الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287978 / تحميل: 5235
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

لأنّه قد أوجد الأحكام المسبقة الخاطئة عنده ، وسمح للأهواء النفسية والتعصبات العمياء المتطرفة أن تتغلب على توجهه ، ووقع في أسر الذات والغرور ، ولوث صفاء قلبه وطهارة روحه بأمور قد جعلها موانع أمام فهم وإدراك الحقائق.

وجاء في الحديث الشريف : «لو لا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات».

فأوّل شرط ينبغي تحقيقه لمن رام السير على طريق الحق هو تهذيب النفس وامتلاك التقوى ، وبدون ذلك يقع الإنسان في ظلمات الوهم فيضل الطريق.

ويشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة ب( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

وكم من أناس طلبوا آيات القرآن بتعصب وعناد وأحكام مسبقة (فردية أو اجتماعية) وحملوا القرآن بما يريدون لا بما يريده القرآن ، فازدادوا ضلالا بدلا من أن يكون القرآن هاديا لهم (وطبيعي أنّ القرآن بآياته وحقائقه الناصعة لا يكون وسيلة للإضلال ، ولكنّ أهواءهم وعنادهم هو الذي جرّهم لذلك) والآيتان (124 و 125) من سورة التوبة تبيّن لنا هذه الحالة بكل وضوح :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ ) .

فالمقصود بالآية عدم الاكتفاء بذكر (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) بل ينبغي أن نجعل من هذا الذكر فكرا ، ومن الفكر حالة داخلية ، وعند ما نقرأ آيّة نستعيذ بالله من أن تستحوذ وساوس الشيطان علينا ، أو أن تحول بيننا وبين كلام الله جل وعلا.

2 ـ لما ذا يكون التعوذ «من الشيطان الرجيم»؟

«الرجيم» : من (رجم) ، بمعنى الطرد ، وهو في الأصل بمعنى الرمي بالحجر ثمّ استعمل في الطرد.

٣٢١

ونلاحظ ذكر صفة طرد الشيطان من دون جميع صفاته ، للتذكير بتكبّره على أمر الله حين أمره بالسجود والخضوع لآدم ، وإنّ ذلك التكبّر الذي دخل الشيطان بات بمثابة حجاب بينه وبين إدراك الحقائق ، حتى سولت له نفسه أن يعتقد بأفضليته على آدم وقال :( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) .

فكان ذلك العناد والغرور سببا لتمرده على أمر اللهعزوجل ممّا أدى لكفره ومن ثمّ طرده من الجنّة.

وكأنّ القرآن الكريم يريد أن يفهمنا باستخدامه كلمة «الرجيم» بضرورة الاحتياط والحذر من الوقوع في حالة التكبّر والغرور والتعصب عند تلاوة آيات الله الحكيم ، لكي لا نقع بما وقع به الشيطان من قبل ، فنهوى في وحل الكفر بدلا من إدراك وفهم الحقائق القرآنية.

3 ـ بين لوائي الحقّ والباطل

قسمت الآيات أعلاه الناس إلى قسمين : قسم يرزح تحت سلطة الشيطان وقسم خارج عن هذه السلطة ، وبيّنت صفتين لكلّ من هذين القسمين :

فالذين هم خارج سلطة الشيطان : مؤمنون ومتوكلون على اللهعزوجل ، أي أنّهم من الناحية الاعتقادية عباد لله ، ومن الناحية العملية يعيشون مستقلين عن كل شيء سوى الله، ويتوكلون عليه لا على البشر أو على الأهواء والتعصبات.

أمّا الذين يرزحون تحت سلطة الشيطان ، فقائدهم الشيطان( يَتَوَلَّوْنَهُ ) وهو مشركون ، لأنّ أعمالهم تشير إلى تبعيتهم للشيطان وأوامره كشريك لله جل وعلا.

وثمة من يسعى لأن يكون من القسم الأوّل ، ولكنّ ابتعاده عن المربّين الإلهيين ، أو الضياع في محيط فاسد ، أو أيّ أسباب أخرى ، تؤدي الى سقوطه في وحل القسم الثّاني.

وعلى أيّة حال ، فالآية تؤكّد حقيقة أنّ سلطة الشيطان ليست إجبارية على

٣٢٢

الإنسان ، ولا يتمكن من التأثير على الإنسان من دون أن يمهد الإنسان السبيل لدخول الشيطان في نفسه ، ويعطيه إجازة المرور من بوابة قلبه.

4 ـ آداب تلاوة القرآن :

كل شيء يحتاج الى برنامج معين ولا يستثنى كتاب عظيم ـ كالقرآن الكريم ـ من هذه القاعدة ، لذلك فقد ذكر في القرآن بعض الآداب والشروط لتلاوة كلام الله والاستفادة من آياته :

1 ـ يقول تعالى أوّلا :( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ، ويمكن أن يشير هذا التعبير إلى الطهارة الظاهرية ، كأن يكون مس كتابة القرآن مشروط بالطهارة والوضوء ، وكذا الإشارة إلى إمكان تيسر الوصول لفهم محتوى آيات القرآن من خلال تطهير النفس من الرذائل الأخلاقية ، لأنّ الصفات القبيحة تمنع من مشاهدة جمال الحق باعتبارها حجابا مظلما بين الإنسان والحقائق.

2 ـ يجب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قبل الشروع بتلاوة آيات الله( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) .

وعند ما سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن طريقة العمل بهذا القول ، يروى أنّه قال : «قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم».

وفي رواية أخرى ، عند تلاوتهعليه‌السلام لسورة الحمد قال : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله أن يحضرون».

وكما قلنا ، فإنّ التلفظ ـ فقط ـ في الاستعاذة لا يغني من الحق شيئا ، ما لم تنفذ الاستعاذة إلى أعماق الروح بشكل ينفصل فيه الإنسان عند التلاوة عن إرادة الشيطان ، ويقترب من الصفات الإلهية ، لترتفع عن فكره موانع فهم كلام الحق ، وليرى جمال الحقيقة بوضوح تام.

فالاستعاذة بالله من الشيطان ـ إذن ـ لازمة قبل الشروع بالتلاوة ، ومستمرّة

٣٢٣

مع التلاوة إلى آخرها وإن لم يكن ذلك باللسان.

3 ـ تجب القراءة ترتيلا ، أي مع التفكّر والتأمّل( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) (1) .

وفي تفسير هذه الآية روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ القرآن لا يقرأ هزرمة ولكن يرتل ترتيلا ، إذا مررت بآية فيها ذكر النّار وقفت عندها وتعوّذت بالله من النّار»(2) .

4 ـ وقد ورد الأمر بالتدبّر والتفكّر في القرآن إضافة إلى الترتيل. حيث جاء في الآية (82) من سورة النساء :( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) .

وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنّهم كانوا يأخذون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر آيات ، فلا يأخذون في العشر الأخر حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل.

وفي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه»(3) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون»(4) . (ولكنّ ذوي الضمائر الحيّة والعلماء المؤمنين ، يستطيعون رؤية جماله المتجلّي في كلامه جل وعلا).

5 ـ على الذين يستمعون إلى تلاوة القرآن أن ينصتوا إليه بتفكّر وتأمّل( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (5) .

وثمة أحاديث شريفة تحث على قراءة القرآن بصوت حسن ، لما له من فعل مؤثر في تحسّس مفاهيمه ، ولكنّ المجال لا يسمح لنا بتفصيل ذلك(6) .

* * *

__________________

(1) سورة المزمل ، 4.

(2) بحار الأنوار ، ج 89 ، ص 106.

(3) المصدر السابق.

(4) بحار الأنوار ، ج 92 ، ص 107.

(5) الأعراف ، 204.

(6) مزيد من الاطلاع راجع بحار الأنوار ، ج 9 ، ص 190 وما بعدها.

٣٢٤

الآيات

( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) )

سبب النّزول

يقول ابن عباس : (كانوا يقولون : يسخر محمّد بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر وغدا يأمرهم بأمر ، وإنّه لكاذب ، يأتيهم بما يقول من عند نفسه).

التّفسير

الافتراء

تحدثت الآيات السابقة أسلوب الاستفادة من القرآن الكريم ، وتتناول

٣٢٥

الآيات مورد البحث جوانب أخرى من المسائل المرتبطة بالقرآن ، وتبتدئ ببعض الشبهات التي كانت عالقة في أذهان المشركين حول الآيات القرآنية المباركة ، فتقول :( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ) فهذا التغيير والتبديل يخضع لحكمة الله ، فهو أعلم بما ينزل، وكيف ينزل ، ولكن المشركين لجهلهم( قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

وحقيقة الأمر أنّ المشركين لم يتوصلوا بعد لإدراك وظيفة القرآن وما يحمل من رسالة ، ولم يدخل في تصوراتهم وأذهانهم أنّ القرآن في صدد بناء مجتمع إنساني جديد يسوده التطور والتقدم والحرية والمعنوية العالية نعم ، فأكثرهم لا يعلمون.

