الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287665 / تحميل: 5228
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الأقوام الذين كانوا اكثر منهم قوّة وآثارا قد ألحدوا تحت الثرى حتّى العلماء والعظماء ـ الذين هم قوام الأرض ـ التحقوا بالرفيق الأعلى.

فهل انّ هذا القانون العامّ للحياة الذي يسري على جميع الافراد وكلّ المجتمع البشري صغيره وكبيره ، غير كاف لايقاظهم وتفهيمهم انّ هذه الايّام القلائل للحياة ليست ابدية؟!

ثمّ يضيف :( وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) ولذلك فإنّ قانون الفناء مكتوب على جبين كلّ الافراد والأمم من جهة ، ومن جهة اخرى لا يستطيع احد ان يغيّر هذا الحكم ولا الأحكام الاخرى ، ومن جهة ثالثة انّ حساب العباد سريع جدّا ، وبهذا الترتيب يكون جزاؤه قاطعا.

وقد جاءت في روايات متعدّدة في تفسير «البرهان» و «نور الثقلين» وسائر منابع الحديث ، انّ تفسير الآية أعلاه هو «فقدان العلماء» لانّ فقدهم نقصان الأرض ونقص المجتمع الانساني.

ونقل المفسّر الكبير الطبرسي عن الامام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية قال : «ننقصها بذهاب علمائها وفقهائها وخيارها»(١) .

ونقرا في حديث آخر انّ «عبد الله بن عمر» تلا هذه الآية حين استشهد امير المؤمنين عليعليه‌السلام ( أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ) .

ثمّ قال : «يا امير المؤمنين ، لقد كنت الطرف الأكبر في العلم ، اليوم نقص علم الإسلام ومضى ركن الايمان».

انّ للآية ـ بدون شكّ ـ معنى واسعا كما قلنا ، وهي تشمل كلّ نقص في ذهاب الافراد والمجتمع واهل الأرض ، وإنذار لكلّ الناس ، الصالح منهم والطالح ، حتّى العلماء الذين يشكّلون اركان المجتمع البشري يكون موت أحدهم أحيانا نقصانا للدنيا ، فهذا إنذار بليغ وساطع.

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد الثّاني ، صفحة ٣٠١.

٤٤١

وامّا ما احتمله بعض المفسّرين من انّ المقصود بالنقصان هو نقض ارض الكفّار واضافتها الى ارض المسلمين ، فلا نراه صحيحا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار انّ السورة مكّية ، لانّ الفتوحات في ذلك الوقت لم تكن موجودة حتّى يراها الكفّار او يشير إليها القرآن الكريم.

وامّا ما قاله بعض المفسّرين الذين غرقوا في العلوم الطبيعيّة ، من انّ الآية أعلاه تشير الى نقص الأرض من ناحية القطبين واستواؤها في خطّ الاستواء ، فهذا كذلك نراه بعيدا عن الواقع ، لانّ القرآن الكريم ليس في مقام الاشارة الى ذلك.

ثمّ يستمرّ البحث في الآية الثانية ويقول : ليست هذه الفئة فقط نهضت بمكرها ومحاربتها لك ، بل( وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) . لكن خططهم كشفت ، وأجهضت مؤامرتهم بأمر من الله ، لانّه اعلم الموجودات بهذه المسائل( فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً ) ذاك هو العالم بكلّ شيء و( يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ) . ثمّ يحذرهم بصيغة التهديد من عاقبة عملهم ويقول :( وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ) .

الآية الاخيرة من هذا البحث (كما بدأت هذه السورة بكتاب الله والقرآن) تنهي سورة الرعد في التأكيد اكثر على معجزة القرآن يقول تعالى :( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً ) .

فهم يصطنعون كلّ يوم عذرا ، ويطلبون في كلّ وقت المعاجز ، ثمّ آخر الأمر يقولون : لست بنبي! قل في جوابهم( قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) فالله سبحانه وتعالى يعلم بأنّي رسوله ، وكذلك هؤلاء لهم المعرفة الكافية بأنّ القرآن هو كتاب سماوي ، فهم يعلمون جيّدا انّ هذا الكتاب ليس من صنع البشر ، ولا يمكن نزوله الّا من قبل الله.

وهذا تأكيد جديد على اعجاز القرآن بمختلف جوانبه وقد ذكرنا ذلك في أماكن اخرى.

٤٤٢

وبناء على ما قلناه أعلاه فإنّ المقصود ب( مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) هم العالمون بمحتوى القرآن الكريم.

واحتمل بعض المفسّرين انّها تشير الى علماء اهل الكتاب الذين قرءوا علائم نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتبهم السّماوية ، ومن جهة حبّهم ومعرفتهم آمنوا به.

لكن التّفسير الاوّل نراه اقرب الى الصحّة.

وقد ذكرت كثير من الرّوايات انّ المقصود ب( مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) هو علي بن أبي طالبعليه‌السلام وائمّة الهدى ، وهذه الرّوايات جمعت في تفسير نور الثقلين والبرهان.

وهذه الرّوايات غير دالّة على الحصر ، وكما قلنا مرارا فإنّها تشير الى مصداق او مصاديق تامّة وكاملة ، وعلى ايّة حال فالتّفسير الاوّل الذي ذكرناه يؤيّد ذلك.

ومن المناسب ان ننهي حديثنا هنا بهذه الرّواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عن أبي سعيد الخدري قال : سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله جلّ ثناؤه :( قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ) قال : «ذاك وصي اخي سليمان بن داود» فقلت له : يا رسول الله :( قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) قال : «ذاك علي بن أبي طالب»(١) .

اللهمّ افتح لنا أبواب رحمتك وألهمنا من علم الكتاب.

ربّنا أنر قلوبنا بمعرفة القرآن واحبس افكارنا على الحاجة إليك حتّى لا نتوجّه لغيرك في مسائلنا ، انّك موضع الحاجات.

* * *

__________________

(١) الميزان ، المجلّد ١١ ، الصفحة ٤٢٧.

٤٤٣
٤٤٤

سورة ابراهيم

مكّيّة

وعدد آياتها اثنان وخمسون آية

٤٤٥
٤٤٦

سورة ابراهيم

تحتوي على (٥٢) آية ، السورة مكّية باستثناء الآيات (٢٨) و (٢٩) طبقا لما قاله كثير من المفسّرين انّها نزلت بالمدينة في قتلى المشركين في بدر.

محتوى السورة

المعلوم من اسم السورة انّ قسما منها نازل بشأن بطل التوحيد ومحطّم الأصنام سيّدنا ابراهيمعليه‌السلام (قسم من ادعيته).

والقسم الآخر من هذه السورة يشير الى تاريخ الأنبياء السابقين أمثال نوح وموسى ، وقوم عاد وثمود ، وما تحتوي من دروس وعبر فيها.

وتكمل هذه المجموعة من البحوث في السورة آيات الموعظة والنصيحة والبشارة والإنذار.

كما نقرا في اغلب السور المكّية انّ قسما كبيرا منها ايضا يبحث مواضيع «المبدإ» و «المعاد» والتي تعمّق الايمان في قلب الإنسان وفي روحه ونفسه ثمّ في قوله وفعله ، فيظهر له نور آخر في مسيرة الحقّ والدعوة الى الله.

وخلاصة هذه السورة انّها تبيّن عقائد ونصائح ومواعظ سيرة الأقوام الماضية ، والهدف من رسالة الأنبياء ونزول الكتب السّماوية.

٤٤٧

فضيلة السورة

روي عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرا سورة ابراهيم والحجر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وبعدد من لم يعبدها»(١) .

وكما أسلفنا مرارا فإنّ ما ورد من الثواب حول قراءة السور القرآنية يلازمه التفكّر ومن ثمّ العمل ، ولمّا كانت هذه السورة وسورة الحجر تبحثان موضوع التوحيد والشرك وأصولهما وفروعهما ، فإنّ من البديهي انّ العمل بمضمونهما له نفس الفضيلة ، أي انّهما تصيغان الإنسان بصياغتهما حتّى توصلاه الى مثل هذا الثواب.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ونور الثقلين ، في بداية السورة.

٤٤٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) )

التّفسير

الخروج من الظّلمات الى النّور!

