الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287949 / تحميل: 5234
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

1 - الوعد والوعيد.

2 - المنزلة بين المنزلتين.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

8 - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

14 - توبة الناكثين صحيحة.

15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(1) البحر الزخّار: 52 - 96.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

15

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

1 - إسماعيل بن جعفر.

2 - عبد الله بن جعفر.

3 - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(1) إرشاد المفيد: 284.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.

(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.

9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).

2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).

4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).

٢٥٨

5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).

6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

من ذلك تكفينا تعب البحوث المطوّلة.

وفي مناظرة للإمام الصادقعليه‌السلام مع احد الزنادقة حول قوله تعالى :( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ) قال : فما بال الغير؟

أجابه الامام : «ويحك هي هي وهي غيرها!» قال : فمثّل لي ذلك شيئا من امر الدنيا! قال : «نعم ، أرأيت لو انّ رجلا أخذ لبنة فكسرها ثمّ ردّها في ملبنها ، فهي هي وهي غيرها»(١) .

ولا بدّ هنا من ملاحظة هذه اللفظة وهي انّ المثال وما له من تأثير كبير ودور فعّال يجب ان يكون مطابقا وموافقا للمقصود ، والّا يكون ضالا ومنحرفا.

ولهذا السبب يستفيد المنافقون من هذه الامثلة المنحرفة ليضلّوا بها الناس البسطاء ، فهم يستعينون بشعاع المثال ليصدق الناس اكاذيبهم ، فيجب ان نحذر من هذه الامثلة المنحرفة ونلاحظها بدقّة.

* * *

__________________

(١) الاحتجاج ، ص ٣٥٤.

٣٨١

الآية

( لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) )

التّفسير

الذين استجابوا لدعوة الحقّ :

بعد ما كشفت الآيات السابقة عن وجهي الحقّ والباطل من خلال مثال واضح وبلي ، اشارت هذه الآية الى مصير الذين استجابوا لربّهم والذين لم يستجيبوا لهذه الدعوة واتّجهوا صوب الباطل. تقول اوّلا :( لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى ) .

«الحسنى» في معناها الواسع تشمل كلّ خير وسعادة ، بدءا من الخصال الحسنة والفضائل الاخلاقية الى الحياة الاجتماعية الطاهرة والنصر على الأعداء وجنّة الخلد.

ثمّ تضيف الآية( وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً

٣٨٢

وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ) .

لا توجد صيغة أوضح من هذه الآية في بيان شدّة عذابهم وعقابهم ، يمتلك الإنسان كلّ ما في الأرض وضعفه ايضا ويفتدي به للنجاة ولا يحصل النجاة.

تشير هذه الجملة في الواقع الى آخر امنية والتي لا يمكن ان يتصوّر اكثر منها ، وهي ان يمتلك الإنسان كلّ ما في الأرض ، ولكن شدّة العذاب للظالمين ومخالفي الحقّ تصل بهم الى درجة ان يفتدوا بكلّ هذه الامنية او أكثر منها لنجاتهم. ولنفرض انّها قبلت منهم فتكون نجاتهم من العذاب فقط ، ولكن الثواب العظيم يكون من نصيب الذين استجابوا لدعوة الحقّ.

ومن هنا يتّضح انّ العبارة( وَمِثْلَهُ مَعَهُ ) ليس المقصود منها ان يكون لهم ضعف ما في الأرض ، بل انّهم مهما ملكوا اكثر من ذلك فانّهم مستعدّون للتنازل عنه مقابل نجاتهم من العذاب. ودليله واضح ، لانّ الإنسان يطلب كلّ شيء لمنفعته ، ولكن عند ما يجد نفسه غارقا في العذاب فما فائدة تملكه للدنيا كلّها؟

وعلى اثر هذا الشقاء (عدم قبول ما في الأرض مقابل نجاتهم) يشير القرآن الكريم الى شقاء آخر( أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ ) . فما هو المقصود من سوء الحساب؟

للمفسّرين آراء مختلفة حيث يعتقد البعض انّه الحساب الدقيق بدون اي عفو او مسامحة ، فسوء الحساب ليس بمفهوم الظلم ، لانّ الله سبحانه وتعالى هو العدل المطلق ، ويؤيّد هذا المعنى الحديث الوارد

عن الامام الصادقعليه‌السلام انّه قال لرجل : «يا فلان مالك ولأخيك؟» قال : جعلت فداك كان لي عليه حقّ فأستقصيت منه حقّي الى آخره ، وعنده سماع الامام لهذا الجواب غضب وجلس ثمّ قال : «كأنّك إذا استقصيت حقّك لم تسيء اليه! أرأيت ما حكى اللهعزوجل ( وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) أتراهم يخافون الله ان يجور عليهم؟! لا والله ما خافوا الّا الاستقصاء

٣٨٣

فسمّاه اللهعزوجل سوء الحساب ، فمن استقصى فقد أساءه»(١) .

