الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287682 / تحميل: 5228
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

قوله: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا ربّ أرني الخ، بيان للشبهة الّتي دعته إلى السؤال وهى تفرّق أجزاء الجسد بعد الموت تفرّقاً يؤدّي إلى تغيّرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوّعة لا يبقى معها من الأصل شئ.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أنّ الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثمّ فرّعت على ذلك تعجّب إبراهيم وسؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرّق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتّى تتميّز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدّي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامّين معاً لأنّ المفروض أنّ بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكلّ واحد منهما اُعيد تامّاً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.

وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعيّة البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلّا أنّ الّذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمّن مادّة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنّما تشتمل على تفرّق الأجزاء واختلاطها وتغيّر صورها وحالاتها، وهذه مادّة الشبهة الاُولى، فالآية إنّما تتعرّض لدفعها وإن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قولهعليه‌السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات أنّ الطيور كانت هي النسر والبطّ والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضاعليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها أنّها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العيّاشيّ عن صالح بن سهل عن الصادقعليه‌السلام وفي بعضها: أنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك، رواه العيّاشيّ عن معروف بن خرّبوذ

٤٠١

عن الباقرعليه‌السلام ونقل عن ابن عبّاس، وروي من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والّذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.

قولهعليه‌السلام : وفرّقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة ممّا اتّفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت وقيل إنّها كانت أربعة وقيل سبعة.

وفي العيون مسنداً عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال الرضا: إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة، الحديث.

اقول: وقد تقدّم في أخبار جنّة آدم كلام في عليّ بن محمّد بن الجهم وفي هذه الرواية الّتي رواها عن الرضاعليه‌السلام فارجع.

واعلم: أنّ الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أنّ مقام الخلّة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإنّ الخلّة هي الحاجة، والخليل إنّما يسمّى خليلاً لأنّ الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.

٤٠٢

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٦٢ ) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( ٢٦٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٢٦٤ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٥ ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢٦٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ٢٦٧ ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٨ ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو

٤٠٣

الْأَلْبَابِ ( ٢٦٩ ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٢٧٠ ) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٧١ ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٢ ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢٧٣ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٤ )

( بيان)

سياق الآيات من حيث اتّحادها في بيان أمر الإنفاق، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنّها نزلت دفعة واحدة، وهي تحثّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أوّلاً مثلاً لزيادته ونموّه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربّما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلّف عن شأنه على أيّ حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله، وأنّه لا ينمو نمائاً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإنفاق بالمنّ والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثمّ تأمر بأن يكون الإنفاق من طيّب المال لامن خبيثه بخلاً وشحّاً، ثمّ تعيّن المورد الّذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثمّ تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

٤٠٤

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبيّن أوّلاً وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيّته وهو أن لا يتعقّبه المنّ والأذى، وثالثاً وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيّباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيراً اُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.

( كلام في الإنفاق)

الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنّما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة الّتي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد ماليّ من غيرهم، ليقرب اُفقهم من اًفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كلّه ايجاد حياة نوعيّة متوسّطة متقرّبة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.

ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعيّة المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلّا بالجهات

٤٠٥

الماليّة والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فإنّما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبويّة على سائرها أفضل التحيّة صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياتهعليه‌السلام ونفوذ أمره.

وهي الّتي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ فيه إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويت عدّته وعمّت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلّا فقيراً يكايد فقراً؟ أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً أو متمرّداً كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن في نظريّته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اُولي القوّة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلّا الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزر قليل من الناس وسلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقيّة من الطرفين، كلّ يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغنيّ والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنسانيّ، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الّذي

٤٠٦

سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ويذكر أنّ في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيّام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى ان قال -فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم - ٣٠ - ٤٣، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترآئى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ، المراد بسبيل الله كلّ أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض دينيّ فعل الفعل لأجله، فإنّ الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإنّ ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أنّ قوله تعالى: كمثل حبّة أنبتت الخ، على تقدير قولنا كمثل من

٤٠٧

زرع حبّة أنبتت الخ فإنّ الحبّة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الّذي اُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكنّ التدبّر يعطي خلاف ذلك فإنّ جلّ الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١، فإنّه مثل من يدعو الكفّار لامثل الكفّار، وقوله تعالى:( نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس - ٢٤، وقوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) النور - ٣٥، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنّها اقتصر فيها على مادّة التمثيل الّذي يتقوّم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أنّ المثل في الحقيقة قصّة محقّقة أو مفروضة مشابهة لاُخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصوّرها إلى كمال تصوّر الممثّل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيّعت اللبن من الأمثال الّتي لها قصص محقّقة يقصد بالتمثيل تذكّر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إنّ الأمثال لا تتغيّر، وكقولنا: مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مأة حبّة، وهي قصّة مفروضة خياليّة.

والمعنى الّذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الّذي يوزن به حال الممثّل ربّما كان تمام القصّة الّتي هي المثل كما في قوله تعالى:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية إبراهيم - ٢٦، وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، وربّما كان بعض القصّة ممّا يتقوّم به غرض التمثيل وهو الّذي نسمّيه مادّة التمثيل، وإنّما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصّة كما في المثال الأخير (مثال الإنفاق والحبّة) فإنّ مادّة التمثيل إنّما هي

٤٠٨

الحبة المنبتة لسبعمأة حبّة وإنّما ضممنا إليها الّذي زرع لتتميم القصّة.

وما كان من أمثال القرآن مادّة التمثيل فيه تمام المثل فإنّه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادّة التمثيل فيه بعض القصّة فإنّه اقتصر على مادّة التمثيل فوضعت موضع تمام القصّة لأنّ الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً و وجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادّته الستر سمّي به لأنّه يستر الحبّات الّتي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن أسخف الإشكال ما اُورد على الآية أنّه تمثيل بما لا تحقّق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبّة، وفيه أنّ المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقّق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيّليّة أكثر من أن تعدّ وتحصى، على أنّ اشتمال السنبلة على مأة حبّة وإنبات الحبّة الواحدة سبعمأة حبّة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدّد لفضله كما قال تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، فأطلق الكثرة ولم يقيّدها بعدد معيّن.

وقيل: إنّ معناه أنّ الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدلّ عليه الآية، وفيه أنّ الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحقّ الكلام فيه حينئذ أن يصدّر بإنّ كقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن - ٦١، وأمثال ذلك.

