الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287984 / تحميل: 5235
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله ، ولم يكن قد سمح بها هي جملة : (أسام عليك).

ويحتمل أيضا أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون : (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.

هذا الأمر مع أنّه كان سائدا في الجاهلية ، إلّا أنّ تحريمه غير ثابت ، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.

ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقولعزوجل :( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.

وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم :( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي ، بل يؤكّد القرآن على أنّه لو لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم ، فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم.

ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحيانا وذلك للضرورة أو لبعض الميول ، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين ، ولا بدّ أن يكون مسارها

١٢١

التواصي بالخير والحسنى ، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولكن كلّما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين ، فنفس هذا العمل حرام وقبيح ، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية ، ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد للبحث ، حيث يقول تعالى :( إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّا أن يأذن الله بذلك( وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ذلك لأنّ كلّ مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتّى إحراق النار وقطع السيف.

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله ، وبالاعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل ، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان ، ويفشلوا مؤامراته.

* * *

بحثان

١ ـ أنواع النجوى

لهذا العمل من الوجهة الفقهيّة الإسلامية أحكام مختلفة حسب اختلاف الظروف ، ويصنّف إلى خمسة حالات تبعا لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.

فتارة يكون هذا العمل «حراما» وفيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم ـ كما أشير له في الآيات أعلاه ـ كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحيانا (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية ، حيث أنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى ، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم

١٢٢

العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالاستحباب ، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان ، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساسا ، فإنّ كلّ حالة لا يوجد فيها هدف مهمّ فالنجوى عمل غير محمود ، ومخالف لآداب المجالس ، ويعتبر نوعا من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالآخرين.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه»(١) .

كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : كنّا نتناوب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتّى إذا كنّا نتحدّث فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل فقال : ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى»(٢) .

ويستفاد من روايات أخرى أنّ الشيطان ـ لإيذاء المؤمنين ـ يستخدم كلّ وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط ، بل أحيانا في عالم النوم حيث يصوّر لهم مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغمّ ، ولا بدّ للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات أن يلتجئ إلى الله ويتوكّل عليه ، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية(٣) .

٢ ـ كيف تكون التحيّة الإلهيّة؟

من المتعارف عليه اجتماعيا في حالة الدخول إلى المجالس تبادل العبارات

__________________

(١) تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، والدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤ واصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٨٣ (باب المناجاة) حديث ١ ، ٢.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤.

(٣) للاطلاع الأكثر على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، حديث ٣١ ، ٣٢.

١٢٣

التي تعبّر عن الودّ والاحترام بين الحاضرين ـ كلّ منهم للآخر ـ ويسمّى هذا بالتحيّة ، إلّا أنّ المستفاد من الآيات أعلاه أن يكون للتحيّة محتوى إلهي ، كما في بقيّة القواعد الخاصّة بآداب المعاشرة.

ففي التحيّة بالإضافة إلى الاحترام والإكرام لا بدّ أن تقرن بذكر الله في حالة اللقاء ، كما في (السّلام) الذي تطلب فيه من الله السلامة للطرف الآخر.

وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم ـ في نهاية الآيات مورد البحث ـ أنّ مجموعة من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كانوا يقدمون عليه يحيّونه بقولهم (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وهذه تحية أهل الجاهلية فأنزل الله :( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أبدلنا الله بخير تحيّة أهل الجنّة السّلام عليكم»(١) .

كما أنّ من خصوصيات السّلام في الإسلام أن يكون مقترنا بذكر الله تعالى ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ففي السّلام سلامة كلّ شيء أعمّ من الدين والإيمان والجسم والروح وليس منحصرا بالراحة والرفاه والهدوء(٢) .

(وحول حكم التحية والسّلام وآدابها كان لدينا بحث مفصّل في نهاية الآية (٨٦) في سورة النساء).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، حديث ٣٠.

(٢) في كتاب «بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب» جاء بحث مفصّل حول تحيّة العرب في الجاهلية وتفسير عبارة (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) ، ج ٢ ، ص ١٩٢.

١٢٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، وجمع آخر من المفسّرين ، أنّ هذه الآية نزلت يوم الجمعة وكان رسول الله يومئذ في (الصفّة) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر.

قد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله فقالوا : السّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. فردّ النبي عليهم ، ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يحملهم على القيام ، فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر! قم يا فلان ، قم يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين

١٢٥

يديه من المهاجرين والأنصار ـ أهل بدر ـ فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فبلغنا أنّ رسول الله قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية(١) .

التفسير

احترام أهل السابقة والإيمان :

تعقيبا على الموضوع الذي جاء في الرّوايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس ، يتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ) (٢) ( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) .

«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع ، وبناء على هذا ، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع ، وهذه واحدة من آداب المجالس ، فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له ، كي لا يبقى في حيرة وخجل ، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والودّ على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة ، والتي هي أحد عوامل التفرقة والشحناء ، وإثارة الحساسيات والعداوة.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٥. ومجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، ونقل مفسّرون آخرون نفس النصّ باختلاف قليل كالفخر الرازي والقرطبي والسيوطي في الدرّ المنثور وفي ظلال القرآن أيضا في نهاية الآية مورد البحث.

(٢) إنّ اختلاف التعبيرين ـ تفسّحوا وافسحوا ـ عن الآخر وهو أنّ أحدهما من تفعّل ، والآخر من الثلاثي المجرّد ، ويمكن أن يكون الفرق أنّ الأوّل له صفة التكلّف ، والآخر خال من هذه الصفة ، يعني كما لو قال قائل : افسحوا للشخص الذي يقدم توّا ، فإنّ الجالسين بدون أن يشعروا بالتكلّف يتفسّحون ، (يرجى ملاحظة ذلك).

١٢٦

والشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم ، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين ، بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية ، حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكليّة.

جملة( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) فسّرها بعض المفسّرين بتوسّع المجالس في الجنّة ، وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا ، ويلتزمون بها ، وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوما واسعا ، وتشمل كلّ سعة إلهيّة ، سواء كانت في الجنّة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة ، أو في المال والرزق ، ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير ، لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحيانا بحيث أنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام ، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمرارا لهذا البحث يقول تعالى :( وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) (١) أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف ، لأنّ القادمين أحيانا يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس ، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للاحترام الخاصّ لهم ، وأسباب اخرى.

وهنا يجب أن يؤثّر الحاضرون على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي ، كما مرّ بنا في سبب نزول الآية ، حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر المجموعة التي

__________________

(١) «انشزوا» من مادّة (نشز) على وزن (نصر) مأخوذة من معنى الأرض العالية ، لذلك استعمل بمعنى القيام ، و «المرأة الناشزة» تطلق على كلّ من تعتبر نفسها أعلى من أن تطيع أمر زوجها ، واستعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى الإحياء ، لأنّ هذا الأمر سبب للقيام من القبور.