فبديهي والحال هذه أن يطرأ على وصفة الدواء الإلهي لنجاة هؤلاء المرضى التغيير والتبديل تدرجا مع ما يعيشونه ، فما يعطون اليوم يكمله الغد وهكذا حتى تتمّ الوصفة الشاملة.

فغفلة المشركين عن هذه الحقائق وابتعادهم عن ظروف نزول القرآن ، دفعهم للاعتقاد بأنّ أقوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمل بين ثناياها التناقض أو الافتراء على اللهعزوجل ! وإلّا لعلموا أنّ النسخ في الأحكام جزء من أوامر وآيات القرآن المنظمة على شكل برنامج تربوي دقيق لا يمكن الوصول للهدف النهائي لنيل التكامل إلّا به.

فالنسخ في أحكام مجتمع يعيش حالة انتقالية بين مرحلتين يعتبر من الضروريات العملية والواقعية ، فالتحول والانتقال بالناس من مرحلة إلى أخرى لا يتم دفعة واحدة ، بل ينبغي أنّ يمر بمراحل انتقالية دقيقة.

أيمكن معالجة مريض مزمن في يوم واحد؟

أو شفاء رجل مدمن على المخدرات لسنوات عديدة في يوم واحد؟ أو ليس التدرج في المعالجة من أسلم الأساليب؟

٣٢٦

وبعد الإجابة على هذه الأسئلة لا يبقى لنا إلّا أن نقول : ليس النسخ سوى برنامج مؤقت في مراحل انتقالية.

(لقد بحثنا موضوع النسخ في تفسير الآية (36) من سورة البقرة ـ فراجع).

وتستمر الآية التالية بنفس الموضوع ، وللتأكيد عليه تأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن :( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ ) .

«روح القدس» أو (الرّوح المقدسة) هو أمين الوحي الإلهي «جبرائيل الأمين» ، وبواسطته كانت الآيات القرآنية تتنزّل بأمر الله تعالى على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سواء الناسخ منها أو المنسوخ.

فكل الآيات حق ، وهدفها واحد يتركز في توجيه الإنسان ضمن التربية الرّبانية له،وظروف وتركيبة الإنسان استلزمت وجود الأحكام الناسخة والمنسوخة في العملية التربوية.

ولهذا ، جاء في تكملة الآية المباركة :( لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) .

يقول صاحب تفسير الميزان : إنّ تعريف الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين إنّما هو لما بين الإيمان والإسلام من الفرق ، فالإيمان للقلب ونصيبه التثبيت في العلم والإذعان ، والإسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الاهتداء إلى واجب العمل والبشرى بأنّ الغاية هي الجنّة والسعادة.

وعلى أيّة حال ، فلأجل تقوية الروح الإيمانية والسير في طريق الهدى والبشرى لا بدّ من برامج قصيرة الأمد ومؤقتة ، وبالتدريج يحل البرنامج النهائي الثابت محلها ، وهو سبب وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات الإلهية.

وبعد أن فنّد القرآن شبهات المشركين يتطرق لذكر شبهة أخرى ، أو على الأصح لذكر افتراء آخر لمخالفي نبي الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ

٣٢٧

يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) .

اختلف المفسّرون في ذكر اسم الشخص الذي ادّعى المشركون أنّه كان يعلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

فعن ابن عباس : أنّه رجل يدعى (بلعام) كان يصنع السيوف في مكّة : وهو من أصل رومي وكان نصرانيا.

واعتبره بعضهم : غلاما روميا لدى بني حضرم واسمه (يعيش) أو (عائش) وقد أسلم وأصبح من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقال آخرون : إنّ معلّمه غلامين نصرانيين أحدهما اسمه (يسار) والآخر (جبر) وكان لهما كتاب بلغتهما يقرءانه بين مدّة وأخرى بصوت عال.

واحتمل بعضهم : أنّه (سلمان الفارسي) ، في حين أن سلمان الفارسي التحق بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة وأسلم على يديه هناك ، وأنّ هذه التهم التي أطلقها المشركون كانت في مكّة ، أضف إلى ذلك كون القسم الأعظم من سورة النحل مكي وليس مدنيا.

وعلى أيّة حال ، فالقرآن أجابهم بقوة وأبطل كل ما كانوا يفترون ، بقوله :( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ (1) إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ (2) وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) .

فإن كان مقصودهم في تهمتهم وافترائهم أنّ معلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لألفاظ القرآن هو شخص أجنبي لا يفقه من العربية وبلاغتها شيئا فهذا في منتهى السفه ، إذ كيف يمكن لفاقد ملكة البيان العربي أن يعلّم هذه البلاغة والفصاحة التي عجز أمامها أصحاب اللغة أنفسهم ، حتى أنّ القرآن تحداهم بإتيان سورة من مثله فما

__________________

(1) يلحدون : من الإلحاد بمعنى الانحراف عن الحق إلى الباطل ، وقد يطلق على أيّ انحراف ، والمراد هنا : إنّ الكاذبين يريدون نسبة القرآن إلى إنسان ويدعون بأنّه معلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

(2) الإعجام والعجمة لغة : بمعنى الإبهام ، ويطلق الأعجمي على الذي في بيانه لحن (نقص) سواء كان من العرب أو من غيرهم ، وباعتبر أنّ العرب ما كانوا يفهمون لغة غيرهم فقد استعملوا اسم (العجم) على غير العرب.

٣٢٨

استطاعوا ناهيك عن عدد الآيات؟! وإن كانوا يقصدون أنّ المحتوى القرآني هو من معلّم أجنبي فردّ ذلك أهون من الأوّل وأيسر ، إذ أن المحتوى القرآني قد صبّ في قالب كل عباراته وألفاظه من القوة بحيث خضع لبلاغته وإعجازه جميع فطاحل فصحاء العرب ، وهذا ما يرشدنا لكون الواضع يملك من القدرة على البيان ما تعلو وقدرة وملكة أيّ إنسان ، وليس لذلك أهلا سوى اللهعزوجل وسبحانه عمّا يشركون.

وبنظرة تأمّلية فاحصة نجد في محتوى القرآن أنّه يمتلك المنطق الفلسفي العميق في إثبات عقائده ، وكذا الحال بالنسبة لتعاليمه الأخلاقية في تربية روح الإنسان وقوانينه الاجتماعية المتكاملة ، وأنّ كلّ ما في القرآن هو فرق طاقة المستوى الفكري البشري حقّا ويبدو لنا أن مطلقي الافتراءات المذكورة هم أنفسهم لا يعتقدون بما يقولون ، ولكنّها شيطنة ووسوسة يدخلونها في نفوس البسطاء من الناس ليس إلّا.

والحقيقة أنّ المشركين لم يجدوا من بينهم من ينسبون إليه القرآن ، ولهذا حاولوا اختلاق شخص مجهول لا يعرف الناس عنه شيئا ونسبوا إليه القرآن ، عسى بفعلهم هذا أن يتمكنوا من استغفال أكبر قدر ممكن من البسطاء.

أضف إلى ذلك كله أن تاريخ حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسجل له اتصالات دائمة مع هذه النوعيات من البشر ، وإن كان (على سبيل الفرض) صاحب القرآن موجودا ألا يستلزم ذلك اتصال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به وباستمرار؟ إنّهم حاولوا التشبث لا أكثر ، وكما قيل : (الغريق يتشبّث بكل حشيش).

إنّ نزول القرآن في البيئة الجاهلية وتفوقه الإعجازي أمر واضح ، ولم يتوقف تفوقه حتى في عصرنا الحاضر حيث التقدم الذي حصل في مختلف مجالات التمدّن الإنساني ، والتأليفات المتعمقة التي عكست مدى قوّة الفكر البشري المعاصر.

٣٢٩

نعم ، فمع كل ما وصلت إليه البشرية من قوانين وأنظمة ما زال القرآن هو المتفوق وسيبقى.