ولم يقيّد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائاً أنّ المال قد فات عنه ولم يخلّف بدلاً، لكنّه لو تأمّل قليلاً وجد أنّ المجتمع الإنسانيّ

٤٠٩

بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنّها جميعاً متّحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحّة والاستقامة، وعىّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكنّ الخلقة إنّما جهّز الإنسان بالبصر ليميّز به الأشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامّة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أوّلاً كدّاً وتعباً لا يتحمّل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأمّا لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادّخره لبعض الأعضاء الاُخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقيّة أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربّما زاد على المآت والاُلوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل الّتي يمكّنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبّة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيّما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعيّة كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلّف، فإنّ الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلّا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغنيّ للفقير لدفع شرّه، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربّما أورث في نفس الفقير أثراً سيّئاً، وربّما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكنّ الإنفاق الّذي لايراد به إلّا وجه الله ولا يبتغي فيه إلّا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثّر إلّا الجميل ولا يتعقّبه إلّا الخير.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) الخ الإتباع اللحوق والإلحاق، قال تعالى:( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء - ٦١،

٤١٠

أي لحقوهم، وقال تعالى:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص - ٤٢، أي ألحقناهم. والمنّ هو ذكر ما ينغّص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى:( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصّلت - ٨، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقّع الضرر، والحزن الغمّ الّذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثمّ المقابلة يشهد بأنّ المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند ردّ السائل إذا لم يتكلّم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفّع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإنّ أذى المنفق للمنفق عليه يدلّ على عظم إنفاقه والمال الّذي أنفقه في عينه، وتأثّره عمّا يسوئه من السؤال، وهما علّتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإنّ المؤمن متخلّق بأخلاق الله، والله سبحانه غنيّ لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجّل في المؤاخذة على السيّئة، ولا يغضب عند كلّ جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غنيّ حليم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم ) الخ تدلّ الآية على حبط الصدقة بلحوق المنّ والأذى، وربّما يستدلّ بها على حبط كلّ معصية أو الكبيرة خاصّة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المنّ والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، لمّا كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنّه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلّق النهي بالرئاء كما علّقه على المنّ والأذى، بل إنّما شبّه المتصدّق الّذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أنّ عمل المرائي

٤١١

باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أوّلاً صحيحاً ثمّ عرضه البطلان.

واتّحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدلّ على أنّ المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الّذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحبّ واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.

ويظهر من الآية: أنّ الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الّذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الّذي ينفق رئائاً لأنّه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبّه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عامّ وهو أنّ المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.

وخلاصة معنى المثل: أنّ حال المرائي في إنفاقه رئائاً وفي ترتّب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الّذي عليه شئ من التراب إذا اُنزل عليه وابل المطر، فإنّ المطر وخاصّة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزيّنها بزينة النبات، إلّا أنّ التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقرّ في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الّذي لا يجذب الماء، ولا يتربّى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

وهذا حال المرائي فإنّه لمّا لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتّب على عمله ثواب

٤١٢

وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتّب الثواب، فإنّه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.

وقد ظهر من الآية: أنّ قبول العمل يحتاج إلى نيّة الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: إنّما الأعمال بالنيّات.

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإنّ وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الّذي أمره بشئ وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإنّ الآمر يستقبل المأمور أوّلاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلّف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عزّوجلّ.

وأمّا قوله: وتثبيتاً من أنفسهم فقد قيل: إنّ المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبّت أي يتثبّتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبّت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلّا بتكلّف.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أنّ الله سبحانه لمّا أطلق القول أوّلاً في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأنّ له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتّب عليهما الثواب، وهما الإنفاق ريائاً الموجب لعدم صحّة العمل من رأس والإنفاق الّذي يتبعه منّ أو أذى فإنّه يبطل بهما وإن انعقد أوّلاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين إلّا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النيّة أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أوّلاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصّة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المنّ والأذى، وهم الّذين ينفقون أموالهم

٤١٣

ابتغاء وجه الله ثمّ يقرّون أنفسهم على الثبات على هذه النيّة الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه ممّا يجعل النيّة غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النيّة الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز وكلمة من نشويّة وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدّر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادّته.

قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية، الأصل في مادّة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيّدة الّتي تزيد وتعلو في نموّها، والاُكّل بضمّتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطلّ أضعف المطر القليل الأثر.

والغرض من المثل أنّ الإنفاق الّذي اُريد به وجه الله لا يتخلّف عن أثرها الحسن البتّة، فإنّ العناية الإلهيّة واقعة عليه متعلّقة به لانحفاظ اتّصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النيّة في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أنّ الجنّة الّتي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي اُكلها إيتائاً جيّداً البتّة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطلّ.

ولوجود هذا الاختلاف ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ، الودّ هو الحبّ وفيه معنى التمنّي، والجنّة: الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك لأنّها تجنّ الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصحّ ذلك

٤١٤

لإفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون - ٥٠، وكرّر في كلامه قوله: جنّات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجارياً تحتها.

ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإنّ الجنّة والبستان وما هو من هذا القبيل إنّما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنّة العنب أو جنّة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتّى، ولذلك قال تعالى ثانياً: له فيها من كلّ الثمرات.

والكبر كبر السنّ وهو الشيخوخة، والذرّيّة الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرّيّة الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعيّة إلى الجنّة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب الّتي يتوصّل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإنّ صاحب الجنّة لو فرض شابّاً قويّاً لأمكنه أن يستريح إلى قوّة يمينه لو اُصيبت جنّته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرّيّة ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لأنّه لا يرى لنفسه إلّا أيّاماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرّيّة الضعفاء، واحترقت الجنّة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنّة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوّة أو الأيّام الخالية حتّى يهيّئ لنفسه نظير ما كان قد هيّأها، ولا لذرّيّته قوّة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنّة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والإثمار.

والإعصار الغبار الّذي يلتفّ على نفسه بين السماء والأرض كما يلتفّ الثوب على نفسه عند العصر.

وهذا مثل ضربه الله للّذين ينفقون أموالهم ثمّ يتبعونه منّاً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحّته واستقامته، وانطباق المثل على الممثّل ظاهر، ورجا منهم التفكّر لأنّ أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنّما تصدر

٤١٥

من الناس ومعهم حالات نفسانيّة كحبّ المال والجاه والكبر والعجب والشحّ، لا تدع للإنسان مجال التثبّت والتفكّر وتميّز النافع من الضارّ، ولو تفكّروا لتبصّروا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ، التيمّم هو القصد والتعمّد، والخبيث ضدّ الطيّب، وقوله: منه، متعلّق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمّموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدّر على ما قيل والتقدير إلّا لإغماضكم فيه، أو المقدّر باء المصاحبة والتقدير إلّا بمصاحبة الإغماض.