وقال البعض : المقصود من سوء الحساب ، انّه يلازم حسابهم التوبيخ والملامة وغيرها ، فبالاضافة الى خوفهم من العذاب يؤلمهم التوبيخ.

ويقول البعض الآخر : المقصود هو الجزاء الذي يسوؤهم ، كما نقول : انّ فلان حسابه نقي ، او لآخر : حسابه مظلم ، وهذا يعني نتيجة حسابهم جيدة او سيّئة ، او تقول : (ضع حسابه في يده) يعني حاسبه طبقا لعمله.

هذه التفاسير الثلاثة غير متضادّة فيما بينها ، ويمكن ان يستفاد منها في تفسير الآية ، وهذا يعني انّ هؤلاء الافراد يحاسبون حسابا دقيقا ، وأثناء حسابهم يوبّخون ويلامون ومن ثمّ يستقصى منهم.

وفي نهاية الآية اشارة الى الجزاء الثّالث او النتيجة النهائية لجزائهم( وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ ) .

«المهاد» جمع مهد ، بمعنى التهيؤ ، ويستفاد منها معنى السرير الذي يستخدم لراحة الإنسان ، هذا السرير يهيّأ للاستراحة ، وقد ذكر القرآن الكريم هذه الكلمة للاشارة الى انّ هؤلاء الطغاة بدلا من ان يستريحوا في مهادهم يجب ان يحرقوا بلهيب النار.

* * *

بحث

يستفاد من الآيات القرآنية انّ الناس في يوم القيامة ينقسمون الى مجموعتين ، فمجموعة يحاسبهم الله بيسر وسهولة وبغير تدقيق( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) .(٢)

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد الثّاني ، صفحة ٢٨٨.

(٢) الانشقاق ، ٨.

٣٨٤

وعلى العكس من ذلك هناك مجموعة يحاسبون بشدّة حتّى الذرّة والمثقال من الأعمال يحاسبون عليه ، كما حدث لبعض البلاد التي كان أهلها من العاصين ،( فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً ) (١) .

انّ هذا الحساب الشديد هو نتيجة لما كان يقوم به هؤلاء في حياتهم من استقصاء الآخرين حتّى الدينار الأخير ، وإذا ما حدث خطأ من احد فإنّهم يعاقبون بأشدّ ما يمكن ، ولم يسامحوا أحدا حتّى أبناءهم وإخوانهم وأصدقائهم ، وبما انّ الآخرة انعكاس لحياة الدنيا فإنّ الله سبحانه وتعالى يحاسبهم حسابا شديدا على اي عمل عملوه بدون ادنى سماح ، وعلى العكس فهناك اشخاص سهلون ومسامحون ومن اهل العفو ، خصوصا في مقابل أصدقائهم واقربائهم وذوي الحقوق عليهم او الضعفاء ، ويغضّون النظر عنهم وعن كثير من زلّاتهم الشخصيّة ، وفي مقابل ذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى يشملهم بعفوه ورحمته الواسعة ويحاسبهم حسابا يسيرا.

وهذا درس كبير لكلّ الناس وخصوصا أولئك الذين يتصدّرون الأمور.

* * *

__________________

(١) الطلاق ، ٨.

٣٨٥

الآيات

( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) )

التّفسير

الأبواب الثّمانية للجنّة وصفات اولي الألباب :

تتحدّث هذه الآيات عن سيرة اولي الألباب وصفاتهم الحسنة ، وفيها تكميل

٣٨٦

للبحث السابق.

في الآية الاولى من هذه المجموعة استفهام انكاري :( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ) .

