الطويل يثقل على قلوبهم فيزيد في قلقهم ، لكن يوسف لم يدع اخوته يطول بهم الانتظار ورفع الحجاب بينه وبينهم واظهر لهم حقيقة نفسه و( قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي ) لكن لكي يشكر الله سبحانه وتعالى على ما أنعمه من جميع هذه المواهب والنعم ، ولكي يعلّم اخوته درسا آخر من دروس المعرفة قال : إنّه( قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) .

لا يعرف احد كيف مرّت هذه اللحظات الحسّاسة على الاخوة كما لا يعرف احد مدى انفعالهم وما خامرهم من السرور والفرح وكيف تعانقوا واحتضنوا أخاهم والدموع الغزيرة التي ذرفوها وذلك حينما التقوا بأخيهم وبعد عشرات السنين من الفراق ، لكنّهم في كلّ الأحوال كانوا لا يطيقون النظر إلى وجه أخيهم يوسف لعلمهم بالذنب والجريمة التي اقترفوها في حقّه ، فترقّبوا اجابة يوسف وانّه هل يغفر لهم إساءتهم اليه ويعفو عن جريمتهم ام لا؟ فابتدءوا مستفسرين بقولهم :( قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا ) (١) اي انّ الله سبحانه وتعالى قد فضّلك علينا بالعلم والحلم والحكومة( وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) (٢) .

__________________

(١) (آثرك) أصله من (الإيثار) وفي الأصل بمعنى البحث عن اثر الشيء ، وبما انّه يقال للفضل والخير : اثر ، فقد استعملت هذه الكلمة للدلالة على الفضيلة والعلو ، فبناء على هذا يكون معنى قوله( آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا ) اي انّ الله سبحانه وتعالى قد أكرمك وفضّلك علينا لما قمت به من الأعمال الخيّرة.

(٢) يرى الفخر الرازي في تفسيره انّ الفرق بين الخاطئ والمخطئ هو انّ الخاطئ يقال لمن تعمّد الخطأ ، والمخطئ لمن

٢٨٩

امّا يوسف الذي كانت نفسه تأبى ان يرى اخوته في حال الخجل والندامة ـ خاصّة في هذه اللحظات الحسّاسة وبعد انتصاره عليهم ـ او لعلّه أراد ان يدفع عن أذهانهم ما قد يتبادر إليها من احتمال ان ينتقم منهم ، فخاطبهم بقوله :( قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) (١) اي انّ العتاب والعقاب مرفوع عنكم اليوم ، اطمئنوا وكونوا مرتاحي الضمير ولا تجعلوا للآلام والمصائب السابقة منفذا الى نفوسكم ، ثمّ لكي يبيّن لهم انّه ليس وحده الذي أسقط حقّه وعفا عنهم ، بل إنّ الله سبحانه وتعالى ايضا عفا عنهم حينما أظهروا الندامة والخجل قال لهم :( يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) اي انّ الله سبحانه وتعالى قد قبل توبتكم وعفا عنكم لانّه ارحم الراحمين.

وهذا دليل على علو قدر يوسف وغاية فضله حيث انّه لم يعف عن سيّئات اخوته فحسب ، بل رفض حتّى ان يوبّخ ويعاتب اخوته ـ فضلا عن ان يجازيهم ويعاقبهم ـ اضافة الى هذا فإنّه طمأنهم على انّ الله سبحانه وتعالى رحيم غفور وانّه تعالى سوف يعفو عن سيّئاتهم ، واستدلّ لهم على ذلك بأنّ الله سبحانه وتعالى هو ارحم الراحمين.

وهنا تذكر الاخوة مصيبة اخرى قد المّت بعائلتهم والشاهد الحي على ما اقترفوه في حقّ أخيهم الا وهو أبوهم حيث فقد الشيخ الكبير بصره حزنا وفراقا على يوسف ، امّا يوسف فإنّه قد وجد لهذه المشكلة حلا حيث خاطبهم بقوله :( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) ثمّ طلب منهم ان يجمعوا العائلة ويأتوا بهم جميعا( وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) .

* * *

__________________

اخطأ عن سهو.

(١) «تثريب» أصله من مادّة (ثرب) وهو شحمة رقيقة تغطّي المعدة والأمعاء ، والتثريب بمعنى رفع هذا الغطاء ، ثمّ بمعنى العتاب والملامة فكان المعاقب قد رفع بعتابه غطاء الذنب عن وجه المذنب (راجع القاموس ومفردات الراغب وتفسير الرازي وروح المعاني).

٢٩٠

بحوث

١ ـ من الذي حمل قميص يوسف؟

ورد في بعض الرّوايات انّ يوسف قال : انّ الذي يحمل قميصي المشافي الى أبي لا بدّ وان يكون هو نفسه الذي حمل قميصي الملطّخ بالدماء اليه ، لكي يدخل السرور على قلبه بعد ان ملا قلبه حزنا وألما من قبل! فأعطى ل (يهودا) قميصه بعد ان اعترف له انّه هو الذي حمل قميصه الملطّخ بالدماء الى أبيه وأخبره بأنّ الذئب قد أكل يوسف ، وهذا التصرّف من يوسف ان لم يدلّ على شيء فإنّه يدلّ على انّه برغم اعماله الكثيرة ومتاعبه اليوميّة ، فإنّه لم يغفل عن صغائر الأمور المتعلّقة بالسلوك الاخلاقي(١) .

٢ ـ يوسف وجلالة شأنه :

ورد في بعض الرّوايات انّ اخوة يوسف ـ بعد هذه القضايا ـ كانوا يحسّون بالخجل الشديد فأرسلوا اليه من يقول له : يا يوسف انّك تستضيفنا كلّ يوم صباحا ومساء ـ على مائدتك فنأكل من زادك وهذا ما يزيد في خجلنا حيث لا نطيق النظر الى وجهك بعد ان نتذكّر اساءتنا إليك ، فأجابهم بكلمة لطيفة ليبعد عنهم الخجل بأنّ الفضل يعود إليهم ، وانّ جلوسهم على مائدته لهو مكرمة منهم وانّ الشعب المصري كانوا ينظرون اليّ نظرة الحرّ الى العبد ويقولون فيما بينهم (سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ!!) اي انظروا الى فعل الله سبحانه وتعالى بهذا العبد فإنّه قد بيع في السوق بعشرين درهما وهو الآن وصل الى هذه المرتبة السامية ، لكنّهم الآن ينظرون الى مائدتي وأنتم جلوس حولها ، فيعرفون قدري وتثبت لهم منزلتي وانّني لست بعبد ذليل بيع بعشرين درهما ، وانّما انا سليل بيت النبوّة والرسالة ومن أولاد نبي الله ابراهيم الخليل ، وهذا ما أباهي

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية الشريفة.

٢٩١

وافتخر به امام الآخرين(١) .

٣ ـ الشكر على الانتصار :

انّ الآيات السابقة تعلّمنا بجلاء ووضوح درسا من دروس الأخلاق الاسلامية ، وهو انّه بعد الانتصار على العدو وكسر شوكته لا بدّ ان لا ننسى العفو والرحمة ، وان لا نعامله بقساوة ، فإنّ اخوة يوسف قد عاملوه اشدّ المعاملة أشرفت به على نهايته وأوصلته الى أبواب الموت ، ولو لم تشمله عناية الله سبحانه وتعالى ، لعجز عن الخلاص ممّا اوقعوه فيه ، هذا اضافة الى المصائب والآلام التي تحملها أبوه ، لكنّهم الآن جميعا واقفون امّام يوسف وهو السيّد المطاع وبيده القوّة والقدرة ، لكنّه عاملهم بلطف واحسان.