ومعنى الآية ظاهر، وإنّما بيّن تعالى كيفيّة مال الإنفاق، وأنّه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الّذي لا يأخذه المنفق إلّا بإغماض، فإنّه لا يتّصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصوّر بصورة التخلّص، فلا يفيد حبّاً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا أنّ الله غنيّ حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيّب المال، أو أنّه غنيّ محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جلّ جلاله.

قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) إقامة للحجّة على أنّ اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيّبه فإنّه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما أنّ في المنهىّ عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيّب المال وبذله إلّا لما يرونه مؤثّراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنّه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أنّ البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مرّ، مع أنّ الّذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) النجم - ٤٨.

وبالجملة لمّا كان إمساكهم عن بذل طيّب المال خوفاً من الفقر خطاء نبّه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنّه وضع السبب موضع المسبّب، أعني أنّه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدلّ على أنّه خوف مضرّ لهم فإنّ الشيطان لا

٤١٦

يأمر إلّا بالباطل والضلال إمّا ابتدائاً ومن غير واسطة، وإمّا بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنّه حقّ.

ولمّا كان من الممكن أن يتوهّم أنّ هذا الخوف حقّ وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاءأوّلا ، فإنّ هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيّئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجيّة البخل، فيؤدّي إلى ردّ أوامر الله المتعلّقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدّي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة الّتي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكلّ جناية وفحشاء، قال تعالى:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - إلى ان قال -الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة - ٧٩.

ثمّ بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليمثانياً ، فإنّ الله قد بيّن للمؤمنين: أنّ هناك حقّاً وضلالاً لا ثالث لهما، وأنّ الحقّ وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وأنّ الضلال من الشيطان، قال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وقال تعالى:( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس - ٣٥، وقال تعالى في الشيطان:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص - ١٥، والآيات جميعاً مكّيّة، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأنّ هذا الخاطر الّذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإنّ مغفرة الله والزيادة الّتي ذكرها في الآيات السابقة إنّما هما في البذل من طيّبات المال.

فقوله تعالى: والله يعدكم الخ، نظير قوله: الشيطان يعدكم الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجّة الآية: أنّ اختياركم الخبيث على الطيّب إنّما هو لخوف الفقر،

٤١٧

والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أمّا خوف الفقر فهو إلقاء، شيطانيّ، ولا يريد الشيطان بكم إلّا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتّبعوه، وأمّا مايستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللّتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحقّ لأنّ الّذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حقّ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شئ فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ، الإيتاء هو الإعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الّذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة الّتي لا تقبل البطلان والكذب البتّة.

والجملة تدلّ على أنّ البيان الّذي بيّن الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف الّتي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة الّتي هي أساس التشريعات الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، المعنى ظاهر، وقد اُبهم فاعل الإيتاء مع أنّ الجملة السابقة عليه تدلّ على أنّه الله تبارك وتعالى ليدلّ الكلام على أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبّس بها يتضمّن الخير الكثير، لامن جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإنّ مجرّد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ِ ) إلى آخرالآيات القصص - ٧٦، وإنّما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأنّ الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعيّ بالعاقبة والخاتمة.

قوله تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، اللبّ هو العقل لأنّه في الإنسان

٤١٨

بمنزلة اللبّ من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأنّ لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنّما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

والتذكّر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدّماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدلّ على أنّ اقتناص الحكمة يتوقّف على التذكّر، وأنّ التذكّر يتوقّف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكّده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار.

وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالةأوّلا: على أنّ المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، وحبس حقوقهم الماليّة، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإنّ في مطلق المعصية أنصاراً ومكفّرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى:( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - إلى ان قال -وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨.

ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإنّ في مورد مطلق الظلم أنصاراً.

وثانياً: أنّ هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنّه لا يقبل التوبة، ويتأيّد بذلك ما وردت به الروايات: أنّ التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلّا بردّ الحقّ إلى مستحقّه، وأنّه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ

٤١٩

الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - إلى أن قال -فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثّر - ٤٨.

وثالثاً: أنّ هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلّا لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.

ورابعاً: أنّ المتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عدّ تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصّلت - ٧، والسورة مكّيّة ولم تكن شرّعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) الخ، الإبداء هو الإظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب وربّما يقال: إنّ الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

وقد مدح الله سبحانه كلّاً من شقّى الترديد، لكون كلّ واحد من الشقّين ذا آثار صالحة، فأمّا إظهار الصدقة فإنّ فيه دعوة عمليّة إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أنّ في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدّخرة ليوم بؤسهم فيؤدّي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كلّ الخير، وأمّا إخفاؤها فإنّه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمنّ والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلّة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السرّ أخلص طهارة.

ولمّا كان بناء الدين على الإخلاص وكان العمل كلّما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجّح سبحانه جانب صدقة السرّ فقال: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإنّ كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ

٤٢٠

يكون ضيفي ولا اعلم به وأنت تعلم بذلك؟!

ثالثا : حتّى أنتم في الواقع لا تؤمنون بذلك في قرارة أنفسكم ، بل( أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ ) .

ولهذا السبب نرى المشركين عند ما تضيق بهم المشاكل الحياتية يلوذون بالله ، لانّهم يعلمون في قلوبهم انّ الأصنام لا يمكن ان تعمل لهم شيئا ، كما بيّن القرآن الكريم حالهم في الآية (٦٥) من سورة العنكبوت حيث يقول تعالى :( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) .

رابعا : انّ المشركين ليس لهم ادراك صحيح ، وبما انّهم تابعين لاهوائهم وتقليدهم الأعمى ، فإنّهم غير قادرين على ان يقضوا بالحقّ وبشكل صحيح ، ولهذا السبب ضلّوا الطريق ، يقول تعالى :( بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) .

وقد قلنا مرارا : انّ هذا الضلال ليس جبرا ، ولا هو اعتباطا وبدون حساب ، بل الإضلال الالهي انعكاس لما يقوم به الإنسان من الأعمال السيّئة التي تجرّه الى الضياع ، وبما انّ هذه الخاصيّة قد جعلها الله سبحانه وتعالى لمثل هذه الأعمال فلذلك نسب هذا العمل اليه.

