الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287935 / تحميل: 5234
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

الغضب وقال مخاطبا ايّاهم بنفس العبارة التي خاطبهم بها حينما أرادوا ان يشرحوا له خديعتهم مع يوسف( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) اي انّ أهواءكم الشيطانية هي التي استولت عليكم وزيّنت لكم الأمر بهذه الصورة التي أنتم تصفونه.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا ، هو انّ يعقوب هل اكتفى في نسبة الكذب واتّباع الهوى لأولاده استنادا الى ما فعلوه في المرّة السابقة مع يوسف من سوء الفعل والحنث باليمين والعهد ، مع انّ مثل هذا الظنّ والقول واتّهام الآخرين لمجرّد تجربة سابقة بعيد عن سيرة عامّة الناس فضلا عن يعقوب الذي هو نبي معصوم ، وعلى الخصوص إذا استند المدّعي في دعواه على وثائق ومستندات تثبت دعواه ، كما انّ طريق الفحص والتحقيق عن واقع الحال كان مفتوحا ليعقوب.

او كان يعقوب يقصد بقوله : ( بل سّولت لكم . الى آخر) الاشارة الى امور اخرى ، منها :

١ ـ لعلّه عتاب لأولاده لخضوعهم امام الأمر الواقع وتسليمهم لحكم العزيز بمجرّد عثور الصاع عند أخيهم ، مع انّ العثور بمفرده لا يعدّ دليلا منطقيّا على السرقة.

٢ ـ ولعلّه عتاب لأولاده لما بيّنوه للعزيز من انّ عقوبة السارق عندهم هو استعباده مع انّ هذه السنّة السائرة في اهل كنعان سنّة باطلة ولا تعدّ قانونا سماويا (هذا ان قلنا انّ هذه السنّة لم تكن مأخوذة من شريعة يعقوب كما ذهب اليه بعض المفسّرين).

٣ ـ وأخيرا لعلّه عتاب لأولاده على استعجالهم في الخضوع لأحكام العزيز وخلق المعاذير والمبرّرات والرجوع مستعجلين الى كنعان دون الاقتداء بأخيهم الكبير في البقاء بمصر برغم العهود والمواثيق المغلّظة التي قطعوها مع أبيهم(١) .

__________________

(١) احتمل بعض المفسّرين انّ هذه الآية لعلّها اشارة الى قصّة يوسف ، لكنّه بعيد عن الواقع ، لانّ الآيات السابقة لا

٢٨١

لكن بعد هذا العتاب المليء بالحزن والاسى رجع يعقوب الى قرارة نفسه وقال :( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) اي انّني سوف امسك بزمام نفسي ، ولا اسمح لها بأن تطغى عليّ بل اصبر صبرا جميلا على امل بأنّ الله سبحانه وتعالى سوف يعيد لي اولادي (يوسف وبنيامين وأخوهم الأكبر)( عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) فإنّه هو العالم بواقع الأمور والخبير بحوادث العالم ما مضى منها وما سوف يأتي ، ولا يفعل الّا عن حكمة وتدبير( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

ثمّ بعد هذه المحاورات بين يعقوب وأولاده ، استولى عليه الحزن والألم ، وحينما رأى مكان بنيامين خاليا عادت ذكريات ولده العزيز يوسف إلى ذهنه ، وتذكّر تلك الايّام الجميلة التي كان يحتضن فيها ولده الجميل ذا الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة والذكاء العالي فيشمّ رائحته الطيّبة ويستعيد نشاطه ، امّا اليوم فلم يبق منه اثر ولا عن حياته خبر ، كما أنّ خليفته (بنيامين) ايضا قد ابتلي مثل يوسف بحادث مؤلم وذهب الى مصير مجهول لا تعرف عاقبته.

حينما تذكّر يعقوب هذه الأمور ابتعد عن أولاده واستعبر ليوسف( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ ) امّا الاخوة فإنّهم حينما سمعوا باسم يوسف ، ظهر على جبينهم عرق الندامة وازداد خجلهم واستولى عليهم الحزن لمصير اخويهم بنيامين ويوسف ، واشتدّ حزن يعقوب وبكاؤه على المصائب المتكرّرة وفقد اعزّ أولاده( وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ) لكن يعقوب كان ـ في جميع الأحوال مسيطرا على حزنه ويخفّف من آلامه ويكظم غيظه وان لا يتفوّه بما لا يرضى به الله سبحان وتعالى( فَهُوَ كَظِيمٌ ) .

يفهم من هذه الآيات انّ يعقوب لم يكن فاقدا لبصره ، لكنّ المصائب الاخيرة وشدّة حزنه ودوام بكائه افقده بصره ، وكما أشرنا سابقا فإنّ هذا الحزن والألم والعمى كان خارجا عن قدرته واختياره ، فإذا لا يتنافى مع الصبر الجميل.

__________________

تبحث عن قضيّة يوسف وفراقه عن أبويه.

٢٨٢

امّا الاخوة فكانوا متألّمين من جميع ما جرى لهم ، فمن جهة كان عذاب الوجدان لا يتركهم ممّا أحدثوه ليوسف ، ـ وفي قضيّة بنيامين ـ شاهدوا أنفسهم في وضع صعب وامتحان جديد ، ومن جهة ثالثة كان يصعب عليهم ان يشاهدوا أباهم يتجرّع غصص المرارة والألم ويواصل بكاؤه الليل بالنهار ، توجّهوا الى أبيهم وخاطبوه معاتبين( قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ) (١) اي انّك تردّد ذكر يوسف وتتأسّف عليه حتّى تتمرّض وتشرف على الهلاك وتموت.

لكنّ شيخ كنعان هذا النّبي العظيم والمتيقّظ الضمير ردّ عليهم بقوله :( إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ) (٢) لا إليكم ، أنتم الذين تخونون الوعد وتنكثون العهد لانّني( وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) فهو اللطيف الكريم الذي لا اطلب سواه.

* * *

__________________

(١) (حرض) على وزن مرض بمعنى الشيء الفاسد والمؤلم ، والمقصود منه هنا هو المريض الذي ضعف جسمه وصار مشرفا على الموت.

(٢) (بثّ) بمعنى التفرقة والشيء الذي لا يمكن إخفاؤه ، والمقصود منه هنا هو الألم والحزن الظاهر الذي لا يخفى على احد.

٢٨٣

الآيات

( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) )

التّفسير

اليأس علامة الكفر!

كان القحط والغلاء وشحّة الطعام يشتدّ يوما بعد آخر في مصر وما حولها

٢٨٤

ومنها كنعان ، ومرّة اخرى امر يعقوب أولاده بأن يتّجهوا صوب مصر للحصول على الطعام ، لكنّه هذه المرّة طلب منهم بالدرجة الاولى ان يبحثوا عن يوسف وأخيه بنيامين ، حيث قال لهم :( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ) .

لكن بما انّ أولاد يعقوب كانوا مطمئنين الى هلاك يوسف وعدم بقاءه ، تعجّبوا من توصية أبيهم وتأكيده على ذلك ، لكن يعقوب نهاهم عن اليأس والقنوط ووصّاهم بالاعتماد على الله سبحانه والاتّكال عليه بقوله :( وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ) فإنّه القادر على حلّ الصعاب و( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) .

(تحسّس) أصله من (حس) بمعنى البحث عن الشيء المفقود بأحد الحواس ، وهنا بحث بين اللغويين والمفسّرين في الفرق بينه وبين (تجسّس) وقد نقل عن ابن عبّاس انّ التحسّس هو البحث عن الخير ، والتجسّس هو البحث عن الشرّ ، لكن ذهب آخرون الى انّ التحسّس هو السعي في معرفة سيرة الأشخاص والأقوام دون التجسّس الذي هو البحث لمعرفة العيوب.

وهنا رأي ثالث في انّهما متّحدان في المعنى ، الّا انّ ملاحظة الحديث الوارد بقوله : «لا تجسّسوا ولا تحسّسوا» يثبت لنا انّهما مختلفان وانّ ما ذهب اليه ابن عبّاس في الفرق بينهما هو الأوفق بسياق الآيات المذكورة ، ولعلّ المقصود منهما في هذا الحديث الشريف : لا تبحثوا عن امور الناس وقضاياهم سواء كانت شرّا ام خيرا.

قوله تعالى «روح» بمعنى الرحمة والراحة والفرج والخلاص من الشدّة.

يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته «الرّوح والرّوح في الأصل واحد

٢٨٥

وجعل الروح اسما للنّفس والرّوح التنفّس وقد أراح الإنسان إذا تنفّس ...).

وأخيرا جمع الاخوة متاعهم وتوجّهوا صوب مصر ، وهذه هي المرّة الثّالثة التي يدخلون فيها ارض مصر ، هذه الأرض التي سبّبت لهم المشاكل وجرّت عليهم الويلات.

لكن في هذه السفرة ـ خلافا للسفرتين السابقتين ـ كانوا يشعرون بشيء من الخجل يعذّب ضمائرهم فإنّ سمعتهم عند اهل مصر او العزيز ملوّثة للوصمة التي لصقت بهم في المرّة السابقة ، ولعلّهم كانوا يرونهم بمثابة (مجموعة من لصوص كنعان) الذين جاؤوا للسرقة. ومن جهة اخرى لم يحملوا معهم هذه المرّة من المتاع ما يستحقّ ان يعاوضوه بالطعام والحبوب ، اضافة الى هذه الأمور فإنّ فقد أخيهم بنيامين والآلام التي المّت بأبيهم كانت تزيد من قلقهم وبتعبير آخر فإنّ السكين قد وصلت الى العظم ، كما يقول المثل الّا انّ الذي كان يبعث في نفوسهم الأمل ويعطيهم القدرة على تحمّل الصعاب هو وصيّة أبيهم( لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ) .

وأخيرا استطاعوا ان يقابلوا يوسف ، فخاطبوه ـ وهم في غاية الشدّة والألم ـ بقولهم :( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ) اي انّ القحط والغلاء والشدّة قد المّت بنا وبعائلتنا ولم نحمل معنا من كنعان إلّا متاعا رخيصا( وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) (١) لا قيمة لها ولكن ـ في كلّ الأحوال ـ نعتمد على ما تبذل لنا من كرمك ونأمل في معروفك( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ) بمنّك الكريم وصدقاتك الوافرة( وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ) ولا تطلب منّا الأجر ، بل اطلبه من الله سبحانه وتعالى حيث( إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) .