كما انّه يفهم من خلال حديثه معهم انّه لم يحقد عليهم قطّ ، بل الذي يقلقه هو تذكّر الاخوة ماضيهم الأسود ويحسّوا بالخجل! ولذا حاول جاهدا ان يريحهم من هذا القلق ويزيح هذا الكابوس عن صدورهم ، بل اكثر من هذا فإنّه حاول ان يفهمهم انّ لهم عليه فضلا في مجيئهم الى مصر والتعرّف عليهم ، فإنّهم كانوا السبب في كشف حقيقته امام الشعب في هذا البلد ، حيث عرف اهل مصر انّ عزيزهم هو سليل بيت النبوّة والرسالة وليس عبدا بيع في السوق بدراهم معدودات ، ومن هنا فإنّ يوسف كان يرى لهم في ذلك فضلا ومنّة!

ومن حسن الصدف انّنا نرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمتحن بمثل هذه المواقف الحرجة ، فمثلا حينما فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة واذلّ المشركين وهزمهم وكسر أصنامهم وداس شوكتهم وكبرياءهم ، جاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كما رواه ابن عبّاس) الى جوار الكعبة وأخذ بحلقة بابها وكان المشركون قد التجأوا إليها هم ينتظرون حكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم ، وقال كلمته المشهورة : «الحمد لله الذي صدق وعده

__________________

(١) تفسير فخر الرازي ، ج ١٨ ، ص ٢٠٦.

٢٩٢

ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ثمّ توجّه الى قريش وخاطبهم بقوله : «ماذا تظنّون يا معشر قريش؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، وقد قدرت! قال : وانا أقول كما قال اخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم».

اي انّ اليوم ليس يوم ملامة وانتقام واظهار الحقد والضغينة «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

فقال عمر بن الخطاب : ففضت عرقا من الحياء من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك انّي قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكّة : اليوم ننتقم منكم ونفعل(١) .

كما انّه وردت في كثير من الرّوايات الاسلامية انّ «زكاة النصر هو العفو».

يقول عليعليه‌السلام : «إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه»(٢) .

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٢٥٨.

(٢) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار ـ جملة ١١.

٢٩٣

الآيات

( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قال ألَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) )

التّفسير

وأخيرا شملتهم رعاية الله ولطفه :

امّا أولاد يعقوب فإنّهم بعد ان واجهوا يوسف وجرى لهم ما جرى حملوا معهم قميص يوسف فرحين ومستبشرين وتوجّهوا مع القوافل القادمة من مصر ، وفيما كان الاخوة يقضون اسعد لحظات حياتهم ، كان هناك بيت في بلاد الشام وارض كنعان ـ الا وهو بيت يعقوب الطاعن في السنّ حيث كان يقضي هو وعائلته احرج اللحظات واشدّها حزنا وبؤسا.

٢٩٤

لكن ـ مقارنا مع حركة القافلة من مصر ـ حدث في بيت يعقوب حادث غريب بحيث اذهل الجميع وصار مثارا للعجب والحيرة ، حيث نشط يعقوب وتحرّك من مكانه وتحدّث كالمطمئن والواثق بكلامه قال : لو لم تتحدّثوا عنّي بسوء ولم تنسبوا كلامي الى السفاهة والجهل والكذب لقلت لكم :( إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ) فإنّي احسّ بأنّ ايّام المحنة والآلام سوف تنصرم في القريب العاجل ، وانّه قد حان وقت النصر واللقاء مع الحبيب ، وارى انّ آل يعقوب قد نزعوا ثوب العزاء والمصيبة ولبسوا لباس الفرح والسرور ـ لكن لا تصدّقون كلامي( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) (١) .

والمستفاد من قوله تعالى (فصلت) انّه بمجرّد ان تحرّكت القافلة من مصر احسّ يعقوب بالأمر وتغيّرت أحواله.

امّا الذين كانوا مع يعقوب ـ وهم عادة أحفاده وازواج أولاده وغيرهم من الأهل والعشيرة ـ فقد استولى عليهم العجب وخاطبوه بوقاحة مستنكرين :( قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) أليس هذا برهانا واضحا على ضلالك حيث مضت سنين طويلة على موت يوسف لكنّك لا زلت تزعم انّه حي ، وأخيرا تقول : انّك تشمّ رائحته من مصر؟! اين مصر واين الشام وكنعان؟! وهذا دليل على بعدك عن عالم الواقع وانغماسك في الأوهام والخيالات لكنّك قد ضللت منذ مدّة طويلة ، الم تقل لاولادك قبل فترة اذهبوا الى مصر وتحسّسوا عن احوال يوسف!

يظهر من هذه الآية الشريفة انّ المقصود ب (الضلال) ليس الانحراف في العقيدة ، بل الانحراف في تشخيص حقيقة حال يوسف والقضايا المتعلّقة به ، لكن يستفاد من هذه التعابير انّهم كانوا يتعاملون مع هذا النّبي الكبير والشيخ المتيقّظ

__________________

(١) (تفنّدون) من مادّة (الفند) على زنة (الرمد) ومعناها العجز الفكري والسفاهة ، ومضى بعض اللغويين الى انّ معناها الكذب ومعناها في الأصل الفساد. فبناء على ذلك فإنّ جملة (لو لا ان تفنّدون) معناها إذا لم تتّهموني بالسفاهة وفساد العقل.

٢٩٥

الضمير بخشونة وقساوة بالغين بحيث كانوا يقولون له مرّة :( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) وهنا قالوا له :( إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) لكنّهم كانوا غافلين عن الحقيقة التي كان يتحلّى بها يعقوب وعن صفاء قلبه ، ويتصوّرون انّ قلب يعقوب كقلوبهم القاسية المظلمة وانّه لا يطّلع على حقائق الأمور ماضيها ومستقبلها.

وتمضي الليالي والايّام ويعقوب في حالة الانتظار الانتظار القاسي الذي يستبطن السرور والفرح والهدوء والاطمئنان ، الّا انّ المحيطين به كانوا مشغولين عن هذه الأمور لاعتقادهم بأنّ قضيّة يوسف مختومة والى الأبد.

وبعد عدّة ايّام من الانتظار ـ والتي لا يعلم الّا الله كيف قضاها يعقوب ـ ارتفع صوت المنادي معلنا عن وصول قافلة كنعان من مصر ، لكن في هذه المرّة ـ وخلافا للمرّات السابقة ـ دخل أولاد يعقوب الى المدينة فرحين مستبشرين ، وتوجّهوا مسرعين الى بيت أبيهم ، وقد سبقهم ال (بشير) الذي بشّر يعقوب بحياة يوسف والقى قميص يوسف على وجهه.

امّا يعقوب الذي أضعفت المصائب بصره ولم يكن قادرا على رؤية القميص فبمجرّد ان احسّ بالرائحة المنبعثة من القميص شعر في تلك اللحظة الذهبية بأنّ نورا قد شعّ في جميع ذرّات وجوده وانّ السّماء والأرض مسروران ونسيم الرحمة يدغدغ فؤاده ويزيل عنه الحزن والألم ، شاهد الجدران وكأنّها تضحك معه ، واحسّ يعقوب بتغيّر حالته ، وفجأة راى النّور في عينيه واحسّ بأنّهما قد فتحتا ومرّة اخرى راى جمال العالم ، والقرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة بقوله :( فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ) .

هذه الحالة التي حصلت ليعقوب اسالت دموع الفرح من عيون الاخوة والأهل ، وعند ذلك خاطبهم بقوله :( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .

هذه المعجزة الغريبة ، جعلت الأولاد يعودون الى أنفسهم ويتساءلون عنها ويفكّرون في ماضيهم الأسود المليء بالاخطاء والذنوب ، وما اعتورهم من

٢٩٦

الحسد وغيره من الصفات الرذيلة البعيدة عن الانسانية ، لكن ما أجمل التوبة والعودة الى طريق الصواب حينما ينكشف للإنسان خطأ المسيرة التي سار فيها وما احلى تلك اللحظات التي يحاول المذنب ان يطلب العفو ممّن جنى عليه ، ليطهّر به نفسه ويبعدها عن جادّة الخطأ والانحراف ، وهذا ما قام به الاخوة حيث وقعوا نادمين على يد أبيهم يقبّلونها ويطلبون منه العفو والاستغفار( قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ ) .