وهذا وصف رائع ، فهو لم يقل : أفمن يعلم انّ هذا القرآن على الحقّ كمن لا يعلم؟ بل قال : كمن هو أعمى؟ وهذه اشارة لطيفة الى انّه من المحال ان لا يعلم احد بهذه الحقيقة الّا ان يكون أعمى القلب ، فكيف يمكن لإنسان يمتلك عينا سليمة ولا يرى نور الشمس ، وهذا القرآن كالشمس. ولذلك يجيء في نهاية الآية قوله تعالى :( إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

«الألباب» جمع لبّ بمعنى جوهر الشيء ، ويقابل اولي الألباب اولوا الجهل والعمى.

انّ هذه الآية ـ وكما يذهب اليه بعض المفسّرين ـ تحثّ الناس على طلب العلم ومحاربة الجهل ، لانّها تعدّ الفرد الفاقد للعلم كمن هو أعمى. ثمّ بيّن سيرة اولي الألباب من خلال ذكر صفاتهم الحميدة ، واوّل ما أشار القرآن اليه وفاؤهم بالعهد وعدم نقضهم له و( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ) .

انّ «عهد الله» له معنى واسع ، ويشمل العهود الفطرية التي عاهدوا بها ربّهم كالفطرة على التوحيد وحبّ الحقّ والعدالة ، والمواثيق العقليّة التي يدركها الإنسان من خلال التفكير والتعقّل لعالم الوجود ، والمبدإ والمعاد ، وتشمل كذلك العهود الشرعيّة ، وهي ما عاهدوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه من الطاعة للأوامر الالهيّة وترك المعاصي والذنوب.

وتشمل هذه المجموعة كذلك الوفاء بالعهد بين الافراد ، لانّ الله سبحانه وتعالى اوصى بها ، بل تدخل ضمن الوفاء الشرعي والميثاق العقلي.

الصفة الثّانية من صفات اولي الألباب هي( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) .

٣٨٧

لا نجد صيغة أوسع من هذه في هذا المجال ، فالإنسان له صلات وروابط كثيرة ، صلة مع ربّه ، ومع الأنبياء والقادة ، وروابطه مع الأصدقاء والجيران والأقرباء ومع كلّ الناس ، والآية تأمر ان تحترم هذه الصلات ، وتنهى عن اي عمل يؤدّي الى قطع هذه الصلات والروابط.

والإنسان في الحقيقة ليس منزويا او منفكّا من عالم الوجود ، بل تحكم كلّ وجوده الصلات والروابط ، ومن جملة هذه الصلات :

١ ـ صلته بالله سبحانه وتعالى ، والتي إذا ما قطعها الإنسان تؤدّي الى هلاكه كما في انطفاء نور المصباح في حالة قطع التيار الكهربائي عنه ، وعلى هذا فإنّ هذه الصلة التكوينيّة بين الإنسان وربّه يجب ان تتبعها صلة بأوامره واحكامه من حيث الطاعة والعبودية.

٢ ـ صلته بالأنبياء والائمّةعليهم‌السلام على أساس انّهم قادة للبشرية وقطعها يؤدّي بالإنسان الى الضلال والانحراف.

٣ ـ صلته بالمجتمع كافّة وخصوصا بذوي الحقوق عليه أمثال الأب والامّ والأقرباء.

٤ ـ صلته بنفسه ، من حيث انّه مأمور بحفظها وإصلاحها وتكاملها.

انّ اقامة اي صلة من هذه الصلات ، هي في الواقع مصداق للآية( يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) وقطعها قطع لما امر الله به ان يوصل ، لانّ الله سبحانه وتعالى امر بأن توصل ولا تقطع.

وبالاضافة الى ما قلناه ، فهناك أحاديث واردة بخصوص هذه الآية يتّضح منها انّ المراد القرابة مرّة ، ومرّة الامامة او آل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومرّة اخرى كلّ المؤمنين! فقد جاء عن الامام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية قال : «قرابتك» وعنه ايضاعليه‌السلام قال : «نزلت في رحم آل محمّد وقد يكون في قرابتك»(١) ومن الطريف

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، صفحة ٤٩٤.

٣٨٨

انّهعليه‌السلام يقول في نهاية الحديث : «فلا تكونن ممّن يقول للشيء انّه في شيء واحد» وهذه الجملة اشارة واضحة الى المعاني الواسعة للقرآن الكريم.

وعن الامام الصادقعليه‌السلام في حديث ثالث يقول : «هو صلة الامام في كلّ سنة (اي بالمال) بما قلّ او اكثر ، ثمّ قال : وما أريد بذلك الّا تزكيتكم»(١) .