__________________

(١) (البضاعة) أصلها (البضع) على وزن جزء ، وهي بمعنى القطعة من اللحم المقطوعة من الجسم ، كما يطلق على جزء من المال الذي يقتطع منه ثمنا لشيء (مزجاة) من (الإزجاء) بمعنى الدفع ، وبما انّ الشيء التافه والقليل الثمن يدفعه الآخذ عن نفسه ، اطلق عليه (مزجاة).

٢٨٦

والطريف انّ اخوة يوسف لم ينفذوا وصيّة أبيهم في البحث عن إخوتهم اوّلا ، بل حاولوا الحصول على الطعام ، ولأجل ذلك قابلوا العزيز وطلبوا منه المؤن والحبوب ، ولعلّ السبب في ذلك ضعف أملهم في العثور على يوسف ، او لعلّهم أرادوا ان يظهروا أنفسهم امام العزيز والمصريين وكأنّهم أناس جاؤوا لشراء الطعام والحبوب فقط ، فمن ثمّ يطرحوا مشكلتهم امام العزيز ويطلبوا منه المساعدة ، فعند ذاك يكون وقع الطلب أقوى واحتمال تنفيذه اكثر.

قال بعض المفسّرين : انّ مقصود الاخوة من قولهم :( تَصَدَّقْ عَلَيْنا ) كان طلب الإفراج عن أخيهم لانّهم لم يطلبوا من العزيز الطعام والحبوب مجّانا دون عوض حتّى يطلبوا منه التصدّق عليهم ، فإنّهم يدفعون ثمنه.

ونقرا في روايات وردت في هذا المقام ، انّ الاخوة كانوا يحملون معهم رسالة من أبيهم الى عزيز مصر ، حيث مدح يعقوب في تلك الرسالة عزيز مصر واكبر عدالته وصلاحه وشكره على ما بذله له ولعائلته من الطعام والحبوب ، ثمّ عرّف نفسه والأنبياء من اهل بيته وأخبره برزاياه وما تحمله من المصائب والمصاعب من فقده اعزّ أولاده واحبّهم الى نفسه يوسف وأخيه بنيامين ، وما أصابهم من القحط والغلاء ، وفي ختام الرسالة طلب من العزيز ان يمنّ عليه ويطلق سراح ولده بنيامين ، وذكّره انّ بنيامين سليل بيت النبوّة والرسالة وانّه لا يتلوّث بالسرقة وغيرها من الدناءات والمعاصي.

وحينما قدّم الأولاد رسالة أبيهم الى العزيز شاهدوا انّه فضّ الرسالة باحترام وقبلها ووضعها على عينيه وبدا يبكي بحيث انّ الدموع بلّت ثيابه(١) (وهذا ما حيّر الاخوة ، وبداوا يفكّرون بعلاقة العزيز مع أبيهم بحيث جعله يبكي شوقا وشغفا حينما فتحها ، ولعلّ فعل العزيز اثار عندهم احتمال ان يكون يوسف هو العزيز ، ولعلّ هذه الرسالة أثارت عواطف العزيز وشعوره بحيث لم يطق صبرا

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية الشريفة.

٢٨٧

وعجز عن ان يخفي نفسه بغطاء السلطة وأجبره على كشف نفسه لإخوته).

وفي تلك اللحظة ، وبعد ان مضت ايّام الامتحان الصعب ـ وكان قد اشتدت محنة الفراق على يوسف وظهرت عليه آثار الكآبة والهمّ ، أراد ان يعرّف نفسه لإخوته فابتدرهم بقوله :( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) .

لاحظوا عظمة يوسف وعلوّ نفسه حيث يسألهم اوّلا عن ذنبهم لكن بهذه الكناية اللطيفة يقول :( ما فَعَلْتُمْ ) وثانيا يبيّن لهم طريقة الاعتذار وانّ ما ارتكبوه في حقّ إخوتهم انّما صدر عن جهلهم وغرورهم ، وانّه قد مضى ايّام الصبى والطفولة وهم الآن في دور الكمال والعقل!

كما انّه يفهم من الآية الشريفة انّ يوسف لم يكن وحده الذي ابتلي بإخوته ومعاملتهم السيّئة ، بل انّ بنيامين ايضا كان يقاسي منهم ألوان العذاب ، ولعلّه قد شرح لأخيه يوسف في الفترة التي قضاها في مصر ، جانبا ممّا عاناه تحت أيديهم ، ويستفاد من بعض الرّوايات انّ يوسف حينما استفسر عمّا فعلوه معه ومع أخيه ختم استفساره بابتسامة عريضة ليدفع عن أذهانهم احتمال انّه سوف ينتقم منهم فظهرت لإخوته أسنانه الجميلة ولاحظوا وتذكّروا الشبه بينه وبين أسنان أخيهم يوسف(١) .

امّا هم ، فإنّهم حينما لاحظوا هذه الأمور مجتمعة ، وشاهدوا انّ العزيز يتحدّث معهم ويستفسرهم عمّا فعلوه بيوسف ، تلك الأعمال التي لم يكن يعلمها احد غيرهم الّا يوسف.

ومن جهة اخرى ادهشهم يوسف وما اصابه من الوجد والهياج حينما استلم كتاب يعقوب ، واحسّوا بعلاقة وثيقة بينه وبين صاحب الرسالة.

وثالثا كلّما أمعنوا النظر في وجه العزيز ودقّقوا في ملامحه ، لاحظوا الشبه الكبير بينه وبين أخيهم يوسف لكنّهم في نفس الوقت لم يدر بخلدهم ولم

__________________

(١) مجمع البيان في ذيل الآية الشريفة.

٢٨٨

يتصوّروا انّه يمكن ان يكون أخوهم يوسف قد ارتقى منصب الوزارة وصار عزيزا لمصر ، اين يوسف واين الوزارة والعزّة؟! لكنّهم تجرّأوا أخيرا وسألوه مستفسرين منه( قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) .

كانت هذه الدقائق أصعب اللحظات على الاخوة ، حيث لم يكونوا يعرفون محتوى اجابة العزيز! وانّه هل يرفع الستار ويظهر لهم حقيقته ، ام انّه سوف يعتقد بأنّهم مجانين حيث ظنّوا هذا الظنّ.

كانت اللحظات تمرّ بسرعة والانتظار الطويل يثقل على قلوبهم فيزيد في قلقهم ، لكن يوسف لم يدع اخوته يطول بهم الانتظار ورفع الحجاب بينه وبينهم واظهر لهم حقيقة نفسه و( قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي ) لكن لكي يشكر الله سبحانه وتعالى على ما أنعمه من جميع هذه المواهب والنعم ، ولكي يعلّم اخوته درسا آخر من دروس المعرفة قال : إنّه( قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) .

لا يعرف احد كيف مرّت هذه اللحظات الحسّاسة على الاخوة كما لا يعرف احد مدى انفعالهم وما خامرهم من السرور والفرح وكيف تعانقوا واحتضنوا أخاهم والدموع الغزيرة التي ذرفوها وذلك حينما التقوا بأخيهم وبعد عشرات السنين من الفراق ، لكنّهم في كلّ الأحوال كانوا لا يطيقون النظر إلى وجه أخيهم يوسف لعلمهم بالذنب والجريمة التي اقترفوها في حقّه ، فترقّبوا اجابة يوسف وانّه هل يغفر لهم إساءتهم اليه ويعفو عن جريمتهم ام لا؟ فابتدءوا مستفسرين بقولهم :( قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا ) (١) اي انّ الله سبحانه وتعالى قد فضّلك علينا بالعلم والحلم والحكومة( وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) (٢) .

__________________

(١) (آثرك) أصله من (الإيثار) وفي الأصل بمعنى البحث عن اثر الشيء ، وبما انّه يقال للفضل والخير : اثر ، فقد استعملت هذه الكلمة للدلالة على الفضيلة والعلو ، فبناء على هذا يكون معنى قوله( آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا ) اي انّ الله سبحانه وتعالى قد أكرمك وفضّلك علينا لما قمت به من الأعمال الخيّرة.

(٢) يرى الفخر الرازي في تفسيره انّ الفرق بين الخاطئ والمخطئ هو انّ الخاطئ يقال لمن تعمّد الخطأ ، والمخطئ لمن

٢٨٩

امّا يوسف الذي كانت نفسه تأبى ان يرى اخوته في حال الخجل والندامة ـ خاصّة في هذه اللحظات الحسّاسة وبعد انتصاره عليهم ـ او لعلّه أراد ان يدفع عن أذهانهم ما قد يتبادر إليها من احتمال ان ينتقم منهم ، فخاطبهم بقوله :( قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) (١) اي انّ العتاب والعقاب مرفوع عنكم اليوم ، اطمئنوا وكونوا مرتاحي الضمير ولا تجعلوا للآلام والمصائب السابقة منفذا الى نفوسكم ، ثمّ لكي يبيّن لهم انّه ليس وحده الذي أسقط حقّه وعفا عنهم ، بل إنّ الله سبحانه وتعالى ايضا عفا عنهم حينما أظهروا الندامة والخجل قال لهم :( يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) اي انّ الله سبحانه وتعالى قد قبل توبتكم وعفا عنكم لانّه ارحم الراحمين.

وهذا دليل على علو قدر يوسف وغاية فضله حيث انّه لم يعف عن سيّئات اخوته فحسب ، بل رفض حتّى ان يوبّخ ويعاتب اخوته ـ فضلا عن ان يجازيهم ويعاقبهم ـ اضافة الى هذا فإنّه طمأنهم على انّ الله سبحانه وتعالى رحيم غفور وانّه تعالى سوف يعفو عن سيّئاتهم ، واستدلّ لهم على ذلك بأنّ الله سبحانه وتعالى هو ارحم الراحمين.

وهنا تذكر الاخوة مصيبة اخرى قد المّت بعائلتهم والشاهد الحي على ما اقترفوه في حقّ أخيهم الا وهو أبوهم حيث فقد الشيخ الكبير بصره حزنا وفراقا على يوسف ، امّا يوسف فإنّه قد وجد لهذه المشكلة حلا حيث خاطبهم بقوله :( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) ثمّ طلب منهم ان يجمعوا العائلة ويأتوا بهم جميعا( وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) .

* * *

__________________

اخطأ عن سهو.

(١) «تثريب» أصله من مادّة (ثرب) وهو شحمة رقيقة تغطّي المعدة والأمعاء ، والتثريب بمعنى رفع هذا الغطاء ، ثمّ بمعنى العتاب والملامة فكان المعاقب قد رفع بعتابه غطاء الذنب عن وجه المذنب (راجع القاموس ومفردات الراغب وتفسير الرازي وروح المعاني).