امّا يعقوب هذا الرجل العظيم الذي كانت روحه أوسع من المحيطات ، فقد أجابهم دون ان يلومهم على تلك الأفعال التي اقترفوها في حقّه وحقّ أخيهم أجابهم بقوله :( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) واملي معقود بأن يغفر الله سبحانه وتعالى ذنوبكم( إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ كيف احسّ يعقوب برائحة قميص يوسف؟!

هذا سؤال اثاره كثير من المفسّرين ، واعتبروه معجزة خارقة للعادة من قبل يعقوب او يوسف. الّا انّه ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار سكوت القرآن عن هذا الأمر ـ ولم يتناوله على انّه امر اعجازي او غير اعجازي فمن الهيّن ان نجد له توجيها علميّا ايضا. إذ انّ حقيقة «التليبائي» او انتقال الفكر من النقاط او الأماكن البعيدة تعدّ مسألة علميّة قطعيّة مسلّما بها وانّها تحدث عند من تكون لديهم علاقة قريبة تربط بعضهم ببعض ، او تكون لديهم قدرة روحيّة عالية.

ولعلّ كثيرا منّا يواجه مثل هذه المسألة في حياتنا اليوميّة ، وذلك ان يشعر شخص «من أب ، او امّ ، او أخ» مثلا بالكآبة وانقباض النفس دون سبب ، ثمّ لا يمضي وقت ـ او فترة ـ حتّى يبلغه خبر بأنّ أخاه او ولده قد حدث له حادث ما

٢٩٧

في نقطة بعيدة عنه.

فالعلماء يوجّهون هذا الاحساس على انّه جرى عن طريق انتقال الفكر.

وما ورد في قصّة يعقوب لعلّه من هذا القبيل ايضا ، فعلاقته الشديدة بيوسف وعظمة روحه ، كلّ ذلك كان سببا لان يشعر بالحالة الحاصلة للاخوة نتيجة حمل قميص يوسف من مسافة بعيدة.

ومن الممكن ان يتعلّق هذا الأمر بمسألة سعة دائرة علم الأنبياء ايضا.

وقد وردت اشارة طريفة ـ في بعض الرّوايات ـ الى مسألة انتقال الفكر ، وهي انّ بعضهم سأل الامام أبا جعفر الباقرعليه‌السلام : فقال : جعلت فداك ، ربّما حزنت من دون مصيبة تصيبني او امر ينزل بي ، حتّى يعرف ذلك اهلي في وجهي وصديقي.

فقالعليه‌السلام : «نعم يا جابر ، انّ الله خلق المؤمنين من طينة الجنان واجرى فيهم من ريح روحه ، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وامّه ، فإذا أصاب روحا من تلك الأرواح في بلد من البلدان حزن حزنت هذه لانّها منها»(١) .

ويستفاد من بعض الرّوايات ايضا انّ هذا القميص لم يكن قميصا مألوفا ، بل كان ثوبا من ثياب الجنّة ، وقد خلّفه ابراهيم الخليلعليه‌السلام في آل يعقوب وأسرته ليكون ذكرى له ، وانّ رجلا كيعقوبعليه‌السلام الذي كانت لديه شامّة من «الجنّة» احسّ برائحة هذا الثوب الذي هو من ثياب الجنّة من بعيد(٢) .

٢ ـ اختلاف حالات الأنبياء :

الاشكال المعروف الآخر هنا هو ما اثاره بعضهم في شأن يعقوب من سؤال وهو :

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٢٣ «والسائل هو جابر الجعفي».

(٢) لمزيد الاطلاع على هذه الرّوايات يراجع المجلد الثّاني من تفسير نور الثقلين ، ص ٤٦٤.

٢٩٨

كيف يمكن ان يكون هذا النّبي العظيم قد احسّ بريح قميص يوسف من مسافة قدّرها بعضهم بثمانين فرسخا ، وقال بعضهم : من مسافة عشرة ايّام ، مع انّه لم يطّلع على الحوادث القريبة منه التي مرّت على يوسف عند ما القي في الجبّ في ارض كنعان؟

والجواب على هذا السؤال ـ مع الالتفات الى ما ذكرناه آنفا في شأن علم الغيب ، وحدود علم الأنبياء والائمّة ـ يسير لا غبار عليه ، لانّ علمهم بالأمور الغيبيّة يستند الى علم الله وارادته ، وما يشاؤه الله لهم من العلم «او عدمه» حتّى ولو كان ذلك في اقرب نقطة من نقاط العالم.

فيمكن تشبيههم من هذا الوجه بالقافلة التي تسير في ليل مظلم في صحراء تغشيها الغيوم وبينا هي على هذه الحال وإذا السّماء تومض بالبرق اللامع فتضيء الصحراء الى منتهى أطرافها ، فترى القافلة بأمّ أعينها كلّ شيء امامها ، الّا انّ البرق ينطفئ ثانية ويستوعب الظلام كلّ مكان فلا يرى احد شيئا.

ولعلّ الحديث الوارد عن الامام الصادقعليه‌السلام في شأن علم الامامعليه‌السلام اشارة الى هذا المعنى ، إذ جاء عنهعليه‌السلام انّه قال : «جعل الله بينه وبين الامام عمودا من نور ، ينظر الله به الى الامام ، وينظر الامام به اليه ، فإذا أراد علم شيء نظر في ذلك النّور فعرفه»(١) .

ومع الالتفات الى هذه الحقيقة ، فلا مجال للتعجّب بأن تقتضي مشيئة الله سبحانه ـ لابتلاء يعقوب وتمحيصه ان لا يعرف يوما شيئا عن الحوادث في كنعان وهي تجري قريبا منه ، وان يحسّ برائحة قميص ولده يوسف وهو في مصر في يوم آخر عند ما قدّر له ان تنتهي محنته وبلواه.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ، للخوئي ، ج ٥ ، ص ٢٠٠.

٢٩٩

٣ ـ كيف ردّ على يعقوب بصره؟!

احتمل بعض المفسّرين انّ يعقوبعليه‌السلام لم يفقد بصره بصورة كليّة ، وانّما ضعف بصره ، وعند حصول مقدّمات الوصال تبدّل تبدّلا بحيث عاد ذلك البصر الى حالته الطبيعيّة الاولى ، الّا انّ ظاهر آيات القرآن يدلّ على انّه فقد بصره تماما وابيضّت عيناه من الحزن ، وعلى ذلك فإنّ بصره عاد اليه عن طريق الاعجاز ، حيث يقول القرآن الكريم :( فَارْتَدَّ بَصِيراً ) .

٤ ـ الوعد بالاستغفار :

نقرا في الآيات ـ محل البحث ـ انّ يوسفعليه‌السلام قال لإخوته عند ما أظهروا له ندامتهم:( يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ ) الّا انّ يعقوبعليه‌السلام قال لهم عند ما اعترفوا عنده بالذنب وأظهروا الندامة :( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ) وكان هدفه ـ كما تقول الرّوايات ـ ان يؤخّر استجابة طلبهم الاستغفار الى السحر (من ليلة الجمعة) الذي هو خير وقت لاستجابة الدعاء وقبول التوبة(١) .

والآن ينقدح هذا السؤال وهو : كيف أجابهم يوسف بصورة قطعيّة ، وأوكل أبوهم ذلك الى المستقبل؟!

ولعلّ هذا الاختلاف ناشئ عن انّ يوسفعليه‌السلام كان يتحدّث عن «إمكان المغفرة» وانّ هذا الذنب من الممكن ان يعفو الله عنه ، ويعقوب كان يتحدّث عن «فعليّة المغفرة» وانّه ما الذي ينبغي ان يفعل حتّى تتحقّق التوبة والمغفرة «فلاحظوا بدقّة».

__________________

(١) نقرا في تفسير القرطبي انّ هدفه كان الاستغفار لهم في ليلة الجمعة الموافقة ليوم عاشوراء «لمزيد الاطلاع يراجع تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٤٩١».