١٢٧

كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر ، وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة.

كما فسّر بعض المفسّرين (انشزوا) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع ، حيث تشمل أيضا القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الاخرى ، إلّا أنّه من خلال التمعن والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد «في المجالس» ، فالظاهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد ، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي ، حيث يقولعزوجل :( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (١) .

وذلك إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين ، فإنّه لهدف إلهي مقدّس ، واحتراما للسابقين في العلم والإيمان.

والتعبير بـ (درجات) بصورة نكرة وبصيغة الجمع ، إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص ، الذين يتميّزون بالعمل والإيمان معا ، أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة ، وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة ، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء. والتظاهر فيضيف تعالى في نهاية الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

* * *

__________________

(١) «يرفع» في الآية أعلاه مجزومة بسبب صيغة الأمر التي جاءت قبلها ، والتي في الحقيقة تعطي مفهوم الشرط ، ويرفع بمنزلة جزاء هذا الشرط.

١٢٨

بحثان

١ ـ مقام العلماء

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاصّ ، إلّا أنّ لها مفهوما عامّا ، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان : الإيمان ، والعلم. وبالرغم من أنّ «الشهيد» في الإسلام يتمتع بمقام سام جدّا ، إلّا أنّنا نقرأ حديثا للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن لنا فيه مقام أهل العلم حيث قال : «فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة وفضل العالم على سائر الناس ، كفضلي ، على أدناهم»(١) .

وعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام نقرأ الحديث التالي : «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة»(٢) .

ومعلوم أنّ الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة ، خصوصا ليلة الرابع عشر من الشهر ، حيث يكتمل البدر ويزداد ضوؤه بحيث يؤثّر على ضوء النجوم هذا المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(٣) .

والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان ، ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة ، لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات.

وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين ، لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة ، والمسافة بين درجة واخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة(٤) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) جوامع الجامع ، مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦٤ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٤) المصدر السابق.

١٢٩

وواضح أيضا أنّ مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة ، بل هي مقام المقرّبين في الحضرة الإلهية ، ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الموفّقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما : الإيمان والعلم ، أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر ، ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر.

٢ ـ آداب المجلس في القرآن الكريم

أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية ، ومنها آداب التحيّة ، والدخول إلى المجلس ، وآداب الدعوة إلى الطعام. وآداب التكلّم مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآداب التفسّح للأشخاص القادمين ، خصوصا ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان(٢) .

وهذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة وقيمة خاصّة ، ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم اهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة.

وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة ، ج ٨ ، حيث رتّبها في ١٦٦ بابا.

وملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس ،

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٦ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٢) جاءت هذه التعليمات من خلال التسلسل في الآيات التالية : آداب التحيّة والسّلام. النساء / ٨٦ ، آداب الدعوة إلى الطعام. الأحزاب / ٥٣ ، آداب التكلّم مع الرّسول. الحجرات / ٢ ، وآداب التفسّح. في الآيات مورد البحث.

١٣٠

وطريقة التكلّم والابتسامة والمزاح والإطعام ، وطريقة كتابة الرسائل ، بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين ، وقد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها ، والحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري ، إلّا أنّنا نكتفي بحديث واحد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول : «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس ، والاستغناء عنهم ، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك ، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(١) .

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٠١.

١٣١

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان وكذلك جمع آخر من المفسّرين أنّ هذه الآية أنزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكثرون مناجاته ـ وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم ارتياح المستضعفين منه ، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم ـ فأمر سبحانه بـ (الصدقة) عند المناجاة ، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فنزلت آية الرخصة التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة ،

١٣٢

حيث أنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود(١) .

وصرّح بعض المفسّرين أيضا أنّ هدف البعض من «النجوى» هو الاستعلاء على الآخرين بهذا الأسلوب. وبالرغم من أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان غير مرتاح لهذا الأسلوب ، إلّا أنّه لم يمنع منه ، حتّى نهاهم القرآن من ذلك(٢) .

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (اختبار رائع):

في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى ، وفي الآيات مورد البحث استمرارا وتكملة لهذا المطلب.

يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) وكما ذكرنا في سبب نزول هذه الآيات ، فإنّ بعض الناس وخاصّة الأغنياء منهم كانوا يزاحمون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستمرار ويتناجون معه ولمّا كان هذا العمل يسبّب إزعاجا للرسول بالإضافة إلى كونه هدرا لوقته الثمين ، وفيه ما يشعر بالخصوصية لهؤلاء الذين يناجونه بدون مبرّر لذا نزل الحكم أعلاه ، وكان امتحانا لهم ، ومساعدة للفقراء ، ووسيلة مؤثّرة للحدّ من مضايقة هؤلاء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف بقوله تعالى :( ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) .

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة ، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال ، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد ، لأنّه عند ما تكون النجوى مقرونة بالصدقة تكون دائرتها أضيق ممّا كانت عليه في الحالة المجانية ، وبالتالي فإنّها نوع من التصحيح

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، وكثير من التفاسير الأخرى نهاية الآيات مورد البحث.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٧.

١٣٣

والتهذيب الفكري والاجتماعي للمسلمين.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجبا على الجميع ، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة ممّا مكّنهم من مناجاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتحدّث معه( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجبا على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيرا عجيبا وامتحانا رائعا أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت ، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّا شخص واحد ، ذلك هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح ، وأخذ المسلمون درسا في ذلك ، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) .

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّضح أيضا أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية ، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى ، خاصّة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة!!

ثمّ يضيف تعالى :( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

ويعكس لنا التعبير بـ (التوبة) أنّهم في نجواهم السابقة كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، سواء في التظاهر والرياء ، أو أذى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أذى المؤمنين الفقراء.

وبالرغم من عدم التصريح بجواز النجوى في هذه الآية بعد هذا الحادث ، إلّا أنّ تعبير الآية يوضّح لنا أنّ الحكم السابق قد رفع.

أمّا الدعوة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله فقد أكّد عليها

١٣٤

بسبب أهميّتها ، وكذلك هي إشارة إلى أنّه إذا تناجيتم فيما بعد فيجب أن تكون في خدمة الأهداف الإسلامية الكبرى وفي طريق طاعة الله ورسوله.

* * *

بحوث

١ ـ الملتزم الوحيد بآية الصدقة قبل النجوى

إنّ الشخص الوحيد الذي نفّذ آية الصدقة في النجوى ـ كما في أغلب كتب مفسّري الشيعة وأهل السنّة ـ وعمل بهذه الآية هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما ينقل ذلك الطبرسي في رواية عنهعليه‌السلام أنّه قال : «آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبل ولم يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبي تصدّقت بدرهم»(١) .

