الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287617 / تحميل: 5226
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

٥ ـ التوسّل جائز :

يستفاد من الآيات ـ آنفة الذكر ـ انّ طلب الاستغفار من الآخرين غير مناف للتوحيد ، بل هو سبيل الى الوصول الى لطف الله سبحانه ، والّا فكيف كان يمكن ليعقوب ان يستجيب لطلب ابنائه في ان يستغفر لهم وان يجيبهم بالإيجاب على توسّلهم به.

وهذا الأمر يدلّ على ان التوسّل بأولياء الله جائز على الإجمال ، والأشخاص الذين يرون ذلك مخالفا لاصل التوحيد غافلون عن نصوص القرآن ، او انّ التعصّب المقيت يحجب ابصارهم عن تلك النصوص.

٦ ـ نهاية الليلة السوداء

انّ الدرس الكبير الذي نستلهمه من الآيات المتقدّمة هو انّه مهما كانت المشاكل والحوادث صعبة وعسيرة ، ومهما كانت الأسباب والعلل الظاهرية غير تامّة ومحدودة ، ومهما كان النصر او الفرج بطيئا (او غير متحقّق فعلا) فإنّ ايّا من أولئك لا يمنع من الرجاء والأمل بلطف الله ، فالله الذي أعاد البصر برائحة القميص ونقل رائحة ذلك القميص من مسافة بعيدة ، وردّ العزيز المفتقد بعد سنين طويلة ، قادر على ان يضمّد القلوب المجروحة من الفراق ، وان يشفي آلام النفوس.

اجل انّنا نجد الدرس التوحيدي الكبير ينطوي في هذا القصص والتاريخ ، وهو انّه لا شيء على الله بعزيز ولا عسير ، بل يهون كلّ شيء بأمره وارادته.

( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .

* * *

٣٠١

الآيات

( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) )

التّفسير

عاقبة امر يوسف وأبيه واخوته :

مع وصول القافلة التي تحمل أعظم بشارة من مصر الى كنعان ، وعودة البصر

٣٠٢

الى يعقوب ، ارتفعت اهازيج في كنعان. فالبيت الذي لم يخلع اهله عنهم ثياب الحزن والاسى لسنين عديدة ، أصبح غارقا في السرور والحبور ، فلم يكتموا رضاهم عن هذه النعم الالهيّة ابدا.

والآن ينبغي على اهل هذا البيت ـ وفقا لوصيّة يوسف ـ ان يتحرّكوا ويتّجهوا نحو مصر ، وتهيّأت مقدّمات السفر من جميع النواحي ، وركب يعقوب راحلته وشفتاه رطبتان بذكر الله وتمجيده ، وقد منحه عشق يوسف قوّة وعزما الى درجة وكأنّه عاد شابا من جديد.

وهذا السفر على خلاف الاسفار السابقة ـ التي كانت مقرونة لدى اخوة يوسف بالقلق والحزن ـ كان خاليا من ايّة شائبة من شوائب الهمّ والغمّ. وحتّى لو كان السفر بنفسه متعبا ، فهذا التعب لم يكن شيئا ذا بال قبال ما يهدفون اليه في مسيرهم هذا.

كانوا يطوون الليالي والايّام ببطء ، لانّ الشوق كان يحيل كلّ دقيقة الى يوم او سنة ، ولكن انتهى كلّ شيء ولاحت معالم مصر وأبنيتها من بعيد بمزارعها الخضر وأشجارها الباسقة السامقة وعماراتها الجميلة.

الّا انّ القرآن الكريم ـ كعادته دائما ـ حذف هذه المقدّمات التي يمكن ان تدرك بأدنى تفكّر وتأمّل ، فقال في هذا الشأن :( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ) .

وكلمة «آوى» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ تعني في الأصل انضمام شيء الى شيء آخر ، وضمّ يوسف أبويه اليه كناية عن احتضانهما ومعانقتهما.

وأخيرا تحقّقت احلى سويعات الحياة ليعقوب ، وفي هذا اللقاء والوصال الذي تمّ بين يعقوب ويوسف بعد سنين من الفراق ، مرّت على يعقوب ويوسف لحظات لا يعلم الله عواطفها في تلك اللحظات الحلوة ، وايّة دموع انسكبت من عينيهما من الفرح.

٣٠٣

وعندها التفت يوسف الى اخوته وأبويه و( قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ) لانّ مصر أصبحت تحت حكم يوسف في امن وأمان واطمئنان.

ويستشفّ من هذه الجملة انّ يوسف كان قد خرج الى خارج بوّابة المدينة لاستقبال والديه واخوته ، ولعلّ التعبير ب( دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ ) يحتمل ان يكون يوسف قد أمر أن تنصب الخيام هناك «خارج المدينة» وان تهيأ مقدّمات الاستقبال لأبويه واخوته.

فلمّا دخلوا القصر أكرمهم يوسفعليه‌السلام ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) .

وكانت هذه العظمة من النعمة الالهيّة واللطف والموهبة التي منّ الله بها على يوسف قد ادهشت اخوة يوسف وأبويه فذهلوا جميعا( وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) .

وعندها التفت يوسف الى أبيه( وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ ) .

الم يكن انّي رأيت احد عشر كوكبا والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين؟! فانظر يأبت كما كنت تتوقّع من عاقبة امري( قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ) ( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ) .

الطريف هنا انّ يوسف تكلّم هنا عن سجنه في مصر من بين جميع مشاكله ولم يتكلّم على الجبّ مراعاة لإخوته.

ثمّ أضاف يوسف قائلا :( وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) .

ومرّة اخرى يظهر هنا يوسف مثلا آخر من سعة صدره وعظمته ، ودون ان يقول : من هو المقصّر ، وانّما يقول بصورة مجملة انّ الشيطان تدخّل فنزغ بيني وبين اخوتي ، فهو لا يريد ان يتشكّى من اخطاء اخوته السالفة.

والتعبير عن ارض كنعان بالبدو تعبير طريف وكاشف عن مدى الاختلاف بين تمدّن مصر وتخلّف كنعان «حضاريّا».

وأخير يقول يوسف : انّ جميع هذه المواهب هي من قبل الله ، ولم لا تكون

٣٠٤

كذلك فـ( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ ) .

فيتولّى امور عباده بالتيسير والتدبير وهو يعلم من هو المحتاج ومن هو الجدير بالاستجابة( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

ثمّ يلتفت يوسف نحو مالك الملك الحقيقي وولي النعمة الدائمة فيقول شاكرا راجيا :( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) .

وهذا العلم البسيط بحسب الظاهر «تأويل الأحاديث» كم كان له من اثر عظيم في تغيير حياتي وحياة جماعة آخرين من عبادك ، وما أعظم بركة العلم! فأنت يا ربّ :( فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

ولذلك فقد خضعت واستسلمت قبال قدرتك جميع الأشياء.

ربّاه :( أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .

اي انّني لا اطلب دوام الملك وبقاء الحكم والحياة الماديّة منك يا ربّ ، لانّ هذه الأمور جميعها فانية وليس فيها سوى البريق الجذّاب. بل اطلب منك يا ربّ ان تكون عاقبة امري على خير ، وان اقضي حياتي وأموت مؤمنا في سبيلك مسلّما لارادتك ، وان أكون في صفوف الصالحين. فهذه الأمور هي المهمّة لديّ فحسب.

* * *

بحوث

١ ـ هل السجود لغير الله جائز؟!

كما بيّنا في الجزء الاوّل من هذا التّفسير عند بحثنا في شأن سجود الملائكة لآدم ، فقلنا : انّ السجود بمعنى العبادة يختص بالله تعالى ولا تجوز العبادة لاي احد في ايّ مذهب الّا لله سبحانه وهذا هو المراد من توحيد العبادة الذي هو قسم مهمّ من التوحيد الذي دعا اليه جميع الأنبياء.

٣٠٥

فبناء على هذا لم يكن يوسف وهو نبيّ الله يسمح لأحد ان يسجد له ويعبده من دون الله ، ولا النّبي العظيم يعقوب كان يقدّم على مثل هذا الأمر ، ولا القرآن الكريم كان يعبّر عنه بأنّه عمل جدير او على الأقل عمل مجاز.