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

النقص الحادث في المبيع ، فكذلك عدم المشروط. ولأنّ الإعسار يثبت به فسخ البيع بغير شرطٍ ، ولا يثبت مثل ذلك في الحوالة ، فاختلفا(١) .

ونمنع كون الإعسار لا يردّ الحوالة إذا لم يشترط ، وقد سبق. ونمنع الملازمة بين ثبوته بالشرط وبعدمه ، ونحن لا ندّعي مساواة الحوالة للبيع في جميع أحكامه.

تذنيب : لو كان المحال عليه معسراً ولم يعلم المحتال ثمّ تجدّد اليسار وعلم سبق الفقر ، احتُمل ثبوت الخيار ؛ للاستصحاب‌. وعدمُه ؛ لزوال المقتضي.

مسألة ٦٠٢ : إذا حصلت الحوالة مستجمعة الشرائط ، انتقل المال إلى ذمّة المحال عليه ، وبرئ المحيل‌ ، سواء أبرأه المحتال أو لا - وهو قول عامّة الفقهاء(٢) - لأنّ الحوالة مأخوذة من التحويل للحقّ ، وإنّما يتحقّق هذا المعنى لو انتقل المال من ذمّةٍ إلى أُخرى ، وليس هنا إلّا ذمّة المحيل والمحال عليه ، فإذا تحوّل الحقّ من ذمّة أحدهما إلى الآخَر مع اليسار أو علم الإعسار ، لم يعد الحقّ إليه ؛ لعدم المقتضي.

وقال شيخنارحمه‌الله في النهاية : ومَنْ كان له على غيره مالٌ فأحال به على غيره ، وكان الـمُحال عليه مليّاً به في الحال وقَبِل الحوالة وأبرأه منه ، لم يكن له الرجوعُ عليه ، ضمن ذلك المـُحال به عليه أو لم يضمن بعد أن يكون قد قَبِل الحوالة ، فإن لم يقبل الحوالة إلاّ بعد ضمان المـُحال عليه ولم يضمن مَنْ أُحيل عليه ذلك ، كان له مطالبة الـمُحيل ، ولم تبرأ ذمّته بالحوالة ، فإن انكشف لصاحب المال أنّ الذي أُحيل به عليه غير ملي بالمال ، بطلت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٣ ، المغني ٥ : ٦٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٦٢.

(٢) المغني ٥ : ٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

٤٤١

الحوالة ، وكان له الرجوعُ على المديون بحقّه عليه ، ومتى لم يُبرئ الـمُحال له بالمال الـمُحيل في حال ما يُحيله ، كان له أيضاً الرجوعُ عليه في أيّ وقت شاء(١) .

وكان الحسن البصري أيضاً لا يرى الحوالة مبرئةً إلّا أن يُبرئه(٢) .

واحتجّ الشيخرحمه‌الله بما رواه زرارة - في الحسن - عن الصادق أو الباقرعليهما‌السلام : في الرجل يحيل الرجل بمالٍ كان له على رجلٍ [ آخَر ] ، فيقول له الذي احتال : برئت ممّا لي عليك ، قال : « إذا أبرأه فليس له أن يرجع عليه ، وإن لم يُبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله »(٣) .

وهذه الرواية لا بأس بها ؛ لصحّة السند ، لكنّ المشهور عند الأصحاب والعامّة البراءة بمجرّد الحوالة ، فلابدَّ من حمل الرواية على شي‌ء ، وليس ببعيدٍ من الصواب حملها على ما إذا شرط المحيل البراءة ، فإنّه يستفيد بذلك عدم الرجوع لو ظهر إفلاس المحال عليه ، أو نقول : إذا لم يُبرئه ، فله أن يرجع على الذي أحاله إذا تبيّن له إعساره وقت الحوالة.

النظر الثاني : في الرضا بالحوالة.

مسألة ٦٠٣ : يشترط في الحوالة رضا المحيل - وهو الذي عليه الحقّ - إجماعاً‌ ، فلو أُكره على أن يحيل فأحال بالإكراه ، لم تصحّ الحوالة ، ولا نعرف فيه خلافاً ؛ لأنّ مَنْ عليه الحقّ مخيَّر في جهات القضاء ، فله أن يقضي من أيّ جهة شاء ، فلا يُعيَّن عليه بعض الجهات قهراً ، فلا يلزمه‌

____________________

(١) النهاية : ٣١٦.

(٢) المغني ٥ : ٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

(٣) الكافي ٥ : ١٠٤ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢١١ - ٢١٢ / ٤٩٦ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

٤٤٢

أداؤه من جهة الدَّيْن الذي له على المحال عليه ، إلّا في صورةٍ واحدة لا يُعتبر فيها رضا المحيل ، وهي ما إذا جوّزنا الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه لو قال للمستحقّ : أحلت بالدَّيْن الذي لك على فلان على نفسي ، فقَبِل ، صحّت الحوالة ، فإذَنْ لا يشترط هنا رضا المحيل ، بل رضا المحتال والمحال عليه خاصّةً.

مسألة ٦٠٤ : يشترط رضا المحتال عند علمائنا أجمع‌ - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة(١) - لأنّ حقّه ثابت في ذمّة المحيل ، فلا يلزمه نقله إلى ذمّةٍ أُخرى ، إلّا برضاه ، كما أنّه لا يجوز أن يُجبر على أن يأخذ بالدَّيْن عوضاً ، وكما إذا ثبت حقّه في عينٍ ، لا يملك نقله إلى غيرها بغير رضاه. وقال داوُد وأحمد : لا يعتبر رضاه إذا كان المحال عليه مليّاً ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « مَنْ أُحيل على ملي‌ء فليحتل »(٢) والأمر للوجوب(٣) .

ونحن نمنع الوجوب ، بل المراد به الإرشاد.

مسألة ٦٠٥ : يشترط عندنا رضا المحال عليه‌ ، فلو لم يرض المحال عليه أو لم يُعلم هل رضي أم لا؟ لم تصحّ الحوالة ، وبه قال أبو حنيفة والزهري والمزني(٤) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٦١.

(٢) مسند أحمد ٣ : ٢٢٥ ، ضمن ح ٩٦٥٥.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٩ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المعونة ٢ : ١٢٢٨ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٦١.

(٤) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، الوسيط ٣ : ٢٢١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، المغني ٥ : ٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٦١ - ٦٢.

٤٤٣

وقال أبو العبّاس ابن القاص : نصّ الشافعي في الإملاء على أنّها تفتقر إلى رضا المحال عليه - وإليه ذهب أبو سعيد الاصطخري من الشافعيّة - لأنّه أحد مَنْ تتمّ به الحوالة ، فأشبه المحتال والمحيل. ولأنّ الناس يختلفون في الاقتضاء والاستيفاء سهولةً وصعوبةً. ولأنّ الأصل بقاء الحقّ في ذمّة المحال عليه للمحيل ، فيستصحب إلى أن يظهر المعارض.

وأصحّ القولين عند الشافعي : أنّه لا يعتبر رضا المحال عليه إذا كانت الحوالة على مَنْ عليه دَيْنٌ للمحيل - وبه قال مالك وأحمد - لأنّ المحيل أقام المحتال مقام نفسه في القبض بالحوالة ، فلم يفتقر إلى رضا مَنْ عليه الحقّ ، كما لو كان وكيلاً في قبضه ، بخلاف المحتال ، فإنّه ينتقل حقّه ، وتبرأ ذمّته منه. ولأنّ المحال عليه محلّ الحقّ والتصرّف ، فلا يعتبر رضاه ، كما لو باع عبداً ، لا يعتبر رضاه(١) .

وبنوا الوجهين على أنّ الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ إن قلنا بالأوّل ، فلا يشترط ؛ لأنّه حقٌّ للمحيل ، فلا يحتاج فيه إلى رضا الغير. وإن قلنا بالثاني ، يشترط ؛ لتعذّر إقراضه من غير رضاه(٢) .