ويشير القرآن الكريم في الآية الاخيرة من هذه المجموعة الى العقاب الأليم الذي يشملهم في الدنيا والآخرة ، الشقاء والهزيمة والحرمان وغيرها ، حيث تقول :( لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ ) لانّها دائمة ومستمرة ، جسدية وروحية ، وفيها انواع الآلام.

وإذا اعتقدوا بأنّ لهم طريقا للفرار او سبيلا للدفاع في مقابل ذلك ، فإنّهم في اشتباه كبير ، لان( وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ ) .

* * *

٤٢١

الآية

( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) )

التّفسير

بالنظر الى تناوب آيات هذه السورة في بيان التوحيد والمعاد وسائر المعارف الاسلامية الاخرى ، تحدّثت هذه الآية مرّة اخرى حول المعاد وخصوصا نعم الجنّة وعذاب الجحيم. يقول تعالى اوّلا :( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) (١) .

قد يكون التعبير بـ «مثل» اشارة الى هذه النكتة ، وهي انّ الجنّة وسائر النعم الاخروية غير قابلة للوصف بالنسبة الى الساكنين في هذا العالم المحدود الذي هو في مقابل عالم بعد الموت يعتبر صغيرا جدّا ، ولذلك نستطيع ان نضرب لهم مثلا او صورة عن ذلك ، كما انّ الجنين في بطن امّه لو كان يعقل لا يمكن ان نصوّر له كلّ نعم الدنيا ، الّا من خلال أمثال ناقصة وشاحبة!

__________________

(١) هناك نقاش بين المفسّرين حول تركيب هذه الجملة فقال البعض : انّ «مثل» مبتدا و «تجري» خبرها ، وقال بعض آخر : انّ «مثل» مبتدا وخبره محذوف تقديره «فيما نقص عليكم مثل الجنّة».

٤٢٢

الوصف الثّاني للجنّة هو( أُكُلُها دائِمٌ ) .

فهي ليست كفاكهة الدنيا فصلية وتظهر في وقت معيّن من السنة ، بل في بعض الأحيان وبسبب الآفات الزراعية تنقطع تماما ، لكن ثمار الجنّة ليست فصلية ولا موسمية وغير مصابة بآفة ، بل كإيمان المؤمنين المخلصين دائمة وثابتة.

وكذلك( وَظِلُّها ) ليس كظلّ أشجار الدنيا التي يظهر ظلّها إذا كانت الشمس افقية ويزول او يقل إذا صارت عمودية ، او يظهر في الربيع والصيف عند ما تكون الأشجار مورقة ، ويزول في الخريف والشتاء عند تساقط الأوراق ، (بالطبع هناك أشجار قليلة تعطي ثمارا وازهارا على مدار السنة ، وهذه تكون في المناطق المعتدلة التي ليس فيها شتاء).

الخلاصة : ظلال الجنّة كبقيّة النعم الاخرى خالدة ، ودائمة ، ومن هذا يتّضح ان ليس في الجنّة فصل لتساقط الأوراق ، ونعلم من ذلك ـ ايضا ـ انّ شعاع الشمس موجود في الجنّة ، والّا كان التعبير بالظل هناك بدون شعاع الشمس ليس له اي مفهوم ، وامّا ما جاء في الآية (١٣) من سورة الدهر( لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ) قد تكون اشارة الى اعتدال الهواء ، فلا الشمس محرقة ولا البرد قارس ، وهذا لا يعني ان لا تكون هناك شمس أصلا.

انّ انطفاء الشمس ليس دليلا على زوالها ابدا ، لانّ القرآن الكريم يقول :( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ) (١) تكون أوسع وبهيئة جديدة.

وإذا قيل : ان كانت شمس الجنّة غير محرقة ، فعلام الظلّ؟

نقول في جوابهم : انّ الظلّ ليس مانعا لحرارة الشمس فقط ، بل انّ الرطوبة المعتدلة الصادرة من الأوراق باتّحادها مع الاوكسجين تعطي نشاطا ولطافة خاصّة للظلّ ، ولذلك كان ظلّ الأشجار مختلفا عن ظلّ السقوف الجافّة.

__________________

(١) ابراهيم ، ٤٨.

٤٢٣

وبعد بيان هذه الصفات الثلاث قال تعالى في آخر الآية :( تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ ) .

لقد بيّن وفصّل في هذه العبارة نعم الجنّة ، ولكن بالنسبة الى اصحاب النّار ذكر جملة قصيرة وبعنف حيث ذكر انّ عاقبة أمرهم الى النار!

* * *

٤٢٤

الآية

( وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) )

التّفسير

المؤمنون والأحزاب!

اشارت هذه الآية الى ردّ الفعل المتفاوت للناس في مقابل نزول الآيات القرآنية ، فالأفراد الذين يبحثون عن الحقيقة يفرحون بما انزل على الرّسول ، بينما المعاندون يخالفون ذلك.

يقول تعالى اوّلا :( وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) .

انّ الوصف ب( آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ) اشارة الى اليهود والنصارى وأمثالهم ممّن لهم كتاب سماوي وقد ذكرهم القرآن في مواطن كثيرة ، فكان الأشخاص الطالبون للحقّ من اليهود والنصارى وأمثالهم يفرحون عند نزول الآيات على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لانّهم كانوا من جهة يرونها مطابقة لما في أيديهم من العلامات ، ومن جهة اخرى كان سببا لحريتهم ونجاتهم من شرّ الخرافات ومن علماء اليهود

٤٢٥

والمسيحيّة الذين كانوا يستعبدونهم ، وكانوا محرومين من حرية الفكر والتكامل الانساني.

وامّا ما قاله بعض المفسّرين الكبار من انّ المقصود من( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ) هم اصحاب النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعيد جدّا ، لانّ هذا الوصف ليس معهودا بالنسبة للمسلمين ، بالاضافة الى ذلك فإنّها غير موافقة مع جملة( بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (١) .

وبما انّ سورة الرّعد مكية فهي غير منافية لما قلناه آنفا ، مع انّ المركز الاصلي لليهود في الجزيرة العربية كان المدينة وخيبر ، والمركز الاصلي للمسيحيين هو نجران وأمثالها ، ولكنّهم كانوا يتردّدون على مكّة ويعكسون افكارهم ومعتقداتهم فيها ، ولهذا السبب كان اهل مكّة يعرفون علامات آخر نبي مرسل وكانوا ينتظرونه (قصّة ورقة بن نوفل وأمثالها معروفة).