فبناء على ذلك فإنّ السجود المشار اليه في الآية ـ محلّ البحث ـ امّا انّه كان «سجدة الشكر» لله تعالى الذي اولى يوسف هذه المواهب والمقام العظيم ، وفرّج عن آل يعقوب كربهم وأزال عنهم همومهم ، وهذا السجود في الوقت الذي كان لله ، بما انّه كان من اجل عظمة موهبة يوسف ، فإنّه كان يعتبر تعظيما وتكريما ليوسف ايضا ، ومن هذا المنطلق فإنّ الضمير في (له) الذي يعود على يوسف قطعا ينسجم وهذا المعنى تماما.

او انّ المراد من السجود هو مفهومه الواسع ، اي الخضوع والتواضع ، لانّ السجدة ـ او السجود ـ لا يأتي اي منهما بمعناه المعروف دائما ، بل ربّما يرد بمعنى الخضوع والتواضع أحيانا ، فلذا قال بعض المفسّرين : انّ التحيّة او التواضع المتداول آنئذ كان الانحناء والتعظيم ، وانّ المراد من السجود في الآية هو هذا المعنى.

الّا انّه مع الالتفات الى جملة «خرّوا» التي يعني مفهومها الهويّ نحو الأرض فإنّه لا يستفاد من السجود في الآية الانحناء والخضوع (هنا).

وقال بعض المفسّرين العظام : انّ سجود يعقوب واخوة يوسف وامّهم كان لله سبحانه ، الّا انّ يوسف كان ـ بمثابة الكعبة ـ قبلة لهم ، ولهذا جاء في بعض تعابير العرب قولهم : فلان صلّى للقبلة(١) .

الّا انّ المعنى الاوّل يبدو اقرب للنظر ، وخاصّة انّ بعض الرّوايات الواردة عن اهل البيتعليهم‌السلام تقول : «كان سجودهم لله ، او عبادة لله»(٢) .

__________________

(١) راجع تفسير الميزان ، وتفسير الفخر الرازي ذيل الآية محل البحث.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٤٦٧.

٣٠٦

كما جاء في بعض الرّوايات انّ سجودهم كان طاعة لله وتحيّة ليوسف(١) .

كما انّ السجود لآدم كان سجودا لله العظيم الذي خلق مثل هذا الخلق البديع ، وهو في الوقت الذي يعدّ عبادة لله فهو دليل على احترام آدم وعظمته.

وهذا الأمر يشبه تماما ان يؤدّي رجل ـ مثلا ـ عملا مهمّا عظيما ، فنسجد نحن لله الذي خلق مثل هذا الإنسان ، فهذا السجود هو لله كما انّه في الوقت ذاته يعدّ احتراما وتعظيما للرجل ايضا.

٢ ـ وساوس الشيطان :

انّ جملة( نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) مع ملاحظة انّ نزغ بمعنى الدخول في امرّ ما بقصد الفساد او الإفساد تدلّ على انّ لوساوس الشيطان في مثل هذه الحوادث أثرا مهمّا دائما ، الّا انّنا نوّهنا من قبل بأنّ هذه الوساوس لوحدها لا تعمل شيئا ، فالمصمّم الأخير هو الإنسان نفسه ، بل هو الذي يفتح أبواب قلبه للشيطان ويسمح له بالدخول.

فبناء على ذلك فليس في الآية ـ محلّ البحث ـ امر خلاف اصل حريّة الارادة أساسا. غاية ما في الأمر انّ يوسفعليه‌السلام بما لديه من حلم وسعة صدر لم يرغب ان يحرج اخوته ويزيد في خجلهم ، فهم كانوا خجلين الى درجة كافية ، ولهذا لم يشر الى المصمّم النهائي وانّما ذكر وساوس الشيطان التي تعدّ العالم الثانوي فحسب.

٣ ـ الأمن نعمة الله الكبرى؟

لقد أشار يوسف الى مسألة الأمن من بين جميع المواهب والنعم بمصر ، وقال لأبويه واخوته( ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ) وهذا الأمر يدلّ على انّ

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٤٦٨.

٣٠٧

نعمة الأمن أساس جميع النعم ، والحقّ انّها كذلك ، لانّه متى ذهبت نعمة الأمن ، فإنّ سائر مسائل الرفاه والمواهب المادية والمعنوية يحدق بها الخطر.

ففي جوّ او محيط غير آمن ، ليس بالمقدور اطاعة الله فيه ولا الحياة الحرّة الكريمة ، كما ليس بمقدور الإنسان ان يفكّر تفكيرا مطمئنا هادئا ، ولا السعي والجدّ والجهاد نحو تحقّق الاهداف الاجتماعية ايضا.

وهذه الجملة لعلّها اشارة الى هذه اللطيفة ، وهي انّ يوسف يريد ان يقول : انّ ارض مصر في عهدي وحكومتي ليست هي تلك الأرض في عهد الفراعنة وحكمهم ، فأولئك الظالمون المستكبرون المستثمرون الانانيون ولّوا ومضوا كما مضى ذلك التعذيب والأذى ، فالجوّ جو آمن تماما.

٤ ـ اهميّة مقام العلم :

ومرّة اخرى يعوّل يوسفعليه‌السلام في انتهاء عمله وامره على مسألة علم تعبير الرؤيا ، ويجعل هذا العلم البسيط ـ ظاهرا ـ الى جانب تلك الحكومة العظمى ومن دون منازع ، وهذا يكشف عن تأكيده على اهميّة العلم مهما كان بسيطا ، فيقول :( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) .

٥ ـ حسن العاقبة :

قد يتقلّب الإنسان في طول عمره في اشكال مختلفة متعدّدة ، الّا انّ من المسلّم به انّ الصفحات الاخيرة من حياته اهمّ من جميع ما مضى عليه ، لانّ سجل عمره ينتهي بانتهائها ويتعلّق الحكم النهائي ، لذا فإنّ الرجال المؤمنين يطلبون من الله دائما ان تكون هذه الصفحات من العمر مشرقة نيّرة ، وان يختم لهم بالخير.

ونجد يوسفعليه‌السلام يطلب من الله ـ هنا ـ هذا الأمر نفسه فيقول :( تَوَفَّنِي مُسْلِماً

٣٠٨

وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .

وليس معنى هذا الكلام طلب الموت من الله ، كما تصوّره ابن عبّاس فقال : لم يطلب احد من الأنبياء الموت من الله الّا يوسف ، فعند ما توفّرت له اسباب حكومته تأجّج العشق (والتعلّق بالله) في نفسه فتمنّى لقاء الله.

بل طلب يوسف انّما كان الشرط والحالة فحسب ، اي انّه طلب ان يكون عند الوفاة مؤمنا مسلما ، وقد كان ابراهيم ويعقوب يوصيان أبناءهما بهذه الوصيّة ايضا بقولهما لهم :( فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) .(١) وقد اختار كثير من المفسّرين هذا المعنى.

٦ ـ هل جاءت امّ يوسف الى مصر

يستفاد من ظاهر الآيات ـ آنفة الذكر ـ بصورة جيّدة انّ امّ يوسف كانت يومئذ حيّة ، وقد جاءت مع يعقوب وابنائها الى مصر ، وسجدت شاكرة هذه النعمة. الّا انّ بعض المفسّرين يصرّون على انّ امّ يوسف «راحيل» كانت قد انتقلت من الدنيا يومئذ ، وانّما التي جاءت الى مصر خالته التي تعدّ بمثابة امّه.

ونقرا في سفر التكوين من التوراة ـ الفصل ٣٥ الجملة ١٨ ـ انّ راحيل بعد ان ولدت بنيامين رحلت عن الدنيا. وجاء في بعض الرّوايات عن (وهب بن منبه) و (كعب الأحبار) هذا المعنى ذاته ايضا ، ويبدو انّه مأخوذ من التوراة.

وعلى اي حال ، فليس بوسعنا ان نغضي عن ظاهر آيات القرآن التي تقول : انّ امّ يوسف كانت حيّة آنئذ ، ونؤول ذلك ونوجّهه دون اي دليل.