٢٩٠

بحوث

١ ـ من الذي حمل قميص يوسف؟

ورد في بعض الرّوايات انّ يوسف قال : انّ الذي يحمل قميصي المشافي الى أبي لا بدّ وان يكون هو نفسه الذي حمل قميصي الملطّخ بالدماء اليه ، لكي يدخل السرور على قلبه بعد ان ملا قلبه حزنا وألما من قبل! فأعطى ل (يهودا) قميصه بعد ان اعترف له انّه هو الذي حمل قميصه الملطّخ بالدماء الى أبيه وأخبره بأنّ الذئب قد أكل يوسف ، وهذا التصرّف من يوسف ان لم يدلّ على شيء فإنّه يدلّ على انّه برغم اعماله الكثيرة ومتاعبه اليوميّة ، فإنّه لم يغفل عن صغائر الأمور المتعلّقة بالسلوك الاخلاقي(١) .

٢ ـ يوسف وجلالة شأنه :

ورد في بعض الرّوايات انّ اخوة يوسف ـ بعد هذه القضايا ـ كانوا يحسّون بالخجل الشديد فأرسلوا اليه من يقول له : يا يوسف انّك تستضيفنا كلّ يوم صباحا ومساء ـ على مائدتك فنأكل من زادك وهذا ما يزيد في خجلنا حيث لا نطيق النظر الى وجهك بعد ان نتذكّر اساءتنا إليك ، فأجابهم بكلمة لطيفة ليبعد عنهم الخجل بأنّ الفضل يعود إليهم ، وانّ جلوسهم على مائدته لهو مكرمة منهم وانّ الشعب المصري كانوا ينظرون اليّ نظرة الحرّ الى العبد ويقولون فيما بينهم (سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ!!) اي انظروا الى فعل الله سبحانه وتعالى بهذا العبد فإنّه قد بيع في السوق بعشرين درهما وهو الآن وصل الى هذه المرتبة السامية ، لكنّهم الآن ينظرون الى مائدتي وأنتم جلوس حولها ، فيعرفون قدري وتثبت لهم منزلتي وانّني لست بعبد ذليل بيع بعشرين درهما ، وانّما انا سليل بيت النبوّة والرسالة ومن أولاد نبي الله ابراهيم الخليل ، وهذا ما أباهي

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية الشريفة.

٢٩١

وافتخر به امام الآخرين(١) .

٣ ـ الشكر على الانتصار :

انّ الآيات السابقة تعلّمنا بجلاء ووضوح درسا من دروس الأخلاق الاسلامية ، وهو انّه بعد الانتصار على العدو وكسر شوكته لا بدّ ان لا ننسى العفو والرحمة ، وان لا نعامله بقساوة ، فإنّ اخوة يوسف قد عاملوه اشدّ المعاملة أشرفت به على نهايته وأوصلته الى أبواب الموت ، ولو لم تشمله عناية الله سبحانه وتعالى ، لعجز عن الخلاص ممّا اوقعوه فيه ، هذا اضافة الى المصائب والآلام التي تحملها أبوه ، لكنّهم الآن جميعا واقفون امّام يوسف وهو السيّد المطاع وبيده القوّة والقدرة ، لكنّه عاملهم بلطف واحسان.

كما انّه يفهم من خلال حديثه معهم انّه لم يحقد عليهم قطّ ، بل الذي يقلقه هو تذكّر الاخوة ماضيهم الأسود ويحسّوا بالخجل! ولذا حاول جاهدا ان يريحهم من هذا القلق ويزيح هذا الكابوس عن صدورهم ، بل اكثر من هذا فإنّه حاول ان يفهمهم انّ لهم عليه فضلا في مجيئهم الى مصر والتعرّف عليهم ، فإنّهم كانوا السبب في كشف حقيقته امام الشعب في هذا البلد ، حيث عرف اهل مصر انّ عزيزهم هو سليل بيت النبوّة والرسالة وليس عبدا بيع في السوق بدراهم معدودات ، ومن هنا فإنّ يوسف كان يرى لهم في ذلك فضلا ومنّة!

ومن حسن الصدف انّنا نرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمتحن بمثل هذه المواقف الحرجة ، فمثلا حينما فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة واذلّ المشركين وهزمهم وكسر أصنامهم وداس شوكتهم وكبرياءهم ، جاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كما رواه ابن عبّاس) الى جوار الكعبة وأخذ بحلقة بابها وكان المشركون قد التجأوا إليها هم ينتظرون حكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم ، وقال كلمته المشهورة : «الحمد لله الذي صدق وعده

__________________

(١) تفسير فخر الرازي ، ج ١٨ ، ص ٢٠٦.

٢٩٢

ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ثمّ توجّه الى قريش وخاطبهم بقوله : «ماذا تظنّون يا معشر قريش؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، وقد قدرت! قال : وانا أقول كما قال اخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم».

اي انّ اليوم ليس يوم ملامة وانتقام واظهار الحقد والضغينة «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

فقال عمر بن الخطاب : ففضت عرقا من الحياء من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك انّي قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكّة : اليوم ننتقم منكم ونفعل(١) .

كما انّه وردت في كثير من الرّوايات الاسلامية انّ «زكاة النصر هو العفو».

يقول عليعليه‌السلام : «إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه»(٢) .

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٢٥٨.

(٢) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار ـ جملة ١١.

٢٩٣

الآيات

( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قال ألَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) )

التّفسير

وأخيرا شملتهم رعاية الله ولطفه :

امّا أولاد يعقوب فإنّهم بعد ان واجهوا يوسف وجرى لهم ما جرى حملوا معهم قميص يوسف فرحين ومستبشرين وتوجّهوا مع القوافل القادمة من مصر ، وفيما كان الاخوة يقضون اسعد لحظات حياتهم ، كان هناك بيت في بلاد الشام وارض كنعان ـ الا وهو بيت يعقوب الطاعن في السنّ حيث كان يقضي هو وعائلته احرج اللحظات واشدّها حزنا وبؤسا.

٢٩٤

لكن ـ مقارنا مع حركة القافلة من مصر ـ حدث في بيت يعقوب حادث غريب بحيث اذهل الجميع وصار مثارا للعجب والحيرة ، حيث نشط يعقوب وتحرّك من مكانه وتحدّث كالمطمئن والواثق بكلامه قال : لو لم تتحدّثوا عنّي بسوء ولم تنسبوا كلامي الى السفاهة والجهل والكذب لقلت لكم :( إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ) فإنّي احسّ بأنّ ايّام المحنة والآلام سوف تنصرم في القريب العاجل ، وانّه قد حان وقت النصر واللقاء مع الحبيب ، وارى انّ آل يعقوب قد نزعوا ثوب العزاء والمصيبة ولبسوا لباس الفرح والسرور ـ لكن لا تصدّقون كلامي( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) (١) .

والمستفاد من قوله تعالى (فصلت) انّه بمجرّد ان تحرّكت القافلة من مصر احسّ يعقوب بالأمر وتغيّرت أحواله.

امّا الذين كانوا مع يعقوب ـ وهم عادة أحفاده وازواج أولاده وغيرهم من الأهل والعشيرة ـ فقد استولى عليهم العجب وخاطبوه بوقاحة مستنكرين :( قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) أليس هذا برهانا واضحا على ضلالك حيث مضت سنين طويلة على موت يوسف لكنّك لا زلت تزعم انّه حي ، وأخيرا تقول : انّك تشمّ رائحته من مصر؟! اين مصر واين الشام وكنعان؟! وهذا دليل على بعدك عن عالم الواقع وانغماسك في الأوهام والخيالات لكنّك قد ضللت منذ مدّة طويلة ، الم تقل لاولادك قبل فترة اذهبوا الى مصر وتحسّسوا عن احوال يوسف!

يظهر من هذه الآية الشريفة انّ المقصود ب (الضلال) ليس الانحراف في العقيدة ، بل الانحراف في تشخيص حقيقة حال يوسف والقضايا المتعلّقة به ، لكن يستفاد من هذه التعابير انّهم كانوا يتعاملون مع هذا النّبي الكبير والشيخ المتيقّظ

__________________

(١) (تفنّدون) من مادّة (الفند) على زنة (الرمد) ومعناها العجز الفكري والسفاهة ، ومضى بعض اللغويين الى انّ معناها الكذب ومعناها في الأصل الفساد. فبناء على ذلك فإنّ جملة (لو لا ان تفنّدون) معناها إذا لم تتّهموني بالسفاهة وفساد العقل.

٢٩٥

الضمير بخشونة وقساوة بالغين بحيث كانوا يقولون له مرّة :( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) وهنا قالوا له :( إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) لكنّهم كانوا غافلين عن الحقيقة التي كان يتحلّى بها يعقوب وعن صفاء قلبه ، ويتصوّرون انّ قلب يعقوب كقلوبهم القاسية المظلمة وانّه لا يطّلع على حقائق الأمور ماضيها ومستقبلها.

وتمضي الليالي والايّام ويعقوب في حالة الانتظار الانتظار القاسي الذي يستبطن السرور والفرح والهدوء والاطمئنان ، الّا انّ المحيطين به كانوا مشغولين عن هذه الأمور لاعتقادهم بأنّ قضيّة يوسف مختومة والى الأبد.

وبعد عدّة ايّام من الانتظار ـ والتي لا يعلم الّا الله كيف قضاها يعقوب ـ ارتفع صوت المنادي معلنا عن وصول قافلة كنعان من مصر ، لكن في هذه المرّة ـ وخلافا للمرّات السابقة ـ دخل أولاد يعقوب الى المدينة فرحين مستبشرين ، وتوجّهوا مسرعين الى بيت أبيهم ، وقد سبقهم ال (بشير) الذي بشّر يعقوب بحياة يوسف والقى قميص يوسف على وجهه.

امّا يعقوب الذي أضعفت المصائب بصره ولم يكن قادرا على رؤية القميص فبمجرّد ان احسّ بالرائحة المنبعثة من القميص شعر في تلك اللحظة الذهبية بأنّ نورا قد شعّ في جميع ذرّات وجوده وانّ السّماء والأرض مسروران ونسيم الرحمة يدغدغ فؤاده ويزيل عنه الحزن والألم ، شاهد الجدران وكأنّها تضحك معه ، واحسّ يعقوب بتغيّر حالته ، وفجأة راى النّور في عينيه واحسّ بأنّهما قد فتحتا ومرّة اخرى راى جمال العالم ، والقرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة بقوله :( فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ) .

