الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287772 / تحميل: 5230
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الآيات

( قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣) )

التّفسير

عاقبة الجماعة الظّالمة :

وأخيرا حين شاهد الملائكة رسل الله الأضياف ما عليه لوط من العذاب النفس كشفوا «ستارا» عن اسرار عملهم و( قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ) .

الطريف هنا انّ ملائكة الله لم يقولوا : لن يصلنا سوء وضرر ، بل قالوا : لن يصلوا إليك يا لوط فيؤذوك ويسيئوا إليك!

وهذا التعبير امّا لانّهم كانوا يحسبون انّهم غير منفصلين عن لوط لانّهم

٢١

أضيافه على كل حال ، وهتك حرمتهم هتك لحرمة لوط. او لانّهم أرادوا ان يفهموا لوطا بأنّهم رسل الله ، وانّ عدم وصول قومه إليهم بالاساءة امر مسلّم به ، بل حتى لوط نفسه الذي هو رجل من جنس أولئك لن يصلوا اليه بسوء ، وذلك بلطف الله وفضله.

نقرا في الآية (٣٧) من سورة القمر( وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ) وهذه الآية تدل على ان هؤلاء الجماعة الذين أرادوا السوء بأضياف لوط ، فقدوا بصرهم بإذن الله ، فلم يستطيعوا الهجوم عليهم. ونقرا في بعض الرّوايات ـ ايضا ـ انّ احد الملائكة غشّى وجوههم بحفنة من التراب فعموا جميعا.

وعلى كل حال ، فاطلاع لوطعليه‌السلام على حال أضيافه ومأموريتهم نزل كالماء البارد على قلبه المحترق واحسّ بلحظة واحدة ان ثقلا كبيرا من الغمّ والحيرة قد ازيل عن قلبه ، وأشرقت عيناه بالسرور والبهجة ، وعلم انّ مرحلة الغم والحيرة أشرفت على الانتهاء ، ودنا زمن السرور والنجاة من مخالب هؤلاء القوم المنحرفين المتوحشين.

ثمّ امر الأضياف لوطا ـ مباشرة ـ ان يرحل هو واهله من هذه البلدة وقالوا :( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) (١) .

ولكن كونوا على حذر( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) الى الوراء( إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ ) لتخلّفها عن امر الله وعصيانهم مع العصاة الظلمة.

وفي قوله تعالى :( لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) عند المفسّرين احتمالات عديدة.

الاوّل : لا ينظر احد الى ورائه مديرا وجهه الى الخلف.

الثّاني : لا تفكروا بما تركتم خلفكم من الأموال ووسائل المعاش ، انّما عليكم

__________________

(١) «أسر» مشتق من «الاسراء» وهو المسير ليلا ، وذكر الليل في الآية من باب توكيد الموضوع ، والقطع معناه ظلمة الليل ، اشارة الى ان يتحرك والناس نيام او مشغولون عنه بالشراب وحلك الليل ليخرج وهم في غفلة عنه.

٢٢

ان تنجوا أنفسكم من الهلاك.

الثّالث : لا يتخلف منكم احد عن هذه القافلة الصغيرة.

الرّابع : انّ الأرض ستضطرب حال خروجكم وستبدأ مقدمات العذاب فاهربوا بسرعة ولا تلتفتوا الى الوراء ولكن لا مانع من الجمع بين هذه الاحتمالات كلها في الآية(١) .

وخلاصة الأمر فإنّ آخر ما قاله رسل الله ـ اي الملائكة ـ للوطعليه‌السلام : انّ العذاب سينزل قومه صباحا. ومع اوّل شعاع للشمس سيحين غروب حياة هؤلاء :( إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ) .

ونقرا في بعض الرّوايات انّ الملائكة حين وعدوا لوطا بنزول العذاب صباحا ، سأل لوط الملائكة لشدة ما لقيه من قومه ممّا ساءه ، وجرح قلبه وملأه همّا وغمّا ان يعجلوا عليهم بالعذاب في الحال فإنّ الأفضل الاسراع ، ولكن الملائكة طمأنوه وسرّوا عنه بقولهم :( أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) .

وأخيرا دنت لحظة العذاب وتصرّمت ساعات انتظار لوط النّبيعليه‌السلام ، وكما يقول القرآن الكريم( فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ) .

وكلمة «سجّيل» فارسية الأصل ، وهي مركبة من «سنگ» ومعناها الحجارة و «گل» ومعناها الطين ، فعلى هذا هي شيء صلبا كالحجارة ولا رخوا كالزهرة ،

__________________

(١) في قوله( إِلَّا امْرَأَتَكَ ) هذا الاستثناء من اي جملة هو؟ للمفسّرين احتمالان : «الاوّل» انّه يعدّ استثناء من( لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) ومفهومها انّ لوطا واهله بما فيهم امرأته تحركوا للخروج من المدينة ولم يلتفت منهم احد كما أمرهم الرسل ، الا امراة لوط فإنّها بحكم علاقتها بقوم لوط وتأثرها على مصيرهم ، وقفت لحظة ونظرت الى الوراء ، وطبقا لبعض الرّوايات أصابها حجر من الأحجار التي كانت تهوي على المدينة فقتلت به. «الثاني» انّه استثناء من جملة( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ) فيكون معناها انّ جميع اهله ذهبوا معه ولكن امرأته بقيت في المدينة ولم يأخذها لوط معه ، ولكن الاحتمال الاوّل انسب.

٢٣

وانّما هي برزخ «وسط» بينهما.

و «المنضود» من مادة «نضد» ومعناه كون الشيء مصفوفا وموضوعا بشكل متتابع ومتراكم ، اي انّ هذا المطر كان متتابعا سريعا الى درجة حتى كأنّ هذه الأحجار تتراكب بعضها فوق بعض فتكون «منضودة».

ولكن هذه الأحجار ليست أحجارا عادية ، بل هي أحجار فيها علامات عند الله( مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ) .

ولا تتصوروا انّ هذه الأحجار مخصوصة بقوم لوط ، بل( وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) .

هؤلاء القوم المنحرفون ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم ، لعبوا بمصير أمتهم كما هزئوا بالايمان والأخلاق الانسانيّة ، وكلّما نصحهم نبيّهم بإخلاص وحرقة قلب لم يسمعوا له وسخروا منه ، وبلغت صلافتهم وعدم حيائهم حدّا انّهم أرادوا الاعتداء على ضيوف زعيمهم ويهتكوا حرمتهم.

هؤلاء الذين كانوا قد قلبوا كل شيء يجب ان تنقلب مدينتهم عليهم ، ولا يكفي ان يغدو عليها سافلها ، بل ليمطروا بوابل من الأحجار تدمّر كل شيء من «معالم الحياة» هناك ولا يبقى منهم سوى صحراء موحشة وقبور مظلمة تحت ركام الأحجار الصغيرة.

وهل انّ الذين ينبغي معاقبتهم هم قوم لوط فحسب؟ قطعا لا. فكل جماعة منحرفة وامّة ظالمة ينتظرها مثل هذا المصير ، فتارة تكون تحت وابل الأحجار ، وأخرى تحت ضربات القنابل المحرقة ، وحينا تحت ضغط الاختلافات الاجتماعية القاتلة ، وأخيرا فإنّ لكلّ شكلا من العذاب وصورة معينة.

* * *

٢٤

ملاحظات

١ ـ لم كان العذاب صباحا؟

ملاحظة الآيات المتقدمة تثير في ذهن القارئ هذا السؤال ، وهو ايّ اثر للصبح في هذا الأمر ، ولم لم ينزل العذاب في قلب الليل البهيم؟!

ترى هل كان ذلك لانّ الجماعة الذين هجموا على دار لوط فعموا وعادوا الى قومهم وحدثوهم بما جرى لهم ، فحينئذ فكر أولئك بما حدث! وانّ الله امهلهم الى الصباح لعلهم ينتبهون ويتوبون؟

او انّ الله لم يرد الاغارة عليهم في الليل ، ولذلك فقد امر الملائكة ان ينتظروا حتى يحين الصباح؟!

لم يرد في كتب التّفسير شيء من هذا ، ولكنّ ما ذكرناه آنفا احتمالات تستحق المطالعة.

٢ ـ لم قلب الله عاليها سافلها؟

قلنا : انّ العذاب ينبغي ان يتناسب مع الإثم ، وحيث انّ هؤلاء القوم قلبوا كل شيء عن طريق الانحراف الجنسي فإنّ الله جعل مدنهم عاليها سافلها ايضا ، وحيث كانوا دائما يتقاذفون بالكلمات البذيئة فيما بينهم ، فإنّ الله امطرهم بحجارة لتتهاوى على رؤوسهم ايضا.