٧ ـ عدم ذكر القصّة للأب :

نقرا في رواية عن الامام الصادقعليه‌السلام انّه قالعليه‌السلام : «قال يعقوب ليوسف :

__________________

(١) البقرة ، ١٣٢.

٣٠٩

يا بني حدّثني كيف صنع بك إخوتك؟!

قال : يا أبت دعني.

فقال : أقسمت عليك الّا اخبرتني!

فقال له : اخذوني واقعدوني على راس الجبّ ، ثمّ قالوا لي : انزع قميصك ، فقلت لهم انّي اسألكم بوجه أبي يعقوب ان لا تنزعوا قميصي ولا تبدوا عورتي ، فرفع فلان السكّين عليّ ، وقال : انزل.

فصاح يعقوب فسقط مغشيّا عليه ثمّ أفاق ، فقال له : يا بني كيف صنعوا بك؟! فقال يوسف : انّي اسألك بإله ابراهيم وإسماعيل وإسحاق الّا اعفيتني.

قال : فتركه» إلخ(١) .

وهذا الأمر يدلّ على انّ يوسف لم يرغب بأيّ وجه ابدا ان يعيد في ذهنه او في ذهن أبيه الماضي المرير ، بالرغم من انّ رغبة يعقوب في التقصّي عن الأمر لم تدعه يستقرّ.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٢٦٥.

٣١٠

الآيات

( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) )

التّفسير

الأدعياء مشركون غالبا!

بعد ما انتهت قصّة يوسفعليه‌السلام بكلّ دروسها التربوية ونتائجها الغزيرة والقيّمة والخالية من جزاف القول والخرافات التاريخيّة انتقل الكلام الى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول القرآن الكريم :( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ ) .

٣١١

انّ هذه المعلومات الدقيقة لا يعلمها الّا الله ، او واحد من الذين كانوا حاضرين هناك ، وبما انّك لم تكن حاضرا لديهم فالوحي الالهي فقط هو الذي جاءك بهذه الاخبار.

ومن هنا يتّضح انّ قصّة يوسف بما انّها وردت في التوراة فأهل الحجاز عندهم معلومات تقريبيّة عنها ، ولكن كلّ هذه الحوادث لم تطرح بهذه الدقّة في جزئياتها ابدا ، وحتّى في المحافل الخاصّة السابقة لم تكن تعرف بدون اضافة وخرافة.

وعلى اي حال كان لزاما على الناس ان يؤمنوا بعد مشاهدتهم لعلائم الوحي وسماعهم لهذه النصائح الالهيّة ، وان يتراجعوا عن طريق الغيّ ، ولكن يا ايّها النّبي :( وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) .

انّ الوصف ب (الحرص) هنا دليل على شوق ولهفة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانّ يؤمن الناس ، ولكن ما الفائدة ، فإصراره وشوقه لم يكونا كافيين ، فمن شرط الايمان الاستعداد والقابلية في نفس الشخص.

انّ أبناء يعقوبعليه‌السلام كانوا يعيشون في بيت الوحي والنبوّة ، ومع ذلك نرى كيف عصفت بهم الأهواء حتّى كادوا ان يقتلوا أخاهم ، فكيف نتوقّع من جميع الناس ان يتغلّبوا على أهوائهم وشهواتهم مرّة واحدة وبشكل جماعي ويؤمنوا بالله؟

وهذه الآية بالاضافة الى ما ذكرنا هي تسلية لقلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى لا ييأس ابدا من إصرارهم على الكفر والذنوب ولا يستوحش الطريق لقلّة أصحابه ، كما نقرا في آيات اخرى من القرآن الكريم الكهف (٦) :( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) وقوله تعالى :( وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) فهؤلاء في الواقع ليس لهم اي عذر او مبرّر لعدم قبول الدعوة بالاضافة الى ما اتّضح من علامات الحقّ انّك لم تسألهم اجرا حتّى يكون مبرّرا لمخالفتك :

٣١٢

( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) .

وهذه الدعوة عامّة للجميع ، ومائدة واسعة للعام والخاص وكلّ البشرية.

( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ) .

فهذه الدلائل يرونها بأعينهم كلّ يوم! تشرق الشمس عند الصباح لتنشر أشعتها الذهبية على الجبال والوديان والصحاري والبحار ، وتغرب عند المساء ويعمّ الليل بستاره المظلم كلّ مكان.

انّ اسرار هذا النظام العجيب وهذا الشروق والغروب وحياة النباتات والحشرات والإنسان ، وهدير المياه ، وحركة النسيم ، وكلّ هذا الفن العجيب للوجود هو من الوضوح بحيث ان لم يتدبّر احد فيه وفي خالقه سيكون كالخشبة المسنّدة.

كثيرة هي الدلائل التي نعتبرها صغيرة وغير مهمّة ، فنحن نمرّ عليها كلّ يوم ولا نعير لها اهميّة ، وفجأة يظهر عالم ذو بصيرة فيكتشف بعد دراسة أشهر وسنين اسرار هذه الدلائل ويذهل العالم بها.

المهمّ ان نعلم انّ كلّ ما في العالم ليس زخرفا وبدون فائدة ، لانّها من مخلوقات الله الذي لا نهاية لعلمه ولا حدّ لحكمته. وانّما الساذج والزخرف فهم أولئك الذين يعتقدون بأنّ العالم وجود عبث وليس له غاية وفائدة. ولهذا فلا تعجب لعدم ايمانهم بالآيات المنزلة عليك ، لانّهم لم يؤمنوا بالآيات المحيطة بهم من كلّ مكان( وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) .

قد يتصوّر هؤلاء انّهم من المؤمنين المخلصين ولكن غالبا ما توجد جذور الشرك في افكارهم وأقوالهم وضمائرهم.

ليس الايمان هو الاعتقاد بوجود الله فقط ، فالمؤمن المخلص هو الذي لا يعتقد بأيّ معبود سوى الله ، فتكون أقواله واعماله وكلّ أفعاله خاضعة له. ولا يعترف بغير قانون الله ، ولا يضع طوق العبوديّة في رقبته لغيره ، ويمتثل بقلبه

٣١٣

وروحه لكلّ الأوامر الالهيّة ولو كانت مخالفة لهواه ، ويقدّم دائما الإله على الهوى ، هذا هو الايمان الخالص من الشرك في العقيدة والقول والعمل ، فلو حسبنا حسابا دقيقا في هذا المجال لوجدنا انّ الموحّدين الصادقين والمخلصين قليلون جدّا.

ولهذا السبب نقرا في الرّوايات الاسلامية ما جاء عن الامام الصادقعليه‌السلام «الشرك أخفى من دبيب النحل»(١) .

أو نقرا : «انّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : الرياء ، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم : «اذهبوا الى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء»(٢) .

ونقل عن الامام الباقرعليه‌السلام في تفسير الآية أعلاه حيث يقول «شرك طاعة وليس شرك عبادة ، والمعاصي التي يرتكبون وهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله في الطاعة لغيره»(٣) .

وفي بعض الرّوايات نقرا انّ المقصود من (شرك النعمة) بهذا المعنى انّ الله يهب الإنسان شيئا فيقول : انّ فلانا قد جاءني به فلو لم يكن فلان لكنت من الهالكين! وكانت حياتي هباء منثورا ، فهنا قد اعتبر الشريك مع الله الشخص الذي جرت على يده نعمة الله!

الخلاصة : انّ ما يفهم من الشرك ليس الكفر وانكار الإله وعبادة الأصنام فقط ، كما جاء في حديث عن الامام الرضاعليه‌السلام «شرك لا يبلغ به الكفر» ولكن الشرك بمعناه الواسع يشمل جميع هذه الأمور.

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، صفحة ٦٩٧.

(٢) في ظلال القرآن ، المجلّد الخامس ، صفحة ٥٣.

(٣) نور الثقلين ، ج ٢ ، صفحة ٢٧٥ ـ اصول الكافي ، المجلّد الثّاني ، صفحة ٢٩٢.

