الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287674 / تحميل: 5228
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لم يكن جيش فرعون مانعا من العذاب الإلهي ، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سببا لرفع هذا العذاب ، ففي النهاية أغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل ، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعددا من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل» : من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل ، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات ، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثمّ وجه الحديث إلى كفّار عصر بنيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحذرهم بقوله :( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) (١) (٢) .

بلى إنّ عذاب ذلك اليوم من الشدّة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيبا ، وهذه كناية عن شدّة ذلك اليوم.

هذا بالنسبة لعذاب الآخرة ، وهناك من يقول : إنّ الإنسان يقع أحيانا في شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.

على أي حال فإنّ الآية تشير إلى أنّكم على فرض أنّ العذاب الدنيوي لا ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟

في الآية الاخرى يبيّن وصفا أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف :( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) .

إنّ الكثير من الآيات الخاصّة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن

__________________

(١) يوما مفعول به لتتقون ، و «تتقون» ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم ، وقيل (يوم) ظرف لـ (تتقون) أو مفعول به لـ (كفرتم) والاثنان بعيدان.

(٢) «شيب» جمع (أشيب) ويراد به المسن ، وهي من أصل مادة شيب ـ على وزن عيب ـ والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى البياض.

١٤١

انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة ، والآية أعلاه تشير إلى جانب منها.

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عند ما يرى تفطر السموات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!(١)

وفي النّهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) .

إنّكم مخيرون في اختيار السبيل ، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا ، ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى الله بالإجبار والإكراه ، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

والخلاصة أنّ الله تعالى هدى الإنسان إلى النجدين ، وجعلهما واضحين كالشمس المضيئة في وضح النهار ، وترك الإختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في طاعته سبحانه بمحض إرادته ، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة إلى التذكرة ، فقد قيل أنّها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة ، وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها ، أو إشارة إلى القرآن المجيد.

ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة ، والمخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر المسلمين ، ولهذا فإنّ المراد من «السبيل» في الآية هو صلاة الليل ، والتي تعتبر سبيل خاصّ ومهمّة تهدي إلى الله تعالى ، كما ذكرت في الآية (٢٦) من سورة الدهر بعد أن أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .

ويقول بعد فاصلة قصيرة :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً )

__________________

(١) «المنفطر» : من الانفطار بمعنى الإنشقاق ، والضمير (به) يعود لليوم ، والمعنى السماء منشقة بسبب ذلك اليوم والسماء جائزة للوجهين أي أنّه تذكر وتؤنث.

١٤٢

وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها(١) .

وبالطبع هذا التّفسير مناسب ، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

* * *

ملاحظة

المراحل الأربع للعذاب الإلهي

الآيات السابقة تهدد المكذبين المغرورين بأربعة أنواع من العذاب الأليم : النكال ، الجحيم ، الطعام ذو الغصّة ، والعذاب الأليم ، هذه العقوبات في الحقيقة هي تقع في مقابل أحوالهم في هذه الحياة الدنيا.

فمن جهة كانوا يتمتعون بالحرية المطلقة.

الحياة المرفهة ثانيا.

لما لهم من الأطعمة السائغة من جهة ثالثة.

والجهة الرابعة لما لهم من وسائل الراحة ، وهكذا سوف يجزون بهذه العقوبات لما قابلوا هذه النعم بالظلم وسلب الحقوق والكبر والغرور والغفلة عن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٤٧.

١٤٣

الآية

( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠) )

التّفسير

فاقرؤوا ما تيسر من القرآن :

هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة ، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة ، وهناك أقوال كثيرة للمفسّرين حول ما إذا كانت

١٤٤

هذه الآية ناسخة لحكم صدر السورة أم لا ، وكذلك في مكّيتها أو مدنيتها ، ويتّضح لنا جواب هذه الأسئلة بعد تفسير الآية.

فيقول تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) (١) .

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ، وما أضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والاستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد ، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك ، وكان ذلك يستدعي استيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم ، ولذا بني هذا الحكم على التخفيف ، فقال :( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) .

«لن تحصوه» : من (الإحصاء) وهو عد الشيء ، أي علم أنّكم لا تستطيعون إحصاء مقدار الليل الذي أمرتم بقيامه والإحاطة بالمقادير الثلاثة.

وقال البعض : إنّ معنى الآية أنّكم لا تتمكنون من المداومة على هذا العمل طيلة أيّام السنة ، ولا يتيسر لعامّة المكلّفين إحصاء ذلك لاختلاف الليالي طولا وقصرا ، مع وجود الوسائل التي توقظ الإنسان.

والمراد بـ( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) خفف عليكم التكاليف ، وليس التوبة من الذنب ، ويحتمل أنّه في حال رفع الحكم الوجوبي لا يوجد ذنب من الأساس ، والنتيجة

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ (نصفه) و (ثلثه) معطوف على أدنى وليس على (ثلثي الليل) فيكون المعنى أنّه يعلم أنّك تقوم بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ،. كذا الالتفات إلى أن أدنى تقال لما يقرب من الشيء ، وهنا إشارة إلى الزمن التقريبي.

١٤٥

تكون مثل المغفرة الإلهية.

وأمّا عن معنى الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) فقد قيل في تفسيرها أقوال ، فقال بعضهم : إنّها تعني صلاة الليل التي تتخللها قراءة الآيات القرآنية ، وقال الآخرون : إنّ المراد منها قراءة القرآن ، وإن لم تكن في أثناء الصلاة ، وفسّرها البعض بخمسين آية ، وقيل مائة آية ، وقيل مائتان ، ولا دليل على ذلك ، بل إنّ مفهوم الآية هو قراءة ما يتمكن عليه الإنسان.

وبديهي أنّ المراد من قراءة القرآن هو تعلم الدروس لبناء الذات وتقوية الإيمان والتقوى.

ثمّ يبيّن دليلا آخرا للتخفيف فيضيف تعالى :( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم ، ولذا يكرر قوله «فاقرؤوا ما تيسر منه» ، والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل الله ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر ، والمعنى هو أنّ الله يعلم أنّكم سوف تلاقون ، كثيرا من المحن والمشاكل الحياتية ، وبالتالي تؤدي إلى قطع المنهج الذي أمرتم به ، فلذا خفف عليكم الحكم.

وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل أنّ هذا الحكم ناسخ للحكم الذي ورد في صدر السورة ، أم هو حكم استثنائي؟ طاهر الآيات يدل على النسخ ، وفي الحقيقة أنّ الغرض من الحكم الأوّل في صدر السورة هو إقامة المنهج العبادي ، وهذا ما حصل لمدّة معينة ثمّ نسخ بعد ذلك بهذه الآية ، وأصبح أخف من ذي قبل ، لأنّ ظاهر الآية يدل على وجود معذورين ، فلذا حفف الحكم على الجميع ، وليس للمعذورين فحسب ، ولذا لا يمكن أن يكون حكما استثنائيا بل هو حكم ناسخ.