وهناك شواهد لهذا الموضوع في آيات اخرى من القرآن الكريم والتي كان يفرح المؤمنين من اهل الكتاب عند نزول الآيات على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمثلا الآية (٥٢) من سورة القصص تقول :( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) .

ثمّ تضيف الآية( وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ) المقصود من هذه المجموعة هي نفس جماعة اليهود والنصارى الذين غلبهم التعصّب الطائفي وأمثاله ، ولذلك لم يعبّر القرآن الكريم عنهم بأهل الكتاب ، لانّهم لم يتّبعوا كتبهم السّماوية. بل كانوا في الحقيقة أحزابا وكتلا تابعين لخطّهم الحزبي ، وهذه المجموعة كانت تنكر كلّ ما خالف ميلهم ولم يطابق أهواءهم.

ويحتمل ايضا انّ كلمة «الأحزاب» اشارة الى المشركين ، لانّ سورة

__________________

(١) لانّه يلازم هذا الحديث ان يكون ما انزل إليك هو نفس «الكتاب» فالاثنان يشيران الى القرآن ، في الوقت الذي نرى فيه من قرينة المقابلة انّ المقصود من «الكتاب» غير ما انزل إليك.

٤٢٦

الأحزاب ذكرتهم بهذا التعبير ، وهؤلاء في الحقيقة ليس لهم دين ولا مذهب بل كانوا على شكل احزاب وكتل متفرّقة اتّحدوا في مخالفتهم للقرآن والإسلام.

ونقل العلّامة الطبرسي وبعض آخر من المفسّرين الكبار عن ابن عبّاس ، انّ هذه الآية اشارة الى المشركين الذين كانوا يخالفون وصف الله بالرحمن ، واهل الكتاب ـ خصوصا اليهود ـ يفرحون بهذا الوصف «الرحمان» في الآيات القرآنية ، ومشركي مكّة كانوا يسخرون منه بسبب عدم معرفتهم به.

وفي آخر الآية يأمر الله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لا يعتني بهذا وذلك من المخالفين ، بل يدعوه الى الثبات على الخطّ الأصيل والصراط المستقيم حيث يقول تعالى :( قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ ) وتلك دعوة للموحّدين الصادقين والمؤمنين الرّساليين ان يسلّموا امام الأوامر الالهيّة ، فالرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان خاضعا لكلّ ما انزل عليه ، فلا يأخذ ما كان يوافق ميله ويترك غيره.

* * *

بحث

الايمان والائتلاف الحزبي :

رأينا في الآية كيف انّ الله سبحانه وتعالى عبّر عن المؤمنين من اليهود والنصارى بأهل الكتاب ، وعبّر عن أولئك التابعين للعصبية والأهواء بالأحزاب ، وهذا غير منحصر في تاريخ صدر الإسلام ، بل انّ هذا التفاوت موجود دائما بين المؤمنين الحقيقيين والذين يدّعون الايمان ، فالمؤمنون الحقيقيون يقولون بالتسليم المطلق لكلّ الأوامر الالهية ، ولا يقولون بالتبعيض ، ويجعلون ميلهم تحت ذاك الشعاع ، فهم اهل لان يسمّيهم القرآن اهل الكتاب والايمان.

بينما أولئك فهم مصداق الآية( نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) ومعناه كلّ ما

٤٢٧

طابق خطّهم الفكري وميلهم الشخصي وأهواءهم يقبلونه ، وكلّ ما خالف منافعهم الشخصيّة ينكرونه ، فهؤلاء ليسوا بمسلمين ولا مؤمنين ، بل احزاب وكتل يبحثون عن مصالحهم في الدين ، ولذلك كانوا يقولون بالتبعيض في التعاليم الاسلامية.

* * *

٤٢٨

الآيات

( وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) )

التّفسير

الحوادث «الثّابتة» و «المتغيّرة» :

تتابع هذه الآيات المسائل المتعلّقة بالنبوّة ، ففي الآية الاولى يقول تعالى :( وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا ) .

«العربي» كما يقول الرّاغب في مفرداته «الفصيح البيّن من الكلام» ولذلك يقال للمراة العفيفة والشريفة : انّها «امراة عروبة» ثمّ تضيف الآية( حُكْماً عَرَبِيًّا )

٤٢٩

قيل معناه مفصحا يحقّ الحقّ ويبطل الباطل.

ويحتمل في «العربي» انّ معناه «الشريف» لانّها جاءت في اللغة بهذا المعنى. وعلى هذا فوصف القرآن بالعربي لانّ احكامه واضحة وبيّنة. ولذلك وردت في عدّة آيات اخرى بعد «عربيا» مسألة الاستقامة وعدم الاعوجاج او العلم ، منها في الآية (٢٨) من سورة الزمر قوله تعالى( قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) وفي الآية (٣) من سورة فصلت يقول تعالى :( كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) . وعلى هذا فما قبل هذه الآية وما بعدها يؤيّدان انّ المراد من «عربيا» هو الفصاحة والوضوح في البيان وخلوّه من الاعوجاج والالتواء.

وهذه العبارة وردت في سبع سور من القرآن الكريم ، ولكن ذكرت في عدّة موارد بشكل( لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) والتي يمكن ان يكون لها نفس المعنى. ويمكن ان يكون هذا الموضع الخاص اشارة الى اللسان العربي ، لانّ الله سبحانه وتعالى بعث كلّ نبي بلسان قومه ، حتّى يهدي قومه اوّلا ، ثمّ تنتشر دعوته في المناطق الاخرى.

ثمّ يخاطب القرآن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحن التهديد وبشكل قاطع حيث يقول :( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ ) وبما انّ احتمال الانحراف غير موجود إطلاقا في شخصيّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما يتميّز به من مقام العصمة والمعرفة ، فهذا التعبير ـ اوّلا ـ يوضّح انّ الله سبحانه وتعالى ليس له ارتباط خاص مع اي احد حتّى لو كان نبيّا ، فمقام الأنبياء الشامخ انّما هو بسبب عبوديتهم وتسليمهم واستقامتهم.

وثانيا : تأكيد وإنذار للآخرين ، لانّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا لم يكن مصونا من العقوبات الالهيّة في حالة انحرافه عن مسيرة الحقّ واتّجاهه صوب الباطل ، فما بال الآخرين؟

ولا بدّ من ذكر هذه النقطة ، وهي انّ «ولي» و «واق» مع انّهما متشابهان في

٤٣٠

المعنى ، ولكن هناك تفاوت بينهما وهو انّ أحدهما يبيّن جانب الإثبات والآخر جانب النفي ، فواحد بمعنى النصرة والدعم ، والآخر بمعنى الدفاع والحفظ.