الصفة الثّالثة والرّابعة من سيرة اولي الألباب هي قوله تعالى :( وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) .

لمعرفة الفرق بين «الخشية» و «الخوف» المتقاربان في المعنى يقول البعض : «الخشية» هي حالة الخوف مع احترام الطرف المقابل ومع العلم واليقين ، ولذلك عدّها القرآن الكريم من خصوصيات العلماء حيث يقول :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) .

ولكن بالنظر الى استخدام القرآن الكريم لكلمة الخشية مرّات كثيرة يتّضح لنا انّها تأتي بمعنى الخوف وتستعمل معها بشكل مترادف.

هنا يطرح هذا السؤال : إذا كان الخوف من الخالق هو نفس الخوف من حسابه ، فما هو الفرق بين( يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) و( يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) ؟

الجواب : انّ الخوف من الله سبحانه وتعالى ليس ملزما دائما ان يكون خوفا من حسابه وعقابه ، بل انّ العظمة الالهيّة والاحساس بالعبوديّة له توجد حالة من الخوف في قلوب المؤمنين (بغضّ النظر عن الجزاء والعقاب) ، والآية (٢٨) من سورة فاطر قد تشير الى هذا المعنى.

وهناك سؤال آخر يتعلّق بسوء الحساب ، وهو : هل من الصحيح انّ هناك ظلم في محاسبة الافراد؟

وقد تقدّم الجواب على هذا السؤال قبل عدّة آيات من هذه الآية وقلنا انّ المراد هو التدقيق الشديد في الحساب من دون عفو او تسامح وذكرنا ايضا

__________________

(١) المصدر السابق ، صفحة ٤٩٥.

٣٨٩

حديثا في هذا الصدد.

الصّفة الخامسة من صفات اولي الألباب الاستقامة في مقابل جميع المشاكل التي يواجهها الإنسان في مسيرة الطاعة وترك المعصية ، وجهاد الأعداء ومحاربة الظلم والفساد(١) ، والصبر في مرضاة الخالق ، ولذلك يقول تعالى :( وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ) لقد أشرنا مرارا الى مفهوم الاستقامة التي هي المعنى الواسع للصبر.

امّا معنى العبارة( وَجْهِ رَبِّهِمْ ) فقد تشير الى احد معنيين :

اوّلا : كلمة الوجه في هذه الموارد تعني العظمة ، كما نقول للرأي الصائب والمهمّ «هذا وجه الراي» باعتبار انّ الوجه يمثّل الشكل الظاهر والمهمّ للشيء ، كما في وجه الإنسان الذي يعتبر اهمّ جزء من جسده ، وفيه يقع السمع والبصر والنطق.

ثانيا : الوجه هنا بمعنى رضا الخالق ، فهم يصبرون على المحن والمشاكل لجلب مرضاة الله ، فاستعمال الوجه بهذا المعنى بسبب انّ الإنسان عند ما يريد ان يجلب رضا شخص يمعن النظر في وجهه (وعلى ذلك فهو يستعمل للكناية عن الشيء). وعلى ايّة حال فإنّ هذه الجملة تبيّن انّ كلّ صبر وعمل خير تكون له قيمة عند ما يصبح لوجه الله ، وايّ عمل آخر يقع تحت تأثير الرياء والغرور لا قيمة له مطلقا.

يقول بعض المفسّرين : انّ الإنسان يصبر مرّة لكي يقول عنه الناس : انّ هذا كثير الاستقامة. واخرى لخشيته ان يقولوا عنه انّه قليل الصبر ، او يصبر حتّى لا يشمت به الأعداء ، او يعلم ان لا فائدة من الجزع كلّ هذه الأمور والنيّات لا تدخل ضمن الكمال الانساني الّا إذا كانت خالصة لوجه الله. فهو يصبر ويستقيم لانّه يعلم انّ ايّ فاجعة او مصيبة لها حكمة ودليل ، ولا يقول ما يسخط الربّ ،

__________________

(١) ليس الصبر على الطاعة والمعصية والمصيبة فقط بل الصبر على النعم كذلك حتّى لا يصيب الإنسان الغرور.

٣٩٠

فهذا الصبر هو المعني بقوله تعالى :( ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ) .

