الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل13%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287861 / تحميل: 5231
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الطواغيت ، كما يشمل الأعمال الأقل اجراما منها مثل بخس الناس أشياءهم ، ويشمل كذلك اي خروج عن حالة الاعتدال كما أشرنا اليه سابقا. وبالنظر الى انّ العقوبة يجب ان تكون مطابقة للجريمة يتّضح لنا انّ كلّ مجموعة من هؤلاء المفسدين لها عقوبة معيّنة وجزاء خاص.

ونرى في الآية (٣٣) من سورة المائدة التي ذكرت «الفساد في الأرض مع محاربة الله ورسوله» انّ هناك اربع عقوبات ويجب على الحاكم الشرعي ان يختار العقوبة المناسبة على مقدار الجريمة (القتل ـ الصلب ـ قطع الايدي والأرجل ـ النفي) كما بيّن فقهاؤنا في كتبهم شروط وحدود المفسد في الأرض وعقوباته(١) .

ولأجل ان نجتثّ هذه المفاسد ، يجب ان نستخدم الوسائل الكافية في كلّ مرحلة من مراحلها ، ففي المرحلة الاولى نستخدم أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طريق النصائح والتذكير ، ولكن إذا ما استوجب الأمر نستعمل الشدّة حتّى لو ادّى ذلك الى القتال.

وبالاضافة الى ما أشرنا اليه ، فإنّ الجملة( وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) ترشدنا الى هذه الحقيقة في حياة المجتمع الانساني ، وهي انّ الفساد الاجتماعي لا يبقى في مكان معيّن ولا يمكن حصره في منطقة معيّنة ، بل ينتشر بين اوساط المجتمع وفي كافّة بقاع الأرض ويسري من مجموعة الى اخرى.

ويستفاد من الآيات القرآنية انّ واحدة من اهداف بعثة الأنبياء هو إنهاء حالة الفساد في الأرض (في معناه الواسع) كما نقرا في سورة هود الآية (٨٨) قول النّبي شعيبعليه‌السلام ( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) .

__________________

(١) ونحن أشرنا اليه بشكل مفصّل في ذيل الآية (٣٣) من سورة المائدة.

٤٠١

٢ ـ الرزق بيد الله سبحانه وتعالى ولكن ...!

لا نستفيد من الآية أعلاه فقط أنّ الرزق في زيادته ونقصانه بيد الله ، بل نستفيد من آيات أخر انّ الله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء وينقصه لمن يشاء ، ولكن ليس كما يعتقده بعض الجهلاء من عدم الكسب والجلوس في زاوية البيت حتّى يبعث الله لهم الرزق ، ان هؤلاء الافراد ـ الذين يعتبر تفكيرهم السلبي ذريعة لمن يقول بأنّ الدين افيون الشعوب ـ قد غفلوا عن نقطتين اساسيتين هما :

اوّلا : انّ الارادة والمشيئة الالهيّة التي اشارت إليها الآيات القرآنية ليست مسألة اعتباطية وغير محسوبة ، بل ـ وكما قلنا سابقا ـ انّ المشيئة الالهيّة غير منفصلة عن حكمته جلّ وعلا وتدخل فيها الاستعدادات والتوفيقات.

ثانيا : انّ هذه المسألة لا تعني نفي الأسباب ، لانّ عالم الأسباب هو عالم الوجود ، وهذه العوالم وجدت بإرادة الله وهي غير منفصلة عن المشيئة التشريعيّة.

وبعبارة اخرى : انّ ارادة الله في مجال بسط الرزق نقصه مشروطة بشرائط تتحكّم في حياة الناس ، فالسعي والإخلاص والإيثار ، وبعكس ذلك الكسل والبخل وسوء النيّة ، لها دور فعّال وكبير ، ولهذا السبب نرى القرآن الكريم يشير مرارا الى انّ الإنسان رهين بسعيه وارادته وعمله ، وما يستفيده من حياته انّما هو بمقدار هذا السعي والاجتهاد( لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) .

ولهذا فإنّ هناك بابا في السعي لتحصيل الرزق يذكره المحدّثون في موسوعاتهم الحديثة «كوسائل الشيعة» في باب التجارة ، ويوردون أحاديث كثيرة في هذا المجال ، كما انّ هناك أبوابا اخرى تذمّ البطالة والكسل ، ومن جملتها الحديث المرويّ عن الامام عليعليه‌السلام حيث يقول : «انّ الأشياء لمّا ازدوجت ازدوج الكسل والعجز فنتجا بينهما الفقر»(١) .

وعن الامام الصادقعليه‌السلام «لا تكسلوا في طلب معايشكم فإنّ آباءنا كانوا

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلّد ١٢ ، صفحة ٣٧.

٤٠٢

يركضون فيها ويطلبونها»(١) .

وعن الامام الباقرعليه‌السلام قال : «انّي لابغض الرجل ان يكون كسلانا عن امر دنياه ، ومن كسل عن امر دنياه فهو عن امر آخرته أكسل»(٢) .

وعن الامام موسى بن جعفرعليه‌السلام «انّ الله تعالى ليبغض العبد النوّام ، انّ الله ليبغض العبد الفارغ»(٣) .

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة المجلّد ١٢ صفحة ٣٧ و ٣٨.

(٢) وسائل الشيعة المجلّد ١٢ صفحة ٣٨.

(٣) وسائل الشيعة المجلّد ١٢ صفحة ٣٧ و ٣٨.

٤٠٣

الآيات

( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) )

التّفسير

الا بذكر الله تطمئنّ القلوب :

في سورة الرعد ـ كما أشرنا سابقا ـ بحوث كثيرة حول التوحيد والمعاد والنبوّة ، فالآية الاولى من هذه المجموعة تبحث مرّة اخرى في دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتبيّن واحدا من اعذار المشركين المعاندين حيث يقول تعالى :( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

جملة «يقول» فعل مضارع للدلالة على انّ هذا العذر كان يجري على ألسنتهم كثيرا ، رغم ما يرونه من معجزات الرّسول (فعلى كلّ نبي ان يظهر المعجزة كدليل على صدقه) ومع ذلك كانوا يحتجّون عليه ولا يؤمنون بالمعاجز

٤٠٤

السابقة ، ويطلبون منه معاجز جديدة تلائم افكارهم.

وبعبارة اخرى إنّ هؤلاء وجميع المنكرين لدعوة الحقّ كانوا دائما يطلبون «المعاجز الاقتراحية» ، ويتوقّعون من النّبي ان يجلس في زاوية الدار ويظهر لكلّ واحد منهم المعجزة التي يقترحها ، فإن لم تعجبهم لم يؤمنوا بها!.

في الوقت الذي نرى فيه انّ الوظيفة الرئيسيّة للأنبياء هي التبليغ والإرشاد والإنذار وهداية الناس ، وامّا المعجزة فهي امر استثنائي وتكون بأمر من الله لا من الرّسول ، ولكن نحن نقرا في كثير من الآيات القرآنية انّ هذه المجموعة المعاندة لا تأخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار ، وكانت تؤذي الأنبياء دائما بهذه الطلبات. ويجيبهم القرآن الكريم حيث يقول :( قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) .