الآية الاخرى ـ في الواقع ـ جواب لما كان يستشكله اعداء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ومن جملة هذه الإشكالات :

اوّلا : كان البعض يقول : هل من الممكن ان يكون الرّسول من جنس البشر ، يتزوّج وتكون له ذرّية؟ فالآية تجيبهم وتقول ليس هذا بالأمر الغريب :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً ) (١) .

ويتبيّن من اشكالهم انّهم امّا ان يكونوا غير عالمين بتاريخ الأنبياء ، او انّهم يتجاهلون ذلك والّا لم يوردوا هذا الاشكال.

ثانيا : كان ينتظر هؤلاء من الرّسول ان يجيبهم على كلّ معجزة يقترحونها عليه بما تقتضيه اهواؤهم ، سواء آمنوا او لم يؤمنوا ، ولكن يجب ان يعلم هؤلاء انّ( وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ثالثا : لماذا جاء نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيّر احكام التوراة والإنجيل ، ا وليست هذه كتب سماوية؟ وهل من الممكن ان ينقض الله أوامره؟ (هذا الاشكال كان يطابق ما يقوله اليهود من عدم نسخ الأحكام).

وتجيب الجملة الاخيرة من الآية فتقول :( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ) كيما تبلغ البشرية المرحلة النهائية من الرّشد والتكامل فليس من العجيب ان ينزّل يوما التوراة ، ويوما آخر الإنجيل ، ثمّ القرآن ، لانّ البشرية في تحوّلها وتكاملها بحاجة الى البرامج المتغيّرة والمتفاوتة.

ويحتمل انّ جملة( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ) جواب لمن كان يقول : إذا كان الرّسول صادقا ، لماذا لا ينزل الله عذابه وسخطه على المخالفين والمعاندين؟ فيجيبهم

__________________

(١) يقول بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية : انّها جواب لما كان يورده البعض من تعدّد ازواج الرّسول ، في الوقت الذي نرى انّ سورة الرّعد مكّية وتعدّد الزوجات لم يكن حينذاك.

٤٣١

القرآن بأنّ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ) وليس بدون حساب وكتاب ، وسوف يصل الوقت المعلوم للعقاب(١) .

الآية الاخرى بمنزلة التأكيد والاستدلال لما ورد في ذيل الآية السابقة ، وهو انّ لكلّ حدث وحكم زمن معيّن كما يقال : انّ الأمور مرهونة بأوقاتها ، وإذا رأيت انّ بعض الكتب السّماوية تأخذ مكان البعض الآخر وذلك بسبب( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) فيحذف بعض الأمور بمقتضى حكمته وارادته ويثبت أمورا اخرى ، ولكن الكتاب الأصل عنده.

وفي النّهاية وللتأكيد اكثر بالنسبة للعقوبات التي كان يوعدهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها وكانوا ينتظرونها حتّى انّهم يقولون : لماذا لا تصبح هذه الوعود عملية؟ يقول تعالى( وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ) (من انتصارك عليهم وهزيمتهم وتحرير اتباعك وأسر اتباعهم في حياتك)( أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ ) .

* * *

نقطتان

يجب الانتباه الى هاتين النقطتين :

١ ـ لوح المحو والإثبات وامّ الكتاب

مع انّ جملة( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ) نزلت في مجال المعاجز والكتب السّماوية الى الأنبياء ، لكنّها تبيّن قانونا عامّا وشاملا وقد أشير اليه في مختلف المصادر الاسلامية ، وهو انّ تحقّق وصيرورة الحوادث المختلفة للعالم لها مرحلتين : الاولى المرحلة القطعيّة او الثابتة ، ولا سبيل للتغيير فيها (والتي

__________________

(١) ولتطابق هذا المعنى يجب ان يكون هناك تقديم وتأخير في الجملة أعلاه ، ويقال في تقديره لكل كتاب اجل كما قاله بعض المفسّرين.

٤٣٢

اشارت إليها الآية أعلاه بأمّ الكتاب) والاخرى المرحلة المتغيّرة او بعبارة اخرى «المشروطة» والتي يجد التغيير سبيلا إليها ، وقد عبّر عنها بالمحو والإثبات.

وأحيانا يقال عن المرحلتين : «اللوح المحفوظ» و «لوح المحو والإثبات» كأنّ ما كتب في اللوح الاوّل محفوظ لا يتغيّر ، امّا الثّاني فمن الممكن محو ما كتب فيه وتغييره.

وامّا حقيقة الأمر فإنّنا ـ أحيانا ـ ننظر الى الحوادث بأسباب وعلل ناقصة ، فمثلا إذا أخذنا بنظر الاعتبار السّمّ الذي بمقتضى طبعه يؤدّي الى قتل الإنسان وكلّ من يتناوله سوف يموت ، بدون علم مسبق انّ لهذا السّمّ ترياق آخر ضدّه لو شربناه بعده سوف يبطل مفعول الاوّل (وقد نكون على علم به لكن لا نريد ان نتحدّث لسبب او لآخر عن الترياق) لاحظوا هنا انّ هذه الحادثة (الموت بسبب استعمال السّمّ) ليس لها جانب قطعي ، وببيان آخر انّ مكانها في (لوح المحو والإثبات) ويجد التغيير سبيلا اليه بالنظر الى الأسباب الاخرى المرتبطة به.

ولكن لو نظرنا الى الحادثة من خلال العلّة التامّة لها ، يعني توفّر الشروط اللازمة وازالة الموانع (استعمال السّمّ بدون استعمال الترياق) تكون الحادثة هنا قطعيّة وببيان آخر : انّ مكانها في [اللوح المحفوظ وامّ الكتاب] ولا سبيل للتغيير فيها.

ويمكن ان نوضّح هذا الحديث بشكل آخر ، وهو : انّ للعلم الالهي مرحلتين (علم بالمقتضيات والعلل الناقصّة) و (علم بالعلل التامّة) فما ارتبط بالمرحلة الثانية نعبّر عنها ب (امّ الكتاب واللوح المحفوظ) وما ارتبط بالمرحلة الاولى نعبّر عنها ب (لوح المحو والإثبات) والّا فليس اللوح موضوعا في زاوية من السّماء حتى يكتبوا او يمحوا فيه شيئا ويثبتوا بدله شيئا آخر.