الصفة السّادسة من صفاتهم هي( وَأَقامُوا الصَّلاةَ ) . رغم انّ اقامة الصلاة هي مصداق للوفاء بعهد الله وكذلك المصداق البارز لحفظ ما امر الله به ان يوصل ، ومصداق للصبر والاستقامة ، ولكن هناك بعض مصاديق تلك المفاهيم الكلّية اكثر اهميّة في مصير الإنسان ، فهذه الجملة والجمل التي ما بعدها تشير الى ذلك.

اي شيء اهمّ من هذا؟! انّ الإنسان يجدّد عهده وصلته بالله سبحانه وتعالى صباحا ومساء ، ويتفكّر بعظمة الخالق ويدعوه ، ويطهّر نفسه من الذنوب ، ويرتبط بالحقّ المطلق ، نعم فإنّ الصلاة لها كلّ هذه الآثار والبركات.

ثمّ يبيّن الصفة السّابعة لدعاة الحقّ حيث يقول تعالى :( وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) .

وهذه الآية ليست الوحيدة التي تشير الى مسألة الإنفاق او الزكاة بعد ذكر الصلاة ، فكثير من الآيات تشير الى هذا الترادف ، فواحدة تحكم الصلة بين العبد وربّه والثّانية بين العباد.

والجملة( مِمَّا رَزَقْناهُمْ ) تشمل كلّ العطايا من الأموال والعلوم والقوّة والجاه ، والإنفاق كذلك يشمل جميع هذه الابعاد. والعبارة( سِرًّا وَعَلانِيَةً ) اشارة اخرى الى هذه الحقيقة وهي انّ إنفاقهم يتمّ بشكل مدروس ، فتارة يكون سرّا ويترتّب عليه اثر كبير ، وذلك في الحالات التي توجب ان يحفظ فيها ماء الوجه للطرف الآخر او تصون الطرف المنفق من الرياء ، ومرّة يكون الإنفاق العلني اكثر تأثيرا وذلك في الحالات التي تدعو الآخرين لكي يتأسّوا بهذا العمل الخيّر ويقتدوا به ، فيكون سببا لكثير من اعمال الخير.

ومن هنا يتّضح انّ القرآن الكريم يدقّق في اعمال الخير بشكل كبير ، ليس فقط في اصل العمل ، بل حتّى في كيفيّة تنفيذه.

الصفة الثّامنة والاخيرة هي قوله تعالى :( وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) .

٣٩١

ومعنى هذه العبارة انّهم لم يكتفوا بالتوبة والاستغفار فقط عند ارتكابهم الذنوب ، بل يدفعونها كذلك بالحسنات على مقدار تلك الذنوب ، حتّى يطهّروا أنفسهم والمجتمع بماء الحسنات.

«يدرءون» مضارع «درأ» على وزن «زرع» بمعنى دفع.

ويحتمل في تفسير الآية انّهم لا يقابلون السيء بالسيء ، بل يسعون من خلال إحسانهم للمسيئين ان يجعلوهم يعيدون النظر في مواقفهم ، كما نقرا في الآية (٣٤) من سورة فصلت قوله تعالى :( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) .

وفي نفس الوقت ليس هناك مانع من انّ الآية تشير الى هذين المعنيين ، كما اشارت إليها الأحاديث الاسلامية. ففي الحديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لمعاذ بن جبل : «إذا عملت سيّئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها»(١) .

وعن الامام عليعليه‌السلام قال «عاتب أخاك بالإحسان اليه واردد شرّه بالانعام عليه»(٢) .

ولا بدّ هنا من الالتفات الى هذه النقطة ، وهي انّ هذه الأحكام أخلاقية تخصّ الحالات التي يحصل فيها تأثير على الآخرين ، وهناك قوانين واحكام جزائية واردة في التشريع الاسلامي لمعاقبة المسيئين.

وبعد ما ذكر القرآن الكريم الصفات الثمانية لاولي الألباب ، أشار في نهاية الآية الى عاقبة أمرهم حيث يقول تعالى :( أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) (٣) .

الآية الاخرى توضّح هذه العاقبة( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية أعلاه.

(٢) الكلمات القصار في نهج البلاغة ، الكلمة ١٥٨.

(٣) «العقبى» بمعنى العاقبة او نهاية العمل خيرا كان او شرّا ، ولكن بالنظر الى قرينة الحال في الآية أعلاه تشير الى العاقبة الحسنة.