٣ ـ لماذا الوابل من الأحجار؟!

وهل كان امطارهم بالأحجار الصغيرة قبل انقلاب المدن ، او كان مقترنا ومتزامنا معها ، او بعدها؟!

هناك اقوال بين المفسّرين ، والآيات القرآنية لم تصرّح بشيء في هذا الشأن ايضا ، لانّ الجملة عطفت بالواو ، وهي لمطلق العطف ولا يستفاد منها الترتيب.

٢٥

ولكن بعض المفسّرين ـ كصاحب المنار ـ يعتقد انّ مطر الأحجار امّا ان يكون قبل ان يقلب عاليها سافلها ، او مقترن مع القلب ، وذلك لينال بعض الافراد الذين التجأوا الى زاوية او معزل ولم يدفنوا تحت الانقاض جزاءهم العادل ولا تبقى لهم فرصة للهروب.

والرّواية التي تقول : انّ امراة لوط حين سمعت الصوت والتفتت لترى ما حدث أصابها حجر في الحال فقتلها ، هذه الرّواية تدل على انّ الأمرين «القلب ووابل المطر» حدثا مقترنين.

ولكن لو تجاوزنا عن ذلك فما يمنع ان يكون وابل الأحجار ـ لتشديد العذاب ـ بعد قلب المدن عاليها سافلها ، لتتوارى أرضهم وتنمحى آثارها تماما.

٤ ـ لماذا العلامة المتميّزة؟!

قلنا : انّ جملة( مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ) تفهمنا هذه المسألة الدقيقة ، وهي انّ هذه الأحجار كانت ذوات علائم خاصّة ومميّزة عند الله سبحانه ولكن كيف كانت علاماتها؟ هناك اقوال بين المفسّرين فقال بعضهم : كان في هذه الأحجار علامات تدل على انّها ليست كسائر الأحجار «العادية» بل هي خاصّة لنزول العذاب الالهي لئلا تختلط مع سقوط الأحجار الاخرى ، ولذا قال آخرون : انّ هذه الأحجار لم يكن لها شبه مع أحجار الأرض بل تدل مشاهدة وضعها على انّها أحجار سماويّة نزلت الى الكرة الارضية من خارجها.

وقال آخرون : هي علامات في علم الله ، انّ كل حجر منها يصيب شخصا بعلامته او يستهدف نقطة معينة ، وهي اشارة الى دقة الحساب في عقاب الله وجزائه بحيث يعلم ايّ شخص يصيبه اي حجر! وليس المسألة اعتباطيّة.

٢٦

٥ ـ تحريم الانحراف الجنسي

يعدّ الميل الجنسي الى المماثل «سواء وقع ذلك بين الرجال او بين النساء» من الذنوب الكبيرة في الإسلام ، وقد جعل الإسلام لكل من الحالتين حدا شرعيا.

فالحدّ الشرعي في «اللواط» هو القتل فاعلا كان الرجل ام مفعولا. وهناك طرق مبيّنة لهذا القتل في الفقه الاسلامي ، ويجب ان يعوّل على طرق معتبرة وقطعية لاثبات هذا الذنب وردت في الفقه الاسلامي وروايات المعصومين في هذا المجال. فلا يكفي لاقامة الحد الشرعي ـ وهو القتل هنا ـ حتى اقرار المذنب على نفسه ثلاث مرات ، بل يجب ان يقرّ على نفسه اربع مرات على الأقل.

وامّا الحدّ على المراة في عملية المساحقة فيكون بعد الإقرار بالذنب على نفسها اربع مرات ، او شهادة اربعة شهود «وبالشرائط المذكورة في الفقه» مائة جلدة ، وقال بعض الفقهاء ، إذا كانت المراة التي تقوم بهذا العمل الشنيع ذات بعل فحدّها القتل.

واقامة هذه الحدود لها شرائط دقيقة ذكرت في كتب الفقه الاسلامي.

والرّوايات التي تذم الميل الجنسي الى المماثل والمنقولة عن قادة الإسلام كثيرة ومذهلة والمطالع لهذه الرّوايات يحسّ انّ قبح هذا الذنب ليس له مثيل بين الذنوب.

نقرا مثلا من هذه الرّوايات رواية عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : «لمّا عمل قوم لوط ما عملوا بكت الأرض الى ربّها حتى بلغت دموعها السّماء ، وبكت السّماء حتى بلغت دموعها العرش ، فأوحى الله الى السّماء ان احصبيهم واوحى الى الأرض ان اخسفي بهم»(١) .

ونقرا في حديث للإمام الصادق انّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من جامع غلاما جاء

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٢٣١.

٢٧

يوم القيامة جنبا لا ينقّيه ماء الدنيا ، وغضب الله عليه ولعنه واعدّ له جهنم وساءت مصيرا. ثمّ قال : ان الذكر يركب الذكر فيهتز العرش لذلك»(١) .

ونقرا في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام «... والعامل على هذا من الرجال إذا بلغ أربعين سنة لم يتركه ، وهم بقية سدوم. امّا اني لست اعني بهم انّهم بقيتهم انّهم ولدهم ، ولكنّهم من طينتهم ، قال : قلت : سدوم التي قلبت ، قال : هي اربع مدائن «سدوم وصريم والدما وغميرا» او [ولدنا وعموّرا] إلخ(٢) .

ونقرا في رواية اخرى عن الامام امير المؤمنينعليه‌السلام انّه قال : «سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال»(٣) .

فلسفة تحريم الميول الجنسية لامثالها

بالرغم من انّ العالم الغربي مليء بالانحرافات الجنسية ، وانّ هذه الأعمال السيئة قد باتت متعارفة بحيث سمع انّ بعض الدول كبريطانيا وطبقا لقانون صدر بكل وقاحة من المجلس النيابي «البرلمان» فيها يجوز هذا الموضوع «اللواط او السحاق» ولكن شيوع هذه المنكرات لا يخفف من قبحها ومن مفاسدها الاخلاقية والاجتماعية والنفسية.

بعض اتباع المذاهب المادّية الذين تلوّثوا بمثل هذه المنكرات يقولون : نحن لا نجد محذورا طبيّا في هذا الأمر.

ولكنّهم لم يلتفتوا لي انّ كل انحراف جنسي له اثره السلبي في روحية الإنسان وبنائه النفسي يفقده توازنه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٢٤٩.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٢٥٣.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٢٥٥.

٢٨

توضيح ذلك ، انّ الإنسان الطبيعي والسليم يميل الى المخالف من جنسه ، اي انّ الرجل يميل الى المراة ، والمراة تميل الى الرجل ، وهذا الميل من اشدّ الغرائز المتجذرة فيه ، والضامن لبقاء نسله ، فأيّ عمل يؤدّي الى تحوير هذا الميل الطبيعي عن مساره فسيوجد نوعا من المرض والانحراف النفسي في الإنسان.

فالرجل الذي يميل الى نظيره من جنسه ، ليس رجلا كاملا ، وقد عدّ هذا الانحراف في كتب الأمور الجنسية «هموسكو اليسيم» اي الميل الجنسي للمماثل من أهم الانحرافات.

والاستمرار على هذا العمل وادامته يميت في الفرد الميل الجنسي الى المخالف. والشخص الذي يسلّم نفسه لممارسة هذا العمل معه يشعر شيئا فشيئا «باحساسات المراة» ويورث هذا العمل الطرفين «الفاعل والمفعول» ضعفا مفرطا في الجنس حتى انّه لا يستطيع بعد مدّة على المعاشرة الطبيعية مع جنسه المخالف.

ومع ملاحظة انّ الإحساسات الجنسيّه [بالنسبة للرجل والمراة] لها تأثيرها في أعضاء بدن كل منهما ، كما انّ لها تأثيرها على روحية كلّ منهما وأخلاقه.

تتّضح انّ فقدان الإحساسات الطبيعية الى اي درجة سيؤثر على روح الإنسان وجسمه حتى انه من الممكن ان يبتلى الافراد هؤلاء بالضعف الجنسي الذي يؤدّي الى عدم القدرة على الانجاب والتوليد.

وهؤلاء الأشخاص ـ غالبا ـ ليسوا أصحاء من الناحية النفسيّة ، ويحسون في داخلهم انّهم غرباء عن أنفسهم وغرباء عن مجتمعهم ويفقدون بالتدريج القدرة على الارادة التي هي أساس لكم نجاح وشرط من شروطه ، ويتكرس في روحهم نوع من الاضطراب والقلق.