شرعت هذه السورة ـ كبعض السور القرآنية الاخرى ـ بالحروف المقطّعة ، التي ذكرنا تفسيرها في بداية سورة البقرة وآل عمران ، والنقطة التي يجب ملاحظتها هنا انّ من بين ٢٩ موردا لسور القرآن التي ابتدأت بالحروف المقطّعة هناك ٢٤ مورد ذكر بعدها مباشرة القرآن الكريم ، والتي تبيّن انّ هناك علاقة بين

٤٤٩

الاثنين ، اي بين الحروف المقطّعة والقرآن ، ولعلّ هذه العلاقة هي نفسها التي ذكرناها في بداية سورة البقرة ، فالله سبحانه وتعالى يريد ان يوضّح من خلال هذا البيان انّ هذا الكتاب السّماوي العظيم المتعهّد لقيادة الانسانيّة يتكوّن من مواد بسيطة تسمّى بحروف الالفباء ، وهذه تشير الى اهميّة هذا الاعجاز ، حيث يوجد اصدق بيان من ابسط بيان.

وعلى ايّة حال فبعد ذكر الحروف (الف لام راء) يقول تعالى :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) .

في الواقع انّ جميع الاهداف التربوية والانسانية ، المعنوية والمادية من نزول القرآن قد جمعت في هذه الجملة (الخروج من الظّلمات الى النّور) اي الخروج من ظلام الجهل الى نور المعرفة ، ومن ظلام الكفر الى نور الايمان ، من ظلم الظالمين الى نور العدالة ، ومن الفساد الى الصلاح ، ومن الذنوب الى الطهارة والتقوى ، ومن التفرقة والنفاق الى نور الوحدة.

ومن الطريف انّ «الظّلمات» هنا (كما في بعض السور الاخرى) جاءت بصيغة الجمع و «النّور» بصيغة المفرد ، وهذه اشارة الى انّ كلّ الحسنات والطيّبات والايمان والتقوى لها حالة واحدة في ظلّ التوحيد ونوره ، فهي مترابطة ومتّحدة فيما بينها ، فتصنع مجتمعا واحدا متّحدا وطاهرا من كلّ جهة.

بينما الظّلمات تعني التشتّت وتفرقة الصفوف ، وحتّى الطواغيت والمذنبين والمفسدين والمنحرفين في مسيرتهم الانحرافية نراهم غير متوحّدين غالبا ، وفي حالة حرب فيما بينهم.

ومن هنا لمّا كان مصدر كلّ الخير هي الذات الالهيّة المقدّسة ، والشرط الأساس لدرك التوحيد هو الالتفات الى هذه الحقيقة ، فإنّه يضيف بلا فاصلة( بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) .

٤٥٠

ولكي يبيّن اكثر ما هو النّور يقول تعالى :( إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (١) فعزّته دالّة على قدرته ، لانّه لا يستطيع احد ان يغلبه ، والحميد دالّة على نعمه ومواهبه غير المتناهية ، لانّ الحمد والثناء دائما تكون في مقابل النعم والمواهب.

الآية الثانية ولكي تعرّف الله بصفاته ، تبيّن درسا من دروس التوحيد حيث تقول :( اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) (٢) فله كلّ شيء ، لانّه خالق جميع الموجودات ، ولهذا السبب هو القادر والعزيز وواهب النعم والحميد.

ثمّ يتطرّق في نهاية الآية الى مسألة المعاد (بعد ان ذكر المبدإ) فتقول الآية :( وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ ) .

ثمّ يعرّف القرآن الكريم الكفّار في الآية الاخرى ، ويذكر لهم ثلاث صفات كيما نستطيع ان نعرّفهم من اوّل وهلة ، يقول تعالى اوّلا :( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ) (٣) فهم يضحّون بالايمان والحقّ والعدالة والشرف التي هي من خصائص محبّي الآخرة ، من اجل منافعهم الشخصيّة وشهواتهم.

ثمّ يبيّن تعالى انّ هؤلاء غير قانعين بهذا المقدار من الضلال ، بل يسعون في ان يضلّوا الآخرين( وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) فهم في الواقع يوجدون الموانع المختلفة في طريق الفطرة الالهيّة فيزيّنون الهوى ، ويدعون الناس الى الذنوب ، ويخوّفونهم من الصدق والإخلاص.

ولا يقتصر عملهم على ذلك فحسب ، بل( وَيَبْغُونَها عِوَجاً ) ثمّ يحاولون ان يصبغوا الآخرين بصبغتهم ، ويسعون في ان يحرفوا السبيل للوصول الى هدفهم من خلال نشر الخرافات وابتداع السنن الخبيثة( أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) .

__________________

(١) «الى صراط الله» في الواقع بدل من «الى النّور» فالمقصود من الهداية الى النّور هو الهداية الى صراط العزيز الحميد ، و «كتاب أنزلناه» خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هذا كتاب أنزلناه.

(٢) (الله) : بالكسر لانّه بدل من( الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) .

(٣) يقول الراغب في مفرداته : استحبّ الكفر على الايمان ، والاستحباب هو سعي الإنسان لان يحبّ شيئا ، وإذا ما تعدّى ب (على) فسوف يصرف عنه المعنى المتقدّم كما في( أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) .

٤٥١

وهذا الضلال قد أوجد بعد المسافة بينهم وبين الحقّ فكان من العسير جدّا عودتهم الى طريق الحقّ ، ولكن ذلك كان نتيجة لاعمالهم.

* * *

ملاحظات

١ ـ مثل الإيمان وطريق الله مثل النّور

بالنظر الى انّ النّور الطف الموجودات الماديّة في العالم ، وسرعة مسيره أعلى سرعة ، وبركته من اكبر البركات ، ويمكن ان يقال انّه اصل لكلّ المواهب والبركات ، فإنّه يتّضح الى اي مدى يشتمل النّور على معنى كبير بحيث انّ القرآن شبّه الايمان والسير في طريق الله بالنّور.

والنّور اصل التجمّع بينما الظلمة عامل للتفرّق ، النّور علامة الحياة والظلمة علامة الموت.

ولهذا السبب شبّه القرآن الكريم كثيرا من الأمور القيّمة بالنّور ، ومن جملتها العمل الصالح( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ) (١) .

وكذلك الايمان والتوحيد ، قال تعالى :( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) (٢) .

وقد شبّه القرآن الكريم بالنّور في قوله تعالى :( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (٣) .

وكذلك الذين( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ) .(٤)

__________________

(١) الحديد ، ١٢.

(٢) البقرة ، ٢٥٧.

(٣) الأعراف ، ١٥٧.

(٤) التوبة ، ٣٢.

٤٥٢

بل اكثر من ذلك عبّر عن ذاته المقدّسة التي هي أفضل واسمى ما في الوجود بالنّور( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .(١)

ومع انّ كلّ هذه الأمور تعود الى تلك الحقيقة ، لانّها من الله ، ومن الايمان به ، فإنّها وردت بصيغة المفرد ، وعلى عكس الظّلمات التي هي عامل التشتّت لذلك وردت بصيغة الجمع التي تبيّن الكثرة والتعدّد.

وبما انّ الايمان بالله والسير في طريقه باعث على الحركة وموجبا لليقظة ، وعامل للاجتماع والوحدة ، ووسيلة للتقدّم والكمال ، فإنّ هذا التشبيه على كلّ حال اكثر محتوى ودلالة تربوية.

٢ ـ التعبير بـ «لتخرج» في الآية الاولى تشير الى نقطتين :

الاولى : بما انّ القرآن الكريم كتاب هداية ونجاة للبشر ، لكنّه بحاجة الى من يطبقه ويجريه ، فيجب ان يكون هناك قائد كالرّسول لكي يستطيع ان يخرج الضالّين عن الحقيقة من ظلمات الشقاء وهدايتهم الى نور السعادة ، ولهذا فالقرآن الكريم بعظمته لا يمكن له ان يحلّ جميع المشاكل بدون وجود القائد والمنفّذ لهذه الأحكام.

الثانية : انّ صيغة الإخراج في الواقع دليل على التحرّك المشفوع بالتغيّر والتحوّل ، وكأنّ غير المؤمنين موجودون في محيط مغلق ومظلم ، والرّسول ـ او القائد ـ يأخذ بأيديهم ويدخلهم الى جوّ واسع ومنير.

٣ ـ الملفت للنظر انّ بداية هذه السورة شرعت بمسألة هداية الناس من الظّلمات الى النّور ، ونهايتها ختمت بمسألة إبلاغ وإنذار الناس ، وهذه توضّح انّ الهدف الاصلي في كلّ الأحوال هو الناس ومصيرهم وهدايتهم ، فإنزال الكتب السّماوية وبعث الأنبياء في الواقع هو للوصول الى هذا الهدف.