هذه الحالة التي حصلت ليعقوب اسالت دموع الفرح من عيون الاخوة والأهل ، وعند ذلك خاطبهم بقوله :( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .

هذه المعجزة الغريبة ، جعلت الأولاد يعودون الى أنفسهم ويتساءلون عنها ويفكّرون في ماضيهم الأسود المليء بالاخطاء والذنوب ، وما اعتورهم من

٢٩٦

الحسد وغيره من الصفات الرذيلة البعيدة عن الانسانية ، لكن ما أجمل التوبة والعودة الى طريق الصواب حينما ينكشف للإنسان خطأ المسيرة التي سار فيها وما احلى تلك اللحظات التي يحاول المذنب ان يطلب العفو ممّن جنى عليه ، ليطهّر به نفسه ويبعدها عن جادّة الخطأ والانحراف ، وهذا ما قام به الاخوة حيث وقعوا نادمين على يد أبيهم يقبّلونها ويطلبون منه العفو والاستغفار( قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ ) .

امّا يعقوب هذا الرجل العظيم الذي كانت روحه أوسع من المحيطات ، فقد أجابهم دون ان يلومهم على تلك الأفعال التي اقترفوها في حقّه وحقّ أخيهم أجابهم بقوله :( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) واملي معقود بأن يغفر الله سبحانه وتعالى ذنوبكم( إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ كيف احسّ يعقوب برائحة قميص يوسف؟!

هذا سؤال اثاره كثير من المفسّرين ، واعتبروه معجزة خارقة للعادة من قبل يعقوب او يوسف. الّا انّه ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار سكوت القرآن عن هذا الأمر ـ ولم يتناوله على انّه امر اعجازي او غير اعجازي فمن الهيّن ان نجد له توجيها علميّا ايضا. إذ انّ حقيقة «التليبائي» او انتقال الفكر من النقاط او الأماكن البعيدة تعدّ مسألة علميّة قطعيّة مسلّما بها وانّها تحدث عند من تكون لديهم علاقة قريبة تربط بعضهم ببعض ، او تكون لديهم قدرة روحيّة عالية.

ولعلّ كثيرا منّا يواجه مثل هذه المسألة في حياتنا اليوميّة ، وذلك ان يشعر شخص «من أب ، او امّ ، او أخ» مثلا بالكآبة وانقباض النفس دون سبب ، ثمّ لا يمضي وقت ـ او فترة ـ حتّى يبلغه خبر بأنّ أخاه او ولده قد حدث له حادث ما

٢٩٧

في نقطة بعيدة عنه.

فالعلماء يوجّهون هذا الاحساس على انّه جرى عن طريق انتقال الفكر.

وما ورد في قصّة يعقوب لعلّه من هذا القبيل ايضا ، فعلاقته الشديدة بيوسف وعظمة روحه ، كلّ ذلك كان سببا لان يشعر بالحالة الحاصلة للاخوة نتيجة حمل قميص يوسف من مسافة بعيدة.

ومن الممكن ان يتعلّق هذا الأمر بمسألة سعة دائرة علم الأنبياء ايضا.

وقد وردت اشارة طريفة ـ في بعض الرّوايات ـ الى مسألة انتقال الفكر ، وهي انّ بعضهم سأل الامام أبا جعفر الباقرعليه‌السلام : فقال : جعلت فداك ، ربّما حزنت من دون مصيبة تصيبني او امر ينزل بي ، حتّى يعرف ذلك اهلي في وجهي وصديقي.

فقالعليه‌السلام : «نعم يا جابر ، انّ الله خلق المؤمنين من طينة الجنان واجرى فيهم من ريح روحه ، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وامّه ، فإذا أصاب روحا من تلك الأرواح في بلد من البلدان حزن حزنت هذه لانّها منها»(١) .

ويستفاد من بعض الرّوايات ايضا انّ هذا القميص لم يكن قميصا مألوفا ، بل كان ثوبا من ثياب الجنّة ، وقد خلّفه ابراهيم الخليلعليه‌السلام في آل يعقوب وأسرته ليكون ذكرى له ، وانّ رجلا كيعقوبعليه‌السلام الذي كانت لديه شامّة من «الجنّة» احسّ برائحة هذا الثوب الذي هو من ثياب الجنّة من بعيد(٢) .

٢ ـ اختلاف حالات الأنبياء :

الاشكال المعروف الآخر هنا هو ما اثاره بعضهم في شأن يعقوب من سؤال وهو :

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٢٣ «والسائل هو جابر الجعفي».

(٢) لمزيد الاطلاع على هذه الرّوايات يراجع المجلد الثّاني من تفسير نور الثقلين ، ص ٤٦٤.

٢٩٨

كيف يمكن ان يكون هذا النّبي العظيم قد احسّ بريح قميص يوسف من مسافة قدّرها بعضهم بثمانين فرسخا ، وقال بعضهم : من مسافة عشرة ايّام ، مع انّه لم يطّلع على الحوادث القريبة منه التي مرّت على يوسف عند ما القي في الجبّ في ارض كنعان؟

والجواب على هذا السؤال ـ مع الالتفات الى ما ذكرناه آنفا في شأن علم الغيب ، وحدود علم الأنبياء والائمّة ـ يسير لا غبار عليه ، لانّ علمهم بالأمور الغيبيّة يستند الى علم الله وارادته ، وما يشاؤه الله لهم من العلم «او عدمه» حتّى ولو كان ذلك في اقرب نقطة من نقاط العالم.

فيمكن تشبيههم من هذا الوجه بالقافلة التي تسير في ليل مظلم في صحراء تغشيها الغيوم وبينا هي على هذه الحال وإذا السّماء تومض بالبرق اللامع فتضيء الصحراء الى منتهى أطرافها ، فترى القافلة بأمّ أعينها كلّ شيء امامها ، الّا انّ البرق ينطفئ ثانية ويستوعب الظلام كلّ مكان فلا يرى احد شيئا.

ولعلّ الحديث الوارد عن الامام الصادقعليه‌السلام في شأن علم الامامعليه‌السلام اشارة الى هذا المعنى ، إذ جاء عنهعليه‌السلام انّه قال : «جعل الله بينه وبين الامام عمودا من نور ، ينظر الله به الى الامام ، وينظر الامام به اليه ، فإذا أراد علم شيء نظر في ذلك النّور فعرفه»(١) .

ومع الالتفات الى هذه الحقيقة ، فلا مجال للتعجّب بأن تقتضي مشيئة الله سبحانه ـ لابتلاء يعقوب وتمحيصه ان لا يعرف يوما شيئا عن الحوادث في كنعان وهي تجري قريبا منه ، وان يحسّ برائحة قميص ولده يوسف وهو في مصر في يوم آخر عند ما قدّر له ان تنتهي محنته وبلواه.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ، للخوئي ، ج ٥ ، ص ٢٠٠.

٢٩٩

٣ ـ كيف ردّ على يعقوب بصره؟!

احتمل بعض المفسّرين انّ يعقوبعليه‌السلام لم يفقد بصره بصورة كليّة ، وانّما ضعف بصره ، وعند حصول مقدّمات الوصال تبدّل تبدّلا بحيث عاد ذلك البصر الى حالته الطبيعيّة الاولى ، الّا انّ ظاهر آيات القرآن يدلّ على انّه فقد بصره تماما وابيضّت عيناه من الحزن ، وعلى ذلك فإنّ بصره عاد اليه عن طريق الاعجاز ، حيث يقول القرآن الكريم :( فَارْتَدَّ بَصِيراً ) .

٤ ـ الوعد بالاستغفار :

نقرا في الآيات ـ محل البحث ـ انّ يوسفعليه‌السلام قال لإخوته عند ما أظهروا له ندامتهم:( يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ ) الّا انّ يعقوبعليه‌السلام قال لهم عند ما اعترفوا عنده بالذنب وأظهروا الندامة :( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ) وكان هدفه ـ كما تقول الرّوايات ـ ان يؤخّر استجابة طلبهم الاستغفار الى السحر (من ليلة الجمعة) الذي هو خير وقت لاستجابة الدعاء وقبول التوبة(١) .

والآن ينقدح هذا السؤال وهو : كيف أجابهم يوسف بصورة قطعيّة ، وأوكل أبوهم ذلك الى المستقبل؟!

ولعلّ هذا الاختلاف ناشئ عن انّ يوسفعليه‌السلام كان يتحدّث عن «إمكان المغفرة» وانّ هذا الذنب من الممكن ان يعفو الله عنه ، ويعقوب كان يتحدّث عن «فعليّة المغفرة» وانّه ما الذي ينبغي ان يفعل حتّى تتحقّق التوبة والمغفرة «فلاحظوا بدقّة».

__________________

(١) نقرا في تفسير القرطبي انّ هدفه كان الاستغفار لهم في ليلة الجمعة الموافقة ليوم عاشوراء «لمزيد الاطلاع يراجع تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٤٩١».

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

كانت ربّما استفيد الندب إليها من مثل قوله تعالى:( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم ) المؤمن: ٨٢، وقوله:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) الآية ١٢٢ من السورة إلّا أنّ إرادتها من قوله:( السائحون ) تبطل جودة الترتيب بين الصفات المنضودة.

وثالثاً: أنّ هذه الصفات الشريفة هي الّتى يتمّ بها إيمان المؤمن المستوجب للوعد القطعيّ بالجنّـة المستتبع للبشارة الإلهيّـة والنبويّـة وهى الملازمة للقيام بحقّ الله المستلزمة لقيام الله سبحانه بما جعله من الحقّ على نفسه.

قوله تعالى: ( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى ) إلى آخر الآيتين، معنى الآية ظاهر غير أنّه تعالى لمّا ذكر في الآية الثانية الّتى تبيّن سبب استغفار ابراهيم لأبيه مع كونه كافراً أنّه تبرّأ منه بعد ذلك لمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله، فدلّ ذلك على أنّ تبيّن كون المشركين أصحاب الجحيم إنّما يرشد إلى عدم جواز الاستغفار لكونه ملازماً لكونهم أعداء لله فإذا تبيّن للنبىّ والّذين آمنوا أنّ المشركين أعداء لله كشف ذلك لهم عن حكم ضروريّ وهو عدم جواز الاستغفار لكونه لغواً لا يترتّب عليه أثر وخضوع الإيمان مانع أن يلغو العبد مع ساحة الكبرياء.