وذكر سيد قطب في تفسيره : أنّ جمعا من الماديين في روسيا عند ما أرادوا الانتقاض من القرآن في مؤتمر المستشرقين المنعقد في سنة (1954 م) قالوا : إنّ هذا الكتاب لا يمكن أن ينتج من ذهن إنسان واحد «محمّد» بل يجب أن يكون حاصل سعي جمع كثير من الناس بما لا يصدق كونهم جميعا من جزيرة العرب ، وإنّما يقطع باشتراك جمع منهم من خارج الجزيرة(1) .

ولقد كانوا يبحثون ـ وفقا لمنطقهم الإلحادي ـ عن تفسير مادي لهذا الأمر من جهة، وما كانوا يعقلون أن القرآن نتاج إشراقة عقلية لإنسان يعيش في شبه الجزيرة العربية من جهة أخرى ، ممّا اضطرّهم لأن يطرحوا تفسيرا مضحكا وهو : اشتراك جمع كثير من الناس ـ في تأليف القرآن ـ من داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها!! على أنّ التاريخ ينفي ما ذهبوا إليه جملة وتفصيلا.

وعلى أيّة حال ، فالآية المباركة دليل الإعجاز القرآني من حيث اللفظ والمضمون ، فحلاوة القرآن وبلاغته وجاذبيته والتناسق الخاص في ألفاظه وعباراته ما يفوق قدرة أيّ إنسان. (قد كان لنا بحث مفصل في الإعجاز القرآني تناولناه في تفسير الآية (23) من سورة البقرة ـ فراجع).

وبلهجة المهدد المتوعّد يبيّن القرآن الكريم أنّ حقيقة هذه الاتهامات والانحرافات ناشئة من عدم انطباع الإيمان في نفوس هؤلاء ، فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

لأنّهم غير لائقين للهداية ولا يناسبهم إلّا العذاب الإلهي ، لما باتوا عليه من التعصب والعناد والعداء للحق.

__________________

(1) في ضلال القرآن ، ج 5 ، ص 282.

٣٣٠

وفي آخر الآية يقول : إنّ الأشخاص الذين يتّهمون أولياء الله هم الكفار :( إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ) ، فهم الكاذبون وليس أنت يا محمّد ، لأنهم مع ما جاءهم من آيات بينات وأدلة قاطعة واضحة ولكنّهم يستمرون في إطلاق الافتراءات والأكاذيب.

فأيّة أكاذيب أكبر من تلك التي تطلق على رجال الحق لتحول بينهم وبين المتعطشين للحقائق!

* * *

بحوث

1 ـ قبح الكذب في المنظور الإسلامي

الآية الأخيرة بحثت مسألة قبح الكذب بشكل عنيف ، وقد جعلت الكاذبين بدرجة الكافرين والمنكرين للآيات الإلهية.

ومع أنّ موضوع الآية هو الكذب والافتراء على الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ الآية تناولت قبح الكذب بصورة إجمالية.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أعطت التعاليم الإسلامية إفاضات خاصّة لمسألة الصدق والنهي عن الكذب ، وإليكم نماذج مختصرة ومفهرسة لجوانب الموضوع :

الصدق والأمانة من علائم الإيمان وكمال الإنسان ، حتى أنّ دلالتهما على الإيمان أرقى من دلالة الصلاة.

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإنّ ذلك شيء قد اعتاده ولو تركه استوحش لذلك ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(1) .

__________________

(1) سفينة البحار ، مادة (صدق) ، نقلا عن الكافي.

٣٣١

فذكر الصدق مع الأمانة لاشتراكهما في جذر واحد ، وما الصدق إلّا الأمانة في الحديث ، وما الأمانة إلّا الصدق في العمل.

2 ـ الكذب منشأ جميع الذنوب :

وقد اعتبرت الأحاديث الشريفة الكذب مفتاح الذنوب

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنّة»(1) .

وعن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ اللهعزوجل جعل للبشر أقفالا ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شر من الشراب»(2) .

وعن الإمام العسكريعليه‌السلام أنّه قال : «جعلت الخبائث كلها في بيت وجعل مفتاحها الكذب»(3) .

فالعلاقة بين الكذب وبقية الذنوب تتلخص في كون الكاذب لا يتمكن من الصدق، لأنّه سيكون موجبا لفضحه ، فتراه يتوسّل بالكذب عادة لتغطية آثار ذنوبه.

وبعبارة أخرى : إنّ الكذب يطلق العنان للإنسان للوقوع في الذنوب ، والصدق يحدّه.

وقد جسد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الحقيقة بكل وضوح عند ما جاءه رجل وقال له : يا رسول الله ، إنّي لا أصلي وأرتكب القبائح وأكذب ، فأيّها أترك أوّلا؟.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الكذب» ، فتعهد الرجل للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يكذب أبدا.

فلمّا خرج عرضت له نيّة منكر فقال في نفسه : إن سألني رسول الله غدا عن أمري، ما ذا أقول له! فإن أنكرت كان كاذبا ، وإن صدقت جرى عليّ الحد. وهكذا

__________________

(1) مشكاة الأنوار للطبرسي ، ص 157.

(2) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 254.

(3) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 233.

٣٣٢

ترك الكذب في جميع أفعاله القبيحة حتى تورّع عنها جميعا.

ولذا فترك الكذب طريق لترك الذنوب.

3 ـ الكذب منشأ للنفاق :

لأنّ الصدق يعني تطابق اللسان مع القلب ، في حين أنّ الكذب يعني عدم تطابق اللسان مع القلب ، وما النفاق إلّا الاختلاف بين الظاهر والباطن.

والآية (77) من سورة التوبة تبيّن لنا ذلك بوضوح :( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

4 ـ لا انسجام بين الكذب والإيمان :

وإضافة إلى الآية المباركة فثمة أحاديث كثيرة تعكس لنا هذه الحقيقة الجليّة

فقد روي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل : يكون المؤمن جبانا؟ قال : «نعم» ، قيل:ويكون بخيلا؟ قال : «نعم» ، قيل : يكون كذّابا؟ قال : «لا»(1) .

ذلك لأنّ الكذب من علائم النفاق ، وهو لا يتفق مع الإيمان.

وبهذا المعنى نقل عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه أشار لهذا المعنى واستدل عليه بالآية مورد البحث.

5 ـ الكذب يرفع الاطمئنان :

إنّ وجود الثقة والاطمئنان المتبادل من أهم ما يربط الناس فيما بينهم ، والكذب من الأمور المؤثرة في تفكيك هذه الرابطة لما يشبعه من خيانة وتقلب ،

__________________

(1) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 322.

٣٣٣

ولذلك كان تأكيد الإسلام على أهمية الالتزام بالصدق وترك الكذب.

ومن خلال الأحاديث الشريفة نلمس بكل جلاء نهي الأئمّةعليهم‌السلام عن مصاحبة مجموعة معينة من الناس ، منهم الكذّابون لعدم الثقة بهم.

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «إيّاك ومصادقة الكذّاب ، فإنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعد عليك القريب»(1) .

والحديث عن قبح الكذب وفلسفته ، والأسباب الداعية إليه من الناحية النفسية ، وطرق مكافحته ، كل ذلك يحتاج إلى تفصيل طويل لا يمكن لبحثنا استيعابه ، ولمزيد من الاطلاع راجع كتب الأخلاق(2) .

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، قم 37.

(2) راجع كتابنا (الحياة على ضوء الأخلاق).

٣٣٤

الآيات

( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) )

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرون في شأن نزول الآية الأولى من هذه الآيات أنّها : نزلت في جماعة أكرهوا ـ وهو : عمار وأبوه ياسر وأمّة سمية وصهيب وبلال وخبّاب ـ عذّبوا وقتل أبو عمار وأمّه وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ، ثمّ أخبر سبحانه

٣٣٥

بذلك رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال قوم : كفر عمّار. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلا : «إنّ عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه دمه» وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما وراءك»؟ فقال : شرّ يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينيه ويقول : «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» ، فنزلت الآية.

التّفسير

المرتدون عن الإسلام :

تكمل هذه الآيات ما شرعت به الآيات السابقة من الحديث عن المشركين والكفار وما كانوا يقومون به ، فتتناول الآيات فئة أخرى من الكفرة وهم المرتدون.

حيث تقول الآية الأولى :( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

وتشير الآية إلى نوعين من الذين كفروا بعد إيمانهم :

النوع الأوّل : هم الذين يقعون في قبضة العدو الغاشم ويتحملون أذاه وتعذيبه ، ولكنّهم لا يصبرون تحت ضغط ما يلاقوه من أعداء الإسلام ، فيعلنون براءتهم من الإسلام وولاءهم للكفر ، على أنّ ما يعلنوه لا يتعدى حركة اللسان ، وأمّا قلوبهم فتبقى ممتلئة بالإيمان.