وإن كانت الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه ، لم تصحّ عند الشافعي إلّا برضا المحال عليه ؛ لأنّا لو صحّحناه ، لألزمناه قضاء دَيْن الغير قهراً. وإن رضي ، ففي صحّة الحوالة وجهان بناهما الجمهور على الأصل المذكور(٣)

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، الوسيط ٣ : ٢٢١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٩ ، التلقين ٢ : ٤٤٣ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المعونة ٢ : ١٢٢٩ ، المغني ٥ : ٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٦١ - ٦٢.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

٤٤٤

وسيأتي(١) .

فقد ظهر من هذا الإجماعُ على اعتبار رضا المحيل إلّا في الصورة التي ذكرناها في أوّل النظر ، وأنّ أصحابنا اشترطوا رضا الثلاثة : المحيل والمحتال والمحال عليه.

النظر الثالث : في الدَّيْن.

مسألة ٦٠٦ : إذا أحال زيد عمراً على بكر بألف ، فلا يخلو إمّا أن تكون ذمّة زيدٍ(٢) مشغولةً بالألف لعمرو ، أو لا‌ ، وعلى كلا التقديرين فإمّا أن يكون بكر بري‌ء الذمّة منها أو مشغولها ، فالأقسام أربعة :

أ - أن تكون ذمّة زيدٍ وبكرٍ مشغولتين ، ولا خلاف هنا في صحّة الحوالة.

ب - قسيم هذا ، وهو أن تكون ذمّتهما بريئةً ، فإذا أحال زيد - وهو بري‌ء الذمّة - عمراً - ولا دَيْن له عليه - على بكر ، وهو بري الذمّة ، لم يكن ذلك إحالةً صحيحة ؛ لأنّ الحوالة إنّما تكون بدَيْنٍ ، وهنا لم يوجد ، بل يكون ذلك وكالةً في اقتراضٍ ، وإنّما جازت الوكالة هنا بلفظ الحوالة ؛ لاشتراكهما في المعنى ، وهو استحقاق الوكيل أن يفعل ما أمره الموكّل من الاقتراض ، وأن يطالبه من المحال عليه ، كما يستحقّ المحتال مطالبة المحال عليه.

ج - أن يكون المحيلُ بري‌ءَ الذمّة والمحالُ عليه مشغولَها ، ( فيحيل‌

____________________

(١) في ص ٤٤٥ ، القسم « د » من الأقسام المذكورة في المسألة ٦٠٦.

(٢) في « ج » : « ذمّته » بدل « ذمّة زيد ».

٤٤٥

مَنْ لا دَيْن عليه مَنْ لا دَيْن له على مَنْ للمحيل عليه دَيْنٌ )(١) بقبضه ، فلا يكون ذلك أيضاً حوالةً ؛ لأنّ الحوالة مأخوذة من تحوّل الحقّ وانتقاله ، ولا حقّ [ هاهنا ](٢) ينتقل ويتحوّل ، بل يكون ذلك في الحقيقة وكالةً في الاستيفاء ؛ لاشتراكهما في استحقاق الوكيل مطالبة مَنْ عليه الدَّيْن ، كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه ، وتحوّل ذلك إلى الوكيل كتحوّله إلى المحيل.

د - أن يكون المحيل مشغولَ الذمّة والمحالُ عليه برئَ الذمّة.

وفي صحّة هذه الحوالة إشكال أقربه : الصحّة - وبه قال أبو حنيفة وأصحابه(٣) - لأنّ المحال عليه إذا قَبِلها ، صار كأنّه قضى دَيْن غيره بذمّته ؛ لأنّ الحوالة بمنزلة الحقّ المقبوض ، وإذا قبض حقّاً من غيره ، صحّ وسقط عن غيره ، كذا هنا ، لكن يكون ذلك بالضمان أشبه.

وللشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ فإن قلنا : إنّها اعتياض ، لم تصحّ ؛ لأنّه ليس له على المحال عليه شي‌ء نجعله عوضاً عن حقّ المحتال. وإن قلنا : إنّها استيفاء حقٍّ ، صحّت(٤) ، كأنّه أخذ المحتال حقّه وأقرضه من المحال عليه(٥) .

قال الجويني : الصحيح عندي تخريج الخلاف على الخلاف في أنّه‌

____________________

(١) بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجريّة : « فيحيل مَنْ لا دَيْن له عليه على مَنْ للمحيل عليه دَيْنٌ ». وكذا في « ر » بإسقاط « له » من « لا دَيْن له عليه ».

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فيها ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) راجع : فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة ٣ : ٧٣ و ٧٤ ، وبدائع الصنائع ٦ : ١٦.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « صحّ ». والظاهر ما أثبتناه.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

٤٤٦

هل يصحّ الضمان بشرط براءة الأصيل؟ بل هذه(١) الصورة غير(٢) تلك الصورة ؛ فإنّ الحوالة تقتضي براءة المحيل ، فإذا قَبِل الحوالة ، فقد التزم على أن يُبرئ المحيل(٣) .

وهذا ذهابٌ منه إلى براءة المحيل وجَعْلها أصلاً مفروغاً عنه.

لكن للشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّه يبرأ على قياس الحوالات.

والثاني - وبه قال أكثرهم - : أنّه لا يبرأ ، وقبول الحوالة ممّن لا دَيْن عليه ضمانٌ مجرّد(٤) .

ثمّ فرّعوا فقالوا : إن قلنا : لا تصحّ هذه الحوالة ، فلا شي‌ء على المحال عليه ، فإن تطوّع وأدّاه ، كان كما لو قضى دَيْنَ الغير. وإن قلنا : تصحّ ، فهو كما لو ضمنه ، فيرجع على المحيل إن أدّى بإذنه(٥) .

وكذا إن أدّى بغير إذنه عندنا وعلى أظهر الوجهين عند الشافعيّة(٦) ؛ لجريان الحوالة بإذنه.

وللمحال عليه الرجوع على المحيل هنا قبل الأداء - وهو أحد وجهي الشافعيّة(٧) - لأنّ المحيل يبرأ ، فينتقل الحقّ إلى ذمّة المحال عليه بمجرّد الحوالة.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « هنا » بدل « هذه ». والمثبت كما في المصدر.

(٢) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وفي المصدر « عين » بدل « غير ». وفي « ر » : « على غير ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ - ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

(٦ و ٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٣.

٤٤٧

والثاني : ليس له ذلك بناءً على أنّ المحيل لا يبرأ ، كما أنّ الضامن لا يرجع على المضمون عنه قبل الأداء(١) .

وإذا طالبه المحتال بالأداء ، فله مطالبة المحيل بتخليصه.

وهل له ذلك قبل مطالبة المحتال؟ الأقوى عندي : ذلك.

وللشافعيّة وجهان كالوجهين في مطالبة الضامن(٢) .

ولو أبرأه المحتال ، لم يرجع على المحيل بشي‌ء.

ولو قبضه المحتال ثمّ وهبه منه ، فالأقوى : الرجوع ؛ لأنّه قد غرم عنه ، وإنّما عاد المال إليه بعقدٍ مستأنف.

وللشافعيّة وجهان يُنظر في أحدهما إلى أنّ الغُرْم لم يستقر عليه ، فلم يغرم عنه في الحقيقة شيئاً. وفي الثاني إلى أنّه عاد إليه بتصرّفٍ مبتدأ(٣) .

وهُما مأخوذان من القولين فيما إذا وهبت منه الصداق بعد القبض ثمّ طلّقها قبل الدخول.

ولو ضمن عنه ضامنٌ ، لم يرجع على المحيل حتى يأخذ المحتال المالَ منه أو من ضامنه.

ولو أحال المحتال على غيره ، نُظر إن أحاله على مَنْ عليه دَينٌ ، رجع على محيله بنفس الحوالة ؛ لحصول الأداء بها. وإن أحال على مَنْ لا دَيْن عليه ، لم يرجع عليه الذي أحاله عليه.

