الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287673 / تحميل: 5228
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مجرى واحداً يدلّ الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلّا ما تكلّفه بعض الناس من التأويل تحذّراً من لزوم خرق العادة و تعطّل قانون العلّيّة العامّ، و قد مرّ في الجزء الأوّل من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الإعجاز و خرق العادة.

و بعد ذلك كلّه فالآية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياتهعليه‌السلام و عدم توفيه بعد.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) .( إِنْ ) نافية و المبتدأ محذوف يدلّ عليه الكلام في سياق النفي، و التقدير: و إن أحد من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ، و الضمير في قوله:( بِهِ ) و قوله:( يَكُونُ ) راجع إلى عيسى، و أمّا الضمير في قوله( قَبْلَ مَوْتِهِ ) ففيه خلاف.

فقد قال بعضهم: إنّ الضمير راجع إلى المقدّر من المبتدأ و هو أحد، و المعنى: و كلّ واحد من أهل الكتاب يؤمن قبل موته بعيسى أي يظهر له قبيل الموت عند الاحتضار أنّ عيسى كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عبده حقّاً و إن كان هذا الإيمان منه إيماناً لا ينتفع به، و يكون عيسى شهيداً عليهم جميعاً يوم القيامة سواء آمنوا به إيماناً ينتفع به أو إيماناً لا ينتفع به كمن آمن به عند موته.

و يؤيّده أنّ إرجاع ضمير:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) إلى عيسى يعود إلى ما ورد في بعض الأخبار أنّ عيسى حيّ لم يمت، و أنّه ينزل في آخر الزمان فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود و النصارى، و هذا يوجب تخصيص عموم قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) من غير مخصّص، فإنّ مقتضى الآية على هذا التقدير أن يكون يؤمن بعيسى عند ذلك النزول من السماء الموجودون من أهل الكتاب دون المجموع منهم، ممّن وقع بين رفع عيسى و نزوله فمات و لم يدرك زمان نزوله، فهذا تخصيص لعموم الآية من غير مخصّص ظاهر.

و قد قال آخرون: إنّ الضمير راجع إلى عيسىعليه‌السلام و المراد به إيمانهم به عند نزوله في آخر الزمان من السماء، استناداً إلى الرواية كما سمعت.

هذا ما ذكروه، و الّذي ينبغي التدبّر و الإمعان فيه هو أنّ وقوع قوله:( وَ يَوْمَ

١٤١

الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) في سياق قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) ظاهر في أنّ عيسى شهيد على جميعهم يوم القيامة كما أنّ جميعهم يؤمنون به قبل الموت، و قد حكى سبحانه قول عيسى في خصوص هذه الشهادة على وجه خاصّ، فقال عنه:( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) (المائدة: ١١٧).

فقصّرعليه‌السلام شهادته في أيّام حياته فيهم قبل توفّيه، و هذه الآية أعني قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) إلخ تدلّ على شهادته على جميع من يؤمن به فلو كان المؤمن به هو الجميع كان لازمه أن لا يتوفّى إلّا بعد الجميع، و هذا ينتج المعنى الثاني، و هو كونهعليه‌السلام حيّاً بعد، و يعود إليهم ثانياً حتّى يؤمنوا به. نهاية الأمر أن يقال: إنّ من لا يدرك منهم رجوعه إليهم ثانياً يؤمن به عند موته، و من أدرك ذلك آمن به إيماناً اضطراراً أو اختياراً.

على أنّ الأنسب بوقوع هذه الآية:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ) فيما وقع فيه من السياق أعني بعد قوله تعالى:( وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ - إلى أن قال -بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَ كانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً ) أن تكون الآية في مقام بيان أنّه لم يمت و أنّه حيّ بعد إذ لا يتعلّق ببيان إيمانهم الاضطراريّ و شهادته عليهم في غير هذه الصورة غرض ظاهر.

فهذا الّذي ذكرناه يؤيّد كون المراد بإيمانهم به قبل الموت إيمانهم جميعاً به قبل موتهعليه‌السلام .

لكنّ ههنا آيات اُخر لا تخلو من إشعار بخلاف ذلك كقوله تعالى:( إِذْ قالَ الله يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) (آل عمران: ٥٥) حيث يدلّ على أنّ من الكافرين بعيسى من هو باق إلى يوم القيامة، و كقوله تعالى:( وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) حيث إنّ ظاهره أنّه نقمة مكتوبة عليهم، فلا يؤمن مجتمعهم بما هو مجتمع اليهود أو مجتمع أهل الكتاب إلى يوم القيامة.

بل ظاهر ذيل قوله:( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ

١٤٢

الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) حيث إنّ ذيله يدلّ على أنّهم باقون بعد توفّي عيسىعليه‌السلام .

لكنّ الإنصاف أنّ الآيات لا تنافي ما مرّ فإنّ قوله:( وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) لا يدلّ على بقائهم إلى يوم القيامة على نعت أنّهم أهل الكتاب.

و كذا قوله تعالى:( بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ) (الآية) إنّما يدلّ على أنّ الإيمان لا يستوعبهم جميعاً، و لو آمنوا في حين من الأحيان شمل الإيمان منهم قليلاً من كثير. على أنّ قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) لو دلّ على إيمانهم به قبل موته فإنّما يدلّ على أصل الإيمان، و أمّا كونه إيماناً مقبولاً غير اضطراريّ فلا دلالة له على ذلك.

و كذا قوله:( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) (الآية) مرجع الضمير فيه إنّما هو الناس دون أهل الكتاب أو النصارى بدليل قوله تعالى في صدر الكلام:( وَ إِذْ قالَ الله يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ الله ) الآية: (المائدة: ١١٦)، و يدلّ على ذلك أيضاً أنّهعليه‌السلام من اُولي العزم من الرسل مبعوث إلى الناس كافّة، و شهادته على أعمالهم تعمّ بني إسرائيل و المؤمنين به و غيرهم.

و بالجملة، الّذي يفيده التدبّر في سياق الآيات و ما ينضمّ إليها من الآيات المربوطة بها هو أنّ عيسىعليه‌السلام لم يتوفّ بقتل أو صلب و لا بالموت حتف الأنف على نحو ما نعرفه من مصداقه - كما تقدّمت الإشارة إليه - و قد تكلّمنا بما تيسّر لنا من الكلام في قوله تعالى:( يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ ) (آل عمران: ٥٥) في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

و من غريب الكلام في هذا الباب ما ذكره الزمخشريّ في الكشّاف: أنّه يجوز أن يراد أنّه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ به على أنّ الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، و يعلمهم نزوله، و ما اُنزل له، و يؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم، و هذا قول بالرجعة.

و في معنى الآية بعض وجوه رديئة اُخرى:

١٤٣

منها: ما يظهر من الزجّاج أنّ ضمير قوله:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) يرجع إلى الكتابيّ و أنّ معنى قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) أنّ جميعهم يقولون: إنّ عيسى الّذي يظهر في آخر الزمان نحن نؤمن به.

و هذا معنى سخيف فإنّ الآيات مسوقة لبيان دعواهم قتل عيسىعليه‌السلام و صلبه و الردّ عليهم دون كفرهم به و لا يرتبط ذلك باعترافهم بظهور مسيح في آخر الزمان يحيي أمر شعب إسرائيل حتّى يذيّل به الكلام.

على أنّه لو كان المراد به ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر قوله:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) لارتفاع الحاجة بدونه، و كذا قوله( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) لأنّه على هذا التقدير فضل من الكلام لا حاجة إليه.

و منها: ما ذكره بعضهم أنّ المراد بالآية: و إن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ بمحمّد قبل موت ذلك الكتابيّ.

و هذا في السخافة كسابقه فإنّه لم يجر لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر في سابق الكلام حتّى يعود إليه الضمير. و لا أنّ المقام يدلّ على ذلك، فهو قول من غير دليل. نعم، ورد هذا المعنى في بعض الروايات ممّا سيمرّ بك في البحث الروائيّ التالي لكن ذلك من باب الجري كما سنشير إليه و هذا أمر كثير الوقوع في الروايات كما لا يخفى على من تتبّع فيها.

قوله تعالى: ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) الفاء للتفريع، و قد نكّر لفظ الظلم و كأنّه للدلالة على تفخيم أمره أو للإبهام، إذ لا يتعلّق على تشخيصه غرض مهمّ و هو بدل ممّا تقدّم ذكره من فجائعهم غير أنّه ليس بدل الكلّ من الكلّ كما ربّما قيل، بل بدل البعض من الكلّ، فإنّه تعالى جعل هذا الظلم منهم سبباً لتحريم الطيّبات عليهم، و لم تحرّم عليهم إلّا في شريعة موسى المنزلة في التوراة، و بها تختتم شريعة موسى، و قد ذكر فيما ذكر من فجائعهم و مظالمهم اُمور جرت و وقعت بعد ذلك كالبهتان على مريم و غير ذلك.

فالمراد بالظلم بعض ما ذكر من مظالمهم الفجيعة فهو السبب لتحريم ما حرّم

١٤٤

عليهم من الطيّبات بعد إحلالها.

ثمّ ضمّ إلى ذلك قوله:( وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الله كَثِيراً ) و هو إعراضهم المتكرّر عن سبيل الله:( وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) معطوف على قوله:( حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ ) فقد استوجبوا بمظالمهم من الله جزاءين: جزاء دنيويّ عامّ و هو تحريم الطيّبات، و جزاء أخرويّ خاصّ بالكافرين منهم و هو العذاب الأليم.