٣١٤

وفي آخر آية يحذّر القرآن الكريم أولئك الذين لم يؤمنوا بعد ويمرّوا على الآيات الواضحة مرّ الكرام ويشركون في اعمالهم حيث يقول :( أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

«الغاشية» : الغطاء او الستار ، ويقال للثوب الكبير الذي يغطّي سرج الجواد. ومعناه هنا البلاء والجزاء الذي يعمّ المفسدين(١) .

«والساعة» : القيامة ، وقد وردت بهذا المعنى في كثير من الآيات.

ويحتمل ان تكون كناية عن الوقائع العظيمة التي تحدث قبل يوم القيامة مثل الزلازل والعواصف والصواعق ، او اشارة الى ساعة الموت ، ولكن التّفسير الاوّل اقرب الى المعنى كما نرى.

* * *

__________________

(١) غاشية مؤنثة لانّها صفة «للعقوبة» التي هي مقدّرة.

٣١٥

الآيات

( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١) )

التّفسير

اصدق الدروس والعبر :

في الآية الاولى من هذه المجموعة يتلقّى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأوامر لتحديد الطريق

٣١٦

والمنهج الذي يتّبعه ، فيقول القرآن الكريم :( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ ) ثمّ يضيف :( عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) .

وهذه الجملة توضّح انّ كلّ فرد مسلم مقتد بالرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له نفس الدور في الدعوة الى الحقّ ، ولا بدّ من دعوة الآخرين الى الله ، من خلال أفعالهم وأقوالهم ، وكذلك تؤكّد هذه الجملة على انّ القائد يجب ان تكون له بصيرة ومعرفة كافية ، والّا فإنّ دعوته ليست الى الحقّ ، وللتأكيد على ذلك يضيف القرآن الكريم :( وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

فهو يؤكّد على نزاهة الخالق الذي يدعو اليه وكماله المطلق الخالي من النقصان وانّه لا يتّخذ معه شريكا.

هذه في الواقع من خصائص القائد الصادق ، ان يعلن بصراحة عن اهدافه وخططه ، وان يسير هو والتابعين له على منهج واضح وسليم ، لا ان تسودهم هالة من الإبهام في الهدف والطريقة. او ان يسير كلّ واحد منهم في جهة معيّنة.

فواحدة من الطرق التي نتعرّف بها على القيادات الصادقة من الكاذبة هو انّ القيادة الصادقة تتميّز بصراحة القول ووضوح الطريق امّا الاخرى فهي لكي تحاول التغطية على سلوكها وتلتجئ الى الحديث المبهم والمتعدّد الجوانب.

انّ وقوع هذه الآية بعد الآيات المتعلّقة بيوسف تشير الى انّ طريقة ومنهج النّبي لا يختلفان عن طريقة ومنهج يوسف النّبي. فهو كان يدعو الى «الله الواحد القهّار» حتّى في زوايا السجن ، امّا غيره فكان يدعو الى اسماء انتقلت اليه بسبب التقليد من جاهل الى جاهل آخر. امّا سيرة الأنبياء والرسل كلّها واحدة.

وبما انّ الأقوام الضالّة والجاهلة كانت دائما تثير هذا الاعتراض على الأنبياء وهو انّكم بشر؟! ولماذا لا تكلّف الملائكة لهذا الأمر؟ وبما انّ الناس في الجاهلية كانوا يثيرون نفس الاعتراض بالنسبة الى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته العامّة ، فإنّ القرآن الكريم يجيب مرّة ثانية على هذا الاعتراض فيقول :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ

٣١٧

قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) .

هؤلاء الرّسل هم كباقي الناس يعيشون في المدن والقرى ، ويتجوّلون بين الناس ويشعرون بآلامهم واحتياجاتهم ومشاكلهم.

فالوصف هنا ب( مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) بالاضافة الى ما تشمله القرية في اللغة من معنى المدينة او الرّيف في مقابل «البدو» التي تطلق على اهل الصحراء ، فإنّها قد تشير الى انّ أنبياء الله لم ينهضوا من بين سكنة الصحراء ـ كما صرّح بذلك بعض المفسّرين ـ لانّ سكّان البادية يتّصفون بالجهل وعدم المعرفة وقلوبهم قاسية ويمتازون بقلّة معلوماتهم عن الحياة ومتطلّباتها.

صحيح انّ اكثر سكّان ارض الحجاز كانوا من البدو ، ولكن الرّسول من اهل مكّة التي تعتبر مدينة كبيرة نسبيّا ، وصحيح ايضا انّ مدينة كنعان لو قيست بأرض مصر التي كان يوسف يحكم فيها لكانت صغيرة وغير مهمّة ولذلك كان يعبّر عنها بالبدو. ولكن نحن نعلم انّ يعقوب وأبناءه لم يكونوا من اهل البادية ابدا ، فهم كانوا يعيشون في هذه المدينة الصغيرة كنعان.

ثمّ يبيّن القرآن الكريم : إذا ما أراد هؤلاء ان يعلموا عاقبة مخالفتهم لدعوتك التي هي الدعوة الى الله فإنّ عليهم ان يسيروا ليروا آثار السابقين :( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

انّ السير والتجوال في الأرض لمشاهدة آثار الماضين وخراب دورهم ومدنهم بسبب العذاب الالهي ، أفضل درس لهم ، درس حي وملموس للجميع.( وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

لماذا؟ لانّ الدنيا دار مليئة بالمصائب والآلام وغير باقية ، امّا الآخرة فدار خالدة وخالية من الآلام والعذاب.

( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ ) .

٣١٨

تشير هذه الآية الى ادقّ وأصعب لحظة في حياة الأنبياء فنقول : انّ الأنبياء يواجهون دائما مقاومة عنيفة من قبل اقوامهم وطواغيت زمانهم حتّى يصل الحال بالأنبياء الى اليأس الى حدّ يظنّون انّ اتباعهم المؤمنين القليلين قد كذبوا عليهم وتركوهم وحدهم في مسيرتهم في الدعوة الى الحقّ ، وفي هذه الأثناء حيث انقطع أملهم في كلّ شيء أتاهم نصرنا. وفي نهايتها تشير الى عاقبة المجرمين( وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) .

فهذه سنّة الله في الذين اصرّوا على اعمالهم وأغلقوا باب الهداية على أنفسهم ، فهم وبعد إتمام الحجّة عليهم ينالهم العذاب الالهي فلا تستطيع اي قوّة ان تردّه.

في تفسير هذه الجملة من الآية :( ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) ومن المقصود بها ، هناك عدّة آراء للمفسّرين :

١ ـ انّ كثيرا من علماء التّفسير يرون ما قلناه سابقا ، وخلاصته : انّ عمل الأنبياء يصل الى درجة يعتقدون فيها انّ كلّ الناس سوف يكذبوهم ، حتّى تلك المجموعة التي تظهر ايمانها ولكنّها غير راسخة في عقيدتها.

٢ ـ ويحتمل في تفسير الآية انّ فاعل «ظنّوا» هم المؤمنون ، وانّ المشاكل والاضطرابات تصل الى حدّ بأن يسوء ظنّهم بما وعدهم الأنبياء من النصر ويخيل إليهم انّه خلاف الواقع؟ وليس بعيدا سوء الظنّ هذا من الافراد الذين آمنوا حديثا.

٣ ـ وبعض آخر اعطى تفسيرا ثالثا للآية ، وخلاصته : انّ الأنبياء ـ بدون شكّ ـ كانوا بشرا ، فحين يزلزلوا زلزالا شديدا وتبدوا جميع الأبواب امامهم موصدة ظاهرا ، ولا يرى في الأفق فرج ، والحوادث المتتالية تعصف بهم ، وصرخات المؤمنين الذين نفذ صبرهم تصل الى اسماعهم ، نعم في هذه الحالة وبمقتضى الطبع البشري قد يتبادر الى أذهانهم انّ الوعد بالنصر بعيد عن الصحّة! او انّ النصر الموعود له شروطه التي لم تتحقّق بعد ، ولكن سرعان ما يتغلّبون

٣١٩

على هذه الأفكار ويبعدونها عن أذهانهم ويشع في قلوبهم بصيص الأمل ، ومن ثمّ تتّضح لهم بشائر النصر.