فهذا النوع يكون مشمولا بالعفو الإلهي بلا ريب ، بل لم يصدر منهم ذنب ، لأنّهم قد ما رسوا التقية التي أحلها الإسلام لحفظ النفس وحفظ الطاقات للاستفادة منها في طريق خدمة دين اللهعزوجل .

النوع الثّاني : هم الذين يفتحون للكفر أبواب قلوبهم حقيقة ، ويغيّرون

٣٣٦

مسيرتهم ويتخلّون عن إيمانهم ، فهؤلاء يشملهم غضب اللهعزوجل وعذابه العظيم.

ويمكن أن يكون «غضب الله» إشارة إلى حرمانهم من الرحمة الإلهية والهداية في الحياة الدنيا ، و «العذاب العظيم» إشارة إلى عقابهم في الحياة الأخرى وعلى أيّة حال ، فما جاء في الآية من وعيد للمرتدين هو في غاية الشدة.

وتتطرق الآية التالية إلى أسباب ارتداد هؤلاء ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) الذين يصرّون على كفرهم وعنادهم.

وخلاصة المقال : حين أسلم هؤلاء تضررت مصالحهم المادية وتعرضت للخطر المؤقت، فندموا على إسلامهم لشدّة حبّهم لدنياهم ، وعادوا خاسئين إلى كفرهم.

وبديهي أن من لا يرغب في الإيمان ولا يسمح له بالدخول إلى أعماق نفسه ، لا تشمله الهداية الإلهية ، لأنّ الهداية تحتاج إلى مقدمات كالسعي للحصول على رضوانه سبحانه والجهاد في سبيله ، وهذا مصداق لقولهعزوجل في آخر سورة العنكبوت :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) .

وتأتي الآية الأخرى لتبيّن سبب عدم هدايتهم ، فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ) بحيث أنّهم حرموا من نعمة الرؤية والسمع وادراك الحقائق :( وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) .

وكما قلنا سابقا فإنّ ارتكاب الذنوب وفعل القبائح يترك أثره السلبي على إدراك الإنسان للحقائق وعلى عقله ورؤيته السليمة ، وتدريجيا يسلب منه سلامة الفكر ، وكلما ازداد في غيه كلّما اشتدت حجب الغفلة على قلبه وسمعه وبصره ، حتى يؤول به المآل إلى أن يصبح ذا عين ولكن لا يرى بها ، وذا أذن وكأنّه لا يسمع

٣٣٧

بها ، وتغلق أبواب روحه من تقبّل أيّة حقيقة ، فيخسر الحس التشخيصي والقدرة على التمييز ، والتي تعتبر من النعم الإلهي العالية.

«الطبع» هنا : بمعنى «الختم» ، وهو إشارة إلى حالة الإحكام المطلق ، فلو أراد شخص مثلا أن يغلق صندوقا معينا بشكل محكم كي لا تصل إليه الأيدي فإنّه يقوم بربطه بالحبال وغيرها ، ومن ثمّ يقوم بوضع ختم من الشمع على باب الصندوق للاطمئنان من عبث العابثين.

ثمّ تعرض الآية التالية عاقبة أمرهم ، فتقول :( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

وهل هناك من هو أتعس حالا من هذا الإنسان الذي خسر جميع طاقاته وامكاناته لنيل السعادة الدائمة بإتباعه هوى النفس.

وبعد ذكر الفئتين السابقتين ، أي الذين يتلفظون بكلمات الكفر وقلوبهم ملأى بالإيمان ، والذين ينقلبون إلى الكفر مرّة أخرى بكامل اختيارهم ورغبتهم ، فبعد ذلك تتطرق الآية التالية إلى فئة ثالثة وهم البسطاء المخدعون في دينهم ، فتقول :( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) .

فالآية دليل واضح على قبول توبة المرتد ، ولكنّ الآية تشير إلى من كان مشركا في البداية ثم أسلم ، فعليه يكون المقصود به هو (المرتد الملّي) وليس (المرتد الفطري).(2)

وتأتي الآية الأخيرة لتقدم تذكيرا عاما بقولها :( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ

__________________

(1) ضمير «بعدها» ـ وكما يقول كثير من المفسرين ـ يعود إلى «الفتنة» ، في حين ذهب البعض من المفسرين إلى أنه يعود إلى الهجرة والجهاد والصبر المذكورة سابقا.

(2) المرتد الفطري : هو الذي يولد من أبوين مسلمين ثم يرتد عن الإسلام بعد قبوله إياه ، والمرتد الملي : يطلق على من انعقدت نطفته من أبوين غير مسلمين ثم قبل الإسلام ، وارتد عنه بعد ذلك.

٣٣٨

نَفْسِها ) (1) لتنقذها من العقاب والعذاب.

فالمذنبون أحيانا ينكرون ما ارتكبوه من ذنوب إنكارا تاما فرارا من الجزاء والعقاب ، والآية (23) من سورة الأنعام تنقل لنا قولهم :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، وعند ما لا يلمسون أيّة فائدة لإنكارهم يتجهون بإلقاء اللوم على أئمتهم وقادتهم ، ويقولون :( رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) (2) .

ولكن لا فائدة من كل ذلك( وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

* * *

بحثان

1 ـ التقية وفلسفتها :

امتاز المسلمون الأوائل الذين تربّوا على يد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بروح مقاومة عظيمة أمام أعدائهم ، وسجل لنا التأريخ صورا فريدة للصمود والتحدي ، وها هو «ياسر» لم يلن ولم يدخل حتى الغبطة الكاذبة على شفاه الأعداء ، وما تلفظ حتى بعبارة خالية من أيّ أثر على قلبه ممّا يطمخ الأعداء أن يسمعوها منه ، مع أنّ قلبه مملوءا ولاء وإيمانا بالله تعالى وحبّا وإخلاصا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصبر على حاله رغم مرارتها فنال شرف الشهادة ، ورحلت روحه الطاهرة إلى بارئها صابرة محتسبة تشكو إليه ظلم وجور أعداء دين الله.

وها هو ولدة «عمّار» الذي خرجت منه كلمة بين صفير الأسواط وشدّة الآلام تنم عن حالة الضعف ظاهرا ، وبالرغم من اطمئنانه بإيمانه وتصديقه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا

__________________

(1) اختلاف القول بخصوص متعلق «يوم» جار بين المفسّرين فبعضهم يذهب إلى أنّه متعلق بفاعل مستتر والتقدير هو «ذكرهم يوم القيامة» ، واعتبره آخرون متعلقا بفعل الغفران والرحمة المأخوذان من «الغفور الرحيم» في الآية السابقة ، (ولكنّنا نرجح التّفسير الاحتمال الأوّل لشموله).

(2) الأعراف ، 38.

٣٣٩

أنّه اغتمّ كثيرا وارتعدت فرائصه حتى طمأنه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحلّيّة ما فعل به حفظا للنفس ، فهذا.

ويطالعنا تأريخ (بلال) عند ما اعتنق الإسلام راح يدعو له ويدافع عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشدّ عليه المشركون حتى أنّهم طرحوه أرضا تحت لهيب الشمس الحارقة ، وما اكتفوا بذلك حتى وضعوا صخرة كبيرة على صدره وهو بتلك الحال ، وطلبوا منه أن يكفر بالله ولكنّه أبى أن يستجيب لطلبهم وبقي يردد : أحد أحد ، ثمّ قال : أقسم بالله لو علمت قولا أشد عليكم من هذا لقلته.

ونقرأ في تاريخ (حبيب بن زيد) أنّه لما أسره مسيلمة الكذاب فقد سأله : هل تشهد أنّ محمّدا رسول الله؟

قال : نعم.

ثمّ سأله : أتشهد أنّي رسول الله؟

فأجابه ساخرا : إنّي لا أسمع ما تقول! فقطعوه إربا إربا(1) .

والتأريخ الإسلامي حافل بصور كهذه ، خصوصا تأريخ المسلمين الأوائل وتأريخ أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام .

ولهذا قال المحققون : إنّ ترك التقية وعدم التسليم للأعداء في حالات كهذه ، عمل جائز حتى لو أدى الأمر إلى الشهادة ، فالهدف سام وهو رفع لواء التوحيد وإعلاء كملة الإسلام ، وخاصة في بداية دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كان لهذا الأمر أهمية خاصّة.