قوله تعالى: ( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) استثناء و استدراك من أهل الكتاب، و( الرَّاسِخُونَ ) و ما عطف عليه مبتدء و( يُؤْمِنُونَ ) خبره، و قوله:( مِنْهُمْ ) متعلّق بالراسخون و( مِنْ ) فيه تبعيضيّة.

و الظاهر أنّ( الْمُؤْمِنُونَ ) يشارك( الرَّاسِخُونَ ) في تعلّق قوله:( مِنْهُمْ ) به معنىّ و المعنى: لكن الراسخون في العلم و المؤمنون بالحقيقة من أهل الكتاب يؤمنون بك و بما اُنزل من قبلك، و يؤيّده التعليل الآتي في قوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) إلخ، فإنّ ظاهر الآية كما سيأتي بيان أنّهم آمنوا بك لمّا وجدوا أنّ نبوّتك و الوحي الّذي أكرمناك به يماثل الوحي الّذي جاءهم به الماضون السابقون من أنبياء الله: نوح و النبيّون من بعده، و الأنبياء من آل إبراهيم، و آل يعقوب، و آخرون ممّن لم نقصصهم عليك من غير فرق.

و هذا المعنى - كما ترى - أنسب بالمؤمنين من أهل الكتاب أن يوصفوا به دون المؤمنين من العرب الّذين وصفهم الله سبحانه بقوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ) (يس: ٦).

و قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) معطوف على( الرَّاسِخُونَ ) و منصوب على المدح، و مثله في العطف قوله:( وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) و قوله:( وَ الْمُؤْمِنُونَ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) مبتدء خبره قوله:( أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ) و لو كان قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) مرفوعاً كما نقل عن مصحف ابن مسعود كان هو و ما عطف عليه مبتدءً خبره قوله:( أُولئِكَ ) .

١٤٥

قال في المجمع: اختلف في نصب المقيمين فذهب سيبويه و البصريّون إلى أنّه نصب على المدح على تقدير أعني المقيمين الصلاة، قالوا: إذا قلت، مررت بزيد الكريم و أنت تريد أن تعرّف زيداً الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجرّ، و إذا أردت المدح و الثناء فإن شئت نصبت و قلت: مررت بزيد الكريم كأنّك قلت: أذكر الكريم، و إن شئت رفعت فقلت: الكريم، على تقدير هو الكريم.

و قال الكسائيّ، موضع المقيمين جرّ، و هو معطوف( على ) ما من قوله:( بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) أي و بالمقيمين الصلاة.

و قال قوم: إنّه معطوف على الهاء و الميم من قوله( مِنْهُمْ ) على معنى: لكن الراسخون في العلم منهم و من المقيمين الصلاة، و قال آخرون: إنّه معطوف على الكاف من( قَبْلِكَ ) أي ممّا أنزل من قبلك و من قبل المقيمين الصلاة.

و قيل: إنّه معطوف على الكاف في( إِلَيْكَ ) أو الكاف في قبلك. و هذه الأقوال الأخيرة لا تجوز عند البصريّين لأنّه لا يعطف بالظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجارّ.

قال: و أمّا ما روي عن عروة عن عائشة قال: سألتها عن قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) و عن قوله:( وَ الصَّابِئِينَ ) و عن قوله:( إِنْ هذانِ ) فقالت: يا ابن اُختي هذا عمل الكتاب أخطؤا في الكتاب، و ما روي عن بعضهم: أنّ في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، قالوا: و في مصحف ابن مسعود:( و المقيمون الصلاة) فممّا لا يلتفت إليه لأنّه لو كان كذلك لم يكن ليعلّمه الصحابة الناس على الغلط و هم القدوة و الّذين أخذوه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (انتهى).

و بالجملة قوله:( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) استثناء من أهل الكتاب من حيث لازم سؤالهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينزّل عليهم كتاباً من السماء كما تقدّم أنّ لازم سؤالهم ذلك أن لا يكفي ما جاءهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتاب و الحكمة المصدّقين لما اُنزل من قبله من آيات الله على أنبيائه و رسله، في دعوتهم إلى الحقّ و إثباته، مع أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأتهم إلّا مثل ما أتاهم به من قبله من الأنبياء، و لم يعش فيهم و لم يعاشرهم إلّا بما عاشوا به و عاشروا به كما قال

١٤٦

تعالى:( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ) (الأحقاف: ٩) و قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ - إلى أن قال -لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) (الأنبياء: ١٠).

فذكر الله سبحانه في فصل من القول: إنّ هؤلاء السائلين و هم أهل الكتاب ليست عندهم سجيّة اتّباع الحقّ و لا ثبات و لا عزم و لا رأي، و كم من آية بيّنة ظلموها، و دعوة حقّ صدّوا عنها، إلّا أنّ الراسخين في العلم منهم لمّا كان عندهم ثبات على علمهم و ما وضح من الحقّ لديهم، و كذا المؤمنون حقيقة منهم لمّا كان عندهم سجيّة اتّباع الحقّ يؤمنون بما اُنزل إليك و ما اُنزل من قبلك لمّا وجدوا أنّ الّذي نزّل إليك من الوحي يماثل ما نزّل من قبلك على سائر النبيّين: نوح و من بعده.

و من هنا يظهر (أوّلاً) وجه توصيف من اتّبع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل الكتاب بالراسخين في العلم و المؤمنين، فإنّ الآيات السابقة تقصّ عنهم أنّهم غير راسخين فيما علموا غير مستقرّين على شي‏ء من الحقّ و إن استوثق منهم بأغلظ المواثيق، و أنّهم غير مؤمنين بآيات الله صادّون عنها و إن جاءتهم البيّنات، فهؤلاء الّذين استثناهم الله راسخون في العلم أو مؤمنون حقيقة.

و (ثانياً) وجه ذكر ما اُنزل قبلاً مع القرآن في قوله:( يؤمنون بما اُنزل إليك و ما اُنزل من قبلك ) لأنّ المقام مقام نفي الفرق بين القبيلين.

و (ثالثاً) أنّ قوله في الآية التالية:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا ) إلخ في مقام التعليل لإيمان هؤلاء المستثنين.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) في مقام التعليل لقوله:( يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) كما عرفت آنفاً. و محصّل المعنى - و الله أعلم - أنّهم آمنوا بما اُنزل إليك لأنّا لم نؤتك أمراً مبتدعاً يختصّ من الدعاوي و الجهات بما لا يوجد عند غيرك من الأنبياء السابقين، بل الأمر على نهج واحد لا اختلاف فيه، فإنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيّين من بعده، و نوح أوّل نبيّ

١٤٧

جاء بكتاب و شريعة، و كما أوحينا إلى إبراهيم و من بعده من آله، و هم يعرفونهم و يعرفون كيفيّة بعثتهم و دعوتهم، فمنهم من اُوتي بكتاب كداود اُوتي زبوراً و هو وحي نبويّ، و موسى اُوتي التكليم و هو وحي نبويّ، و غيرهما كإسماعيل و إسحاق و يعقوب اُرسلوا بغير كتاب، و ذلك أيضاً عن وحي نبويّ.

و يجمع الجميع أنّهم رسل مبشّرون بثواب الله منذرون بعذابه، أرسلهم الله لإتمام الحجّة على الناس ببيان ما ينفعهم و ما يضرّهم في اُخراهم و دنياهم لئلّا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل.

قوله تعالى: ( وَ الْأَسْباطِ) تقدّم في قوله تعالى:( وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ ) (آل عمران: ٨٤) أنّهم أنبياء من ذرّيّة يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل.

قوله تعالى: ( وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) قيل إنّه بمعنى المكتوب من قولهم: زبره أي كتبه فالزبور بمعنى المزبور.

قوله تعالى: ( رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ) أحوال ثلاثة أو الأوّل حال و الأخيران وصفان له. و قد تقدّم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل و تمام الحجّة من الله على الناس، و أنّ العقل لا يغني وحده عن بعثة الأنبياء بالشرائع الإلهيّة في الكلام على قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) (سورة البقرة: ٢١٣) في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ كانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً ) و إذا كانت له العزّة المطلقة و الحكمة المطلقة استحال أن يغلبه أحد بحجّة بل له الحجّة البالغة، قال تعالى:( قُلْ فَلله الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (الأنعام: ١٤٩).

قوله تعالى: ( لكِنِ الله يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ ) ، استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الردّ المتعلّق بسؤالهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنزيل كتاب إليهم من السماء، فإنّ الّذي ذكر الله تعالى في ردّ سؤالهم بقوله:( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ ) (إلى آخر الآيات) لازم معناه أنّ سؤالهم مردود إليهم، لأنّ ما جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوحي من ربّه لا يغاير نوعاً ما جاء به سائر النبيّين من

١٤٨

الوحي، فمن ادّعى أنّه مؤمن بما جاؤا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق.

ثمّ استدرك عنه بأنّ الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيّه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيداً.

و متن شهادته قوله:( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) فإنّ مجرّد النزول لا يكفي في المدّعى، لأنّ من أقسام النزول النزول بوحي من الشياطين، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الإلهيّة فيضع سبيلاً باطلاً مكان سبيل الله الحقّ، أو يخلط فيدخل شيئاً من الباطل في الوحي الإلهيّ الحقّ فيختلط الأمر، كما يشير إلى نفيه بقوله:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً ) (الجنّ: ٢٨) و قال تعالى:( وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ ) (الأنعام. ١٢١).

و بالجملة فالشهادة على مجرّد النزول أو الإنزال لا يخرج الدعوى عن حال الإبهام لكن تقييده بقوله:( بِعِلْمِهِ ) يوضح المراد كلّ الوضوح، و يفيد أنّ الله سبحانه أنزله إلى رسوله و هو يعلم ما ذا ينزل، و يحيط به و يحفظه من كيد الشياطين.