وذلك أنّه تارة يفرض الله تعالى عدوّاً للعبد مبغضاً له لتقصير من ناحيته وسوء من عمله فمن الجائز بالنظر إلى سعة رحمة الله أن يستغفر له ويسترحم إذا كان العبد متذلّلاً غير مستكبر، وتارة يفرض العبد عدوّاً لله محارباً له مستكبراً مستعلياً كأرباب الجحود والعناد من المشركين، والعقل الصريح حاكم بأنّه لا ينفعه حينئذ شفاعة بمسألة أو استغفار إلّا أن يتوب ويرجع إلى الله وينسلخ عن الاستكبار والعناد ويتلبّس بلباس الذلّة والمسكنة فلا معنى لسؤال الرحمة والمغفرة لمن يأبى عن القبول، ولا للاستعطاء لمن لا يخضع للأخذ والتناول إلّا الهزؤ بمقام الربوبيّـة واللعب بمقام العبوديّـة وهو غير جائز بضرورة من حكم الفطرة.

وفي الآية نفى الجواز بنفى الحقّ بدليل قوله:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا ) أي ما كانوا يملكون الاستغفار بعد ما تبيّن لهم كذا وكذا، وقد تقدّم في ذيل قوله

٤٢١

تعالى:( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) الآية ١٧ من السورة أنّ حكم الجواز مسبوق في الشرع بجعل الحقّ.

والمعنى أنّ النبيّ والّذين آمنوا بعد ما ظهر وتبيّن بتبيين الله لهم أنّ المشركين أعداء لله مخلّدون في النار لم يكن لهم حقّ يملكون به أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى منهم، وأمّا استغفار إبراهيم لأبيه المشرك فإنّه ظنّ أنّه ليس بعدوّ معاند لله وإن كان مشركاً فاستعطفه بوعد وعدها إيّاه فاستغفر له فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله معاند على شركه وضلاله تبرّء منه.

وقوله:( إنّ إبراهيم لأوّاه حليم ) تعليل لوعد إبراهيم واستغفاره لأبيه بأنّه تحمّل جفوة أبيه ووعده وعداً حسناً لكونه حليماً واستغفر له لكونه أوّاهاً، والأوّاه هو الكثير التأوّه خوفاً من ربّه وطمعاً فيه.

قوله تعالى: ( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ) إلى آخر الآيتين الآيتان متّصلتان بالآيتين قبلهما المسوقتين للنهى عن الاستغفار للمشركين.

أمّا الآية الاُولى أعني قوله:( وما كان الله ليضلّ ) الخ ففيه تهديد للمؤمنين بالإضلال بعد الهداية إن لم يتّقوا ما بيّن الله لهم أن يتّقوه ويجتنبوا منه، وهو بحسب ما ينطبق على المورد أنّ المشركين أعداء لله لا يجوز الاستغفار لهم والتودّد إليهم فعلى المؤمنين أن يتّقوا ذلك وإلّا فهو الضلال بعد الهدى، وعليك أن تذكر ما قدّمناه في تفسير قوله تعالى:( اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني ) المائدة: ٣ في الجزء الخامس من الكتاب وفي تفسير آيات ولاية المشركين وأهل الكتاب الواقعة في السور المتقدّمة.

والآية بوجه في معنى قوله تعالى:( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) الأنفال: ٥٣ وما في معناه من الآيات، وهى جميعاً تهتف بأنّ من السنّة الإلهيّـة أن تستمرّ على العبد نعمته وهدايته حتّى يغيّر هو ما عنده بالكفران والتعدّى فيسلب الله منه النعمة والهداية.

٤٢٢

وأمّا الآية الثانية أعنى قوله:( إنّ الله له ملك السماوات والأرض يحيى ويميت وما لكم من دون الله من ولىّ ولا نصير ) فذيلها بيان لعلّة الحكم السابق المدلول عليه بالآية السابقة وهو النهى عن تولّى أعداء الله أو وجوب التبرّى منهم إذ لا ولىّ ولا نصير حقيقة إلّا الله سبحانه وقد بيّنه للمؤمنين فعليهم بدلالة من إيمانهم أن يقصروا التولّى عليه تعالى أو من أذن في تولّيهم له من أوليائه وليس لهم أن يتعدّوا ذلك إلى تولّى أعدائه كائنين من كانوا.

وصدر الآية بيان لسبب هذا السبب وهو أنّ الله سبحانه هو الّذى يملك كلّ شئ وبيده الموت والحياة فإليه تدبير كلّ أمر فهو الولىّ لا ولىّ غيره.

وقد ظهر من عموم البيان والعلّة في الآيات الأربع أنّ الحكم عامّ وهو وجوب التبرّى أو حرمة التولّى لأعداء الله سواء كان التولّى بالاستغفار أو بغير ذلك وسواء كان العدوّ مشركاً أو كافراً أو منافقاً أو غيرهم من أهل البدع الكافرين بايات الله أو المصرّين على بعض الكبائر كالمرابى المحارب لله ورسوله.

قوله تعالى: ( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين ) إلى آخر الآيتين، الساعة مقدار من الزمان فساعة العسرة الزمان الّذى تعسر فيه الحياة لابتلاء الإنسان بما تشقّ معه العيشة عليه كعطش أو جوع أو حرّ شديد أو غير ذلك، والزيغ هو الخروج من الطريق والميل عن الحقّ، وإضافة الزيغ إلى القلوب وذكر ساعة العسرة وسائر ما يلوح من سياق الكلام دليل على أنّ المراد بالزيغ الاستنكاف عن امتثال أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخروج عن طاعته بالتثاقل عن الخروج إلى الجهاد أو الرجوع إلى الأوطان بقطع السير تحرّجاً من العسرة والمشقّة الّتى واجهتهم في مسيرهم.

والتخليف - على ما في المجمع - تأخير الشئ عمّن مضى فأمّا تأخير الشئ عنك في المكان فليس بتخليف، وهو من الخلف الّذى هو مقابل لجهة الوجه يقال، خلّفه أي جعله خلفه فهو مخلّف. انتهى والرحب هو السعة الّتى تقابل الضيق، وبما رحبت أي برحبها فما مصدريّة.

و الآيتان وإن كانت كلّ واحدة منهما ناظرة إلى جهة دون جهة الاُخرى

٤٢٣

فالاُولى تبيّن التوبة على النبيّ والمهاجرين والأنصار والثانية تبيّن توبة الثلاثة المخلّفين مضافاً إلى أنّ نوع التوبة على أهل الآيتين مختلف فأهل الآية الاُولى أو بعضهم تاب الله عليهم من غير معصية منهم، وأهل الآية الثانية تيب عليهم وهم عاصون مذنبون.

وبالجملة الآيتان مختلفتان غرضاً ومدلولاً غير أنّ السياق يدلّ على أنّهما مسوقتان لغرض واحد ومتّصلتان كلاماً واحداً تبيّن فيه توبته تعالى للنبىّ والمهاجرين والأنصار والثلاثة الّذين خلّفوا، ومن الدليل عليه قوله:( لقد تاب الله على النبيّ - إلى أن قال -وعلى الثلاثة ) الخ فالآية الثانية غير مستقلّة عن الاُولى بحسب اللفظ وإن استقلّت عنها في المعنى، وذلك يستدعى نزولهما معاً وتعلّق غرض خاصّ بهذا الاتّصال والامتزاج.

ولعلّ الغرض الأصلىّ بيان توبة الله سبحانه لاُولئك الثلاثة المخلّفين وقد ضمّ إليها ذكر توبته تعالى للمهاجرين والأنصار حتّى للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتطيب قلوبهم بخلطهم بغيرهم وزوال تميّزهم من سائر الناس وعفو أثر ذلك عنهم حتّى يعود الجميع على نعت واحد وهو أنّ الله تاب عليهم برحمته فهم فيه سواء من غير أن يرتفع بعضهم عن بعض أو ينخفض بعضهم عن بعض.

وبهذا تظهر النكتة في تكرار ذكر التوبة في الآيتين فإنّ الله سبحانه يبدء بذكر توبته على النبيّ والمهاجرين والأنصار ثمّ يقول:( ثمّ تاب عليهم ) وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ثمّ يقول:( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا ) فليس إلّا أنّ الكلام مسوق على منهج الإجمال والتفصيل ذكر فيه توبته تعالى على الجميع إجمالاً ثمّ اُشير إلى حال كلّ من الفريقين على حدته فذُكرت عند ذلك توبته الخاصّـة به.

ولو كانت كلّ واحدة من الآيتين ذات غرض مستقلّ من غير أن يجمعها غرض جامع لكان ذلك تكراراً من غير نكتة ظاهرة.

على أنّ في الآية الاُولى دلالة واضحة على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له في ذلك ذنب

٤٢٤

ولا زيغ ولا كاد أن يزيغ قلبه فإنّ في الكلام مدحاً للمهاجرين والأنصار باتّباع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يزغ قلبه ولا كاد أن يزيغ حتّى صار متّبعاً يقتدى به ولو لا ما ذكرناه من الغرض لم يكن لذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع سائر المذكورين وجه ظاهر.

فيؤول معنى الآية إلى أنّ الله - اُقسم لذلك - تاب ورجع برحمته رجوعاً إلى النبيّ والمهاجرين والأنصار والثلاثة الّذين خلّفوا فأمّا توبته ورجوعه بالرحمة على المهاجرين والأنصار فإنّهم اتّبعوا النبيّ في ساعة العسرة وزمانها - وهو أيّـام مسيرهم إلى تبوك - اتّبعوه من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ويميل عن الحقّ بترك الخروج أو ترك السير فبعد ما اتّبعوه تاب الله عليهم إنّه بهم لرؤوف رحيم.

وأمّا الثلاثة الّذين خلّفوا فإنّهم آل أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ووسعت - وكان ذلك بسبب أنّ الناس لم يعاشروهم ولا كلّموهم حتّى أهلهم فلم يجدوا أنيساً يأنسون به - وضاقت عليهم أنفسهم - من دوام الغمّ عليهم - و أيقنوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه بالتوبة والإنابة فلمّا كان ذلك كلّه تاب الله عليهم وانعطف ورجع برحمته إليهم ليتوبوا إليه فيقبل توبتهم إنّه هو التوّاب - كثير الرجوع إلى عباده يرجع إليهم بالهداية والتوفيق للتوبة إليه ثمّ بقبول تلك التوبة - والرحيم بالمؤمنين.