ومع هذا ، فالتقية جائزة في موارد ، وواجبة في موارد أخرى ، وخلافا لما يعتقده البعض فإنّ التقية (في مكانها المناسب) ليست علامة للضعف ، ولا هي مؤشر للخوف من تسلط الأعداء ، ولا هي تسليم لهم بقدر ما هي نوع من

__________________

(1) في ظلال القرآن ، ج 5 ، ص 284.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

من ذلك تكفينا تعب البحوث المطوّلة.

وفي مناظرة للإمام الصادقعليه‌السلام مع احد الزنادقة حول قوله تعالى :( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ) قال : فما بال الغير؟

أجابه الامام : «ويحك هي هي وهي غيرها!» قال : فمثّل لي ذلك شيئا من امر الدنيا! قال : «نعم ، أرأيت لو انّ رجلا أخذ لبنة فكسرها ثمّ ردّها في ملبنها ، فهي هي وهي غيرها»(١) .

ولا بدّ هنا من ملاحظة هذه اللفظة وهي انّ المثال وما له من تأثير كبير ودور فعّال يجب ان يكون مطابقا وموافقا للمقصود ، والّا يكون ضالا ومنحرفا.

ولهذا السبب يستفيد المنافقون من هذه الامثلة المنحرفة ليضلّوا بها الناس البسطاء ، فهم يستعينون بشعاع المثال ليصدق الناس اكاذيبهم ، فيجب ان نحذر من هذه الامثلة المنحرفة ونلاحظها بدقّة.

* * *

__________________

(١) الاحتجاج ، ص ٣٥٤.

٣٨١

الآية

( لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) )

التّفسير

الذين استجابوا لدعوة الحقّ :

بعد ما كشفت الآيات السابقة عن وجهي الحقّ والباطل من خلال مثال واضح وبلي ، اشارت هذه الآية الى مصير الذين استجابوا لربّهم والذين لم يستجيبوا لهذه الدعوة واتّجهوا صوب الباطل. تقول اوّلا :( لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى ) .

«الحسنى» في معناها الواسع تشمل كلّ خير وسعادة ، بدءا من الخصال الحسنة والفضائل الاخلاقية الى الحياة الاجتماعية الطاهرة والنصر على الأعداء وجنّة الخلد.

ثمّ تضيف الآية( وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً

٣٨٢

وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ) .

لا توجد صيغة أوضح من هذه الآية في بيان شدّة عذابهم وعقابهم ، يمتلك الإنسان كلّ ما في الأرض وضعفه ايضا ويفتدي به للنجاة ولا يحصل النجاة.

تشير هذه الجملة في الواقع الى آخر امنية والتي لا يمكن ان يتصوّر اكثر منها ، وهي ان يمتلك الإنسان كلّ ما في الأرض ، ولكن شدّة العذاب للظالمين ومخالفي الحقّ تصل بهم الى درجة ان يفتدوا بكلّ هذه الامنية او أكثر منها لنجاتهم. ولنفرض انّها قبلت منهم فتكون نجاتهم من العذاب فقط ، ولكن الثواب العظيم يكون من نصيب الذين استجابوا لدعوة الحقّ.

ومن هنا يتّضح انّ العبارة( وَمِثْلَهُ مَعَهُ ) ليس المقصود منها ان يكون لهم ضعف ما في الأرض ، بل انّهم مهما ملكوا اكثر من ذلك فانّهم مستعدّون للتنازل عنه مقابل نجاتهم من العذاب. ودليله واضح ، لانّ الإنسان يطلب كلّ شيء لمنفعته ، ولكن عند ما يجد نفسه غارقا في العذاب فما فائدة تملكه للدنيا كلّها؟

وعلى اثر هذا الشقاء (عدم قبول ما في الأرض مقابل نجاتهم) يشير القرآن الكريم الى شقاء آخر( أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ ) . فما هو المقصود من سوء الحساب؟

للمفسّرين آراء مختلفة حيث يعتقد البعض انّه الحساب الدقيق بدون اي عفو او مسامحة ، فسوء الحساب ليس بمفهوم الظلم ، لانّ الله سبحانه وتعالى هو العدل المطلق ، ويؤيّد هذا المعنى الحديث الوارد

عن الامام الصادقعليه‌السلام انّه قال لرجل : «يا فلان مالك ولأخيك؟» قال : جعلت فداك كان لي عليه حقّ فأستقصيت منه حقّي الى آخره ، وعنده سماع الامام لهذا الجواب غضب وجلس ثمّ قال : «كأنّك إذا استقصيت حقّك لم تسيء اليه! أرأيت ما حكى اللهعزوجل ( وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) أتراهم يخافون الله ان يجور عليهم؟! لا والله ما خافوا الّا الاستقصاء

٣٨٣

فسمّاه اللهعزوجل سوء الحساب ، فمن استقصى فقد أساءه»(١) .

وقال البعض : المقصود من سوء الحساب ، انّه يلازم حسابهم التوبيخ والملامة وغيرها ، فبالاضافة الى خوفهم من العذاب يؤلمهم التوبيخ.

ويقول البعض الآخر : المقصود هو الجزاء الذي يسوؤهم ، كما نقول : انّ فلان حسابه نقي ، او لآخر : حسابه مظلم ، وهذا يعني نتيجة حسابهم جيدة او سيّئة ، او تقول : (ضع حسابه في يده) يعني حاسبه طبقا لعمله.

هذه التفاسير الثلاثة غير متضادّة فيما بينها ، ويمكن ان يستفاد منها في تفسير الآية ، وهذا يعني انّ هؤلاء الافراد يحاسبون حسابا دقيقا ، وأثناء حسابهم يوبّخون ويلامون ومن ثمّ يستقصى منهم.

وفي نهاية الآية اشارة الى الجزاء الثّالث او النتيجة النهائية لجزائهم( وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ ) .

«المهاد» جمع مهد ، بمعنى التهيؤ ، ويستفاد منها معنى السرير الذي يستخدم لراحة الإنسان ، هذا السرير يهيّأ للاستراحة ، وقد ذكر القرآن الكريم هذه الكلمة للاشارة الى انّ هؤلاء الطغاة بدلا من ان يستريحوا في مهادهم يجب ان يحرقوا بلهيب النار.

* * *

بحث

يستفاد من الآيات القرآنية انّ الناس في يوم القيامة ينقسمون الى مجموعتين ، فمجموعة يحاسبهم الله بيسر وسهولة وبغير تدقيق( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) .(٢)

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد الثّاني ، صفحة ٢٨٨.

(٢) الانشقاق ، ٨.

٣٨٤

وعلى العكس من ذلك هناك مجموعة يحاسبون بشدّة حتّى الذرّة والمثقال من الأعمال يحاسبون عليه ، كما حدث لبعض البلاد التي كان أهلها من العاصين ،( فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً ) (١) .

انّ هذا الحساب الشديد هو نتيجة لما كان يقوم به هؤلاء في حياتهم من استقصاء الآخرين حتّى الدينار الأخير ، وإذا ما حدث خطأ من احد فإنّهم يعاقبون بأشدّ ما يمكن ، ولم يسامحوا أحدا حتّى أبناءهم وإخوانهم وأصدقائهم ، وبما انّ الآخرة انعكاس لحياة الدنيا فإنّ الله سبحانه وتعالى يحاسبهم حسابا شديدا على اي عمل عملوه بدون ادنى سماح ، وعلى العكس فهناك اشخاص سهلون ومسامحون ومن اهل العفو ، خصوصا في مقابل أصدقائهم واقربائهم وذوي الحقوق عليهم او الضعفاء ، ويغضّون النظر عنهم وعن كثير من زلّاتهم الشخصيّة ، وفي مقابل ذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى يشملهم بعفوه ورحمته الواسعة ويحاسبهم حسابا يسيرا.

وهذا درس كبير لكلّ الناس وخصوصا أولئك الذين يتصدّرون الأمور.

* * *

__________________

(١) الطلاق ، ٨.

٣٨٥

الآيات

( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) )

التّفسير

الأبواب الثّمانية للجنّة وصفات اولي الألباب :

تتحدّث هذه الآيات عن سيرة اولي الألباب وصفاتهم الحسنة ، وفيها تكميل

٣٨٦

للبحث السابق.

في الآية الاولى من هذه المجموعة استفهام انكاري :( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ) .

وهذا وصف رائع ، فهو لم يقل : أفمن يعلم انّ هذا القرآن على الحقّ كمن لا يعلم؟ بل قال : كمن هو أعمى؟ وهذه اشارة لطيفة الى انّه من المحال ان لا يعلم احد بهذه الحقيقة الّا ان يكون أعمى القلب ، فكيف يمكن لإنسان يمتلك عينا سليمة ولا يرى نور الشمس ، وهذا القرآن كالشمس. ولذلك يجيء في نهاية الآية قوله تعالى :( إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

«الألباب» جمع لبّ بمعنى جوهر الشيء ، ويقابل اولي الألباب اولوا الجهل والعمى.