* * *

__________________

(١) النّور ، ٣٥.

٤٥٣

الآيات

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) )

التّفسير

الايّام الحسّاسة في الحياة :

كان الحديث في الآيات السابقة عن القرآن الكريم وآثاره الروحية ، وتتابع

٤٥٤

الآية الاولى من هذه المجموعة نفس الموضوع ، لكن في بعد خاص وهو انّ دعوة الأنبياء وكتبهم السّماوية نزلت بلسان اوّل قوم بعثوا إليهم. يقول تعالى :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ) .

لانّ الأنبياء يرتبطون في الدرجة الاولى مع قومهم ، واوّل نور الوحي يشعّ من بينهم ، واوّل الصحابة والأنصار ينتخبون منهم ، لذلك فإنّ الرّسول يجب ان يحدّثهم بلغتهم وبلسانهم( لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) .

وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة تشير الى انّ دعوة الأنبياء لا تنعكس في قلوب اتباعهم بأسلوب مرموز وغير معروف ، بل كانت توضّح لهم من خلال التبيين والتعليم والتربية وبلسانهم الرائج.

ثمّ يضيف القرآن الكريم بعد ان بيّن لهم الدعوة الالهيّة( فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) فليست الهداية والضلال من عمل الأنبياء ، بل عملهم الإبلاغ والتبيين ، الله سبحانه وتعالى هو الموجّه والهادي الحقيقي لعباده.

ولكي لا يتصوّر احد انّ هذا القول بمعنى الجبر وسلب الحريّات ، فيضيف القرآن مباشرة( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) وبمقتضى عزّته وقدرته فإنّه قادر على كلّ شيء ، ولا احد له قدرة على المقاومة في مقابل ارادته تعالى ، ولكن بمقتضى حكمته لا يهدي ولا يضلّ أحدا بدون سبب ودليل ، بل الخطوة الاولى تبدا من قبل العباد وبكامل الحرية في السير الى الله ، ثمّ يشعّ نور الهداية وفيض الحقّ في قلوبهم ، كما في سورة العنكبوت الآية (٦٩)( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) .

وكذلك حال الذين تاهوا في وادي الضلالة وحرموا من فيض الهداية ، فهو نتيجة لتعصّبهم الأعمى ومحاربتهم للحقّ ، وغرقهم في الشّهوات ، وتلوّثهم بالظلم والجور. كما يقول تعالى :( كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ) ،(١) ويقول

__________________

(١) غافر ، ٣٤.

٤٥٥

ايضا :( وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) ،(١) وقوله تعالى :( وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ) (٢) .

وعلى هذا النحو فإنّ محور الهداية والضلال في ايدي الناس أنفسهم.

تشير الآية الأخرى الى واحدة من نماذج إرسال الأنبياء في مقابل طواغيت عصرهم ، ليخرجوهم من الظّلمات الى النّور :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) (٣) .

وكما قرانا في الآية الاولى من هذه السورة فإنّ خلاصة دعوة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي إخراج الناس من الظّلمات الى النّور ، فهذه دعوة كلّ الأنبياء ، بل جميع القادة الروحيين للبشر ، فهل الظلم غير الضلال والانحراف والذلّ والعبوديّة والفساد والظلم؟! وهل النّور غير الايمان والتقوى والحرية والاستقلال والعزّة والشرف؟! لذلك فإنّها تمثّل الخطّ المشترك والجامع بين كلّ دعوات القادة الإلهيين.

ثمّ يشير القرآن الكريم الى واحدة من اكبر مسئوليات موسىعليه‌السلام حيث يقول تعالى :( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ ) .

من المتيقّن انّ كلّ الايّام هي ايّام الله ، كما انّ كلّ الأماكن متعلّقة بالله جلّ وعلا ، وإذا كانت هناك نقطة خاصّة تسمّى (بيت الله) فذلك بدليل ميزاتها ، كذلك ايّام الله تشير الى ايّام مميّزة لها خصائص منقطعة النظير.

ولهذا السبب اختلف المفسّرون في تفسيرها : قال البعض : انّها تشير الى ايّام النصر للأنبياء السابقين وأممهم والايّام التي شملتهم النعم الالهيّة فيها على اثر استحقاقهم لها.

وقال البعض الآخر : انّها تشير الى العذاب الالهي الذي شمل الأقوام الطاغين

__________________

(١) البقرة ، ٢٦.

(٢) ابراهيم ، ٢٧.

(٣) المعجزات التي ظهرت من موسى بن عمران اشارت إليها الآية أعلاه بلفظ الآيات ، وهي ٩ معاجز مهمّة طبقا للآية (١٠١) من سورة الاسراء ، والتي سوف تأتي ان شاء الله في تفسير تلك الآية.

٤٥٦

والعاصين لأمر الله.

وقال آخرون : انّها تشير الى المعنيين السابقين معا.

لكنّنا ـ حقّا ـ لا نستطيع ان نجعل هذه العبارة البليغة والواضحة محدودة ، فأيّام الله هي جميع الايّام العظيمة في تاريخ الانسانيّة. فكلّ يوم سطعت فيه الأوامر الالهيّة وجعلت بقيّة الأمور تابعة لها ، هي من ايّام الله ، وكلّ يوم يفتح فيه فصل جديد من حياة الناس فيه درس وعبرة ، او ظهور نبي فيه ، او سقوط جبّار وفرعون ـ او كلّ طاغ ـ ومحوه من الوجود. خلاصة القول : كلّ يوم يعمل فيه بالحقّ والعدالة ويقع في الظلم وتطفأ فيه بدعة ، هو من ايّام الله.

وكما سوف نرى انّ روايات الائمّةعليهم‌السلام في تفسير هذه الآية تشير الى هذه الايّام الحسّاسة.

وفي آخر الآية يقول تعالى :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) .

«صبّار» و «شكور» صيغة مبالغة فأحدهما تشير الى شدّة الصبر ، والاخرى الى زيادة الشكر ، وتعني انّ المؤمنين كما لا يستسلمون للحوادث والمشاكل التي تصيبهم في حياتهم ، كذلك لا يغترّون ولا يغفلون في ايّام النصر والنعم ، وذكر هاتين الصفتين بعد الاشارة الى ايّام الله دليل على ما قلناه.

تشير الآية الاخرى الى احد هذه الايّام التي كانت ساطعة ومثمرة في تاريخ بني إسرائيل ، وذكرها تذكرة للمسلمين حيث يقول تعالى :( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) هؤلاء الفراعنة الذين كانوا( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) .

اي يوم اكثر بركة من ذلك اليوم حيث أزال الله عنكم فيه شرّ المتكبّرين والمستعمرين ، الذين كانوا يرتكبون أفظع الجرائم بحقّكم ، واي جريمة أعظم من ذبح أبنائكم كالحيوانات (انتبه الى انّ القرآن عبّر بالذبح لا بالقتل) واهمّ من ذلك

٤٥٧

فإنّ نواميسكم كانت خدما في ايدي الطامعين.

وليس هذا المورد خاصّ ببني إسرائيل ، بل في جميع الأمم والأقوام. فإنّ يوم الوصول الى الاستقلال والحرية وقطع ايدي الطواغيت يوم من ايّام الله الذي يجب ان نتذكّره دوما حتّى لا نعود الى ما كنّا عليه في الايّام الماضية.

«يسومونكم» من مادّة (سوم) على وزن (صوم) بمعنى البحث عن الشيء ، وتأتي بمعنى فرض عمل على الآخرين(١) ، ولهذا فإنّ معنى جملة يسومونكم سوء العذاب : انّ أولئك كانوا يفرضون عليكم اسوا الأعمال وأكثرها تعذيبا. وهل انّ تجميد وابادة الكتلة الفعّالة في المجتمع واستخدام نسائهم واذلالهنّ على يد فئة ظالمة وطاغية يعتبر امرا هيّنا؟! ثمّ انّ التعبير بفعل المضارع «يسومون» اشارة الى انّ هذا العمل كان مستمرّا لمدّة طويلة.

وجملة( يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ ) معطوفة على «سُوءَ الْعَذابِ » وفي عين الوقت هي من مصاديق سوء العذاب ، وذلك بسبب اهميّة هذين العذابين ، وهذا توضيح انّ فرعون وقومه الظالمين فرضوا على بني إسرائيل احكاما جائرة اخرى ، الّا انّ هذين العذابين كانا اشدّ وأصعب.