وهذه اشارة الى انّ العيب ليس من ناحية الاعجاز ، لانّ الأنبياء قد أظهروا كثيرا من المعاجز ، ولكن النقص من داخل أنفسهم. وهو العناد والتعصّب والجهل والذنوب التي تصدّ عن الايمان.

ولأجل ذلك يجب ان ترجعوا الى الله وتنيبوا اليه وترفعوا عن عيونكم وافكاركم ستار الجهل والغرور كي يتّضح لكم نور الحقّ المبين.

تشير الآية الثانية بشكل رائع الى تفسير( مَنْ أَنابَ ) حيث يقول تعالى :( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ) . ثمّ يذكر القاعدة العامّة والأصل الثابت حيث يقول تعالى :( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) .

وتبحث الآية الاخيرة مصير الذين آمنوا حيث تقول :( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ) .

كثير من المفسّرين قالوا : انّ كلمة «طوبى» مؤنّث «أطيب» ، وبما انّ المتعلّق محذوف فإنّ للكلمة مفهوما واسعا وغير محدود ، ونتيجة طوبى لهم هو ان تكون لهم أفضل الأشياء : أفضل الحياة والمعيشة ، وأفضل النعم والراحة ، وأفضل

٤٠٥

الألطاف الالهيّة ، وكلّ ذلك نتيجة الايمان والعمل الصالح لأولئك الراسخين في عقيدتهم والمخلصين في عملهم.

وما ذكره جمع من المفسّرين في معنى هذه الكلمة وأوصلها صاحب مجمع البيان الى عشرة معاني ، فانّها في الحقيقة تصبّ كلّها في هذا المعنى الواسع والشامل الذي ذكرناه.

ونقرا في روايات متعدّدة انّ «طوبى» شجرة أصلها في بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم او الامام عليعليه‌السلام في الجنّة ، وتنتشر أغصانها على رؤوس جميع المؤمنين وعلى دورهم ، ولعلّ هذا تجسيما لقيادتهم وإمامتهم والصلات القويّة التي تربط بين هؤلاء القادة وأصحابهم ، وتكون ثمرتها كلّ هذه النعم المختلفة.

(وإذا ما رأينا انّ طوبى جاءت مؤنثّة لاطيب الذي هو مذكّر ، فإنّ ذلك بسبب انّها صفة للحياة والمعيشة او النعمة وكلّ هذه مؤنثة).

* * *

بحوث

١ ـ كيف يطمئن القلب بذكر الله؟

انّ الاضطراب والقلق من اكبر المصاعب في حياة الناس ، والنتائج الحاصلة منهما في حياة الفرد والمجتمع واضحة للعيان ، والاطمئنان واحد من اهمّ اهتمامات البشر ، وإذا حاولنا ان نجمع سعي وجهاد الانسانية على طول التاريخ في بحثهم للحصول على الاطمئنان بالطرق الصحيحة غير الصحيحة ، فسوف تتكوّن لدينا كتب كثيرة ومختلفة تعرض تلك الجهود.

يقول بعض العلماء : عند ظهور بعض الأمراض المعدية ـ كالطاعون ـ فإنّ من بين العشرة الافراد الذين يموتون بسبب المرض ـ ظاهرا ـ أكثرهم يموت بسبب القلق والخوف ، وعدّة قليلة منهم تموت بسبب المرض حقيقة. وبشكل

٤٠٦

عام «الاطمئنان» و «الاضطراب» لهما دور مهمّ في سلامة ومرض الفرد والمجتمع وسعادة وشقاء الانسانية ، وهذه مسألة لا يمكن التغافل عنها ، ولهذا السبب الّفت كتب كثيرة في موضوع القلق وطرق التخلّص منه ، وكيفيّة الحصول على الراحة ، والتاريخ الانساني مليء بالمواقف مؤسفة لتحصيل الراحة ، وكيف انّ الإنسان يتشبّث بكلّ وسيلة غير مشروعة كأنواع الاعتياد على المواد المخدّرة لنيل الاطمئنان النفسي.

ولكن القرآن الكريم يبيّن اقصر الطرق من خلال جملة قصيرة ولكنّها كبيرة المعنى حيث يقول :( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) !

ولتوضيح هذا المعنى ومعرفة عوامل القلق والاضطراب لا بدّ من ملاحظة ما يلي :

اوّلا : يحدث الاضطراب مرّة بسبب ما يجول في فكر الإنسان عن المستقبل المظلم ، فيحتمل زوال النعمة ، او الأسر على يد الأعداء ، او الضعف والمرض ، فكلّ هذه تؤلم الإنسان ، لكن الايمان بالله القادر المتعال الرحمن الرحيم ، الله الذي تكفّل برحمة عباده هذا الايمان يستطيع ان يمحو آثار القلق والاضطراب ويمنحه الاطمئنان في مقابل هذه الاحداث ويؤكّد له انّك لست وحيدا ، بل لك ربّ قادر رحيم.

ثانيا : ومرّة يشغل فكر الإنسان ماضيه الأسود فيمسي قلقا بسبب الذنوب التي ارتكبها وبسبب التقصير والزلّات ، ولكن بالنظر الى انّ الله غفّار الذنوب وقابل التوبة وغفور رحيم ، فإنّ هذه الصفات تمنح الإنسان الثقة وتجعله اكثر اطمئنانا وتقول له : اعتذر الى الله من سوالف أعمالك السيّئة واتّجه اليه بالنيّة الصادقة.

ثالثا : ضعف الإنسان في مقابل العوامل الطبيعيّة ، او مقابل كثرة الأعداء يؤكّد في نفسه حالة القلق وانّه كيف يمكن مواجهة هؤلاء القوم في ساحة الجهاد او في

٤٠٧

الميادين الاخرى؟

ولكنّه إذا تذكّر الله ، واستند الى قدرته ورحمته هذه القدرة المطلقة التي لا يمكن ان تقف امامها ايّة قدرة اخرى ، سوف يطمئنّ قلبه ، ويقول في نفسه : نعم انّني لست وحيدا ، بل في ظلّ القدرة الالهيّة المطلقة!

فالمواقف البطولية للمجاهدين في ساحات القتال ، في الماضي او الحاضر ، وشجاعتهم النادرة حتّى في المنازلة الفردية لهم ، كلّها تبيّن حالة الاطمئنان التي تنشأ في ظلّ الايمان.

نحن نشاهد او نسمع انّ احد الضبّاط المؤمنين فقد بصره مثلا او اصابته جراحات كثيرة بعد قتال شديد مع اعداء الإسلام ولكن عند ما يتحدّث كأنّه لم يكن به شيء ، وهذه نتيجة الاستقرار والطمأنينة في ظلّ الايمان بالله.

رابعا : ومن جانب آخر يمكن ان يكون اصل المشقّة هي التي تؤذي الإنسان ، كالاحساس بتفاهة الحياة او اللاهدفية في الحياة ، ولكن المؤمن بالله الذي يعتقد انّ الهدف من الحياة هو السير نحو التكامل المعنوي والمادّي ، ويرى انّ كلّ الحوادث تصبّ في هذا الإطار ، سوف لا يحسّ باللاهدفيّة ولا يضطرب في المسيرة.