وإذا لم يصمموا على إصلاح أنفسهم فورا ، ولم يستعينوا عند الضرورة والحاجة بالطبيب النفسي او الطبيب الجسمي فسيغدو هذا العمل عندهم عادة

٢٩

يصعب تركها ، فمن وعلى كلّ حال ، فإنّ اي وقت لترك هذا العمل القبيح لا يعدّ خارجا عن أوانه ، بل لا بدّ من التصميم الجاد.

ولا ريب انّ الحيرة والاضطراب النفسي قد يجرّ هؤلاء الى استعمال المواد المخدرة والمشروبات الكحولية ، كما يجرّهم الى انحرافات أخلاقية اخرى ، وهذا بنفسه شقاء عظيم.

الطريف انّنا نقرا في الرّوايات الاسلامية عبارة موجزة وذات معنى كبير تشير الى هذه المفاسد ، ومن هذه الرّوايات ما نقل عن الامام الصادقعليه‌السلام انّ رجلا سأله : لم حرّم الله اللواط؟ فقال سلام الله عليه : «من اجل انّه لو كان إتيان الغلام حلالا لاستغنى الرجال عن النساء وكان فيه قطع النسل وتعطيل الفروج وكان في اجازة ذلك فساد كبير»(١) .

وما يجدر ذكره انّ احد العقوبات الشرعية لهذا العمل انّ الإسلام حرم الزواج من اخت المفعول وامّه وبنته على الفاعل ، اي إذا تحقق اللواط قبل الزواج فعندئذ يحرم الزواج منهنّ حرمة مؤبدة.

وآخر ما ينبغي التذكير به هنا من المسائل الدقيقة ، ان جرّ الافراد الى مثل هذا الانحراف الجنسي له اسباب وعلل مختلفة ، حتى من ضمنها أحيانا طريقة التعامل والمعاشرة من قبل الوالدين مع ابنائهما ، او الغفلة عنهم وعدم مراقبة من معهم من بني جنسهم ، وطريقة معاشرتهم ومنامهم معا في بيت واحد ، كل ذلك له اثره الفاعل في هذا التلوّث والانحراف.

نحن نقرا في احوال قوم لوط انّ سبب انحرافهم وتلوثهم بهذا الذنب انّهم كانوا قوما بخلاء ، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام ولم يكونوا ليرغبوا في استضافة العابرين من المسافرين ، كانوا يوحون إليهم بداية الأمر انّهم يريدون ان يعتدوا عليهم جنسيا ليفرّ منهم الضيوف والمسافرون ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٢٥٢.

٣٠

ولكنّ هذا العمل أصبح بالتدريج مألوفا عندهم ونما عندهم الانحراف الجنسي وبلغ عملهم حدّا انّهم تلوّثوا بالآثام من قرنهم الى قدمهم(١) .

وربّما جرّ المزاح غير المناسب بين الذكور او بين الإناث الى هذا الانحراف ، فعلى كل حال ، ينبغي ملاحظة هذه المسائل بدقة انقاذ المنحرفين والملوّثين بهذا الذنب بسرعة ، ويطلب من الله التوفيق في هذا السبيل.

أخلاق قوم لوط :

ونقرا في الرّوايات والتواريخ الاسلامية اعمالا سيئة كانت عند قوم لوط سوى الانحراف الجنسي المشار اليه ، ومن هذه الأعمال ما ورد في «سفينة البحار» حيث نقرا ما يلي : قبل كانت مجالسهم ، تشتمل على انواع المناكير مثل الشتم والسخف والصفع والقمار وضرب المخراق وخذف الأحجار على من مرّ بهم ، وضرب المعازف والمزامير وكشف العورات(٢) .

وواضح انّ الانحراف في مثل هذه البيئة واعمال السوء تأخذ ابعادا جديدة كل يوم ، وبغض النظر عن قبح الأعمال السيئة ـ أساسا ـ تبلغ الحال درجة لا يرى عندها اي عمل في نظر تلك البيئة سيّئا او منكرا.

ويوجد في عصر تقدم العلوم من هم أشقى من قوم لوط حيث يسلكون نفس ذلك السبيل وقد تصل اعمال هؤلاء المخزية الى درجة ننسى عندها اعمال قوم لوط

* * *

__________________

(١) البحار ، ج ١٢ ، ص ١٤٧.

(٢) سفينة البحار ، ص ٥١٧.

٣١

الآيات

( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) )

التّفسير

مدين بلدة شعيب

مع انتهاء قصّة قوم لوط تصل النوبة الى قوم شعيب واهل مدين ، أولئك الذين حادوا عن طريق التوحيد وهاموا على وجوههم في شركهم وعبادة الأصنام ، ولم يعبدوا الأصنام فحسب ، بل الدّرهم والدينار والثروة والمال ، ومن اجل ذلك فإنّهم لوثوا تجارتهم الرابحة وكسبهم الوفير بالغش والبخس والفساد.

في بداية القصّة تقول الآيات( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ) وكلمة «أخاهم» كما أشرنا إليها سابقا تستعمل في مثل هذا التعبير لبيان منتهى المحبّة من قبل

٣٢

الأنبياء لقومهم ، لا لانّهم افراد قبيلته وقومه فحسب ، بل اضافة الى ذلك فإنّه يريد الخير لهم. ويتحرق قلبه عليهم ، فمثله مثل الأخ الودود.

و «مدين» على وزن «مريم» اسم لمدينة شعيب وقبيلته ، وتقع المدينة شرق خليج العقبة ، وأهلها من أبناء إسماعيل ، وكانوا يتاجرون مع اهل مصر ولبنان وفلسطين.

ويطلق اليوم على مدينة «مدين» اسم «معّان» ولكن بعض الجغرافيين أطلقوا اسم مدين على الساكنين بين خليج العقبة وجبل سيناء.

وورد في التوراة ايضا اسم «مديان» ولكن تسمية لبعض القبائل ، وطبيعي انّ اطلاق الاسم على المدينة وأهلها امر رائج(١) .

هذا النّبي وهذا الأخ الودود المشفق على قومه ـ كأي نبيّ في أسلوبه وطريقته في بداية الدعوة ـ دعاهم اوّلا الى ما هو الأساس والعماد والمعتقد وهو «التوحيد» وقال :( يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) .

لانّ الدعوة الى التوحيد دعوة الى هزيمة جميع «الطواغيت» والسنن الجاهلية ولا يتيسر ايّ إصلاح اجتماعي او اخلاقي بدونه.

ثمّ أشار الى احد المفاسد الاقتصادية التي هي من افرازات عبادة الأصنام والشرك ، وكانت رائجة عند اهل مدين يومئذ جدّا ، وقال :( وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ ) اي حال البيع والشراء.

و «المكيال» و «الميزان» من أدوات الوزن يعرف بهما وزن المبيع ومقداره ، ونقصانه يعني عدم إيفاء حقوق الناس والبخس في البيع.

ورواج هذين الأمرين بينهم يدل على عدم النظم والحساب والميزان في اعمالهم ونموذجا للظلم والجور والإجحاف في ذلك المجتمع الثري.

ويشير هذا النّبي العظيم بعد هذا الأمر الى علّتين :

__________________

(١) أعلام القرآن ، ص ٥٧٣.

٣٣

العلّة الاولى : هي قوله( إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ ) .

يقول اوّلا : انّ قبول نصحي يكون سببا لتفتح أبواب الخير عليكم وتقديم التجارة وهبوط سطح القيمة واستقرار المجتمع.

ويحتمل ايضا في تفسير هذه الجملة( إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ ) انّ شعيبا يقول لهم : انّي أراكم منعمين وفي خير كثير ، فعلى هذا لا مدعاة لعبادة الأصنام واضاعة حقوق الناس والكفر بدلا من الشكر على نعم الله سبحانه.

وثانيا :( وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ) بسبب إصراركم على الشرك والتطفيف في الوزن وكفران النعمة إلخ.

وكلمة «محيط» جاءت صفة ليوم ، اي يوم شامل ذو احاطة ، وشمول اليوم يعني شمول العذاب والعقاب في ذلك اليوم ، وهذا التعبير فيه اشارة الى عذاب الآخرة كما يشير الى عقاب الدنيا الشامل.

فعلى هذا لا أنتم بحاجة الى مثل هذه الأعمال ، ولا ربّكم غافل عنكم ، فينبغي إصلاح أنفسكم عاجلا.