ومن هنا تتضح الاجابة على كثير من الاسئلة في ضوء ما ورد في المصادر الاصليّة في الإسلام ، لانّنا نقرا مرّة في الرّوايات او بعض الآيات القرآنية ، انّ

٤٣٣

العمل الفلاني له الأثر الكذائي ، لكنّنا في بعض الأحيان لا نرى هذه النتيجة ، وذلك بسبب انّ تحقّق تلك النتيجة يعتمد على شرائط او موانع لم تتحقّق.

وهناك روايات كثيرة في باب (اللوح المحفوظ) و (لوح المحو والإثبات) وعلم الأنبياء والائمّةعليهم‌السلام ، وعلى سبيل المثال نذكر قسما منها :

١ ـ اخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليعليه‌السلام انّه سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الآية فقال له : «لاقرنّ عينيك بتفسيرها ولاقرّنّ عين امّتي بعدي بتفسيرها ، الصدقة على وجهها ، وبرّ الوالدين ، واصطناع المعروف ، يحول الشقاء سعادة ويزيد فيالعمر ويقي مصارع السّوء»(١) .

وهذه اشارة الى انّ الشقاء والسّعادة ليست أمورا حتمية ، حتّى إذا ارتكب الإنسان إثما وعدّ من الأشقياء فإنّ باستطاعته ان يغيّر من سلوكه ويتّجه صوب الخير ، وخصوصا مساعدة وخدمة عباد الله ، لانّ هذه الأمور مكانها في (لوح المحو والإثبات) لا (امّ الكتاب).

ويجب الالتفات الى انّ ما جاء في هذا الحديث يبيّن قسما من مفهوم الآية.

٢ ـ عن الفضيل بن يسار قال : سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول : «من الأمور امور محتومة كائنة لا محالة ، ومن الأمور امور موقوفة عند الله يقدّم فيها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء(٢) .

وعن الامام علي بن الحسينعليه‌السلام قال : «لولا آية في كتاب الله لحدّثتكم بما كان وما يكون الى يوم القيامة ، فقلت له : ايّة آية؟ فقال : قال الله( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (٣) .

وهذا الحديث دليل على انّ اللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات بكلّ

__________________

(١) تفسير الميزان ، المجلّد ١١ ، ص ٤١٩.

(٢) المصدر السّابق.

(٣) نور الثقلين ، ج ٢ ، صفحة ٥١٢.

٤٣٤

خصوصياتها مختصّة بالله جلّ وعلا ، وهناك قسم منها يعلم بها الخواص من عباده إذا اقتضت الضرورة.

ونقرا في ادعية ليالي شهر رمضان المبارك : «وان كنت من الأشقياء فاكتبني عندك من السعداء».

وعلى ايّة حال فالمحو والإثبات بهذا الشكل الذي قلناه له معنى جامع يشمل كلّ تغيير في الحال بسبب تغيير الشروط وحدوث الموانع ، وامّا ما قاله بعض المفسّرين من انّ هذه الجملة اشارة الى مسألة محو الذنوب بسبب التوبة ، او زيادة ونقصان الرزق على اثر تغيير الشروط ، ليس صحيحا ، الّا إذا اعتبروها واحدا من مصاديقها.

٢ ـ ما هو البداء؟

«البداء» احد البحوث العويصة بين الشيعة والسنّة.

يقول الرازي في تفسيره الكبير في ذيل الآية ـ محلّ البحث ـ : «يعتقد الشيعة انّ البداء جائز على الله ، وحقيقة البداء عندهم انّ الشخص يعتقد بشيء ثمّ يظهر له خلاف ذلك الاعتقاد ، ولاثبات ذلك يتمسكون بالآية( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) ثمّ يضيف الرازي : انّ هذه العقيدة باطلة ، لانّ علم الله من لوازم ذاته ، ومحال التغيير والتبديل فيه».

وممّا يؤسف له حقّا عدم المعرفة بعقيدة الشيعة في مسألة البداء ادّت الى ان ينسب كثيرون تهما غير صحيحة الى الشيعة الاماميّة.

ولتوضيح ذلك نقول : «البداء» في اللغة بمعنى الظهور والوضوح الكامل ، وله معنى آخر هو الندم ، لانّ الشخص النادم قد ظهرت له ـ حتما ـ امور جديدة.

لا شكّ ، انّ هذا المعنى الأخير بالنسبة الى الله تعالى مستحيل ، ولا يمكن لاي

٤٣٥

عاقل وعارف ان يحتمل انّ هناك أمورا خافية على الله ثمّ تظهر له بمرور الايّام ، فهذا القول هو الكفر بعينه ، ولازمه نسبة الجهل وعدم المعرفة الى ذاته المقدّسة ، وانّ ذاته محلّا للتغيير والحوادث.

وحاشا للشيعة الاماميّة ان يحتملوا ذلك بالنسبة لذات الله المقدّسة! انّ ما يعتقده الشيعة من معنى البداء ويصرّون عليه ، هو طبقا لما جاء في روايات اهل البيتعليهم‌السلام : ما عرف الله حقّ معرفته من لم يعرفه بالبداء.

كثيرا ما يكون ـ وطبقا لظواهر العلل والأسباب ـ ان نشعر انّ حادثة ما سوف تقع او انّ وقوع مثل هذه الحادثة قد اخبر عنه النّبي ، في الوقت الذي نرى انّ هذه الحادثة لم تقع ، فنقول حينها : انّ «البداء» قد حصل ، وهذا يعني انّ الذي كنّا نراه بحسب الظاهر سوف يقع واعتقدنا تحقّقه بشكل قاطع قد ظهر خلافه.

والأصل في هذا المعنى هو ما قلناه في بحثنا السابق ، وهو انّ معرفتنا مرّة تكون فقط بالعلل الناقصة ، ولا نرى الشروط والموانع ونقضي طبقا لذلك ، ولكن بعد ان نواجه فقدان الشرط او وجود المانع ويتحقّق خلاف ما كنّا نتوقّعه سوف ننتبه الى هذه المسائل. وكذلك قد يعلم النّبي او الامام بأمور مكتوبة في لوح المحو والإثبات القابل للتغيير طبعا ، فقد لا تتحقّق أحيانا لمواجهتها بالموانع وفقدان الشروط.

ولكي تتّضح هذه الحقيقة لا بدّ من مقايسة بين «النسخ» و «البداء» : نحن نعلم انّ النسخ جائز عند جميع المسلمين ، يعني من الممكن ان ينزل حكم في الشريعة فيتصوّر الناس انّ هذا الحكم دائمي ، لكي بعد مدّة يعلن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تغيير هذا الحكم وينسخه ، ويحلّ محلّه حكما آخر (كما قرانا في حادثة تغيير القبلة).