خامسا : ومن العوامل الاخرى انّ الإنسان مرّة يتحمّل كثيرا من المتاعب للوصول الى الهدف ، ولكن لا يرى من يقيّم اعماله ويشكر له هذا السعي ، وهذه العملية تؤلمه كثيرا فيعيش حالة من الاضطراب والقلق ، وامّا إذا علم انّ هناك من يعلم بهذا السعي ويشكره عليه ويثيبه ، فليس للاضطراب والقلق هنا محل من الاعراب.

سادسا : سوء الظنّ عامل آخر من عوامل الاضطراب والذي يصبّ كثيرا من الناس في حياتهم ويبعث فيهم الألم والهمّ ، ولكنّ الايمان بالله ولطفه المطلق وحسن الظنّ به التي هي من وظائف الفرد المؤمن سوف تزيل عنه حالة العذاب

٤٠٨

والقلق وتحلّ محلّها حالة الاطمئنان والاستقرار.

سابعا : الهوى وحبّ الدنيا من اهمّ عوامل القلق والاضطراب ، وقد تصل الحالة في عدم الحصول على لون خاص في الملبس ، او اي شيء آخر من مظاهر الحياة البرّاقة ان يعيش الإنسان حالة من القلق قد تستمر ايّاما وشهورا.

ولكن الايمان بالله والتزام المؤمن بالزهد والاقتصاد وعدم الاستئسار في مخالب الحياة المادية ومظاهرها البرّاقة ينهي حالة الاضطراب هذه ، وكما قال الامام عليعليه‌السلام : «دنياكم هذه أهون عندي من ورقة في فمّ جرادة تقضمها» فمن كانت له مثل هذه الرؤية كيف يمكن ان تحدث عنده حالة الخوف والقلق نتيجة لعدم الحصول على شيء من وسائل الحياة الماديّة او فقدانها؟!

ثامنا : من العوامل المهمّة الاخرى الخوف من الموت ، وبما انّ الموت لا يحصل فقط في السنّ المتأخّرة ، بل في كافّة السنين وخصوصا أثناء المرض والحروب ، والعوامل الاخرى فالقلق يستوعب كافّة الافراد. ولكن إذا اعتقدنا انّ الموت يعني الفناء ونهاية كلّ شيء (كما يعتقده المادّيون) فإنّ الاضطراب والقلق في محلّه ، ولا بدّ ان يخاف الإنسان من هذا الموت الذي ينهي عنده كلّ الآمال والاماني والطموحات. ولكن الايمان بالله يمنحنا الثقة بأنّ الموت هو باب لحياة أوسع وأفضل من هذه الحياة ، وبرزخ يمرّ منه الإنسان الى دار فضاؤها رحب ، فلا معنى للقلق حينئذ ، بل انّ مثل هذا الموت ـ إذا ما كان في سبيل الله يكون محبوبا ومطلوبا.

انّ عوامل الاضطراب لا تنحصر بهذه العوامل ، فهناك عوامل كثيرة اخرى ، ولكن كلّ مصادرها تعود الى ما ذكرناه أعلاه.

وعند ما رأينا انّ كلّ هذه العوامل تذوب وتضمحلّ في مقابل الايمان بالله سوف نصدّق انّه( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (١) .

__________________

(١) للاستفادة اكثر راجع كتاب (طرق التغلّب على الاضطراب والقلق).

٤٠٩

٢ ـ الطمأنينة والخوف من الله

طرح بعض المفسّرين هنا هذا السؤال ، وخلاصته : نحن قرانا في الآية أعلاه( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ومن جانب آخر فإنّ الآية ٢ من سورة الأنفال تقول :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) فهل انّ هاتين الآيتين متناقضتين؟

الجواب : انّ الطمأنينة المحمودة هي ما كانت في مقابل العوامل المادية التي تقلق الإنسان ـ كما أشرنا اليه سابقا ـ ولكن المؤمنين لا بدّ وان يكونوا قلقين في مقابل مسئولياتهم ، وبعبارة اخرى : انّ المؤمنين لا يشكون من الاضطراب المدمّر الذي يشكّل غالبية أشكال القلق والاضطرابات ، ولكن القلق البنّاء الذي يحسّ به الإنسان تجاه مسئولياته امام الله فهو المطلوب ولا بدّ منه ، وهذا هو الخوف من الله(١) .

٣ ـ ما هو ذكر الله ، وكيف يتمّ؟

«الذكر» كما يقول الراغب في مفرداته : حفظ المعاني والعلوم ، ويستعمل الحفظ للبدء به ، بينما الذكر للاستمرار فيه ، ويأتي في معنى آخر هو ذكر الشيء باللسان او القلب ، لذلك قالوا : انّ الذكر نوعين «ذكر القلب» و «ذكر اللسان» وكلّ واحد منها على نوعين : بعد النسيان او بدونه.

وعلى ايّة حال ليس المقصود من الذكر ـ في الآية أعلاه ـ هو ذكره باللسان فقط فنقوم بتسبيحه وتهليله وتكبيره ، بل المقصود هو التوجّه القلبي له وادراك علمه وبأنّه الحاضر والناظر ، وهذا التوجّه هو مبدا الحركة والعمل والجهاد والسعي نحو الخير ، وهو سدّ منيع عن الذنوب ، فهذا هو الذكر الذي له كلّ هذه الآثار والبركات كما اشارت اليه عدّة من الرّوايات.

__________________

(١) وقد أشرنا الى هذه المسألة من تفسير الأمثل ذيل الآية (٢) من سورة الأنفال.

٤١٠

فمن وصايا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليعليه‌السلام يقول له : «يا علي ، ثلاث لا تطيقها هذه الامّة : المواساة للأخ في ماله ، وانصاف الناس من نفسه ، وذكر الله على كلّ حال ، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا اله الّا الله والله اكبر ، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف اللهعزوجل عنده وتركه»(١) .

وقال الامام عليعليه‌السلام : «الذكر ذكران : ذكر اللهعزوجل عند المصيبة ، وأفضل من ذلك ذكر الله عند ما حرّم الله عليك فيكون حاجزا»(٢) .

ولهذا السبب اعتبرت بعض الرّوايات الذكر وقاية ووسيلة دفاعية ، كما ورد عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «انّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاطب أصحابه يوما فقال لهم : اتّخذوا جننا ، فقالوا يا رسول الله امن عدو وقد أظلنا؟ قال : لا ، ولكن من النار ، قولوا : سبحان الله والحمد لله ولا اله الّا الله والله اكبر»(٣) .

وإذا ما رأينا انّ بعض الرّوايات تتحدّث عن «ذكر الله» انّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذلك لانّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذكّر الناس بالله تعالى ، وقد روي عن الامام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) قال : «بمحمّد تطمئن القلوب وهو ذكر الله وحجابه».

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، صفحة ٤٨٤.

(٢) المصدر السّابق.

(٣) المصدر السّابق.