ثمّ يضيف القرآن الكريم( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) (٢) يمكن ان تكون هذه الآية من كلام موسى لبني إسرائيل التي دعاهم فيها الى الشكر في مقابل ذلك النجاة والنصر والنعم الكثيرة ، ووعدهم بزيادة النعم ، وفي حالة كفرهم هدّدهم بالعذاب ، ويمكن ان تكون جملة مستقلّة وخطابا للمسلمين ، ولكن على ايّة حال فالنتيجة واحدة ، لانّه حتّى إذا كان الخطاب موجّها لبني إسرائيل وروده في القرآن الكريم ليكون درسا بنّاء لنا.

__________________

(١) راجع المفردات للراغب ، وتفسير المنار ، [المجلّد الاوّل ، ص ٣٠٨] وتفسير الرازي [المجلّد السابع ، ص ٧].

(٢) «تأذّن» من باب «تفعّل» بمعنى الاعلام للتأكيد ، لانّ مادة افعال من (إيذان) بمعنى أعلام ، ولمّا يصبح من باب تفعّل يستفاد منه الاضافة والتأكيد.

٤٥٨

ومن الطريف انّه في حالة الشكر يقول بصراحة( لَأَزِيدَنَّكُمْ ) امّا في حالة كفران النعم فلا يقول (اعذّبكم) بل يقول :( إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) وهذا التفاوت دليل على سموّ اللطف الالهي.

* * *

بحوث

١ ـ التذكّر لايام الله

كما قلنا في تفسير الآية أعلاه ، فإنّ اضافة «ايّام» الى «الله» اشارة الى الايّام المصيرية والمهمّة في حياة الناس ، فإنّها بسبب عظمتها أضيفت إليها كلمة «الله» ، وكذلك لانّ واحدة من النعم الالهيّة الكبيرة شملت حال قوم او امّة ، او احدى العقوبات الكبرى أصابت قوما طاغين بالعذاب الالهي ، وقد أراد الله تعالى ان يجعل هذه الايّام تذكرة باقية للناس.

الرّوايات الواردة من اهل البيتعليهم‌السلام تشير انّهم فسّروا «ايّام الله» بأيّام مختلفة ، فعن الامام الباقرعليه‌السلام قال «ايّام الله ، يوم يقوم القائمعليه‌السلام ويوم الكرّة(١) ، ويوم القيامة»(٢) .

وجاء في تفسير علي بن ابراهيم «ايّام الله ثلاثة ايّام ، يوم قيام المهديعليه‌السلام ويوم الموت ، ويوم القيامة».

وعن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال «ايّام الله نعماؤه وبلاؤه ببلائه سبحانه»(٣) .

وكما قلنا سابقا فإنّ مثل هذه الأحاديث غير دالّة على الحصر إطلاقا ، بل هي بيان لقسم من مصاديقها.

__________________

(١) يوم الكرّة ـ اي يوم الرجعة.

(٢) نور الثقلين ، ج ٢ ، ٥٢٦.

(٣) المصدر السّابق.

٤٥٩

وعلى ايّة حال فتذكر الايّام العظيمة (من ايّام النصر او من ايّام الشدّة) له دور مؤثّر في يقظة الشعوب ، وبالإلهام من هذا النداء السّماوي سوف نحيي الايّام العظيمة في التاريخ الاسلامي ، ونخصّص لها ايّاما معيّنة في السنة لتجديد ذكراها ، لكي نتعلّم منها الدروس التي لها اثر مهمّ في يومنا هذا.

وفي تاريخنا المعاصر ـ خصوصا في تأريخ الثورة الاسلامية في ايران ـ توجد ايّام مثيرة جدّا والتي هي بحقّ مصداق لـ «ايّام الله» ويجب ان نذكرها في كلّ سنة ، وهي التي امتزجت بذكرى الشهداء ، المقاتلين ، المجاهدين الكبار ، ومن ثمّ نستلهم منها ونحفظ ميراثهم الكبير.

وعلى هذا الأساس يجب ان ندخل هذه الايّام العظام ضمن برامج الكتب الدراسيّة في مدارسنا ، وضمن التعليم والتربية لأبنائنا ، ولكي نعلم مسئوليتنا «وذكّرهم» في مقابل الأجيال القادمة.

لقد أشار القرآن الكريم مرارا الى «ايّام الله» فنسبها لبني إسرائيل مرّة ، واخرى للمسلمين ، وذكّرهم بأيّام النعم والعذاب.

٢ ـ طريقة الجبّارين في التعامل

نقرا مرارا في آيات القرآن الكريم انّ الفراعنة كانوا يذبحون أبناء بني إسرائيل ويحتفظون بنسائهم ، وهذا العمل لا يقتصر على فرعون ، بل كان على طول التاريخ طريقة كلّ المستعمرين حيث كانوا يبيدون قسما من القوى الفاعلة والمقاومة ، ويضعفون قسما آخر منها ويستخدمونها في منافعهم الخاصّة ، وبدون هذا العمل لا يمكنهم الاستمرار في استعمارهم.

والمهمّ يجب ان نعلم انّهم كانوا يذبحون الأبناء مباشرة مرّة (كالفراعنة) وأحيانا يبيدوهم بالادمان على المخدّرات والمشروبات الكحولية ، وإغراقهم في دوّاهة الفحشاء لذلك يجب ان ينتبه المسلمون الى هذه المسألة ، فإذا سلك

٤٦٠

جيل الشباب هذه المسالك المهلكة وفقد سلاح الايمان ومقدرته الجسدية ، فيجب ان يعلم عبوديته للأجانب حتمية.

3 ـ الحرية من أفضل النعم

من الطريف انّ الآية أعلاه بعد ان ذكرت «ايّام الله» اشارت بصراحة الى يوم واحد منها ، وهو يوم نجاة بني إسرائيل من قبضة الفراعنة( إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) انّ تاريخ بني إسرائيل مليء بالايّام العظيمة التي وهبهم الله فيها النعم الكبيرة تحت ظلّ هداية موسى ، ولكن ذكر (يوم النجاة) في الآية أعلاه دليل على اهميّة الحرية والاستقلال في مصير الأمم.

نعم لا تستطيع اي امّة ان تظهر نبوغها واستعدادها الّا من خلال قطع التبعية للاجنبي والتحرّر من قبضة الاستعمار واسره. ولا يمكن ان ترفع قدما في سبيل الله الّا من خلال محاربة الشرك والظلم.

ولهذا السبب كان العمل الاوّل للقادة الإلهيين هو تحرير الشعوب من التبعيّة الفكرية والثقافية والسياسيّة والاقتصادية ، ثمّ العمل في إيجاد البرامج التوحيديّة والانسانيّة لهم.

4 ـ الشكر سبب لزيادة النعم والكفر سبب للفناء

ممّا لا شكّ فيه انّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة الى شكرنا في مقابل نعمه علينا ، وإذا أمرنا بالشكر فذاك لنستوجب نعمة اخرى وهي واحدة من المبادئ السامية في التربية.

المهمّ ان نعرف ما هي حقيقة الشكر؟ لكي يتّضح علاقته في زيادة النعمة من اين؟ وكيف تستطيع ان تكون عاملا مهمّا للتربية؟

انّ حقيقة الشكر ليس فقط ما يقوله الإنسان (الحمد لله) او الشكر اللفظي ، بل

٤٦١

هناك ثلاث مراحل للشكر :

الاولى : يجب ان نعلم من هو الواهب للنعم؟ هذا العلم والايمان الركن الاوّل للشكر.

والثّانية : الشكر باللسان.

والثّالثة : وهي الاهمّ الشكر العملي ، اي ان نعلم الهدف من منحنا للنعمة ، وفي ايّ مورد نصرفها ، والّا كفرنا بها ، كما قال العظماء : (الشكر صرف العبد جميع ما أنعمه الله تعالى فيما خلق لأجله).

لماذا أعطانا الله تعالى العين؟ ولماذا وهبنا السمع والنطق؟ فهل كان السبب غير ان نرى عظمته في هذا العالم ، ونتعرّف على الحياة؟

وبهذه الوسائل نخطو الى التكامل ، ندرك الحقّ وندافع عنه ونحارب الباطل ، فإذا صرفنا النعم الالهيّة في هذا المسير كان ذلك هو الشكر العملي له ، وإذا أصبحت هذه الأدوات وسيلة للطغيان والغرور والغفلة والابتعاد عن الله فهذا هو عين الكفران!