و إذا كانت الشهادة على الإنزال و الإنزال إنّما هو بواسطة الملائكة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) (البقرة: ٩٧) و قال تعالى في وصف هذا الملك المكرّم:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (التكوير: ٢١) فدلّ على أنّ تحت أمره ملائكة اُخرى و هم الّذين ذكرهم إذ قال:( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ ) (عبس: ١٦).

و بالجملة لكون الملائكة وسائط في الإنزال فهم أيضاً شهداء كما أنّه تعالى شهيد و كفى بالله شهيداً.

و الدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدّي كقوله تعالى:( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (إسراء: ٨٨) و قوله:( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ

١٤٩

عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (النساء: ٨٢)، و قوله:( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله ) (يونس. ٣٨).

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً ) لمّا ذكر تعالى الحجّة البالغة في رسالة نبيّه و نزول كتابه من عندالله، و أنّه من سنخ الوحي الّذي اُوحي إلى النبيّين من قبله و أنّه مقرون بشهادته و شهادة ملائكته و كفى به شهيداً حقّق ضلال من كفر به و أعرض عنه كائنا من كان من أهل الكتاب.

و في الآية تبديل الكتاب الّذي كان الكلام في نزوله من عندالله بسبيل الله حيث قال:( وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله ) و فيه إيجاز لطيف كأنّه قيل: إنّ الّذين كفروا و صدّوا عن هذا الكتاب و الوحي الّذي يتضمّنه فقد كفروا و صدّوا عن سبيل الله و الّذين كفروا و صدّوا عن سبيل الله إلخ.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ ) إلخ تحقيق و تثبيت آخر مقامه التأكيد من الآية السابقة، و على هذا يكون المراد بالظلم هو الصدّ عن سبيل الله كما هو ظاهر.

و يمكن أن يكون الآية في مقام التعليل بالنسبة إلى الآية السابقة، يبيّن فيها وجه ضلالهم البعيد و المعنى ظاهر.

( بحث روائي)

و في تفسير البرهان، في قوله تعالى:( وَ قَوْلِهِمْ عَلى‏ مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) عن ابن بابويه بإسناده عن علقمة عن الصادقعليه‌السلام في حديث قال: أ لم ينسبوا مريم بنت عمران إلى أنّها حملت بصبيّ من رجل نجّار اسمه يوسف؟

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) (الآية): قال: حدّثني أبي، عن القاسم بن محمّد عن سليمان بن داود المنقريّ، عن أبي حمزة، عن شهر بن حوشب: قال لي الحجّاج: يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتني فقلت: أيّها الأمير أيّة آية هي؟ فقال: قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) و الله

١٥٠

إنّي لأمر باليهوديّ و النصرانيّ فيضرب عنقه ثمّ أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتّى يخمد، فقلت: أصلح الله الأمير ليس على ما أوّلت قال: كيف هو: قلت: إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهل ملّة يهوديّ و لا غيره إلّا آمن به قبل موته، و يصلّي خلف المهديّ قال: ويحك أنّى لك هذا؟ و من أين جئت به؟ فقلت: حدّثني به محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام فقال: و الله جئت بها من عين صافية.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجّاج: يا شهر آية من كتاب الله ما قرأتها إلّا اعترض في نفسي منها شي‏ء قال الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) و إنّي اُوتي بالاُسارى فأضرب أعناقهم و لا أسمعهم يقولون شيئاً، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إنّ النصرانيّ إذا خرجت روحه ضربته الملائكة من قبله و من دبره و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة عبدالله و روحه و كلمته فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، و إنّ اليهوديّ إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله و من دبره، و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّك قتلته، عبدالله و روحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم: فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمّد بن عليّ قال: لقد أخذتها من معدنها. قال شهر: و أيم الله ما حدّثنيه إلّا اُمّ سلمة، و لكنّي اُحببت أن اُغيظه.

أقول: و رواه أيضاً ملخّصاً عن عبد بن حميد و ابن المنذر، عن شهر بن حوشب، عن محمّد بن عليّ بن أبي طالب و هو ابن الحنفيّة، و الظاهر أنّه روى عن محمّد بن عليّ، ثمّ اختلف الرواة في تشخيص ابن الحنفيّة أو الباقرعليه‌السلام ، و الرواية - كما ترى - تؤيّد ما قدّمناه في بيان معنى الآية.

و فيه، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و البيهقيّ في الأسماء و الصفات قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم و إمامكم منكم؟.

و فيه: أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يوشك أن

١٥١

ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً يقتل الدجّال، و يقتل الخنزير، و يكسر الصليب، و يضع الجزية، و يقبض المال، و تكون السجدة واحدة لله ربّ العالمين، و اقرؤا إن شئتم:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) موت عيسى بن مريم. ثمّ يعيدها أبو هريرة ثلاث مرّات.

أقول: و الروايات في نزول عيسىعليه‌السلام عند ظهور المهديّعليه‌السلام مستفيضة من طرق أهل السنّة، و كذا من طرق الشيعة عن النبيّ و الأئمّة من أهل بيته عليهم الصلاة و السلام.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الحارث بن مغيرة: عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) قال: هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: ظاهره و إن كان مخالفاً لظاهر سياق الآيات المتعرّضة لأمر عيسىعليه‌السلام لكن يمكن أن يراد به بيان جري القرآن، بمعنى أنّه بعد ما بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و جاء بكتاب و شريعة ناسخة لشريعة عيسى كان على كلّ كتابيّ أن يؤمن به و يؤمن بعيسى و من قبله في ضمن الإيمان به، فلو انكشف لكتابيّ عند الاحتضار مثلاً حقّيّة رسالة عيسى بعد بعثة رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّما ينكشف في ضمن انكشاف حقّيّة رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإيمان كلّ كتابيّ لعيسىعليه‌السلام إنّما يعدّ إيماناً إذا آمن بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصالة و بعيسىعليه‌السلام تبعاً، فالّذي يؤمن به كلّ كتابيّ حقيقة و يكون عليهم يوم القيامة شهيداً هو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد بعثته، و إن كان عيسىعليه‌السلام كذلك أيضاً فلا منافاة، و الخبر التالي لا يخلو من ظهور مّا في هذا المعنى.

و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله في عيسى:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) فقال: إيمان أهل الكتاب إنّما هو لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) قال: ليس من أحد من جميع الأديان

١٥٢

يموت إلّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنينعليه‌السلام حقّاً من الأوّلين و الآخرين.

أقول: و كون الرواية من الجري أظهر. على أنّ الرواية غير صريحة في كون ما ذكرهعليه‌السلام ناظراً إلى تفسير الآية و تطبيقها، فمن المحتمل أن يكون كلاماً اُورد في ذيل الكلام على الآية و لذلك نظائر في الروايات.

و فيه، عن المفضّل بن عمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) ، فقال: هذه نزلت فينا خاصّة، إنّه ليس رجل من ولد فاطمة يموت و لا يخرج من الدنيا حتّى يقرّ للإمام و بإمامته، كما أقرّ ولد يعقوب ليوسف حين قالوا:( تَالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنا ) .

أقول: الرواية من الآحاد، و هي مرسلة، و في معناها روايات مرويّة في ذيل قوله تعالى:( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ الله ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (فاطر: ٣٢) سنستوفي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

و فيه، في قوله تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (الآية): عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّي أوحيت إليك كما أوحيت إلى نوح و النبيّين من بعده فجمع له كلّ وحي.

أقول: الظاهر أنّ المراد أنّه لم يشذّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سنخ الوحي ما يوجب تفرّق السبيل و تفاوت الدعوة، لا أنّ كلّ ما اُوحي به إلى نبيّ على خصوصيّاته فقد اُوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذا ممّا لا معنى له، و لا أنّ ما اُوحي إليك جامع لجميع الشرائع السابقة، فإنّ الكلام في الآية غير موضوع لإفادة هذا المعنى، و يؤيّد ما ذكرناه من المعنى الخبر التالي.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام : قال الله لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) ، و أمر كلّ نبيّ بالسبيل و السنّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: و كان بين آدم و بين نوح

١٥٣

من الأنبياء مستخفين و مستعلنين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عزّوجلّ:( وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ الله مُوسى‏ تَكْلِيماً ) يعني لم اُسمّ المستخفين كما سمّيت المستعلنين من الأنبياء.

أقول: و رواه في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة عنهعليه‌السلام ، و فيه: من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عزّوجلّ:( رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) يعني لم اُسمّ المستخفين كما سمّيت المستعلنين من الأنبياء (الحديث).

و المراد بالرواية على أيّ حال أنّ الله تعالى لم يذكر قصّة المستخفين أصلاً و لا سمّاهم، كما قصّ بعض قصص المستعلنين و سمّى من سمّى منهم. و من الجائز أن يكون قوله:( يعني لم أسمّ) إلخ من كلام الراوي.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي حمزة الثماليّ قال: سمعت أباجعفرعليه‌السلام يقول: لكن الله يشهد بما أنزل إليك في عليّ أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيداً.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره مسنداً عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام و هو من قبيل الجري و التطبيق فإنّ من القرآن ما نزل في ولايتهعليه‌السلام ، و ليس المراد به تحريف الكتاب و لا هو قراءة منهعليه‌السلام .

و نظيره ما رواه في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، و القمّيّ في تفسيره، عن أبي عبداللهعليه‌السلام : إنّ الّذينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا آل محمّد حقهم لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ (الآية

و ما رواه في المجمع، عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله( قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ ) أي بولاية من أمر الله بولايته.