٤١١

الآيات

( كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) )

اسباب النّزول

قال بعض المفسّرين : انّ الآية الاولى نزلت في صلح الحديبيّة في السنة السادسة للهجرة ، وذلك عند ما أرادوا كتابة معاهدة الصلح ، قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي

٤١٢

عليه‌السلام : «اكتب : بسم الله الرّحمن الرّحيم ...» قال سهيل بن عمرو ومعه المشركون : نحن لا نعرف الرّحمان! وانّما هناك رحمان واحد في اليمامة «وكان قصدهم مسيلمة الكذّاب» بل اكتب «باسمك اللهم» كما كانوا يكتبونه في الجاهلية ، ثمّ قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام : «اكتب : هذا ما اتّفق عليه محمّد رسول الله ...» فقال المشركون : إذا كنت رسول الله فإنّه لظلم كبير ان نقاتلك ونمنعك من الحجّ ، ولكن اكتب : هذا ما اتّفق عليه محمّد بن عبد الله! وفي هذه الأثناء غضب صحابة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : دعنا نقاتل هؤلاء المشركين ، ولكنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا ، اكتب كما يشاءون» وفي هذه الأثناء نزلت الآية أعلاه ، وهي توبّخ المشركين على عنادهم ومخالفتهم في اسم الرّحمن الذي هو واحد من صفات الله جلّ وعلا.

هذا السبب في النّزول يمكن ان يكون صحيحا في حالة اعتقادنا بأنّ السورة مدنيّة حتّى توافق حادثة صلح الحديبيّة ، ولكنّ المشهور انّها مكيّة. الّا إذا اعتبرنا انّ سبب النّزول هو ردّ على المشركين كما في الآية (٦٠) من سورة الفرقان( اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ ) .

وعلى ايّة حال ، وبغضّ النظر عن سبب النزول ، فإنّ الآية لها مفهوم واضح سوف نتطرّق اليه في تفسيرنا لها.

وقال بعض المفسّرين في سبب نزول الآية الثّانية : انّها جواب لمجموعة من مشركي مكّة ، حيث كانوا جالسين خلف الكعبة وطلبوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجاءهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «على امل هدايتهم» قالوا : إذا كنت تحبّ ان نكون من أصحابك فأبعد هذه الجبال قليلا الى الوراء حتّى تتّسع لنا الأرض! وشقّ الأرض لكي تتفجّر العيون والأنهار حتّى نغرس الأشجار ونقوم بالزراعة! الم تعتقد بأنّك لا تقلّ عن داود الذي سخّر الله له الجبال تسبح معه؟ او انّ تسخّر لنا الرّيح حتّى نسافر عليها الى الشام ونحلّ مشاكلنا التجارية وما نحتاج اليه ثمّ نعود في نفس

٤١٣

ذلك اليوم! كما كانت مسخّرة لسليمانعليه‌السلام ، الم تعتقد انّك لا تقلّ عن سليمان ، أو احيي لنا جدّك «قصي» او اي واحد من موتانا كي نسأله هل انّ ما تقوله حقّ ام باطل ، او ليس عيسى كان يحيي الموتى!

وفي هذه الأثناء نزلت الآية الثانية تذكرهم بأنّ كلّ ما يقولونه سببه الخصومة والعناد لا لكي يؤمنوا ، والّا فهناك معاجز كثيرة حصلت لهم.

التّفسير

لا امل في ايمان اهل العناد :

تبحث هذه الآيات مرّة ثانية مسألة النّبوة ، والآيات أعلاه تكشف عن قسم آخر من جدال المشركين في النبوّة وجواب القرآن عليهم فيقول الآية : كما انّنا أرسلنا رسلا الى الأقوام السالفة لهدايتهم :( كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ ) والهدف من ذلك( لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) . في الوقت الذي( وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ ) يكفرون بالله الذي عمّت رحمته كلّ مكان ، وشمل فيضه المؤمن والكافر.

ثمّ قل لهم : انّ الرّحمن الذي عمّ فضله هو ربّي( قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ ) .

ثمّ يجيب أولئك الذين يتشبّثون دائما بالحجج الواهية فيقول : لو انّ الجبال تحرّكت من مكانها بواسطة القرآن :( وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ) . فمع ذلك لا يؤمنون به.

ولكنّ كلّ هذه الأفعال بيد الله ويفعل ما يريد متى يشاء( بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ) . ولكنّكم لا تطلبون الحقّ ، وإذا كنتم تطلبونه فهذا المقدار من المعجزة التي صدرت من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاف لايمانكم.

ثمّ يضيف القرآن الكريم( أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى

٤١٤

النَّاسَ جَمِيعاً ) (١) وهذه اشارة الى انّ الله سبحانه وتعالى يستطيع ان يجبر الناس وحتّى المعاندين على ان يؤمنوا ، لانّه القادر على كلّ شيء ، ولكنّه لا يفعل ذلك ابدا ، لانّ هذا الايمان الاجباري لا قيمة له وهو فاقد للمعنى والتكامل الذي يحتاجه الإنسان في حياته.

ثمّ تضيف الآية( وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ ) وهذه مصائب تنزل عليهم بشكل ابتلاءات مختلفة او على شكل هجوم المسلمين عليهم. وهذه المصائب انّ لم تنزل في دارهم فهي( أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ ) لكي يعتبروا بها ويرجعوا الى الله جلّ وعلا.

وهذا الإنذار مستمر( حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ ) .

وهذا الوعد الأخير قد يشير الى الموت ، او الى يوم القيامة ، او على قول البعض الى فتح مكّة التي سحقت آخر معقل للعدو.

وعلى ايّة حال فالوعد الالهي اكيد :( إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) .

الآية الاخيرة من هذه المجموعة تخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول له : لست الوحيد من بين الأنبياء تعرّض لطلب المعاجز الاقتراحية والاستهزاء من الكفّار ، بل( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ) . ولكن لم نعاقب هؤلاء الكفّار فورا ، بل( فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) لكي يستيقظوا ويعودوا الى طريق الحقّ ، او نلقي عليهم الحجّة الكافية على الأقل. لانّ هؤلاء إذا كانوا مذنبين فإنّ لطف الله وكرمه وحكمته لا تتأثّر بأفعال هؤلاء.

__________________

(١) «ييأس» مأخوذة من مادّة اليأس ، ولكن يقول جمهور من المفسّرين : انّها جاءت هنا بمعنى العلم ، وامّا ما يقوله البعض [طبقا لما نقله الفخر الرّازي] ان «يئست» لا تأتي بمعنى «علمت» إطلاقا ، ويرى الرّاغب في مفرداته انّ اليأس هنا هو نفس معناه ، ولكن يحتاج لتحقّقه الى العلم بعدم تحقّق الموضوع ، وعلى هذا يكون ثبوت يأسهم يتوقّف على علمهم وتكون نتيجته انّ اليأس هنا ليس العلم بالوجود ، بل العلم بالعدم ، وهو مخالف لمفهوم الآية ، وعلى ذلك فالحقّ ما قاله جمهور المفسّرين ، وما ذكروه من شواهد في قول العرب على ذلك ، وقد ذكر الفخر الرّازي في تفسيره امثلة من هذه الشواهد [دقّقوا النظر].

٤١٥

وعلى ايّة حال فهذا التأخير ليس بمعنى نسيان العقاب ، بل( ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ) وهذا المصير ينتظر قومك المعاندين ايضا.