كما نقل هذا المضمون «الشوكاني» عن «عبد الرّزاق» و «ابن المنذر» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردويه»(٢) .

ونقل «الفخر الرازي» هذا الحديث أيضا عن بعض المحدّثين عن ابن عبّاس والعامل الوحيد بمضمون الآية هو الإمام عليعليه‌السلام (٣) .

وجاءت في الدرّ المنثور ـ أيضا ـ روايات متعدّدة بهذا الصدد ، في نهاية تفسير الآيات أعلاه(٤) .

وفي تفسير روح البيان نقل عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنّه قال : «كان لعلي ثلاثة! لو كانت فيّ واحدة منهنّ لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٨ ، ص ١٥.

(٢) (البيان في تفسير القرآن) ، ج ١ ، ص ٣٧٥ ، ونقل سيّد قطب أيضا هذه الرواية في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢١.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٧١.

(٤) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

١٣٥

فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى»(١) .

إنّ ثبوت هذه الفضيلة العظيمة للإمام عليعليه‌السلام قد جاء في أغلب كتب التّفسير ، وهي مشهورة بحيث لا حاجة لشرحها أكثر.

٢ ـ فلسفة تشريع ونسخ حكم الصدقة

لما ذا كانت الصدقة قبل النجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريعية؟ ثمّ لما ذا نسخت بعد فترة وجيزة؟

يمكن الإجابة على هذا التساؤل ـ بصورة جيّدة ـ من خلال القرائن الموجودة في الآية محلّ البحث ومن سبب النزول كذلك.

الهدف هو اختبار الأفراد المدّعين الذين يتظاهرون بحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الوسيلة ، فاتّضح أنّ إظهار الحبّ هذا إنّما يكون إذا كانت النجوى مجانية ، ولكن عند ما أصبحت النجوى مقترنة بدفع مقدار من المال تركوا نجواهم.

ومضافا إلى ذلك فإنّ هذا الحكم قد ترك تأثيره على المسلمين ، ووضّح حقيقة عدم إشغال وقت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك القادة الإسلاميين الكبار في النجوى ، إلّا لضرورات العمل الأساسية ، لأنّ ذلك تضييعا للوقت وجلبا لسخط الناس وعدم رضاهم. فكان هذا التشريع في الحقيقة تقنينا للنجوى المستقبلة.

وبناء على هذا فالحكم المذكور كان في البداية مؤقتا ، وبعد ما تحقّق المطلوب نسخ ، لأنّ استمراره سيثير مشكلة ، لأنّ هناك بعض المسائل الضرورية التي تستدعي أن يطّلع عليها النبي على انفراد. ومع بقاء حكم الصدقة فقد تهمل بعض المسائل الضرورية ، وبصورة عامّة ففي موارد النسخ يكون للحكم منذ

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٠٦ ، كما نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ، والزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي في تفسير الجامع وذلك في نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٦

البداية جانب محدود ومؤقت بالرغم من أنّ الناس أحيانا لا يعلمون بذلك ويتصوّرونه بصورة دائمة.

٣ ـ هل الالتزام بالصدقة فضيلة؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام عليعليه‌السلام لم يكن من طائفة الأغنياء من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث البساطة في حياته وزهده في عيشه ، ومع هذا الحال واحتراما للحكم الإلهي ، تصدّق في تلك الفترة القصيرة ـ ولمرّات عديدة ، وناجى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه المسألة واضحة ومسلّمة بين المفسّرين وأصحاب الحديث كما أسلفنا.

إلّا أنّ البعض ـ مع قبول هذا الموضوع ـ يصرّون على عدم اعتبار ذلك فضيلة وحجّتهم في ذلك أنّ كبار الصحابة عند ما أحجموا عن هذا العمل فذلك لأنّهم لم تكن لهم حاجة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لم يكن لديهم وقت كاف ، أو أنّهم كانوا يفكّرون بعدم إحراج الفقراء وبناء على هذا فإنّها لا تحسب فضيلة للإمام علي ، أو أنّها لا تسلب فضيلة من الآخرين(١) .

ويبدو أنّهم لم يدقّقوا في متن الآية التالية حيث يقول سبحانه موبّخا :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) حتّى أنّه سبحانه يعبّر في نهاية الآية بالتوبة ، والتي ظاهرها دالّ على هذا المعنى ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ الإقدام على الصدقة والنجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت عملا حسنا ، وإلّا فلا ملامة ولا توبة.

وبدون شكّ فإنّ قسما من أصحاب الرّسول المعروفين قبل هذا الحادث كانت لهم نجوى مع الرّسول (لأنّ الأفراد العاديين والبعيدين قلّما احتاجوا إلى

__________________

(١) الفخر الرازي وروح البيان نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٧

مناجاة الرّسول).

إلّا أنّ هؤلاء الصحابة المعروفين بعد حكم الصدقة ، امتنعوا من النجوى ، والشخص الوحيد الذي احترم ونفّذ هذا الحكم هو الإمام عليعليه‌السلام .

وإذا قبلنا ظاهر الآيات والروايات التي نقلت في هذا المجال وفي الكتب الإسلامية المختلفة ولم نقم أهميّة للاحتمالات الضعيفة الواهية فلا بدّ أن نضمّ صوتنا إلى صوت عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي جعل هذه الفضيلة بمنزلة تزويج فاطمة ، وإعطاء الراية يوم فتح خيبر ، وأغلى من حمر النعم.

٤ ـ مدّة الحكم ومقدار الصدقة :

وحول مدّة الحكم بوجوب الصدقة قبل النجوى مع الرّسول توجد أقوال مختلفة ، فقد ذكر البعض أنّها ساعة واحدة ، وقال آخرون : إنّها ليلة واحدة ، وذكر البعض أنّها عشرة أيّام ، إلّا أنّ الأقوى هو القول الثالث ، لأنّ الساعة والليلة لا تكفي أبدا لمثل هذا الامتحان ، لأنّ بالإمكان الاعتذار في هذه المدّة القصيرة عن عدم وجود حاجة للنجوى ، إلّا أنّ مدّة عشرة أيّام تستطيع أن توضّح الحقائق وتهيء أرضية للوم المتخلّفين.

أمّا مقدار الصدقة فإنّها لم تذكر في الآية ولا في الروايات الإسلامية ، ولكن المستفاد من عمل الإمام عليعليه‌السلام هو كفاية الدرهم الواحد في ذلك.

* * *

١٣٨

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) )

١٣٩

التّفسير

حزب الشيطان :

هذه الآيات تفضح قسما من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين ، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسما ممّن ناجوا الرّسول كانوا من المنافقين ، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتستّرون على مؤامراتهم ، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

يقول تعالى في البداية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) .

هؤلاء القوم الذين «غضب الله عليهم» كانوا من اليهود ظاهرا كما عرّفتهم الآية (٦٠) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) (١) .