١٥٤

( سورة النساء الآيات ١٧٠ - ١٧٥)

يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرّسُولُ بِالحَقّ مِن رَبّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنّ للّهِ‏ِ مَا فِي السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً( ١٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى‏ اللّهِ إِلّا الْحَقّ إِنّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى‏ ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى‏ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنّمَا اللّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السّماوَاتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَكِيلاً( ١٧١) لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للّهِ‏ِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً( ١٧٢) فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِن فَضْلِهِ وَأَمّا الّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً( ١٧٣) يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَبّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً( ١٧٤) فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً( ١٧٥)

( بيان)

بعد ما أجاب عمّا اقترحه أهل الكتاب من سؤالهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنزيل كتاب من السماء ببيان أنّ رسوله إنّما جاء بالحقّ من عند ربّه، و أنّ الكتاب الّذي جاء به من عند ربّه حجّة قاطعة لا ريب فيها استنتج منه صحّة دعوة الناس كافة إلى نبيّه و كتابه.

١٥٥

و قد كان بيّن فيما بيّن أنّ جميع رسله و أنبيائه - و قد ذكر فيهم عيسى - على سنّة واحدة متشابهة الأجزاء و الأطراف، و هي سنّة الوحي من الله فاستنتج منه صحّة دعوة النصارى و هم أهل كتاب و وحي إلى أن لا يغلوا في دينهم، و أن يلحقوا بسائر الموحّدين من المؤمنين، و يقرّوا في عيسى بما أقرّوا به هم و غيرهم في سائر الأنبياء أنّهم عباد الله و رسله إلى خلقه.

فأخذ تعالى يدعو الناس كافّة إلى الإيمان برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ المبيّن أوّلاً هو صدق نبوّته في قوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (الآيات).

ثمّ دعا إلى عدم الغلوّ في حقّ عيسىعليه‌السلام لأنّه المتبيّن ثانياً في ضمن الآيات المذكورة.

ثمّ دعا إلى اتّباع كتابه و هو القرآن الكريم لأنّه المبيّن أخيراً في قوله تعالى:( لكِنِ الله يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) (الآية).

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ ) ، خطاب عامّ لأهل الكتاب و غيرهم من الناس كافّة، متفرّع على ما مرّ من البيان لأهل الكتاب، و إنّما عمّم الخطاب لصلاحيّة المدعوّ إليه و هو الإيمان بالرسول كذلك لعموم الرسالة.

و قوله:( خَيْراً لَكُمْ ) حال من الإيمان و هي حال لازمة أي حال كون الإيمان من صفته اللّازمة أنّه خير لكم.

و قوله:( وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) ، أي إن تكفروا لم يزد كفركم عليكم شيئاً، و لا ينقص من الله سبحانه شيئاً، فإنّ كلّ شي‏ء ممّا في السماوات و الأرض لله فمن المحال أن يسلب منه تعالى شي‏ء من ملكه فإنّ في طباع كلّ شي‏ء ممّا في السماوات و الأرض أنّه لله لا شريك له فكونه موجوداً و كونه مملوكاً شي‏ء واحد بعينه، فكيف يمكن أن ينزع من ملكه تعالى شي‏ء و هو شي‏ء؟.

و الآية من الكلمات الجامعة الّتي كلّما أمعنت في تدبّرها أفادت زيادة لطف

١٥٦

في معناها و سعة عجيبة في تبيانها، فإحاطة ملكه تعالى على الأشياء و آثارها تعطي في الكفر و الإيمان و الطاعة و المعصية معاني لطيفة، فعليك بزيادة التدبّر فيها.

قوله تعالى: ( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى الله إِلَّا الْحَقَّ ) ، ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيحعليه‌السلام أنّه خطاب للنصارى، و إنّما خوطبوا بأهل الكتاب - و هو وصف مشترك - إشعاراً بأنّ تسمّيهم بأهل الكتاب يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله و بيّنه في كتبه، و ممّا بيّنه أن لا يقولوا عليه إلّا الحقّ.

و ربّما أمكن أن يكون خطاباً لليهود و النصارى جميعاً، فإنّ اليهود أيضاً كالنصارى في غلوّهم في الدّين، و قولهم على الله غير الحقّ، كما قال تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله ) التوبة: ٣٠، و قال تعالى:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ الله ) (التوبة: ٣١)، و قال تعالى:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ - إلى أن قال -وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ الله ) (آل عمران: ٦٤).

و على هذا فقوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله ) إلخ تخصيص في الخطاب بعد التعميم أخذاً بتكليف طائفة من المخاطبين بما يخصّ بهم.

هذا، لكن يبعّده أنّ ظاهر السياق كون قوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله ) ، تعليلاً لقوله:( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ) ، و لازمه اختصاص الخطاب بالنصارى و قوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ ) أي المبارك( عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) تصريح بالاسم و اسم الاُمّ ليكون أبعد من التفسير و التأويل بأيّ معنى مغاير، و ليكون دليلاً على كونه إنساناً مخلوقاً كأي إنسان ذي اُمّ:( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ ) تفسير لمعنى الكلمة، فإنّه كلمة( كن ) الّتي اُلقيت إلى مريم البتول، لم يعمل في تكوّنه الأسباب العاديّة كالنكاح و الأب، قال تعالى:( إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (آل عمران: ٤٧) فكلّ شي‏ء كلمة له تعالى غير أنّ سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العاديّة، و الّذي اختصّ لأجله عيسىعليه‌السلام بوقوع اسم الكلمة هو فقدانه بعض الأسباب العاديّة في تولّده( وَ رُوحٌ مِنْهُ ) و الروح من الأمر، قال تعالى:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (إسراء: ٨٥) و لمّا

١٥٧

كان عيسىعليه‌السلام كلمة( كن ) التكوينيّة و هي أمر فهو روح.

و قد تقدّم البحث عن الآية في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( فَآمِنُوا بِالله وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا الله إِلهٌ واحِدٌ ) تفريع على صدر الكلام بما أنّه معلّل بقوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ ) إلخ أي فإذا كان كذلك وجب عليكم الإيمان على هذا النحو، و هو أن يكون إيماناً بالله بالربوبيّة و لرسله - و منهم عيسى - بالرسالة، و لا تقولوا ثلاثة انتهوا حال كون الانتهاء أو حال كون الإيمان بالله و رسله و نفي الثلاثة خيراً لكم.

و الثلاثة هم الأقانيم الثلاثة: الأب و الابن و روح القدس، و قد تقدّم البحث عن ذلك في الآيات النازلة في أمر المسيحعليه‌السلام من سورة آل عمران.

قوله تعالى: ( سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) ، السبحان مفعول مطلق مقدّر الفعل، يتعلّق به قوله:( أَنْ يَكُونَ ) ، و هو منصوب بنزع الخافض، و التقدير: اُسبّحه تسبيحاً و اُنزّهه تنزيهاً من أن يكون له ولد، و الجملة اعتراض مأتّي به للتعظيم.

و قوله:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) حال أو جملة استيناف، و هو على أيّ حال احتجاج على نفي الولد عنه سبحانه، فإنّ الولد كيفما فرض هو الّذي يماثل المولّد في سنخ ذاته متكوّناً منه، و إذا كان كلّ ما في السماوات و الأرض مملوكاً في أصل ذاته و آثاره لله تعالى و هو القيّوم لكلّ شي‏ء وحده فلا يماثله شي‏ء من هذه الأشياء فلا ولد له.

و المقام مقام التعميم لكلّ ما في الوجود غير الله عزّ اسمه و لازم هذا أن يكون قوله:( ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) تعبيراً كنائيّاً عن جميع ما سوى الله سبحانه إذ نفس السماوات و الأرض مشمولة لهذه الحجّة، و ليست ممّا في السماوات و الأرض بل هي نفسها.

ثمّ لمّا كان ما في الآية من أمر و نهي هداية عامّة لهم إلى ما هو خير لهم في

١٥٨

دنياهم و اُخراهم ذيل الكلام بقوله:( وَ كَفى‏ بِالله وَكِيلًا ) أي وليّاً لشؤنكم، مدبّراً لاُموركم، يهديكم إلى ما هو خير لكم و يدعوكم إلى صراط مستقيم.

قوله تعالى: ( يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لله وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) احتجاج آخر على نفي اُلوهيّة المسيحعليه‌السلام مطلقاً سواء فرض كونه ولداً أو أنّه ثالث ثلاثة، فإنّ المسيح عبد لله لن يستنكف أبداً عن عبادته، و هذا ممّا لا ينكره النصارى، و الأناجيل الدائرة عندهم صريحة في أنّه كان يعبدالله تعالى، و لا معنى لعبادة الولد الّذي هو سنخ إله و لا لعبادة الشي‏ء لنفسه و لا لعبادة أحد الثلاثة لثالثها الّذي ينطبق وجوده على كلّ منها، و قد تقدّم الكلام على هذا البرهان في مباحث المسيحعليه‌السلام .

و قوله:( لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) تعميم للكلام على الملائكة لجريان الحجّة بعينها فيهم و قد قال جماعة من المشركين - كمشركي العرب -: بكونهم بنات الله فالجملة استطراديّة.

و التعبير في الآية أعني قوله:( يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) عن عيسىعليه‌السلام بالمسيح، و كذا توصيف الملائكة بالمقرّبين مشعر بالعلّيّة لما فيهما من معنى الوصف، أي إنّ عيسى لن يستنكف عن عبادته و كيف يستنكف و هو مسيح مبارك؟ و لا الملائكة و هم مقرّبون؟ و لو رجي فيهم أن يستنكفوا لم يبارك الله في هذا و لا قرّب هؤلاء، و قد وصف الله المسيح أيضاً بأنّه مقرّب في قوله:( وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (آل عمران: ٤٥).