* * *

بحوث

١ ـ لماذا التركيز على كلمة «الرّحمان»؟

توضّح الآية أعلاه ، وما ذكرناه في اسباب النّزول ، انّ كفّار قريش لم يوافقوا على وصف الله بالرحمن ، وبما انّ ذلك لم يكن سائدا لديهم ، فانّهم كانوا يستهزئون به ، في الوقت الذي نرى فيه الآيات السابقة تصرّ وتؤكّد على ذلك ، لانّ في هذه الكلمة لطفا خاصّا ، ونحن نعلم انّ صفة الرّحمانية تعمّ وتشمل المؤمن والكافر ، الصديق والعدو ، في الوقت نفسه فانّ صفة الرّحيم خاصّة بعباده المؤمنين.

فكيف لا تؤمنون بالله الذي هو اصل اللطف والكرم حتّى شمل أعداءه بلطفه ورحمته ، فهذا منتهى الجهل.

٢ ـ لماذا لم يستجب النّبي لمطاليبهم

ومرّة اخرى نواجه هنا ما يقوله البعض من انّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تكن لديه معجزة غير القرآن الكريم ، ويستندون في ذلك الى الآية أعلاه وأمثالها ، لانّ ظاهر هذه الآيات انّ النّبي لم يستجب الى طلبهم في اظهار المعاجز المختلفة من قبيل تسيير الجبال او شقّ الأرض واظهار العيون واحياء الموتى والتكلّم معهم.

ولكن ـ كما قلنا مرارا ـ الاعجاز يتمّ لإظهار الحقيقة فقط ، ولأولئك الذين يطلبون الحقّ ، فليس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل سحر حتّى ينفّذ لهم كلّ ما يطلبونه منه او

٤١٦

يقترحونه عليه ثمّ بعد ذلك لا يقبلون منه.

إنّ مثل هذا الطلب للمعاجز (المعاجز الاقتراحية) كان يصدر ـ فقط ـ من الافراد المعاندين والجاهليين الذين لم يستجيبوا لايّ حقّ. والآيات أعلاه تشير الى ذلك بوضوح ، ففي الآية الاخيرة تتحدّث عن استهزائهم بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا يعني انّهم لم يطلبوا المعجزة من اجل الحقّ ، بل كان طلبهم استهزاء بالرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبالاضافة الى ما ذكرناه من اسباب النّزول في بداية التّفسير لهذه الآيات ، يمكن ان نستفيد من خلال طلبهم من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احياء واحد من أجدادهم لكي يسألوه : هل انّ ما تقوله حقّ ام باطل؟

فلو استجاب لهم النّبي هذا الطلب فما معنى سؤالهم انّ النّبي على حقّ ام باطل؟ وهذا يوضّح انّ هؤلاء هم افراد متعصّبون ومعاندون وهدفهم ليس البحث عن الحقيقة ، (ولنا توضيح آخر من هذا الموضوع في ذيل الآية ٩٠ من سورة الاسراء).

٣ ـ ما هي القارعة؟

«القارعة» مأخوذة من مادّة «قرع» بمعنى طرق ، وعلى ذلك تكون القارعة بمعنى الطارقة ، وتشير هنا الى الاحداث التي تقرع الإنسان وتنذره وإذا كان مستعدّا للنهوض أيقظته.

وفي الحقيقة انّ للقارعة معنى واسعا ، فهي تشمل كلّ مصيبة ومشكلة وحادثة تحيط بالإنسان.

ولذلك يعتقد بعض المفسّرين انّها تعني الحروب والجفاف والقتل والأسر ، ويرى آخرون انّها تشير الى الحروب التي كانت تقع في صدر الإسلام تحت

٤١٧

عنوان «السرية» التي لم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشترك فيها ، بل كان يأمر أصحابه بها ، ولكن معنى القارعة يشمل جميع هذه الاحداث.

ومن الطريف انّ الآيات أعلاه تشير الى انّ الحوادث هذه امّا ان تنزّل عليهم او تقع قريبا من دارهم ، وهذا يعني : إذا لم تصيبهم هذه الحوادث في دارهم ، فانّها سوف تقع قريبة منهم ، فهل لا تكفي هذه الحوادث لايقاظهم؟

* * *

٤١٨

الآيتان

( أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) )

التّفسير

كيف تجعلون الأصنام شركاء مع الله؟!

نعود مرّة اخرى في هذه الآيات الى البحث حول التوحيد والشرك ، وهي تخاطب الناس من خلال دليل واضح حيث يقول تعالى :( أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) (١) وهذه الجملة تريد ان تقول بوضوح انّ الله سبحانه وتعالى وكأنّه واقف على راس كلّ شخص ويعلم بما يفعلونه ويجازي عليه وبيده تدبير الأمور ، ولذلك فإنّ كلمة «قائم» لها معنى واسع يشمل كلّ هذه الأمور ، مع انّ

__________________

(١) الجملة أعلاه مبتدا لخبر محذوف تقديره( أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) كمن ليس كذلك.

٤١٩

مجموعة من المفسّرين يرى لها ابعادا خاصّة.

ولإتمام البحث السابق ، ومقدّمة للبحث الآتي ، يقول تعالى :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ ) .

ثمّ يجيبهم بلا فاصلة وبعدّة طرق : يقول اوّلا :( قُلْ سَمُّوهُمْ ) .

والمقصود من تسميتهم هو امّا ان يكونوا ليست لهم ايّة قيمة بحيث لا تستطيعون تسميتهم ، فكيف تجعلون هذه الموجودات التي لا تستحق حتّى الأسماء والتي لا قيمة لها ، في عداد الخالق القادر المتعال؟

او يكون المقصود : بيّنوا صفاتهم لكي نرى هل يستحقّون العبادة ، فنحن نقول في صفات الله جلّ وعلا بأنّه الخالق ، والرازق ، والمحيي والعالم والقادر ، فهل تستطيعون ان تمنحوا هذه الصفات للأصنام؟! او بالعكس إذا أردنا تسميتها نقول بأنّها أحجار وأخشاب ساكنة وفاقدة للعقل والشعور ، ومحتاجة لمن يعبدها ، وخلاصة القول انّها فاقدة لكلّ شيء! فكيف نجعلها سواء مع الله؟ أفلا تعقلون؟!

او يكون المقصود : عدّوا لنا اعمالهم ، فهل كشفوا الضرّ لأحد او منحوا الخير لأحد؟ وهل حلّوا العقد والمشاكل؟! ومع هذا الوضع فأي عقل يجيز لكم ان تجعلوهم قرناء مع الله جلّ وعلا وهو مصدر الخير والبركة والنافع والضارّ والمثيب والمعاقب!.

طبعا لا مانع من ان تجتمع كلّ هذه المعاني في جملة( سَمُّوهُمْ ) !

ويقول ثانيا :( أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ ) .

وهذا التعبير في الحقيقة أفضل أسلوب للجواب على حديثهم الواهي ، وكمثال على ذلك يقول لك احد الأشخاص : انّ فلانا كان ضيفا عندكم البارحة ، فتقول له : هل تخبرني عن ضيف لا علم لي به؟! يعني هل من الممكن ان أحدا

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه ، يحرّك يديه ورجليه للاهتداء إلى سبيله ، لأنّه لا يبصر طريقه جيّدا ، وليس بقادر على السيطرة على نفسه ، ولا بمطّلع على العقبات والموانع ، وليست لديه القوّة للسير سريعا ، وبذلك يتعثّر في سيره يمشي قليلا ثمّ يتوقّف حائرا.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات ، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج ، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه ـ حقّا ـ لتشبيه لطيف فذّ ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماما ، وانعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين ، وذلك ما نلاحظه بأمّ أعيننا.