والآية الاخرى تؤكّد على نظامهم الاقتصادي ، فإذا كان شعيب قد نهى قومه عن قلّة البيع والبخس في المكيال ، فهنا يدعوهم الى إيفاء الحقوق والعدل والقسط حيث يقول :( وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ) .

ويجب ان يحكم هذا الأصل «وهو اقامة القسط والعدل ، وإعطاء كل ذي حقّ حقه» على مجتمعكم بأسره.

ثمّ يخطو خطوة أوسع ويقول :( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ) و «البخس» ومعناه في اللغة التقليل ، وجاء هنا بمعنى الظلم ايضا. ويطلق على الاراضي المزروعة دون سقي «انّها بخس» لانّ ماءها قليل ، حيث تعتمد على ماء المطر فحسب ، او انّ هذه الاراضي قليلة الانتاج بالنسبة الى الاراضي الزراعية الاخرى.

٣٤

وإذا توسعنا في معنى هذه الكلمة ومفهوم الجملة وجدناها دعوة الى رعاية جميع الحقوق الفردية والاجتماعية ولجميع الملل والنحل ، ويظهر «بخس الحق» في كل محيط وعصر وزمان بشكل معين حتى بالمساعدة دون عوض أحيانا ، والتعاون وإعطاء قرض معين (كما هي طريقة المستعمرين في عصرنا).

ونجد في نهاية الآية انّ شعيبا يخطو خطوة اخرى أوسع ويقول لقومه :( وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) .

فالفساد يقع عن طريق البيع ويقع عن طريق غصب حقوق الناس والاعتداء على حقوق الآخرين ، والفساد ايضا يقع في الإخلال بالموازين والمقاييس الاجتماعيّة ، ويقع ايضا ببخس الناس أشياءهم وأموالهم ، وأخيرا يقع الفساد على الحيثيات بالاعتداء على حرمتها وعلى النواميس وأرواح الناس.

وجملة «لا تعثوا» معناها «لا تفسدوا» بدلالة ذكر مفسدين بعدها لمزيد التوكيد على هذا الموضوع.

انّ الآيتين المتقدمتين تعكسان هذه الواقعية بجلاء ، وهي انّه بعد الاعتقاد بالتوحيد والنظر الفكري الصحيح ، ينظر الى الاقتصاد السليم بأهمية خاصّة ، كما تدلّان على انّ الإخلال بالنظام الاقتصادي سيكون أساسا للفساد الوسيع في المجتمع.

ثمّ يخبرهم انّ زيادة الثروة ـ التي تصل الى أيديكم عن طريق الظلم واستثمار الآخرين ـ ليست هي السبب في غناكم ، بل ما يغنيكم هو( بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

التعبير بـ «بَقِيَّتُ اللهِ » امّا لانّ الربح الحلال القليل المترشح عن امر الله فهو «بَقِيَّتُ اللهِ » وامّا لانّ الحصول على الرزق الحلال باعث على دوام نعم الله وبقاء البركات وامّا لانّه يشير الى الجزاء والثواب المعنوي الذي يبقى الى الأبد. فإنّ الدنيا فانية وما فيها لا محاله فان ، وتشير الآية (٤٦) من سورة الكهف :( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) الى هذا المضمون ايضا. والتعبير

٣٥

بقوله :( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) اشارة الى انّ هذه الواقعية لا يعرفها الّا المؤمنون بالله وحكمته وفلسفة أوامره.

ونقرا في روايات متعددة في تفسير( بَقِيَّتُ اللهِ ) انّ المراد بها وجود المهدي عجّل الله فرجه الشريف ، او بعض الائمّة الآخرين ، ومن هذه الرّوايات ما نقل عن الامام الباقرعليه‌السلام في كتاب إكمال الدين : «اوّل ما ينطق به القائمعليه‌السلام حين يخرج هذه الآية( بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ثمّ يقول : انا بقية الله وحجّته وخليفته عليكم ، فلا يسلّم عليه مسلم الّا قال : السّلام عليك يا بقية الله في ارضه»(١) .

وقد قلنا مرارا انّ آيات القرآن بالرغم من نزولها في موارد خاصّة ، الّا انّها تحمل مفاهيم جامعة وكلية ، بحيث يمكن ان تكون اثر مصداقا في العصور والقرون التالية وتنطبق على مجال أوسع ايضا.

صحيح انّ المخاطبين في الآية المتقدمة هم قوم شعيب ، والمراد من( بَقِيَّتُ اللهِ ) هو الربح وراس المال الحلال او الثواب الالهي ، الّا انّ كل موجود نافع باق من قبل الله للبشرية ، ويكون أساس سعادتها وخيرها يعدّ «بَقِيَّتُ اللهِ » ايضا.

فجميع أنبياء الله ورسله المكرمين هم «بَقِيَّتُ اللهِ » وجميع القادة الحقّ الذين يبقون بعد الجهاد المرير في وجه الأعداء فوجودهم في الامّة يعدّ «بَقِيَّتُ اللهِ » وكذلك الجنود المقاتلون إذا عادوا الى ذويهم من ميدان القتال بعد انتصاهم على الأعداء فهم «بَقِيَّتُ اللهِ » ومن هنا فإنّ «المهدي الموعود»عليه‌السلام آخر امام وأعظم قائد ثوري بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اجلى مصاديق «بَقِيَّتُ اللهِ » وهو أجدر من سواه بهذا اللقب ، خاصّة انّه الوحيد الذي بقي بعد الأنبياء والائمّةعليهم‌السلام .

وفي نهاية الآية ـ محل البحث ـ نقرا على لسان شعيب( وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) إذ وظيفته هي البلاغ وليس مسئولا على «إجبار» احد ابدا.

* * *

__________________

(١) نقلا عن تفسير الصافي ، في شرح المتقدمة.

٣٦

الآيات

( قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) )

التّفسير

المنطق الواهي :

والآن فلنر ما كان ردّ القوم اللجوجين إزاء نداء هذا المصلح السّماوي «شعيب».

٣٧

فبما انّهم كانوا يتصورون انّ عبادة الأصنام من آثار سلفهم الصالح ، ودلالة على اصالة ثقافتهم ، وكانوا لا يرفعون اليد عن الغش في المعاملة وتحقيق الربح الوفير عن هذا الطريق( قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا ) ونترك حريتنا في التصرف بأموالنا فلا نستطيع الاستفادة منها( أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا ) ان هذا بعيد منك( إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) ؟!

وهنا ينقدح هذا السؤال وهم لم سألوه عن الصلاة وأظهروا اهتمامهم بها؟! قال بعض المفسّرين : كان ذلك لانّ شعيبا كان يكثر من صلاته ويقول للناس : انّ الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكرات.

ولكن هؤلاء الأغبياء الذين لم يعرفوا السرّ والعلاقة بين الصلاة وترك المنكرات ، كانوا يسخرون من شعيب وكانوا يقولون له : أهذه الاذكار والأوراد والحركات التي تقوم بها تأمرك ان نترك ما يعبد آباؤنا ونهمل سنّة السلف وثقافتنا التقليدية او ان نسلب اختيارنا من التصرف بأموالنا كيف شئنا؟!

واحتمل البعض انّ «الصلاة» اشارة الى العقيدة والدين ، لانّها عبارة عن المظهر البارز للدين.

وعلى كل حال لو كان أولئك يفكرون جيدا لادركوا هذا الأمر الواقعي وهو انّ الصلاة توقظ في الإنسان الاحساس بالمسؤولية والتقوى ومخافة الله ومعرفة الحقوق ، وتذكره بالله وبمحكمة عدل الله ، وتنفض عن قلبه غبار حبّ الذات وعبادة الذات! وتصرفه عن هذه الدنيا المحدودة والملوّثة الى عالم ما وراء الطبيعة ، الى عالم الصالحات وتزكية النفس ، ولذلك فهي تخلّصه من الشرك وعبادة الأصنام والتقليد الأعمى للسلف الجاهل وبخس الناس أشياءهم ، وعن انواع الغش والخداع إلخ.

كما ينقدح هنا سؤال آخر ، وهو : انّ قولهم لشعيب( إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ

٣٨

الرَّشِيدُ ) هل كان كلاما واقعيا من منطلق الايمان به ، ام هو على سبيل الاستهزاء والسخرية؟!