يروى عن الامام الصادقعليه‌السلام انّه قال : «ادنى الشكر رؤية النعمة من الله من غير علّة يتعلّق القلب بها دون الله ، والرضا بما أعطاه ، وانّ لا تعصيه بنعمة وتخالفه بشيء من امره ونهيه بسبب من نعمته»(1) .

وهنا يتّضح انّ شكر العلم والمعرفة والفكر والمال والسلامة ، كلّ واحد منها من اي طريق يتمّ؟ وكيف يكون كفرانها؟

الحديث الوارد عن الامام الصادقعليه‌السلام دليل واضح على هذه التّفسيرات حيث يقول : «شكر النعمة اجتناب المحارم»(2) .

وتتّضح ايضا هذه العلاقة بين الشكر وزيادة النعمة ، لانّ الناس لو صرفوا

__________________

(1) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، 710.

(2) نور الثقلين ، ج 2 ، 529.

٤٦٢

النعم الالهيّة في هدفها الحقيقي ، فسوف يثبتون عمليّا استحقاقهم لها وتكون سببا في زيادة الفيوضات الالهيّة عليهم.

من الثابت انّ هناك نوعين من الشكر ، (شكر تكويني) و (شكر تشريعي).

«الشكر التكويني» هو ان يستفيد الكائن الحي من مواهبه في نموّه ورشده ، فمثلا يرى المزارع انّ القسم الفلاني من مزرعته تنمو فيه الأشجار بشكل جيد ، وكلّما يخدمها اكثر تنتج اكثر ، فهذا الأمر سوف يؤدّي الى ان يقوم المزارع على خدمة وتربية ذلك القسم بشكل اكبر ، ويوصي مساعديه بها ، لانّ الأشجار تناديه بلسان حالها : ايّها المزارع ، نحن لائقون مناسبون ، افض علينا من النعم ، وهو يجيبهم بالاثبات.

امّا إذا راى في قسم آخر أشجارا ذابلة ويابسة وليس لها ثمر ، فكفران النعمة من قبلها بهذه الصورة يسبّب عدم اعتناء المزارع بها ، وإذا استمرّ الوضع بهذا الحال سوف يقوم بقلعها.

وهذه الحالة موجودة في عالم الانسانيّة بهذا التفاوت ، وهو انّ الأشجار ليس لها الاختيار ، بل هي خاضعة للقوانين التكوينيّة ، امّا الإنسان فباستفادته في ارادته واختياره وتربيته التشريعيّة يستطيع ان يخطو في هذا المجال خطوات واثقة.

ولذلك فمن يستخدم نعمة القوّة في الظلم ، ينادي بلسان حاله : الهي ، انا غير لائق لهذه النعمة ، ومن يستخدمها لاقامة الحقّ والعدالة يقول بلسان حاله : الهي ، انا مناسب ولائق فزد نعمتك عليّ!

وهناك حقيقة غير قابلة ـ ايضا ـ للترديد ، وهي انّنا في كلّ مرحلة من مراحل الشكر الالهي ـ ان كان باللسان او العمل ـ سوف نحتاج الى شكر جديد لمواهب وعطايا جديدة ، ولذلك فلسنا قادرين ان نؤدّي حقّ الشكر ، كما نقرا في مناجاة الشاكرين للإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام : «كيف لي بتحصيل

٤٦٣

الشكر وشكري ايّاك يفتقر الى شكر ، فكلّما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك ان أقول لك الحمد»!

ولهذا فإنّ أعلى مراحل الشكر ان يظهر الإنسان عجزه امام شكر نعمائه تعالى ، كما

جاء في الحديث عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «فيما اوحى اللهعزوجل الى موسى : اشكرني حقّ شكري ، فقال : يا ربّ ، وكيف أشكرك حقّ شكرك ، وليس من شكر أشكرك به الّا وأنت أنعمت به عليّ؟ قال : يا موسى ، الآن شكرتني حين علمت انّ ذلك مني»(1) .

هناك عدّة نقاط في مجال شكر النعمة :

1 ـ قال الامام عليعليه‌السلام في احدى حكمه : «إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلّة الشكر»(2) .

2 ـ يجب الالتفات الى هذا الموضوع ، وهو انّ الشكر والحمد ليس كافيا في مقابل نعمائه تعالى ، بل يجب ان نشكر ـ كذلك ـ الأشخاص الذين كانوا وسيلة لهذه المواهب ونؤدّي حقوقهم من هذا الطريق ، ونشوّقهم اكثر بالخدمة في هذا السبيل ، كما نقرا في الحديث عن الامام علي بن الحسينعليه‌السلام قال : «وانّ الله يحبّ كلّ قلب حزين ويحبّ كلّ عبد شكور ، يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة : أشكرت فلانا؟ فيقول : بل شكرتك يا ربّ ، فيقول : لم تشكرني إذ لم تشكره ، ثمّ قال : أشكركم لله أشكركم للناس»(3) .

3 ـ انّ الوعد في زيادة نعم الشاكرين لا ينحصر في النعم المادية فقط ، بل الشكر نفسه مصحوبا بالتوجّه الخاص لله والحبّ لساحته المقدّسة هو واحد من النعم الالهيّة الروحيّة الكبيرة ، والتي لها تأثير كبير في تربية نفوس الناس ،

__________________

(1) اصول الكافي ، المجلّد الرابع ، صفحة 80 باب الشكر.

(2) نهج البلاغة الكلمات القصار ، رقم 13.

(3) اصول الكافي ، الجزء الثّاني ـ ص 99 ـ ح 30.

٤٦٤

ودعوتهم لطاعة الأوامر الالهيّة ، بل الشكر ذاته طريق الى معرفة الله ، ولهذا السبب ورد عن علماء العقائد في علم الكلام انّ وجوب شكر المنعم طريق الى اثبات وجوب معرفة الله.

4 ـ انّ احياء روح الشكر في المجتمع وتقديمه الى مستحقّيه وتقديرهم وحمدهم وثنائهم على خدمتهم في طريق تحقيق الاهداف الاجتماعية بعلمهم ومعرفتهم وإيثارهم واستشهادهم ، هو عامل مهمّ في حركة ورقيّ المجتمع.

ففي المجتمع الفاقد للشكر والتقدير نجد القليل جدّا ممّن يريد الخدمة ، وعلى العكس فالمجتمع الذي يقيّم ويثني على خدمات الأشخاص ، يكون اكثر نشاطا وحيوية.

والالتفات الى هذه الحقيقة ادّى الى ان تقام في عصرنا مراسيم احتفال لتقدير وشكر الأساطين في الذكرى المئوية ، او الذكرى الالفية ، وضمن هذا الشكر لخدماتهم يدعى الناس الى الحركة والسعي بشكل اكبر.

احياء هذه الذكريات يساعد على ترشيد الإيثار والتفاني لدى الآخرين ، فيرتفع المستوى الثقافي والاخلاقي لدى الناس ، وبتعبير القرآن فإنّ شكر هذه النعمة سوف يبعث على الزيادة ، ومن دم شهيد واحد يبعث آلاف المجاهدين ، ويكون مصداقا حيّا ل( لَأَزِيدَنَّكُمْ ) .

* * *

٤٦٥

الآيات

( وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) )

التّفسير

أفي الله شكّ؟

الآية الاولى من هذه المجموعة تؤيّد وتكمل البحث السابق في الشكر

٤٦٦

والكفران ، وذلك ضمن الكلام الذي نقل عن لسان موسىعليه‌السلام ( وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (1) .

انّ الشكر والايمان بالله ـ في الواقع ـ سبب في زيادة النعم والتكامل الانساني ، والّا فاللهعزوجل ليس بحاجة الى اي شيء ، ولو كفرت جميع الكائنات ولم تحمده لا تمسّ كبرياءه بأدنى ضرر ، لانّه حميد في ذاته.

ولو كان محتاجا لم يكن واجب الوجود ، وعلى هذا فمفهوم الغني هو اشتماله لجميع الكمالات ، وإذا كان كذلك فهو محمود في ذاته ، لانّ «الحميد» من استحقّ الحمد.

ثمّ يشرح مصير الفئات من الأقوام السابقة ضمن عدّة آيات ، الفئات التي كفرت بأنعم الله وخالفت الدعوة الالهيّة ، وهي تأكيد للآية السابقة يقول تعالى :( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) .