مّ يضيف تعالى :( ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل ، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص ، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كلّ يوم ويظهرون كلّ لحظة لكم بصورة جديدة.

وطبيعي أنّ هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (٢) ، لأنّ المقصود هناك أنّهم بحكم أعدائكم ، بالرغم من أنّهم في الحقيقة ليسوا منهم.

ويضيف ـ أيضا ـ واستمرارا لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة :( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

وهذه طريقة المنافقين ، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل ، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

__________________

(١) المائدة ، الآية ٦٠.

(٢) المائدة ، الآية ٥١.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

يكون ضيفي ولا اعلم به وأنت تعلم بذلك؟!

ثالثا : حتّى أنتم في الواقع لا تؤمنون بذلك في قرارة أنفسكم ، بل( أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ ) .

ولهذا السبب نرى المشركين عند ما تضيق بهم المشاكل الحياتية يلوذون بالله ، لانّهم يعلمون في قلوبهم انّ الأصنام لا يمكن ان تعمل لهم شيئا ، كما بيّن القرآن الكريم حالهم في الآية (٦٥) من سورة العنكبوت حيث يقول تعالى :( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) .

رابعا : انّ المشركين ليس لهم ادراك صحيح ، وبما انّهم تابعين لاهوائهم وتقليدهم الأعمى ، فإنّهم غير قادرين على ان يقضوا بالحقّ وبشكل صحيح ، ولهذا السبب ضلّوا الطريق ، يقول تعالى :( بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) .

وقد قلنا مرارا : انّ هذا الضلال ليس جبرا ، ولا هو اعتباطا وبدون حساب ، بل الإضلال الالهي انعكاس لما يقوم به الإنسان من الأعمال السيّئة التي تجرّه الى الضياع ، وبما انّ هذه الخاصيّة قد جعلها الله سبحانه وتعالى لمثل هذه الأعمال فلذلك نسب هذا العمل اليه.

ويشير القرآن الكريم في الآية الاخيرة من هذه المجموعة الى العقاب الأليم الذي يشملهم في الدنيا والآخرة ، الشقاء والهزيمة والحرمان وغيرها ، حيث تقول :( لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ ) لانّها دائمة ومستمرة ، جسدية وروحية ، وفيها انواع الآلام.

وإذا اعتقدوا بأنّ لهم طريقا للفرار او سبيلا للدفاع في مقابل ذلك ، فإنّهم في اشتباه كبير ، لان( وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ ) .

* * *

٤٢١

الآية

( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) )

التّفسير

بالنظر الى تناوب آيات هذه السورة في بيان التوحيد والمعاد وسائر المعارف الاسلامية الاخرى ، تحدّثت هذه الآية مرّة اخرى حول المعاد وخصوصا نعم الجنّة وعذاب الجحيم. يقول تعالى اوّلا :( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) (١) .

قد يكون التعبير بـ «مثل» اشارة الى هذه النكتة ، وهي انّ الجنّة وسائر النعم الاخروية غير قابلة للوصف بالنسبة الى الساكنين في هذا العالم المحدود الذي هو في مقابل عالم بعد الموت يعتبر صغيرا جدّا ، ولذلك نستطيع ان نضرب لهم مثلا او صورة عن ذلك ، كما انّ الجنين في بطن امّه لو كان يعقل لا يمكن ان نصوّر له كلّ نعم الدنيا ، الّا من خلال أمثال ناقصة وشاحبة!

__________________

(١) هناك نقاش بين المفسّرين حول تركيب هذه الجملة فقال البعض : انّ «مثل» مبتدا و «تجري» خبرها ، وقال بعض آخر : انّ «مثل» مبتدا وخبره محذوف تقديره «فيما نقص عليكم مثل الجنّة».

٤٢٢

الوصف الثّاني للجنّة هو( أُكُلُها دائِمٌ ) .

فهي ليست كفاكهة الدنيا فصلية وتظهر في وقت معيّن من السنة ، بل في بعض الأحيان وبسبب الآفات الزراعية تنقطع تماما ، لكن ثمار الجنّة ليست فصلية ولا موسمية وغير مصابة بآفة ، بل كإيمان المؤمنين المخلصين دائمة وثابتة.

وكذلك( وَظِلُّها ) ليس كظلّ أشجار الدنيا التي يظهر ظلّها إذا كانت الشمس افقية ويزول او يقل إذا صارت عمودية ، او يظهر في الربيع والصيف عند ما تكون الأشجار مورقة ، ويزول في الخريف والشتاء عند تساقط الأوراق ، (بالطبع هناك أشجار قليلة تعطي ثمارا وازهارا على مدار السنة ، وهذه تكون في المناطق المعتدلة التي ليس فيها شتاء).

الخلاصة : ظلال الجنّة كبقيّة النعم الاخرى خالدة ، ودائمة ، ومن هذا يتّضح ان ليس في الجنّة فصل لتساقط الأوراق ، ونعلم من ذلك ـ ايضا ـ انّ شعاع الشمس موجود في الجنّة ، والّا كان التعبير بالظل هناك بدون شعاع الشمس ليس له اي مفهوم ، وامّا ما جاء في الآية (١٣) من سورة الدهر( لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ) قد تكون اشارة الى اعتدال الهواء ، فلا الشمس محرقة ولا البرد قارس ، وهذا لا يعني ان لا تكون هناك شمس أصلا.

انّ انطفاء الشمس ليس دليلا على زوالها ابدا ، لانّ القرآن الكريم يقول :( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ) (١) تكون أوسع وبهيئة جديدة.

وإذا قيل : ان كانت شمس الجنّة غير محرقة ، فعلام الظلّ؟

نقول في جوابهم : انّ الظلّ ليس مانعا لحرارة الشمس فقط ، بل انّ الرطوبة المعتدلة الصادرة من الأوراق باتّحادها مع الاوكسجين تعطي نشاطا ولطافة خاصّة للظلّ ، ولذلك كان ظلّ الأشجار مختلفا عن ظلّ السقوف الجافّة.

__________________

(١) ابراهيم ، ٤٨.

٤٢٣

وبعد بيان هذه الصفات الثلاث قال تعالى في آخر الآية :( تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ ) .

لقد بيّن وفصّل في هذه العبارة نعم الجنّة ، ولكن بالنسبة الى اصحاب النّار ذكر جملة قصيرة وبعنف حيث ذكر انّ عاقبة أمرهم الى النار!

* * *

٤٢٤

الآية

( وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) )

التّفسير

المؤمنون والأحزاب!

اشارت هذه الآية الى ردّ الفعل المتفاوت للناس في مقابل نزول الآيات القرآنية ، فالأفراد الذين يبحثون عن الحقيقة يفرحون بما انزل على الرّسول ، بينما المعاندون يخالفون ذلك.

يقول تعالى اوّلا :( وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) .