ويرى البعض أنّ مصداق هاتين المجموعتين هما : (الرّسول الأكرم) و (أبو جهل) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة ، إلّا أنّ ذلك لا يحدّد عمومية الآية.

وذكرت احتمالات متعدّدة في تفسير (مكبّا على وجهه). إلّا أنّ أكثر الاحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه ، وهو أنّ الإنسان غير المؤمن يكون مكبّا على وجهه ويمشي زاحفا بيده ورجليه وصدره.

وقيل أنّ المقصود من (مكبّا) هو المشي الاعتيادي ولكنّه مطأطئ الرأس لا يشخّص مسيره بوضوح أبدا.

كما يرى آخرون أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي لا يستطيع أن يحفظ توازنه في السير ، فهو يخطو خطوات معدودة ثمّ ما يلبث أن يسقط على الأرض وينهض ليمشي ، ثمّ تتكرّر هذه الحالة.

ويستفاد ممّا ذكره الراغب في مفرداته أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي يدور حول محور الذات والأنانية ، معرضا عن الاهتمام بغيره.

٥٠١

إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر ، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع المؤمنين والذين عبّرت عنهم الآية بـ (سويّا).

وعلى كلّ حال ، فهل أنّ هذه الحالة (مكبّا) و (سويّا) تمثّل وضع الكفّار والمؤمنين في الآخرة فقط؟ أم في العالمين (الدنيا والآخرة)؟ لا دليل على محدودية مفهوم الآية وانحصارها في الآخرة ، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة.

إنّ هؤلاء الأنانيين المنشدّين إلى مصالحهم الماديّة والمنغمسين في شهواتهم ، السائرين في درب الضلال والهوى ، كمن يروم العبور من مكان مليء بالأحجار زاحفا على صدره ، بخلاف من تحرّر من قيد الهوى في ظلّ الإيمان حيث يكون مسيره واضحا ومستقيما ونظراته عميقة وثاقبة.

ثمّ يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية اللاحقة فيقول :( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) .

إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للاطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثمّ وسيلة اخرى للتفكّر والتدبّر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرّفوا على العلوم العقلية والنقلية ، إلّا أنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم ، حيث أنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله ، ترى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثمّ يخاطب الرّسول مرّة اخرى حيث يقول تعالى :( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الآية الاولى تعيّن (المسير) ، والثانية تتحدّث عن (وسائل

٥٠٢

العمل) أمّا الآية ـ مورد البحث ـ فإنّها تشخّص (الهدف والغاية) وذلك بالتأكيد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم ، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان ، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الاتّجاه ، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ التعبير في الآية السابقة ورد بـ (أنشأكم) وفي الآية مورد البحث بـ (ذرأكم) ، ولعلّ تفاوت هذين التعبيرين هو أنّه في الأولى إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم (أي إنّكم لم تكونوا شيئا وقد خلقكم الله تعالى) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادّة التراب ، وذلك يعني أنّ الله خلق الإنسان من التراب.

ثمّ يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم ، فيقول تعالى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

إنّ المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة ، كما أنّهم يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلّق بمصير الجميع( مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ ) .

وذكروا احتمالين في المقصود من (هذا الوعد) : الأوّل : هو وعد يوم القيامة ، والآخر : هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة ، كوقوع الزلازل والصواعق والطوفانات. إلّا أنّ المعنى الأوّل أكثر تناسبا حسب الظاهر ، وذلك بلحاظ ما ورد في الآية السابقة. كما أنّ بالإمكان الجمع بين المعنيين.

ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى :( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا التعبير يشبه تماما ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها

٥٠٣

قوله تعالى :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) (١) .

ولا بدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة ، حيث أنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيدا فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة ، وإن كان قريبا فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب. وعلى كلّ حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم :( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم( وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) .

«تدعون» من مادّة (دعاء) يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائما أن يجيء يوم القيامة ، وها هو قد حان موعده ، ولا سبيل للفرار منه(٢) .

وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطبا الكفّار في يوم القيامة :( هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) (٣) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه أغلب المفسّرين ، وهذا دليل على أنّ جملة( مَتى هذَا الْوَعْدُ ) إشارة إلى موعد يوم القيامة.

يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني : عند ما شاهد الكفّار شأن ومقام الإمام عليعليه‌السلام عند الله تعالى. اسودّت وجوههم (من شدّة الغضب)(٤) .

ونقل هذا المعنى أيضا في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ هذه الآية نزلت

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٨٧.

(٢) «تدعون» من باب (افتعال) ، ومن مادّة دعاء ، بمعنى الطلب والرجاء ، أو من مادّة (دعوا) بمعنى الطلب أو إنكار شيء معيّن.

(٣) الذاريات ، الآية ١٤.

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥٠٤

بحقّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأصحابه(١) .

وهذا التّفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنّة ، وهو نوع من التطبيق المصداقي ، وإلّا فإنّ هذه الآية تناولت موضوع (القيامة) ومثل هذه التطبيقات ليست قليلة في عالم الروايات.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٥.

٥٠٥

الآيات

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠) )

التّفسير

من الذي يأتيكم بالمياه الجارية؟

إنّ الآيات أعلاه ، التي هي آخر آيات سورة الملك ، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّها تمثّل استمرارا للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفّار ، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اخرى من البحث.

يخاطب البارئعزوجل ـ في البداية ـ الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كلّ شيء. وهذا الشعور كثيرا ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات

٥٠٦

القويّة والمؤثّرة ، يقول تعالى مخاطبا إيّاهم :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) .

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكّة ، كانوا دائما يسبّون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وكانوا يتمنّون موته ظنّا منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك ، لذا جاءت الآية أعلاه ردّا عليهم.

كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) (١) .

لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين ، بأنّ اسمه سيكون مقترنا مع مبدأ الحقّ الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإنّ ذكره لن يندرس ، نعم ، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كلّ الدنيا ، وحياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو موته لن يغيّرا من هذه الحقيقة شيئا.

كما ذكر البعض تفسيرا آخر لهذه الآية وهو : إنّ خطاب الله لرسوله الكريم ـ الذي يشمل المؤمنين أيضا ـ مع ما عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإيمان الراسخ ، كان يعكس الخوف والرجاء معا في آن واحد. فكيف بكم أنتم أيّها الكافرون؟ وما الذي تفكّرون به لأنفسكم؟

ولكن التّفسير الأوّل أنسب حسب الظاهر.

واستمرارا لهذا البحث ، يضيف تعالى :( قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

وهذا يعني أنّنا إذا آمنا بالله ، واتّخذناه وليّا ووكيلا لنا ، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن ، شملت رحمته الواسعة كلّ شيء ، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر) ، إنّ نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد

__________________

(١) الطور ، الآية ٣٠.