ويرد سؤال آخر ، هو : هل أنّ الحكم المذكور بقراءة ما تيسّر من القرآن واجب أم مستحب؟ إنّه مستحب ، واحتمل البعض الآخر الوجوب ، لأنّ قراءة القرآن تبعث على معرفة دلائل التوحيد ، وإرسال الرسل ، وواجبات الدين ، وعلى

١٤٦

هذا الأساس تكون القراءة واجبة.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الإنسان لا يلزم بقراءة القرآن ليلا أثناء صلاة الليل ، بل يجب على المكلّف أن يقرأ بمقدار ما يحتاجه للتعليم والتربية لمعرفة اصول وفروع الإسلام وحفظه وإيصاله إلى الأجيال المقبلة ، ولا يختص ذلك بزمان ومكان معينين ، والحقّ هو وجوب القراءة لما في ظاهر الأمر (فاقرؤا كما هو مبيّن في اصول الفقه) إلّا أن يقال بقيام الإجماع على عدم الوجوب ، فيكون حينها مستحبا ، والنتيجة هي وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف الخاصّة لذلك ، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم ، وظهر الاستحباب بالنسبة للمقدار الميسّر ، ولكن صلاة الليل بقيت واجبة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته (بقرينة سائر الآيات والرّوايات).

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام حيث يقول : «... متى يكون النصف والثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) واعلموا أنّه لم يأت نبيّ قط إلّا خلا بصلاة الليل ، ولا جاء نبي قط صلاة الليل في أوّل الليل»(١) .

والملاحظ في الآية ذكر ثلاثة نماذج من الأعذار ، أحدها يتعلق بالجسم (المرض) ، والآخر بالمال (السفر) ، والثالث بالدين (الجهاد في سبيل الله) ، ولذا قال البعض : إنّ المستفاد من الآية هو السعي للعيش بمثابة الجهاد في سبيل الله! وقالوا : إنّ هذه الآية مدنيّة بدليل سياقها في وجوب الجهاد ، إلّا أنّ الجهاد لم يكن في مكّة ، ولكن بالالتفات إلى قوله :( سَيَكُونُ ) يمكن أن تكون الآية مخبرة على تشريع الجهاد في المستقبل ، أي بسبب ما لديكم من الأعذار وما سيكون من الأعذار ، لم يكن هذا الحكم دائميا ، وبهذا الصورة يمكن أن تكون الآية مكّية ولا منافاة في ذلك.

ثمّ يشير إلى أربعة أحكام اخرى ، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول:( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ٤٥١.

١٤٧

تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

هذه الأوامر الأربعة (الصلاة ، الزكاة ، القروض المستحبة ، الاستغفار) مع الأمر بالقراءة والتدبر في القران الذي ورد من قبل تشكّل بمجموعها منهجا للبناء الروحي ، وهذا مهم للغاية بالخصوص لمن كان في عصر صدر الإسلام.

والمراد من «الصلاة» هنا الصلوات الخمس المفروضة ، والمراد من «الزكاة» الزكاة المفروضة ومن إقراض الله تعالى هو إقراض الناس ، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب ، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئا ، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر «الاستغفار» في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات ، وبأنّ تتصوروا بأنّ لكم حقّا على الله ، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا لله.

ويرى البعض أنّ التأكيد على هذه الأوامر هو لئلا يتصور المسلّم أنّ التخفيف سار على جميع المناهج والأوامر الدينية كما هو الحال في التخفيف الذي امر به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في قيام وقراءة القرآن ، بل إنّ المناهج والأوامر الدينية باقية على متانتها وقوّتها(١) .

وقيل إنّ ذكر الزكاة المفروضة في هذه الآية هو دليل آخر على مدنيّة هذه الآية ، لأنّ حكم الزكاة نزل بالمدينة وليس في مكّة ، ولكن البعض قال : إنّ حكم الزكاة نزل في مكّة من غير تعيين نصاب ومقدار لها ، والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصاب والمقادير.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٥٦.

١٤٨

ملاحظات

١ ـ ضرورة الاستعداد العقائدي والثقافي

لغرض إيجاد ثورة واسعة في جميع الشؤون الحياتية أو إنجاز عمل اجتماعي ذي أهمية لا بدّ من وجود قوّة عزم بشرية قبل كل شيء ، وذلك مع الإعتقاد الراسخ ، والمعرفة الكاملة ، والتوجيه والفكري والثقافي الضروري والتربوي ، والتربية الأخلاقية ، وهذا ما قام به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في السنوات الاولى للبعثة ، بل في مدّة حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولوجود هذا الأساس المتين للبناء أخذ الإسلام بالنمو السريع والرشد الواسع من جميع الجهات.

وما جاء في هذه السورة هو نموذج حي ومنطقي لهذا المنهج المدروس ، فقد خلّف القيام لثلثي الليل أو ثلثه وقراءة القرآن والتمعن فيه أثرا بالغا في أرواح المؤمنين ، وهيأهم لقبول القول الثقيل والسبح الطويل ، وتطبيق هذه الأوامر التي هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا كما يعبّر عنه القرآن ، هي التي أعطتهم هذه الموفقية ، وجهزت هذه المجموعة المؤمنة القليلة ، والمستضعفة والمحرومة بحيث أهلتهم لإدارة مناطق واسعة من العالم ، وإذا ما أردنا نحن المسلمين إعادة هذه العظمة والقدرة القديمة علينا أن نسلك هذا الطريق وهذا المنهج ، ولا يجب علينا إزالة حكومة الصهاينة بالاعتماد على أناس عاجزين وضعفاء لم يحصلوا على ثقافة أخلاقية.

٢ ـ قراءة القرآن والتفكر

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ فضائل قراءة القرآن ليس بكثرة القراءة ، بل في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها ، ومن الطريف أنّ هناك رواية

وردت عن الإمام الرضاعليه‌السلام في تفسير ذيل الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) رواها عن

١٤٩

جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر»(١) ، لم لا يكون كذلك والهدف الأساس للقراءة هو التعليم والتربية.

والرّوايات في هذا المعنى كثيرة.

٣ ـ السعي للعيش كالجهاد في سبيل الله

كما عرفنا من الآية السابقة فإنّ السعي لطلب الرزق جعل مرادفا للجهاد في سبيل الله ، وهذا يشير إلى أنّ الإسلام يعير أهمية بالغه لهذا الأمر ، ولم لا يكون كذلك فلأمّة الفقيرة والجائعة المحتاجة للأجنبي لا يمكن لها أن تحصل على الاستقلال والرفاه ، والمعروف أنّ الجهاد الاقتصادي هو قسم من الجهاد مع الأعداء ، وقد نقل في هذا الصدد قول عن الصحابي المشهور عبد الله بن مسعود : «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء» ثمّ قرأ :( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

اللهم! وفقنا للجهاد بكلّ أبعاده.

ربّنا! وفقنا لقيام الليل وقراءة القرآن الكريم وتهذيب أنفسنا بواسطة هذا النور السماوي.

ربّنا! منّ على مجتمعنا الإسلامي بمقام الرفعة والعظمة بالإلهام من هذه السورة العظيمة.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المزّمل

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٢.

(٢) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح ، وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث وقد نقل القرطبي حديثا عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشابه هذه الحديث ، فيستفاد من ذلك أنّ عبد الله بن مسعود قد ذكر الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس هو من قوله.

١٥٠
١٥١

سورة

المدّثّر

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وخمسون آية

١٥٢

«سورة المدّثّر»

محتوى السورة :

لا شك أنّ هذه السورة هي من السور المكّية ولكن هناك تساؤل عن أنّ هذه السورة هل هي الاولى النازلة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم نزلت بعد سورة العلق؟

يتّضح من التمعن في محتوى سورة العلق والمدثر أنّ سورة العلق نزلت في بدء الدعوة ، وأنّ سورة المدثر نزلت في زمن قد امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بالدعوة العلنية ، وانتهاء فترة الدعوة السرّية ، لذا قال البعض أنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة ، والمدثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية ، وهذا الجمع هو الصحيح.