وقد تبيّن بذلك كلّه أوّلاً: أنّ المراد بالتوبة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محض الرجوع إليه بالرحمة، ومن الرجوع إليه بالرحمة، الرجوع إلى اُمّته بالرحمة فالتوبة عليهم توبة عليه فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواسطة في نزول الخيرات والبركات إلى اُمّته.

وأيضاً فإنّ من فضله تعالى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن: كلّما ذكر اُمّته أو الّذين معه بخير أفرده من بينهم وصدر الكلام بذكره تشريفاً له كما في قوله:( آمن الرسول بما اُنزل إليه من ربّه والمؤمنون ) البقرة: ٢٨٥ وقوله:( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) التوبة ٢٦، وقوله:( لكن الرسول والّذين آمنوا معه جاهدوا ) التوبة ٨٨ إلى غير ذلك من الموارد.

وثانياً: أنّ المراد بما ذكر ثانياً وثالثاً من التوبه بقوله:( ثمّ تاب عليهم ) في

٤٢٥

الموضعين هو تفصيل ما ذكره إجمالاً بقوله:( لقد تاب الله ) .

وثالثاً: أنّ المراد بالتوبة في قوله:( ثمّ تاب عليهم ) في الموضعين رجوعه تعالى إليهم بالهداية إلى الخير والتوفيق فقد ذكرنا مراراً في الأبحاث السابقة أنّ توبة العبد محفوفة بتوبتين من الربّ تعالى، وأنّه يرجع إليه بالتوفيق وإفاضة رحمة الهداية وهو التوبة الاُولى منه فيهتدى العبد إلى الاستغفار وهو توبته فيرجع تعالى إليه بقبول توبته وغفران ذنوبه وهو التوبة الثانية منه تعالى.

والدليل على أنّ المراد بها في الموضعين ذلك أمّا في الآية الاُولى فلأنّه لم يذكر منهم فيها ذنباً يستغفرون له حتّى تكون توبته عليهم توبة قبول، وإنّما ذكر أنّه كان من المتوقّع زيغ قلوب بعضهم وهو يناسب التوبة الاُولى منه تعالى دون الثانية، وأمّا في الآية الثانية فلأنّه ذكر بعدها قوله:( ليتوبوا ) وهو الاستغفار، اُخذ غاية لتوبته تعالى فتوبته تعالى قبل توبتهم ليست إلّا التوبة الاُولى منه.

وربّما أيّد ذلك قوله تعالى في مقام تعليل توبته عليهم:( إنّه بهم رؤوف رحيم ) حيث لم يذكر من أسمائه ما يدلّ بلفظه على قبول توبتهم كما لم يذكر منهم توبة بمعنى الاستغفار.

ورابعاً: أنّ المراد بقوله في الآية الثانية:( ليتوبوا ) توبة الثلاثة الّذين خلّفوا المترتّب على توبته تعالى الاُولى عليهم، فالمعنى ثمّ تاب الله على الثلاثة ليتوب الثلاثة فيتوب عليهم ويغفر لهم إنّه هو التوّاب الرحيم.

فان قلت: فالآية لم تدلّ على قبول توبتهم وهذا مخالف للضرورة الثابتة من جهة النقل أنّ الآية نزلت في توبتهم.

قلت: القصّة ثابتة نقلاً غير أنّها لا توجد دلالة في لفظ الآية إلّا أنّ الآية تدلّ بسياقها على ذلك فقد قال تعالى قى مقام الإجمال:( لقد تاب الله ) وهو أعمّ بإطلاقه من التوبة بمعنى التوفيق وبمعنى القبول، وكذا قوله بعد:( إنّ الله هو التوّاب الرحيم ) وخاصّـة بالنظر إلى ما في الجملة من سياق الحصر الناظر إلى قوله:( وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه ) فإذا كانوا أقدموا على التوبة ليأخذوا ملجاً من الله يأمنون فيه وقد هداهم

٤٢٦

الله إليه بالتوبة فتابوا فمن المحال أن يردّهم الله من بابه خائبين وهو التوّاب الرحيم، وكيف يستقيم ذلك؟ وهو القائل عزّ من قائل:( إنّما التوبة على الله للّذين يعملون السوء بجهالة ثمّ يتوبون من قريب فاُولئك يتوب الله عليهم ) النساء: ١٧.

وربّما قيل: إنّ معنى( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا ) ثمّ سهّل الله عليهم التوبة ليتوبوا. وهو سخيف. وأسخف منه قول من قال: إنّ المراد بالتوبة في( ليتوبوا ) الرجوع إلى حالتهم الاُولى قبل المعصية. وأسخف منه قول آخرين: إنّ الضمير في( ليتوبوا ) راجع إلى المؤمنين والمعنى ثمّ تاب على الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأنّ الله قابل التوب.

وخامساً: أنّ الظنّ يفيد في الآية مفاد العلم لا لدلالة لفظيّـة بل لخصوص المورد.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين ) الصدق بحسب الأصل مطابقة القول والخبر للخارج، ويوصف به الإنسان إذا طابق خبره الخارج ثمّ لمّا عدّ كلّ من الاعتقاد والعزم - الإرادة - قولاً توسّع في معنى الصدق فعدّ الإنسان صادقاً إذا طابق خبره الخارج وصادقاً إذا عمل بما اعتقده وصادقاً إذا أتى بما يريده ويعزم عليه على الجدّ.

وما في الآية من إطلاق الأمر بالتقوى واطلاق الصادقين وإطلاق الأمر بالكون معهم - والمعيّة هي المصاحبة في العمل وهو الاتّباع - يدلّ على أنّ المراد بالصدق هو معناه آلوسيع العامّ دون الخاصّ.

فالآية تأمر المؤمنين بالتقوى واتّباع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم وهو غير الأمر بالاتّصاف بصفتهم فإنّه الكون منهم لا الكون معهم وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ) إلى آخر الآيتين الرغبة ميل خاصّ نفسانيّ والرغبة في الشئ الميل إليه لطلب منفعة فيه، والرغبة عن الشئ الميل عنه بتركه والباء للسببيّـة فقوله:( ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) معناه وليس لهم أن يشتغلوا بأنفسهم عن نفسه فيتركوه عند مخاطر المغازى وفي تعب الأسفار ودعثائها ويقعدوا

٤٢٧

للتمتّع من لذائذ الحياة، والظمأ العطش، والنصب التعب والمخمصة المجاعة، والغيظ أشدّ الغضب، والموطئ الأرض الّتى توطأ بالأقدام.

والآية تسلب حقّ التخلّف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل المدينة والأعراب الّذين حولها ثمّ تذكر أنّ الله قابل هذا السلب منهم بأنّه يكتب لهم في كلّ مصيبة تصيبهم في الجهاد من جوع وعطش وتعب وفي كلّ أرض يطئونها فيغيطون به الكفّـار أو نيل نالوه منهم عملاً صالحاً فإنّهم محسنون والله لا يضيع أجر المحسنين، وهذا معنى قوله:( ذلك بأنّهم لا يصيبهم ظمأ ) الخ.

ثمّ ذكر أنّ نفقاتهم صغيرة يسيرة كانت أو كبيرة خطيرة وكذا كلّ واد قطعوه فإنّه مكتوب لهم محفوظ لأجلهم ليجزوا به أحسن الجزاء.

وقوله:( ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) غاية متعلّقة بقوله:( كتب لهم ) أي غاية هذه الكتابة هي أن يجزيهم بأحسن أعمالهم، وإنّما خصّ جزاء أحسن الأعمال بالذكر لأنّ رغبة العامل عاكفة عليه، أو لأنّ الجزاء بأحسنها يستلزم الجزاء بغيره، أو لأنّ المراد بأحسن الأعمال الجهاد في سبيل الله لكونه أشقّها وقيام الدعوة الدينيّـة به.

وههنا معنى آخر وهو أنّ جزاء العمل في الحقيقة إنّما هو نفس العمل عائداً إلى الله فأحسن الجزاء هو أحسن العمل فالجزاء بأحسن الأعمال في معنى الجزاء بأحسن الجزاء ومعنى آخر وهو أن يغفر الله سبحانه سيّئاتهم المشوبة بأعمالهم الحسنة ويستر جهات نقصها فيكون العمل أحسن بعد ما كان حسناً ثمّ يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون فافهم ذلك وربّما رجع المعنيان إلى معنى واحد.

قوله تعالى: ( وما كان المؤمنون لينفروا كافّة فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) السياق يدلّ على أنّ المراد بقوله:( لينفروا كافّة ) لينفروا وليخرجوا إلى الجهاد جميعاً، وقوله:( فرقة منهم ) الضمير للمؤمنين الّذين ليس لهم أن ينفروا كافّة، ولازمه أن يكون النفر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم.

فالآية تنهى مؤمنى سائر البلاد غير مدينة الرسول أن ينفروا إلى الجهاد كافّة

٤٢٨

بل يحضّضهم أن ينف طائفة منهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه في الدين، وينفر إلى الجهاد غيرهم.

والأنسب بهذا المعنى أن يكون الضمير في قوله( رجعوا ) للطائفة المتفقّهين، وفي قوله:( إليهم ) لقومهم والمراد إذا رجع هؤلاء المتفقّهون إلى قومهم، ويمكن العكس بأن يكون المعنى: إذا رجع قومهم من الجهاد إلى هؤلاء الطائفة بعد تفقّههم ورجوعهم إلى اوطانهم.

ومعنى الآية لا يجوز لمؤمنى البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعاً فهلّا نفر وخرج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طائفة من كلّ فرقة من فرق المؤمنين ليتحقّقوا الفقه والفهم في الدين فيعملوا به لأنفسهم ولينذروا بنشر معارف الدين وذكر آثار المخالفة لاُصوله وفروعه قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلّهم يحذرون ويتّقون.

ومن هنا يظهر أوّلاً: أنّ المراد بالتفقّه تفهّم جميع المعارف الدينيّـة من اُصول وفروع لا خصوص الأحكام العمليّـة وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرّعة، والدليل عليه قوله:( لينذروا قومهم ) فإنّ ذلك أمر إنّما يتمّ بالتفقّه في جميع الدين وهو ظاهر.

وثانياً: أنّ النفر إلى الجهاد موضوع عن طلبة العلم الدينىّ بدلالة من الآية.