احتمل المفسّرون الوجهين ولكن مع ملاحظة أسلوب سؤالهم( أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ ) الذي يستبطن الاستهزاء ، يظهر انّ هذه الجملة على نحو الاستهزاء ، وهي اشارة الى انّ الإنسان الحليم الرشيد هو من لم يتعجل القول او الراي في امر دون ان يسبر غوره ويعرف كنهه ، والإنسان العاقل الرشيد هو من لم يسحق سنن قومه تحت رجليه ويسلب حريتهم في التصرف بأموالهم ، فيظهر انّك لم تسبر غور الأمور وليس لديك عقل حصيف وفكر عميق ، لانّ الفكر العميق والعقل يوجبان على الإنسان الّا يرفع يده عن طريقة السلف ، ولا يسلب من الآخرين الاختيار وحرية العمل.

ولكن شعيبا ردّ على من اتّهمه بالسفه وقلّة العقل بكلام متين و( قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ) (١) .

انّه يريد ان يفهم قومه انّ في عمله هذا هدفا معنويا وانسانيا وتربويا ، وانّه يعرف حقائق لا يعرفها قومه ، والإنسان دائما عدوّ ما جهل.

ومن الطريف انّه في هذه الآيات يكرر عبارة( يا قَوْمِ ) وذلك ليعبّئ عواطفهم لقبول الحق وليشعرهم بأنّهم منه وانّه منهم ، سواء أكان المقصود بالقوم القبيلة او الطائفة او الجماعة او الاسرة ، ام كان المقصود الجماعة التي كان يعيش وسطهم ويعدّ جزءا منهم.

ثمّ يضيف هذا النّبي العظيم قائلا :( وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ ) فلا تتصوروا انني أقول لكم لا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تنقصوا المكيال ، وانا ابخس الناس او انقص المكيال ، او أقول لكم لا تعبدوا الأوثان وانا افعل

__________________

(١) ينبغي الالتفات الى انّ جزاء الجملة الشرطية محذوف هنا وتقديره هكذا ، أفأعدل مع ذلك عمّا انا عليه من عبادته وتبليغ دينه.

٣٩

ذلك كلّه ، كلا فإنّني لا افعل شيئا من ذلك ابدا.

ويستفاد من هذه الجملة انّهم كانوا يتهمون شعيبا بأنّه كان يريد الربح لنفسه ، ولهذا فهو ينفي هذا الموضوع صراحة ويقول تعقيبا على ما سبق( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) .

وهذا هو هدف الأنبياء جميعا ، حيث كانوا يسعون الى إصلاح العقيدة ، وإصلاح الأخلاق ، وإصلاح العمل ، وإصلاح العلائق والروابط الاجتماعية وانظمتها( وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ) للوصول الى هذا الهدف.

وعلى هذا فإنني ، ولأجل أداء رسالتي والوصول الى هذا الهدف الكبير( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) .

وأسعى للاستعانة به على حل المشاكل ، وأتوكل عليه في تحمّل الشدائد في هذا الطريق ، وأعود اليه ايضا.

ثمّ ينبههم الى مسألة أخلاقية ، وهي انّه كثيرا ما يحدث للإنسان انّه لا يعرف مصالحه وينسى مصيره ، وذلك بسبب بغضه وعدائه بالنسبة لشخص آخر او التعصب الأعمى واللجاجة في شيء ما ، فيقول لهم( وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي ) فتبتلوا بما ابتلى به غيركم و( أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ ) وما حدث لقوم لوط من البلاء العظيم حيث امطرهم الله بحجارة من سجيل منضود وقلب مدنهم فجعل عاليها سافلها( وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ) فلا زمانهم بعيد عنكم كثيرا ، ولا مكان حياتهم ، كما انّ اعمالكم وذنوبكم لا تقل عن اعمالهم وذنوبهم ايضا.

و «مدين» التي كانت موطن شعيب لم تكن بعيدة عن موطن قوم لوط ، لانّ الموطنين كلاهما كانا من مناطق «الشامات» وإذا كان بينهما فاصل زمني ، فلم يكن الفاصل بالمقدار الذي يستدعي نسيان تأريخه ، وامّا من الناحية العملية فالفرق كبير بين الانحراف الجنسي الذي كان عليه قوم لوط والانحراف

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم.

وينبغي التنويه هنا إلى ضرورة الرجوع إلى المتخصص الثابت علمه وتمكنه في اختصاصه، بالإضافة إلى توفر عنصر الإخلاص في عمله فهل يصح أن نراجع طبيبا متخصصا ـ على سبيل المثال ـ غير مخلص في علمه؟!

ولهذا وضع شرط العدالة في مسائل التقليد إلى جانب الاجتهاد والأعلمية ، أي لا بدّ لمرجع التقليد من أن يكون تقيا ورعا بالإضافة إلى علميته في المسائل الإسلامية.

* * *

٢٠١

الآيات

( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) )

التّفسير

لكلّ ذنب عقابه :

ثمّة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الاستدلالية والمسائل الوجدانية بشكل مؤثر في نفوس السامعين ، والآيات أعلاه نموذج لهذا الأسلوب.

فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النّبوة والمعاد ، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين.

فتبتدأ القول :( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) من الذين حاكوا الدسائس المتعددة حسبا منهم لإطفاء نور الحق والإيمان( أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ) .

فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أن تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون ، كما حصل مرارا لأقوام سابقة؟!

٢٠٢

«مكروا السيئات» : بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولا لأهدافهم المشؤمة السيئة ، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما مارسوه من إيذاء وتعذيب للمؤمنين المخلصين.

«يخسف» : من مادة «خسف» ، بمعنى الاختفاء ، ولهذا يطلق على اختفاء نور القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف) ، يقال (بئر مخسوف) للذي اختفى ماؤه ، وعلى هذا يسمّى اختفاء الناس والبيوت في شق الأرض الناتج من الزلزلة خسفا.

ثمّ يضيف :( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) أي عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات.( فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

وكما قلنا سابقا ، فإنّ «معجزين» من الإعجاز بمعنى ازالة قدرة الطرف الآخر ، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.

أو أنّ العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي ومقرونا بالأنذار المتكرر :( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ ) .

فاليوم مثلا ، يصاب جارهم ببلاء ، وغدا يصاب أحد أقربائهم ، وفي يوم آخر تتلف بعض أموالهم والخلاصة ، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو الأخرى ، فإن استيقظوا فما أحسن ذلك ، وإلّا فسيصيبهم العقاب الإلهي ويهلكهم.

إنّ العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه المجموعة ، واللهعزوجل لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

ومن الملفت للنظر في الآيات مورد البحث ، ذكرها لأربعة أنواع من العذاب الإلهي :

الأوّل : الخسف.

الثّاني : العقاب المفاجئ الذي يأتي الإنسان على حين غرة من أمره.

الثّالث : العذاب الذي يأتي الإنسان وهو غارق في جمع الأموال وتقلبه في

٢٠٣

ذلك.

الرّابع : العذاب والعقاب التدريجي.

والمسلم به أنّ نوع العذاب يتناسب ونوع الذنب المقترف ، وإن وردت جميعها بخصوص( الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) لعلمنا أنّ أفعال الله لا تكون إلّا بحكمة وعدل.

وهنا لم نجد رأيا للمفسّرين ـ في حدود بحثنا ـ حول هذا الموضوع ، ولكن يبدو أنّ النوع الأوّل من العقاب يختص بأولئك المتآمرين الذين هم في صف الجبارين والمستكبرين كقارون الذي خسف الله تعالى به الأرض وجعله عبرة للناس ، مع ما كان يتمتع به من قدرة وثروة.

أمّا النوع الثّاني فيخص المتآمرين الغارقين بملذات معاشهم وأهوائهم ، فيأتيهم العذاب الإلهي بغتة وهم لا يشعرون.

والنوع الثّالث يخص عبدة الدنيا المشغولين في دنياهم ليل نهار ليضيفوا ثروة إلى ثروتهم مهما كانت الوسيلة ، حتى وإن كانت بارتكاب الجرائم والجنايات وصولا لما يطمحون له! فيعذبهم الله تعالى وهم على تلك الحالة(1) .

وأمّا النوع الرّابع من العذاب فيخص الذين لم يصلوا في طغيانهم ومكرهم وذنوبهم إلى حيث اللارجعة ، فيعذبهم الله بالتخويف. أي يحذرهم بإنزال العذاب الأليم في أطرافهم فإن استيقظوا فهو المطلوب ، وإلّا فسينزل العذاب عليهم ويهلكهم.

وعلى هذا ، فإنّ ذكر الرأفة والرحمة الإلهية ترتبط بالنوع الرّابع من الذين مكروا السّيئات ، الذين لم يقطعوا كل علائقهم مع الله ولم يخربوا جميع جسور العودة.