وشاهدهم على هذا التّفسير الآية (٢١٤) سورة البقرة :( ... حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ ) .

ولكن مجموعة اخرى من المفسّرين أمثال العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان و «الرّازي» في تفسيره الكبير ، بعد ما ذكروا هذا الاحتمال قالوا ببطلانه لانّه حتّى هذا المقدار من التوهّم ليس من مقام الأنبياء ، وعلى ايّة حال فالأصحّ هو التّفسير الاوّل.

وآخر آية من هذه السورة ذات محتوى شامل وجامع لكلّ الأبحاث التي ذكرناها في هذه السورة ، وهي :( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) .

فهي مرآة يستطيعون من خلالها ان يروا عوامل النصر والهزيمة ، الهناء والحرمان ، السعادة والشقاء ، العزّ والذلّة ، والخلاصة كلّ ما له قيمة في حياة الإنسان وما ليس له قيمة. وهي مرآة لكلّ تجارب المجتمعات السابقة والرّجال العظام. ومرآة نشاهد فيها ذلك العمر القصير للإنسان كيف يطول بمقدار عمر كلّ البشر. ولكن اولي الألباب وذوي البصائر فقط باستطاعتهم ان يشاهدوا العبر في صفحة المرآة العجيبة هذه :( ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) .

فهذه الآيات التي أنزلناها عليك والتي أزاحت الستار عن التأريخ الصحيح للأمم السابقة ليست من العلم البشري الذي يمكن معرفته عن العلماء ، بل انّ الكتب السّماوية السابقة تشهد على ذلك وتصدّقه وتؤيّده وبالاضافة الى ذلك ففي هذه الآيات كلّ ما يحتاجه الإنسان في تأمين سعادته وتكامله :( وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) .

ولهذا السبب فهي( وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) فالظاهر من الآية أعلاه

٣٢٠

انّها تريد ان تشير الى هذه النقطة المهمّة وهي : انّ للقصص المصنوعة ذات الاثارة كثيرة في اوساط الأمم وهي من الأساطير الخيالية ، ولكن لا يتوهّم احد بأنّ سيرة يوسف او سير بقيّة الأنبياء التي ذكرها القرآن الكريم من ذلك القبيل.

المهمّ انّ هذه القصص المثيرة وذات العبر هي عين الواقع ولا تحتوي على ادنى انحراف عن الواقع الموضوعي ، ولهذا السبب يكون تأثيرها كبيرا جدّا ، لأنّنا نعلم أنّ الأساطير مهما تكن شيّقة ومثيرة فإنّ تأثيرها قليل إذا ما قورنت مع سيرة واقعيّة لانّ :

1 ـ عند ما يصل القارئ او المستمع للقصّة الى أقصى لحظات الاثارة يتبادر الى ذهنه فجأة انّ هذا وهم وخيال ليس اكثر!

2 ـ انّ هذه القصص في الواقع هي من هندسة الإنسان ، فهو يحاول ان يجسّم أفكاره في سلوك بطل القصّة ، ولذلك فهي ليست اكثر من فكر الإنسان ، وهذه القصّة بالمقارنة مع السير الواقعيّة بينهما فرق شاسع ولا تستطيع القصّة البشرية ان تكون اكثر من موعظة لصاحب المقالة. ولكن التاريخ الواقعي للبشر ليس كذلك ، فهو اكثر ثمرا ونفعا واكثر بركة.

* * *

نهاية سورة يوسف

اللهمّ! امنحنا البصر في أعيننا والسمع في آذاننا والعلم في قلوبنا ، حتّى نستطيع ان نحصل من سيرة السابقين على طرقا للنجاة من المشاكل التي نغوص الآن فيها.

ربّنا! ألهمنا بصرا حادّا حتّى نرى عاقبة الذين اختلفوا وتشتّتوا فيما بينهم فكان عاقبتهم الهزيمة والخسران ، وحتّى لا نسير في نفس الطريق الذي سلكوه.

اللهمّ! ارزقنا تلك النيّة الخالصة لكي نتغلّب بها على نفوسنا ، وتلك المعرفة

٣٢١

حتّى لا يصيبنا الغرور بالنصر ، وتلك السّماحة ونكران الذات بحيث إذا رأينا من هو أفضل منّا على انجاز المسؤولية تركناها وتنازلنا عنها اليه.

فإن منحتنا هذا فسوف نستطيع ان نتغلّب على جميع المشاكل ، وان نحفظ نور الإسلام والقرآن في هذه الدنيا.

* * *

٣٢٢

سورة الرّعد

مكّيّة

وعدد آياتها مائة وثلاث وأربعون آية

٣٢٣
٣٢٤

سورة الرّعد

محتوى السّورة

كما قلنا سابقا ، بما انّ السور المكيّة كان نزولها في بداية دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأثناء محاربته للمشركين ، فإنّها غالبا ما كانت تتحدّث عن المسائل العقائدية وخصوصا الدعوة الى التوحيد والمعاد ومحاربة الشرك. في الوقت الذي نرى فيه أنّ السور المدنية نزلت بعد انتشار الإسلام وقيام الحكومة الاسلامية ، فقد تناولت الأحكام والمسائل المتعلّقة بالنظام الاجتماعي واحتياجات المجتمع.

فهذه السورة (سورة الرعد) التي هي من السور المكّية لها نفس الخصائص السابقة ، فبعد ما تشير الى احقّية القرآن وعظمته ، تتطرّق الى آيات التوحيد واسرار الكون التي هي من دلائل ذات الله المقدّسة. فتارة تتحدّث عن رفع السّماوات بغير عمد ، واخرى عن تسخير الشمس والقمر ، ومرّة عن مدّ الأرض وخلق الجبال والأشجار والثمار ، ومرّة عن ستار الليل المظلم الذي يغشي النهار.

ومرّة اخرى تأخذ بأيدي الناس وتنقلهم الى جنّات النخيل والأعناب والزروع ، وتحصي لهم عجائبها.

ثمّ تتطرّق الى المعاد وبعث الإنسان من جديد ومحكمة العدل الالهي ، وهذه المجموعة من اصول المبدإ والمعاد تكمل ما أوضح من مسئولية ووظائف الناس وانّ اي تحوّل في قضاياهم المصيريّة يجب ان يبدأ من داخل أنفسهم.

ثمّ تعود مرّة اخرى الى فكرة التوحيد ، وتسبيح الرعد وخوف الناس من البرق والصاعقة ، وسجود السّماوات والأرضين في مقابل عظمة الربّ. ولأجل

٣٢٥

ان تتعقّل القلوب والأسماع وتوقظ الأفكار ، ولإيضاح انّ الأوثان ليس لها اي ميزة او فائدة ، تدعوهم الى التفكّر والتعلّم ، وتضرب لهم الأمثال لمعرفة الحقّ من الباطل. الأمثال الحيّة والقابلة للإدراك.

ومن هنا فالحصيلة النهائية للايمان بالتوحيد والمعاد هي تلك التطبيقات العملية والحيّة لها ، فالقرآن في هذه السورة يدعو الناس الى الوفاء بالعهد وصلة الأرحام والصبر والاستقامة والإنفاق في السرّ والعلانية والنهي عن الانتقام.

ويوضّح لهم انّ الدنيا فانية ، والطمأنينة والراحة لا تحصلان الّا في ظلّ الايمان بالله.

وفي النهاية يأخذ بأيدي الناس ويغور بهم في اعماق التاريخ ، ويريهم العواقب السيّئة للذين طغوا وعصوا وابعدوا الناس عن الحقّ ، ويختم السورة بتهديد الكفّار بعبارات وجمل لاذعة.

اذن فالسورة تبتدئ بالعقائد والايمان وتنتهي بالبرامج التربوية للإنسان.

* * *

٣٢٦

الآيات

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) )

التّفسير

آيات الله في السّماء والأرض وعالم النّبات :

مرّة اخرى نواجه الحروف المقطّعة في بداية هذه السورة ، والتي وردت في

٣٢٧

(29) سورة اخرى ، ولكن الحروف المقطّعة المذكورة هنا تتكوّن من( الم ) التي وردت في بداية عدّة سور ، و( الر ) والتي وردت في بداية سور اخرى ، وفي الواقع انّ هذه السورة تنفرد عن غيرها من السور ب( المر ) .