وثالثاً: أنّ سائر المعاني المحتملة الّتى ذكروها في الآية بعيده عن السياق كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( لينفروا كافّة ) نفرهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه، وقول بعضهم في( فلو لا نفر ) : أي إلى الجهاد، والمراد بقوله:( ليتفقهوا ) أي الباقون المتخلّفون فينذروا قومهم النافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إلى اُولئك المتخلّفين. فهذه ونظائرها معان بعيدة لا جدوى في التعرّض لها والإطناب في البحث عنها.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا قاتلوا الّذين يلونكم من الكفّـار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) أمر بالجهاد العامّ الّذى فيه توسّع الإسلام حتّى يشيع في الدنيا فإنّ قتال كلّ طائفة من المؤمنين من يليهم من الكفّـار لا ينتهى إلّا باتّساع الإسلام اتّساعاً باستقرار سلطنته على الدنيا وإحاطته بالناس جميعاً.

والمراد بقوله:( وليجدوا فيكم غلظة ) أي الشدّة في ذات الله وليس يعنى بها

٤٢٩

الخشونة والفظاظة وسوء الخلق والقساوة والجفاء فجميع الاُصول الدينيّـة تذمّ ذلك وتستقبحه، ولحن آيات الجهاد ينهى عن كلّ تعدّ واعتداء وجفاء كما مرّ في سورة البقرة.

وفي قوله:( واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) وعد إلهى بالنصر بشرط التقوى، ويؤول معناه إلى إرشادهم إلى أن يكونوا دائماً مراقبين لأنفسهم ذاكرين مقام ربّهم منهم، وهو أنّه معهم ومولاهم فهم الأعلون إن كانوا يتّقون.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال: نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في المسجد:( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ) الآية فكبّر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم. فقال الأنصاريّ: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل.

وفي الكافي بإسناده عن سماعة عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: لقى عبّاد البصريّ علىّ بن الحسينعليه‌السلام في طريق مكّة فقال له: يا علىّ بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحجّ ولينته إنّ الله يقول:( إنّ الله اشترى ) الخ، فقال علىّ بن الحسينعليه‌السلام إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ.

أقول: يريدعليه‌السلام ما في الآية الثانية:( التائبون العابدون ) الآية من الأوصاف.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: سياحة اُمّتى في المساجد.

أقول: وروى عن أبى هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ السائحين هم الصائمون، وعن أبى اُمامة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ سياحة اُمّتى الجهاد في سبيل الله، وقد تقدّم الكلام فيه.

وفي المجمع:( التائبين العابدين ) إلى آخرها بالياء عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليهما‌السلام .

٤٣٠

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) أخرج ابن أبى شيبة وأحمد والبخاريّ ومسلم والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال: لمّا حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده أبوجهل وعبدالله بن أبى أميّة فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أى عمّ قل لا إله إلّا الله اُحاجّ لك بها عند الله فقال أبوجهل وعبدالله بن أبى اُميّة: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبدالمطّلب؟ وجعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرضها عليه وأبوجهل وعبدالله يعانوانه(١) بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلّمهم هو: على ملّة عبدالمطّلب، وأبى أن يقول: لا إله إلّا الله.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) الآية، وأنزل الله في أبى طالب فقال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء ) .

اقول: وفي معناه روايات اُخرى من طرق أهل السنّة، وفى بعضها أنّ المسلمين لمّا رأوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر لعمّه وهو مشرك استغفروا لآبائهم المشركين فنزلت الآية، وقد اتّفقت الرواية عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام أنّه كان مسلماً غير متظاهر بإسلامه ليتمكّن بذلك من حماية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيما روى بالنقل الصحيح من أشعاره شئ كثير يدلّ على توحيده وتصديقه النبوّة، وقد قدّمنا نبذة منها.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبى جعفر قال: الأوّاه الدّعاء.

وفي المجمع في قوله تعالى:( وما كان الله ليضلّ قوماً ) الآية قيل: مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض فقال المسلمون: يا رسول الله إخواننا المسلمون ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فنزل:( وما كان الله ليضلّ قوماً ) الآية عن الحسن.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عبّـاس في الآية قال: نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الاُسارى(٢) قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتّى يؤذن لكم

____________________

(١) أي يفسرانه.

(٢) يعنى يوم بدر.

٤٣١

ولكن ما كان الله ليعذّب قوماً بذنب أذنبوه حتّى يبيّن لهم ما يتّقون. قال: حتّى ينهاهم قبل ذلك.

أقول: ظاهر الروايتين أنّهما من التطبيق دون النزول بمعناه المصطلح عليه، واتّصال الآية بالآيتين قبلها ودخولها في سياقهما ظاهر، وقد تقدّم توضيحه.

وفي الكافي بإسناده عن حمزة بن محمّـد الطيّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ) قال: يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه. الحديث.

أقول: ورواه أيضاً عن عبد الأعلى عنهعليه‌السلام ، ورواه البرقىّ أيضاً في المحاسن.

وفى تفسير القمّىّ:( لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة ) قال الصادقعليه‌السلام : هكذا نزلت وهم أبوذرّ وأبو خيثمة وعمير بن وهب الّذين تخلّفوا ثمّ لحقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: وقد استخرجناه من حديث طويل أورده القمّىّ في تفسيره في قوله تعالى:( ولو أرادوا الخروج لأعدوّا له عدّة ) الآية: ٤٦ من السورة، وروى قراءة( بالنبيّ ) في المجمع عنه وعن الرضاعليهما‌السلام .

وفي المجمع في قوله:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) وقرء علىّ بن الحسين زين العابدين ومحمّـد بن علىّ الباقرو جعفر بن محمّـد الصادقعليهم‌السلام وأبو عبد الرحمن السلمىّ. خالفوا.

وفيه في قوله:( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار ) الآية نزلت في غزاة تبوك وما لحق المسلمين فيها من العسرة حتّى همّ قوم بالرجوع ثمّ تداركهم لطف الله سبحانه قال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثمّ ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان زادهم الشعير المسوّس والتمر المدوّد والإهالة السنخة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتّى يجد طعمها ثمّ يعطيها صاحبه فيمصّها ثمّ يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتّى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلّا النواة.

وفيه في قوله:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) الآية نزلت في شأن كعب بن مالك

٤٣٢

ومرارة بن الربيع وهلال بن اُميّة، وذلك أنّهم تخلّفوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يخرجوا معه لا عن نفاق ولكن عن توان ثمّ ندموا فلمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة جاؤوا إليه واعتذروا فلم يكلّمهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم فهجرهم الناس حتّى الصبيان، وجاءت نساؤهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلن له: يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال: ولكن لا يقربوكنّ.

فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وكان أهاليهم يجيؤون لهم بالطعام ولا يكلّمونهم فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم فهلّا نتهاجر نحن أيضاً فتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان، وبقوا على ذلك خمسين يوماً يتضرّعون إلى الله تعالى ويتوبون إليه، فقبل الله تعالى توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية.

أقول: وقد تقدّمت القصّة في حديث طويل نقلناه من تفسير القمّىّ في الآية ٤٦ من السورة، ورويت القصّة بطرق كثيرة.

وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب من تفسير أبى يوسف بن يعقوب بن سفيان حدّثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال:( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله ) قال: أمر الله الصحابة أن يخافوا الله. ثمّ قال:( وكونوا مع الصادقين ) يعنى مع محمّـد وأهل بيتهعليهم‌السلام .

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام وقد روى في الدرّ المنثورعن ابن مردويه عن ابن عبّـاس، وأيضاً عن ابن عساكر عن أبى جعفر في قوله:( وكونوا مع الصادقين ) قالا: مع علىّ بن أبى طالب.

وفي الكافي بإسناده عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبدالله (عيه السلام) إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عزّوجلّ:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون ) قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الّذين ينتظرونهم في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم.

٤٣٣

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن الأئمّةعليهم‌السلام ، وهو ممّا يدلّ على أن المراد بالتفقّه في الآية أعمّ من تعلّم الفقه بالمعنى المصطلح عليه اليوم.

واعلم أنّ هناك أقوالاً اُخرى في أسباب نزول بعض الآيات السابقة تركناها لظهور ضعفها ووهنها.

٤٣٤

( سورة التوبة آيه ١٢٤ - ١٢٩)  

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَن يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِيمَاناً فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ١٢٤ ) وَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى‏ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ( ١٢٥ ) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ ثُمّ لاَيَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذّكّرُونَ ( ١٢٦ ) وَإِذا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِنْ أَحَدٍ ثُمّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاَيَفْقَهُونَ ( ١٢٧ ) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٢٨ ) فَإِن تَوَلّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لاَإِلهَ إِلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ١٢٩ )

( بيان)

هي آيات تختتم بها آيات براءة وهى تذكر حال المؤمنين والمنافقين عند مشاهدة نزول السور القرآنيّـة، يتحصّل بذلك أيضاً أمارة من أمارات النفاق يعرف بها المنافق من المؤمن، وهو قولهم عند نزول القرآن: أيّكم زادته هذه إيماناً ؟ ونظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد؟

وفيها وصفه تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفاً يحنّ به إليه قلوب المؤمنين، وأمره بالتوكّل عليه إن أعرضوا عنه.

قوله تعالى: ( وإذا ما اُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً ) إلى آخر الآيتين. نحو السؤال في قولهم: هل يراكم من أحد؟ يدلّ على أنّ سائله لا يخلو من شئ في قلبه فإنّ هذا السؤال بالطبع سؤال من لا يجد في قلبه أثراً من

٤٣٥

نزول القرآن وكأنّه يذعن أنّ قلوب غيره كقلبه فيما يتلقّاه فيتفحّص عمّن أثّر في قلبه نزول القرآن كأنّه يرى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدّعى أنّ القرآن يصلح كلّ قلب سواء كان مستعدّاً مهيّئاً للصلاح أم لا وهو لا يذعن بذلك وكلّما تليت عليه سورة جديدة ولم يجد في قلبه خشوعاً لله ولا ميلاً وحناناً إلى الحقّ زاد شكّاً فبعثه ذلك إلى أن يسأل سائر من حضر عند النزول عن ذلك حتّى يستقرّ في شكّه ويزيد ثباتاً في نفاقه.

وبالجملة السؤال سؤال من لا يخلو قلبه من نفاق.