يمكن ان تكون هذه الجملة تعقيبا على كلام موسى ، او بيان مستقلّ يخاطب به المسلمين ، لكن النتيجة غير متفاوتة كثيرا ، ثمّ يضيف تعالى :( قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) فهؤلاء لم يطّلع على اخبارهم الّا الله( لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ ) (2) .

ممّا لا شكّ فيه انّ قسما من اخبار قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم قد وصلتنا ، ولكن لم يصلنا القسم الأكبر منها ولا يعلمها الّا الله ، فتاريخ الأقوام الماضية مليء بالاسرار والخصوصيّات بحيث لم يصل إلينا منها الّا القليل. ولكي يوضّح القرآن الكريم مصيرهم يقول :( جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ) اي وضعوا أيديهم على أفواههم من التعجّب والإنكار( وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا

__________________

(1) «إِنْ تَكْفُرُوا » جملة شرطيّة تقديرها محذوف ، وجملة «انّ الله لغني حميد» تدلّ على ذلك وكان التقدير «ان تكفروا لا تضرّوا الله شيئا».

(2) جملة( لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ ) قد تكون معطوفة على ما قبلها والواو محذوفة ، وقد تكون جملة وصفية للجملة السابقة.

٤٦٧

بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ) . لماذا؟ بسبب( وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) . ومعه كيف يمكننا ان نؤمن بما تدعونا اليه؟

ويرد هنا سؤال ، وهو انّهم أظهروا الكفر وعدم الايمان بالرّسول في البداية ، ولكن بعد ذلك أظهروا الشكّ والريب ، فكيف ينطبق الاثنان؟

الجواب : انّ بيان الشكّ والترديد ـ في الحقيقة ـ علّة لعدم الايمان ، لانّ الايمان بحاجة الى اليقين ، والشكّ مانع لذلك.

وبما انّ الآية السابقة بيّنت قول المشركين والكفّار في عدم ايمانهم بسبب شكّهم وترديدهم ، فالآية بعدها تنفي هذا الشكّ من خلال دليل واضح وعبارة قصيرة حيث يقول تعالى :( قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

مع انّ «فاطر» من «فطر» وهي في الأصل بمعنى «شقّ» الّا انّه هنا كناية عن «الخلق» فالخالق هو الموجد للأشياء على أساس نظام دقيق ثمّ يحفظها ويحميها ، كأنّ ظلمة العدم شقّت بنور الوجود ، وكما يطلع الفجر من عتمة الليل ، وكما يتشقّق التمر من غلافه.

ولعلّ «فاطر» تشير الى تشقّق المادّة الاوّلية للعالم. كما نقرأ في العلوم الحديثة انّ مجموع مادّة العالم كانت واحدة مترابطة ثمّ انشقّت الى كراة مختلفة.

وعلى ايّة حال ، فالقرآن الكريم هنا ـ كما في اغلب الموارد الاخرى ـ يستند لاثبات وجود الخالق وصفاته الى نظام الوجود وخلق السّماوات والأرض ، ونحن نعلم انّه ليس هناك أوضح من هذا الدليل لمعرفة الله ، لانّ هذا النظام العجيب مليء بالاسرار في كلّ زواياه ، وينادي بلسان حاله : ليس هناك من له القدرة على هذه الهندسة الّا القادر الحكيم والعالم المطلق ، ولهذا السبب فكلّما تقدّمت العلوم ظهرت اسرار تدلّ على الخالق اكثر من السابق وتقرّبنا من الله في كلّ لحظة.

وما اكثر العجائب في القرآن؟ فكلّ بحوث معرفة الله والتوحيد ـ والتي

٤٦٨

وردت بصيغة الاستفهام الانكاري ـ اشارت إليها هذه العبارة :( أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) وهذه العبارة إذا أردنا تجزئتها وتحليلها بشكل موسّع لا تكفيها آلاف الكتب.

انّ مطالعتنا لاسرار الوجود ونظام الخلقة لا تهدينا الى وجود الله فحسب ، بل الى صفاته الكمالية ايضا كعلمه وقدرته وحكمته.

ثمّ يجيب القرآن الكريم على ثاني اعتراض للمخالفين ، وهو اعتراضهم على مسألة الرسالة (لانّ شكّهم كان في الله وفي دعوة الرّسول) ويقول انّ من المسلّم انّ الله القادر والحكيم لا يترك عباده بدون قائد ، بل انّه بإرسال الرسل :( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) (1) .

وزيادة على ذلك فإنّه( وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) كيما تسلكوا سبيل التكامل وتستفيدوا من موهبة الحياة بأقصى ما يمكنكم.

انّ غاية دعوة الأنبياء أمران : أحدهما غفران الذنوب ، بمعنى تطهير الروح والجسم والمحيط الانساني ، والثّاني استمرار الحياة الى الوقت المعلوم ، والاثنان علّة ومعلول ، فالمجتمع الذي يستمرّ في وجوده هو المجتمع النقي من الظلم والذنوب.

ففي طول التاريخ أبيدت مجتمعات كثيرة بسبب الظلم والذنوب واتّباع الهوى ، وبتعبير القرآن لم يصلوا( إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) .

روي في حديث جامع عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «من يموت بالذّنوب اكثر ممّن يموت بالآجال ، ومن يعيش بالإحسان اكثر ممّن يعيش بالأعمال»(2) .

__________________

(1) هناك جدل بين المفسّرين في معنى «من» ، فقال بعضهم بالتبعيض ، اي يغفر قسما من ذنوبكم ، وهذا الاحتمال ضعيف لانّ الايمان يؤدّي الى غفران الذنوب كلّها (الإسلام يجب ما قبله) واحتمل البعض الآخر انّ «من» بدل ، فيكون معنى الجملة يدعوكم ليغفر ذنوبكم بدل الايمان ، وقال آخرون : انّ «من» هنا زائدة للتأكيد ، ومعناه : انّ الله تعالى يدعوكم للايمان ليغفر لكم ذنوبكم ، وهذا التّفسير نراه اقرب الى الصحّة.

(2) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، ص 488.

٤٦٩

وعن الامام الصادق ايضا : «انّ الرجل يذنب فيحرم صلاة الليل ، وانّ العمل السيء اسرع في صاحبه من السكّين في اللحم»(1) .

ونستفيد من هذه الآية ـ ضمنيا ـ انّ الايمان بدعوة الأنبياء والعمل بأحكامها يأخذ طابع الأجل المعلّق ، وتستمرّ حياة الإنسان الى «اجل مسمّى» (لانّنا نعلم انّ للإنسان نوعين من الآجال ، اجل محتوم ويكون بانتهاء الحياة في جسم الإنسان ، وأجل معلّق ويكون بفناء الإنسان على اثر عوامل وموانع في وسط العمر ، وهذا غالبا ما يكون بسبب اللامبالاة وارتكاب الذنوب ، وقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآية (2) من سورة الانعام).

ومع كلّ ذلك لم يقبل الكفّار المعاندون دعوة الحقّ المصحوبة بوضوح منطق التوحيد ، ومن خلال بيانهم المشوب بالعناد وعدم التسليم كانوا يجيبون الأنبياء بهذا القول :( قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) علاوة على ذلك( تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ) واكثر من ذلك( فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) .

وقد ذكرنا مرارا (كما صرّح القرآن بذلك) انّ كون الأنبياء بشرا ليس مانعا لنبوّتهم ، بل هو مكمّل لها ، ولكن أولئك الأقوام يوردون هذه الحجّة دليلا لانكار الرسالة ، والهدف ـ غالبا ـ هو التبرير والعناد.

وكذلك الحال في الاستنان بسنّة الأجداد ، فإنّها وبالنظر الى هذه الحقيقة وهي انّ معرفة الأجيال القادمة اكثر من الماضين ، لا تعدو سوى خرافة وجهل.

ويتّضح من هنا انّ طلبهم لم يكن لاقامة البرهان الواضح ، بل لهروبهم من الحقيقة ، لانّ القرآن الكريم ـ كما قرانا مرارا ـ انّ هؤلاء المعاندين أنكروا الآيات الواضحة والدلائل البيّنة ، وكانوا يقترحون في كلّ مرّة معجزة ودليلا للتهرّب من الأمر الواقع.

وعلى كلّ حال نقرا في الآيات القادمة كيف أجابهم الأنبياء.