قوله تعالى: ( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ) حال من المسيح و الملائكة و هو في موضع التعليل أي و كيف يستنكف المسيح و الملائكة المقرّبون عن عبادته و الحال أنّ الّذين يستنكفون عن عبادته و يستكبرون من عباده من الإنس و الجنّ و الملائكة يحشرون إليه جميعاً، فيجزون حسب أعمالهم، و المسيح و الملائكة يعلمون ذلك و يؤمنون به و يتّقونه.

و من الدليل على أنّ قوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ ) إلخ في معنى أنّ المسيح و الملائكة المقرّبين عالمون بأن المستنكفين يحشرون إليه قوله:( يَسْتَكْبِرْ )

١٥٩

إنّما قيّد به قوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ ) لأنّ مجرّد الاستنكاف لا يوجب السخط الإلهيّ إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء و المستضعفين، و أمّا المسيح و الملائكة فإنّ استنكافهم لا يكون إلّا عن استكبار لكونهم عالمين بمقام ربّهم، و لذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب فيهم، فيكون معنى تعليل هذا بقوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ ) ، أنّهم عالمون بأنّ من يستنكف عن عبادته إلخ.

و قوله:( جمِيعاً ) أي صالحاً و طالحاً و هذا هو المصحّح للتفضيل الّذي يتلوه من قوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) التعرّض لنفي الوليّ و النصير مقابلة لما قيل به من اُلوهيّة المسيح و الملائكة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) قال الراغب: البرهان بيان للحجّة، و هو فعلان مثل الرجحان و الثنيان. و قال بعضهم: هو مصدر بره يبره إذا ابيضّ. انتهى، فهو على أيّ حال مصدر. و ربّما استعمل بمعنى الفاعل كما إذا اُطلق على نفس الدليل و الحجّة.

و المراد بالنور هو القرآن لا محالة بقرينة قوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ ) و يمكن أن يراد بالبرهان أيضاً ذلك، و الجملتان إذا تؤكّد إحداهما الاُخرى.

و يمكن أن يراد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و يؤيّده وقوع الآية في ذيل الآيات المبيّنة لصدق النبيّ في رسالته، و نزول القرآن من عندالله تعالى، و كون الآية تفريعاً لذلك و يؤيّده أيضاً قوله تعالى في الآية التالية:( وَ اعْتَصَمُوا بِهِ ) لما تقدّم في الكلام على قوله:( وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (آل عمران. ١٠١) أنّ المراد بالاعتصام الأخذ بكتاب الله و الاتّباع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَ اعْتَصَمُوا بِهِ ) ، بيان لثواب من اتّبع برهان ربّه و النور النازل من عنده.

و الآية كأنّها منتزعة من الآية السابقة المبيّنة لثواب الّذين آمنوا و عملوا الصالحات أعني قوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

ويمكن ان تكون الجملة( وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ) لها علاقة بالبرق الذي يصنع هذه الغيوم المليئة بالمياه.

الآية الاخرى تشير الى صوت الرعد الذي يتزامن مع البرق( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) (١) .

نعم ، فهذا الصوت المدوّي في عالم الطبيعة يضرب به المثل ، فهو مع البرق في خدمة هدف واحد ولهما منافع متعدّدة كما أشرنا إليها ، ويقومان بعملية التسبيح ، وبعبارة اخرى فالرعد لسان حال البرق يحكي عن عظمة الخالق وعن نظام التكوين. فهو كتاب معنوي ، وقصيدة غرّاء ، ولوحة جميلة وجذّابة ، نظام محكم ومنظّم ومحسوب بدقّة ، وبلسان حاله يتحدّث عن علم ومهارة وذوق الكاتب والرسام والمعمار ويحمده ويثني عليه ، كلّ ذرّات هذا العالم لها اسرار ونظام دقيق. وتحكي عن تنزيه الله وخلوّه من النقص والعيوب (وهل التسبيح غير ذلك؟!).

وتتحدّث عن قدرته وحكمته (وهل الحمد غير بيان صفات الكمال؟!).

وقد احتمل بعض الفلاسفة انّ لكلّ ذرّات هذا العالم نوعا من العقل والشعور ، فهي من خلال هذا العقل تسبّح الله وتقدّسه ، ليس بلسان الحال فقط ، بل بلسان المقال ايضا.

وليس الرعد وسائر اجزاء العالم تسبّح بحمده تعالى ، بل حتّى الملائكة( وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) (٢) فهم يخافون من تقصيرهم في تنفيذ الأوامر الملقاة على عاتقهم ، وبالتالي فهم يخشون العقاب الالهي ، ونحن نعلم انّ الخوف يصيب أولئك الذين يحسّون بمسؤولياتهم ووظائفهم خوف بنّاء يحثّ الشخص على

__________________

(١) للتوضيح اكثر في معنيي التسبيح والتقديس للكائنات سيأتي في ذيل الآية( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الاسراء ، ٤٤.

(٢) يقول الشيخ الطوسيرحمه‌الله في تفسيره التبيان : الخيفة بيان لحالة الشخص امّا الخوف فمصدر.

٣٦١

السعي والحركة.

وللتوضيح اكثر في مجال البرق والرعد تشير الآية الى الصاعقة( وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) ومع كلّ ذلك ـ وبمشاهدة آيات العظمة الالهية في عالم التكوين من السّماء والأرض والنباتات والأشجار والبرق والرعد وأمثالها ، وفي قدرة الإنسان الحقيرة تجاه هذه الحوادث ، حتّى في مقابل واحدة منها مثل شرارة البرق ـ نرى انّ هناك جماعة جاهلة تجادل في الله( وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) .

«المحال» في الأصل «الحيلة» بمعنى التدبير السرّي وغير الظاهر ، فالذي له القدرة على هذا التدبير يمتلك العلم والحكمة العالية ، ولهذا السبب يستطيع ان ينتصر على أعدائه ولا يمكن الفرار من حكومته.

وذكر المفسّرون وجوها عديدة في تفسير( شَدِيدُ الْمِحالِ ) فتارة بمعنى «شديد القوّة» ، او «شديد العذاب» ، او «شديد القدرة» او «شديد الأخذ»(١) .

الآية الاخيرة تشير الى مطلبين :

الاوّل : قوله تعالى :( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ ) فهو يستجيب لدعواتنا ، وهو عالم بدعاء العباد وقادر على قضاء حوائجهم ، ولهذا السبب يكون دعاؤنا ايّاه وطلبنا منه حقّا ، وليس باطلا.

ولكن دعاء الأصنام باطل( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ) نعم هكذا في دعوة الباطل ليست اكثر من وهم ، لانّ ما يقولونه من علم وقدرة الأصنام ما هو الّا أوهام وخيال ، او ليس الحقّ هو عين الواقع واصل الخير والبركة؟ والباطل هو الوهم واصل الشرّ والفساد؟ ولتصوير هذا الموضوع يضرب لنا القرآن الكريم مثالا حيّا ورائعا يقول :( إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ

__________________

(١) فسر البعض «المحال» من «المحل ، الماحل» بمعنى المكر والجدال والتصميم على العقوبة ، ولكن ما أشرنا اليه أعلاه هو الصحيح ، والتفسيران قريبا المعنى.

٣٦٢

فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ ) . فهل يستطيع احد ان يجلس على بئر ويطلب الماء بإشارة يد ليبلغ الماء فاه؟ هذا العمل لا يصدر الّا من انسان مجنون!

وتحتمل الآية تفسيرا آخر ، فهي تشبّه المشركين كمن بسط كفّه في الماء ليتجمع فوقها الماء ، وعند خروجها من الماء لم يجد فيها شيئا منه لانّ الماء يتسرّب من بين أصابع الكفّ المفتوحة.

وهناك تفسير ثالث وهو انّ المشركين ـ لحلّ مشاكلهم ـ كانوا يلجأون الى الأصنام ، فمثلهم مثل الذي يحتفظ بالماء في يده ، هل يحفظ الماء في يد؟! وهناك مثل معروف بين العرب لمن يسعى بدون فائدة يقال له : هو كقابض الماء باليد ، ويقول الشاعر :

فأصبحت فيما كان بيني وبينها

من الودّ مثل القابض الماء باليد

ولكنّنا نعتقد انّ التّفسير الاوّل أوضح!

وللتأكيد على هذا الحديث يأتي في نهاية الآية قوله تعالى :( وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) وايّ ضلال اكبر من ان يسعى الإنسان ويجتهد في السبيل الضالّ ولكنّه لا يصل الى مقاصده. ولا يحصل على شيء نتيجة تعبه وجهده.

الآية الأخيرة من هذه المجموعة ، ولكي تبرهن كيف انّ المشركين ضلّوا الطريق تقول :( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) .

* * *

بحوث

١ ـ ما هو المقصود من سجود الكائنات؟

السجدة في هذه الموارد تعني الخضوع والتسليم ، فإنّ جميع الملائكة

٣٦٣

والناس ذوي العقول والأفكار متواضعين لله وخاضعين لأوامره ، وهناك نوعان من السجود ، سجود تكويني وهو انّ الكلّ خاضعون ومسلّمون للقوانين الطبيعيّة مثل الحياة والممات والمرض و و ، والبعض منهم له سجود تشريعي بالاضافة الى السجود التكويني ، فهم بميلهم وإرادتهم يسجدون لله.