وقد فصل الله سبحانه أمر القلوب وفرّق بين قلوب المؤمنين والّذين في قلوبهم مرض فقال:( فأمّا الّذين آمنوا ) وهم الّذين قلوبهم خالية عن النفاق بريئة من المرض وهم على يقين من دينهم بقرينة المقابلة( فزادتهم ) السورة النازلة( إيماناً ) فإنّها بإنارتها أرض القلب بنور هدايتها توجب اشتداد نور الإيمان فيه، وهذه زيادة في الكيف، وباشتمالها على معارف وحقائق جديدة من المعارف القرآنيّـة والحقائق الإلهيّـة، وبسطها على القلب نور الإيمان بها توجب زيادة إيمان جديد على سابق الإيمان وهذه زيادة في الكمّيّة ونسبة زيادة الإيمان إلى السورة من قبيل النسبة إلى الأسباب الظاهرة وكيف كان فالسورة تزيد المؤمنين إيماناً فتنشرح بذلك صدورهم وتتهلّل وجوههم فرحاً( وهم يستبشرون ) .

( وأما الّذين في قلوبهم مرض ) وهم أهل الشكّ والنفاق( فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) أي ضلالاً جديداً إلى ضلالهم القديم وقد سمّى الله سبحانه الضلال رجساً في قوله:( ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون ) الانعام: ١٢٥ والمقابلة الواقعة بين( الّذين آمنوا ) و( الّذين في قلوبهم مرض ) يفيد أنّ هؤلاء ليس في قلوبهم إيمان صحيح وإنّما هو الشكّ أو الجحد وكيف كان فهو الكفر ولذلك قال( وماتوا وهم كافرون ) .

والآية تدلّ على أنّ السورة من القرآن لا تخلو عن تأثير في قلب من استمعه فإن كان قلباً سليماً زادته إيماناً واستبشاراً وسروراً، وإن كان قلباً مريضاً زادته رجساً وضلالاً نظير ما يفيده قوله:( وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلّا

٤٣٦

خساراً ) أسرى: ٨٢.

قوله تعالى: ( أو لا يرون أنّهم يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ) الآية الاستفهام للتقرير أي ما لهم لا يتفكّرون ولا يعتبرون وهم يرون أنّهم يبتلون ويمتحنون كلّ عام مرّة أو مرّتين فيعصون الله ولا يخرجون من عهدة المحنة الإلهيّـة وهم لا يتوبون ولا يتذكّرون ولو تفكّروا في ذلك انتبهوا لواجب أمرهم وأيقنوا أنّ الاستمرار على هذا الشأن ينتهى بهم إلى تراكم الرجس على الرجس والهلاك الدائم والخسران المؤبّد.

قوله تعالى: ( وإذا ما اُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ) الآية وهذه خصيصة اُخرى من خصائصهم وهى أنّهم عند نزول سورة قرآنيّـة - ولا محالة هم حاضرون - ينظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد، وهذا قول من يسمع حديثاً لا يطيقه ويضيق بذلك صدره فيتغيّر لونه ويظهر القلق والاضطراب في وجهه فيخاف أن يلتفت إليه ويظهر السرّ الّذى طواه في قلبه فينظر إلى بعض من كان قد أودعه سرّه وأوقفه على باطن أمره كأنّه يستفسره هل يطّلع على ما بنا من القلق والاضطراب أحد؟

فقوله:( نظر بعضهم إلى بعض ) أي بعض المنافقين، وهذا من الدليل على أنّ الضمير في قوله في الآية السابقة:( فمنهم من يقول ) أيضاً للمنافقين، وقوله:( نظر بعضهم إلى بعض ) أي نظر قلق مضطرب يحذر ظهور أمره وانهتاك ستره، وقوله:( هل يراكم من أحد ) في مقام التفسير للنظر أي نظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد؟ ومن للتأكيد وأحد فاعل يراكم.

وقوله:( ثمّ انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنّهم قوم لا يفقهون ) ظاهر السياق أنّ المعنى ثمّ انصرفوا من عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال صرف الله قلوبهم عن وعى الآيات الإلهيّـة والإيمان بها بسبب أنّهم قوم لا يفقهون الكلام الحقّ فالجملة حاليّة على ما يجوّزه بعضهممن خلوّا الجملة الحاليّة المصدّرة بالفعل الماضي عن قد.

وربّما احتمل كون قوله:( صرف الله قلوبهم ) دعاءً منه تعالى على المنافقين، وله

٤٣٧

نظائر في القرآن، والدعاء منه تعالى على أحد إيعاد له بالشرّ.

قوله تعالى: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) العنت هو الضرر والهلاك، وما في قوله:( ما عنتّم ) مصدريّة التأويل عنتكم، والمراد بالرسول على ما يشهد سياق الآيتين محمّـدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد وصفه بأنّه من أنفسهم والظاهر أنّ المراد به أنّه بشر مثلكم ومن نوعكم إذ لا دليل يدلّ على تخصيص الخطاب بالعرب أو بقريش خاصّـة، وخاصّـة بالنظر إلى وجود رجال من الروم وفارس والحبشة بين المسلمين في حال الخطاب.

والمعنى لقد جاءكم أيّها الناس رسول من أنفسكم، من أوصافه أنّه يشقّ عليه ضرّكم أو هلاككم وأنّه حريص عليكم جميعاً من مؤمن أو غير مؤمن، وأنّه رؤوف رحيم بالمؤمنين منكم خاصّـة فيحقّ عليكم أن تطيعوا أمره لأنّه رسول لا يصدع إلّا عن أمر الله، وطاعته طاعة الله، وأن تأنسوا به وتحنّوا إليه لأنّه من أنفسكم، وأن تجيبوا دعوته وتصغوا إليه كما ينصح لكم.

ومن هنا يظهر أنّ القيود المأخوذة في الكلام من الأوصاف أعني قوله( رسول ) و( من أنفسكم ) و( عزيز عليه ما عنتّم ) الخ، جميعها مسوقة لتأكيد الندب إلى إجابته وقبول دعوته، ويدلّ عليه قوله في الآية التالية:( فإن تولّوا فقل حسبى الله ) .

قوله تعالى: ( فإن تولّوا فقل حسبى الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم ) أي وإن تولّوا عنك وأعرضوا عن قبول دعوتك فقل حسبى الله لا إله إلّا هو أي هو كافىّ لا إله إلّا هو.

فقوله:( لا إله إلّا هو ) في مقام التعليل لانقطاعه من الأسباب واعتصامه بربّه فهو كاف لا كافى سواه لأنّه الله لا إله غيره، ومن المحتمل أن تكون كلمة التوحيد جيئ بها للتعظيم نظير قوله:( وقالوا اتّخذ الله ولداً سبحانه ) البقرة: ١١٦.

وقوله:( عليه توكّلت ) وفيه معنى الحصر تفسير يفسّر به قوله:( حسبى الله ) الدالّ على معنى التوكّل بالالتزام، وقد تقدّم في بعض الأبحاث السابقة أنّ معنى التوكّل هو اتّخاذ العبد ربّه وكيلاً يحلّ محلّ نفسه ويتولّى تدبير اُموره أي انصرافه عن

٤٣٨

التسبب بذيل ما يعرفه من الأسباب، ولا محالة هو بعض الأسباب الّذى هو علّة ناقصة والاعتصام بالسبب الحقيقيّ الّذي إليه ينتهي جميع الأسباب.

ومن هنا يظهر وجه تذييل الكلام بقوله:( وهو ربّ العرش العظيم ) أي الملك والسلطان الّذي يحكم به على كلّ شئ ويدبّر به كلّ أمر.

وإنّما قال تعالى:( فقل حسبي الله ) الآية ولم يقل: فتوكّل على الله لإرشاده إلى أن يتوكّل على ربّه وهو ذاكر هذه الحقائق الّتي تنوّر حقيقة معنى التوكّل، وأنّ انظر المصيب هو أن لا يثق الإنسان بما يدر كه من الأسباب الظاهرة الّتي هي لا محالة بعض الأسباب بل يأخذ بما يعلمه منها على ما طبعه الله عليه ويثق بربّه ويتوكّل عليه في حصول بغيته وغرضه.

وفي الآية من الدلالة على عجيب اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باهتداء الناس ما ليس يخفى فإنّه تعالى يأمره بالتوكّل على ربّه فيما يهتمّ به من الأمر وهو ما تبيّنه الآية السابقة من شدّة رغبته وحرصه في اهتداء الناس وفوزهم بالسعادة فافهم ذلك.

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام - في حديث طويل يذكر فيه تمام الإيمان ونقصه، قال: قلت: قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عزّوجلّ:( وإذا ما اُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) وقال:( نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى ) .

ولو كان كلّه واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر، ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّـة وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان دخل المفرّطون النار.

٤٣٩

وفي تفسير العيّـاشيّ عن زرارة بن أعين عن أبى جعفرعليه‌السلام ( وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) يقول شكّاً إلى شكّهم.

وفي الدرّ المنثور في قوله:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) أخرج أبونعيم في الدلائل عن ابن عبّـاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يلتق أبواي قطّ على سفاح: لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيّـبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّى مهذّباً لا تنشعب شعبتان إلّا كنت في خيرهما.

أقول: وقد أورد فيه روايات كثيرة في هذا المعنى عن رجال من الصحابة وغيرهم كالعبّـاس وأنس وأبى هريرة وربيعة بن الحارث بن عبدالمطّلب وابن عمر وابن عبّـاس وعلى ومحمّـد بن علىّ الباقر وجعفر بن محمّـد الصادقعليه‌السلام وغيرهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيه أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن وابن الأنباريّ في المصاحف وابن مردويه عن الحسن أنّ اُبىّ بن كعب كان يقول: إنّ أحدث القرآن عهداً بالله - وفي لفظ بالسماء - هاتان الآيتان:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) إلى آخر الآية.

أقول: و الرواية مرويّـة من طريق آخر عن اُبىّ بن كعب، وهى لا تخلو عن تعارض مع ما سيأتي من الرواية وكذا مع ما تقدّم من الروايات في قوله تعالى:( واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) الآية البقرة: ٢٨١ أنّها آخر آية نزلت من القرآن.

على أنّ لفظ الآيتين لا يلائم كونهما آخر ما نزلت من القرآن إلّا أن يكون إشارة إلى بعض الحوادث الواقعة في مرض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كحديث الدواة والقرطاس.

وفيه أخرج ابن إسحاق وأحمد بن حنبل وابن أبى داود عن عباد بن عبدالله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم - إلى قوله -وهو ربّ العرش العظيم ) إلى عمر فقال: من معك على هذا؟ فقال: لا أدرى والله إلّا أنّى أشهد لسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووعيتها وحفظتها فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فألحقوها فاُلحقت في آخر براءة.

أقول: وفي رواية أخرى أنّ عمر قال للحارث: لا أسألك عليها بيّنه أبداً كذلك

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572