* * *

__________________

(1) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، ص 488.

٤٧٠

الآيتان

( قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) )

التّفسير

التوكّل على الله وحده :

نقرا في هاتين الآيتين جواب الرسل على حجج المخالفين المعاندين ، واعتراضهم على بشرية الرسل ، فكان جوابهم :( قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) يعني لو افترضنا انّ الله تعالى أرسل لكم ملائكة بدل البشر ، فهي لا تمتلك شيئا لذاتها ، فكلّ المواهب ومن جملتها موهبة الرسالة والقيادة هي من عند الله ، فالذي يستطيع ان يهب الملائكة هذا المقام قادر ان يعطيها للإنسان.

وبديهي انّ هذه المنح من قبل الله ليست بدون حساب ، وقد قلنا مرارا : انّ

٤٧١

المشيئة الالهيّة تساير حكمته تعالى ، فعند ما نسمع قول القائل : «انّ الله إذا أراد بعبد خيرا ...» يكون المراد العبد المستعدّ لهذه الموهبة. ومن المعلوم انّ مقام الرسالة موهبة الهيّة ، ونحن نرى انّ الأنبياء بالاضافة الى الرسالة الالهيّة لهم استعداد واهلية لتحمّلها.

ثمّ يجيب على السؤال الثّالث دون ان يجيب على الثاني ، وكأنّ الاعتراض الثّاني الذي هو الاستنان بسنّة الأجداد ليس له اي اهميّة وفارغ من المحتوى بحيث انّ ايّ انسان عاقل ـ بأقلّ تأمّل ـ يفهم جوابه ، بالاضافة الى انّ القرآن الكريم قد أجاب عنه في آيات أخر.

وجواب السؤال الثّالث هو انّ عملنا ليس الإتيان بالمعاجز ، فنحن لا نجلس في مكان ونلبّي لكم المعاجز الاقتراحية وكلّ ما سوّلت لكم أنفسكم ، بل( ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ومع ذلك فإنّ كلّ نبي كان يظهر لقومه المعاجز بمقدار كاف بدون ان يطلبها الناس منه ، وذلك لكي يثبت الأنبياء احقّيتهم ولتكون المعاجز سندا لصدقهم ، مع انّ مطالعة دعوتهم وحدها اكبر اعجاز لهم ، ولكن المعترضين غالبا لم يصغوا لذلك ، وهم يقترحون كلّ يوم شيئا جديدا ، فإن لم يستجب لهم الرّسول ، يقيموا الدنيا ويقعدوها. ولكي يردّ الرسل على تهديداتهم المختلفة يقولون :( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

وبعد ذلك استدلّ الأنبياء على مسألة التوكّل حيث قالوا :( وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا ) فالذي منحنا أفضل المواهب ، يعني موهبة الهداية الى طرق السعادة ، سوف يقوم بحمايتنا في مقابل اي هجوم او مشكلة تعترضنا.

ثمّ أضافوا : انّ ملاذنا هو الله ، ملاذ لا يقهر وهو فوق كلّ شيء :( وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا ) وأخيرا انهوا كلامهم بهذه الجملة :( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) .

* * *

٤٧٢

ملاحظات

1 ـ ما هو معنى التوكّل؟

قرانا في الآية الاولى( فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) وفي الآية الثانية( فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) وكأنّ الجملة الثانية تشير الى مرحلة أوسع واعمّ من الجملة الاولى ، يعني انّ توكّل المؤمنون ممّا لا شكّ فيه ـ لانّ الايمان بالله غير منفصل عن الايمان بقدرته وحمايته والتوكّل عليه ـ بل حتّى غير المؤمنين ملجأهم الى الله ولا يجدون سبيلا غيره ، لانّ غيره فاقد للأشياء ، وكلّ ما في الوجود ملك لذاته المقدّسة ، ولذلك يجب ان يجعلوه وليّا لهم ، ويطلبوا منه ان يهديهم توكّلهم هذا للايمان بالله.

2 ـ المعاجز بيد الله تعالى

أجابت الآيات أعلاه ـ بشكل واضح ـ الأشخاص الذين كانوا ينكرون اعجاز الرسل. او ينكرون معاجز رسول الإسلام غير القرآن ، وتعلّمنا هذه الآيات انّ الرسل لم يقولوا ابدا : نحن لا نأتي بالمعاجز ، بل انّ الأوامر الالهيّة كانت تمنعهم من ذلك ، لانّ الاعجاز بيده وفي اختياره ، وكلّ ما يراه مصلحة يأمرنا به.

3 ـ ما هي حقيقة وفلسفة التوكّل؟

«التوكّل» في الأصل من «الوكالة» وكما قال الراغب : التوكيل ان تعتمد على غيرك وتجعله نائبا عنك. ونحن نعلم انّ الوكيل الصالح له اربع خصال رئيسيّة : العلم الكافي ، والامانة ، والقدرة ، والمبالغة في رعاية مصلحة موكّله. فانتخاب الوكيل المحامي يتمّ في الأعمال التي لا يستطيع الإنسان نفسه ان يدافع عنها ، فيستفيد من مساعدة قوّة الآخرين في حلّ مشاكله.

وعلى ذلك فالتوكّل على الله يتمّ في حالة عدم استطاعة الإنسان من حلّ

٤٧٣

المشاكل الحياتية وفي مقابل الأعداء وإصرار المخالفين ، وأحيانا في الطرق المسدودة التي تواجهه في مسيرة اهدافه. ولذلك فهو يستند الى الله جلّ وعلا ويستمر في سعيه ، بل حتّى لو كان مستطيعا في أداء اعماله ، فيجب ان يعلم انّ الله هو المؤثّر الاصلي ، لانّ الله تعالى في نظر المؤمن هو منبع لكلّ القدرات.

والنقطة التي تقابل التوكّل على الله هي التوكّل على غيره ، يعني الاتّكالية في الحياة والتبعية للآخرين ، وعدم الاستقلاليّة ، يقول علماء الأخلاق : التوكّل الثمرة المباشرة لتوحيد افعال الله ، لانّه ـ وكما قلنا ـ من وجهة نظر المؤمن يرتبط كلّ ما في الكون بالنهاية بذات الله المقدّسة ، ولذلك فالموحّد يرى انّ جميع اسباب القدرة والنصر من عند الله.

فلسفة التوكّل

نستفيد ممّا ذكرناه انّه :

اوّلا : انّ الإنسان سوف تزداد مقاومته للمشاكل الصعبة لتوكّله على الله الذي هو منبع جميع القدرات والاستطاعات.

ولهذا السبب فعند ما انهزم المسلمون في «احد» يقول تعالى :( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) .(1)

وهناك نماذج اخرى للمقاومة والثبات في ظلّ التوكّل ، ومن جملتها الآية 122 من آل عمران يقول تعالى :( إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

وفي الآية (12) من سورة ابراهيم يقول تعالى :( وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا ) .

__________________

(1) آل عمران ، 173.

٤٧٤

وفي الآية (159) آل عمران( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) .

وكذلك يقول القرآن الكريم :( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .(1)

نستفيد من مجموع هذه الآيات انّ القصد من التوكّل ان لا يحسّ الإنسان بالضعف في مقابل المشكلات العظيمة ، بل بتوكّله على قدرة الله المطلقة يرى نفسه فاتحا ومنتصرا ، وبهذا الترتيب فالتوكّل عامل من عوامل القوّة واستمداد الطاقة وسبب في زيادة المقاومة والثبات. وإذا كان التوكّل يعني الجلوس في زاوية ووضع احدى اليدين على الاخرى ، فلا معنى لأن يذكره القرآن بالنسبة للمجاهدين وأمثالهم.

وإذا اعتقد البعض انّ التوكّل لا ينسجم مع التوجه الى العلل والأسباب والعوامل الطبيعيّة ، فهو في خطأ كبير ، لانّ فصل العوامل الطبيعيّة عن الارادة الالهيّة يعتبر شركا بالله ، او ليست هذه العوامل تسير بأوامر ومشيئة الله؟

نعم إذا اعتقدنا انّ العوامل مستقلّة عن ارادته فهي لا تتناسب مع روح التوكّل. فهل من الصحيح ان نفسّر التوكّل بهذا التّفسير ، مع انّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو راس المتوكّلين لم يغفل من استخدام الخطط الصحيحة والاستفادة من الفرص المتاحة وانواع الوسائل والأسباب الظاهرية لتحقيق اهدافه ، انّ هذا يثبت انّ التوكّل ليس له مفهوم سلبي.