ومهما يكن فإنّ سياق السور المكّية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور وهي :

١ ـ يأمر الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلان الدعوة العلنية ، ويأمر أن ينذر المشركين ، وتمسك بالصبر والاستقامة في هذا الطريق والاستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

٢ ـ تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النّار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

١٥٣

٣ ـ الإشارة إلى بعض خصوصيات النّار مع إنذار الكافرين.

٤ ـ التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

٥ ـ ارتباط عاقبة الإنسان بعمله ، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

٦ ـ الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النّار وأهل الجنّة وعواقبهما.

٧ ـ كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحقّ.

فضيلة السورة :

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة المدثر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمّد وكذب به بمكّة»(١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقّا على الله أن يجعله مع مجمّد في درجته ، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا»(٢)

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرّد قراءة الألفاظ فحسب ، بل لا بدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفيا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٣.

(٢) المصدر السابق.

١٥٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) )

التّفسير

قم وانذر النّاس :

لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يصرح باسمه ، ولكن القرائن تشير إلى ذلك ، فيقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) فلقد ولى زمن النوم الاستراحة ، وحان زمن النهوض والتبليغ ، وورد التصريح هنا بالإنذار مع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبشر ونذير ، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصا في بداية العمل.

وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته إلى القيام والنهوض.

١ ـ اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤساء منهم

١٥٥

كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة ، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم ، ليصدوا الناس عنه ، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم ، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحرا ، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه ، وكانت دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتأثر واغتم لذلك ، فأمر بالدثار وتدثر ، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.

٢ ـ إنّ هذه الآيات هي الآيات الأولى التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نقله جابر بن عبد الله قال : جاوزت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد ، أنت رسول الله ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فملئت منه رعبا ، فرجعت إلى خديجة وقلت : «دثروني دثروني ، واسكبوا عليّ الماء البارد» ، فنزل جبرئيل بسورة :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) .

ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة نظرت للدعوة العلنية ، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية ، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة ، إلّا أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة ، والآيات الأخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.

٣ ـ إنّ النّبي كان نائما وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيلعليه‌السلام موقظا إيّاه ، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.

٤ ـ ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية ، بل تلبسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.

١٥٦

٥ ـ المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزواؤه واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد(١) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهرا.

ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه ، وهذا يدل على العمومية ، يعني إنذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد ، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر إلخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.

ثم يعطي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار ، تعتبر منهاجا يحتذي به الآخرون ، والأمر الأوّل هو في التوحيد ، فيقول :( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (٢) .

ذلك الربّ الذي هو مالكك مربيك ، وجميع ما عندك فمنه تعالى ، فعليك أن تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة ، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر ، فليس المراد من جملة «فكبر» هو (الله أكبر) فقط ، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد من الرّوايات ، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا ، قولا فعلا وهو تنزيهه تعالى من كلّ نقص وعيب ، ووصفه

__________________

(١) أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى احتمالات أخرى في تفسيره الكبير ، واقتبس منه البعض الآخر من المفسّرين (تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠).

(٢) الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض ، وقيل لمعنى الشرط ، والمعنى هو : لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع ، (يتعلق هذا القول بالآيات الاخرى الآتية أيضا).

١٥٧

بأوصاف الجمال ، بل هو أكبر من أن يوصف ، ولذا ورد في الرّوايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في معنى الله أكبر : «الله أكبر من أن يوصف» ، ولذا فإنّ التكبير له مفهوم أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.

ثمّ صدر الأمر الثّاني بعد مسألة التوحيد ، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف :( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) ، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان ، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه ، وظاهره مبين لباطنه ، وقيل المراد منه القلب والروح ، أي طهر قلبك وروحك من كلّ الأدران ، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه اولى بالتطهير.

وقيل هو اللباس الظاهر ، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة ، خصوصا في عصر الجاهلية حيث كان الاجتناب من النجاسة قليلا وإن ملابسهم وسخة غالبا ، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا العصر أيضا) بحيث كان يسحل على الأرض ، وما ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في معنى أنّه : «ثيابك فقصر»(١) ، ناظر إلى هذا المعنى.

وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى :( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) (٢) ، والجمع بين هذه المعاني ممكن ، والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم ، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر ، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثّالث بقوله :( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) المفهوم الواسع للرجز كان سببا لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة ، فقيل : هو الأصنام ، وقيل : المعاصي ، وقيل : الأخلاق الرّذيلة الذميمة ، وقيل : حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة ، وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية ، وقيل : كل ما يلهي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٥.

(٢) البقرة ، ١٨٧.

١٥٨

عن ذكر الله.

والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الاضطراب والتزلزل(١) ثمّ اطلق على كل أنواع الشرك ، عبادة الأصنام ، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان ، فسّره البعض بالعذاب(٢) ، وقد اطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحبّ الدّنيا تجلبه من العذاب.

وما تجدر الإشارة إليه أنّ القرآن الكريم غالبا ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب(٣) ، ويعتقد البعض أنّ كلمتي الرجز والرجس مرادفان(٤) .

وهذه المعاني الثلاثة ، وإن كانت متفاوتة ، ولكنّها مرتبطة بعضها بالآخر ، وبالتالي فإنّ للآية مفهوما جامعا ، وهو الانحراف والعمل السيء ، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللهعزوجل ، والباعثة على سخر الله في الدنيا والآخرة ، ومن المؤكّد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة ، وتاريخه الذي يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك ، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى الله ، وليكون للناس أسوة حسنة.

ويقول تعالى في الأمر الرّابع :( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) .

هنا التعلق محذوف أيضا ، ويدل على سعة المفهوم كليته ، ويشمل المنّة على الله والخلائق ، أي فلا تمنن على الله بسعيك واجتهادك ، لأنّ الله تعالى هو الذي منّ عليك بهذا المقام المنيع.

ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة ، بل عليك أن تعتبر نفسك مقصرا وقاصرا ، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.

__________________

(١) مفردات الراغب.

(٢) الميزان ، في ظلال القرآن.

(٣) راجع الآيات ، ١٣٤ ـ ١٣٥ من سورة الأعراف ، والآية ٥ من سورة سبأ ، والآية ١١ من سورة الجاثية ، والآية ٥٩ من سورة البقرة ، والآية ١٦٢ من سورة الأعراف ، والآية ٣٤ من سورة العنكبوت.

(٤) وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال ، ج ٣٠ ، ص ١٩٣.

١٥٩

وبعبارة أخرى : لا تمنن على الله بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك لله وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز ، ولا تستعظم كل ذلك ، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواء في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية ، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة ، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت ، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (١) .

«لا تمنن» من مادة «المنّة» وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية النعم المعطاة للغير ، وهنا يتّضح لنا العلاقة بينه وبين الاستكثار ، لأنّ من يستصغر عمله لا ينتظر المكافأة ، فكيف إذن بالاستكثار ، فإنّ الامتنان يؤدي دائما إلى الاستكثار ، وهذا ممّا يزيل قيمة النعم ، وما جاء من الرّوايات يشير لهذا المعنى : «لا تعط تلتمس أكثر منها»(٢) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية : «لا تستكثر ما عملت من خير لله»(٣) وهذا فرع من ذلك المفهوم.