٣٩٢

والشيء الذي يكمل هذه النعم الكبيرة واللامتناهية( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) فهذه السلامة جاءت بعد ما صبرتم على الشدائد وتحمّلتم المسؤوليات الجسام والمصائب ، ولكم هنا كامل الطمأنينة والامان ، فلا حرب ولا نزاع ، وكلّ شيء يبتسم لكم ، والراحة الخالية من المتاعب ـ هنا ـ معدّة لكم.

* * *

بحوث

١ ـ لماذا ذكر الصبر فقط؟

جملة( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ) تشير الى مسألة الصبر فقط ، في الوقت الذي نرى فيه الآيات السابقة اشارت الى ثمانية صفات لاولي الألباب ، فما هو السرّ في ذلك؟

للاجابة على هذا الاستفهام نورد ما جاء عن الامام عليعليه‌السلام في حديث قيّم وذي مغزى كبير ، حيث قال : «انّ الصبر من الايمان كالرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا راس معه ، ولا في ايمان لا صبر معه».

في الحقيقة انّ كلّ الأفعال الحيّة والصفات الحميدة للافراد والمجتمعات تستند الى الصبر والاستقامة ، وبدونها لا يمكن ان نحصل على اي شيء من هذه الصفات ، لانّ في مسيرة عمل الخير عقبات وموانع لا يمكن ان ننتصر عليها الّا بالاستقامة ، فلا الوفاء بالعهد يمكن تنفيذه بدون الصبر والاستقامة ولا الصلات الالهيّة ، ولا الخوف من الله ، ولا اقامة الصلاة ولا الإنفاق يمكن بلوغها بغير الصبر والاستقامة.

٣٩٣

٢ ـ أبواب الجنّة

يستفاد من آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة انّ للجنّة عدّة أبواب ، ولكن هذا التعدّد للأبواب ليس لكثرة الداخلين الى الجنّة فيضيق عليهم الباب الواحد ، وليس كذلك للتفاوت الطبقي حتّى تدخل كلّ مجموعة من باب ، ولا لبعد المسافة او قربها ، ولا لجمال الأبواب وكثرتها ، فأبواب الجنّة ليست كأبواب القصور والبساتين في الدنيا ، بل تعدّدت هذه الأبواب بسبب الأعمال المختلفة للافراد. ولذا نقرا في بعض الاخبار انّ للأبواب اسماء مختلفة ، فهناك باب يسمّى باب المجاهدين ، والمجاهدون يدخلون بسلاحهم من ذلك الباب الى الجنّة ، والملائكة تحييهم(١) !

وروي عن الامام الباقرعليه‌السلام «واعلموا انّ للجنّة ثمانية أبواب ، عرض كلّ باب مسيرة أربعين سنة»(٢) .

ومن الظريف انّ القرآن الكريم يذكر لجهنّم سبعة أبواب( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ ) (٣) وطبقا للرّوايات فإنّ للجنّة ثمانية أبواب ، وهذه اشارة واضحة الى انّ طرق الوصول الى السعادة وجنّة الخلد اكثر من طرق الوصول الى الشقاء والجحيم. ورحمة الله سبقت غضبه «يا من سبقت رحمته غضبه».

ومن الطف ما في الأمر انّ الآيات السابقة اشارت الى ثمان صفات من صفات اولي الألباب ، وكلّ واحدة منها ـ في الواقع ـ هي باب من أبواب الجنّة وطريق للوصول الى السعادة الابدية.

__________________

(١) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ، المجلّد الثّالث ، ص ٩٩٥.

(٢) الخصال للصدوق ، الباب الثاني.

(٣) الحجر ، ٤٤.

٣٩٤

٣ ـ يلحق بأهل الجنّة اقرباؤهم

الآية أعلاه وآيات اخرى من القرآن الكريم تصرّح انّ من بين اهل الجنّة آباؤهم وأزواجهم وأبناؤهم الصالحون ، وهذا انّما هو لإتمام النعمة عليهم ، وكي لا يشعروا بفراق احبّائهم ، وبما انّ تلك الدار متكاملة وكلّ شيء يتجدّد فيها ، فإنّ أصحابها يدخلون فيها بوجوه جديدة واكثر محبّة والفة. المحبّة التي تضاعف من نعم الجنّة لهم.