ومن المعتقد في تفسير الحروف المقطّعة انّ لها ارتباطا مباشرا بمعاني نفس السورة ، فمن المحتمل انّ هذا التركيب في بداية سورة الرعد يشير الى جمعها لمحتوى مجموعتين من السور التي تبتدئ ب( الم ) و( الر ) .

وإذا ما امعنا النظر في محتوى هذه السور نجدها مطابقة لما قلناه ، وبخصوص تفسير الحروف المقطّعة كانت لنا شروح مفصّلة عنها في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف فلا ضرورة في التكرار.

وعلى ايّة حال فالآية الاولى من هذه السورة تتحدّث عن عظمة القرآن( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ ) (1) .

ولا يوجد اي شك أو ترديد في هذه الآيات ، لانّها تبيّن عين الحقيقة للكون ونظامه المرتبط بالإنسان. فهو حقّ لا يشوبه باطل ، ولهذا السبب فإنّ علائم الحقّ واضحة فيه لا تحتاج الى براهين( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) .

لانّ الناس إذا ما تركوا وشأنهم ولم يتّبعوا معلما صادقا يهديهم ويربيهم في حياتهم وكانوا أحرارا في اتباع أهوائهم فانّهم سوف يتيهون في الطريق ويضلّون عن الحقّ.

وامّا إذا كان الرسل وهداة الحقّ هم الائمّة والقادة حيث يضع الفرد نفسه في تصرّفهم ، فإنّ الاكثرية تسير في طريق الحقّ.

ثمّ تتطرّق السورة الى شرح القسم المهمّ من ادلّة التوحيد وآيات الله في الكون ، وتتجوّل بالإنسان في عرض السّماوات وتريه الكواكب العظيمة واسرار هذا النظام وحركته ، حتّى يؤمن بالقدرة المطلقة والحكمة اللامتناهية( اللهُ الَّذِي

__________________

(1) استخدام تلك للبعيد ـ وكما قلنا سابقا ـ كناية عن عظمة القرآن واعجازه.

٣٢٨

رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) (1) .

الجملة( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) لها تفسيران :

1 ـ فكما ترون انّ السّماء مرفوعة بدون عمد (اي انّها في الأصل بلا عمد كما ترونها فعلا).

2 ـ والثانية ان (ترونها) صفة للعمد فيكون المعنى : انّ السّماء مرفوعة بعمد ولكن لا ترونها لانّها غير مرئية!

وهذا هو الذي يراه الامام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، ففي حديث رواه الحسين بن خالد قال : سألت الامام أبا الحسن الرضاعليه‌السلام : ما المقصود في قوله تعالى :( وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ) قال : هذه السّماء لها طرق الى الأرض ، فقلت له : كيف تكون لها طرق الى الأرض في الوقت الذي يقول سبحانه وتعالى :( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ) فأجابه الامام : «سبحان الله ، أليس الله يقول بغير عمد ترونها؟ قلت بلى ، فقال : ثمّ عمد ولكن لا ترونها»(2) .

انّ هذه الآية بالرغم من وجود هذا الحديث الذي يفسّرها ، فإنّها تكشف عن حقيقة علمية لم تكن معروفة عند نزول الآيات الكريمة ، لانّه في ذاك الوقت كانت نظرية «بطليموس» في الهيئة تتحكّم بكلّ قواها في المحافل العلمية في العالم وعلى أفكار الناس ، وطبقا لهذه النظرية فإنّ السّماوات عبارة عن اجرام متداخلة تشبه قشور البصل ، وانّها لم تكن معلّقة وبدون عمد ، بل كلّ واحدة منها تستند الى الاخرى.

ولكن بعد نزول هذه الآيات بألف سنة تقريبا توصل علم الإنسان الى انّ هذه الفكرة غير صحيحة ، فالحقيقة انّ الاجرام السّماوية لها مقرّ ومدار ثابت ، ولا

__________________

(1) (عمد) على وزن (صمد) «وعمد» على وزن (زحل) والاثنان جمع عمود ، فالاوّل جمع ، والثّاني اسم الجمع (مجمع البيان ذيل الآية).

(2) الحديث في تفسير البرهان ، عن علي بن ابراهيم عن العياشي (البرهان ، المجلّد الثّاني ، ص 278).

٣٢٩

تستند الى شيء ، فالشيء الوحيد الذي يجعلها مستقرّة وثابتة في مكانها هو تعادل قوّة التجاذب والتنافر ، فالاولى تربط الاجرام فيما بينها ، والاخرى لها علاقة بحركتها.

هذا التعادل للقوّتين الذي يشكّل اعمدة غير مرئيّة يحفظ الاجرام السّماوية ويجعلها مستقرّة في مكانها.

وفي الحديث عن الامام امير المؤمنينعليه‌السلام بخصوص هذا الموضوع قال : «هذه النّجوم التي في السّماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كلّ مدينة الى عمود من نور»(1) .

وهل نجد أوضح من هذا الوصف «عمود غير مرئي» او «عمود من نور» في ادب ذلك العصر لبيان أمواج الجاذبية وتعادل قوّتي الجذب والدفع. وللاطلاع اكثر راجع كتاب [القرآن وآخر الرسل] صفحة 166 وما بعدها.

( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) في خصوص معنى العرش والاستواء عليه هناك شرح واف عنه في ذيل الآية 54 من سورة الأعراف.

وبعد ان بيّن خلق السّماوات وهيمنة الخالق عليها ، تحدّث عن تسخير الشمس والقمر( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) .

ما أعظم هذا التسخير الذي يقع تحت ارادة ومشيئة الخالق ، وفي خدمة الوجود الانساني والكائنات الحيّة حيث يشعّ نورهما وتضيئان العالم ، وتحافظان على دفء الكائنات وتساعدانها على النمو ، وتخلقان ظاهرة الجزر والمدّ في البحار ، وخلاصة القول انّهما منشأ لجميع البركات ، ولكن هذا النظام المادّي ليس ابديّا ، بل( كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ) .

ثمّ يضيف بعد ذلك : انّ هذه الحركات والتغيّرات في الأحوال ليست بدون حساب وكتاب ، وبدون فائدة ونتيجة ، بل( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ

__________________

(1) سفينة البحار ، المجلد الثاني ، ص 574 نقلا من تفسير علي بن ابراهيم القمي.

٣٣٠

رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) .

وتعقيبا للآيات السّابقة التي نقلت الإنسان الى السّماء لتريه الآيات الالهيّة هناك ، تنقله الآية الثانية من آيات التوحيد الى كتاب الكون اي الأرض والجبال والأنهار وانواع الثمار وشروق الشمس وغروبها ، حتّى يتفكّر في محل استقراره في البداية ماذا كان؟ وكيف أصبح الآن بهذه الصورة؟

قوله تعالى :( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ) وبسطها بالشكل الذي تتهيّأ فيه لحياة الإنسان ونمو النباتات والحيوانات ، وملا الاودية والمنحدرات الصعبة بالتراب من خلال تفتّت الصخور الجبليّة ، وجعل الأرض مسطّحة وقابلة للسكن ، بعد ان كانت التضاريس مانعة من سكن الإنسان عليها.

وقد يحتمل في تفسير هذه الجملة( مَدَّ الْأَرْضَ ) الاشارة الى ما يقوله علماء الطبيعة من انّ الأرض كانت مغطاة بالماء. ثمّ استقرّت المياه في الوديان ظهرت اليابسة ، وبمرور الوقت اتّسعت حتّى أصبحت على ما نراه اليوم.

ثمّ يشير القرآن الكريم الى ظهور الجبال( وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ ) فهي تلك الجبال التي عبّرت عنها في آيات اخرى ب (الأوتاد) ولعلّ ذلك اشارة الى انّها متشابكة فيما بينها من الأسفل مثلها مثل الدرع الواقي وتغطّي سطح الأرض ، فهي تبطل الضغوط الداخلية في الأسفل والضغط الخارجي المتمثّل بجاذبية القمر والمدّ والجزر. وكذلك تقضي على الاضطرابات والزلازل ، وتجعل الأرض مستقرّة وساكنة وصالحة لحياة الإنسان.