ويشير في الآية الأخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول :( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) ، ونواجه هنا مفهوما واسعا عن الصبر الذي يشمل كلّ شيء ، أي اصبر في طريق أداء الرسالة ، واصبر على أذى المشركين الجهلاء ، واستقم في طريق عبودية الله وطاعته ، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

ومن المؤكّد أنّ الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة ، والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية ، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم

__________________

(١) البقرة ، ٢٦٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٥٤ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٣) المصدر السابق.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

جيل الشباب هذه المسالك المهلكة وفقد سلاح الايمان ومقدرته الجسدية ، فيجب ان يعلم عبوديته للأجانب حتمية.

٣ ـ الحرية من أفضل النعم

من الطريف انّ الآية أعلاه بعد ان ذكرت «ايّام الله» اشارت بصراحة الى يوم واحد منها ، وهو يوم نجاة بني إسرائيل من قبضة الفراعنة( إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) انّ تاريخ بني إسرائيل مليء بالايّام العظيمة التي وهبهم الله فيها النعم الكبيرة تحت ظلّ هداية موسى ، ولكن ذكر (يوم النجاة) في الآية أعلاه دليل على اهميّة الحرية والاستقلال في مصير الأمم.

نعم لا تستطيع اي امّة ان تظهر نبوغها واستعدادها الّا من خلال قطع التبعية للاجنبي والتحرّر من قبضة الاستعمار واسره. ولا يمكن ان ترفع قدما في سبيل الله الّا من خلال محاربة الشرك والظلم.

ولهذا السبب كان العمل الاوّل للقادة الإلهيين هو تحرير الشعوب من التبعيّة الفكرية والثقافية والسياسيّة والاقتصادية ، ثمّ العمل في إيجاد البرامج التوحيديّة والانسانيّة لهم.

٤ ـ الشكر سبب لزيادة النعم والكفر سبب للفناء

ممّا لا شكّ فيه انّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة الى شكرنا في مقابل نعمه علينا ، وإذا أمرنا بالشكر فذاك لنستوجب نعمة اخرى وهي واحدة من المبادئ السامية في التربية.

المهمّ ان نعرف ما هي حقيقة الشكر؟ لكي يتّضح علاقته في زيادة النعمة من اين؟ وكيف تستطيع ان تكون عاملا مهمّا للتربية؟

انّ حقيقة الشكر ليس فقط ما يقوله الإنسان (الحمد لله) او الشكر اللفظي ، بل

٤٦١

هناك ثلاث مراحل للشكر :

الاولى : يجب ان نعلم من هو الواهب للنعم؟ هذا العلم والايمان الركن الاوّل للشكر.

والثّانية : الشكر باللسان.

والثّالثة : وهي الاهمّ الشكر العملي ، اي ان نعلم الهدف من منحنا للنعمة ، وفي ايّ مورد نصرفها ، والّا كفرنا بها ، كما قال العظماء : (الشكر صرف العبد جميع ما أنعمه الله تعالى فيما خلق لأجله).

لماذا أعطانا الله تعالى العين؟ ولماذا وهبنا السمع والنطق؟ فهل كان السبب غير ان نرى عظمته في هذا العالم ، ونتعرّف على الحياة؟

وبهذه الوسائل نخطو الى التكامل ، ندرك الحقّ وندافع عنه ونحارب الباطل ، فإذا صرفنا النعم الالهيّة في هذا المسير كان ذلك هو الشكر العملي له ، وإذا أصبحت هذه الأدوات وسيلة للطغيان والغرور والغفلة والابتعاد عن الله فهذا هو عين الكفران!

يروى عن الامام الصادقعليه‌السلام انّه قال : «ادنى الشكر رؤية النعمة من الله من غير علّة يتعلّق القلب بها دون الله ، والرضا بما أعطاه ، وانّ لا تعصيه بنعمة وتخالفه بشيء من امره ونهيه بسبب من نعمته»(١) .

وهنا يتّضح انّ شكر العلم والمعرفة والفكر والمال والسلامة ، كلّ واحد منها من اي طريق يتمّ؟ وكيف يكون كفرانها؟

الحديث الوارد عن الامام الصادقعليه‌السلام دليل واضح على هذه التّفسيرات حيث يقول : «شكر النعمة اجتناب المحارم»(٢) .

وتتّضح ايضا هذه العلاقة بين الشكر وزيادة النعمة ، لانّ الناس لو صرفوا

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، ٧١٠.

(٢) نور الثقلين ، ج ٢ ، ٥٢٩.

٤٦٢

النعم الالهيّة في هدفها الحقيقي ، فسوف يثبتون عمليّا استحقاقهم لها وتكون سببا في زيادة الفيوضات الالهيّة عليهم.

من الثابت انّ هناك نوعين من الشكر ، (شكر تكويني) و (شكر تشريعي).

«الشكر التكويني» هو ان يستفيد الكائن الحي من مواهبه في نموّه ورشده ، فمثلا يرى المزارع انّ القسم الفلاني من مزرعته تنمو فيه الأشجار بشكل جيد ، وكلّما يخدمها اكثر تنتج اكثر ، فهذا الأمر سوف يؤدّي الى ان يقوم المزارع على خدمة وتربية ذلك القسم بشكل اكبر ، ويوصي مساعديه بها ، لانّ الأشجار تناديه بلسان حالها : ايّها المزارع ، نحن لائقون مناسبون ، افض علينا من النعم ، وهو يجيبهم بالاثبات.

امّا إذا راى في قسم آخر أشجارا ذابلة ويابسة وليس لها ثمر ، فكفران النعمة من قبلها بهذه الصورة يسبّب عدم اعتناء المزارع بها ، وإذا استمرّ الوضع بهذا الحال سوف يقوم بقلعها.

وهذه الحالة موجودة في عالم الانسانيّة بهذا التفاوت ، وهو انّ الأشجار ليس لها الاختيار ، بل هي خاضعة للقوانين التكوينيّة ، امّا الإنسان فباستفادته في ارادته واختياره وتربيته التشريعيّة يستطيع ان يخطو في هذا المجال خطوات واثقة.

ولذلك فمن يستخدم نعمة القوّة في الظلم ، ينادي بلسان حاله : الهي ، انا غير لائق لهذه النعمة ، ومن يستخدمها لاقامة الحقّ والعدالة يقول بلسان حاله : الهي ، انا مناسب ولائق فزد نعمتك عليّ!

وهناك حقيقة غير قابلة ـ ايضا ـ للترديد ، وهي انّنا في كلّ مرحلة من مراحل الشكر الالهي ـ ان كان باللسان او العمل ـ سوف نحتاج الى شكر جديد لمواهب وعطايا جديدة ، ولذلك فلسنا قادرين ان نؤدّي حقّ الشكر ، كما نقرا في مناجاة الشاكرين للإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام : «كيف لي بتحصيل

٤٦٣

الشكر وشكري ايّاك يفتقر الى شكر ، فكلّما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك ان أقول لك الحمد»!

ولهذا فإنّ أعلى مراحل الشكر ان يظهر الإنسان عجزه امام شكر نعمائه تعالى ، كما

جاء في الحديث عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «فيما اوحى اللهعزوجل الى موسى : اشكرني حقّ شكري ، فقال : يا ربّ ، وكيف أشكرك حقّ شكرك ، وليس من شكر أشكرك به الّا وأنت أنعمت به عليّ؟ قال : يا موسى ، الآن شكرتني حين علمت انّ ذلك مني»(١) .