٢ ـ ما هو معنى( طَوْعاً وَكَرْهاً ) ؟

عبارة( طَوْعاً وَكَرْهاً ) يمكن ان تكون اشارة الى انّ المؤمنين خاضعون لله بميلهم وإرادتهم ، وامّا غير المؤمنين فهم خاضعون كذلك للقوانين الطبيعيّة التي تسير بأمر الله ان شاؤوا وان أبوا.

و (الكره) بضمّ الكاف تعني الكراهية في داخل الإنسان ، و (كره) بفتح الكاف ما حمل عليه الإنسان من خارج نفسه ، وبما انّ الأشخاص غير المؤمنين مقهورون للعوامل الخارجية وللقوانين الطبيعيّة ، استعمل القرآن (كره) بفتح الكاف.

ويحتمل في تفسير( طَوْعاً وَكَرْهاً ) انّ المقصود من «طوعا» هو التوافق والميل الفطري والطبيعي بين الإنسان والأسباب الطبيعيّة (مثل حبّ اي انسان للحياة) والمقصود من «كرها» هو ما فرض على الإنسان من الخارج مثل موت أحد الأشخاص بسبب المرض او اي عامل طبيعي آخر.

٣ ـ ما هو معنى كلمة الظلال؟

«الظّلال» جمع «ظل» واستعمال هذه الكلمة في الآية يشير الى انّ المقصود في السجود ليس فقط السجود التشريعي ، فظلال الكائنات ليست خاضعة لارادتهم واختيارهم ، بل هو تسليم لقانون الضوء ، وعلى هذا يكون سجودهم تكويني ، يعني التسليم لقوانين الطبيعيّة.

٣٦٤

وطبيعي ليس المقصود من «الظلال» انّ جميع ما في السّماوات والأرض لها وجود مادّي كي يكون لها ظلال ، ولكن الآية تشير الى تلك الأشياء التي لها ظلال ، فمثلا يقال : انّ جمعا من العلماء وأبنائهم شاركوا في المجلس الكذائي ، وليس المقصود هنا انّ لكلّ العلماء أبناء «فتدبّر».

وعلى ايّة حال فإنّ الظلّ امر عدمي ، وهو ليس اكثر من فقدان النّور ، ولكن له آثارا ووجودا بسبب النّور المحيط به ، ولعلّ الآية تشير الى هذه النقطة ، وهي انّه حتّى الظلال خاضعة لله.

٤ ـ ما هو معنى كلوة( الْآصالِ ) ؟

«الآصال» جمع «اصل» وهي جمع «اصيل» ومعناه آخر وقت من النهار ، ولذلك يعتبر اوّل الليل ، والغدو جمع غداة بمعنى اوّل النهار.

ورغم انّ السجود والخضوع للأشياء الكونية في مقابل الأوامر الالهيّة دائمة ومستمرّة في كلّ وقت ، ولكن ذكرها هنا في موقعين (الصبح والعشاء) امّا انّه كناية عن دوام الوقت ، فمثلا تقول : انّ فلانا يطلب العلم صباحا ومساء ، فالمقصود وهو انّه في كلّ وقت يطلب العلم ، وامّا ان يكون المقصود من الآية ما جاء في الكلام عن الظلال والتي تكون واضحة اكثر في اوّل النهار وآخره.

* * *

٣٦٥

الآية

( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) )

التّفسير

لماذا عبادة الأصنام؟

كان البيان في الآيات السابقة عن معرفة الله واثبات وجوده ، وهذه الآية تبحث عن ضلال المشركين والوثنيين وتتناوله من عدّة جهات ، حيث تخاطب ـ اوّلا ـ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث تقول :( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ثمّ تأمر النّبي ان يجيب على السؤال قبل ان ينتظر جوابهم( قُلِ اللهُ ) ثمّ انّه يلومهم ويوبّخهم بهذه الجملة( قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ) .

لقد بيّن ـ اوّلا ـ عن طريق ربوبيته انّه المدبّر والمالك لهذا العالم ، ولكلّ خير

٣٦٦

ونفع من جانبه ، وقادر على دفع اي شرّ وضرّ ، وهذا يعني انّكم بقبولكم لربوبيته يجب ان تطلبوا كلّ شيء من عنده لا من الأصنام العاجزة عن حلّ ايّة مشكلة لكم. ثمّ يذهب الى ابعد من ذلك حيث يقول : انّ هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا فكيف يمكنها ان تنفعكم او تضرّكم؟ وهم والحال هذه لا يحلّون اي عقدة لكم حتّى لو قمتم بعبادتهم ، فهؤلاء لا يستطيعون تدبير أنفسهم فما ذا ينتظر منهم؟

ثمّ يذكر مثالين واضحين وصريحين يحدّد فيها وضع الافراد الموحّدين والمشركين ، فيقول اوّلا :( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ) فكما لا يستوي الأعمى والبصير لا يستوي المؤمن والكافر ، ولا يصحّ قياس الأصنام على الخالق جلّ وعلا.

ويقول ثانيا :( أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ ) كيف يمكن ان نساوي بين الظلام الذي يعتبر قاعدة الانحراف والضلال ، وبين النّور المرشد والباعث للحياة ، وكيف يمكن ان نجعل الأصنام التي هي الظّلمات المحضة الى جنب الله الذي هو النّور المطلق ، وما المناسبة بين الايمان والتوحيد اللذان هما نور القلب والروح ، وبين الشرك اصل الظلام؟!

ثمّ يدلل على بطلان عقيدة المشركين عن طريق آخر فيقول :( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) والحال ليس كذلك ، فإنّ المشركين أنفسهم لا يعتقدون بها ، فهم يعلمون انّ الله خالق كلّ شيء ، وعالم الوجود مرتبط به ، ولذلك تقول الآية :( قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) .

* * *

٣٦٧

بحوث

١ ـ الخالقية والرّبوبية يتطلّبان العبادة

يمكن ان يستفاد من الآية أعلاه انّ الخالق هو الربّ المدبّر ، لانّ الخلقة امر مستمر ودائمي ، وليس من خلق الكائنات يتركهم وشأنهم ، بل انّه تعالى يفيض بالوجود عليهم باستمرار وكلّ شيء يأخذ وجوده من ذاته المقدّسة ، وعلى هذا فنظام الخلقة وتدبير العالم كلّها بيد الله ، ولهذا السبب يكون هو النافع والضارّ. وغيره لا يملك شيء الّا منه ، فهل يوجد احد غير الله احقّ بالعبادة؟

٢ ـ كيف يسأل ويجيب بنفسه؟

بالنظر الى الآية أعلاه يطرح هذا السؤال : كيف امر الله نبيّه ان يسأل المشركين : من خلق السماوات والأرض؟ وبعدها بدون ان ينتظر منهم الجواب يأمر النّبي ان يجيب هو على السؤال وبدون فاصلة يوبّخ المشركين على عبادتهم الأصنام ، اي طراز هذا في السؤال والجواب؟

ولكن مع الالتفات الى هذه النقطة يتّضح لنا الجواب وهو انّه في بعض الأحيان يكون الجواب للسؤال واضح جدّا ولا يحتاج الى الانتظار. فمثلا نسأل أحدا : هل الوقت الآن ليل ام نهار؟ وبلا فاصلة نجيب نحن على السؤال فنقول : الوقت بالتأكيد ليل. وهذه كناية لطيفة ، حيث انّ الموضوع واضح جدّا ولا يحتاج الى الانتظار للجواب ، بالاضافة الى انّ المشركين يعتقدون بخلق الله للعالم ولم يقولوا ابدا انّ الأصنام خالقة السّماء والأرض ، بل كانوا يعتقدون بشفاعتهم وقدرتهم على نفع الإنسان ودفع الضرر عنه ، ولهذا السبب كانوا يعبدوهم. وبما انّ الخالقية غير منفصلة عن الرّبوبية يمكن ان نخاطب المشركين بهذا الحديث ونقول : أنتم الذين تقولون بأنّ الله خالق ، يجب ان تعرفوا انّ الربوبية لله كذلك ،

٣٦٨

ويختصّ بالعبادة ايضا لذلك.

٣ ـ العين المبصرة ونور الشمس شرطان ضروريان

يشير ظاهر المثالين (الأعمى والبصير) و (الظّلمات والنّور) الى هذه الحقيقة ، وهي انّ النظر يحتاج الى شيئين : العين المبصرة ، وشعاع الشمس ، بحيث لو انتفى واحد منهما فإنّ الرؤية لا تتحقّق ، والآن يجب ان نفكّر : كيف حال الافراد المحرومين من البصر والنّور؟ المشركون المصداق الواقعي لهذا ، فقلوبهم عمي ومحيطهم مليء بالكفر وعبادة الأصنام ، ولهذا السبب فهم في تيه وضياع. وعلى العكس فالمؤمنون بنظرهم الى الحقّ ، واستلهامهم من نور الوحي وارشادات الأنبياء عرفوا مسيرة حياتهم بوضوح.

٤ ـ هل انّ خلق الله لكلّ شيء دليل على الجبر؟

استدلّ جمع من اتباع مدرسة الجبر انّ جملة( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) في الآية أعلاه لها من السعة بحيث تشمل حتّى عمل الافراد ، فالله خالق اعمالنا ونحن غير مختارين.

يمكن ان نجيب على هذا القول بطريقين :

اوّلا : الجمل الاخرى للآية تنفي هذا الكلام ، لانّها تلوم المشركين بشكل اكيد فإذا كانت اعمالنا غير اختيارية ، فلما ذا هذا التوبيخ؟! وإذا كانت ارادة الله ان نكون مشركين فلما ذا يلومنا؟! ولماذا يسعى بالأدلّة العقليّة لتغيير مسيرتهم من الضلالة الى الهداية؟ كلّ هذا دليل على أنّ الناس أحرار في انتخاب طريقهم.