مسألة ٦٠٧ : الأقوى عندي أنّه لا يشترط في الدَّيْن المحال به اللزومُ‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٣.

٤٤٨

- وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - كما لو أحال بالثمن في مدّة الخيار بأن يحيل المشتري البائعَ على رجلٍ أو يحيل البائع رجلاً على المشتري. ولأنّه صائرٌ إلى اللزوم ، والخيار عارضٌ فيه ، فيعطى حكم اللازم.

والثاني لهم : المنع ؛ لأنّه ليس بلازم(٢) .

وهو مصادرة على المطلوب.

قال بعض الشافعيّة : هذا الخلاف مبنيّ على أنّ الحوالة معاوضة أو استيفاء؟ إن قلنا معاوضة ، فهي كالتصرّف في المبيع في زمان الخيار. وإن قلنا : استيفاء ، فتجوز(٣) .

قالوا : فإن قلنا بالمنع ، ففي انقطاع الخيار وجهان :

أحدهما : أنّه لا ينقطع ؛ لحكمنا ببطلانه ، وتنزيلنا إيّاه منزلة العدم.

والثاني : نعم ؛ لأنّ التصرّف في عوض العقد يتضمّن الرضا بإبطال الخيار(٤) .

وإن قلنا بالجواز ، لم يبطل الخيار عند بعضهم(٥) .

وقال آخَرون : يبطل ؛ لأنّ قضيّة الحوالة اللزوم ، ولو بقي الخيار لما صادفت الحوالة مقتضاها ، وكانت هذه الحوالة كالحوالة على النجوم(٦) .

والأقوى : بقاء الخيار.

مسألة ٦٠٨ : إذا وقعت الحوالة بالثمن المتزلزل بالخيار ثمّ انفسخ البيع‌

____________________

(١ و ٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، الوسيط ٣ : ٢٢٢ - ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩.

(٤ - ٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

٤٤٩

بفسخ صاحب الخيار ، بطل الثمن ، وبطلت الحوالة المترتّبة عليه ، فلو أحال البائع على المشتري بالثمن رجلاً له عليه دَيْنٌ ثمّ فسخ المشتري بالخيار ، بطلت الحوالة ؛ لأنّها فرع البيع ، والبيع قد بطل.

وعندي فيه نظر ؛ لأنّ البيع لم يبطل من أصله ، وإنّما تجدّد له البطلان ، فلا يؤثّر في الحوالة التي جرت منهما.

ولو أحال المشتري البائعَ على غيره ثمّ فسخ البيع بالخيار ، بطلت الحوالة ؛ لترتّبها على البيع ، والبيع قد بطل.

ويُحتمل قويّاً عدم بطلان الحوالة.

وعلى قول الشافعيّة ببطلان الخيار لو أحال المشتري البائعَ على ثالثٍ ، يبطل خيارهما جميعاً ؛ لتراضيهما. ولو أحال البائع رجلاً على المشتري ، لم يبطل خيار المشتري ، إلاّ أن يقبل ويرضى بالحوالة(١) .

مسألة ٦٠٩ : لو أحال زيد على عمرو بكراً بمالٍ فأدّاه عمرو - بعد قبول الثلاثة الحوالة - إلى بكر‌ ، ثمّ جاء عمرو يطالب زيداً بما أدّاه بحوالته إلى بكر ، فادّعى زيد أنّه إنّما أحال بما لَه عليه ، وأنكر عمرو ذلك وأنّه احتال ولا شي‌ء لزيد عليه ، كان القولُ قولَ عمرو ؛ لأصالة براءة ذمّته.

ويُحتمل أن يقال : إن قلنا بصحّة الحوالة على مَنْ لا مال عليه ، كان القولُ قولَ المحال عليه قطعاً. وإن قلنا : إنّها لا تصحّ ، كان القولُ قولَ المحيل ؛ لاعترافهما بالحوالة ، وادّعاء المحال عليه بطلانها ، والأصل الصحّة.

مسألة ٦١٠ : لو أحال السيّد على مكاتَبه بمال النجوم‌ ، فإن كان بعد‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

٤٥٠

حلوله ، صحّ ؛ لثبوته في ذمّة المكاتَب. وإن كان قبل الحلول ، فكذلك على الأقوى.

ويجي‌ء على قول الشيخرحمه‌الله المنع(١) ؛ لأنّ مال الكتابة غير واجبٍ - عنده(٢) - على المكاتَب ؛ إذ له أن يُعجّز نفسه ، فله أن يمتنع من أدائه.

وللشافعيّة وجهان فيما إذا أحال السيّد غيره على مكاتَبه بالنجوم.

أحدهما : الجواز - كما قلناه - لأنّ النجوم دَيْنٌ ثابت على المكاتَب ، فأشبه سائر الديون.

وأصحّهما عندهم : المنع ؛ لأنّ النجوم غير لازمة على المكاتَب ، وله إسقاطها متى شاء ، فلا يمكن إلزامه الدفع إلى المحتال(٣) .

وعلى ما اخترناه - من صحّة الحوالة - لو أعتق السيّد عبده المكاتَب ، بطلت الكتابة ، ولم يسقط عن المكاتَب مال الحوالة ؛ لأنّ المال بقبوله الحوالة صار لازماً له للمحتال ، ولا يضمن السيّد ما يغرمه من مال الحوالة.

ولو كان للسيّد عليه دَيْنُ معاملةٍ غير مال الكتابة ، صحّت الحوالة به قطعاً ؛ لأنّ حكمه حكم الأحرار في المداينات.

وقال بعض الشافعيّة : إنّه مبنيّ على أنّ المكاتَب لو عجّز نفسه ، هل يسقط ذلك الدَّيْن؟ إن قلنا : نعم ، لم تصح الحوالة ، وإلّا صحّت(٤) .

والمعتمد ما قلناه ، وهو قول أكثر الشافعيّة وقول أكثر العامّة(٥) .

ولو أحال المكاتَبُ السيّدَ على إنسانٍ بمال الكتابة ، صحّت الحوالة‌

____________________

(١) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٣٢١.

(٢) الخلاف ٦ : ٣٩٣ ، المسألة ١٧ ، المبسوط - للطوسي - ٦ : ٧٣ و ٨٢.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ - ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٥) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤ ، المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٧.

٤٥١

عندنا وعند أكثر الشافعيّة وأكثر المانعين من حوالة السيّد عليه بالنجوم(١) ، وتبرأ ذمّة المكاتَب من مال الكتابة ، ويتحرّر ، ويكون ذلك بمنزلة الأداء ، سواء أدّى المحال عليه أو مات مفلساً ؛ لأنّ ما أحاله عليه مستقرّ ، والكتابة لازمة من جهة السيّد ، فمتى أدّى المحال عليه وجب على السيّد القبول أو الإبراء.

وقال بعض الشافعيّة : لا تصحّ هذه الحوالة أيضاً(٢) .

فللشافعيّة إذَنْ ثلاثة أقوال في الجمع بين الصورتين :

أحدها : جواز إحالة المكاتَب بالنجوم ، وإحالة السيّد على النجوم ، وهو قول ابن سريج.

والثاني : منعهما جميعاً.

والثالث : أظهرها عندهم ، وهو : جواز إحالة المكاتَب بها ، ومنع إحالة السيّد عليها(٣) .

ولو أحال السيّد بأكثر مال الكتابة ثمّ أعتقه ، سقط عن المكاتَب الباقي ، ولم تبطل الحوالة.

مسألة ٦١١ : مال الجُعْل في الجُعالة إن استحقّ بالعمل ، صحّت الحوالة به إجماعاً.

وإن لم يشرع في العمل ، فالأقرب : الجواز ؛ لأنّا نجوّز الحوالة على بري‌ء الذمّة.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤ ، المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) الوسيط ٣ : ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠.

٤٥٢

وقياس الشافعيّة أنّه يجي‌ء في الحوالة به وعليه الخلافُ المذكور في الرهن به وفي ضمانه(١) .