لا شكّ انّ الآية أعلاه اشارت الى الآباء والأزواج والأبناء ، ولكن في الواقع كلّ الأقرباء سيجتمعون هناك ، لانّه من غير الممكن وجود الأبناء والآباء بدون إخوانهم وأخواتهم وحتّى جميع اقربائهم ، فالأب الصالح يلحق به ابناؤه واخوته ، وعلى هذا الأساس يكون حضور الأقرباء معهم بشكل طبيعي.

٤ ـ ما هي جنّات عدن؟

«العدن» الاستقرار ، وهنا جاءت الكلمة بمعنى الخلود ، ومنه المعدن لمستقرّ العناصر الفلزية. ويستفاد من مختلف آيات القرآن انّ الجنّة دار خلود لأهلها ، ولكن ـ كما قلنا في ذيل الآية (٧٢) من سورة التوبة ـ جنّات عدن هي محلّ خاص في الجنّة ، ولها صفات ومنازل عالية ، ولا يدخلها الّا ثلاثة : الأنبياء والصدّيقون والشهداء(١) .

٥ ـ التطهير من آثار الذنوب

ممّا لا شكّ فيه انّ الحسنات والسيئات لها اثر متقابل في النفس ونحن نرى في حياتنا اليوميّة كثيرا من النماذج بخصوص هذا الموضوع ، فمرّة يتحمّل الإنسان مشاق سنين كثيرة ويسعى للحصول على الثروة ، ولكن يفقدها بعمل

__________________

(١) للتوضيح اكثر راجع ما ذكر ذيل الآية (٧٢) من سورة التوبة.

٣٩٥

بسيط ناتج عن اللامبالاة ، او ليس هذا احباطا للحسنات المادية. ومرّة اخرى على العكس حيث يرتكب الإنسان كثيرا من الاخطاء في حياته ويتحمّل الخسارة الكبيرة ، ولكن يسترجعها من خلال عمل شجاع ومحسوب.

والآية( وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) اشارة الى هذا الموضوع ، لانّ الإنسان غير معصوم ، وهو معرّض للخطأ والمعصية ، فعليه ان يفكّر بإصلاح ما فسد ، فأعمال الخير لا تمحو الآثار الاجتماعية للذنوب ، بل كذلك تمحو من قلبه الظلمة وتعيده الى النّور والصفاء الفطري. وهذه الحالة تسمّى في القرآن الكريم بـ «التكفير» (كما تقدّم في ذيل الآية ٢١٧ من تفسير سورة البقرة إشارات كثيرة في هذا المجال).

ولكن كما قلنا ـ في تفسير الآية أعلاه ـ يمكن ان تكون اشارة الى الفضيلة الاخلاقية لاولي الألباب ، وذلك انّهم لا يواجهون السيّئة بالسيّئة ، بل العكس يقابلون الانتقام بالإحسان والسيّئة بالحسنة.

* * *

٣٩٦

الآيتان

( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) )

التّفسير

المفسدون في الأرض!

بعد ما ذكرت الآيات السابقة صفات اولي الألباب ودعاة الحقّ ، اشارت هذه الآيات الى قسم من الصفات الاصليّة للمفسدين الذين فقدوا حظّهم من العلم والمعرفة حيث يقول جلّ وعلا :( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) .

في الحقيقة يتلخّص فساد عقيدتهم في الجمل الثلاث الآتية :

٣٩٧

١ ـ نقض العهود الالهيّة : وتشمل المواثيق الفطرية والعقليّة والتشريعيّة.

٢ ـ قطع الصلات : وتشمل الصلة مع الله والرسل والناس ومع أنفسهم.

٣ ـ الإفساد في الأرض : وهو نتيجة حتمية لنقض العهود وقطع الصلات.

او ليس المفسد هو الذي ينقض عهد الله ويقطع الصلات؟!

فهذا السعي من قبل هذه المجموعة من الافراد بهدف الوصول الى الأغراض المادّية ، وعوضا ان تصل بهم هذه الجهود المبذولة الى الاهداف النّبيلة تبعدهم عنها ، لانّ اللعن هو عبارة عن الابتعاد من رحمة الله(١) .

ومن الظريف انّ الدار هنا وفي الآية السابقة جاءت بصيغة مطلقة ، وهذه اشارة الى انّ الدار الحقيقيّة هي الدار الآخرة ، واي دار ما عداها فانية وزائلة.