انّ هذه الآية ـ وكما يذهب اليه بعض المفسّرين ـ تحثّ الناس على طلب العلم ومحاربة الجهل ، لانّها تعدّ الفرد الفاقد للعلم كمن هو أعمى. ثمّ بيّن سيرة اولي الألباب من خلال ذكر صفاتهم الحميدة ، واوّل ما أشار القرآن اليه وفاؤهم بالعهد وعدم نقضهم له و( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ) .

انّ «عهد الله» له معنى واسع ، ويشمل العهود الفطرية التي عاهدوا بها ربّهم كالفطرة على التوحيد وحبّ الحقّ والعدالة ، والمواثيق العقليّة التي يدركها الإنسان من خلال التفكير والتعقّل لعالم الوجود ، والمبدإ والمعاد ، وتشمل كذلك العهود الشرعيّة ، وهي ما عاهدوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه من الطاعة للأوامر الالهيّة وترك المعاصي والذنوب.

وتشمل هذه المجموعة كذلك الوفاء بالعهد بين الافراد ، لانّ الله سبحانه وتعالى اوصى بها ، بل تدخل ضمن الوفاء الشرعي والميثاق العقلي.

الصفة الثّانية من صفات اولي الألباب هي( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) .

٣٨٧

لا نجد صيغة أوسع من هذه في هذا المجال ، فالإنسان له صلات وروابط كثيرة ، صلة مع ربّه ، ومع الأنبياء والقادة ، وروابطه مع الأصدقاء والجيران والأقرباء ومع كلّ الناس ، والآية تأمر ان تحترم هذه الصلات ، وتنهى عن اي عمل يؤدّي الى قطع هذه الصلات والروابط.

والإنسان في الحقيقة ليس منزويا او منفكّا من عالم الوجود ، بل تحكم كلّ وجوده الصلات والروابط ، ومن جملة هذه الصلات :

١ ـ صلته بالله سبحانه وتعالى ، والتي إذا ما قطعها الإنسان تؤدّي الى هلاكه كما في انطفاء نور المصباح في حالة قطع التيار الكهربائي عنه ، وعلى هذا فإنّ هذه الصلة التكوينيّة بين الإنسان وربّه يجب ان تتبعها صلة بأوامره واحكامه من حيث الطاعة والعبودية.

٢ ـ صلته بالأنبياء والائمّةعليهم‌السلام على أساس انّهم قادة للبشرية وقطعها يؤدّي بالإنسان الى الضلال والانحراف.

٣ ـ صلته بالمجتمع كافّة وخصوصا بذوي الحقوق عليه أمثال الأب والامّ والأقرباء.

٤ ـ صلته بنفسه ، من حيث انّه مأمور بحفظها وإصلاحها وتكاملها.

انّ اقامة اي صلة من هذه الصلات ، هي في الواقع مصداق للآية( يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) وقطعها قطع لما امر الله به ان يوصل ، لانّ الله سبحانه وتعالى امر بأن توصل ولا تقطع.

وبالاضافة الى ما قلناه ، فهناك أحاديث واردة بخصوص هذه الآية يتّضح منها انّ المراد القرابة مرّة ، ومرّة الامامة او آل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومرّة اخرى كلّ المؤمنين! فقد جاء عن الامام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية قال : «قرابتك» وعنه ايضاعليه‌السلام قال : «نزلت في رحم آل محمّد وقد يكون في قرابتك»(١) ومن الطريف

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، صفحة ٤٩٤.

٣٨٨

انّهعليه‌السلام يقول في نهاية الحديث : «فلا تكونن ممّن يقول للشيء انّه في شيء واحد» وهذه الجملة اشارة واضحة الى المعاني الواسعة للقرآن الكريم.

وعن الامام الصادقعليه‌السلام في حديث ثالث يقول : «هو صلة الامام في كلّ سنة (اي بالمال) بما قلّ او اكثر ، ثمّ قال : وما أريد بذلك الّا تزكيتكم»(١) .

الصفة الثّالثة والرّابعة من سيرة اولي الألباب هي قوله تعالى :( وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) .

لمعرفة الفرق بين «الخشية» و «الخوف» المتقاربان في المعنى يقول البعض : «الخشية» هي حالة الخوف مع احترام الطرف المقابل ومع العلم واليقين ، ولذلك عدّها القرآن الكريم من خصوصيات العلماء حيث يقول :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) .

ولكن بالنظر الى استخدام القرآن الكريم لكلمة الخشية مرّات كثيرة يتّضح لنا انّها تأتي بمعنى الخوف وتستعمل معها بشكل مترادف.

هنا يطرح هذا السؤال : إذا كان الخوف من الخالق هو نفس الخوف من حسابه ، فما هو الفرق بين( يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) و( يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) ؟

الجواب : انّ الخوف من الله سبحانه وتعالى ليس ملزما دائما ان يكون خوفا من حسابه وعقابه ، بل انّ العظمة الالهيّة والاحساس بالعبوديّة له توجد حالة من الخوف في قلوب المؤمنين (بغضّ النظر عن الجزاء والعقاب) ، والآية (٢٨) من سورة فاطر قد تشير الى هذا المعنى.

وهناك سؤال آخر يتعلّق بسوء الحساب ، وهو : هل من الصحيح انّ هناك ظلم في محاسبة الافراد؟

وقد تقدّم الجواب على هذا السؤال قبل عدّة آيات من هذه الآية وقلنا انّ المراد هو التدقيق الشديد في الحساب من دون عفو او تسامح وذكرنا ايضا

__________________

(١) المصدر السابق ، صفحة ٤٩٥.

٣٨٩

حديثا في هذا الصدد.

الصّفة الخامسة من صفات اولي الألباب الاستقامة في مقابل جميع المشاكل التي يواجهها الإنسان في مسيرة الطاعة وترك المعصية ، وجهاد الأعداء ومحاربة الظلم والفساد(١) ، والصبر في مرضاة الخالق ، ولذلك يقول تعالى :( وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ) لقد أشرنا مرارا الى مفهوم الاستقامة التي هي المعنى الواسع للصبر.

امّا معنى العبارة( وَجْهِ رَبِّهِمْ ) فقد تشير الى احد معنيين :

اوّلا : كلمة الوجه في هذه الموارد تعني العظمة ، كما نقول للرأي الصائب والمهمّ «هذا وجه الراي» باعتبار انّ الوجه يمثّل الشكل الظاهر والمهمّ للشيء ، كما في وجه الإنسان الذي يعتبر اهمّ جزء من جسده ، وفيه يقع السمع والبصر والنطق.

ثانيا : الوجه هنا بمعنى رضا الخالق ، فهم يصبرون على المحن والمشاكل لجلب مرضاة الله ، فاستعمال الوجه بهذا المعنى بسبب انّ الإنسان عند ما يريد ان يجلب رضا شخص يمعن النظر في وجهه (وعلى ذلك فهو يستعمل للكناية عن الشيء). وعلى ايّة حال فإنّ هذه الجملة تبيّن انّ كلّ صبر وعمل خير تكون له قيمة عند ما يصبح لوجه الله ، وايّ عمل آخر يقع تحت تأثير الرياء والغرور لا قيمة له مطلقا.

يقول بعض المفسّرين : انّ الإنسان يصبر مرّة لكي يقول عنه الناس : انّ هذا كثير الاستقامة. واخرى لخشيته ان يقولوا عنه انّه قليل الصبر ، او يصبر حتّى لا يشمت به الأعداء ، او يعلم ان لا فائدة من الجزع كلّ هذه الأمور والنيّات لا تدخل ضمن الكمال الانساني الّا إذا كانت خالصة لوجه الله. فهو يصبر ويستقيم لانّه يعلم انّ ايّ فاجعة او مصيبة لها حكمة ودليل ، ولا يقول ما يسخط الربّ ،

__________________

(١) ليس الصبر على الطاعة والمعصية والمصيبة فقط بل الصبر على النعم كذلك حتّى لا يصيب الإنسان الغرور.

٣٩٠

فهذا الصبر هو المعني بقوله تعالى :( ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ) .