وقال بعض الشافعيّة : تجوز الحوالة به وعليه بعد العمل ، لا قبله(٢) .

ولو أحال مَنْ عليه الزكاة الساعيَ على إنسانٍ بالزكاة ، جاز ، سواء قلنا : إنّ الحوالة استيفاء أو اعتياض ؛ لأنّه دَيْنٌ ثابت في الذمّة ، فجازت الحوالة.

وعندنا يجوز دفع قيمة الزكاة عن عينها ، فجاز الاعتياض فيها.

أمّا الشافعيّة فإنّهم منعوا من دفع القيمة في الزكاة ومن الاعتياض عنها(٣) ، فهنا قالوا : إن قلنا : إنّ الحوالة استيفاء ، صحّت الحوالة هنا. وإن قلنا : إنّها اعتياض ، لم تجز ؛ لامتناع أخذ العوض عن الزكاة(٤) .

ولو أحال الفقير المديون صاحبَ دَيْنه بالزكاة على مَنْ وجبت عليه ، لم تصح ؛ لأنّها لم تتعيّن له إلّا بالدفع إليه.

ولو قَبِل مَنْ وجبت عليه ، صحّ ، ولزمه الدفع إلى المحتال.

مسألة ٦١٢ : تجوز الحوالة بكلّ مالٍ لازمٍ ثابتٍ في الذمّة معلومٍ‌ ؛ لأنّها إمّا اعتياض ، فلا تصحّ على المجهول ، كما لا يصحّ بيعه ، وإمّا استيفاء ، وإنّما يمكن استيفاء المعلوم ، أمّا المجهول فلا. ولاشتماله على الغرر.

فلو قال : أحلتك بكلّ ما لك عَلَيَّ ، فقَبِل ، لم تصح.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٢) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ١٥٧ ، المجموع ٥ : ٤٢٨ - ٤٢٩ ، و ٦ : ١٣٢ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٦٥ ، المغني ٢ : ٦٧١ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢١.

(٤) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

٤٥٣

ويحتمل الصحّة ، ويكون على المحال عليه للمحتال كلّ ما تقوم به البيّنة ، كما قلناه في الضمان.

ولا يشترط اتّفاق الدَّيْنين في سبب الوجوب ، فلو كان أحدهما ثمناً والآخَر أُجرةً أو قرضاً أو بدلَ متلفٍ أو أرشَ جنايةٍ وما أشبهه ، جازت الحوالة ، ولا نعلم فيه خلافاً.

مسألة ٦١٣ : تصحّ الحوالة بكلّ دَيْنٍ ثابتٍ في الذمّة‌ ، سواء كان مثليّاً ، كالذهب والفضّة والحبوب والأدهان ، أو من ذوات القِيَم ، كالثياب والحيوان وغيرهما - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - لأنّه حقٌّ لازمٌ ثابتٌ في الذمّة ، فأشبه ما لَه مِثْلٌ.

والثاني : المنع ؛ لأنّ الغرض من الحوالة إيصال الحقّ إلى مستحقّه من غير تفاوتٍ ، وهذا الغرض لا يتحقّق فيما لا مِثْل له ؛ لأنّ المثل لا يتحرّز(٢) ، ولهذا لا يضمن بمثله في الإتلاف(٣) .

والأوّل أصحّ. والوصول إلى الحقّ قد يكون بالمثل ، وقد يكون بالقيمة ، وكما يجوز إبراء المديون منه بالأداء ، كذا المحال عليه.

ولو كان المال ممّا لا يصحّ السَّلَم فيه ، ففي جواز الحوالة به إشكال أقربه : الجواز ؛ لأنّ الواجب في الذمّة حينئذٍ القيمة ، وتلك العين لا تثبت في الذمّة ، فلا تقع الحوالة بها ولا بمثلها ؛ لعدمه ، بل بالقيمة.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

(٢) في النسخ الخطّيّة : « لا يتحرّر » بالراءين المهملتين.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

٤٥٤

ولو كان عليه خمس من الإبل أرش الموضحة مثلاً ، وله على آخَر مثلها ، فأحاله بها ، فالأقرب : الصحّة ؛ لأنّها تنحصر بأقلّ ما يقع عليه الاسم في السنّ والقيمة وسائر الصفات ، وهو أحد قولَي الشافعي(١) .

والثاني : لا تجوز ؛ لأنّ صفاتها مجهولة(٢) .

وهو ممنوع.

وقال بعض الشافعيّة : إذا أحال بإبل الدية وعليها وفرّعنا على جواز الحوالة في المتقوّمات ، فوجهان أو قولان مبنيّان على جواز المصالحة والاعتياض عنها.

والأصحّ عندهم : المنع ؛ للجهل بصفاتها(٣) .

ولو كان الحيوان صداقاً ودخل بها ، جازت الحوالة عند بعض الشافعيّة ؛ لأنّه لا يكون مجهولاً(٤) .

ومَنَعه بعضهم ؛ لأنّه لا تجوز المعاوضة معها(٥) .

النظر الرابع : في تساوي الجنسين.

مسألة ٦١٤ : من مشاهير الفقهاء(٦) وجوب تساوي الدَّيْنين‌ - أعني الدَّيْن الذي للمحتال على المحيل ، والذي للمحيل على المحال عليه - جنساً ووصفاً ، فلو كان له دنانير على شخصٍ فأحال عليه بدراهم ، لم تصحّ ؛ لأنّ الحوالة إن جعلناها استيفاءً ، فلأنّ مستحقّ الدراهم إذا‌

____________________

(١ و ٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، ولاحظ : حلية العلماء ٥ : ٣٣.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

(٤ و ٥) راجع : التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢.

(٦) بداية المجتهد ٢ : ٣٠٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦ ، المغني ٥ : ٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٩.

٤٥٥

استوفاها وأقرضها فمحال أن ينتقل حقّه إلى الدنانير.

وإن جعلناها معاوضةً ، فلأنّها وإن كانت معاوضةً فليست هي على حقيقة المعاوضات التي يقصد بها تحصيل ما ليس بحاصل من جنس مالٍ أو زيادة قدرٍ أو صفة ، وإنّما هي معاوضة إرفاقٍ ومسامحة للحاجة ، فاشترط فيها التجانس والتساوي في القدر والصفة ؛ لئلّا يتسلّط على المحال عليه ، كما في القرض.

ولأنّا نجبر المحال عليه عند مَنْ لا يشترط رضاه ، ولا يمكن إجباره مع الاختلاف.

ولأنّ الحوالة لا يُطلب بها الفضل ، ولهذا جازت دَيْناً بدَيْن ، ألا ترى أنّه لا يجوز بيع الدَّيْن بالدَّيْن ، فلو جوّزنا الإحالة مع الاختلاف في الجنس أو الوصف ، لكان بيعَ الدَّيْن بالدَّيْن.

ومع هذا فقد قال المشترطون للتساوي : إنّه تصحّ الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه ، والأحرى جواز الإحالة على مَنْ عليه دَيْن مخالف. لكنّ الغرض بقولهم : « إذا تغاير الدَّيْنان جنساً أو وصفاً أو قدراً ، لم تصحّ الحوالة » أنّ الحقّ لا يتحوّل بها من الدنانير إلى الدراهم وبالعكس ، لكنّها إذا جرت فهي حوالة على مَنْ لا دَيْن له عليه ، وحكمه ما تقدّم(١) .

مسألة ٦١٥ : لو كان عليه إبل من الدية وله على آخَر مثلها قرضاً ، فأحاله صاحب القرض على المقترض بإبل الدية‌ ، فإن قلنا : يردّ في القرض مثلها ، صحّت الحوالة ؛ لأنّه يمكن استيفاء الحقّ على صفته من المحال عليه. ولأنّ الخيرة في التسليم إلى مَنْ عليه الدَّيْن ، وقد رضي بتسليم ما لَه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٦

في ذمّة المقترض ، وهو مثل الحقّ ، فكانت الحوالة صحيحةً.