هناك عدّة نقاط في مجال شكر النعمة :

١ ـ قال الامام عليعليه‌السلام في احدى حكمه : «إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلّة الشكر»(٢) .

٢ ـ يجب الالتفات الى هذا الموضوع ، وهو انّ الشكر والحمد ليس كافيا في مقابل نعمائه تعالى ، بل يجب ان نشكر ـ كذلك ـ الأشخاص الذين كانوا وسيلة لهذه المواهب ونؤدّي حقوقهم من هذا الطريق ، ونشوّقهم اكثر بالخدمة في هذا السبيل ، كما نقرا في الحديث عن الامام علي بن الحسينعليه‌السلام قال : «وانّ الله يحبّ كلّ قلب حزين ويحبّ كلّ عبد شكور ، يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة : أشكرت فلانا؟ فيقول : بل شكرتك يا ربّ ، فيقول : لم تشكرني إذ لم تشكره ، ثمّ قال : أشكركم لله أشكركم للناس»(٣) .

٣ ـ انّ الوعد في زيادة نعم الشاكرين لا ينحصر في النعم المادية فقط ، بل الشكر نفسه مصحوبا بالتوجّه الخاص لله والحبّ لساحته المقدّسة هو واحد من النعم الالهيّة الروحيّة الكبيرة ، والتي لها تأثير كبير في تربية نفوس الناس ،

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلّد الرابع ، صفحة ٨٠ باب الشكر.

(٢) نهج البلاغة الكلمات القصار ، رقم ١٣.

(٣) اصول الكافي ، الجزء الثّاني ـ ص ٩٩ ـ ح ٣٠.

٤٦٤

ودعوتهم لطاعة الأوامر الالهيّة ، بل الشكر ذاته طريق الى معرفة الله ، ولهذا السبب ورد عن علماء العقائد في علم الكلام انّ وجوب شكر المنعم طريق الى اثبات وجوب معرفة الله.

٤ ـ انّ احياء روح الشكر في المجتمع وتقديمه الى مستحقّيه وتقديرهم وحمدهم وثنائهم على خدمتهم في طريق تحقيق الاهداف الاجتماعية بعلمهم ومعرفتهم وإيثارهم واستشهادهم ، هو عامل مهمّ في حركة ورقيّ المجتمع.

ففي المجتمع الفاقد للشكر والتقدير نجد القليل جدّا ممّن يريد الخدمة ، وعلى العكس فالمجتمع الذي يقيّم ويثني على خدمات الأشخاص ، يكون اكثر نشاطا وحيوية.

والالتفات الى هذه الحقيقة ادّى الى ان تقام في عصرنا مراسيم احتفال لتقدير وشكر الأساطين في الذكرى المئوية ، او الذكرى الالفية ، وضمن هذا الشكر لخدماتهم يدعى الناس الى الحركة والسعي بشكل اكبر.

احياء هذه الذكريات يساعد على ترشيد الإيثار والتفاني لدى الآخرين ، فيرتفع المستوى الثقافي والاخلاقي لدى الناس ، وبتعبير القرآن فإنّ شكر هذه النعمة سوف يبعث على الزيادة ، ومن دم شهيد واحد يبعث آلاف المجاهدين ، ويكون مصداقا حيّا ل( لَأَزِيدَنَّكُمْ ) .

* * *

٤٦٥

الآيات

( وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) )

التّفسير

أفي الله شكّ؟

الآية الاولى من هذه المجموعة تؤيّد وتكمل البحث السابق في الشكر

٤٦٦

والكفران ، وذلك ضمن الكلام الذي نقل عن لسان موسىعليه‌السلام ( وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (١) .

انّ الشكر والايمان بالله ـ في الواقع ـ سبب في زيادة النعم والتكامل الانساني ، والّا فاللهعزوجل ليس بحاجة الى اي شيء ، ولو كفرت جميع الكائنات ولم تحمده لا تمسّ كبرياءه بأدنى ضرر ، لانّه حميد في ذاته.

ولو كان محتاجا لم يكن واجب الوجود ، وعلى هذا فمفهوم الغني هو اشتماله لجميع الكمالات ، وإذا كان كذلك فهو محمود في ذاته ، لانّ «الحميد» من استحقّ الحمد.

ثمّ يشرح مصير الفئات من الأقوام السابقة ضمن عدّة آيات ، الفئات التي كفرت بأنعم الله وخالفت الدعوة الالهيّة ، وهي تأكيد للآية السابقة يقول تعالى :( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) .

يمكن ان تكون هذه الجملة تعقيبا على كلام موسى ، او بيان مستقلّ يخاطب به المسلمين ، لكن النتيجة غير متفاوتة كثيرا ، ثمّ يضيف تعالى :( قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) فهؤلاء لم يطّلع على اخبارهم الّا الله( لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ ) (٢) .

ممّا لا شكّ فيه انّ قسما من اخبار قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم قد وصلتنا ، ولكن لم يصلنا القسم الأكبر منها ولا يعلمها الّا الله ، فتاريخ الأقوام الماضية مليء بالاسرار والخصوصيّات بحيث لم يصل إلينا منها الّا القليل. ولكي يوضّح القرآن الكريم مصيرهم يقول :( جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ) اي وضعوا أيديهم على أفواههم من التعجّب والإنكار( وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا

__________________

(١) «إِنْ تَكْفُرُوا » جملة شرطيّة تقديرها محذوف ، وجملة «انّ الله لغني حميد» تدلّ على ذلك وكان التقدير «ان تكفروا لا تضرّوا الله شيئا».

(٢) جملة( لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ ) قد تكون معطوفة على ما قبلها والواو محذوفة ، وقد تكون جملة وصفية للجملة السابقة.

٤٦٧

بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ) . لماذا؟ بسبب( وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) . ومعه كيف يمكننا ان نؤمن بما تدعونا اليه؟

ويرد هنا سؤال ، وهو انّهم أظهروا الكفر وعدم الايمان بالرّسول في البداية ، ولكن بعد ذلك أظهروا الشكّ والريب ، فكيف ينطبق الاثنان؟

الجواب : انّ بيان الشكّ والترديد ـ في الحقيقة ـ علّة لعدم الايمان ، لانّ الايمان بحاجة الى اليقين ، والشكّ مانع لذلك.

وبما انّ الآية السابقة بيّنت قول المشركين والكفّار في عدم ايمانهم بسبب شكّهم وترديدهم ، فالآية بعدها تنفي هذا الشكّ من خلال دليل واضح وعبارة قصيرة حيث يقول تعالى :( قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

مع انّ «فاطر» من «فطر» وهي في الأصل بمعنى «شقّ» الّا انّه هنا كناية عن «الخلق» فالخالق هو الموجد للأشياء على أساس نظام دقيق ثمّ يحفظها ويحميها ، كأنّ ظلمة العدم شقّت بنور الوجود ، وكما يطلع الفجر من عتمة الليل ، وكما يتشقّق التمر من غلافه.

ولعلّ «فاطر» تشير الى تشقّق المادّة الاوّلية للعالم. كما نقرأ في العلوم الحديثة انّ مجموع مادّة العالم كانت واحدة مترابطة ثمّ انشقّت الى كراة مختلفة.