انّ الوصف ب( آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ) اشارة الى اليهود والنصارى وأمثالهم ممّن لهم كتاب سماوي وقد ذكرهم القرآن في مواطن كثيرة ، فكان الأشخاص الطالبون للحقّ من اليهود والنصارى وأمثالهم يفرحون عند نزول الآيات على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لانّهم كانوا من جهة يرونها مطابقة لما في أيديهم من العلامات ، ومن جهة اخرى كان سببا لحريتهم ونجاتهم من شرّ الخرافات ومن علماء اليهود

٤٢٥

والمسيحيّة الذين كانوا يستعبدونهم ، وكانوا محرومين من حرية الفكر والتكامل الانساني.

وامّا ما قاله بعض المفسّرين الكبار من انّ المقصود من( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ) هم اصحاب النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعيد جدّا ، لانّ هذا الوصف ليس معهودا بالنسبة للمسلمين ، بالاضافة الى ذلك فإنّها غير موافقة مع جملة( بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (١) .

وبما انّ سورة الرّعد مكية فهي غير منافية لما قلناه آنفا ، مع انّ المركز الاصلي لليهود في الجزيرة العربية كان المدينة وخيبر ، والمركز الاصلي للمسيحيين هو نجران وأمثالها ، ولكنّهم كانوا يتردّدون على مكّة ويعكسون افكارهم ومعتقداتهم فيها ، ولهذا السبب كان اهل مكّة يعرفون علامات آخر نبي مرسل وكانوا ينتظرونه (قصّة ورقة بن نوفل وأمثالها معروفة).

وهناك شواهد لهذا الموضوع في آيات اخرى من القرآن الكريم والتي كان يفرح المؤمنين من اهل الكتاب عند نزول الآيات على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمثلا الآية (٥٢) من سورة القصص تقول :( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) .

ثمّ تضيف الآية( وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ) المقصود من هذه المجموعة هي نفس جماعة اليهود والنصارى الذين غلبهم التعصّب الطائفي وأمثاله ، ولذلك لم يعبّر القرآن الكريم عنهم بأهل الكتاب ، لانّهم لم يتّبعوا كتبهم السّماوية. بل كانوا في الحقيقة أحزابا وكتلا تابعين لخطّهم الحزبي ، وهذه المجموعة كانت تنكر كلّ ما خالف ميلهم ولم يطابق أهواءهم.

ويحتمل ايضا انّ كلمة «الأحزاب» اشارة الى المشركين ، لانّ سورة

__________________

(١) لانّه يلازم هذا الحديث ان يكون ما انزل إليك هو نفس «الكتاب» فالاثنان يشيران الى القرآن ، في الوقت الذي نرى فيه من قرينة المقابلة انّ المقصود من «الكتاب» غير ما انزل إليك.

٤٢٦

الأحزاب ذكرتهم بهذا التعبير ، وهؤلاء في الحقيقة ليس لهم دين ولا مذهب بل كانوا على شكل احزاب وكتل متفرّقة اتّحدوا في مخالفتهم للقرآن والإسلام.

ونقل العلّامة الطبرسي وبعض آخر من المفسّرين الكبار عن ابن عبّاس ، انّ هذه الآية اشارة الى المشركين الذين كانوا يخالفون وصف الله بالرحمن ، واهل الكتاب ـ خصوصا اليهود ـ يفرحون بهذا الوصف «الرحمان» في الآيات القرآنية ، ومشركي مكّة كانوا يسخرون منه بسبب عدم معرفتهم به.

وفي آخر الآية يأمر الله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لا يعتني بهذا وذلك من المخالفين ، بل يدعوه الى الثبات على الخطّ الأصيل والصراط المستقيم حيث يقول تعالى :( قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ ) وتلك دعوة للموحّدين الصادقين والمؤمنين الرّساليين ان يسلّموا امام الأوامر الالهيّة ، فالرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان خاضعا لكلّ ما انزل عليه ، فلا يأخذ ما كان يوافق ميله ويترك غيره.

* * *

بحث

الايمان والائتلاف الحزبي :

رأينا في الآية كيف انّ الله سبحانه وتعالى عبّر عن المؤمنين من اليهود والنصارى بأهل الكتاب ، وعبّر عن أولئك التابعين للعصبية والأهواء بالأحزاب ، وهذا غير منحصر في تاريخ صدر الإسلام ، بل انّ هذا التفاوت موجود دائما بين المؤمنين الحقيقيين والذين يدّعون الايمان ، فالمؤمنون الحقيقيون يقولون بالتسليم المطلق لكلّ الأوامر الالهية ، ولا يقولون بالتبعيض ، ويجعلون ميلهم تحت ذاك الشعاع ، فهم اهل لان يسمّيهم القرآن اهل الكتاب والايمان.

بينما أولئك فهم مصداق الآية( نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) ومعناه كلّ ما

٤٢٧

طابق خطّهم الفكري وميلهم الشخصي وأهواءهم يقبلونه ، وكلّ ما خالف منافعهم الشخصيّة ينكرونه ، فهؤلاء ليسوا بمسلمين ولا مؤمنين ، بل احزاب وكتل يبحثون عن مصالحهم في الدين ، ولذلك كانوا يقولون بالتبعيض في التعاليم الاسلامية.

* * *

٤٢٨

الآيات

( وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) )

التّفسير

الحوادث «الثّابتة» و «المتغيّرة» :

تتابع هذه الآيات المسائل المتعلّقة بالنبوّة ، ففي الآية الاولى يقول تعالى :( وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا ) .

«العربي» كما يقول الرّاغب في مفرداته «الفصيح البيّن من الكلام» ولذلك يقال للمراة العفيفة والشريفة : انّها «امراة عروبة» ثمّ تضيف الآية( حُكْماً عَرَبِيًّا )

٤٢٩

قيل معناه مفصحا يحقّ الحقّ ويبطل الباطل.

ويحتمل في «العربي» انّ معناه «الشريف» لانّها جاءت في اللغة بهذا المعنى. وعلى هذا فوصف القرآن بالعربي لانّ احكامه واضحة وبيّنة. ولذلك وردت في عدّة آيات اخرى بعد «عربيا» مسألة الاستقامة وعدم الاعوجاج او العلم ، منها في الآية (٢٨) من سورة الزمر قوله تعالى( قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) وفي الآية (٣) من سورة فصلت يقول تعالى :( كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) . وعلى هذا فما قبل هذه الآية وما بعدها يؤيّدان انّ المراد من «عربيا» هو الفصاحة والوضوح في البيان وخلوّه من الاعوجاج والالتواء.

وهذه العبارة وردت في سبع سور من القرآن الكريم ، ولكن ذكرت في عدّة موارد بشكل( لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) والتي يمكن ان يكون لها نفس المعنى. ويمكن ان يكون هذا الموضع الخاص اشارة الى اللسان العربي ، لانّ الله سبحانه وتعالى بعث كلّ نبي بلسان قومه ، حتّى يهدي قومه اوّلا ، ثمّ تنتشر دعوته في المناطق الاخرى.