وإن قلنا : إنّه يردّ في القرض القيمة ، لم تصحّ الحوالة ؛ لاختلاف الجنس.

وكذا ما يثبت في الذمّة قيمته في القرض - كالجواهر واللآلئ وغيرهما ممّا لا يصحّ السَّلَم فيه - لا تصحّ الحوالة به.

ولو احتال المقرض بإبل الدية ، لم تصح ؛ لأنّا إن قلنا : تجب القيمة في القرض ، فقد اختلف الجنس. وإن قلنا : يجب المثل ، فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته ، والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك.

مسألة ٦١٦ : يجب تساوي الدَّيْنين في القدر‌ ، فلا يحال بخمسة على عشرة ، ولا بعشرة على خمسة ؛ لما قلنا من أنّ هذا العقد للإرفاق ، ولإيصال كلّ حقٍّ إلى مستحقّه ، ولم يوضع لتحصيل زيادة أو حطّ شي‌ء.

والمراد بذلك وقوع المعاوضة بالقليل عن الكثير وبالعكس ، وإلّا فلو كان له عشرة فأحال بخمسة منها ، أو كان له خمسة فأحال بها وبخمسةٍ أُخرى ، فإنّه تصحّ.

وللشافعيّة وجهٌ في الإحالة بالقليل على الكثير : أنّها جائزة ، وكأنّ المحيل تبرّع بالزيادة(١) .

وقال أبو العباس ابن سريج : الحوالة بيع إلّا أنّه غير مبنيّ على المكايسة والمغابنة وطلب الربح والفضل ، بل جُعل رفقاً ، كالقرض ، وإن كان نوعَ معاوضةٍ ، فلا تجوز إلّا مع اتّفاق الجنس جنساً وقدراً وصفةً ، وقد قال الشافعي في كتاب البيوع في باب الطعام قبل أن يستوفى : وإن حلّ عليه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٧

طعام فأحال به على رجل له عليه طعام أسلفه إيّاه ، لم تجز من قِبَل أنّ هذا الطعام لـمّا لم يجز بيعه لم تجز الحوالة به ؛ لأنّه بيع ، وهذا نصٌّ منه(١) .

وقيل : ليست بيعاً(٢) - وهو ما اخترناه نحن أوّلاً - لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ندب إليها ، فقال : « مَنْ أُحيل على ملي‌ء فليحتل »(٣) . ولأنّها لا تصحّ بلفظ البيع ، ولا تجوز الزيادة فيها ولا النقصان ، ولما جازت في النقود إلّا مع التقابض في المجلس ، إلّا أنّ هذا القائل لا يجوّز الحوالة بالـمُسْلَم فيه ، وهذا تشمير(٤) لقول مَنْ قال : إنّه بيع.

لا يقال : لو كان بيعاً ، لكان على المحيل تسليمه إلى المحال عليه ؛ لأنّه عوض من جهته ، كما إذا باع شيئاً في يد غيره ، فإنّه يطالبهما به المشتري.

لأنّا نقول : أجاب مَنْ قال : « إنّه بيع » : بأنّه لـمّا استحقّ مطالبة المحال عليه به لم يستحقّ مطالبة المحيل ؛ لأنّه لو استحقّ مطالبتهما ، لكان قد حصل له بالحوالة زيادة في حقّ المطالبة ، وقد ثبت أنّ الحوالة مبنيّة على أنّه لا يستحقّ بها إلّا مثل ما كان يستحقّه ، بخلاف البيع ؛ لأنّه تجوز فيه الزيادة.

وفائدة الاختلاف : ثبوت خيار المجلس إن قلنا : إنّها بيع.

والحقّ ما تقدّم ، والاعتذار باطل ؛ لأنّ تخلّف لازم البيع يقضي بانتفائه.

____________________

(١) انظر : الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦ ، وراجع : الأُم ٣ : ٧٣.

(٢) انظر : الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦.

(٣) المصنّف - لابن أبي شيبة - ٧ : ٧٩ / ٢٤٤٥.

(٤) التشمير : التقليص والإرسال. لسان العرب ٤ : ٤٢٨ « شمر ».

٤٥٨

مسألة ٦١٧ : الأقرب : أنّه لا يشترط تساوي المالَيْن في الحلول والتأجيل‌ ، فيجوز أن يحيل بالمؤجَّل على الحالّ ؛ لأنّ للمحيل أن يُعجّل ما عليه ، فإذا أحال به على الحالّ فقد عجّل.

وكذا يجوز أن يحيل بالحالّ على المؤجَّل.

ثمّ إن رضي المحال عليه بالدفع معجَّلاً ، جاز ، وإلاّ لم يجز ، ووجب على المحتال الصبر ، كما لو احتال مؤجّلاً.

وللشافعيّة قولان :

أصحّهما عندهم : أنّه يشترط التساوي في الحلول والتأجيل ؛ إلحاقاً للوصف بالقدر.

والثاني : أنّه يجوز أن يحيل بالمؤجَّل على الحالّ ؛ لأنّه تعجيل ، ولا يجوز العكس ؛ لأنّ حقّ المحتال حالٌّ ، وتأجيل الحالّ لا يلزم(١) .

ونحن نمنع عدم اللزوم مطلقاً ، بل إذا تبرّع به ، لم يلزم ، أمّا إذا شرطه في عقدٍ لازم ، فإنّه يلزم ، والحوالة عقد لازم ، والمحيل إنّما أحال بالمؤجَّل ، والمحال عليه إنّما قَبِل على ذلك ، فلم يكن للمحتال الطلبُ معجَّلاً.

فروع :

أ - لو كان الدَّيْنان مؤجَّلين ، فإن تساويا في الأجل ، صحّت الحوالة قطعاً.

وإن اختلفا ، صحّت عندنا أيضاً.

وللشافعيّة وجهان بناءً على الوجهين في الحالّ والمؤجَّل ، فإن منعناه هناك ، منعناه هنا. وإن جوّزناه هناك ، جاز هنا على حدّ ما جاز هناك على معنى أنّه يجوز أن يحال بالأبعد على الأقرب ؛ لأنّه تعجيل ، ولا يجوز‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٩

العكس ؛ لأنّه تأجيل الحالّ(١) .

ب - لو كان أحدهما صحيحاً والآخَر مكسَّراً‌ ، قالت الشافعيّة : لم تجز الحوالة بينهما على الوجه الأوّل ، وعلى الثاني يحال بالمكسَّر على الصحيح ، ويكون المحيل متبرّعاً بصفة الصحّة ، ولا يحال بالصحيح على المكسَّر ، إلَّا إذا كان المحتال تاركاً لصفة الصحّة ، ويرضى بالمكسَّرة رشوةً ليحيله المحيل.

ج - يُخرّج على هذا الخلاف عندهم حوالة الأردأ على الأجود في كلّ جنسٍ ، وبالعكس‌(٢) .

والأقرب عندي : جواز ذلك كلّه.

د - لو أدّى المحال عليه الأجود إلى المحتال ، وجب القبول‌. وكذا الصحيح عوض المكسَّر.

أمّا تعجيل المؤجَّل فلا يُجبر عليه ، خلافاً للشافعيّة ، فإنّهم أوجبوه(٣) ، حيث يجبر المستحقّ على القبول(٤) .

وهذا يتفرّع على الصحيح في أنّ المديون إذا جاء بأجود ممّا عليه من ذلك النوع ، يُجبر المستحقّ على قبوله ، ولا يكون ذلك معاوضةً؟(٥) .

ه- لو كان الدَّيْنان حالَّيْن فشرط في الحوالة أنّ المحتال يقبض حقّه أو بعضه بعد شهرٍ ، صحّ عندنا‌ - خلافاً لأحمد(٦) - لعموم قولهعليه‌السلام :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ - ١٣٢.

(٣) في النسخ الخطّيّة : « جوّزوه » بدل « أوجبوه ».

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٢.

(٦) المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٩.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572