وعلى ايّة حال ، فالقرآن الكريم هنا ـ كما في اغلب الموارد الاخرى ـ يستند لاثبات وجود الخالق وصفاته الى نظام الوجود وخلق السّماوات والأرض ، ونحن نعلم انّه ليس هناك أوضح من هذا الدليل لمعرفة الله ، لانّ هذا النظام العجيب مليء بالاسرار في كلّ زواياه ، وينادي بلسان حاله : ليس هناك من له القدرة على هذه الهندسة الّا القادر الحكيم والعالم المطلق ، ولهذا السبب فكلّما تقدّمت العلوم ظهرت اسرار تدلّ على الخالق اكثر من السابق وتقرّبنا من الله في كلّ لحظة.

وما اكثر العجائب في القرآن؟ فكلّ بحوث معرفة الله والتوحيد ـ والتي

٤٦٨

وردت بصيغة الاستفهام الانكاري ـ اشارت إليها هذه العبارة :( أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) وهذه العبارة إذا أردنا تجزئتها وتحليلها بشكل موسّع لا تكفيها آلاف الكتب.

انّ مطالعتنا لاسرار الوجود ونظام الخلقة لا تهدينا الى وجود الله فحسب ، بل الى صفاته الكمالية ايضا كعلمه وقدرته وحكمته.

ثمّ يجيب القرآن الكريم على ثاني اعتراض للمخالفين ، وهو اعتراضهم على مسألة الرسالة (لانّ شكّهم كان في الله وفي دعوة الرّسول) ويقول انّ من المسلّم انّ الله القادر والحكيم لا يترك عباده بدون قائد ، بل انّه بإرسال الرسل :( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) (١) .

وزيادة على ذلك فإنّه( وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) كيما تسلكوا سبيل التكامل وتستفيدوا من موهبة الحياة بأقصى ما يمكنكم.

انّ غاية دعوة الأنبياء أمران : أحدهما غفران الذنوب ، بمعنى تطهير الروح والجسم والمحيط الانساني ، والثّاني استمرار الحياة الى الوقت المعلوم ، والاثنان علّة ومعلول ، فالمجتمع الذي يستمرّ في وجوده هو المجتمع النقي من الظلم والذنوب.

ففي طول التاريخ أبيدت مجتمعات كثيرة بسبب الظلم والذنوب واتّباع الهوى ، وبتعبير القرآن لم يصلوا( إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) .

روي في حديث جامع عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «من يموت بالذّنوب اكثر ممّن يموت بالآجال ، ومن يعيش بالإحسان اكثر ممّن يعيش بالأعمال»(٢) .

__________________

(١) هناك جدل بين المفسّرين في معنى «من» ، فقال بعضهم بالتبعيض ، اي يغفر قسما من ذنوبكم ، وهذا الاحتمال ضعيف لانّ الايمان يؤدّي الى غفران الذنوب كلّها (الإسلام يجب ما قبله) واحتمل البعض الآخر انّ «من» بدل ، فيكون معنى الجملة يدعوكم ليغفر ذنوبكم بدل الايمان ، وقال آخرون : انّ «من» هنا زائدة للتأكيد ، ومعناه : انّ الله تعالى يدعوكم للايمان ليغفر لكم ذنوبكم ، وهذا التّفسير نراه اقرب الى الصحّة.

(٢) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، ص ٤٨٨.

٤٦٩

وعن الامام الصادق ايضا : «انّ الرجل يذنب فيحرم صلاة الليل ، وانّ العمل السيء اسرع في صاحبه من السكّين في اللحم»(١) .

ونستفيد من هذه الآية ـ ضمنيا ـ انّ الايمان بدعوة الأنبياء والعمل بأحكامها يأخذ طابع الأجل المعلّق ، وتستمرّ حياة الإنسان الى «اجل مسمّى» (لانّنا نعلم انّ للإنسان نوعين من الآجال ، اجل محتوم ويكون بانتهاء الحياة في جسم الإنسان ، وأجل معلّق ويكون بفناء الإنسان على اثر عوامل وموانع في وسط العمر ، وهذا غالبا ما يكون بسبب اللامبالاة وارتكاب الذنوب ، وقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآية (٢) من سورة الانعام).

ومع كلّ ذلك لم يقبل الكفّار المعاندون دعوة الحقّ المصحوبة بوضوح منطق التوحيد ، ومن خلال بيانهم المشوب بالعناد وعدم التسليم كانوا يجيبون الأنبياء بهذا القول :( قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) علاوة على ذلك( تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ) واكثر من ذلك( فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) .

وقد ذكرنا مرارا (كما صرّح القرآن بذلك) انّ كون الأنبياء بشرا ليس مانعا لنبوّتهم ، بل هو مكمّل لها ، ولكن أولئك الأقوام يوردون هذه الحجّة دليلا لانكار الرسالة ، والهدف ـ غالبا ـ هو التبرير والعناد.

وكذلك الحال في الاستنان بسنّة الأجداد ، فإنّها وبالنظر الى هذه الحقيقة وهي انّ معرفة الأجيال القادمة اكثر من الماضين ، لا تعدو سوى خرافة وجهل.

ويتّضح من هنا انّ طلبهم لم يكن لاقامة البرهان الواضح ، بل لهروبهم من الحقيقة ، لانّ القرآن الكريم ـ كما قرانا مرارا ـ انّ هؤلاء المعاندين أنكروا الآيات الواضحة والدلائل البيّنة ، وكانوا يقترحون في كلّ مرّة معجزة ودليلا للتهرّب من الأمر الواقع.

وعلى كلّ حال نقرا في الآيات القادمة كيف أجابهم الأنبياء.

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، ص ٤٨٨.

٤٧٠

الآيتان

( قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) )

التّفسير

التوكّل على الله وحده :

نقرا في هاتين الآيتين جواب الرسل على حجج المخالفين المعاندين ، واعتراضهم على بشرية الرسل ، فكان جوابهم :( قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) يعني لو افترضنا انّ الله تعالى أرسل لكم ملائكة بدل البشر ، فهي لا تمتلك شيئا لذاتها ، فكلّ المواهب ومن جملتها موهبة الرسالة والقيادة هي من عند الله ، فالذي يستطيع ان يهب الملائكة هذا المقام قادر ان يعطيها للإنسان.

وبديهي انّ هذه المنح من قبل الله ليست بدون حساب ، وقد قلنا مرارا : انّ

٤٧١

المشيئة الالهيّة تساير حكمته تعالى ، فعند ما نسمع قول القائل : «انّ الله إذا أراد بعبد خيرا ...» يكون المراد العبد المستعدّ لهذه الموهبة. ومن المعلوم انّ مقام الرسالة موهبة الهيّة ، ونحن نرى انّ الأنبياء بالاضافة الى الرسالة الالهيّة لهم استعداد واهلية لتحمّلها.

ثمّ يجيب على السؤال الثّالث دون ان يجيب على الثاني ، وكأنّ الاعتراض الثّاني الذي هو الاستنان بسنّة الأجداد ليس له اي اهميّة وفارغ من المحتوى بحيث انّ ايّ انسان عاقل ـ بأقلّ تأمّل ـ يفهم جوابه ، بالاضافة الى انّ القرآن الكريم قد أجاب عنه في آيات أخر.