قوله تعالى :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) وهذه اشارة لأولئك الذين يسعون للحصول على دخل اكثر فهم يفسدون في الأرض وينقضون عهد الله ويقطعون ما امر الله به ان يوصل لكي يزيدوا من دخلهم المادّي ، وهم غافلون عن هذه الحقيقة وهي انّ الرزق ـ في زيادته ونقصه ـ بيد الله سبحانه وتعالى.

وبالاضافة الى ذلك يمكن ان تكون هذه الجملة جوابا على سؤال مقدّر ، وهو : كيف انّ الله سبحانه وتعالى يرزق كلّ هؤلاء الناس الصالح منهم والطالح من فيض كرمه.

والآية تجيب على هذا السؤال وتقول :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ) ومع ذلك فهو متاع قليل وزائل ، وما ينبغي السعي اليه هو الآخرة والسعادة الابديّة.

وعلى ايّة حال فإنّ المشيئة الالهيّة في مجال الرزق هي انّ الله سبحانه وتعالى لا يبسط الرزق لأحد بدون الاستفادة من الأسباب الطبيعيّة له «ابى الله ان يجري الأمور الّا بأسبابه».

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : اللعن بمعنى الطرد مع الغضب ، واللعن في الآخرة تشير الى العقوبة وفي الدنيا الابتعاد من رحمة الله ، وإذا كان من قبل الناس فمعناه دعاء السوء.

٣٩٨

ثمّ تضيف الآية( وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ ) .

وقد ذكر «متاع» بصيغة النكرة لبيان تفاهة الدنيا بالمقارنة مع الآخرة.

* * *

بحثان

١ ـ من هو المفسد في الأرض؟

الفساد يقابله الإصلاح ، ويطلق على كلّ عمل تخريبي ، ويقول الراغب في مفرداته : «الفساد خروج الشيء عن الاعتدال قليلا كان او كثيرا ، ويضادّه الصلاح ، ويستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامة» وعلى ذلك فكلّ عمل فيه نقص ، وكلّ افراط وتفريط في المسائل الفردية والاجتماعية هو مصداق للفساد!

وفي كثير من موارد القرآن الكريم ذكر الفساد في مقابل الإصلاح( الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ) (١) ، وقوله تعالى :( وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ) ،(٢) وقوله تعالى :( وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (٣) .

كما ذكر الايمان والعمل الصالح في مقابل الفساد ، وحيث يقول جلّ وعلا( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ) .(٤)

ومن جانب آخر ذكر الفساد ، مع كلمة «في الأرض» في كثير من آيات القرآن الكريم نحو عشرين آية ونيّف ، وهي توضّح الجوانب الاجتماعية للمسألة.

__________________

(١) الشعراء ، ١٥٢.

(٢) البقرة ، ٢٢٠.

(٣) الأعراف ، ١٤٢.

(٤) سورة ص ، ٢٨.

٣٩٩

ومن جانب ثالث ذكر الفساد والإفساد مع ذنوب اخرى ، ويحتمل ان يكون مصداقا لها ، وبعض هذه الذنوب كبيرة وبعضها الآخر أصغر فمثلا قوله تعالى :( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) ،(١) وقوله تعالى( وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ ) (٢) ( النَّسْلَ ) ، وقوله تعالى :( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) ،(٣) وقوله تعالى :( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) .(٤)

ومرّة يعتبر فرعون من المفسدين ، وأثناء توبته عند غرقه في النيل يقول :( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) .(٥)

وقد استعمل «الفساد في الأرض» تعبيرا عن السرقة كما في قصّة يوسفعليه‌السلام ( تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ ) .(٦)

ومرّة اخرى كناية عن قلّة البيع ، كما في قصّة شعيب حيث نقرا قوله تعالى :( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) .(٧)

وأخيرا استخدم القرآن الكريم الفساد في التعبير عن اضطراب النظام الكوني( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ) .(٨)

نستفيد من مجموع هذه الآيات انّ الفساد ـ بشكل عام ـ او الفساد في الأرض ، له معنى واسع جدّا ، بحيث يشمل اكبر الجرائم مثل جرائم فرعون وسائر

__________________

(١) المائدة ، ٣٣.

(٢) البقرة ، ٢٠٥.

(٣) البقرة ، ٢٧.

(٤) القصص ، ٨٣.

(٥) يونس ، ٩١.

(٦) يوسف ، ٧٣.

(٧) هود ، ٨٥.

(٨) الأنبياء ، ٢٢.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572