ثمّ يخاطب القرآن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحن التهديد وبشكل قاطع حيث يقول :( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ ) وبما انّ احتمال الانحراف غير موجود إطلاقا في شخصيّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما يتميّز به من مقام العصمة والمعرفة ، فهذا التعبير ـ اوّلا ـ يوضّح انّ الله سبحانه وتعالى ليس له ارتباط خاص مع اي احد حتّى لو كان نبيّا ، فمقام الأنبياء الشامخ انّما هو بسبب عبوديتهم وتسليمهم واستقامتهم.

وثانيا : تأكيد وإنذار للآخرين ، لانّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا لم يكن مصونا من العقوبات الالهيّة في حالة انحرافه عن مسيرة الحقّ واتّجاهه صوب الباطل ، فما بال الآخرين؟

ولا بدّ من ذكر هذه النقطة ، وهي انّ «ولي» و «واق» مع انّهما متشابهان في

٤٣٠

المعنى ، ولكن هناك تفاوت بينهما وهو انّ أحدهما يبيّن جانب الإثبات والآخر جانب النفي ، فواحد بمعنى النصرة والدعم ، والآخر بمعنى الدفاع والحفظ.

الآية الاخرى ـ في الواقع ـ جواب لما كان يستشكله اعداء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ومن جملة هذه الإشكالات :

اوّلا : كان البعض يقول : هل من الممكن ان يكون الرّسول من جنس البشر ، يتزوّج وتكون له ذرّية؟ فالآية تجيبهم وتقول ليس هذا بالأمر الغريب :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً ) (١) .

ويتبيّن من اشكالهم انّهم امّا ان يكونوا غير عالمين بتاريخ الأنبياء ، او انّهم يتجاهلون ذلك والّا لم يوردوا هذا الاشكال.

ثانيا : كان ينتظر هؤلاء من الرّسول ان يجيبهم على كلّ معجزة يقترحونها عليه بما تقتضيه اهواؤهم ، سواء آمنوا او لم يؤمنوا ، ولكن يجب ان يعلم هؤلاء انّ( وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ثالثا : لماذا جاء نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيّر احكام التوراة والإنجيل ، ا وليست هذه كتب سماوية؟ وهل من الممكن ان ينقض الله أوامره؟ (هذا الاشكال كان يطابق ما يقوله اليهود من عدم نسخ الأحكام).

وتجيب الجملة الاخيرة من الآية فتقول :( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ) كيما تبلغ البشرية المرحلة النهائية من الرّشد والتكامل فليس من العجيب ان ينزّل يوما التوراة ، ويوما آخر الإنجيل ، ثمّ القرآن ، لانّ البشرية في تحوّلها وتكاملها بحاجة الى البرامج المتغيّرة والمتفاوتة.

ويحتمل انّ جملة( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ) جواب لمن كان يقول : إذا كان الرّسول صادقا ، لماذا لا ينزل الله عذابه وسخطه على المخالفين والمعاندين؟ فيجيبهم

__________________

(١) يقول بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية : انّها جواب لما كان يورده البعض من تعدّد ازواج الرّسول ، في الوقت الذي نرى انّ سورة الرّعد مكّية وتعدّد الزوجات لم يكن حينذاك.

٤٣١

القرآن بأنّ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ) وليس بدون حساب وكتاب ، وسوف يصل الوقت المعلوم للعقاب(١) .

الآية الاخرى بمنزلة التأكيد والاستدلال لما ورد في ذيل الآية السابقة ، وهو انّ لكلّ حدث وحكم زمن معيّن كما يقال : انّ الأمور مرهونة بأوقاتها ، وإذا رأيت انّ بعض الكتب السّماوية تأخذ مكان البعض الآخر وذلك بسبب( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) فيحذف بعض الأمور بمقتضى حكمته وارادته ويثبت أمورا اخرى ، ولكن الكتاب الأصل عنده.

وفي النّهاية وللتأكيد اكثر بالنسبة للعقوبات التي كان يوعدهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها وكانوا ينتظرونها حتّى انّهم يقولون : لماذا لا تصبح هذه الوعود عملية؟ يقول تعالى( وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ) (من انتصارك عليهم وهزيمتهم وتحرير اتباعك وأسر اتباعهم في حياتك)( أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ ) .

* * *

نقطتان

يجب الانتباه الى هاتين النقطتين :

١ ـ لوح المحو والإثبات وامّ الكتاب

مع انّ جملة( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ) نزلت في مجال المعاجز والكتب السّماوية الى الأنبياء ، لكنّها تبيّن قانونا عامّا وشاملا وقد أشير اليه في مختلف المصادر الاسلامية ، وهو انّ تحقّق وصيرورة الحوادث المختلفة للعالم لها مرحلتين : الاولى المرحلة القطعيّة او الثابتة ، ولا سبيل للتغيير فيها (والتي

__________________

(١) ولتطابق هذا المعنى يجب ان يكون هناك تقديم وتأخير في الجملة أعلاه ، ويقال في تقديره لكل كتاب اجل كما قاله بعض المفسّرين.

٤٣٢

اشارت إليها الآية أعلاه بأمّ الكتاب) والاخرى المرحلة المتغيّرة او بعبارة اخرى «المشروطة» والتي يجد التغيير سبيلا إليها ، وقد عبّر عنها بالمحو والإثبات.

وأحيانا يقال عن المرحلتين : «اللوح المحفوظ» و «لوح المحو والإثبات» كأنّ ما كتب في اللوح الاوّل محفوظ لا يتغيّر ، امّا الثّاني فمن الممكن محو ما كتب فيه وتغييره.

وامّا حقيقة الأمر فإنّنا ـ أحيانا ـ ننظر الى الحوادث بأسباب وعلل ناقصة ، فمثلا إذا أخذنا بنظر الاعتبار السّمّ الذي بمقتضى طبعه يؤدّي الى قتل الإنسان وكلّ من يتناوله سوف يموت ، بدون علم مسبق انّ لهذا السّمّ ترياق آخر ضدّه لو شربناه بعده سوف يبطل مفعول الاوّل (وقد نكون على علم به لكن لا نريد ان نتحدّث لسبب او لآخر عن الترياق) لاحظوا هنا انّ هذه الحادثة (الموت بسبب استعمال السّمّ) ليس لها جانب قطعي ، وببيان آخر انّ مكانها في (لوح المحو والإثبات) ويجد التغيير سبيلا اليه بالنظر الى الأسباب الاخرى المرتبطة به.

ولكن لو نظرنا الى الحادثة من خلال العلّة التامّة لها ، يعني توفّر الشروط اللازمة وازالة الموانع (استعمال السّمّ بدون استعمال الترياق) تكون الحادثة هنا قطعيّة وببيان آخر : انّ مكانها في [اللوح المحفوظ وامّ الكتاب] ولا سبيل للتغيير فيها.