وجواب السؤال الثّالث هو انّ عملنا ليس الإتيان بالمعاجز ، فنحن لا نجلس في مكان ونلبّي لكم المعاجز الاقتراحية وكلّ ما سوّلت لكم أنفسكم ، بل( ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ومع ذلك فإنّ كلّ نبي كان يظهر لقومه المعاجز بمقدار كاف بدون ان يطلبها الناس منه ، وذلك لكي يثبت الأنبياء احقّيتهم ولتكون المعاجز سندا لصدقهم ، مع انّ مطالعة دعوتهم وحدها اكبر اعجاز لهم ، ولكن المعترضين غالبا لم يصغوا لذلك ، وهم يقترحون كلّ يوم شيئا جديدا ، فإن لم يستجب لهم الرّسول ، يقيموا الدنيا ويقعدوها. ولكي يردّ الرسل على تهديداتهم المختلفة يقولون :( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

وبعد ذلك استدلّ الأنبياء على مسألة التوكّل حيث قالوا :( وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا ) فالذي منحنا أفضل المواهب ، يعني موهبة الهداية الى طرق السعادة ، سوف يقوم بحمايتنا في مقابل اي هجوم او مشكلة تعترضنا.

ثمّ أضافوا : انّ ملاذنا هو الله ، ملاذ لا يقهر وهو فوق كلّ شيء :( وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا ) وأخيرا انهوا كلامهم بهذه الجملة :( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) .

* * *

٤٧٢

ملاحظات

١ ـ ما هو معنى التوكّل؟

قرانا في الآية الاولى( فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) وفي الآية الثانية( فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) وكأنّ الجملة الثانية تشير الى مرحلة أوسع واعمّ من الجملة الاولى ، يعني انّ توكّل المؤمنون ممّا لا شكّ فيه ـ لانّ الايمان بالله غير منفصل عن الايمان بقدرته وحمايته والتوكّل عليه ـ بل حتّى غير المؤمنين ملجأهم الى الله ولا يجدون سبيلا غيره ، لانّ غيره فاقد للأشياء ، وكلّ ما في الوجود ملك لذاته المقدّسة ، ولذلك يجب ان يجعلوه وليّا لهم ، ويطلبوا منه ان يهديهم توكّلهم هذا للايمان بالله.

٢ ـ المعاجز بيد الله تعالى

أجابت الآيات أعلاه ـ بشكل واضح ـ الأشخاص الذين كانوا ينكرون اعجاز الرسل. او ينكرون معاجز رسول الإسلام غير القرآن ، وتعلّمنا هذه الآيات انّ الرسل لم يقولوا ابدا : نحن لا نأتي بالمعاجز ، بل انّ الأوامر الالهيّة كانت تمنعهم من ذلك ، لانّ الاعجاز بيده وفي اختياره ، وكلّ ما يراه مصلحة يأمرنا به.

٣ ـ ما هي حقيقة وفلسفة التوكّل؟

«التوكّل» في الأصل من «الوكالة» وكما قال الراغب : التوكيل ان تعتمد على غيرك وتجعله نائبا عنك. ونحن نعلم انّ الوكيل الصالح له اربع خصال رئيسيّة : العلم الكافي ، والامانة ، والقدرة ، والمبالغة في رعاية مصلحة موكّله. فانتخاب الوكيل المحامي يتمّ في الأعمال التي لا يستطيع الإنسان نفسه ان يدافع عنها ، فيستفيد من مساعدة قوّة الآخرين في حلّ مشاكله.

وعلى ذلك فالتوكّل على الله يتمّ في حالة عدم استطاعة الإنسان من حلّ

٤٧٣

المشاكل الحياتية وفي مقابل الأعداء وإصرار المخالفين ، وأحيانا في الطرق المسدودة التي تواجهه في مسيرة اهدافه. ولذلك فهو يستند الى الله جلّ وعلا ويستمر في سعيه ، بل حتّى لو كان مستطيعا في أداء اعماله ، فيجب ان يعلم انّ الله هو المؤثّر الاصلي ، لانّ الله تعالى في نظر المؤمن هو منبع لكلّ القدرات.

والنقطة التي تقابل التوكّل على الله هي التوكّل على غيره ، يعني الاتّكالية في الحياة والتبعية للآخرين ، وعدم الاستقلاليّة ، يقول علماء الأخلاق : التوكّل الثمرة المباشرة لتوحيد افعال الله ، لانّه ـ وكما قلنا ـ من وجهة نظر المؤمن يرتبط كلّ ما في الكون بالنهاية بذات الله المقدّسة ، ولذلك فالموحّد يرى انّ جميع اسباب القدرة والنصر من عند الله.

فلسفة التوكّل

نستفيد ممّا ذكرناه انّه :

اوّلا : انّ الإنسان سوف تزداد مقاومته للمشاكل الصعبة لتوكّله على الله الذي هو منبع جميع القدرات والاستطاعات.

ولهذا السبب فعند ما انهزم المسلمون في «احد» يقول تعالى :( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) .(١)

وهناك نماذج اخرى للمقاومة والثبات في ظلّ التوكّل ، ومن جملتها الآية ١٢٢ من آل عمران يقول تعالى :( إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

وفي الآية (١٢) من سورة ابراهيم يقول تعالى :( وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا ) .

__________________

(١) آل عمران ، ١٧٣.

٤٧٤

وفي الآية (١٥٩) آل عمران( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) .

وكذلك يقول القرآن الكريم :( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .(١)

نستفيد من مجموع هذه الآيات انّ القصد من التوكّل ان لا يحسّ الإنسان بالضعف في مقابل المشكلات العظيمة ، بل بتوكّله على قدرة الله المطلقة يرى نفسه فاتحا ومنتصرا ، وبهذا الترتيب فالتوكّل عامل من عوامل القوّة واستمداد الطاقة وسبب في زيادة المقاومة والثبات. وإذا كان التوكّل يعني الجلوس في زاوية ووضع احدى اليدين على الاخرى ، فلا معنى لأن يذكره القرآن بالنسبة للمجاهدين وأمثالهم.

وإذا اعتقد البعض انّ التوكّل لا ينسجم مع التوجه الى العلل والأسباب والعوامل الطبيعيّة ، فهو في خطأ كبير ، لانّ فصل العوامل الطبيعيّة عن الارادة الالهيّة يعتبر شركا بالله ، او ليست هذه العوامل تسير بأوامر ومشيئة الله؟

نعم إذا اعتقدنا انّ العوامل مستقلّة عن ارادته فهي لا تتناسب مع روح التوكّل. فهل من الصحيح ان نفسّر التوكّل بهذا التّفسير ، مع انّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو راس المتوكّلين لم يغفل من استخدام الخطط الصحيحة والاستفادة من الفرص المتاحة وانواع الوسائل والأسباب الظاهرية لتحقيق اهدافه ، انّ هذا يثبت انّ التوكّل ليس له مفهوم سلبي.

ثانيا : انّ التوكّل ينجّي الإنسان من التبعية التي هي اصل الذلّ والعبودية ، ويمنحه الحرية والاعتماد على النفس.

«التوكّل» و «القناعة» لهما جذور مشتركة ، وفلسفتهما متشابهة ، وفي نفس الوقت متفاوتة ، ولا بأس هنا ان نذكر عدّة روايات في مجال التوكّل وأصله

__________________

(١) النحل ، ٩٩.

٤٧٥

وجذوره : عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «انّ الغنا والعزّ يجولان ، فإذا ظفرا بموضع التوكّل أوطنا»(١) وقد عرّف الامام التوكّل بأنّه موطن العزّة وعدم الحاجة للآخرين.

وعن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : سألت جبرئيل : ما هو التوكّل؟ قال : (العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، واستعمال اليأس من الخلق فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله ولم يطمع في احد سوى الله فهذا هو التوكّل)(٢) .