ثانيا : انّ الخالقية بالذات من مختصّات الله تعالى. ولا يتنافى مع اختيارنا في الأفعال ، لانّ ما نمتلكه من القدرة والعقل والشعور ، وحتّى الاختيار والحرية ، كلّها

٣٦٩

من عند الله ، وعلى هذا فمن جهة هو الخالق (بالنسبة لكلّ شيء وحتّى أفعالنا) ومن جهة اخرى نحن نفعل باختيارنا ، فهما في طول واحد وليس في عرض وأفق واحد ، فهو الخالق لكلّ وسائل الأفعال ، ونحن نستفيد منها في طريق الخير او الشرّ.

فمثلا الذي يؤسّس معملا لتوليد الكهرباء او لإنتاج أنابيب المياه ، يصنعها ويضعها تحت تصرّفنا ، فلا يمكن ان نستفيد من هذه الأشياء الّا بمساعدته ، ولكن بالنتيجة يكون التصميم النهائي لنا ، فيمكن ان نستفيد من الكهرباء لامداد غرفة عمليات جراحية وانقاذ مريض مشرف على الموت ، او نستخدمها في مجالس اللهو والفساد ، ويمكن ان نروي بالماء عطش انسان ونسقي وردا جميلا ، او نستخدم الماء في إغراق دور الناس وتخريبها.

* * *

٣٧٠

الآية

( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) )

التّفسير

وصف دقيق لمنظر الحقّ والباطل :

يستند القرآن الكريم ـ الذي يعتبر كتاب هداية وتربية ـ في طريقته الى الوقائع العينيّة لتقريب المفاهيم الصعبة الى أذهان الناس من خلال ضرب الأمثال الحسّية الرائعة من حياة الناس ، وهنا ـ ايضا ـ لأجل ان يجسّم حقائق الآيات السابقة التي كانت تدور حول التوحيد والشرك ، الايمان والكفر ، الحقّ والباطل ، يضرب مثلا واضحا جدّا لذلك

يقول اوّلا :( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) الماء عماد الحياة واصل النمو والحركة ،

٣٧١

( فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ) تتقارب السواقي الصغيرة فيما بينها ، وتتكوّن الأنهار وتتّصل مع بعضها البعض ، فتسيل المياه من سفوح الجبال العظيمة والوديان وتجرف كلّ ما يقف امامها ، وفي هذه الأثناء يظهر الزّبد وهو ما يرى على وجه الماء كرغوة الصابون من بين أمواج الماء حيث يقول القرآن الكريم :( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ) .

«الرابي» من «الربو» بمعنى العالي او الطافي ، والربا بمعنى الفائدة مأخوذ من نفس هذا الأصل.

وليس ظهور الزبد منحصرا بهطول الأمطار ، بل( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ) (١) اي الفلزات المذابة بالنّار لصناعة أدوات الزينة منها او صناعة الوسائل اللازمة في الحياة.

بعد بيان هذا المثال بشكله الواسع لظهور الزبد ليس فقط في الماء بل حتّى للفلزات وللمتاع ، يستنتج القرآن الكريم( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ ) ثمّ يتطرّق الى شرحه فيقول :( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) .

فأمّا الزبد الذي لا فائدة فيه فيذهب جفاء ويصير باطلا متلاشيا ، وامّا الماء الصافي النقي المفيد فيمكث في الأرض او ينفذ الى الاعماق وتتكوّن منه العيون والآبار تروي العطاش ، وتروي الأشجار لتثمر ، والازهار لتتفتّح ، وتمنح لكلّ شيء الحياة.

وفي آخر الآية ـ للمزيد من التأكيد في مطالعة هذه الأمثال ـ يقول تعالى :( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ ) .

* * *

__________________

(١) تشير هذه الآية الى الافران التي تستعمل لصهر الفلزان ، فهذه الافران تتميّز بوجود النّار من تحتها ومن فوقها يعني نار تحت الفلز ونار فوقه ، وهذه من أفضل انواع الافران حيث تحيط بها النّار من كلّ جانب.

٣٧٢

بحوث

هذا المثال البليغ الذي عبّر عنه القرآن الكريم بألفاظ موزونة وعبارات منظّمة. وصوّر فيها الحقّ والباطل بأروع صورة ، فيه حقائق مخفيّة كثيرة ونشير هنا الى قسم منها :

١ ـ ما هي علائم معرفة الحقّ والباطل؟

يحتاج الإنسان في بعض الأحيان لمعرفة الحقّ والباطل ـ إذا أشكل عليه الأمر ـ الى علائم وأمثال حتّى يتعرّف من خلالها على الحقائق والأوهام. وقد بيّن القرآن الكريم هذه العلامات من خلال المثال أعلاه :

الف : ـ الحقّ مفيد ونافع دائما ، كالماء الصافي الذي هو اصل الحياة. امّا الباطل فلا فائدة فيه ولا نفع ، فلا الزبد الطافي على الماء يروي ظمآنا أو يسقي أشجارا ، ولا الزبد الظاهر من صهر الفلزات يمكن ان يستفاد منه للزينة او للاستعمالات الحياتية الاخرى ، وإذا استخدمت لغرض فيكون استخدامها رديئا ولا يؤخذ بنظر الاعتبار كما نستخدم نشارة الخشب للإحراق.

باء : ـ الباطل هو المستكبر والمرفّه كثير الصوت ، كثير الأقوال لكنّه فارغ من المحتوى ، امّا الحقّ فمتواضع قليل الصوت ، وكبير المعنى ، وثقيل الوزن(١) .

جيم ـ الحقّ يعتمد على ذاته دائما ، امّا الباطل فيستمدّ اعتباره من الحقّ ويسعى للتلبّس به ، كما انّ (الكذب يتلبّس بضياء الصدق) ولو فقد الكلام الصادق من العالم لما كان هناك من يصدق الكذب. ولو فقدت البضاعة السليمة من العالم لما وجد من يخدع ببضاعة مغشوشة. وعلى هذا فوجود الباطل راجع الى شعاعه الخاطف واعتباره المؤقّت الذي سرقه من الحقّ ، امّا الحقّ فهو مستند الى نفسه واعتباره منه.

__________________

(١) يقول الامام عليعليه‌السلام في وصفه أصحابه يوم الجمل «وقد ارعدوا وابرقوا ومع هذين الأمرين الفشل ، ولسنا نرعد حتّى نوقع ولا نسيل حتّى نمطر».

٣٧٣

٢ ـ ما هو الزّبد؟

«الزبد» بمعنى الرغوة التي تطفوا على السائل ، والماء الصافي اقلّ رغوة ، لانّ الزبد يتكوّن بسبب اختلاط الأجسام الخارجية مع الماء ، ومن هنا يتّضح انّ الحقّ لو بقي على صفائه ونقائه لم يظهر فيه الخبث ابدا ، ولكن لامتزاجه بالمحيط الخارجي الملوّث فإنّه يكتسب منه شيئا ، فتختلط الحقيقة مع الخرافة ، والحقّ بالباطل ، والصافي بالخابط. فيظهر الزبد الباطل الى جانب الحقّ.

وهذا هو الذي يؤكّده الامام عليعليه‌السلام حيث يقول : لو انّ الباطل خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين ، ولو انّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه السن المعاندين».(١) .

يقول بعض المفسّرين انّ للآية أعلاه ثلاث امثلة : «نزول آيات القرآن» تشبيه بنزول قطرات المطر للخير ، «قلوب الناس» شبيهة بالأرض والوديان وبقدر وسعها يستفاد منها ، «وساوس الشيطان» شبيهة بالزبد الطافي على الماء ، فهذا الزبد ليس من الماء ، بل نشأ من اختلاط الماء بمواد الأرض الاخرى ، ولهذا السبب فوساوس النفس والشيطان ليست من التعاليم الالهية ، بل من تلوّث قلب الإنسان ، وعلى ايّة حال فهذه الوساوس تزول عن قلوب المؤمنين ويبقى صفاء الوحي الموجب للهداية والإرشاد.

٣ ـ الاستفادة تكون بقدر الاستعداد واللياقة!

يستفاد من هذه الآية ـ ايضا ـ انّ مبدا الفيض الالهي لا يقوم على البخل والحدود الممنوعة ، كما انّ السحاب يسقط امطاره في كلّ مكان بدون قيد او

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٥٠.

٣٧٤

شرط ، وتستفيد الأرض والوديان منها على قدر وسعها ، فالأرض الصغيرة تستفيد اقلّ والأرض الواسعة تستفيد اكثر ، وهكذا قلوب الناس في مقابل الفيض الالهي.

٤ ـ الباطل والأوضاع المضطربة

عند ما يصل الماء الى السهل او الصحراء ويستقرّ فيها ، تبدا المواد المختلطة مع الماء بالترشّح ويذهب الزبد فيظهر الماء النقي مرّة ثانية ، وعلى هذا النحو فالباطل يبحث عن سوق مضطربة حتّى يستفيد منها ، ولكن بعد استقرار السوق وجلوس كلّ تاجر في مكانه المناسب وتحقق الالتزامات والضوابط في المجتمع ، لا يجد الباطل له مكانا فينسحب بسرعة!