* * *

__________________

(1) مع أنّ «التقلب» لغة ، بمعنى التردد والذهاب والمجيء ، مطلقا ولكن في هكذا موارد ـ كما قال أكثر المفسّرين وتأييد الرّوايات لذلك ـ بمعنى التردد في طريق التجارة وكسب المال ـ فتأمل.

٢٠٤

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) )

التّفسير

سجود الكائنات للهعزوجل :

تعود هذه الآيات مرّة أخرى إلى التوحيد بادئة ب :( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ ) (1) .

أي : ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات الله يمينا وشمالا لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟!

ويقول البعض : إنّ العرب تطلق على الظلال صباحا اسم (الظل) وعصرا

__________________

(1) داخر : في الأصل من مادة (دخور) أي : التواضع.

٢٠٥

(الفيء) ، وإذا ما نظرنا إلى تسمية (الفيء) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إشارة لطيفة لحقيقة إنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أن تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر.

ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال ، وإنّ كلمة الفيء استعملت للجميع فيستفاد من ذلك : أن الفيء هنا ذو معنى واسع يشمل كل أنواع الظلال.

فعند ما يقف الإنسان وقت طلوع الشمس متجها نحو الجنوب فإنّه سيرى شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق ، فتقع ظلال جميع الأشياء المجسمة على يمينه (جهة الغرب) ، ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو الجهة اليمنى لحين وقت الظهر، وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة (اليسرى) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق ، ثمّ تغيب وتنعدم عند غروب الشمس.

وهنا يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يمينا وشمالا بعنوانها مظهرا لعظمته جل وعلا واصفا حركتها بالسجود والخضوع.

أثر الظلال في حياتنا :

ممّا لا شك فيه أنّ لظلال الأجسام دور مؤثر في حياتنا ، ولعل الكثير منّا غير ملتفت إلى هذه الحقيقة ، فوضع القرآن الكريم إصبعه على هذه المسألة ليسترعي الانتباه لها.

للظلال (التي هي ليست سوى عدم النّور) فوائد جمّة :

1 ـ كما أنّ لأشعة الشمس دور أساسي في حياتنا ، فكذلك الظلال ، لأنّها تقوم بعملية تعديل شدّة الحرارة لأشعة الشمس.

إنّ الحركة المتناوبة للظلال تحفظ حرارة الشمس لحد متعادل ومؤثر ، وبدون

٢٠٦

الظلال فسيحترق كل شيء أمام حرارة الشمس الثابتة وبدرجة واحدة ولمدّة طويلة.

2 ـ وثمّة موضوع مهم آخر وربّما على خلاف تصور معظم الناس ، ألا وهو :إنّ النّور ليس هو السبب الوحيد في رؤية الأشياء ، بل لا بدّ من اقتران الظل بالنّور لتحقيق الرؤية بشكل طبيعي.

وبعبارة أخرى : إنّ النّور لو كان يحيط بجسم ما ويشع عليه باستمرار بما لا يكون هناك مجالا للظل أو نصف الظل ، فإنّه والحال هذه لا يمكن رؤية ذلك الجسم وهو غارق بالنّور

أي : كما أنّه لا يمكن رؤية الأشياء في الظلمة القائمة ، فكذا الحال بالنسبة للنور التام ، ويمكن رؤية الأشياء بوجود النّور والظلمة (النّور والظلال).

وعلى هذا يكون للظلال دور مؤثر جدّا في مشاهدة وتشخيص ومعرفة الأشياء وتمييزها ـ فتأمل.

وثمّة ملاحظة أخرى في الآية : وهي : ورود «اليمين» بصيغة المفرد في حين جاءت الشمال بصيغة الجمع «شمائل».

فالاختلاف في التعبير يمكن أن يكون لوقوع الظل في الصباح على يمين الذي يقف مواجها للجنوب ثمّ يتحرك باستمرار نحو الشمال حتى وقت الغروب حين يختفي في أفق الشرق(1) .

واحتمل المفسّرون أيضا : مع أن كلمة (اليمين) مفردا إلّا أنّه يمكن أن يراد بها الجمع في بعض الحالات ، وهي في هذه الآية تدل على الجمع(2) .

وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع ، أما في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجا عاما شاملا لكل الموجودات المادية وغير

__________________

(1) تفسير القرطبي ، ضمن تفسير الآية.

(2) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج 7 ، ص 110.

٢٠٧

المادية ، وفي أي مكان ، فيقول :( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) ، مسلمين لله ولأوامره تسليما كاملا.

وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة ، وما نؤديه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إلّا مصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.

وبما أنّ جميع مخلوقات الله في عالم التكوين والخلق مسلمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإرادة الإلهية فإنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا ، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين ، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباريعزوجل ، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله والخلاصة : كلها دليل على ذاته المقدسة.

«الدابة» : بمعنى الموجودات الحية ، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحية في السماوات والأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.

وقد احتمل البعض : عبارة «من دابة» قيد لـ «ما في الأرض» فقط ، أي : إنّ الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض.

ويبدو ذلك بعيدا بناء على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ) .

صحيح أنّ السجود والخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية ، ولكنّ تخصيص الإشارة بها لما تحمله من أسرار وعظمة الخلق أكثر من غيرها.

وبما أنّ مفهوم الآية يشمل كلا من : الإنسان العاقل المؤمن ، والملائكة ، والحيوانات الأخرى ، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود الاختياري والتشريعي وكذا التكويني الاضطراري.

أمّا الإشارة إلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأنّ الدابة تطلق على الكائنات الحيّة ذات الجسم المادي فقط ، بينما للملائكة حركة وحضور وغياب ،

٢٠٨

ولكن ليس بالمعنى المادي الجسماني كي تدخل ضمن مفهوم «الدابة».

وروي في حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى ، لا تقطر من دموعهم قطرة إلّا صارت ملكا ، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا : ما عبدناك حق عبادتك»(1) .

أمّا جملة( وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) فإشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيّ استكبار عند سجودها وخضوعها للهعزوجل .

ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرة وتأكيدا لنفي حالة الاستكبار عنهم :( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

كما جاء في الآية (6) من سورة التحريم في وصف جمع من الملائكة :( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

ويستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ علامة نفي الاستكبار شيئان :

أ ـ الشعور بالمسؤولية وإطاعة الأوامر الإلهية من دون أي اعتراض ، وهو وصف للحالة النفسية لغير المستكبرين.

ب ـ ممارسة الأوامر الإلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدة لذلك

وهذا انعكاس للأول ، وهو التحقيق العيني له.

وممّا لا ريب فيه أنّ عبارة( مِنْ فَوْقِهِمْ ) ليست إشارة إلى العلو الحسي والمكاني ، بل المراد منها العلو المقامي ، لأنّ اللهعزوجل فوق كل شي مقاما.

كما نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام :( وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ) ، وكذلك في الآية (127) من سورة الأعراف :( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) حينما أراد فرعون أن يظهر قدرته وقوته!

* * *

__________________

(1) مجمع ذيل البيان ، ذيل الآية المبحوثة.

٢٠٩

الآيات

( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) )

التّفسير

دين حق ومعبود واحد :

تتناول هذه الآيات موضوع نفي الشرك تعقيبا لبحث التوحيد ومعرفة الله عن طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة ، لتتّضح الحقيقة من خلال المقارنة بين الموضوع ، ويبتدأ ب :( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .

وتقديم كلمة «إيّاي» يراد بها الحصر كما في «إيّاك نعبد» أي : يجب الخوف

٢١٠

من عقابي لا غير.

ومن الملفت للنظر أنّ الآية أشارت إلى نفي وجود معبودين في حين أن المشركين كانوا يعبدون أصناما متعددة.

ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى إحدى النقاط التالية أو إلى جميعها :

1 ـ إنّ الآية نفت عبادة اثنين ، فكيف بالأكثر؟!

وبعبارة أخرى : إنّها بيّنت الحد الأدنى للمسألة ليتأكّد نفي الأكثر ، وأيّ عدد ننتخبه (أكثر من واحد) لا بدّ له أن يمر بالإثنين.

2 ـ كل ما يعبد من دون الله جمع في واحد ، فتقول الآية : أن لا تعبدوها مع الله ، ولا تعبدوا إلهين (الحق والباطل).

3 ـ كان العرب في الجاهلية قد انتخبوا معبودين :

الأوّل : خالق العالم ، أي اللهعزوجل وكانوا يؤمنون به.