ويمكن ان نوضّح هذا الحديث بشكل آخر ، وهو : انّ للعلم الالهي مرحلتين (علم بالمقتضيات والعلل الناقصّة) و (علم بالعلل التامّة) فما ارتبط بالمرحلة الثانية نعبّر عنها ب (امّ الكتاب واللوح المحفوظ) وما ارتبط بالمرحلة الاولى نعبّر عنها ب (لوح المحو والإثبات) والّا فليس اللوح موضوعا في زاوية من السّماء حتى يكتبوا او يمحوا فيه شيئا ويثبتوا بدله شيئا آخر.

ومن هنا تتضح الاجابة على كثير من الاسئلة في ضوء ما ورد في المصادر الاصليّة في الإسلام ، لانّنا نقرا مرّة في الرّوايات او بعض الآيات القرآنية ، انّ

٤٣٣

العمل الفلاني له الأثر الكذائي ، لكنّنا في بعض الأحيان لا نرى هذه النتيجة ، وذلك بسبب انّ تحقّق تلك النتيجة يعتمد على شرائط او موانع لم تتحقّق.

وهناك روايات كثيرة في باب (اللوح المحفوظ) و (لوح المحو والإثبات) وعلم الأنبياء والائمّةعليهم‌السلام ، وعلى سبيل المثال نذكر قسما منها :

١ ـ اخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليعليه‌السلام انّه سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الآية فقال له : «لاقرنّ عينيك بتفسيرها ولاقرّنّ عين امّتي بعدي بتفسيرها ، الصدقة على وجهها ، وبرّ الوالدين ، واصطناع المعروف ، يحول الشقاء سعادة ويزيد فيالعمر ويقي مصارع السّوء»(١) .

وهذه اشارة الى انّ الشقاء والسّعادة ليست أمورا حتمية ، حتّى إذا ارتكب الإنسان إثما وعدّ من الأشقياء فإنّ باستطاعته ان يغيّر من سلوكه ويتّجه صوب الخير ، وخصوصا مساعدة وخدمة عباد الله ، لانّ هذه الأمور مكانها في (لوح المحو والإثبات) لا (امّ الكتاب).

ويجب الالتفات الى انّ ما جاء في هذا الحديث يبيّن قسما من مفهوم الآية.

٢ ـ عن الفضيل بن يسار قال : سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول : «من الأمور امور محتومة كائنة لا محالة ، ومن الأمور امور موقوفة عند الله يقدّم فيها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء(٢) .

وعن الامام علي بن الحسينعليه‌السلام قال : «لولا آية في كتاب الله لحدّثتكم بما كان وما يكون الى يوم القيامة ، فقلت له : ايّة آية؟ فقال : قال الله( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (٣) .

وهذا الحديث دليل على انّ اللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات بكلّ

__________________

(١) تفسير الميزان ، المجلّد ١١ ، ص ٤١٩.

(٢) المصدر السّابق.

(٣) نور الثقلين ، ج ٢ ، صفحة ٥١٢.

٤٣٤

خصوصياتها مختصّة بالله جلّ وعلا ، وهناك قسم منها يعلم بها الخواص من عباده إذا اقتضت الضرورة.

ونقرا في ادعية ليالي شهر رمضان المبارك : «وان كنت من الأشقياء فاكتبني عندك من السعداء».

وعلى ايّة حال فالمحو والإثبات بهذا الشكل الذي قلناه له معنى جامع يشمل كلّ تغيير في الحال بسبب تغيير الشروط وحدوث الموانع ، وامّا ما قاله بعض المفسّرين من انّ هذه الجملة اشارة الى مسألة محو الذنوب بسبب التوبة ، او زيادة ونقصان الرزق على اثر تغيير الشروط ، ليس صحيحا ، الّا إذا اعتبروها واحدا من مصاديقها.

٢ ـ ما هو البداء؟

«البداء» احد البحوث العويصة بين الشيعة والسنّة.

يقول الرازي في تفسيره الكبير في ذيل الآية ـ محلّ البحث ـ : «يعتقد الشيعة انّ البداء جائز على الله ، وحقيقة البداء عندهم انّ الشخص يعتقد بشيء ثمّ يظهر له خلاف ذلك الاعتقاد ، ولاثبات ذلك يتمسكون بالآية( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) ثمّ يضيف الرازي : انّ هذه العقيدة باطلة ، لانّ علم الله من لوازم ذاته ، ومحال التغيير والتبديل فيه».

وممّا يؤسف له حقّا عدم المعرفة بعقيدة الشيعة في مسألة البداء ادّت الى ان ينسب كثيرون تهما غير صحيحة الى الشيعة الاماميّة.

ولتوضيح ذلك نقول : «البداء» في اللغة بمعنى الظهور والوضوح الكامل ، وله معنى آخر هو الندم ، لانّ الشخص النادم قد ظهرت له ـ حتما ـ امور جديدة.

لا شكّ ، انّ هذا المعنى الأخير بالنسبة الى الله تعالى مستحيل ، ولا يمكن لاي

٤٣٥

عاقل وعارف ان يحتمل انّ هناك أمورا خافية على الله ثمّ تظهر له بمرور الايّام ، فهذا القول هو الكفر بعينه ، ولازمه نسبة الجهل وعدم المعرفة الى ذاته المقدّسة ، وانّ ذاته محلّا للتغيير والحوادث.

وحاشا للشيعة الاماميّة ان يحتملوا ذلك بالنسبة لذات الله المقدّسة! انّ ما يعتقده الشيعة من معنى البداء ويصرّون عليه ، هو طبقا لما جاء في روايات اهل البيتعليهم‌السلام : ما عرف الله حقّ معرفته من لم يعرفه بالبداء.

كثيرا ما يكون ـ وطبقا لظواهر العلل والأسباب ـ ان نشعر انّ حادثة ما سوف تقع او انّ وقوع مثل هذه الحادثة قد اخبر عنه النّبي ، في الوقت الذي نرى انّ هذه الحادثة لم تقع ، فنقول حينها : انّ «البداء» قد حصل ، وهذا يعني انّ الذي كنّا نراه بحسب الظاهر سوف يقع واعتقدنا تحقّقه بشكل قاطع قد ظهر خلافه.

والأصل في هذا المعنى هو ما قلناه في بحثنا السابق ، وهو انّ معرفتنا مرّة تكون فقط بالعلل الناقصة ، ولا نرى الشروط والموانع ونقضي طبقا لذلك ، ولكن بعد ان نواجه فقدان الشرط او وجود المانع ويتحقّق خلاف ما كنّا نتوقّعه سوف ننتبه الى هذه المسائل. وكذلك قد يعلم النّبي او الامام بأمور مكتوبة في لوح المحو والإثبات القابل للتغيير طبعا ، فقد لا تتحقّق أحيانا لمواجهتها بالموانع وفقدان الشروط.