٥ ـ الباطل يتشكّل بأشكال مختلفة

انّ واحدة من خصائص الباطل هي انّه يغيّر لباسه من حين لآخر ، حتّى إذا عرفوه بلباسه يستطيع ان يخفي وجهه بلباس آخر ، وفي الآية أعلاه اشارة لطيفة لهذه المسألة ، حيث تقول : لا يظهر الزبد في الماء فقط ، بل يظهر حتّى في الافران المخصوصة لصهر الفلزات بشكل ولباس آخر ، وبعبارة اخرى فإنّ الحقّ والباطل موجودان في كلّ مكان كما يظهر الزبد في السوائل بالشكل المناسب لها. وعلى هذا يجب ان لا نخدع بتنوّع الوجوه وان نعرف أوجه الباطل ونطرحه جانبا.

٦ ـ ارتباط البقاء بالنفع

تقول الآية :( وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) ليس الماء فقط يبقى ويذهب الزبد الطافي عليه ، بل حتّى الفلزات تلك التي تستعمل للزينة او للمتاع

٣٧٥

يبقى الخالص منها ويذهب خبثه. وعلى هذا النحو فالناس والمدارس والمبادئ لهم حقّ الحياة على قدر منفعتهم ، وإذا ما رأينا بقاء اصحاب المبادئ الباطلة لفترة فإنّ ذلك بسبب وجود ذلك المقدار من الحقّ الذي اختلط فيه ، وبهذا المقدار له حقّ الحياة.

٧ ـ كيف يطرد الحقّ الباطل؟

«الجفاء» بمعنى الإلقاء والإخراج ، ولهذا نكتة لطيفة وهي انّ الباطل يصل الى درجة لا يمكن فيها ان يحفظ نفسه ، وفي هذه اللحظة يلقى خارج المجتمع ، وهذه العملية تتمّ في حالة هيجان الحقّ ، فعند غليان الحقّ يظهر الزبد ويطفو على سطح ماء القدر ويقذف الى الخارج ، وهذا دليل على انّ الحقّ يجب ان يكون في حالة هيجان وغليان دائما حتّى يبعد الباطل عنه.

٨ ـ الباطل مدين للحقّ ببقائه

كما قلنا في تفسير الآية ، فلو لم يكن الماء لما وجد الزبد ، ولا يمكن له ان يستمر ، كما انّه لولا وجود الحقّ فإنّ الباطل لا معنى له ولو لم يكن هناك اشخاص صادقون لما وقع احد تحت تأثير الافراد الخونة ولما صدّق بمكرهم ، فالشعاع الكاذب للباطل مدين في بقائه لنور الحقّ.

٩ ـ صراع الحقّ والباطل مستمر

المثال الذي ضربه لنا القرآن الكريم في تجسيم الحقّ والباطل ليس مثالا محدودا في زمان ومكان معينين ، فهذا المنظر يراه الناس في جميع مناطق العالم المختلفة ، وهذا يبيّن انّ عمل الحقّ والباطل ليس مؤقتا وآنيا. وجريان الماء

٣٧٦

العذب والمالح مستمر الى نفخ الصور ، الّا إذا تحوّل المجتمع الى مجتمع مثالي (كمجتمع عصر الظهور وقيام الامام المهديعليه‌السلام ) فعنده ينتهي هذا الصراع ، وينتصر الحقّ ويطوي بساط الباطل ، وتدخل البشرية مرحلة جديدة من تاريخها ، والى ان نصل الى هذه المرحلة فالصراع مستمر بين الحقّ والباطل ، ويجب ان نحدّد موقفنا في هذا الصراع.

١٠ ـ تزامن الحياة مع السعي والجهاد

المثال الرائع أعلاه يوضّح هذا الأساس لحياة الناس ، وهو انّ الحياة بدون جهاد غير ممكنة ، والعزّة بدون سعي غير ممكنة ايضا ، لانّه يقول : يجب ان يذهب الناس الى المناجم لتهيئة مستلزمات حياتهم في المتاع والزينة( ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ ) . وللحصول على هذين الشيئين يجب تنقية المواد الخام من الشوائب بواسطة نيران الافران للحصول على الفلز الخالص الصالح للاستعمال ، وهذا لا يتمّ الّا من خلال السعي والمجاهدة والعناء.

وهذه هي طبيعة الحياة حيث يوجد الى جانب الورد الشوك ، والى جانب النصر توجد المصاعب والمشكلات ، وقالوا في القديم : (الكنوز في الخرائب وفوق كلّ كنز يوجد ثعبان نائم) ، فإنّ هذه الخربة والثعبان تمثّلان المشاكل والصعوبات للحصول على الموفّقية في الحياة.

ويؤكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة وهي انّ التوفيق لا يحصل الّا بتحمّل المصاعب والمحن ، يقول جلّ وعلا في الآية (٢١٤) من سورة البقرة :( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) .

٣٧٧

الأمثال في القرآن :

انّ دور المثال في توضيح وتفسير الغايات له اهميّة كبيرة غير قابلة للإنكار ، ولهذا السبب لا يوجد اي علم يستغني عن ذكر المثال لاثبات وتوضيح الحقائق وتقريب معناها الى الأذهان ، وتارة ينطبق المثال مع المقصود بشكل يجعل المعاني الصعبة تنزل من السّماء الى الأرض وتكون مفهومة للجميع ، فيمكن ان يقال : انّ المثال له دور مؤثّر في مختلف الأبحاث العلمية والتربوية والاجتماعية والاخلاقية وغيرها ، ومن جملة تأثيراته :

١ ـ المثال يجعل المسائل محسوسة :

من المعلوم أنّ الإنسان يأنس بالمحسوسات أكثر ، أمّا الحقائق العلمية المعقّدة فهي بعيدة المنال. والأمثال تقرّب هذه الفواصل وتجعل الحقائق المعنوية محسوسة ، وإدراكها يسير ولذيذ.

٢ ـ المثال يقرّب المعنى :

تارة يحتاج الإنسان لاثبات مسألة منطقية او عقلية الى ادلّة مختلفة ، ومع كلّ هذه الادلّة تبقى هناك نقاط مبهمة محيطة بها ، ولكن عند ذكر مثال واضح منسّق مع الغاية يقرّب المعنى ويعزّز الادلّة ويقلّل من كثرتها.

٣ ـ المثال يعمّم المفاهيم

كثير من البحوث العلمية بشكلها الاصلي يفهمها الخواص فقط ، ولا يستفيد منها عامّة الناس ، ولكن عند ما يصحبها المثال تكون قابلة للفهم ، ويستفيد منها الناس على اختلاف مستوياتهم العلمية ، ولهذا فالمثال وسيلة لتعميم الفكر

٣٧٨

والثقافة.

٤ ـ المثال ، يزيد في درجة التصديق :

مهما تكن الكليّات العقلية منطقية ، فإنّها لا تخلق حالة اليقين الكافية في ذهن الإنسان ، لانّ الإنسان يبحث عن اليقين في المحسوسات ، فالمثال يجعل من المسألة الذهنيّة واقعا عينيّا ، ويوضّحها في العالم الخارجي ، ولهذا السبب فإنّ له اثره في زيادة درجة تصديق المسائل وقبولها.

٥ ـ المثال يخرس المعاندين :

كثيرا ما لا تنفع الادلّة العقليّة والمنطقيّة لاسكات الشخص المعاند حيث يبقى مصرّا على عناده ولكن عند ما نصب الحديث في قالب المثال نوصد الطريق عليه بحيث لا يبقى له مجال للتبرير ولا لاختلاق الاعذار. ولا بأس ان نطرح هنا بعض الامثلة حتّى نعرف مدى تأثيرها : نقرا في القرآن الكريم انّ الله سبحانه وتعالى يرد على الذين اشكلوا على ولادة السّيد المسيحعليه‌السلام كيف انّه ولد من امّ بغير أب( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ) .(١)

لاحظوا جيدا ، فنحن مهما حاولنا ان نقول للمعاندين : انّ هذا العمل بالنسبة الى قدرة الله المطلقة لا شيء ، فمن الممكن ان يحتجّوا ايضا ، ولكن عند ما نقول لهم هل تعتقدون انّ آدم خلقه الله من تراب؟ فإنّ الله الذي له هذه القدرة كيف لا يستطيع إيجاد شخص بدون أب؟!

__________________

(١) آل عمران ، ٥٩.

٣٧٩

وبالنسبة الى المنافقين الذين يقضون في ظلّ نفاقهم ايّاما مريحة ظاهرا ، فإنّ القرآن الكريم يضرب مثالا رائعا عن حالهم ، فيشبهّهم بالمسافرين في الصحراء فيقول( يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(١) .

فهل يوجد أوضح من هذا الوصف للمنافق التائه في الطريق ، ليستفيد من نفاقه وعمله كي يستمرّ في حياته؟

وعند ما تقول للافراد : انّ الإنفاق يضاعفه لكم الله عدّة مرّات قد لا يستطيعون ان يفهموا هذا الحديث ، ولكن يقول القرآن الكريم :( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) (٢) ، وهذا المثال الواضح اقرب للإدراك.

وغالبا ما نقول : انّ الرياء لا ينفع الإنسان ، فقد يكون هذا الحديث ثقيلا على البعض ، كيف يمكن لهذا العمل ان يكون غير مفيد ، فبناء مستشفى او مدرسة حتّى لو كان بقصد الرياء لماذا ليست له قيمة عند الله؟!

ولكن يضرب الله مثالا رائعا حيث يقول :( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً ) .(٣) ولكي لا نبتعد كثيرا فالآية التي نحن بصدد تفسيرها تبحث في مجال الحقّ والباطل وتجسّم هذه المسألة بشكل دقيق ، المقدّمات والنتائج ، والصفات والخصوصيات والآثار ، وتجعلها قابلة الفهم للجميع وتسكت المعاندين ، واكثر

__________________

(١) البقرة ، ٢٠.

(٢) البقرة ، ٢٦١.

(٣) البقرة ، ٢٦٤.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572