الصفة السّادسة من صفاتهم هي( وَأَقامُوا الصَّلاةَ ) . رغم انّ اقامة الصلاة هي مصداق للوفاء بعهد الله وكذلك المصداق البارز لحفظ ما امر الله به ان يوصل ، ومصداق للصبر والاستقامة ، ولكن هناك بعض مصاديق تلك المفاهيم الكلّية اكثر اهميّة في مصير الإنسان ، فهذه الجملة والجمل التي ما بعدها تشير الى ذلك.

اي شيء اهمّ من هذا؟! انّ الإنسان يجدّد عهده وصلته بالله سبحانه وتعالى صباحا ومساء ، ويتفكّر بعظمة الخالق ويدعوه ، ويطهّر نفسه من الذنوب ، ويرتبط بالحقّ المطلق ، نعم فإنّ الصلاة لها كلّ هذه الآثار والبركات.

ثمّ يبيّن الصفة السّابعة لدعاة الحقّ حيث يقول تعالى :( وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) .

وهذه الآية ليست الوحيدة التي تشير الى مسألة الإنفاق او الزكاة بعد ذكر الصلاة ، فكثير من الآيات تشير الى هذا الترادف ، فواحدة تحكم الصلة بين العبد وربّه والثّانية بين العباد.

والجملة( مِمَّا رَزَقْناهُمْ ) تشمل كلّ العطايا من الأموال والعلوم والقوّة والجاه ، والإنفاق كذلك يشمل جميع هذه الابعاد. والعبارة( سِرًّا وَعَلانِيَةً ) اشارة اخرى الى هذه الحقيقة وهي انّ إنفاقهم يتمّ بشكل مدروس ، فتارة يكون سرّا ويترتّب عليه اثر كبير ، وذلك في الحالات التي توجب ان يحفظ فيها ماء الوجه للطرف الآخر او تصون الطرف المنفق من الرياء ، ومرّة يكون الإنفاق العلني اكثر تأثيرا وذلك في الحالات التي تدعو الآخرين لكي يتأسّوا بهذا العمل الخيّر ويقتدوا به ، فيكون سببا لكثير من اعمال الخير.

ومن هنا يتّضح انّ القرآن الكريم يدقّق في اعمال الخير بشكل كبير ، ليس فقط في اصل العمل ، بل حتّى في كيفيّة تنفيذه.

الصفة الثّامنة والاخيرة هي قوله تعالى :( وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) .

٣٩١

ومعنى هذه العبارة انّهم لم يكتفوا بالتوبة والاستغفار فقط عند ارتكابهم الذنوب ، بل يدفعونها كذلك بالحسنات على مقدار تلك الذنوب ، حتّى يطهّروا أنفسهم والمجتمع بماء الحسنات.

«يدرءون» مضارع «درأ» على وزن «زرع» بمعنى دفع.

ويحتمل في تفسير الآية انّهم لا يقابلون السيء بالسيء ، بل يسعون من خلال إحسانهم للمسيئين ان يجعلوهم يعيدون النظر في مواقفهم ، كما نقرا في الآية (٣٤) من سورة فصلت قوله تعالى :( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) .

وفي نفس الوقت ليس هناك مانع من انّ الآية تشير الى هذين المعنيين ، كما اشارت إليها الأحاديث الاسلامية. ففي الحديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لمعاذ بن جبل : «إذا عملت سيّئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها»(١) .

وعن الامام عليعليه‌السلام قال «عاتب أخاك بالإحسان اليه واردد شرّه بالانعام عليه»(٢) .

ولا بدّ هنا من الالتفات الى هذه النقطة ، وهي انّ هذه الأحكام أخلاقية تخصّ الحالات التي يحصل فيها تأثير على الآخرين ، وهناك قوانين واحكام جزائية واردة في التشريع الاسلامي لمعاقبة المسيئين.

وبعد ما ذكر القرآن الكريم الصفات الثمانية لاولي الألباب ، أشار في نهاية الآية الى عاقبة أمرهم حيث يقول تعالى :( أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) (٣) .

الآية الاخرى توضّح هذه العاقبة( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية أعلاه.

(٢) الكلمات القصار في نهج البلاغة ، الكلمة ١٥٨.

(٣) «العقبى» بمعنى العاقبة او نهاية العمل خيرا كان او شرّا ، ولكن بالنظر الى قرينة الحال في الآية أعلاه تشير الى العاقبة الحسنة.

٣٩٢

والشيء الذي يكمل هذه النعم الكبيرة واللامتناهية( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) فهذه السلامة جاءت بعد ما صبرتم على الشدائد وتحمّلتم المسؤوليات الجسام والمصائب ، ولكم هنا كامل الطمأنينة والامان ، فلا حرب ولا نزاع ، وكلّ شيء يبتسم لكم ، والراحة الخالية من المتاعب ـ هنا ـ معدّة لكم.

* * *

بحوث

١ ـ لماذا ذكر الصبر فقط؟

جملة( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ) تشير الى مسألة الصبر فقط ، في الوقت الذي نرى فيه الآيات السابقة اشارت الى ثمانية صفات لاولي الألباب ، فما هو السرّ في ذلك؟

للاجابة على هذا الاستفهام نورد ما جاء عن الامام عليعليه‌السلام في حديث قيّم وذي مغزى كبير ، حيث قال : «انّ الصبر من الايمان كالرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا راس معه ، ولا في ايمان لا صبر معه».

في الحقيقة انّ كلّ الأفعال الحيّة والصفات الحميدة للافراد والمجتمعات تستند الى الصبر والاستقامة ، وبدونها لا يمكن ان نحصل على اي شيء من هذه الصفات ، لانّ في مسيرة عمل الخير عقبات وموانع لا يمكن ان ننتصر عليها الّا بالاستقامة ، فلا الوفاء بالعهد يمكن تنفيذه بدون الصبر والاستقامة ولا الصلات الالهيّة ، ولا الخوف من الله ، ولا اقامة الصلاة ولا الإنفاق يمكن بلوغها بغير الصبر والاستقامة.

٣٩٣

٢ ـ أبواب الجنّة

يستفاد من آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة انّ للجنّة عدّة أبواب ، ولكن هذا التعدّد للأبواب ليس لكثرة الداخلين الى الجنّة فيضيق عليهم الباب الواحد ، وليس كذلك للتفاوت الطبقي حتّى تدخل كلّ مجموعة من باب ، ولا لبعد المسافة او قربها ، ولا لجمال الأبواب وكثرتها ، فأبواب الجنّة ليست كأبواب القصور والبساتين في الدنيا ، بل تعدّدت هذه الأبواب بسبب الأعمال المختلفة للافراد. ولذا نقرا في بعض الاخبار انّ للأبواب اسماء مختلفة ، فهناك باب يسمّى باب المجاهدين ، والمجاهدون يدخلون بسلاحهم من ذلك الباب الى الجنّة ، والملائكة تحييهم(١) !

وروي عن الامام الباقرعليه‌السلام «واعلموا انّ للجنّة ثمانية أبواب ، عرض كلّ باب مسيرة أربعين سنة»(٢) .

ومن الظريف انّ القرآن الكريم يذكر لجهنّم سبعة أبواب( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ ) (٣) وطبقا للرّوايات فإنّ للجنّة ثمانية أبواب ، وهذه اشارة واضحة الى انّ طرق الوصول الى السعادة وجنّة الخلد اكثر من طرق الوصول الى الشقاء والجحيم. ورحمة الله سبقت غضبه «يا من سبقت رحمته غضبه».

ومن الطف ما في الأمر انّ الآيات السابقة اشارت الى ثمان صفات من صفات اولي الألباب ، وكلّ واحدة منها ـ في الواقع ـ هي باب من أبواب الجنّة وطريق للوصول الى السعادة الابدية.

__________________

(١) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ، المجلّد الثّالث ، ص ٩٩٥.

(٢) الخصال للصدوق ، الباب الثاني.

(٣) الحجر ، ٤٤.

٣٩٤

٣ ـ يلحق بأهل الجنّة اقرباؤهم

الآية أعلاه وآيات اخرى من القرآن الكريم تصرّح انّ من بين اهل الجنّة آباؤهم وأزواجهم وأبناؤهم الصالحون ، وهذا انّما هو لإتمام النعمة عليهم ، وكي لا يشعروا بفراق احبّائهم ، وبما انّ تلك الدار متكاملة وكلّ شيء يتجدّد فيها ، فإنّ أصحابها يدخلون فيها بوجوه جديدة واكثر محبّة والفة. المحبّة التي تضاعف من نعم الجنّة لهم.