انّ ذكر القرآن الكريم الجبال بعد مدّ الأرض يحتمل ان يكون المراد منه انّ الأرض ليست منبسطة بشكل تامّ بحيث تنعدم فيها المرتفعات ، ففي هذه الصورة لا تستقرّ فيها الأمطار والمياه ، او تتحوّل الى مستنقعات وتجري فيها السيول وتتعرّض للطوفانات الدائمة ، فخلق الجبال لتأمن البشرية من هذين الأمرين.

وليست الأرض كلّها جبالا ووديانا فتكون غير قابلة للسكن ، بل تحتوي

٣٣١

على مناطق منبسطة ومناطق جبلية ووديان ، وهذه أفضل صيغة لحياة الإنسان والكائنات الحيّة. ثمّ تضيف الآية بعد ذلك الأنهار( وَأَنْهاراً ) .

رائع جدّا نظام سقي الأرض بواسطة الجبال ، وعلاقة الأنهار بالجبال ، لانّ كثيرا من الجبال تختزن المياه بشكل ثلوج على قممها وفي شقوق الوديان ، ثمّ تذوب تدريجيّا ، وطبقا لقانون الجاذبية تأخذ طريقها من المناطق المرتفعة الى المناطق المنخفضة بدون ان تحتاج الى قوّة اخرى لمساعدتها ، فهي تقوم بسقي كثير من المناطق وبشكل طبيعي على مدار السنة.

فلو لم يكن للأرض انحدار كاف ولم تختزن الجبال المياه بهذا الشكل ، لكان سقي كثير من المناطق اليابسة صعبا ، وفي حالة الإمكان كنّا نحتاج الى صرف مبالغ هائلة لإيصال الماء إليها.

ثمّ يذكر القرآن بعد ذلك النّباتات والأشجار التي تتكوّن من الأرض والمياه واشعّة الشمس ، والتي هي أفضل وسيلة لإمرار الإنسان بالغذاء :( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) .

والآية تشير هنا الى انّ الفاكهة كائنات حيّة فيها الذكر والأنثى ، وبواسطة التلقيح تتكوّن الثمار.

فإذا كان العالم السّويدي «لينه» المختص بعلم النبات هو الذي توصّل الى هذه الحقيقة في حوالي منتصف القرن الثامن عشر الميلادي وهي انّ التزويج في عالم النباتات يعتبر قانونا عامّا تقريبا كالحيوانات ولها نطف ذكرية وانثوية وانّ الثمرة تتكوّن من التلقيح. فالقرآن الكريم قبل الف ومائة عام من ذلك كشف لنا عن هذه الحقيقة ، وهذه واحدة من معاجز القرآن العلمية التي تبيّن عظمة هذا الكتاب السّماوي الكبير.

وليس من شكّ انّ ما قبل «لينه» كان كثير من العلماء يعتقدون بوجود الذكور والإناث في بعض الأشجار ، حتّى الناس العاديين كانوا يعلمون بذلك ،

٣٣٢

ولكن لم يكن يعلم اي واحد انّ هذا القانون عام ، حتّى كشفه «لينه» ومن قبله القرآن الكريم.

وبما انّ حياة الإنسان وكلّ الكائنات ـ وخصوصا النباتات ـ لا يمكن لها الاستمرار الّا بوجود نظام دقيق للّيل والنهار ، فإنّ القرآن يشير الى ذلك في القسم الآخر من الآية( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ) .

ولو لا ظلمة الليل وهدوؤه ، لأحرقت الشمس بنورها المستمر كلّ النباتات ، ولم تبق فاكهة ولا اي كائن حي على وجه الأرض ، فسطح القمر ليس له نهار دائم ومع هذا نجد ان حتّى هذا المقدار من نهاره الذي يعادل خمسة عشر يوما من ايّام الأرض. نرى انّ درجة فيها مرتفعة جدّا بحيث لو وضعنا هناك ماءا او اي سائل آخر فسوف يغلي ويتبخّر ، ولا يمكن لاي موجود حيّ في الأرض ان يتحمّل هذه الحرارة.

وتبيّن الآية في النهاية( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) أولئك الذين يتفكّرون في هذا النظام الرائع ، في نظام النّور والظلام ، وحركة الاجرام السّماوية ، وتسخير الشمس والقمر وجعلها في خدمة الإنسان ، وفي نظام مدّ الأرض واسرار خلق الجبال والأنهار والنّباتات ، نعم! فهم يرون بوضوح في هذه الآيات الحكمة المطلقة والقدرة اللامتناهية للخالق العلّام.

وفي الآية الاخيرة من هذه المجموعة يشير القرآن الكريم الى عدّة نقاط حول علم الأرض وعلم النّبات ، والتي تعبّر عن النظام الدقيق للخلقة ، يقول اوّلا( وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ) (1) فبالرغم من انّ هذه القطع متصلة مع بعضها البعض ، فإنّ لكلّ واحد منها بناءه وتركيبه الخاص به ، فبعضها قوي والآخر ضعيف ، وبعضها مالح والآخر حلو ، وكلّ قطعة لها الاستعداد في تربية نوع خاص

__________________

(1) متجاور بمعنى الجار وما يكون قريبا ، فقوله :( قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ) يقصد منه انّ هذه القطع مختلفة وليست متساوية ، والّا لم يكن للجملة معنى.

٣٣٣

من النباتات وأشجار الفاكهة والزراعة ، لانّ احتياجات الإنسان والحيوان كثيرة ومتفاوتة ، وقد تكون لكلّ قطعة من الأرض المسؤولية في تلبية احدى هذه الحاجات. وامّا إذا كانت في مستوى واحد ، او لم تكن استعداداتها مقسّمة بالشكل المطلوب ، لكان الإنسان يمرّ بأزمة ونقص في مواده الغذائية والطبية وسائر الاحتياجات الاخرى ، ولكن هذا التقسيم المناسب للمسؤولية وتوزيعها على القطعات المختلفة للأرض سوف يسدّ الاحتياجات اللازمة للإنسان.

قوله تعالى :( وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ) (1) ( صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ ) (2) .

«صنوان» جمع «صنو» بمعنى الغصن الخارج من اصل الشجرة ، وعليه فالكلمة تعني الاغصان المختلفة الخارجة من اصل الشجرة.

والملفت للنظر انّه يمكن ان يكون لكلّ واحد من هذه الاغصان نوع خاصّ من الثمر ، وهذه قد تشير الى قابلية الأشجار للتركيب. ففي بعض الأحيان يتمّ تركيب عدّة أغصان مختلفة على ساق واحدة ، وبعد نمو هذه التراكيب تعطي كلّ واحدة منها نوعا خاصا من الثمر ، فالتربة واحدة والساق والجذر واحد ولكن الثمر مختلف.

والأعجب من ذلك انّها تسقى بماء واحد( يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ) .

وقد نرى كثيرا انّه في الشجرة الواحدة او في غصن واحد توجد ثمار من نفس الصنف ولكن لها اطعمة وألوان مختلفة ، وفي العالم نشاهد اورادا كثيرة ، وقد يحمل الغصن الواحد اورادا مختلفة الألوان.

__________________

(1) «أعناب» جمع عنب و «النخيل» جمع نخلة ، ويحتمل انّهما ذكرتا بصيغة الجمع للدلالة على الأنواع المختلفة للعنب والتمر والتي قد تصل الى مئات الأنواع في العالم.

(2) وقد ذكروا معنى آخر لصنو ، وهو الشبيه ، ولكن يحتمل انّ هذا المعنى مأخوذ من نفس المعنى الذي ذكرناه آنفا.

٣٣٤

اي مختبر للأسرار هذا الذي يعمل في أغصان الأشجار ، والذي ينتج من مواد قليلة متحدة ، تركيبات مختلفة تؤمّن احتياجات الإنسان.