٥٠٧

على هذا المدّعى ، أمّا الذين تعبدونهم من دون الله فما ذا عملوا؟ وما ذا صنعوا؟

وبالرغم من أنّ ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا ، إلّا أنّه سيتّضح بصورة أكثر في الدار الآخرة. أو أنّ هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا عند ما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي وخارق للعادة ، عندئذ ستتبيّن الحقيقة أكثر للجميع.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ نوع من المواساة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، كي لا يظنّوا أو يتصوّروا أنّهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحقّ والباطل ، حيث أنّ الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر.

ويقول تعالى في آخر آية ، عارضا لمصداق من رحمته الواسعة ، والتي غفل عنها الكثير من الناس :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) .

إنّ للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتين : (قشرة قابلة للنفوذ) يدخل فيها الماء ، واخرى (غير قابلة للنفوذ) تحفظ بالماء ، وجميع العيون والآبار والقنوات تولّدت من بركات هذا التركيب الخاصّ للأرض ، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعا ولأعماق بعيدة ، فإنّ جميع المياه التي تدخل جوف الأرض لا يقرّ لها قرار ، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل من الماء. ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمّعت المياه على سطحها وتحوّلت إلى مستنقع كبير ، أو أنّ المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصبّ في البحر ، وهكذا يتمّ فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض.

إنّ هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلّق بموت الإنسان وحياته.

«معين» من مادّة (معن) ، على وزن (طعن) بمعنى جريان الماء.

وقال آخرون : إنّها مأخوذة من (عين) والميم زائدة. لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ معنى (معين) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغضّ النظر عن جريانه.

إلّا أنّ الغالبية فسّروه بالماء الجاري.

٥٠٨

وبالرغم من أنّ الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري ، إلّا أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الماء الجاري يمثّل أفضل أنواع ماء الشرب ، سواء كان من العيون أو الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفّقة

ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد الكفّار عند ما سمع قوله تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) قال : (رجال شداد ومعاول حداد) وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه ، وفي هذه الأثناء سمع من يقول : أتي بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك.

ومن الواضح أنّه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ ، فإنّه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حادّ أن يستخرج شيئا من الماء(١) .

* * *

تعقيب

جاء في الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهديعليه‌السلام وعدله الذي سيعمّ العالم.

فقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «نزلت في الإمام القائمعليه‌السلام ، يقول : إن أصبح إمامكم غائبا عنكم ، لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السموات والأرض ، وحلال الله وحرامه؟ ثمّ قال : والله ما جاء تأويل هذه الآية ، ولا بدّ أن يجيء تأويلها»(٢) .

والروايات في هذا المجال كثيرة ، وممّا يجدر الانتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اخرى فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري ، والذي هو علّة حياة

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٢١٩.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

٥٠٩

الموجودات الحيّة. أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمامعليه‌السلام وعلمه وعدالته التي تشمل العالم ، والتي هي الاخرى تكون سببا لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

ولقد ذكرنا مرّات عدّة أنّ للآيات القرآنية معاني متعدّدة ، حيث لها معنى باطن وظاهر ، إلّا أنّ فهم باطن الآيات غير ممكن إلّا للرسول والإمام المعصوم ، ولا يحقّ لأي أحد أن يطرح تفسيرا ما لباطن الآيات. وما نستعرضه هنا مرتبط بظاهر الآيات ، أمّا ما يرتبط بباطن الآيات فعلينا أن نأخذه من المعصومينعليهم‌السلام فقط.

لقد بدأت سورة الملك بحاكمية الله ومالكيته تعالى ، وانتهت برحمانيته ، والتي هي الاخرى فرع من حاكميته ومالكيته سبحانه ، وبهذا فإنّ بدايتها ونهايتها منسجمتان تماما.

اللهمّ ، أدخلنا في رحمتك العامّة والخاصّة ، وأرو ظمآنا من كوثر ولاية أولياءك.

ربّنا ، عجّل لنا ظهور عين ماء الحياة الإمام المهدي ، واطفئ عطشنا بنور جماله

ربّنا ، ارزقنا اذنا صاغية وعينا بصيرة وعقلا كاملا ، فأقشع عن قلوبنا حجب الأنانية والغرور لنرى الحقائق كما هي ، ونسلك إليك على الصراط المستقيم بخطوات محكمة وقامة منتصبة

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الملك

* * *

٥١٠
٥١١

سورة

القلم

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية

٥١٢

«سورة القلم»

محتوى السورة :

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين شكّك في كون السورة بأجمعها نزلت في مكّة ، إلّا أنّ نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماما مع السور المكيّة ، لأنّ المحور الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوّة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواجهة الأعداء الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره ، والتأكيد على الصبر والاستقامة وتحدّي الصعاب ، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم.

وبشكل عامّ يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام :

١ ـ في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصّة لرسول الإنسانية محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصوصا أخلاقه البارّة السامية الرفيعة ، ولتأكيد هذا الأمر يقسم البارئعزوجل في هذا الصدد.

٢ ـ ثمّ تتعرّض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيّئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

٣ ـ كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصّة (أصحاب الجنّة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

٤ ـ وفي قسم آخر من السورة ذكرت عدّة امور حول القيامة والعذاب الأليم للكفّار في ذلك اليوم.

٥ ـ كما جاء في آيات اخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

٥١٣

٦ ـ ونلاحظ في آيات اخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

٧ ـ وأخيرا تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم ، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرّسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

انتخاب (القلم) اسما لهذه السورة المباركة ، كان بلحاظ ما ورد في أوّل آية منها ، وذكر البعض الآخر أنّ اسمها (ن).

ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أنّ اسمها «ن والقلم».

فضيلة تلاوة سورة القلم :

نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضيلة تلاوة هذه السورة أنّه قال : «من قرأ (ن والقلم) أعطاه الله ثواب الذين حسن أخلاقهم»(١) .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة (ن والقلم) في فريضة أو نافلة ، آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبدا ، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر ، إن شاء الله»(٢) .

وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسبا خاصّا مع محتوى السورة ، والهدف من التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة بالوعي والمعرفة ومن ثمّ العمل بمحتواها.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥١٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) )

التّفسير

عجبا لأخلاقك السامية :

هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى :( ن ) .

وقد تحدّثنا مرّات عديدة حول الحروف المقطّعة ، خصوصا في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) والشيء الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره البعض من أنّ (ن) هنا تخفيف لكلمة (الرحمن) فهي إشارة لذلك. كما أنّ البعض الآخر فسّرها بمعنى (اللوح) أو (الدواة) أو (نهر في الجنّة) إلّا أنّ كلّ تلك الأقوال ليس لها دليل واضح.

٥١٥

وبناء على هذا فإنّ الحرف المقطّع هنا لا يختلف عن تفسير بقيّة الحروف المقطّعة والتي أشرنا إليها سابقا.

ثمّ يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان ، فيقول تعالى :( وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ) .

كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهرا بمواضيع صغيرة ، أي قطعة من القصب ـ أو شيء يشبه ذلك ـ وبقليل من مادّة سوداء ، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدرا لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع ، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية ، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية كان بفضل ما كتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة ، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان وكان ذلك بواسطة (القلم).

لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين : (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات ، وبتعبير آخر ، يبدأ عند ما أخذ الإنسان القلم بيده ، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليدا لماضيه.

وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عند ما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم ، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة ، فإنّ عددهم في كلّ مكّة ـ التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز ـ لم يتجاوز ال (٢٠) شخصا. ولذا فإنّ القسم بـ (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة.

والرائع هنا أنّ الآيات الاولى التي نزلت على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (جبل النور) أو (غار حراء) قد أشير فيها أيضا إلى المنزلة العليا للقلم ، حديث يقول تعالى :

٥١٦

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (١) .

والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب ، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ ، وهذا دليل أيضا على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي.

وذكر بعض المفسّرين أنّ كلمة (القلم) هنا يقصد بها : (القلم الذي تخطّ به ملائكة الله العظام الوحي السماوي) ، (أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر) ، ولكن من الواضح أنّ للآية مفهوما واسعا ، وهذه الآراء تبيّن مصاديقها.

كما أنّ لجملة( ما يَسْطُرُونَ ) مفهوما واسعا أيضا ، إذ تشمل جميع ما يكتب في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر ، ولا ينحصر بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر(٢) .

ثمّ يتطرّق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى :( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) .

إنّ الذين نسبوا إليك هذه النسبة القبيحة هم عمي القلوب والأبصار ، وإلّا فأين هم من كلّ تلك النعم الإلهية التي وهبها الله لك؟ نعمة العقل والعلم الذي تفوّقت بها على جميع الناس ونعمة الأمانة والصدق والنبوّة ومقام العصمة إنّ الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة ، إنّ ابتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه.

ثمّ يضيف تعالى بعد ذلك :( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) أي غير منقطع ، ولم لا

__________________

(١) العلق ، الآية ١ ـ ٥.

(٢) اعتبر البعض أنّ (ما) في (ما يسطرون) مصدرية ، واعتبرها بعض آخر بأنّها (موصولة) والمعنى الثاني أنسب ، والتقدير هكذا : (ما يسطرونه) ، كما اعتبرها البعض أيضا بمعنى (اللوح) أو (القرطاس) الذي يكتب عليه ، وفي التقدير (ما يسطرون فيه) كما اعتبر البعض (ما) هنا إشارة لذوي العقول والأشخاص الذين يكتبون هذه السطور ، إلّا أنّ المعنى الذي ذكرناه في المتن أنسب من الجميع حسب الظاهر.

٥١٧

يكون لك مثل هذا الأجر ، في الوقت الذي وقفت صامدا أمام تلك التّهم والافتراءات اللئيمة ، وأنت تسعى لهدايتهم ونجاتهم من الضلال وواصلت جهدك في هذا السبيل دون تعب أو ملل؟

«ممنون» من مادّة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبدا ، وهو متواصل إلى الأبد ، يقول البعض : إنّ أصل هذا المعنى مأخوذ من «المنّة» ، بلحاظ أنّ المنّة توجب قطع النعمة.

وقال البعض أيضا : إنّ المقصود من( غَيْرَ مَمْنُونٍ ) هو أنّ الله تعالى لم تكن لديه منّة مقابل هذا الأجر العظيم. إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وتعرض الآية اللاحقة وصفا آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بقوله تعالى :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

تلك الأخلاق التي لا نظير لها ، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف ، ولطف منقطع النظير ، وصبر واستقامة وتحمّل لا مثيل لها ، وتجسيد لمبادئ الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلا فيما يدعو إليه ، ثمّ يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والالتزام به.

عند ما دعوت ـ يا رسول الله ـ الناس ـ لعبادة الله ، فقد كنت أعبد الناس جميعا ، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع ، تقابل الأذى بالنصح ، والإساءة بالصفح ، والتضرّع إلى الله بهدايتهم ، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رميا بالحجارة ، واستهزاء بالرسالة ، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد.

نعم لقد كنت مركزا للحبّ ومنبعا للعطف ومنهلا للرحمة ، فما أعظم أخلاقك؟

«خلق» من مادّة (الخلقة) بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان ، وهي ملازمة له ، كخلقة الإنسان.

وفسّر البعض الخلق العظيم للنبي بـ (الصبر في طريق الحقّ ، وكثرة البذل

٥١٨

والعطاء ، وتدبير الأمور ، والرفق والمداراة ، وتحمّل الصعاب في مسير الدعوة الإلهية ، والعفو عن المتجاوزين ، والجهاد في سبيل الله ، وترك الحسد والبغض والغلّ والحرص ، وبالرغم من أنّ جميع هذه الصفات كانت متجسّدة في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ الخلق العظيم له لم ينحصر بهذه الأمور فحسب ، بل أشمل منها جميعا.

وفسّر الخلق العظيم أيضا بـ (القرآن الكريم) أو (مبدأ الإسلام) ومن الممكن أن تكون الموارد السابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه.

وعلى كلّ حال فإنّ تأصّل هذا (الخلق العظيم) في شخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه.

ثمّ يضيف سبحانه بقوله :( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ) .

( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) أي من منكم هو المجنون(١) .

«مفتون» : اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الابتلاء ، وورد هنا بقصد الابتلاء بالجنون.

نعم ، إنّهم ينسبون هذه النسب القبيحة إليك ليبعدوا الناس عنك ، إلّا أنّ للناس عقلا وإدراكا ، يقيّمون به التعاليم التي يتلقّونها منك ، ثمّ يؤمنون بها ويتعلّمونها تدريجيّا ، وعندئذ تتّضح الحقائق أمامهم ، وهي أنّ هذه التعاليم العظيمة مصدرها البارئعزوجل ، أنزلها على قلبك الطاهر بالإضافة إلى ما منحك من نصيب عظيم في العقل والعلم.

كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لانتشار الإسلام ، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين ، وأنّ هؤلاء الأقزام

__________________

(١) (الباء) في (بأيّكم) زائدة و (أيّكم) مفعول للفعلين السابقين.

٥١٩

الخفافيش هم المجانين ، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحقّ الإلهي والرسالة المحمّدية.

ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة ، ويخسر هنالك المبطلون ، حيث تتبيّن الأمور وتظهر الحقيقة.

وللتأكيد على المفهوم المتقدّم يقول سبحانه مرّة اخرى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

وبلحاظ معرفة البارئعزوجل بسبيل الحقّ وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو انحرف عنه ، فإنّه يطمئن رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد ، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.

وجاء في حديث مسند أنّ قريشا حينما رأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدم الإمام عليعليه‌السلام على الآخرين ويجلّه ويعظّمه ، غمزه هؤلاء وقدحوا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : (لقد فتن محمّد به) هنا أنزل الله تعالى قرآنا وذلك قوله :( ن وَالْقَلَمِ ) وأقسم بذلك ، وإنّك يا محمّد غير مفتون ومجنون حتّى قوله تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل ، وهي إشارة إلى قريش التي كانت تطلق هذه الاتّهامات ، كما أنّه تعالى أعرف بمن اهتدى ، وهي إشارة إلى الإمام عليعليه‌السلام (١) .

* * *

بحثان

١ ـ دور القلم في حياة الإنسان

إنّ من أهمّ معالم التطور في الحياة البشرية ـ كما أشرنا سابقا ـ هو ظهور

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٤ ، (نقل الطبرسي هذا الحديث بسنده عن أهل السنّة).

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572