لا شكّ انّ الآية أعلاه اشارت الى الآباء والأزواج والأبناء ، ولكن في الواقع كلّ الأقرباء سيجتمعون هناك ، لانّه من غير الممكن وجود الأبناء والآباء بدون إخوانهم وأخواتهم وحتّى جميع اقربائهم ، فالأب الصالح يلحق به ابناؤه واخوته ، وعلى هذا الأساس يكون حضور الأقرباء معهم بشكل طبيعي.

٤ ـ ما هي جنّات عدن؟

«العدن» الاستقرار ، وهنا جاءت الكلمة بمعنى الخلود ، ومنه المعدن لمستقرّ العناصر الفلزية. ويستفاد من مختلف آيات القرآن انّ الجنّة دار خلود لأهلها ، ولكن ـ كما قلنا في ذيل الآية (٧٢) من سورة التوبة ـ جنّات عدن هي محلّ خاص في الجنّة ، ولها صفات ومنازل عالية ، ولا يدخلها الّا ثلاثة : الأنبياء والصدّيقون والشهداء(١) .

٥ ـ التطهير من آثار الذنوب

ممّا لا شكّ فيه انّ الحسنات والسيئات لها اثر متقابل في النفس ونحن نرى في حياتنا اليوميّة كثيرا من النماذج بخصوص هذا الموضوع ، فمرّة يتحمّل الإنسان مشاق سنين كثيرة ويسعى للحصول على الثروة ، ولكن يفقدها بعمل

__________________

(١) للتوضيح اكثر راجع ما ذكر ذيل الآية (٧٢) من سورة التوبة.

٣٩٥

بسيط ناتج عن اللامبالاة ، او ليس هذا احباطا للحسنات المادية. ومرّة اخرى على العكس حيث يرتكب الإنسان كثيرا من الاخطاء في حياته ويتحمّل الخسارة الكبيرة ، ولكن يسترجعها من خلال عمل شجاع ومحسوب.

والآية( وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) اشارة الى هذا الموضوع ، لانّ الإنسان غير معصوم ، وهو معرّض للخطأ والمعصية ، فعليه ان يفكّر بإصلاح ما فسد ، فأعمال الخير لا تمحو الآثار الاجتماعية للذنوب ، بل كذلك تمحو من قلبه الظلمة وتعيده الى النّور والصفاء الفطري. وهذه الحالة تسمّى في القرآن الكريم بـ «التكفير» (كما تقدّم في ذيل الآية ٢١٧ من تفسير سورة البقرة إشارات كثيرة في هذا المجال).

ولكن كما قلنا ـ في تفسير الآية أعلاه ـ يمكن ان تكون اشارة الى الفضيلة الاخلاقية لاولي الألباب ، وذلك انّهم لا يواجهون السيّئة بالسيّئة ، بل العكس يقابلون الانتقام بالإحسان والسيّئة بالحسنة.

* * *

٣٩٦

الآيتان

( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) )

التّفسير

المفسدون في الأرض!

بعد ما ذكرت الآيات السابقة صفات اولي الألباب ودعاة الحقّ ، اشارت هذه الآيات الى قسم من الصفات الاصليّة للمفسدين الذين فقدوا حظّهم من العلم والمعرفة حيث يقول جلّ وعلا :( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) .

في الحقيقة يتلخّص فساد عقيدتهم في الجمل الثلاث الآتية :

٣٩٧

١ ـ نقض العهود الالهيّة : وتشمل المواثيق الفطرية والعقليّة والتشريعيّة.

٢ ـ قطع الصلات : وتشمل الصلة مع الله والرسل والناس ومع أنفسهم.

٣ ـ الإفساد في الأرض : وهو نتيجة حتمية لنقض العهود وقطع الصلات.

او ليس المفسد هو الذي ينقض عهد الله ويقطع الصلات؟!

فهذا السعي من قبل هذه المجموعة من الافراد بهدف الوصول الى الأغراض المادّية ، وعوضا ان تصل بهم هذه الجهود المبذولة الى الاهداف النّبيلة تبعدهم عنها ، لانّ اللعن هو عبارة عن الابتعاد من رحمة الله(١) .

ومن الظريف انّ الدار هنا وفي الآية السابقة جاءت بصيغة مطلقة ، وهذه اشارة الى انّ الدار الحقيقيّة هي الدار الآخرة ، واي دار ما عداها فانية وزائلة.

قوله تعالى :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) وهذه اشارة لأولئك الذين يسعون للحصول على دخل اكثر فهم يفسدون في الأرض وينقضون عهد الله ويقطعون ما امر الله به ان يوصل لكي يزيدوا من دخلهم المادّي ، وهم غافلون عن هذه الحقيقة وهي انّ الرزق ـ في زيادته ونقصه ـ بيد الله سبحانه وتعالى.

وبالاضافة الى ذلك يمكن ان تكون هذه الجملة جوابا على سؤال مقدّر ، وهو : كيف انّ الله سبحانه وتعالى يرزق كلّ هؤلاء الناس الصالح منهم والطالح من فيض كرمه.

والآية تجيب على هذا السؤال وتقول :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ) ومع ذلك فهو متاع قليل وزائل ، وما ينبغي السعي اليه هو الآخرة والسعادة الابديّة.

وعلى ايّة حال فإنّ المشيئة الالهيّة في مجال الرزق هي انّ الله سبحانه وتعالى لا يبسط الرزق لأحد بدون الاستفادة من الأسباب الطبيعيّة له «ابى الله ان يجري الأمور الّا بأسبابه».

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : اللعن بمعنى الطرد مع الغضب ، واللعن في الآخرة تشير الى العقوبة وفي الدنيا الابتعاد من رحمة الله ، وإذا كان من قبل الناس فمعناه دعاء السوء.

٣٩٨

ثمّ تضيف الآية( وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ ) .

وقد ذكر «متاع» بصيغة النكرة لبيان تفاهة الدنيا بالمقارنة مع الآخرة.

* * *

بحثان

١ ـ من هو المفسد في الأرض؟

الفساد يقابله الإصلاح ، ويطلق على كلّ عمل تخريبي ، ويقول الراغب في مفرداته : «الفساد خروج الشيء عن الاعتدال قليلا كان او كثيرا ، ويضادّه الصلاح ، ويستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامة» وعلى ذلك فكلّ عمل فيه نقص ، وكلّ افراط وتفريط في المسائل الفردية والاجتماعية هو مصداق للفساد!

وفي كثير من موارد القرآن الكريم ذكر الفساد في مقابل الإصلاح( الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ) (١) ، وقوله تعالى :( وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ) ،(٢) وقوله تعالى :( وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (٣) .

كما ذكر الايمان والعمل الصالح في مقابل الفساد ، وحيث يقول جلّ وعلا( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ) .(٤)

ومن جانب آخر ذكر الفساد ، مع كلمة «في الأرض» في كثير من آيات القرآن الكريم نحو عشرين آية ونيّف ، وهي توضّح الجوانب الاجتماعية للمسألة.

__________________

(١) الشعراء ، ١٥٢.

(٢) البقرة ، ٢٢٠.

(٣) الأعراف ، ١٤٢.

(٤) سورة ص ، ٢٨.

٣٩٩

ومن جانب ثالث ذكر الفساد والإفساد مع ذنوب اخرى ، ويحتمل ان يكون مصداقا لها ، وبعض هذه الذنوب كبيرة وبعضها الآخر أصغر فمثلا قوله تعالى :( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) ،(١) وقوله تعالى( وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ ) (٢) ( النَّسْلَ ) ، وقوله تعالى :( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) ،(٣) وقوله تعالى :( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) .(٤)

ومرّة يعتبر فرعون من المفسدين ، وأثناء توبته عند غرقه في النيل يقول :( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) .(٥)

وقد استعمل «الفساد في الأرض» تعبيرا عن السرقة كما في قصّة يوسفعليه‌السلام ( تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ ) .(٦)

ومرّة اخرى كناية عن قلّة البيع ، كما في قصّة شعيب حيث نقرا قوله تعالى :( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) .(٧)

وأخيرا استخدم القرآن الكريم الفساد في التعبير عن اضطراب النظام الكوني( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ) .(٨)

نستفيد من مجموع هذه الآيات انّ الفساد ـ بشكل عام ـ او الفساد في الأرض ، له معنى واسع جدّا ، بحيث يشمل اكبر الجرائم مثل جرائم فرعون وسائر

__________________

(١) المائدة ، ٣٣.

(٢) البقرة ، ٢٠٥.

(٣) البقرة ، ٢٧.

(٤) القصص ، ٨٣.

(٥) يونس ، ٩١.

(٦) يوسف ، ٧٣.

(٧) هود ، ٨٥.

(٨) الأنبياء ، ٢٢.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572