أليست هذه الأسرار تدلّ على وجود من يقود هذا النظام بالعلم والحكمة. وهنا في آخر الآية يقول تعالى :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

* * *

هناك عدّة نقاط :

1 ـ ما هي وجه العلاقة بين التوحيد والمعاد؟

كان الحديث في بداية الآية عن التوحيد واسرار الكون ، ولكن نقرا في نهايتها( يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) فما هي وجه العلاقة بين التوحيد والمعاد حتّى تكون الواحدة نتيجة للأخرى؟

للاجابة على هذا السؤال لا بدّ من ملاحظة ما يلي :

ا ـ انّ قدرة الله على إيجاد الكون دليل على قدرته في إعادته كما نقرا في الآية (29) من سورة الأعراف( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) او نقرا في أواخر سورة «يس» قوله تعالى :( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) .

ب ـ وكما قلنا في بحثنا عن المعاد ، فإنّه لا فائدة من خلق العالم إذا لم تكن الآخرة حقيقة ، لانّه لا يمكن ان تكون هذه الحياة هي الهدف من خلق هذا العالم الواسع. يقول القرآن الكريم ضمن آياته المتعلّقة بالمعاد من سورة الواقعة آية (62) :( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) (1) .

__________________

(1) للمطالعة اكثر راجع كتاب [المعاد والعالم بعد الموت].

٣٣٥

2 ـ الاعجاز العلمي للقرآن

هناك آيات كثيرة في القرآن المجيد أزاحت الستار عن مجموعة من الأسرار العلمية التي كانت خافية على العلماء في ذلك الوقت. وهذه واحدة من دلائل اعجاز وعظمة القرآن ، وغالبا ما كان يشير إليها كثير من المحقّقين في مسألة الاعجاز.

فمن جملة هذه الآيات ما ذكرناه آنفا وهي الآية التي تذكر الزوجية في النباتات ، فكما قلنا سابقا : انّ ظاهرة الزوجية في النباتات كانت معروفة للناس منذ القديم ولو بشكلها الجزئي ، ولكن لم تكن تعرف بشكل قانون عام حتّى أواسط القرن الثامن عشر حين استطاع العالم «لينه» والاوّل مرّة ان يكشف عن هذه الحقيقة ، ولكن القرآن الكريم اخبر بذلك قبل اكثر من الف عام.

كما أشار القرآن الى هذا الموضوع في سورة لقمان الآية 10 قوله تعالى :( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) .

كما اشارت إليها آيات اخرى.

3 ـ تسخير الشمس والقمر

قرانا في الآيات السابقة انّ الله سخّر الشمس والقمر ، كما نقرا في آيات كثيرة اخرى عن تسخير السّماء والأرض والليل والنهار للإنسان.

فنقرا في آية( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ ) (1) وفي آية اخرى( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ ) (2) ( سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) (3) ( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) (4) ( وَهُوَ

__________________

(1) ابراهيم ، 32.

(2) ابراهيم ، 32.

(3) النحل ، 12.

(4) ابراهيم ، 33.

٣٣٦

الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا ) (1) ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ) (2) ( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) (3) .

من مجموع هذه الآيات يمكن ان نستفيد ما يلي :

اوّلا : انّ الإنسان أكمل من جميع الموجودات في هذا العالم ، فمن وجهة اسلامية نرى انّ الشريعة الاسلامية تعطي للإنسان القيمة الكبيرة بحيث تسخّر له كلّ ما في الكون ، فهو خليفة الله ، وقلبه مستودع نوره!

ثانيا : ويتّضح انّ التسخير ليس المقصود منه انّ جميع هذه الكائنات هي تحت امرة الإنسان ، بل هي بقدر معيّن تدخل ضمن منافعه وخدمته ، وعلى سبيل المثال فإنّ تسخير الكواكب السّماوية من اجل ان يستفيد الإنسان من نورها او لفوائد اخرى.

فلا يوجد اي مبدا يقيّم الإنسان بهذا الشكل ، ولا يوجد في ايّة فلسفة هذا المقام لشخصيته ، فهذه من خصائص المدرسة الاسلامية التي ترفع من قيمة الإنسان بهذا الشكل الكبير ، فالمعرفة بها لها اثر عميق على تربيته ، لانّه حينما يفكر الإنسان بتعظيم الله له ، وتسخير السحاب والهواء والشمس والقمر والنّجوم وجعلها في خدمته ، فمثل هذا الإنسان لا تعتريه الغفلة ولا يكون عبدا للشهوات وأسيرا للمال والمقام ، بل يحطّم القيود ويتطلّع الى آفاق السّماء.

كيف يمكن القول : انّ الشمس والقمر غير مسخّرين للإنسان في الوقت الذي نرى انّ في اشعّتها نور يضيء حياة الإنسان ويحافظ على دفئه ، ولولا اشعّة الشمس لما وجدت اي حركة او نشاط على الكرة الارضية ، ومن جهة اخرى فإنّ جاذبيتها تنظم حركة الأرض حول مدارها ، وتوجد ظاهرة المدّ والجزر في

__________________

(1) النحل ، 14.

(2) الحجّ ، 65.

(3) الجاثية ، 13.

٣٣٧

البحار بمساعدة القمر وهي بالتالي منبع لكثير من الفوائد والبركات.

فالبحار والأنهار ، والليل والنهار ، والفلك ، كلّ واحدة هي في خدمة الإنسان ومصالحه. والدقّة في هذا التسخير والنظام دليل واضح على عظمة وقدرة وحكمة الخالق المتعال.

* * *

٣٣٨

الآيتان

( وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) )

التّفسير

تعجّب الكفّار من المعاد :

بعد ما انتهينا من البحث السّابق عن عظمة الله ودلائله ، تتطرّق الآية الاولى من هذه المجموعة الى مسألة المعاد التي لها علاقة خاصّة بمسألة المبدإ ، ويؤكّد القرآن الكريم هذا المعنى حيث يقول :( وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (1) اي إذا أردت ان تتعجّب من قولهم هذا فتعجب لقولهم في

__________________

(1) ويحتمل في تفسير جملة( إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ) انّ المقصود منه ان تعجب من عبادتهم للأصنام فالأعجب ان ينكروا المعاد ، ولكن هذا الاحتمال غير وارد ، والصحيح ما هو ظاهر الآية المذكور في المتن.

٣٣٩

المعاد.

هذا التعجّب من المعاد كان موجودا عند جميع الأقوام الجاهلة ، فهم يظنّون انّ الحياة بعد الموت امر محال ، ولكنّنانرى انّ الآيات السابقة وآيات اخرى من القرآن الكريم تجيب على هذا التساؤل ، فما هو الفرق بين بدء الخلق والبعث من جديد؟ فالقادر الذي خلقهم اوّل مرّة باستطاعته ان يبعث الروح فيهم مرّة ثانية ، وهل نسي هؤلاء بداية خلقهم حتّى يجادلوا في بعثهم!؟

ثمّ يبيّن حالهم الحاضر ومصيرهم في ثلاث جمل :

يقول اوّلا :( أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ) لانّهم لو كانوا يعتقدون بربوبيّة الله لما كانوا يتردّدون في قدرة الله على بعث الإنسان من جديد ، وعلى هذا فسوء ظنّهم بالمعاد هو نتيجة لسوء ظنّهم بالتوحيد وربوبية الله.

والأمر الآخر انّه بكفرهم وعدم ايمانهم وخروجهم من ساحة التوحيد قيّدوا أنفسهم بالاغلال ، أغلال عبادة الأصنام والأهواء والمادة والجهل والخرافة ، وجعلوها في أعناقهم( وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ) .

ومثل هؤلاء الأشخاص ليس لهم عاقبة سوى دخول النّار( وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

وفي الآية الثانية يشير الى دعوى اخرى للمشركين حيث يقول :( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) بدلا من طلب الرحمة ببركة وجودك بينهم.

لماذا يصرّ هؤلاء القوم على الجهل والعناد؟ لماذا لم يقولوا : لو كنت صادقا لأنزلت علينا رحمة الله ، او لرفعت العذاب عنّا!؟ وهل يعتقدون بكذب العقوبات الالهيّة؟( وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ) (1) . ثمّ تضيف الآية( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ

__________________

(1) المثلات جمع «مثلة» بفتح الميم وضم الثاء ومعناها العقوبات النازلة على الأمم الماضية.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572