والثّاني : الأصنام ، واعتبروها واسطة بينهم وبين الله ، واعتبروها كذلك منبعا للخير والبركة والنعمة.

4 ـ يمكن أن تكون الآية ناظرة إلى نفي عقيدة (الثنويين) القائلين بوجود إله للخير وآخر للشر ، ومع انتخابهم لأنفسهم هذا المنطق الضعيف الخاطئ ، إلّا إنّ عبدة الأصنام قد غالوا حتى في هذا المنطق وتجاوزوه لمجموعة من الآلهة!

وينقل المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي في تفسير هذه الآية عبارة لطيفة نقلها عن بعض الحكماء : (نهاك ربك أن تتخذ إلهين فاتخذت آلهة ، عبدت : نفسك وهواك ، وطبعك ومرادك ، وعبدت الخلق فأنّى تكون موحدا).

ثمّ يوضح القرآن أدلة توحيد العبادة بأربعة بيانات ضمن ثلاث آيات فيقول أوّلا( وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فهل ينبغي السجود للأصنام التي لا تملك شيئا ، أم لمن له ما في السموات والأرض؟

ثمّ يضيف :( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) .

٢١١

فعند ما يثبت أن عالم الوجود منه ، وهو الذي أوجد جميع قوانينه التكوينية فينبغي أن تكون القوانين التشريعية من وضعه أيضا ، ولا تكون طاعة إلّا له سبحانه.

«واصب» : من «الوصوب» ، بمعنى الدوام. وفسّرها البعض بمعنى (الخالص) (ومن الطبيعي أن ما لم يكن خالصا لم يكن له الدوام. أما الذين اعتبروا «الدين» هنا بمعنى الطّاعة ، فقد فسّروا «واصبا» بمعنى الواجب ، أي : يجب إطاعة الله فقط.

ونقرأ في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ شخصا سأله عن قول الله( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) قال : «واجبا»(1) .

والواضح أنّ هذه المعاني متلازمة جميعها.

ثمّ يقول في نهاية الآية :( أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ ) .

فهل يمكن للأصنام أن تصدّ عنكم المكروه أو أن تفيض عليكم نعمة حتى تتقوها وتواظبوا على عبادتها؟!

هذا( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ) .

فهذه الآية تحمل لبيان الثّالث بخصوص لزوم عبادة الله الواحد جلّ وعلا ، وأنّ عبادة الأصنام إن كانت شكرا على نعمة فهي ليست بمنعمة ، بل الكل بلا استثناء منّعمون في نعم الله تعالى ، وهو الأحق بالعبادة لا غيره.

وعلاوة على ذلك( ... ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ) .

فإن كانت عبادتكم للأصنام دفعا للضر وحلا للمعضلات ، فهذا من الله وليس من غيره ، وهو ما تظهره ممارستكم عمليا حين إصابتكم بالضر ، فلمن تلتجئون؟ إنّكم تتركون كل شيء وتتجهون إلى الله.

وهذا البيان الرّابع حول مسألة التوحيد بالعبادة.

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 373.

٢١٢

«تجئرون» : من مادة (الجؤار) على وزن (غبار) ، بمعنى صوت الحيوانات والوحوش الحاصل بلا اختيار عند الألم ، ثمّ استعملت كناية في كل الآهات غير الاختيارية الناتجة عن ضيق أو ألم.

إنّ اختيار هذه العبارة هنا إشارة إلى أنّه عند ما تتراكم عليكم الويلات ويحل بكم البلاء الشديد تطلقون حينها صرخات الإستغاثة اللااختيارية وأنتم بهذه الحال ، أتوجهون النداء لغيره سبحانه وتعالى؟! فلما ذا إذن في حياتكم الاعتيادية وعند ما تواجهون المشاكل اليسيرة تلتجئون إلى الأصنام؟!

نعم. فالله سبحانه يسمع نداءكم في كل الحالات ويغيثكم ويرفع عنكم البلاء( ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) بالعود إلى الأصنام!

وفي الحقيقة فالقرآن في الآية يشير إلى فطرة التوحيد في جميع الناس ، إلّا أنّ حجب الغفلة والغرور والجهل والتعصب والخرافات تغطيها في الأحوال الاعتيادية.

ولكن ، عند ما تهب عواصف البلاء تنقلع تلك الحجب فيظهر نور الفطرة براقا من جديد ليرى الناس لمن يتوجهون ، فيدعون الله مخلصين بكامل وجودهم ، فيرفع عنهم أغطية البلاء المتأتية من تلك الحجب ، (لاحظوا أنّ الآية قالت :( كَشَفَ الضُّرَّ ) أي : رفع أغطية البلاء).

ولكن عند ما تهدأ العاصفة ويرتفع البلاء وتعودون إلى شاطئ الأمان ، تعاودون من جديد على الغفلة والغرور ، وتظهرون الشرك بعبادتكم للأصنام مجددا!

وفي آخر آية (من الآيات مورد البحث) يأتي التهديد بعد إيضاح الحقيقة بالأدلة المنطقية :( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) .

ويشبّه ذلك بتوجيه النصائح والإرشادات لمنحرف متخلف لا يفيد معه هذا الأسلوب المنطقي فيقطع معه الحديث باللين ليواجه بالتهديد عسى أن يرعوي

٢١٣

فيقال له : مع كل ما قلنا لك افعل ما شئت ولكن سترى نتيجة عملك عاجلا أم آجلا.

وعلى هذا فتكون اللام في «ليكفروا» يراد به التهديد ، وكذا «تمتعوا» أمر يراد به التهديد أيضا ، أمّا مجيء الفعل الأوّل بصيغة الغائب «ليكفروا» والثّاني بصيغة المخاطب «تمتعوا» ، فكأنه افترض غيابهم أوّلا فقال : ليذهبوا ويكفروا بهذه النعم ، وعند تهديدهم يلتفت إليهم ويقول : تمتعوا بهذه النعم الدنيوية قليلا فسيأتي اليوم الذي تدركون فيه عظم خطئكم وسترون عاقبة أعمالكم.

والآية (30) من سورة إبراهيم تشابه الآية المذكورة من حيث الغرض :( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) (1)

* * *

__________________

(1) احتمل جمع من المفسّرين : أنّ «ليكفروا» غاية ونتيجة للشرك والكفر الذي نسب إليهم في الآية التي قبلها ، فيكون المعنى أنّهم بعد إنجائهم من الضر تركوا طريق التوحيد وساروا في طريق الشرك ليكفروا بنعم الله وينكرونها.

٢١٤

الآيات

( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) )

التّفسير

عند ما كانت ولادة البنت عارا!

بعد أن عرضت الآيات السابقة بحوثا استدلالية في نفي الشرك وعبادة الأصنام ، تأتي هذه الآيات لتتناول قسما من بدع المشركين وصورا من عاداتهم القبيحة ، لتضيف دليلا آخرا على بطلان الشرك وعبادة الأصنام ، فتشير الآيات إلى ثلاثة أنواع من بدع وعادات المشركين:

٢١٥

وتقول أوّلا :( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ ) (1) .

وكان النصيب عبارة عن قسم من الإبل بقية من المواشي بالإضافة إلى قسم من المحاصيل الزراعية ، وهو ما تشير إليه الآية (136) من سورة الأنعام :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا :( تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

وسيكون بعد السؤال اعتراف لا مفر منه ثمّ الجزاء والعقاب ، وعليه فما تقومون به له ضرر مادي من خلال ما تعملونه بلا فائدة ، وله عقاب أخروي لأنّكم أسأتم الظن بالله واتجهتم إلى غيره.

أمّا البدعة الثّانية فكانت :( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ ) من التجسم ومن هذه النسبة.( وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ ) أي : إنّهم لم يكونوا ليقبلوا لأنفسهم ما نسبوا إلى الله ، ويعتبرون البنات عارا وسببا للشقاء!

وإكمالا للموضوع تشير الآية التالية إلى العادة القبيحة الثّالثة :( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) .(2)

ولا ينتهي الأمر إلى هذا الحد بل( يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ) .

ولم ينته المطاف بعد ، ويغوص في فكر عميق :( أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي

__________________

(1) ذكر المفسرون رأيين في تفسير «ما لا يعلمون» وضميرها :

الأول : أن ضمير «لا يعلمون» يعود إلى المشركين أي أن المشركين يجعلون للأصنام نصيبا وهم لا يعلمون لها خيرا وشرا (وهذا ما انتخبناه من تفسير).