ولكي تتّضح هذه الحقيقة لا بدّ من مقايسة بين «النسخ» و «البداء» : نحن نعلم انّ النسخ جائز عند جميع المسلمين ، يعني من الممكن ان ينزل حكم في الشريعة فيتصوّر الناس انّ هذا الحكم دائمي ، لكي بعد مدّة يعلن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تغيير هذا الحكم وينسخه ، ويحلّ محلّه حكما آخر (كما قرانا في حادثة تغيير القبلة).

انّ هذا في الحقيقة نوع من «البداء» ولكن في القضايا التشريعيّة والقوانين والأحكام يسمّونه بـ «النسخ» وفي الأمور التكوينيّة يسمّى بـ «البداء» ويقال

٤٣٦

أحيانا : (النسخ في الأحكام نوع من البداء ، والبداء في الأمور التكوينيّة نوع من النسخ).

فهل يستطيع احد ان ينكر هذا الأمر المنطقي؟ الّا إذا كان لا يفرّق بين العلّة التامّة والعلل الناقصة ، او كان واقعا تحت تأثير الدعايات المغرضة ضدّ شيعة اهل البيتعليهم‌السلام ، ولا يجيز له تعصّبه الأعمى ان يطالع عقائد الشيعة من نفس كتبهم ، والعجيب انّ الرازي قد ذكر مسألة «البداء» عند الشيعة في ذيل الآية( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) بدون ان يلتفت الى انّ البداء ليس اكثر من المحو والإثبات ، وهجم على الشيعة بعصبيته المعروفة واستنكر عليهم قولهم بالبداء.

اسمحوا لنا هنا ان نذكر امثلة مقبولة عند الجميع :

١ ـ نقرا في قصّة «يونس» انّ عدم طاعة قومه ادّت الى ان ينزل العذاب الالهي عليهم ، وقد تركهم النّبي لعدم هدايتهم واستحقاقهم العذاب ، لكن فجأة وقع البداء حيث راى احد علمائهم آثار العذاب ، فجمعهم ودعاهم الى التوبة ، فقبل الجميع ورفع العذاب( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) (١) .

٢ ـ وجاء في التأريخ الاسلامي انّ السيّد المسيحعليه‌السلام اخبر عن عروس انّها سوف تموت في ليلة زفافها ، لكنّها بقيت سالمة! وعند ما سألوه عن الحادثة قال : هل تصدّقتم في هذا اليوم؟ قالوا : نعم. قال : الصدقة تدفع البلاء المبرم(٢) !.

لقد اخبر السيّد المسيحعليه‌السلام عن هذه الحادثة بسبب ارتباطه بلوح المحو والإثبات ، في الوقت الذي كانت هذه الحادثة مشروطة (مشروطة بأن لا يكون هناك مانع مثل الصدقة) وبما انّها واجهت المانع أصبحت النتيجة شيئا آخر.

٣ ـ ونقرا في قصّة ابراهيمعليه‌السلام ـ محطّم الأصنام ـ في القرآن الكريم انّه امر

__________________

(١) يونس ، ٩٨.

(٢) بحار الأنوار الطبعة القديمة المجلّد الثّاني صفحة ١٣١ ـ عن امالي الصدوق.

٤٣٧

بذبح إسماعيل ، وذهب بابنه الى المذبح وتلّه للجبين ، فعند ما اظهر إسماعيل استعداده للذبح ظهر البداء الالهي وظهر انّ هذا الأمر امتحان لكي يرى الله تعالى مستوى الطاعة والتسليم عند ابراهيمعليه‌السلام .

٤ ـ ونقرا في سيرة موسىعليه‌السلام انّه امر ان يترك قومه اوّلا ثلاثين يوما ويذهب الى مكان الوعد الالهي لاستلام احكام التوراة ، لكن المدّة زادت عليها عشرة ايّام اخرى (وذلك امتحانا لبني إسرائيل).

هنا يأتي هذا السؤال : ما هي الفائدة من هذه البداءات؟

الجواب على هذا السؤال ليس صعبا بالنظر الى ما قلناه سابقا ، لانّه تحدث مسائل مهمّة ـ أحيانا ـ مثل امتحان شخص مع قومه ، او تأثير التوبة والرجوع الى الله (كما في قصّة يونس) او تأثير الصدقة ومساعدة المحتاجين وعمل الخير ، كلّ ذلك يؤدّي الى دفع الحوادث المفجعة وأمثالها ، وهذا يعني انّ الحوادث المستقبلية قد نظّمت بشكل خاص ثمّ تغيّرت الشرائط فأصبحت شيئا آخر ، حتّى يعلم الناس انّ مصيرهم بأيديهم ، وهم قادرون ان يغيّروا مصيرهم من خلال تغيير سيرتهم وسلوكهم ، وهذه اكبر فائدة نلمسها من البداء «فتدبّر».

فما ورد من انّ أحدا إذا لم يعرف الله بالبداء لم يعرفه معرفة كاملة ، فهي اشارة لتلك الحقائق.

عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «ما بعث اللهعزوجل نبيّا حتّى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبودية ، وخلع الأنداد ، وانّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء»(١) .

وفي الحقيقة انّ اوّل عهد مرتبط بالطاعة والتسليم لله. وثاني عهد محاربة الشرك ، والثّالث مرتبط بمسألة البداء ، ونتيجته انّ مصيره بيده ، فيستطيع ان يغيّر الشروط فيشمله اللطف او العذاب الالهي.

الملاحظة الاخيرة في هذا المجال يقول علماء الشيعة : انّنا حينما ننسب

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلّد الاوّل ، صفحة ١١٤ ـ سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، صفحة ٦١.

٤٣٨

البداء الى الله جلّ وعلا فإنّه يكون بمعنى «الإبداء» بمعنى اظهار الشيء الذي لم يكن ظاهرا لنا من قبل ولم يكن متوقّعا.

وانّ ما ينسب الى الشيعة بأنّهم يعتقدون انّ الله يندم على عمله أحيانا ، او يخبر عن شيء لم يعلمه سابقا ، فهذه من اكبر التّهم ولا يمكن الصفح عنها ابدا.

لذلك نقل عن الائمّةعليهم‌السلام انّهم قالوا : «من زعم ان اللهعزوجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرءوا منه»(١) .

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، صفحة ٦١.

٤٣٩

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣) )

التّفسير

البشرية فانية ووجه الله باق :

بما انّ الآيات السابقة كانت تتحدّث مع منكري رسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد تابعت هذه الآيات كذلك نفس البحث. والهدف هو دعوتهم الى التفكّر ، ثمّ الإصلاح عن طريق الإنذار والاستدلال وغيرها.

يقول تعالى اوّلا :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ) من الواضح انّ المقصود من الأرض هنا هم اهل الأرض ، يعني انّ هؤلاء لا ينظرون الى هذا الواقع من انّ الأقوام والحضارات والحكومات في حال الزوال والابادة ،

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572