وسئل الامام الرضاعليه‌السلام : ما حدّ التوكّل؟ فقال : «ان لا تخاف مع الله أحدا»(٣) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلّد الثّاني ، باب التفويض الى الله والتوكّل عليه حديث ـ ٣.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٥ القسم الثّاني في الأخلاق ، ص ١٤ الطبعة القديمة.

(٣) سفينة البحار ، المجلد الثّاني ، ص ٦٨٢.

٤٧٦

الآيات

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) )

التّفسير

خطط الجبّارين المعاندين ومصيرهم!

عند ما يعلم الظالمون بضعف منطقهم وعقيدتهم ، يتركون الاستدلال ، ويلجأون الى القوّة والعنف ، ونقرا هنا انّ الأقوام الكافرة العنيدة عند ما سمعوا منطق الأنبياء المتين والواضح قالوا لرسلهم :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) وكأنّ هؤلاء القوم يعتبرون جميع ما

٤٧٧

في الأرض ملكهم ، حتّى انّهم لم يمنحوا لرسلهم حقوق المواطنة ، ولذلك يقولون «أرضنا». وفي الحقيقة فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق الأرض وكلّ مواهبها للصالحين ، وهؤلاء الجبابرة في الواقع ليس لهم اي حقّ فيها.

وقد يتوهّم البعض انّ جملة( لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) اشارة الى انّ الأنبياء السابقين كانوا من أنصار عبادة الأصنام ، مع انّ الحقيقة ليست كذلك ، لانّهم ـ وبصرف النظر عن كونهم معصومين حتّى قبل نبوّتهم ـ فعقلهم ودرايتهم كان اكبر من ان يفعلوا هذا العمل غير الحكيم ، فيسجدوا امام الأحجار والأخشاب.

ويمكن ان يكون هذا التعبير بسبب انّ الأنبياء قبل بعثهم لم يؤمروا بالتبليغ ، فسكوتهم أوجد هذا الوهم بأنّهم من المشركين.

بالاضافة الى انّ الخطاب وان كان موجّها للرسل ، الّا انّه في الواقع يشمل حتّى الاصحاب ، ونعلم انّهم كانوا مع المشركين من قبل ، فنظر المشركين كان منصرفا الى الاصحاب فقط ، وتعبير «لتعودنّ» من باب التغليب (يعني حكم الاكثرية يسري على العموم).

وهناك جواب آخر لهذا الوهم وهو انّ «عود» إذا عدّيت بـ «الى» يكون معناها الرجوع ، وإذا عديت بـ «في» فتفيد تغيير الحال لذلك فمعنى الآية( لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) يكون مفهومها ان تغيّروا من حالكم وتدخلوا في ملّتنا ، وقد اختار هذا المعنى العلّامة الطباطبائي في الميزان ، ولكن عند مراجعتنا لبعض الآيات ومنها( كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها ) تبيّن ان «عود» حتّى لو عدّيت بـ «في» فمعناها الرجوع ايضا (فتدبّر).

ثمّ يضيف القرآن الكريم لتسلية قلوب الأنبياء( فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ) فلا تخافوا من وعيدهم ، ولا تظهروا الضعف في ارادتكم.

وبما انّ الظالمين كانوا يهدّدون الأنبياء بالتبعيد عن أرضهم ، فإنّ الله في مقابل ذلك كان يعد الأنبياء( وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) ولكن هذا النصر

٤٧٨

والتوفيق لا يناله الّا( ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ ) فلطفه ومنّه ليس بدون حساب ودليل ، ولا يناله الّا من احسّ بمسؤوليته في مقابل العدل الالهي ، لا الظالمين والمعاندين لطريق الحقّ.

وحين انقطعت الأسباب بالأنبياء من كلّ جانب ، وادّوا جميع وظائفهم في قومهم ، فآمن منهم من آمن ، وبقي على الكفر من بقي ، وبلغ ظلم الظالمين مداه ، في هذه الأثناء طلبوا النصر من الله تعالى( وَاسْتَفْتَحُوا ) وقد استجاب اللهعزوجل دعاء المجاهدين المخلصين( وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) .

«خاب» من الخيبة بمعنى فقدان المطلوب.

و «جبّار» بمعنى المتكبّر هنا ، ورد في الحديث انّ امراة جاءت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمرها بشيء ، فلم تطعه فقال النّبي : دعوها فإنّها جبّارة(١) .

وتطلق هذه الكلمة أحيانا على الله جلّ وعلا فتعطي معنى آخر ، وهو (جبر وإصلاح من هو بحاجة الى الإصلاح) او بمعنى (المتسلّط على كلّ شيء)(٢) .

و «العنيد» في الأصل من «العند» على وزن (رند) بمعنى الاتّجاه ، وجاءت هنا بمعنى الانحراف عن طريق الحقّ.

ولذلك نقرا في رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «كلّ جبّار عنيد من ابى ان يقول لا اله الّا الله».(٣)

وعن الامام الباقرعليه‌السلام قال : «العنيد المعرض عن الحقّ».(٤)

ومن الطريف انّ «جبّار» تشير الى صفة نفسانية بمعنى روح العصيان ، و «عنيد» تشير الى آثار تلك الصفة في افعال الإنسان حيث تصرفه عن طريق الحقّ. ثمّ يبيّن نتيجة عمل الجبّارين في الآخرة ضمن آيتين في خمسة مواضع :

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ذيل الآية.

(٢) للتوضيح اكثر راجع تفسير الآية (٤٣) من سورة المائدة من تفسيرنا هذا.

(٣) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٥٣٢.

(٤) المصدر السابق.

٤٧٩

١ ـ على اثر هذه الخيبة ، او انّ مثل هذا الشخص :( مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ ) .

مع انّ كلمة «وراء» بمعنى «الخلف» في مقابل امام ، الّا انّها في هذه الموارد تعني نتيجة وعاقبة العمل.

٢ ـ امّا في جهنّم فإنّه( وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ ) .

«الصديد» القيح المتجمّع بين اللحم والجلد ، وهو بيان للماء المتعفّن الكريه الذي يسقونه.

٣ ـ فهذا المجرم المذنب عند ما يرى نفسه في مقابل هذا الشراب( يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ) يسيغه : من اساغة ، وهي وضع الشراب في الحلق.

٤ ـ ووسائل التعذيب كثيرة بحيث( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ) . حتّى يذوق وبال عمله وسيّئاته.

٥ ـ وقد يتصوّر ان ليس هناك عقابا اكثر من ذلك ، ولكن( وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ ) .

وبهذا الترتيب فإنّ كلّ ما يخطر في ذهن الإنسان وما لا يخطر من شدّة العقاب هو في انتظار هؤلاء الظالمين والجبّارين والمذنبين ، أسوؤها الشراب المتعفّن الكريه ، والعقوبات المختلفة من كلّ طرف ، وفي نفس الوقت عدم الموت ، بل الاستمرار في الحياة وادامة العذاب.

ولكن لا يتصوّر انّ هذا العقاب غير عادل ، لانّه ـ وكما قلنا مرارا ـ النتيجة الطبيعيّة لعمل الإنسان ، بل تجسيم أفعالهم في الآخرة ، فكلّ عمل يجسّم بشكل مناسب ، وإذا ما شاهدنا جنايات بعض المجرمين في عصرنا او في التاريخ القديم لقلنا : حتّى هذه العقوبات قليلة.

* * *

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572