والثاني : إن الضمير يعود إلى نفس الأصنام ، أي يجعلون للأصنام نصيبا في حين أنها لا تدرك ، لا تعقل ، لا تعلم! والتفسير الثاني يظهر نوعا من التضاد بين عبارات الآية ، لأن «ما» تستعمل عادة لغير العاقل و «يعلمون» تستعمل للعاقل عادة.

أما في التفسير الأول فـ «ما» تعود على الأصنام و «يعلمون» على عبدتها.

(2) الكظيم : تطلق على الإنسان الممتلئ غضبا.

٢١٦

التُّرابِ ) .

وفي ذيل الآية ، يستنكر الباري حكمهم الظالم الشقي بقوله :( أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

وأخيرا يشير تعالى إلى السبب الحقيقي وراء تلك التلوثات ، ألا هو عدم الإيمان بالآخرة :( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فكلّما اقترب الإنسان من العزيز الحكيم انعكس في روحه نور صفاته العليا من العلم والقدرة والحكمة وابتعد عن الخرافات والبدع والأفعال القبيحة.

وكلما ابتعد عنه تعالى غرق بقدر ذلك البعد في ظلمات الجهل والضعف والذلة والقبائح.

فالسبب الرئيسي لكل انحراف وقبح وخرافة هو الغفلة عن ذكر الله وعن محكمته العادلة في الآخرة ، أمّا ذكر الله والآخرة فدافع أصيل للإحساس بالمسؤولية ومحاربة الجهل والخرافة ، وعامل قدرة وقوة وعلم للإنسان.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا اعتبروا الملائكة بناتا لله؟

تطالعنا الكثير من آيات القرآن الكريم بأنّ المشركين كانوا يقولون بأنّ الملائكة بنات الله جلّ وعلا ، أو أنّهم كانوا يعتبرون الملائكة إناثا دون نسبتها إلى الله

كما في الآية (19) من سورة الزخرف :( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) ، وفي الآية (40) من سورة الإسراء :( أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً ) .

٢١٧

يمكن أن تكون هذه الإعتقادات بقايا خرافات الأقوام السابقة التي وصلت عرب الجاهلية ، أو ربما يحصل هذا الوهم بسبب ستر الملائكة عنهم وحال الاستتار أكثر ما يختص بحال النساء ، ولهذا تعتبر العرب الشمس مؤنثا مجازيا والقمر مذكرا مجازيا أيضا ، على اعتبار أنّ قرص الشمس لا يمكن للناظر إليه أن يديم النظر لأنه يستر نفسه بقوة نوره ، أمّا قرص القمر فظاهر للعين ويسمح للنظر إليه مهما طالت المدّة.

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى الكناية عن لطافة الملائكة ، والإناث أكثر من الذكور لطافة.

وعلى أية حال فهذه إحدى ترسبات الخرافات القديمة التي تكلست في مخيلة البشرية حتى وصلت للبعض ممن يعيش في يومنا هذا ، ولا تختص هذه الخرافة بقوم دون آخر لأنّنا نلاحظ وجودها في أدبيات عدد من لغات العالم! فنرى الأديب مثلا حينما يريد وصف جمال امرأة ينعتها بالملائكة ، وذاك الفنان الذي يريد أن يعبر عن الملائكة فيجعلها بهيئة النساء ، في حين أن الملائكة لا تملك جسما ماديا حتى يمكننا أن نصفه بالمذكر أو المؤنث.

2 ـ لما ذا شاع وأد البنات في الجاهلية؟

الوأد في واقعة أمر رهيب ، لأنّ الفاعل يقوم بسحق كل ما بين جوانحه من عطف ورحمة ، ليتمكن من قتل إنسان بريء ربّما هو من أقرب الأشياء إليه من نفسه!

والأقبح من ذلك افتخاره بعمله الشنيع هذا!

فأين الفخر من قتل إنسان ضعيف لا يقوى حتى للدفاع عن نفسه؟ بل كيف يدفن الإنسان فلذة كبده وهي حية؟!

وهذا ليس بالأمر الهيّن ، فأيّ إنسان ومهما بلغت به الوحشية لا يقدم على

٢١٨

هكذا جريمة بشعة من غير أن تكون لها مقدمات اجتماعية ونفسية واقتصادية عميقة الأثر والتأثير تدعوه لذلك

يقول المؤرخون : إنّ بداية وقوع هذا العمل القبيح كانت على أثر حرب جرت بين فريقين منهم في ذلك الوقت ، فأسر الغالب منهم نساء وبنات المغلوب ، وبعد مضي فترة من الزمن تمّ الصلح بينهم فأراد المغلوبون استرجاع أسراهم إلّا أنّ بعضا من الأسيرات ممن تزوجن من رجال القبيلة الغالبة اخترن البقاء مع الأعداء ورفضن الرجوع إلى قبيلتهن ، فصعب الأمر على آبائهن بعد أن أصبحوا محلا للوم والشماتة ، حتى أقسم بعضهم أن يقتل كل بنت تولد له كي لا تقع مستقبلا أسيرة بيد الأعداء!

ويلاحظ بوضوح ارتكاب أفظع جناية ترتكب تحت ذريعة الدفاع عن الشرف والناموس وحيثية العائلة الكاذبة فكانت النتيجة : ظهور بدعة وأد البنات القبيحة وانتشارها بين جمع منهم حتى أصبحت سنّة جاهلية ، ولفظاعتها فقد أنكرها القرآن الكريم بشدّة بقوله :( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (1) .

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى دور الطبيعة الإنتاجية للأولاد الذكور ، والنزوع إلى الطبيعة الاستهلاكية عند الإناث ، وما له من أثر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، فالولد الذكر بالنسبة لهم ذخر مهم ينفعهم في القتال والغارات وفي حفظ الماشية وما شابه ذلك من الفوائد ، في حين أنّ البنات لسن كذلك.

ومن جانب آخر فقد سببت الحروب والنزاعات القبلية قتل الكثير من الرجال والأولاد ممّا أدى لاختلال التوازن في نسبة الإناث إلى الذكور ، حتى وصل وجود الولد الذكر عزيزا ودفع الرجل لأن يتباهى بين قومه حين يولد له مولود ذكرا ، وينزعج ويتألم عند ولادة البنت ووصل حالهم لحد (كما يقول عنه

__________________

(1) سورة التكوير ، 9.

٢١٩

بعض المفسّرون) أنّ الرجل في الجاهلية يغيّب نفسه عن داره عند قرب وضع زوجته لئلا تأتيه بنت وهو في الدار! وإذا ما أخبروه بأنّ المولود ذكر فيرجع إلى بيته وبشائر الفرح تتعالى وجنتيه ، ولكنّ الويل كل الويل والثبور فيما لو أخبروه بأنّ المولود بنتا ويمتلئ غيظا وغضبا(1) .

وقصّة «الوأد» ملأى بالحوادث المؤلمة

منها : ما روي أنّ رجلا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلن إسلامه ، وجاءه يوما فسأله : إنّي أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تواب رحيم». قال : يا رسول الله إنّ ذنبي عظيم قال : «ويلك مهما كان ذنبك عظيما فعفو الله أعظم منه» ، قال : لقد سافرت في الجاهلية سفرا بعيدا وكانت زوجتي حبلى وعند ما عدت بعد أربع سنوات استقبلتني زوجتي فرأيت بنتا في الدار ، فقلت لها : ابنة من هذه؟ قالت : ابنة جازنا. فظننت أنّها سترحل عن دارنا بعد ساعة ، فلم تفعل ، ثمّ قلت لزوجتي:أصدقيني من هذه البنت؟ قالت : ألا تذكر أنّي كنت حاملة عند ما سافرت ، إنّها ابنتك. فنمت تلك الليلة مغتما ، أنام واستيقظ ، حتى اقترب وقت الصباح نهضت من فراشي وذهبت إلى فراش ابنتي فأخرجتها وأيقظتها وطلبت منها أن تصحبني إلى حائط النخل ، فتبعتني حتى اقتربنا من الحائط فأخذت بحفر حفيرة وهي تعينني على ذلك ، وعند ما انتهيت من ذلك وضعتها في وسط الحفرة وهنا فاضت عينا رسول الله بالدمع ثمّ وضعت يدي اليسرى على كتفها وأخذت أهيل التراب عليها بيدي اليمنى ، فأخذت تصرخ وتدافع بيديها ورجليها وتقول : أبي ما تصنع بي!؟ ثمّ أصاب لحيتي بعض التراب فرفعت يدها تمسحه عنها ، وأدمت ذلك حتى دفنتها.

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 20 ، ص 55.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572