ثانيا : انّ التوكّل ينجّي الإنسان من التبعية التي هي اصل الذلّ والعبودية ، ويمنحه الحرية والاعتماد على النفس.

«التوكّل» و «القناعة» لهما جذور مشتركة ، وفلسفتهما متشابهة ، وفي نفس الوقت متفاوتة ، ولا بأس هنا ان نذكر عدّة روايات في مجال التوكّل وأصله

__________________

(1) النحل ، 99.

٤٧٥

وجذوره : عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «انّ الغنا والعزّ يجولان ، فإذا ظفرا بموضع التوكّل أوطنا»(1) وقد عرّف الامام التوكّل بأنّه موطن العزّة وعدم الحاجة للآخرين.

وعن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : سألت جبرئيل : ما هو التوكّل؟ قال : (العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، واستعمال اليأس من الخلق فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله ولم يطمع في احد سوى الله فهذا هو التوكّل)(2) .

وسئل الامام الرضاعليه‌السلام : ما حدّ التوكّل؟ فقال : «ان لا تخاف مع الله أحدا»(3) .

* * *

__________________

(1) اصول الكافي ، المجلّد الثّاني ، باب التفويض الى الله والتوكّل عليه حديث ـ 3.

(2) بحار الأنوار ، ج 15 القسم الثّاني في الأخلاق ، ص 14 الطبعة القديمة.

(3) سفينة البحار ، المجلد الثّاني ، ص 682.

٤٧٦

الآيات

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) )

التّفسير

خطط الجبّارين المعاندين ومصيرهم!

عند ما يعلم الظالمون بضعف منطقهم وعقيدتهم ، يتركون الاستدلال ، ويلجأون الى القوّة والعنف ، ونقرا هنا انّ الأقوام الكافرة العنيدة عند ما سمعوا منطق الأنبياء المتين والواضح قالوا لرسلهم :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) وكأنّ هؤلاء القوم يعتبرون جميع ما

٤٧٧

في الأرض ملكهم ، حتّى انّهم لم يمنحوا لرسلهم حقوق المواطنة ، ولذلك يقولون «أرضنا». وفي الحقيقة فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق الأرض وكلّ مواهبها للصالحين ، وهؤلاء الجبابرة في الواقع ليس لهم اي حقّ فيها.

وقد يتوهّم البعض انّ جملة( لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) اشارة الى انّ الأنبياء السابقين كانوا من أنصار عبادة الأصنام ، مع انّ الحقيقة ليست كذلك ، لانّهم ـ وبصرف النظر عن كونهم معصومين حتّى قبل نبوّتهم ـ فعقلهم ودرايتهم كان اكبر من ان يفعلوا هذا العمل غير الحكيم ، فيسجدوا امام الأحجار والأخشاب.

ويمكن ان يكون هذا التعبير بسبب انّ الأنبياء قبل بعثهم لم يؤمروا بالتبليغ ، فسكوتهم أوجد هذا الوهم بأنّهم من المشركين.

بالاضافة الى انّ الخطاب وان كان موجّها للرسل ، الّا انّه في الواقع يشمل حتّى الاصحاب ، ونعلم انّهم كانوا مع المشركين من قبل ، فنظر المشركين كان منصرفا الى الاصحاب فقط ، وتعبير «لتعودنّ» من باب التغليب (يعني حكم الاكثرية يسري على العموم).

وهناك جواب آخر لهذا الوهم وهو انّ «عود» إذا عدّيت بـ «الى» يكون معناها الرجوع ، وإذا عديت بـ «في» فتفيد تغيير الحال لذلك فمعنى الآية( لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) يكون مفهومها ان تغيّروا من حالكم وتدخلوا في ملّتنا ، وقد اختار هذا المعنى العلّامة الطباطبائي في الميزان ، ولكن عند مراجعتنا لبعض الآيات ومنها( كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها ) تبيّن ان «عود» حتّى لو عدّيت بـ «في» فمعناها الرجوع ايضا (فتدبّر).

ثمّ يضيف القرآن الكريم لتسلية قلوب الأنبياء( فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ) فلا تخافوا من وعيدهم ، ولا تظهروا الضعف في ارادتكم.

وبما انّ الظالمين كانوا يهدّدون الأنبياء بالتبعيد عن أرضهم ، فإنّ الله في مقابل ذلك كان يعد الأنبياء( وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) ولكن هذا النصر

٤٧٨

والتوفيق لا يناله الّا( ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ ) فلطفه ومنّه ليس بدون حساب ودليل ، ولا يناله الّا من احسّ بمسؤوليته في مقابل العدل الالهي ، لا الظالمين والمعاندين لطريق الحقّ.

وحين انقطعت الأسباب بالأنبياء من كلّ جانب ، وادّوا جميع وظائفهم في قومهم ، فآمن منهم من آمن ، وبقي على الكفر من بقي ، وبلغ ظلم الظالمين مداه ، في هذه الأثناء طلبوا النصر من الله تعالى( وَاسْتَفْتَحُوا ) وقد استجاب اللهعزوجل دعاء المجاهدين المخلصين( وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) .

«خاب» من الخيبة بمعنى فقدان المطلوب.

و «جبّار» بمعنى المتكبّر هنا ، ورد في الحديث انّ امراة جاءت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمرها بشيء ، فلم تطعه فقال النّبي : دعوها فإنّها جبّارة(1) .

وتطلق هذه الكلمة أحيانا على الله جلّ وعلا فتعطي معنى آخر ، وهو (جبر وإصلاح من هو بحاجة الى الإصلاح) او بمعنى (المتسلّط على كلّ شيء)(2) .

و «العنيد» في الأصل من «العند» على وزن (رند) بمعنى الاتّجاه ، وجاءت هنا بمعنى الانحراف عن طريق الحقّ.

ولذلك نقرا في رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «كلّ جبّار عنيد من ابى ان يقول لا اله الّا الله».(3)

وعن الامام الباقرعليه‌السلام قال : «العنيد المعرض عن الحقّ».(4)

ومن الطريف انّ «جبّار» تشير الى صفة نفسانية بمعنى روح العصيان ، و «عنيد» تشير الى آثار تلك الصفة في افعال الإنسان حيث تصرفه عن طريق الحقّ. ثمّ يبيّن نتيجة عمل الجبّارين في الآخرة ضمن آيتين في خمسة مواضع :

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ذيل الآية.

(2) للتوضيح اكثر راجع تفسير الآية (43) من سورة المائدة من تفسيرنا هذا.

(3) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 532.

(4) المصدر السابق.

٤٧٩

1 ـ على اثر هذه الخيبة ، او انّ مثل هذا الشخص :( مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ ) .

مع انّ كلمة «وراء» بمعنى «الخلف» في مقابل امام ، الّا انّها في هذه الموارد تعني نتيجة وعاقبة العمل.

2 ـ امّا في جهنّم فإنّه( وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ ) .

«الصديد» القيح المتجمّع بين اللحم والجلد ، وهو بيان للماء المتعفّن الكريه الذي يسقونه.

3 ـ فهذا المجرم المذنب عند ما يرى نفسه في مقابل هذا الشراب( يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ) يسيغه : من اساغة ، وهي وضع الشراب في الحلق.

4 ـ ووسائل التعذيب كثيرة بحيث( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ) . حتّى يذوق وبال عمله وسيّئاته.

5 ـ وقد يتصوّر ان ليس هناك عقابا اكثر من ذلك ، ولكن( وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ ) .

وبهذا الترتيب فإنّ كلّ ما يخطر في ذهن الإنسان وما لا يخطر من شدّة العقاب هو في انتظار هؤلاء الظالمين والجبّارين والمذنبين ، أسوؤها الشراب المتعفّن الكريه ، والعقوبات المختلفة من كلّ طرف ، وفي نفس الوقت عدم الموت ، بل الاستمرار في الحياة وادامة العذاب.

ولكن لا يتصوّر انّ هذا العقاب غير عادل ، لانّه ـ وكما قلنا مرارا ـ النتيجة الطبيعيّة لعمل الإنسان ، بل تجسيم أفعالهم في الآخرة ، فكلّ عمل يجسّم بشكل مناسب ، وإذا ما شاهدنا جنايات بعض المجرمين في عصرنا او في التاريخ القديم لقلنا : حتّى هذه العقوبات قليلة.

* * *

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572