انّ هذا في الحقيقة نوع من «البداء» ولكن في القضايا التشريعيّة والقوانين والأحكام يسمّونه بـ «النسخ» وفي الأمور التكوينيّة يسمّى بـ «البداء» ويقال

٤٣٦

أحيانا : (النسخ في الأحكام نوع من البداء ، والبداء في الأمور التكوينيّة نوع من النسخ).

فهل يستطيع احد ان ينكر هذا الأمر المنطقي؟ الّا إذا كان لا يفرّق بين العلّة التامّة والعلل الناقصة ، او كان واقعا تحت تأثير الدعايات المغرضة ضدّ شيعة اهل البيتعليهم‌السلام ، ولا يجيز له تعصّبه الأعمى ان يطالع عقائد الشيعة من نفس كتبهم ، والعجيب انّ الرازي قد ذكر مسألة «البداء» عند الشيعة في ذيل الآية( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) بدون ان يلتفت الى انّ البداء ليس اكثر من المحو والإثبات ، وهجم على الشيعة بعصبيته المعروفة واستنكر عليهم قولهم بالبداء.

اسمحوا لنا هنا ان نذكر امثلة مقبولة عند الجميع :

١ ـ نقرا في قصّة «يونس» انّ عدم طاعة قومه ادّت الى ان ينزل العذاب الالهي عليهم ، وقد تركهم النّبي لعدم هدايتهم واستحقاقهم العذاب ، لكن فجأة وقع البداء حيث راى احد علمائهم آثار العذاب ، فجمعهم ودعاهم الى التوبة ، فقبل الجميع ورفع العذاب( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) (١) .

٢ ـ وجاء في التأريخ الاسلامي انّ السيّد المسيحعليه‌السلام اخبر عن عروس انّها سوف تموت في ليلة زفافها ، لكنّها بقيت سالمة! وعند ما سألوه عن الحادثة قال : هل تصدّقتم في هذا اليوم؟ قالوا : نعم. قال : الصدقة تدفع البلاء المبرم(٢) !.

لقد اخبر السيّد المسيحعليه‌السلام عن هذه الحادثة بسبب ارتباطه بلوح المحو والإثبات ، في الوقت الذي كانت هذه الحادثة مشروطة (مشروطة بأن لا يكون هناك مانع مثل الصدقة) وبما انّها واجهت المانع أصبحت النتيجة شيئا آخر.

٣ ـ ونقرا في قصّة ابراهيمعليه‌السلام ـ محطّم الأصنام ـ في القرآن الكريم انّه امر

__________________

(١) يونس ، ٩٨.

(٢) بحار الأنوار الطبعة القديمة المجلّد الثّاني صفحة ١٣١ ـ عن امالي الصدوق.

٤٣٧

بذبح إسماعيل ، وذهب بابنه الى المذبح وتلّه للجبين ، فعند ما اظهر إسماعيل استعداده للذبح ظهر البداء الالهي وظهر انّ هذا الأمر امتحان لكي يرى الله تعالى مستوى الطاعة والتسليم عند ابراهيمعليه‌السلام .

٤ ـ ونقرا في سيرة موسىعليه‌السلام انّه امر ان يترك قومه اوّلا ثلاثين يوما ويذهب الى مكان الوعد الالهي لاستلام احكام التوراة ، لكن المدّة زادت عليها عشرة ايّام اخرى (وذلك امتحانا لبني إسرائيل).

هنا يأتي هذا السؤال : ما هي الفائدة من هذه البداءات؟

الجواب على هذا السؤال ليس صعبا بالنظر الى ما قلناه سابقا ، لانّه تحدث مسائل مهمّة ـ أحيانا ـ مثل امتحان شخص مع قومه ، او تأثير التوبة والرجوع الى الله (كما في قصّة يونس) او تأثير الصدقة ومساعدة المحتاجين وعمل الخير ، كلّ ذلك يؤدّي الى دفع الحوادث المفجعة وأمثالها ، وهذا يعني انّ الحوادث المستقبلية قد نظّمت بشكل خاص ثمّ تغيّرت الشرائط فأصبحت شيئا آخر ، حتّى يعلم الناس انّ مصيرهم بأيديهم ، وهم قادرون ان يغيّروا مصيرهم من خلال تغيير سيرتهم وسلوكهم ، وهذه اكبر فائدة نلمسها من البداء «فتدبّر».

فما ورد من انّ أحدا إذا لم يعرف الله بالبداء لم يعرفه معرفة كاملة ، فهي اشارة لتلك الحقائق.

عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «ما بعث اللهعزوجل نبيّا حتّى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبودية ، وخلع الأنداد ، وانّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء»(١) .

وفي الحقيقة انّ اوّل عهد مرتبط بالطاعة والتسليم لله. وثاني عهد محاربة الشرك ، والثّالث مرتبط بمسألة البداء ، ونتيجته انّ مصيره بيده ، فيستطيع ان يغيّر الشروط فيشمله اللطف او العذاب الالهي.

الملاحظة الاخيرة في هذا المجال يقول علماء الشيعة : انّنا حينما ننسب

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلّد الاوّل ، صفحة ١١٤ ـ سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، صفحة ٦١.

٤٣٨

البداء الى الله جلّ وعلا فإنّه يكون بمعنى «الإبداء» بمعنى اظهار الشيء الذي لم يكن ظاهرا لنا من قبل ولم يكن متوقّعا.

وانّ ما ينسب الى الشيعة بأنّهم يعتقدون انّ الله يندم على عمله أحيانا ، او يخبر عن شيء لم يعلمه سابقا ، فهذه من اكبر التّهم ولا يمكن الصفح عنها ابدا.

لذلك نقل عن الائمّةعليهم‌السلام انّهم قالوا : «من زعم ان اللهعزوجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرءوا منه»(١) .

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، صفحة ٦١.

٤٣٩

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣) )

التّفسير

البشرية فانية ووجه الله باق :

بما انّ الآيات السابقة كانت تتحدّث مع منكري رسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد تابعت هذه الآيات كذلك نفس البحث. والهدف هو دعوتهم الى التفكّر ، ثمّ الإصلاح عن طريق الإنذار والاستدلال وغيرها.

يقول تعالى اوّلا :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ) من الواضح انّ المقصود من الأرض هنا هم اهل الأرض ، يعني انّ هؤلاء لا ينظرون الى هذا الواقع من انّ الأقوام والحضارات والحكومات في حال الزوال والابادة ،

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572